هناك مشكلة كبيرة عند المفكرين العرب أنهم مقصرون بعض الشيء في التعريف بالنظام الإيراني وساساته، وذلك في علاقاتنا بمراكز الأبحاث الغربية وبجامعاتها ومفكريها، فالشعور الذي أخرج به دائماً هو أن الغربيين لديهم معلومات غير متكاملة عن طبيعة النظام في ذلك البلد وعن سياساته الخارجية الحقيقية. والمستشارون في مجال السياسات الخارجية الذين أراهم مع جل الرؤساء الحاليين ابتداء من الرئيس ترامب، مروراً بالمستشارة الألمانية ميركل، وصولًا إلى الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون، هم من خريجي ومزاولي التدريس الجامعي. فجلهم جامعيون مختصون مثلنا في العلاقات الدولية، وهم الذين يقضون الوقت في كتابة القصاصات الاستراتيجية، بل ورسم السياسات الخارجية الرسمية لبلدانهم.
وهؤلاء رجال متشبعون بالنظريات في سوسيولوجية العلاقات الدولية، ولهم علاقات وطيدة بالمفكرين من كل دول المعمورة قبل أن تكون لهم علاقات برجالات الدولة. وعندما تتواصل معهم وهم في دوائر القرار تجدهم أصحاب أفكار مسبقة أو جاهزة ورثوها من أيام التدريس والبحث العلمي في الجامعات! والمصيبة الكبرى أن الكتابات الفكرية المتزنة القادمة من عندنا قليلة إن لم نقل منعدمة، فلا يكون إلا ما يؤمنون به لوحدهم.. وإذا سألتهم مثلاً عن تشخيص حقيقي لطبيعة النظام في إيران، وعن المؤسسات النافذة، ستجد منهم أجوبة غير مقنعة... وإذا سألتهم عن أسباب تواجد أتباع ملالي طهران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان فسيخوضون معك في تفسيرات جيوسياسية عقيمة... وإذا تفضلت وقلت لهم إن التقية عندهم تسمح لهم بفعل كل شيء، وإن مسألة السيادة الممنوحة من القانون الدولي لكل دولة منعدمة في إيديولوجيتهم، إن قلت كلذلك ابتسموا لك وغيروا الموضوع.
يا سادة إن النظام في إيران قائم على الشخصنة السلطوية، وأعني بذلك «الولي الفقيه»، والذي وصفته المادة 107 من الدستور الإيراني بأنه «المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته». فالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأئمة (المادة 57)... فمهمته مهمة مركزية في نظام الحكم الإيراني، وهو المتفرد بالمرجعية الدينية لكل الشيعة في العالم، دون اكتراث بالحدود الجغرافية أو السيادة الوطنية. ولحماية هذا النوع من التواجد السلطوي في دواليب الدولة، فإن للقائد ممثلين يعينهم يبلغ عددهم نحو ألفي ممثل في كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وفي الوزارات والسفارات والمراكز الثقافية، كي تتمكن أسس الثورة من البقاء انطلاقاً من «ممثلي الإمام»! وهذه السلطات والصلاحيات أتاحت للقائد إنشاء «دولة داخل دولة»، مع ما يعنيه ذلك من سريان نظام وقواعد غير مكتوبة، وأخرى مكتوبة، تكون فوق القانون والصلاحيات المشروعة المتعارف عليها، وبلباس ديني ثوري مطلق!
إن النظام قائم على مؤسسات نافذة موضوعة مباشرة تحت سلطة «الولي الفقيه»، منها: مجلس صيانة الدستور، وهذا المجلس له صلاحيات حساسة بما فيها الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وعلى الاستفتاء العام. ومجلس تشخيص مصلحة النظام. ومجلس الخبراء. ومجلس الأمن القومي الأعلى. ومجلس إعادة النظر في الدستور. ولجنة الثورة الثقافية، التي تعنى بخلق أجيال جديدة تتبنى قيم الثورة وتكون مصدر قوة للدولة. ثم يجب أيضاً ألا ننسى «الحرس الثوري» المنبثق من «اللجان الثورية»، وهو الجهاز العسكري الموازي للجيش، الذي يخضع خضوعاً مطلقاً لإيديولوجية الثورة والتوجيهات العليا للدفاع عن خط القائد داخل إيران وخارجها، والدفاع عن «المستضعفين في الأرض» أينما كانوا، عبر عملية تصدير الثورة التي تتيح كل شيء بما في ذلك خلق الفتنة، وزعزعة أركان الاستقرار للدول والشعوب.
وإذا أفهمنا زملاءنا في الدول الغربية من خلال هذه الإطلالة السريعة نوعية النظام القائم في إيران، سيفهمون كل شيء. وسيفهمون أن لعب إيران على الوتر الطائفي مسألة وجود إيديولوجي لإيديولوجية ولاية الفقيه. وسيفهمون أن تصدير مشروع الثورة الإيرانية لن يكون إلا من خلال استعمال أدوات مذهبية باستغلال وتجييش طائفي لبعض الشيعة العرب وغيرهم في المنطقة العربية لنشر مبادئ ومرتكزات الثورة. وكل ذلك لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، والتمركز داخل النظام الإقليمي وابتزاز الخصوم والأنداد.
لم تعد الحرب بالوكالة التي تشنها إيران في المنطقة كافية للدفاع عن نظام الولي الفقيه قي طهران. بات استراتيجيو الجمهورية الإسلامية يشعرون بأن رياحاً أخرى تهب في المنطقة وبات وقعها يقرع أبواب البلد ويهزّ عرشاً كان يمنّي النفس بالنفخ بإمبراطورية غابرة عاصمتها بغداد.
تبدل التوازن الإقليمي برمّته. لم تعد العواصم العربية الأربع التي أعلنت طهران أنها تحت السطوة الإيرانية كافية للدفاع عن العاصمة الإيرانية نفسها. انتقل الإرهاب «الداعشي» إلى طهران ليضرب داخل البرلمان، حجر الزاوية للنظام السياسي للجمهورية، وليضرب ضريح الإمام الخميني، رمز تأسيس هذه الجمهورية. لم تعد دولة الفقيه بمنأى من أورام التطرّف التي ما برحت منابر إيران وأجهزتها تنفخ فيه شرقاً وغرباً، علناً وخلف الكواليس، فينتج ميليشيات طائفية تنافس «داعش» في غيّه وتتقاطع معه في غاياته.
ليس بالأمر افتراء ومبالغة، فالتقارير دقيقة في التحدث عن تورّط إيران المباشر مع تنظيم «القاعدة» واستضافة قياداته، كما في التواطؤ لتحرير قيادات التطرّف الإسلامي من سجون سورية والعراق الذي لم يكن سيؤدي إلا لإنشاء تنظيم أبو بكر البغدادي الشهير. كما أن التنظيم نفسه راعى هذه «المكرمة» فلم يتوجه بعد سقوط الموصل عام 2014 إلى بغداد، بل إلى مناطق الأكراد والإيزيديين، كما أنه كشف عن تعاون يشبه التحالف مع نظام دمشق ضد المعارضة السورية المعتدلة.
كان ذلك في ما مضى. فالمنطقة تشهد فصولاً أخرى تتغير فيها القواعد والمسلّمات. تعبّر عملية «داعش» الإرهابية في طهران عن ذلك تماماً. لم يضرب التنظيم قبل ذلك أي هدف داخل إيران، ولذلك أسباب من دون شك. وأن يضرب التنظيم في هذا الشكل وتلك الأهداف وفي هذا التوقيت، فلذلك أسباب من دون شك. وأهم تلك الأسباب أن تفاهماً ما بين طهران و «داعش» جنّب إيران صولات البغدادي، قد سقط، وأن سقوط هذا التفاهم فتح نيران الإرهاب ضد طهران.
هكذا هي المعادلة بكل بساطة.
تلتقط إيران وجبات متدفقة من الأعراض المقلقة هذه الأيام. تستنتج علاقة ما بين سقوط «داعش» القريب في الموصل وهجماته في طهران. وتستنتج أن عواصم العالم كما عواصم المنطقة تستعد للتموضع في حقبة ما بعد «داعش». وما بعد «داعش»، أي ما بعد سقوط التطرّف والإرهاب الإسلاميين، سيتّسق منطقياً مع حقبة تسحب البساط من تحت تيارات التطرّف الديني كافة سنية كان أم شيعية. وفي ذلك تماماً أن خدمات طهران ومواهبها في هذا الصدد لم تعد تتوافق مع ذائقة السوق الدولية في تقليعاتها الجديدة.
لن يجهد المراقب كثيراً لملاحظة أن سعي إيران لحفر «هلالها الشيعي» وتأمين تواصل بري بين طهران وبيروت يكشف عن إدراك إيراني بتصدّع سطوتها في ميادين نفوذها التقليدي على ذلك الطريق. تفرج معركة الموصل ونزوع الأكراد إلى توسّل الاستفتاء طريقاً للانفصال عن مشهد عراقي آخر لن تعود به إيران سيدة الموقف. وتشي زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي السعوديةَ بتوق عراقي، بدعم ورعاية أميركيين، لإعادة وصل العراق بمحيطه العربي والتحلل آلياً من تبعية لإيران، تمت منذ غزو عام 2003 بتشجيع أميركي أيضاً.
وإذا ما صعّب على المراقب استيعاب ملامح التغير المقبل في العراق، فإن ملامح ما قد يقترب من الانقلاب جلية في الميدان السوري. باتت إيران «فصيلاً» من بين الفصائل التي تتقاتل داخل هذا البلد منذ عام 2011، وحتى أن دفعها بالميليشيات الشيعية المقبلة من لبنان والعراق وأفغانستان ودول أخرى، كما دفعها بالآلاف من «مستشاري» الحرس الثوري، لم يحسّن من شروط هيمنتها على النظام السوري وحوّلها إلى عامل مساعد تستخدمه روسيا وتهمله وفق أجندة القيصر لا وفق توصيات المرشد.
تكاد إيران تفقد نفوذها في سورية المستقبل، أياً كان هذا المستقبل، حتى لو حققت ميليشياتها إنجازاً هنا واختراقاً هناك. تعرف طهران أن لإدارة دونالد ترامب خطة عمل وأجندة كانتا غائبيتين في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سورية التي تتنافس مع تلك الروسية قد تتوصل إلى شراكة مع موسكو، لكنها غير مهتمة بأي شراكة من أي نوع مع طهران. تدرك إيران أيضاً أن قرار واشنطن بمنع أي نفوذ إيراني على الحدود الشرقية لسورية هو خيار استراتيجي نهائي على ما تكشف تطورات التنف جنوباً وحراك قوات سورية الديموقراطية في الرقة، وعلى ما يكشف تدخل طائرات التحالف لحسم أي محاولة تسعى لغير ذلك.
لم تستخدم طهران قواها النارية منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. لم يكن من حاجة لذلك والجوائز تأتيها مجاناً منذ حرب الكويت مروراً بحصار العراق انتهاء بغزوه غرباً وغزو أفغانستان شرقاً. فأن تستخدم إيران صواريخها الباليستية، فإن في ذلك اعتراف أن الحرب بالوكالة لم تعد تفي بالغرض، وأن صواريخ إيران التي لطالما أثارت قلقاً لدى عواصم العالم تجاوزت مهماتها التجريبية ودخلت في منظومة العمل المهدِّد الأهداف المحتملة.
لم يصدر عن البنتاغون أي تعليق أو تأكيد لرواية الصواريخ الإيرانية. أخطأت إيران في الإعلان عن استخدام صواريخ يفهم منها تهديد لكل دول المنطقة كما لمصالح دولية، في مقدمها تلك الروسية - الأميركية، في المنطقة. وإذا ما ثبتت رواية الصواريخ وثبتها إعلان أميركي دولي ما عنها، فإن المجتمع الدولي الذي رفض البرنامج الصاروخي الإيراني وتجاربه، سيكون له موقف جدي آخر ضد ما انتقل من موسم نظري إلى دائرة الفعل بالنار. لا يمتلك المجتمع الدولي إلا الحزم إذا ما أراد تجنيب المنطقة حرباً كبرى ضد إيران تشنها عواصمها، حتى تلك المتخاصمة تقليدياً في ما بينها.
يتشابه السيناريو الذي يتم تطبيقه حاليا اتجاه الأسد ، بذلك الذي لاحق صدام حسين قبل قرابة الـ ١٥ عاما ، من حيث الحديث و المعلومات الاستخباراتية الغير قابلة للدحض عن أسلحة كيميائية أو دمار شامل ، تمهيداً لعمل عسكري مضاد قد نشهده في قريب الأيام .
فمع اجماع المؤسسات الأمريكية الثلاث الرئيسية في أمريكيا (البنتاغون - المخابرات - البيت الأبيض) ، على ذات المعلومات المتعلقة بوجود نشاط مشابه لذلك الذي شهده مطار “الشعيرات” في حمص ، قبيل ارتكاب مجزرة الكيماوي في خان شيخون نيسان الفائت ، هذه المعلومات التي تلاها تهديد بدفع "ثمن باهظ جدا" ، سرعان ما انضم إليه مؤيداً و مسانداً كل من بريطانيا و فرنسا ، يجعل السيناريو القريب جداً ، يصل حد التطابق في حال اكتمال الحبكة وصولاً للفعل الحقيقي ، الذي يكون كنوع عقابي للأسد ، وفقا ما تسير باتجاهه وسائل الاعلام الأمريكية.
و صحيح أن الحديث السابق ، هو محتمل و بنسب عالية جداً ، ولكن يبقى هناك احتمالية لو ضئيلة لانعدام مصداقيته ، وبالتالي وجود تهديد جدي و فعلي اتجاه المناطق المحررة التي تشهد معارك أو هي مقبلة على حملات جديدة.
قراءة الساحة السورية الحالية ، من حيث توزع خارطة الاشتباك تنحصر امكانية تنفيذ المرحلة التي تستبق عملية الاستهداف الجدي للأسد ، ألا وهي استخدام الكيماوي ، فإن أقرب الساحات لهذا الاستهداف هو ريف دمشق الشرقي ، الذي يشهد حاليا اشتباكات غاية في الخطورة ، ومحصورة في قطاع واحد ، ألا هو جبهة عين ترما ، اذ الهدف الأبرز “جوبر” ، تم تأجيله لمرحلة ما بعد الفصل عن الجسد المتبقي من الغوطة الشرقية.
في حين لا تعد جبهة درعا و معركتها الشهيرة “الموت ولا المذلة” بعيدة عن خريطة الاستهداف المتوقع ، اذ تعد هذه الجبهة الأكثر خطورة على النظام في حال ما واصل الثوار معاركهم (الهادئة حالياً نتيجة اتفاق يعتبر كبادرة تمهيداً لاتفاق دولي حول المنطقة ، الاتفاق الذي يبدو أنه لم يحقق النجاح) ، و المعلومات الواردة من مصادر دقيقة تجعل من الأمر (الكيماوي) قريبا جداً من تلك المنطقة.
و ليس ببعيد عن درعا ، قد تكون القنيطرة هدفاً محتملاً بعد الهجوم الذي قاده “جيش محمد” ، اتجاه أكثر النقاط قرباً للنظام و المليشيات الايرانية ( مدينة البعث) لاسرائيل ، وما رافقه من تشدد اسرائيلي وحسمية في الرد ، و في ذات الوقت تحويله لأمر كبير مع اعلان المناطق المقابلة للمعارك ، منطقة عسكرية لا يسمح الاقتراب منها ، مما يضعها في مركز متقدم في قائمة الاستهداف الكيميائي.
باب المناطق التي من المحتمل أن تكون هدفاً للكيماوي ، اذا ما صدقت بالفعل التقارير الاستخباراتية ، هو باب عريض سيما مع معلومات ميدانية تقول إن النظام و حلفاءه يقومون بحركة نشطة و كبيرة في منطقة سهل الغاب ، وهي حركة لا تشهدها المنطقة إلا في حال حدوث معركة باتجاه المناطق المحررة في ريف حماه الشمالي و جنوب ادلب.
و السؤال الأبرز الذي يدور حول : ما سبب الرغبة باللجوء إلى العنف لفرض التقسيم السوري .. في حين تم الأمر بيسر و سهول إبان سايكس بيكو !؟ ، وهنا الجواب يقودنا للقول أن المساحة المتبقية من سوريا بعد اعتماد كل طرف على القوة لانتزاعها ، حيث استحصلت روسيا على مما أسمته “سوريا المفيدة” ، و ايران باتت على أبواب الولوج لحلمها بوصل طهران بالمتوسط عبر طريق بري آمن ، وتركيا استحوذت على أجزاء من طلبها وهي مقبلة على المرحلة الثانية ، وصولاً للخمسة آلاف كيلومتر المطلوبة لضمان أمنها و تمزيق الحلم الكردي الانفصالي ، في حين بقي اللاعبون في الجنوب بلا حصة مجزية سيما الأردن و اسرائيل ، و بالتالي لابد من عمل سريع وحاسم يضمن الحصول على النصيب “المغمس بالدم”.
في مقابلة مطولة مع مطبوعة عربية، أطلق السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد لخياله العنان في عملية إعادة تصوير المشهد السياسي السوري ودوره فيه، بحيث يحقق هدفين رئيسين: رسم صورة إيجابية لدوره، وتصفية حساب مع الإدارة الأميركية السابقة.
لم تكن محاولة رسم صورة إيجابية لدوره بالعملية السهلة لأن في الملف صفحات تقود إلى نتيجة أخرى، مختلفة، إن لم تكن مناقضة، لما حاول السفير ترويجه. ثلاث قضايا رئيسة، بعضها تجاهل هو الاقتراب منها وقفز الصحافي عنها، تناولها يمكن أن يعيد التوازن إلى الصورة التي رسمت ويسمح بإطلاق أحكام مختلفة على موقف السفير والإدارة أكثر دقة وموضوعية، وبتحديد المسؤوليات على النتائج وتبعاتها. أولى تلك القضايا موقف السفير من الثورة كفعل شعبي هدفه تغيير الواقع السياسي القائم في سورية. فقد عكست حواراته، وتحركاته في دمشق، قبل إغلاق السفارة، وفي الخارج، أنه ليس مع الثورة، وأنه تحفظ عليها منذ البداية، وقد تجلى ذلك في سؤال تشكيكي وتحريضي طغى على أسئلته لمن التقاهم من المعارضين: الأخطار التي تنطوي عليها الثورة على الأقليات الدينية والمذهبية. بدأ بالسؤال حين كانت تظاهرات السوريين تصدح بشعار «واحد... واحد... واحد... الشعب السوري واحد».
وقد اعتبر في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ عام 2013 أن «عدم تقديم ضمانات للأقليات، العلويين بخاصة، سبب رئيس في فشل الثورة، كرر الموقف ذاته في مقالة له في جريدة النيويورك تايمز. وقد تصاعد تحفظه مع ظهور المنظمات والفصائل الإسلامية كاشفاً عن أعراض إسلاموفوبيا عميقة. وقوله في المقابلة: «في 2013، قلت للمعارضة السورية: يجب أن تكونوا منفتحين إزاء الأسد. إذا أقنعتم الأسد بتغيير رئيس المخابرات الجوية والعسكرية والأمن السياسي والاستخبارات العامة. إذا تغير رئيس المصرف المركزي ووزير المال٬ ثم يعيَّن مستقلون بدلاً منهم من دون سيطرة الأسد يمكن قبول بقائه»، لا يعكس حقيقة موقفه من الثورة والتغيير فقط بل ويكشف مدى سطحية فهمه للنظام السوري. وأما ثاني تلك القضايا فموقفه من «المجلس الوطني السوري» حيث ناصبه العداء وحرض عليه ومارس ضغوطاً على أعضاء وتكتلات فيه محاولاً دفعها إلى الانسحاب منه، وقدم إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تقارير سلبية عن أدائه، قبل أن يكلف باحثاً في مركز بروكنز في الدوحة بوضع خطة وإصلاحه خلال أسبوعين أو حله وتشكيل بديل سياسي له، ما حصل عندما شكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المؤسف أن معارضين ممن تصدروا المجلس والائتلاف قد ساعدوه في ضرب «المجلس» وتشكيل «الائتلاف»، وهاهم الآن يدعون إلى إصلاح «الائتلاف» وعدم تشكيل بديل بذريعة أنه يحظى باعتراف دولي يجب أن لا نهدره متناسين أن «المجلس» كان يحظى بالاعتراف ذاته عندما طالبوا بتجاوزه.
وقد ختمها في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة عام 2016 بتقديم شهادة سلبية عن المعارضة المعتدلة، ناهيك بما قاله في محاضراته في مراكز البحث والجامعات ضدها. وأما ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، فموقفه من تسليح الجيش السوري الحر، حيث تقلب في موقفه من رفض التسليح والوقوف ضد اقتراح هيلاري بيترايوس بينيت عندما كان على رأس عمله، إلى تبني التسليح بعد خروجه من وظيفته، شباط 2014، ومطالبته في مقالة له في النيويورك تايمز يوم 10/6/2014 تحت عنوان «سلحوا المعارضة السورية» بتزويده بأسلحة ثقيلة بما في ذلك صواريخ مضادة للطائرات، قال في المقالة: «من المؤكد أنه لا يوجد حل عسكري، ولكن من الممكن إنقاذ شيء في سورية من خلال تهيئة الظروف لإجراء مفاوضات حقيقية تجاه حكومة جديدة. وهذا يتطلب تمكين المعارضة المسلحة المعتدلة». وعودته إلى معارضة التسليح، فقد نقلت عنه صحيفة ماكلاتشي، بعد اجتماعه مع قادة من الجيش السوري الحر في تركيا، قوله: «إن أمام المعتدلين فرصة ضئيلة ليصبحوا قوة قابلة للحياة، سواء ضد الأسد أو المتطرفين، قدر عددهم بعشرين ألفاً، وأضاف باختصار «ليس من المنطقي الاستمرار بإرسال المساعدة إلى الجانب الخاسر». هنا يمكن أن نذكر واقعة دالة بهذا الخصوص، فبعد ضربة الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية زار عدد من نشطاء دوما وداريا، خلال جولة لهم على الأمم المتحدة والإدارة الأميركية لتقديم صورة عن الهجوم الكيماوي، الخارجية الأميركية والتقوا بالسفير الذي ترك الحديث عن الهجوم الكيماوي وأجرى مع الدارانيين تحقيقاً أمنياً عن عملية إسقاط مروحية للنظام فوق داريا يريد أن يعرف نوع السلاح الذي أسقطها ومن أين حصلوا عليه، وقد بلغ به الموقف حد اتهام مقاتلي داريا بالتواصل مع المتطرفين.
يبقى حديثه عن احتمال خسارة الكرد مراهنتهم على أميركا جديراً بالانتباه وأخذه على محمل الجد لأن السياسة الأميركية تتبنى في تعاطيها مع الملفات وإدارة الأزمات فحوى نظرية «التقاطع» التي طرحها زبغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر، في كتابه «أميركا في العصر التكنتروني» الذي نشره عام 1966، والتي تقول «بإجراء تحالفات وتعاون مع أية دولة أو قوة تتقاطع مصالحها مع المصالح الأميركية في ملف أو قضية ما، لأن محصلة التحالف ستصب في طاحونة الطرف الأقوى فيه».
لم تقع الحرب بين الأميركيين والروس في سورية. انتهت تهديدات موسكو بالعودة إلى اتفاق التنسيق مع واشنطن في الأجواء السورية. لا يعود غضبها إلى إسقاط «التحالف الدولي» طائرة «سوخوي 22». أزعجها أكثر أن قيادة التحالف لا تُعلمها بتحركاتها الميدانية أو الجوية ولا ترغب في التنسيق. أي أنها تتجاهل مصالحها. في حين أنها كررت في أكثر من مناسبة استعدادها للتفاهم في الحرب على «داعش». ما حدث احتكاك طبيعي متوقع. وقد يتكرر كلما اقترب يوم تحرير الرقة بعد الموصل، أو كلما ازداد انخراط الرئيس دونالد ترامب في الإقليم، من اليمن إلى العراق بحدوده الغربية وبلاد الشام بشرقها وجنوبها. علما أنه تعهد أن لا حروب جديدة في الشرق الأوسط. ومثله أعلن الكرملين قبل أيام أن الحرب في سورية توقفت! وهو يستعجل مسارَي آستانة وجنيف لتأكيد هذا «التوقف». ويسعى إلى التفاهم على آليات مراقبة «مناطق خفض التوتر». ذلك أن تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة يقوض استراتيجيته ويطيح مشروعه لإنهاء الحرب. لذلك رفع سقف خطابه بعد تعرض قوات النظام والميليشيات الحليفة لأكثر من ضربة أميركية أثناء تقدمها نحو قاعدة التنف والمثلث الحدودي مع الأردن والعراق. أوحى بعزمه على الرد، لأنه لا يريد لدمشق أو طهران أن تديرا اللعبة أو تبدلا قواعدها. وساهم في إشعال بعض الجبهات، وساهم أسطوله في المتوسط ببضعة صواريخ، وأعاد نشر بطاريات...
الاحتكاك متوقع إذاً ما دام السباق قائماً على تقاسم النفوذ في سورية. ويمكن هذا السباق أن يؤدي إلى إطالة الحرب على «داعش». بل قد يطيل عمر الأزمة في بلاد الشام بعد القضاء على التنظيم الإرهابي. روسيا تجهد لوقف القتال بترسيخ فكرة «مناطق خفض التوتر». أي أن تنشر هي وتركيا جنوداً في منطقة إدلب، وتتولى وإيران مراقبة المناطق المحيطة بدمشق، وتراقب الولايات المتحدة والأردن المنطقة الجنوبية في درعا. هذا ما أوضحه أحمد كالين الناطق باسم الرئيس رجب طيب أردوغان. بالطبع تبقى هذه الخريطة ناقصة. فالصراع هو على الرقة وعلى تركة «داعش» عموماً. الرئيس ترامب أقفل قناة الحوار مع طهران وأطلق حلفاً واسعاً في الإقليم لمواجهة نفوذها وتمددها. لكنه لم يطلق خطة أو يقدم استراتيجية لتحقيق هذا الهدف. تماماً كما يتعامل مع حربه على الإرهاب. فهو على خطى الإدارة السابقة لا يملك خطة لما بعد «داعش». ولا يملك أجوبة عن مستقبل سورية ومستقبل دور روسيا وإيران في هذا البلد. ما يستعجله هو إنجاز نصر في تحرير «عاصمة الخلافة». كما أن الرئيس السوري الذي لا يروقه تقاسم، بل يريد تحرير الرقة لتوكيد «شرعيته» وأهليته في محاربة الإرهاب! مثلما ترغب حليفته إيران في المشاركة في هذا التحرير لتوكيد حضورها الكبير في الإقليم وقدرتها على إدارة شؤونه. ومثلها تفعل تركيا التي تريد حضوراً يضمن لها قطع أوصال مناطق الكرد وأحلامهم.
هذا الازدحام ،أو بالأحرى التزاحم، في أرض سورية وسمائها، كما رأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يجعل من الصعب على اللاعبين الكبيرين، روسيا وأميركا، أن يقررا وحدهما مسار الأزمة. القوى الإقليمية والمحلية لا تنتظر نتيجة النقاش في الكونغرس ودوائر الإدارة في الاستراتيجية المنتظرة. لا تتوقف عند تحذير قوى في واشنطن من مغبة الانخراط في حروب المنطقة وإصرارها على قتال «داعش» أولوية. ولا تتوقف أيضاً عند دعوة قوى أخرى إلى رفع وتيرة المواجهة مع إيران باعتبارها معركة مصيرية لمستقبل مصالح الولايات المتحدة وعلاقاتها ودور حلفائها في المنطقة. وتعتقد هذه القوى أن غياب الخطة الاستراتيجية يتيح للأطراف الآخرين في الملعب السوري كسب مزيد من الأرض، كما هي الحال اليوم. ولا شك في أن النظام وإيران يحرزان تقدماً في كثير من المناطق على حساب الفصائل المعارضة. ويسعيان إلى تقويض مشروع «مناطق خفض التوتر». ولم تكتف طهران بإطلاق صواريخ باليستية على منطقة دير الزور حاملةً جملة من الرسائل الواضحة، بل بدأت ببناء قاعدة قرب تدمر تتضمن مطاراً ومهبطاً لإطلاق طائرات من دون طيار ومحطة مراقبة أرضية. وهدفها والنظام تقويض تفاهم موسكو وواشنطن على هدنة طويلة توفرها صيغة «مناطق خفض التوتر» التي قد تكرس لاحقاً أقاليم في نظام فيديرالي. في المقلب الآخر تحشد تركيا قواتها مهددة بضرب عفرين، وتتوعد بتقويض حلم الكرد في حكم ذاتي بعدما دفعت البنتاغون إلى التعهد باستعادة كل الأسلحة التي يمد بها «وحدات حماية الشعب» بعد انتهاء معركة الرقة.
في خضم هذه الأجندات المختلفة، لا تملك إدارة الرئيس ترامب استراتيجية تمكّنها من التغلب على خصومها في سورية. أو فرض رؤيتها وأجندتها. كما أن رفع عديد قواتها أو توسيع رقعة انتشارها في شرق البلاد وشمالها لن يغيرا في مآل الصراع، أو يَحُولا دون انتصار خصومها في المعركة في النهاية. ذلك أن عشرات الآلاف من جنودها الذين غزوا العراق لم ينجحوا في فرض المشروع السياسي الأميركي في بلاد الرافدين. وقبل ذلك لم تقطف الولايات المتحدة وشريكاتها في حرب أفغانستان ثمار جهودها العسكرية في هذا البلد بعد إسقاط نظام «طالبان» وتشتيت قيادات «القاعدة». إلا أن بعض داعمي هذه الإدارة يعتقد بأن انخراطها في المسرحين العراقي والسوري سيمكنها عاجلاً أم آجلاً من إرهاق اللاعبين الآخرين وتحويل الحضور الإيراني خصوصاً مكلفاً وصعباً، على غرار ما حدث في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. لكن الوقائع على الأرض لا تشي بذلك، على رغم أن من المبكر الجزم بمآل حرب الحدود وتقاسم الجغرافيا السورية، فالإيرانيون حتى الآن يقيمون على طرفي الحدود العراقية- السورية، على رغم أن واشنطن طلبت من بغداد إبعاد ميليشيات «الحشد الشعبي» عن هذه الحدود وتسليم أمنها إلى القوات الشرعية من حرس حدود وجيش. وجاءت الصواريخ الباليستية الإيرانية على دير الزور لتقول لقاطني قاعدة التنف أن يد الجمهورية الإسلامية طويلة وقادرة على إزعاجهم. كما أن النظام في دمشق يقترب من استعادة درعا والسيطرة على منافذ الحدود في الجبهة الجنوبية مع الأردن. لذلك تبدو الجمهورية الإسلامية في الميزان العسكري هي الأقوى انتشاراً على المسرحين العراقي والسوري. لكنها تبقى دون تفوق الولايات المتحدة وروسيا وقوتهما وترسانتهما. وهذا واضح في المسرح السياسي حيث تترجم الموازين فعلياً، فموسكو مثلاً هي من يقود ويقرر في آستانة، كما في دمشق وإلى حد كبير في جنيف، أضف إلى ذلك أن اتساع خريطة انتشار القوى الإيرانية يفوق حجمها وقدرتها في الإقليم. كما أنها ليست دولة متقدمة تتمتع باقتصاد راسخ وقوي. وهي تواجه مقاومة لا يستهان بها من اليمن إلى سورية. لذلك يستحيل التنبؤ بمسار الصراع.
إلى هذه القوة الإيرانية على الأرض هناك تركيا، التي تشكل تهديداً لمكتسبات الكرد في شمال شرقي سورية، خصوصاً إذا تخلى عنهم الأميركيون مرضاة لهذا الحليف المفترض في «الناتو»، كما هو واضح اليوم من تعهداتهم لها بإطلاعها على لوائح المعدات التي تسلح بها «قوات سورية الديموقراطية»، والتزامهم استعادة هذه المعدات والأسلحة بعد القضاء على «داعش». وعلى رغم ذلك، لا تملك حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان خيارات واسعة. وإذا غامرت بتنفيذ وعيدها للكرد فإنها ستغامر بفتح معركة واسعة متعددة الجبهات تعم كل مناطق انتشار حزب العمال الكردستاني وفروعه في شمال سورية ومناطق سنجار فضلاً عن مناطق ديار بكر ومناطق انتشار الكرد الأخرى. ثم إن إطالة الحرب على الرقة، كما يتضح اليوم، تتيح للاتحاد الديموقراطي الكردي تعميق تعاونه مع الأميركيين وترسيخ حضوره في مناطق انتشاره الواسعة. وهو يتمتع بشبكة علاقات تتيح له خيارات عدة إذا شعر بتخلي إدارة ترامب عنه. يمكنه الرد على خصومه بإحياء تفاهمات مع النظام في دمشق، كما حصل في حلب، حيث ساهم في طرد الفصائل المعارضة. وكما فعل في مناطق وجبهات تخلى فيها عن مواقعه لمصلحة دمشق وحلفائها.
في ضوء هذه الوقائع، لا مجال للحديث عن تسوية في آستانة ولا في جنيف. كان منطق المعارضة و «أصدقائها» في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، هو الرهان على إرغام الرئيس الأسد ونظامه على تقديم تنازلات بعد إضعافه وتقليص مناطق نفوذه. فمن يستطيع اليوم دفع هذا النظام إلى التنازل؟ ألا يكفي ما تحقق له الآلتان العسكريتان لروسيا وإيران؟ ألا يكفي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بات لا يرى «أي بديل شرعي للنظام»، وأن رحيل الأسد لم يعد أولوية بل محاربة «داعش». سيبقى الحل إذاً رهن ميدان الحرب ونتائجها. من هنا لم يعد مآل الأزمة رهن تفاهم بين أميركا وروسيا ينتظره الجميع. بات لكل ناحية في خريطة سورية دينامية خاصة ومعقدة، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالبادية والحدود الشرقية. لم تعد هناك قواعد ثابتة وعامة لإدارة اللعبة.
بانتظار ما ستقرر واشنطن فعله إزاء الطموحات القومية الكردية المزمنة، أقله في شمال سوريا، يتركز الاهتمام من دون كلام كثير عن البؤرة الأخطر في منطقة الشرق الأدنى اليوم... ألا وهي جنوب سوريا.
بالأمس نشرت «الشرق الأوسط» قراءات إسرائيلية للوضع في المنطقة الممتدة من البوكمال على الحدود العراقية إلى خط الهدنة في هضبة الجولان مروراً بمعبر التنف الحدودي. وكان مثيراً بعض ما ورد، مع أن التجارب علمتنا أن جوهر السياسة الإسرائيلية يكمن في ما يحصل على الأرض لا ما يُقال. بل، في معظم الأحيان، تكون المواقف المعلنة محاولات متعمدة للتمويه كي لا نقول التضليل.
ولندع، لبرهة ما قيل وما زال يُقال، وننظر إلى حقائق جنوب سوريا.
الحقيقة الأولى أن النظام - بالأصالة أو عبر ميليشيات حماية القرى المحلية - موجود عسكرياً في أقصى جنوب غربي سوريا. ولئن كانت إسرائيل تتقبل مبدأ حماية القرى لأسباب إنسانية وطائفية غير مدفوعة الثمن سياسياً واستراتيجياً، فإن للنظام وميليشيا حزب الله - واستطراداً، إيران - حضوراً عسكرياً في المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ وسفوحه. والصمت يعني أن إسرائيل لا تجد في هذا الحضور تهديداً لها بصيغته الراهنة.
الحقيقة الثانية، أنه يوجد في جنوب غربي محافظة درعا (جنوب منطقة الجيذور وغرب حوران) «جيب» يضم بضع بلدات يسيطر عليه تنظيم داعش. وهذا الجيب يُفترض به أنه معزول جغرافياً عن باقي محافظة درعا (قلب حوران) وأنه معرّض للغارات الجوية. مع هذا، ما زال «داعش» يسيطر على «الجيب»، وما زال طيران النظام الذي دمّر حلب وحمص وضواحي دمشق متمنِّعاً عن قصفه. والشيء نفسه يُقال عن طيران إسرائيل.
الحقيقة الثالثة، أن إسرائيل ضمّت في أواخر عام 1981 الأجزاء التي كانت قد احتلتها من هضبة الجولان عام 1967. وهي تعتبرها اليوم جزءاً لا يتجزأ من «أرض إسرائيل». وكانت المناورات السياسية المتبادلة بين الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد وقادة إسرائيل حول «تحرير الجولان» والتفاوض على الهضبة، تتمحوَر حول «مبرّرات» الطرفين للهروب من الحل. وكان من المبرّرات حدود محيط بحيرة طبريا (بما في ذلك أرض البطيحة والحِمّة) وحدود الجزر والمد بالنسبة لمياهها. وذات يوم أخبرني أحد الخبراء المائيين العرب المطّلعين على ملف طبريا أن هدف حافظ الأسد كان الإبقاء على حالة «اللاحرب واللاسلم» - بما في ذلك بقاء هضبة الجولان محتلة – بوصفه ذريعة لعداء «ممانع» مصطنع مع إسرائيل يستفيد منه النظام لأنه يخدم غاية رفض أي توجه نحو الديمقراطية والحريات الدستورية السليمة. وفي المقابل، تستفيد إسرائيل من تحوّل النظام السوري إلى مظلة مزيفة للرفض العربي و«الممانعة» و«المقاومة» اللفظيتين، بينما يحقق فعلياً الأهداف الاستراتيجية لتل أبيب.
الحقيقة الرابعة، أنه منذ «حرب التحريك» العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الهادفة إلى تسليم كل ملفات المنطقة لواشنطن، ظل خط الهدنة في هضبة الجولان أهدأ «خط جبهة» في عموم الشرق الأوسط. وحقاً، ما كان «العداء» لإسرائيل يترجَم قتالاً إلا في لبنان تمهيداً لضمه إلى «الهلال الإيراني»، والأراضي الفلسطينية لشق الصف الفلسطيني وافتعال «حرب أهلية» فلسطينية... والمسلسلات التلفزيونية والأغاني الوطنية. ومعلوم، أن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 ومن ثم تصفيتها المقاومة الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني كانا جزءاً من خطة أميركية تحظى بمباركة إسرائيلية. فقط تغيّرت تفاصيل التفاهم «التعايشي» بين دمشق وتل أبيب مؤقتاً عام 1982 مع غزو القوات الإسرائيلية لبنان، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى طبيعتها بعد غزو العراق للكويت عام 1990؛ ذلك أنه بعد مشاركة حافظ الأسد في الحرب على نظام صدام حسين، أطلقت واشنطن - ومعها تل أبيب، طبعاً - يده في لبنان. وكانت النتيجة تسريع عملية إلغاء الدولة اللبنانية لصالح «دولة المقاومة».
الحقيقة الخامسة، أن إسرائيل ارتضت منذ انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، و«إعلانها» انتصار «حزب الله»، التعايش مع لبنان يسيطر عليه هذا الحزب المرتبط ارتباطاً عضوياً بإيران وحرسها الثوري. ثم إن إسرائيل، التي تعرف جيداً طبيعة الحزب وارتباطاته وما فعله في نسيج المجتمع اللبناني، حرصت على إهدائه انتصاراً «علنياً» آخر عام 2006 كي تضمن له مزيداً من «الشرعية»، عندما شنّت حرباً ضروساً على لبنان تعمّدت أن تدمر فيها كل شيء إلا البنى التحتية للحزب. وبعدها، ظهر التفاهم الضمني على أن الحزب يمكن أن يستخدم سلاحه في أي مكان في الداخلين اللبناني والعربي، ولكن ليس ضد إسرائيل.
الحقيقة السادسة، أنه بعد خوض «حزب الله» معركة إنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا، في إطار «الجهود الحربية» الإيرانية، اكتفت تل أبيب بالتعامل معه بأسلوب تعاملها مع نظام الأسد نفسه... أي «توجيه الرسائل» لا أكثر. وعملياً، قامت الاستراتيجية الإسرائيلية حتى الآن على اعتبار أن بقاء نظام الأسد و«حزب الله» «هدف استراتيجي» لها... ولكن وفق شروطها أيضاً، لا شروط طهران وحدها. وكما نرى منذ 2011، فإن إيران وتوابعها خصّصوا لـ«تحرير القدس» الخطب التحريضية الرنانة والاستعراضات العسكرية، بينما استخدموا أفتك الأسلحة داخل سوريا «لتحرير» كثير من مدنها وقراها من سكانها، واحتلوا أربع عواصم عربية.
وعليه، إذا ما نظرنا إلى خريطة ما تبقى من سوريا، نستشف معالم صفقة كبرى تعبّر عنها «مناطق تخفيف التصعيد»، والواضح أن مشروع «الهلال الإيراني» يلعب دوراً محورياً. ولئن كانت الإشارات من واشنطن وموسكو إلى كل من تركيا والجماعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري تبدو متناقضة، فالصمت الإسرائيلي الطويل في الجنوب لا يعني أن تل أبيب غير مكترثة.
إسرائيل، التي حمت نظام الأسد لسنوات من وراء الستار في العواصم الغربية، تريد الآن حصتها في الكعكة السورية، بل والكعكة الإقليمية أيضاً. وهي تطمح لأن تكون حوران الطبيعية التي تقع دمشق على أطرافها الشمالية... تحت جناحها.
مع قرب نهاية «داعش» في الموصل والعراق، بعد الجرائم التي ارتكبها بحق البشر والحجر، وآخرها تفجير مئذنة الجامع الكبير التاريخية في الموصل، تبدو المعركة المقبلة مع التنظيم في الرقة أكثر صعوبة وتعقيداً، بسبب تداخل الأطراف المتصارعة على الإمساك بالأرض واحتمالات المواجهة في ما بينها، بعد هزيمة «داعش» في معقله السوري.
مؤشرات هذه التعقيدات ظهرت الأسبوع الماضي مع إسقاط القوات الأميركية طائرة من طراز «سوخوي» تابعة لسلاح الجو السوري، وهو أول حادث يُسقط فيه الأميركيون مقاتلة سورية، منذ بدء الحرب في هذا البلد قبل أكثر من ست سنوات. موسكو وصفت الحادث بأنه «عدوان عسكري»، فيما قالت وزارة الدفاع الأميركية إن إسقاط الطائرة كان «دفاعاً عن النفس» لأنها كانت تشن غارات على «قوات سورية الديموقراطية» التي كانت تقوم بعمليات ضد «داعش» في الرقة. ثم جاء إسقاط الأميركيين طائرتين من دون طيار من صنع إيراني في الأجواء السورية، وقيام إيران بقصف مواقع للتنظيم في بلدة الميادين القريبة من الحدود العراقية بصواريخ «كروز» من أراضيها، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها إيران صواريخها لقصف أهداف في الخارج منذ الحرب العراقية- الإيرانية. وبررت طهران القصف بأنه رد على التفجيرات التي ضربت العاصمة الإيرانية والتي أعلن «داعش» مسؤوليته عنها.
إضافة إلى ذلك، يتهم الروس القوات الأـميركية بتعزيز وجودها العسكري في جنوب سورية، في ظل أنباء عن نقل منظومات صواريخ إلى قاعدة التنف عند الحدود العراقية- السورية، التي باتت هدفاً مباشراً لقوات التحالف، لمنع إيران وحلفائها من السيطرة على هذه المنطقة، وإقامة خط إيراني مباشر يربط إيران بالبحر المتوسط، مروراً بالعراق وسورية ووصولاً إلى قواعد «حزب الله» في لبنان.
في هذا السياق، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في الأسبوع الماضي أن مسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب طلبوا من وزارة الدفاع إقامة نقاط عسكرية في البادية السورية، بهدف منع قوات النظام أو الميليشيات التابعة لإيران من الوقوف في وجه القوات الأميركية التي تقوم بمواجهة «داعش» لمنعه من إقامة قواعد في منطقة البادية، يمكن أن تسهل للتنظيم إعادة تنظيم صفوفه بعد هزيمته المتوقعة في الرقة.
وأضافت الصحيفة أن هناك معارضة من بعض المسؤولين في البنتاغون لتوسع الوجود الأميركي على الأرض السورية بحجة صعوبة حماية هذه القوات في مناطق معزولة في سورية، أو في المناطق التي تتواجد فيها ميليشيات مدعومة من إيران في العراق. غير أن مسؤولاً في البيت الأبيض قلل من هذه المخاوف وأشار إلى أن توسيع الدور الأميركي قد لا يحتاج إلى مزيد من القوات على الأرض، مع القدرة الجوية الموجودة في المنطقة.
وبعيداً عن مسرح العمليات السورية جاء الإعلان عن الاصطدام الذي تم تجنبه في اللحظات الأخيرة بين مقاتلتين أميركية وروسية في الأجواء فوق منطقة بحر البلطيق قرب الحدود الفنلندية، وما اعتبرته موسكو استفزازاً مقصوداً من جانب الأميركيين، أدى إلى تهديدها باعتبار أي طائرة أميركية أو تابعة للتحالف الغربي في سورية هدفاً إذا قامت بالتحليق في منطقة شرق نهر الفرات، فوق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
تنافس محموم على من سيحتفي بهزيمة «داعش» ومن سيخلف «خلافة» هذا التنظيم في سورية. وهكذا مع توقع سقوطه في الرقة، يظهر صراع جديد على ملء الفراغ الذي سيخلّفه هذا السقوط. صراع يدور بين النظام السوري وحلفائه الإيرانيين من جهة وقوات المعارضة السورية وحلفائها من جهة أخرى، وبالتبعية في شكل مباشر بين القوات الإيرانية والأميركية. الصراع الحقيقي هو على مستقبل سورية وموقع هذا البلد على الخريطة الاستراتيجية في المنطقة، تحت ضغط المواجهة المحتدمة بين طهران وحلفائها والميليشيات العاملة معها وواشنطن والقوى الحليفة لها. إنه الصراع الذي يمنع القوى التي يُفترض أنها جميعها متضررة من وجود «داعش» من الاصطفاف في جبهة واحدة لمحاربته، وانصرافها إلى مواجهة بعضها البعض بدلاً من ذلك.
لم تكن متوقعة تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة حول سورية، في مقابلة له الأربعاء الفائت مع ثماني صحف أوروبية. فهو كان أدلى بتصريحات مختلفة أثناء حملته الانتخابية، وحتى بعد توليه الرئاسة واستقباله نظيره الروسي. يُذكر أن ماكرون نال استحسان السوريين على موقفه الذي لا يبتعد من موقف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع الثورة، بخلاف المواقف اليي أطلقها منافسوه في سباق الانتخابات مثل لوبن وفيّون وميلانشون. يُذكر أيضاً عدم حدوث تغير درامي في الملف السوري يستدعي انقلاباً في الموقف، وعدم حدوث تغيرات درامية دولية تخص هذا الملف، إلا إذا كان ماكرون معادياً لانخراط أميركي أكبر قليلاً مما سبق.
لتسويق موقفه الجديد، لا يتحرج ماكرون من تسويق المبررات الزائفة، الأمر الذي بات معهوداً لدى مناصري تنظيم الأسد والصامتين عن جرائمه. هكذا هي الحال مثلاً مع قوله أن "الأسد عدو الشعب السوري وليس عدو فرنسا"، فهذا الفصل الذي يبدو منطقياً ظاهراً وساذجاً مفهومياً، يقفز فوق حقيقة ارتكاب الأسد جرائم ضد الإنسانية، وفوق محاولات فرنسية سابقة لتجريمه في مجلس الأمن اصطدمت بالفيتو الروسي، ويقفز بالطبع فوق مسؤولية فرنسا كعضو دائم في المجلس، ما يحمّلها مسؤولية خاصة عن السلم الدولي.
ألا يرى ماكرون الذي لم يكن على الأرجح ليفوز بالرئاسة لولا فضائح فيون المالية وتطرف لوبن، بديلاً شرعياً للأسد على رغم جرائمه، فهذا مما يتنافى مع أبسط قواعد الديموقراطية التي أتت به إلى الرئاسة. إلا إذا كان كمنافسته السابقة لوبن من العنصرية بحيث لا يرى السوريين جديرين بأكثر من ذلك، ولا يراهم جديرين بما طالبوا به منذ اندلاع ثورتهم بحقهم في الديموقراطية، وبحقهم اللاحق في ألا يتولى رئاستهم مجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية. ذلك الحق الأصيل لا علاقة له بأي ادعاء يُساق اليوم حول تهافت المعارضة السياسية، أو حول وجود فصائل متطرفة، طالما بقي السوريون محرومين من ممارسته بملء حريتهم.
أما التخوف الذي أبداه ماكرون من تحول سورية إلى بلد فاشل فيذكّرنا بتصريحات المبعوث الدولي السابق الأخضر الإبراهيمي، لكن الفارق الزمني يجعل التخوف الآن أقرب إلى نكتة سمجة. لقد تحولت سورية فعلاً إلى دولة فاشلة منذ سنوات، ومن المخجل ألا يرى رئيس لدولة كبرى ذلك، وألا تضع له مخابراته صورة دقيقة عن انهيار بقايا الدولة في معاقل تنظيم الأسد، باعتبار الأخيرة لم تتضرر منه قصفاً وتدميراً. وإذا كان ماكرون يستلهم الكذبة الدولية التي تتخوف من مصير سوري يشابه مصير العراق إثر إسقاط نظام صدام، فالواقع الذي يفقأ الأعين أن هذه المقارنة من النواحي كافة لم تعد لمصلحة خيار الإبقاء على الأسد.
فوق المغالطات السابقة، ثمة قفز على المسؤولية الأخلاقية الخاصة بفرنسا إزاء بشار الأسد، وتلك في الأنظمة الديموقراطية المحترمة ليست مسؤولية تنقضي برحيل حكومة مع سياساتها. الإليزيه استقبل الأسد استقبال الرؤساء عندما كان يُعَدّ للرئاسة، في تجاوز للبروتوكول أيام الرئيس شيراك، وكان في هذا دعم واضح لمشروع التوريث بحد ذاته بصرف النظر عما إذا كان بشار قد خيب الآمال المعقودة عليه.
إثر اغتيال الرئيس الحريري وتوجيه الاتهام إلى تنظيم الأسد، أتت رئاسة ساركوزي لتفك العزلة عنه، وكانت الذريعة التي تُسوّق خلف الكواليس احتواءه، بدل مضيه في مسلسل الاغتيالات التي أودت بحياة كثير من الشخصيات اللبنانية آنذاك. وإذا أخذنا في الحسبان الالتزام الخاص الذي تبديه الحكومات الفرنسية إزاء لبنان، يمكن القول أن لفرنسا مسؤولية خاصة عن عهد وصاية الأسد على لبنان وتداعياتها المستمرة حتى الآن، وفي رأس التداعيات استقواء "حزب الله" على اللبنانيين ومشاركته الحثيثة في الحرب على السوريين.
في الواقع، كان للموقف الفرنسي الداعم الثورة السورية، والأشد ثباتاً حتى تصريحات ماكرون الأخيرة، أن يغطي ضعف التزام الحكومة الفرنسية تجاه قضية مؤثرة مثل قضية اللاجئين. فرنسا، بخلاف الجعجعة التي رافقت الانتخابات الرئاسية حول موضوع اللاجئين، لم تستقبل إلا عدداً محدوداً جداً من السوريين مقارنة بدول مثل ألمانيا والسويد، وهما تقليدياً غير منخرطتين في الشأن السوري، بل يؤخذ على الحكومة الألمانية عدم اتخاذها موقفاً صارماً إزاء الأسد على رغم تحملها العبء الأكبر للجوء.
في كل الأحوال، إذا كان من مصائب السوريين تجرؤ قادة دول مؤثرة في قول ما يشاؤون وتغيير مواقفهم بلا حساب أو مساءلة، فهذا لا يعني تضخيم الدور الفرنسي، وتضخيم تأثير تصريحات ماكرون الأخيرة. ذلك يتضح مقارنة بالدورين الأميركي والروسي، فقد كان لتراجع أوباما عن خطه الأحمر الشهير وإبرامه صفقة الكيماوي تأثير مدمر في القضية السورية، والجدير بالذكر أن الطيران الفرنسي كان جاهزاً آنذاك لضرب مطارات الأسد لو قرر أوباما توجيه ضربة عسكرية. كما هو معلوم أيضاً، تمّ تهميش الدور الأوروبي كاملاً في الملف السوري، لمصلحة احتكاره أولاً من موسكو وواشنطن، وبعض الدول الإقليمية بدرجة أقل أو عند اللزوم.
لذا، قد يبدو ماكرون أنه يضحي بصدقية أخلاقية من دون طائل، لولا أنه يحاول طرح نفسه كديغول فرنسي جديد، خصوصاً يبرز تمايزه عن سياسة ترامب لمصلحة توجه أكثر أوروبيةً. لكن، مع إدراك عدم تأثير الموقف الفرنسي أو الأوروبي برمته في موضوع بقاء الأسد وتنحيته، يمكن القول أن كلامه الأخير، مع رهانه على تشكيل قطب أوروبي مع ألمانيا لن يكون خبراً ساراً، وقد يؤكد ما تمّ تداوله منذ مدة عن عودة السفير الفرنسي إلى دمشق قريباً. هذا التوجه يعطي جرعة معنوية لتنظيم الأسد، بل سيُرى فيه شرعية دولية تعوّض الشرعية المفتقدة داخلياً.
التذرع بأولوية الحرب على الإرهاب قد يفيد أمام الرأي العام الفرنسي للتغطية على القبول بمجرم ضد الإنسانية، وقد يردّ الأخير الدَّيْن فنشهد انتهاء العمليات الإرهابية في فرنسا، على نحو ما توقف استهداف شخصيات لبنانية إثر استقبال بشار في باريس عام 2008. إذا تحققت هذه الغاية لن يبقى من سبب لمشاركة الطيران الفرنسي في الحرب على "داعش"، ويستطيع ماكرون القول أيضاً أن "داعش" ليس عدو فرنسا.
تبدو مسألة تحرير الرقة من «داعش» قضية وقت ليس إلا. ورغم أن قوى كثيرة تسعى من أجل الفوز بتحرير الرقة والمشاركة فيها، فإن قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd)، هي المرشح الرئيسي على قائمة القوى للسيطرة على الرقة وتحريرها - أو أغلبها على الأقل - من سيطرة «داعش».
مسألة تحرير الرقة، تطرح سؤالا مفاده: مَن يحكم الرقة بعد تحريرها؟ والجواب البديهي، هو أن قوات سوريا الديمقراطية هي التي ستحكمها، وهو أمر جرى التفكير فيه منذ أن لاح في الأفق موضوع تحرير الرقة، وطرد «داعش» منها، قبل عدة أشهر، وقد أكدت قوات سوريا الديمقراطية هذا التوجه، يوم سربت قرار تشكيل مجلس للإدارة المحلية، يضم أكراداً وعرباً وآشوريين، يتبنى توجهات الإدارة الذاتية، التي تتبناها سوريا الديمقراطية، وتسعى إلى تعميمها، ليس في شمال وشرق البلاد، بل في كل الأنحاء السورية، التي يمكن أن تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وتشكل سيطرة سوريا الديمقراطية على الرقة، وتولي إدارتها، موضوعاً خلافياً في الواقع السوري. وأساس الخلاف في الموضوع يستند إلى ثلاثة أمور أساسية: أولها رفض سيطرة الأكراد على الرقة، ليس لوجودهم المحدود في المدينة، إنما بفعل أن أكراد pyd، يمكن أن يحكموا الرقة، وهم جماعة متهمة بممارسة التطرف والسياسة العنصرية من جانب سكان الرقة والأغلبية العربية في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، وتجلى ذلك في أوقات سابقة من الصراع السوري، ولا سيما في عملية تحرير تل أبيض من تنظيم داعش، وقد أكدت تقارير - بينها تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» - محتويات تلك السياسة في عنصريتها وتطرفها.
الأمر الثاني في رفض سيطرة أكراد pyd على الرقة، وتولي إدارتها من جانب سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، اتهام المعارضة السورية وخاصة المقربة من تركيا، بعلاقة هؤلاء بنظام بشار الأسد، وفي الأبعد من ذلك بالعلاقة مع النظام الإيراني، وهي اتهامات لها بعض المظاهر الواضحة في سياسات وممارسات pyd، ويبرر الأخير بعضها بالمصالح المشتركة والطارئة، التي تظهر في إطار الصراعات والتوافقات، التي تشهدها الحرب المتواصلة في سوريا، مما يجعل البراغماتية أساس السياسة وليست المبادئ.
الأمر الثالث في معارضة تولي pyd حكم الرقة، يكمن في رفض السياسات التي تطبقها الإدارة المدنية في مناطق سيطرتها، والأهم فيها ثلاث نقاط: أولها سياسة التجنيد، حيث يتم سوق الشباب للانخراط في قوات سوريا الديمقراطية دون رغبتهم، وبالتالي جعلهم أدوات لتطبيق فكرة الإدارة الذاتية وتعميمها. والنقطة الثانية تتعلق بالتعليم، حيث يفرض التعليم باللغة الكردية على المدارس، بخلاف رغبة أهالي المنطقة. والنقطة الثالثة الاستيلاء على أملاك الغائبين من السكان، ووضعها بتصرف الإدارة الذاتية. وقد أثارت النقاط الثلاث خلافات في كل مناطق سيطرة pyd، سواء مع العرب والآشوريين والتركمان.
إن البديل المطروح لحكم الرقة بعد تحريرها، هو أن يحكمها أهلها، وهو شعار رائج وشعبوي، لكنه شعار يطرح كثيراً من الإشكالات، لعل الأبرز فيها، أن عشرات آلاف الرقاويين غادروا المدينة في سنوات الصراع، وقسم كبير منهم لاجئون في تركيا وفي بلدان أبعد منها بكثير، ولا أمل في عودة سريعة لأكثرهم، ومن تبقى في الرقة في سنوات سيطرة «داعش»، يتوزعون بين قليل منهم مال إلى عزلة مغرقة، وقسم كبير منهم بايع التنظيم خوفاً أو اقتناعاً بآيديولوجيته الإرهابية المتطرفة، وبالتالي لا يمكن تسليمهم إدارة الرقة، على الأقل قبل التحقق من مواقفهم وعلاقاتهم، خاصة أن «داعش» يطبق فكرة الخلايا النائمة، ومن المؤكد، أنه ترك في الرقة خلايا نائمة على نحو ما فعل في مناطق أخرى، اضطر إلى الانسحاب منها أو التخلي عنها في سياق الحروب مع خصومه، على أمل العودة إليها لاحقاً.
وإذا كانت فكرة عدم إمكانية حكم الرقة من قبل قوات سوريا الديمقراطية وpyd نتيجة تحفظات كثيرة، يطرحها خصومهما، فإن حكم الرقة من قبل سكانها تحيط بها التباسات، لا تقل أهمية عن التحفظات، فليس من المقبول احتمال عودة «داعش» للرقة تحت أي ظرف كان.
إن البديل الممكن لحكم الرقة، أن يحكمها مجلس خارج القوتين المطروحتين وامتداداتهما، والمجلس في هذه الحالة، قوة تنتمي إلى ثورة السوريين بأطروحاتها الوطنية والديمقراطية، التي عبرت عنها الرقة في حراكها المدني والسلمي ضد نظام الأسد، وجسدتها بصورة عملية ولو لفترة قصيرة بعد خروج الرقة من سيطرة النظام، وقبل أن تقع أسيرة سيطرة المتطرفين وصولاً إلى سيطرة «داعش» عليها، وإعلانها عاصمة لدولة التطرف والإرهاب، لكن مثل هذا الخيار غير ممكن عملياً؛ لأن المنتمين لهذا الاتجاه صاروا أضعف من أن يحكموا الرقة أو غيرها من المدن السورية.
ووضع كهذا يطرح فكرة تحالف ثلاثي، يقوم على برنامج من نقاط مشتركة، تراعي وضع الرقة واحتياجاتها العاجلة ومستقبل المدينة وأبنائها، يتشارك فيه سكان الرقة الحاليون، وما تبقى من ممثلي الحراك الوطني الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، لكن حصول مثل هذا التحالف، يكاد يكون مستحيلاً في الظرف الحالي، وتحيط به صعوبات كثيرة داخلية وخارجية، الأمر الذي يؤشر إلى أن مأساة الرقة ستظل ماثلة في المدى المنظور، وأن فكرة عودة الحياة إلى طبيعتها هناك بعد طرد «داعش» منها، أبعد ما تكون عن الواقع، وأن ما يمكن أن يحصل هناك هو مجرد فصل جديد من مأساة مدينة، ثارت على نظام لأسد من أجل حياة ومستقبل أفضل، وما زالت في الطريق ذاته رغم مرور سنوات طويلة ومعاناة كثيرة.
يحذر قول سوري من إدخال الدب إلى الكرم لحراسته، لأنه سيكون الحارس والمستولي على الكرم في آن معا. لكن هذا القول ورغم سدادة تفكير من وضعه، فإنه لم يقنع بشار الاسد، الذي هرول فزعا إلى الدب الروسي يستجدي حمايته، من ثورة كادت تكنسه، بعد أن استنجد بحزب الله في إبريل 2013 الذي لم يفلح بقضه وقضيضه، ودعم ولاية الفقيه في طهران له سلاحا وعتادا، في صد المد الثوري، وتقدم الثوار على جبهات عدة.
في موسكو التي وصلها بشار على متن طائرة شحن روسية، أعطى موافقته على كل الشروط الروسية، من بناء قواعد عسكرية وبحرية، وعدم التعرض للقوات الروسية التي ستكون لها اليد الطولى في سورية لضرب الثورة السورية، تحت غطاء» محاربة الإرهاب»، وهو شعار النظام السوري لتبرير قتل الأبرياء المطالبين بالحرية، بإلباسهم ثوب الإرهاب. وقد تشجع فلاديمير بوتين بتنازلات بشار، ووجد في العرض الأسدي فرصة ذهبية لضرب عصافير عدة بحجر واحد: بناء قواعد روسية لتثبيت حضور روسيا العسكري في منطقة البحر المتوسط، قطع الطريق على خط أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية (خط أنابيب الغاز الذي كان مزمع انشاؤه عبر الأراضي السورية، وربطه بخط أنابيب نابوكو لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز القطري)، امتلاك الورقة السورية لإبرازها في وجه أوروبا وامريكا في حال التفاوض بالشأن الأوكراني، إعادة إظهار روسيا كلاعب دولي اساسي، بعد تراجع دورها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد شجعت إدارة أوباما الروس بطريقة غير مباشرة على الدخول في المغامرة السورية، بعد أن تراجع الدور الامريكي في عهد أوباما، الذي ترك لروسيا وإيران حرية التصرف على الاراضي السورية، وبعد أن تراجع عن خطوطه الحمراء في ما يخص استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، ورغم تحذيرات اسرائيل لإدارة أوباما من تنامي الخطر الإيراني.
ففي أواخر شهر سبتمبر 2015 بدأت طائرات السوخوي والميغ قصف مواقع المعارضة، مدعية أنها تحارب المنظمات الارهابية «داعش» و»النصرة»، مع القناعة الأكيدة بأن المسألة لن تطول، وأن أسلحتها الفتاكة التي جربت إلى الآن، أكثر من مئتي سلاح جديد في رؤوس الأطفال السوريين وأمهاتهم، كفيلة بحسم الموقف خلال أسابيع عدة، أو بضعة شهور على أقصى تقدير، لكن حسابات الحقل لا تطابق بالضرورة حسابات البيدر.
فاليوم ومنذ ما يقارب العامين لا تزال الطائرات الروسية تقصف مواقع الثوار، من دون أن تنجح في القضاء عليهم، خاصة في درعا والغوطة الشرقية، رغم النجاح النسبي الذي حققته في بعض قرى ضواحي دمشق، أو في حلب. وتيقنت موسكو من أن الحل العسكري بمفرده لن يؤتي أكله، ما لم يرفق بحل سياسي مفصل على مقاسات الرغبة الروسية، في عدم قتل الراعي ولا الذئب، مع التضحية ببعض الغنم.
وقد سارعت الخطى باتجاه إنشاء منصات سياسية «لمعارضات معتدلة» في القاهرة وموسكو، تقوم بدور «المشوش» على المعارضة السياسية للثورة السورية، المتمثلة بالائتلاف الوطني واللجنة العليا للمفاوضات (التي تحافظ على مواقفها الثابتة في انتقال السلطة الكاملة، ورحيل بشار الأسد، حسب قرارات جلسات جنيف الخمس) وإنشاء مسار جديد للمفاوضات بعيدا عن جنيف، مخصصا للفصائل العسكرية في آستانة، لشق صف المعارضة واعتبار الفصائل المسلحة هي المخولة بالتفاوض في مسائل ميدانية على أقل تقدير، ورغم الزخم الذي بدأ فيه إلا أنه بات متعثرا كمسار جنيف، بعد جولاته الست، التي أطالت أمد الصراع، وبقاء الأسد ونظامه، فبعد أربع جولات من المفاوضات التي حاولت فرض وقف إطلاق النار، من دون نجاح، لأنها اي روسيا اول من انتهكه، ثم رسم خرائط لمناطق «تخفيض التوتر»، التي لم تسفر عن نجاح يذكر أيضا، لأن أول من اخترق هذا الاتفاق هم الروس أنفسهم.
ولم تنجح موسكو إلى الآن في تحديد موعد للجولة الخامسة لآستانة، بانتظار انتصارات جديدة في درعا والغوطة، تساعدها في الضغط على المعارضة للقبول بالشروط الروسية، وعلى رأسها بقاء الاسد، «ولو صورة»، لإضفاء شرعية ما على التدخل الروسي، وإرضاء الحليف الإيراني، الذي لم يدع عميلا من عملائه إلا واستدعاه وزجه في ميليشيات بتسميات مختلفة تذكر بالدولة الفاطمية (فاطميون، زينبيون) تقوم طائرات الروس بتغطية قواتها وقوات الميليشيات الأخرى، التي يصعب على المرء حصرها (حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، عصائب الحق، الحشد الشعبي، الحرس الثوري، لواء أبو فضل العباس، كتائب القدس، كتائب سيد الشهداء، كتيبة الزهراء، كتيبة العباس، لواء اسد الله، لواء الامام الحسن، لواء الإمام الحسين، منظمة بدر) ويضاف إليها ميليشيات عقائدية بعثية وقومية ( البعث اللبناني، والقوميون السوريون، وفلول من قوميجين من دول عربية مختلفة)، ورغم كل هذه الحشود المختلطة، والطيران الروسي والسوري، التي ترتكب يوميا عشرات المجازر بقصف جوي بحق الشعب السوري، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق آمالها بالقضاء على الثورة، وبدا أن روسيا باتت منهكة اقتصاديا جراء التكاليف الباهظة للحرب في سورية، وهي تبحث عن إنهاء مهمتها باقل الخسائر الممكنة، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، لكن عوامل عدة دخلت على الخط تعرقل المسار الروسي ـ الاسدي ـ الايراني، وهو التواجد الامريكي شمالا داعما القوات الكردية في حربها ضد «داعش» وامتداد سيطرتها على مساحات واسعة في الشمال ومنطقة الرقة، وجنوبا في منطقة التنف والحدود السورية الاردنية داعمة فصائل الجيش السوري الحر، للسيطرة على منطقة الجنوب، وقد قامت بنشر صواريخ هيمارس بعيدة المدى ذات القدرة التدميرية الكبيرة، كتحذير واضح لإيران وميليشياتها بعدم الاقتراب من التنف. وهذا لم يكن متوقعا من الادارة الامريكية السابقة في عهد اوباما. وهذه المنطقة التي ستكون بمثابة منطقة آمنة بحراسة أمريكية، ما يجعل الجغرافيا السورية مقسمة على عدة مناطق نفوذ روسية ـ ايرانية ـ أسدية، ومناطق تركية في الشمال، ومناطق امريكية، ومناطق تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية تدعمها دول خليجية، وعدة مناطق متفرقة في إدلب، والمنطقة الواقعة بين حمص وحماة، والمنطقة المتاخمة للجولان، وهذه المناطق الموزعة على الخريطة السورية، تذكر إلى حد ما بخريطة البوسنة والهرسك إبان الحرب الأهلية، التي انتهت بتقسيم البوسنة كواقع على الارض، والحال السورية تقترب كثيرا من هذه الحالة، أو على أقل تقدير إلى فيدرالية تسيطر على مناطقها القوى المتواجدة فيها، وبمفهوم آخر تفتيت سورية وشعبها بعد أن تم تدميرها وتهجير نصف السوريين، وقتل نصف مليون سوري مع مئات آلاف الجرحى، والحبل على الجرار، في ظل ضعف المعارضة، والصمت الدولي، وتلاعب الدب الروسي الذي دخل الكرم السوري ولن يخرج منه، ولا يرى في عودة سورية موحدة ذات سيادة بأنها تناسب مخططاته الاستراتيجية بعيدة المدى، لأنه يخشى أن أي حكومة منتخبة تحظى بالشرعية الشعبية والدولية على كامل تراب سورية المحررة من سلطة النظام الأسدي، وميليشيات ايران أن تطلب منها الرحيل، بعد أن عاثت في سورية فسادا ودمرت مدنها، فهذا السيناريو يقض مضاجع بوتين، الذي يفضل التعامل مع نظام أسدي مهلهل يقع تحت سيطرته، يضمن دون اي احتجاج بالوجود الروسي على الاراضي التي تقع تحت سيادته (سورية المفيدة) إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولكن في رمال سورية المتحركة لا ضمان لأحد أن يحتفظ بما لديه كلاعبي البوكر المهددين دائما بالخسارة، حتى لو حققوا مكاسب في بداية اللعب.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القادم من عالم البنوك والمال يعاني كما يقول خبراء من نقص في علم السياسة الخارجية. هذا النقص قال محللون آخرون إنه سيعوضه بخبراء فرنسيين متخصصين في هذا المجال. وقال متفائلون إن انتخابه هدية من السماء لوقف تضعضع الديمقراطية والإيمان بالليبرالية وحقوق الإنسان على يد اليمين الشعبوي المتصاعد. لم تدم فرحة المتفائلين طويلا، حيث أعلن ماكرون الأربعاء في لقاء صحافي أنه يؤمن بالسياسة الواقعية التي ترتكز في أهم أسسها على استبعاد الأخلاق، إذا ما تصادمت مع المصلحة وذلك على عكس السياسة المثالية التي ترى أن الأخلاق عنصر أساس في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
ماكرون الوافد لاستنهاض أمل الاتحاد الأوروبي بالوحدة وبالحرية وحقوق الإنسان، رأى أن سياسة فرنسا السابقة في ليبيا وسوريا خطأ كبير، وأنها، أي تلك السياسة، مسؤولة عن الإرهاب الذي، برأيه، يخرب العالم. ماكرون اعتبر أن الحل الواقعي أن يبقى بشار الأسد لأنه لا يوجد بديل شرعي له ليحكم السوريين! ذهب ماكرون، وبغض النظر عن وهن مقولته وما تستتبعه بأن الأسد حاكم شرعي وليس متسلطا، إلى أبعد من ذلك ليبرر في ظل النظرية الواقعية الجديدة ممارسات وسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف الأسد وداعمه. وينقل عن بوتين، في معرض التبرير وكشف السياسة الروسية، أن لبوتين هدفين أساسيين: محاربة الإرهاب، ومنع تحقق الدولة الفاشلة. لم يقل ماكرون شيئا عن سياسات بوتين وممارساته في جورجيا وسوريا بل كل ما قاله إنه يختلف معه فقط في أوكرانيا.
لننس نقدنا الأخلاقي لماكرون، لأن الضعف الأخلاقي أصبح تهمة دامغة وعارا يلاحقه، ولننظر إلى ما يتجاوزه وهو الواقعية السياسية التي يؤمن بها. ماكرون يرى أن الحل هو التعاون مع روسيا لوضع خارطة طريق لسوريا عبر الحوار الدبلوماسي وليس عبر الحل العسكري، وأن تكون تلك الخارطة ضامنة لحقوق الأقليات، وأن فرنسا ستفرض ولو لوحدها حماية خطوط الإمدادات الإنسانية في سوريا، وستعاقب الأسد إن استخدم السلاح الكيماوي.
يعرف ماكرون تماما أن الأسد استخدم السلاح الكيماوي، ومع ذلك يقبل به رئيسا شرعيا، ويعرف أيضا أن من حمى الأسد من العقاب الدولي هو روسيا، ولكنه يتعاون مع الروس لحل دبلوماسي. هذه يسميها ماكرون واقعية سياسية، لكن ما لم نعرفه في علم الواقعية هو كيف سيضمن ماكرون استجابة الروس له ويقبلون بحلول يراها، وفرنسا ليس لها أي وجود على الأرض السورية، ولا نعرف أيضا موقف الأميركان من قراره المفاجئ، لأنهم الأكثر والأقوى انتشارا على الأرض السورية. في غياب التفسير لهذه الأسئلة تصبح هذه السياسة الواقعية سياسة انهزامية وتتحول إلى تسليم الأوراق لآخرين تحت يافطة هذه الواقعية المصطنعة. هكذا يرسب ماكرون في امتحانيْ النظرية المثالية الأخلاقية والنظرية الواقعية.
في سوريا توجد قوى خارجية وداخلية على الأرض إلى درجة بلغ تشابكها تعقيدا يصعب تفكيكه، ويصعب تخيل الخروج منه بلا مشاكل. فسوريا لم تعد مشكلة سورية بل مشكلة أكبر لها ارتباطات بملفات إقليمية ودولية وأهمها إقليميا الدور الإيراني، وأكبرها دوليا الموقف الأميركي من التغول الروسي على الديمقراطية الأميركية وعلى النفوذ الأميركي في المنطقة وكذلك الخلاف بين دونالد ترامب والمؤسسات العميقة في أميركا حول روسيا.
في خضم هذا التعقيد تدخل إقليميا تركيا كمتضرر كبير من الأزمة السورية، وكلاعب أساس في حلها أو في إشعالها. ماكرون لم يقل لنا شيئا عن ذلك، بل كل ما قاله هو انسحابه من الموقف الأخلاقي، ومجاراته لبوتين طمعا في استقطابه وإقناعه بالتراجع عن عدوانيته في أوروبا بعدما أعلن الرئيس ترامب عن نيته التخلي عن أوروبا في أي مواجهة روسية أوروبية.
هكذا يمكن فهم التحول الماكروني من باب سياسة موازين القوى التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، واستمرت إلى غاية الحرب العالمية الثانية، والتي تقوم على مبدأ التعويض عن غياب قوة كبيرة (أميركا) بالتعاون مع قوى أقل، لإحداث توازن يضمن السلام والأمن للدولة المعنية وهي هنا فرنسا أو الاتحاد الأوروبي الجديد. لكن مبدأ توازن القوى لم يضمن الأمن ولم يجلب السلام، والدليل حربان عالميتان كبيرتان دمرتا الأخضر واليابس.
يواجه ماكرون تحديات كبرى في الداخل الفرنسي وفي الخارج. داخليا عليه أن ينتشل فرنسا من التراجع الاقتصادي، وأن يحميها من العولمة، وهو في الوقت ذاته ممثل العولمة، ومناصر تخفيض دور الدولة في حياة الأفراد. ماكرون سيصطدم كسلفه فرانسوا هولاند بقوة القطاع العام في الدولة، وسيخوض حروبا معه، ولن يكون لديه وقت كاف للقضايا الخارجية.
أما على المستوى الخارجي، فإن ماكرون يحاول حماية أوروبا من الانفراط، ومنع دول أوروبا الشرقية من الجنوح إلى المثال البوتيني، وفي الوقت ذاته يحاول أن يوازي الغياب الأميركي، وأحيانا تحديه في قضية المناخ العالمي، ويحاول أن يبرز كحامل للراية الليبرالية والمشعل الأخلاقي اللذين يعتبر أن ترامب أسقطهما من سياسات أميركا.
هذا هو ماكرون وهذه هي سياسته، وعند النظر فيها والتدقيق في دقائقها، يتبين بسرعة أنه يفتقد بالفعل للخبرة في السياسة الخارجية، وتنقصه الشجاعة الأخلاقية، ويريد أن يغطي على هذا العجز بسياسة يعتبرها واقعية، لكنها في الواقع سياسة مخالفة للواقعية بكل المعايير.
كان الأجدى بماكرون أن يعترف بأن فرنسا ليس لها دور مؤثر في النزاع، وأن يشرح لمواطنيه وللعالم أن الحرب السورية تقترب من نهايتها وأن المؤثرين فيها هم أميركا وروسيا وإيران وتركيا، وأن التدخل الأميركي بموافقة عربية (الأردن ومجلس التعاون الخليجي) هو لوقف جماح الروس ومنعهم من تقرير مستقبل سوريا.
ما يجري في سوريا الآن هو سباق للسيطرة على الأرض، وبعدها يبدأ التفاوض، إما بالمزيد من السلاح وإما بحوارات دبلوماسية. في هذا السباق والحوار فإن انتصار أميركا يعني انتصارا إقليميا لحلفائها، وانتصار روسيا هو انتصار لإيران والأسد. في سوريا صراع يزداد حدة ليس لقتال تنظيم داعش، لأنه انتهى، بل للسباق على السيطرة وتقرير مصير سوريا.
هذا الصراع المأزوم لا اعتبار فيه لحسابات الشعب السوري ولا لمستقبله، ولا ينظر فيه إلى مبدأ الشرعية وفق معايير موضوعية، بل المهم في هذا الصراع معرفة من يربح وماذا يكسب.
ماكرون تجنب كل هذه الإشكاليات لأن المسألة لديه لم تعد متعلقة بدور فرنسا في المنطقة، ولا بدورها في حماية حقوق الإنسان، بل كيف يضمن لفرنسا أمنا يحميها من حفنة متطرفين، يعرف هو ويعرف الجميع، من يقف وراءهم وما هي الأسباب التي أدت إلى ظهورهم، لكنه يفضل في ضوء الضعف الفرنسي وغياب الأوراق من يديه في سوريا أن يجعلهم القضية الكبرى؛ لذلك لم يستح حين قال: الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوا لفرنسا. شكرا ماكرون، وهنيئا لك ولفرنسا ولليبراليين بهذا الصديق.
خمس ضربات أميركية خلال فترة شهر في محيط قاعدة التنف قرب الحدود السورية - العراقية استهدفت النظام السوري وميليشيات محسوبة على طهران، أولها في ١٨ أيار (مايو) الفائت تزامن مع إجراء واشنطن محادثات سرية مع روسيا في الأردن حول إنشاء مناطق للتهدئة جنوباً.
جلوس المفاوض العسكري الأميركي مع نظيره الروسي في نفس الوقت الذي كانت طائراته تستهدف قوات موالية لإيران (لحقها استهداف قوات النظام السوري وطائرة سوخوي ٢٢ وأخرى استطلاعية)، يلخص الاستراتيجية الحالية لإدارة دونالد ترامب في سورية. فظِلُ إضعاف إيران وقطع الطريق عن ممر عراقي - سوري - لبناني لها يهيمن على تحركات وأفكار مجلس الأمن القومي الأميركي الجديد، فيما يبقى السعي لإبعاد موسكو عن طهران أولوية للإدارة في مقاربتها للحل السياسي والتحركات العسكرية في النزاع.
إضعاف إيران لا يعني بالضرورة خوض مواجهة عسكرية مباشرة معها في سورية. فاليوم إيران تحارب بميليشيات عراقية وسورية ولبنانية وهي ليست بحاجة ولن تقدم على مواجهة عسكرية مباشرة ضد أقوى جيش وطيران حربي على وجه الأرض. أما واشنطن فهي تعول على تحالف كردي- عربي أي «قوات سورية الديموقراطية» لزيادة نفوذها في الطريق لهزيمة داعش وما بعد ذلك. وهي، أي الإدارة الأميركية، كما أكدت في البيانات الخمسة التي لحقت الضربات الجوية في محيط التنف، لا تسعى إلى مواجهة مع الأسد أو قوات موالية للنظام، إنما «لن تتردد في الدفاع عن التحالف أو القوات الشريكة لدى تعرضها لأي تهديد».
أميركياً، هذه اللهجة من الفريق الدفاعي لترامب تختلف عن نبرة الرئيس السابق باراك أوباما والذي تفادى لسنوات إغاظة اللاعب الإيراني في سورية خوفاً من ارتدادات عكسية على المفاوضات حول الاتفاق النووي، وأيضاً خوفاً من استهداف طهران لقوات أميركية خاصة وتدريبية في العراق وسورية. اليوم، استبدل هذه الحسابات هوسٌ بالتصدي لإيران داخل البيت الأبيض. فمستشارو ترامب معظمهم من خريجي الدفعات العسكرية في حرب العراق بينهم مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر ومساعديه ديريك هارفي وجول رايبرن، ووزير الدفاع جايمس ماتيس. ولكل منهم تجربة مع تفجيرات إيرانية الصنع استهدفت الجيش الأميركي أو صواريخ تم توجيهها إلى المنطقة الخضراء.
هذا لا يعني بالضرورة وجود استراتيجية متكاملة لترامب للتصدي لإيران عدا عن التكتيكات الأولية وحماية القوات المتحالفة مع واشنطن والتي تحارب داعش. وهو ينسجم مع أولويتي ترامب في المنطقة بالتشدد حيال طهران وهزيمة ما يسميه الرئيس الأميركي بـ «الإرهاب الإسلامي المتطرف».
وفِي هذه المعركة في سورية، غضت واشنطن النظر عن مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وهي تحاول استمالة اللاعب الروسي. فبعد إسقاط السوخوي الأحد الفائت، حرصت واشنطن على تهدئة موسكو التي لوحت بقطع قناة عدم الاشتباك مع الجانب الأميركي.
هذه القناة وعلى الأقل الجانب الهاتفي منها ما زال مفتوحاً كما قال رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي جوزيف دانفورد. في وقت يسعى البيت الأبيض والخارجية الأميركية تخفيف حدة التشنج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإقناع الكونغرس بالتراجع عن سلة العقوبات الجديدة التي سيفرضها على روسيا وإيران في مشروع قرار واحد.
السعي إلى التقارب مع روسيا في سورية هو نتاج عاملين، الأول الخوف الأميركي من تصعيد أكبر مع موسكو تكون له انعكاسات وخيمة أبعد من الشرق الأوسط وتصل القارة الأوروبية. وثانياً انطلاقاً مِن قناعة تبنتها إدارة أوباما وبعدها إدارة ترامب بأن مفتاح الحل السياسي في سورية هو في موسكو، وأنه لا وجود لتضارب في المصالح الاستراتيجية بين القوتين في حال وافق الكرملين أو بقِيَ على الحياد في حشر واشنطن لإيران إقليمياً.