لم يعد السوريون يعوّلون كثيراً على أرقام الجولات التفاوضية وتزايدها المستمر، سواء التي تعقد في جنيف أو أستانة، أو في أماكن لا يتم الإعلان عنها، وتمرّر فيها القرارات الفعلية التي يعمل كل الأطراف المعنيين في الصراع السوري على ترجمتها عبر الاتفاقات، أو التمهيد لها ضمن معارك التصريحات الإعلامية المتبادلة. ولعل دخول مباحثات "أستانة"، المخصّصة لمناقشة الأوضاع الميدانية والصراع المسلح والإرهاب، جولتها الخامسة، وسط مزيدٍ من التصعيد العسكري في مناطق عديدة في سورية هو أحد تلك التقديمات المتبعة منذ ما يزيد عن خمس سنوات، بدءاً من جولة جنيف 1 في 2012.
وعلى الرغم من قناعة كل الأطراف أنه ما من حلول قادمة قريبة من دون أن تصل كل من الدولتين الكبريين، أي روسيا والولايات المتحدة، إلى تصوّر واضح بشأن الصفقة النهائية لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، وسورية خصوصا، إلا أن ذلك لا يعني أن مباحثات أستانة التي تدعمها روسيا، بالتعاون مع إيران وتركيا، تجري بعيداً كلياً عن إرادة الإدارة الأميركية التي تتّخذ موقع المراقب فيها لغايات كثيرة، منها دفع كل الأطراف إلى مزيدٍ من التورّط في حرب استنزاف لطاقاتها العسكرية والاقتصادية من جهة، ولعلاقات هذه الأطراف الديبلوماسية مع محيطها المحلي والإقليمي والعالمي.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم، أيضاً، إصرار روسيا على عقد جولة جديدة في أستانة، حيث إن دوراً فعلياً لهذه المباحثات تعوّل عليه موسكو في إدارة الصراع، ليصبح أكثر تكيّفاً مع الظرف الدولي، ما يسمح ببدء مشاوراتٍ سياسيةٍ تمهد لتقاسم النفوذ، وفق خطةٍ تقوم على شرعنة الوجود العسكري للأطراف الفاعلة، تحت مسمياتٍ جديدة، منها ما يتم تداوله باسم قوات "مراقبة" أو قوات "ضمان وقف إطلاق النار"، وكل هذا يمكنه أن يقود إلى المرحلة التي يتم الحديث عنها، والمتعلقة بإنشاء "مناطق آمنة" لن تكون من دون المرور فعليا بمرحلة وقف إطلاق النار، والذي يعني مناطق "خفض التصعيد"، وصولاً إلى المناطق الآمنة والعبور باتجاه الحل السياسي الذي تغيب معالمه اليوم عن جنيف، على الرغم من الجولات السبع الماضيات.
وتجتهد الديبلوماسية الروسية في تسويق عملها، بالتأكيد على اتفاق "خفض التصعيد"، ورسم خارطة جديدة لخطوط التماس، والالتزام بها من الطرفين (الأطراف)، نظاماً ومعارضة، وذلك للحؤول دون دخولها معارك جديدة، تلزمها التدخل والإخلال بدورها لمصلحة مساندة النظام السوري، ما يعني فقدان مصداقية دورها دولة ضامنة لوقف إطلاق النار، ليس فقط أمام دولٍ حليفةٍ مشاركة في الاتفاق، مثل تركيا. ولكن لإثبات أن يدها هي العليا في الشأن السوري أمام واشنطن، لزيادة حصتها في أي تفاهماتٍ جديدةٍ بين الدولتين، سواء في الملف السوري، مستقلا، أو بمبادلته بملفاتٍ خارجية، كالعقوبات الأميركية والأوروبية والدرع الصاروخي وأسعار النفط وطريق الغاز.
إلى ذلك، ولإنجاح مهمتها في بلورة اتفاقٍ قابل للتنفيذ، وليس للتهليل الإعلامي، وكسب مزيد من الوقت، على حساب دماء السوريين، لابد لروسيا أن تكون مستعدةً لتنفيذ مطالب مثل: أن تتعهد بسحب (وتجميع) المليشيات الأجنبية عن خط الجبهة، وإفساح المجال فقط لقوات حكومية شرطية، على أن تكون هي القوة التنفيذية في المناطق التابعة للنظام، مع توفير نقاط مراقبة تتبع للقوات الروسية، تكون هي الضامنة لتنفيذ الاتفاق كاملا. كذلك وقف أي طلعات جوية للنظام فوق المناطق غير التابعة لسيطرته، والأهم أن يضمن الاتفاق عدم تجاوز أطراف الصراع خط وقف إطلاق النار والخطوط الأخرى المتفق عليها، أي منع استغلال الاتفاق لكسب النظام، أو أيٍّ من داعميه أراضي جديدة، على حساب التزام فصائل المعارضة بالاتفاق.
من كل ما تقدّم، يمكن استنتاج أن روسيا أمام فرصةٍ حقيقيةٍ قد تمكّنها من العودة إلى واجهة العمل الديبلوماسي من جديد، على الرغم مما ارتكبته من جرائم بحق السوريين، قبل توقيعها على اتفاق مناطق "خفض التصعيد"، وبعده. ومثال ذلك ما يحدث في درعا من معارك، يحلّق فيها طيرانها، إلى جانب طيران النظام، ليسقط ضحاياه، من مدنيين ونساء وأطفال، وصل عددهم إلى حوالي مئة خلال الشهر الماضي، ما أحرج ممثلي الجنوب في مؤتمر أستانة، مع أن هذا لم ولن يمنع من تبقّى من الوفود من المشاركة.
من جهة أخرى، باتت فصائل المعارضة، مع هذا الدور الروسي المتناقض، أمام تساؤلاتٍ كثيرة، منها كيف يمكن أن يكون لها دورها ورأيها في ظل انقساماتها واختلاف أولوياتها، إنْ في خصوص المشاركة في مسار "أستانة" من عدمه؟ أو في خصوص كيفية التعامل مع الدور الروسي متعدّد الوجوه والوظائف؟
ليس جديداً أن يلجأ أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله إلى لغة التهديد والوعيد. منذ عام 2006، بات التهديد هو سلاحه الأكثر استعمالاً، بل شبه الوحيد، في مواجهة إسرائيل، فيما البندقية والرصاص والصواريخ وجهتها الشعب السوري. هدّد سابقاً بقصف خزانات الأمونيا، ثم هدّد بضرب مفاعل ديمونا. للفعلين الآنفين مفعول قنبلة نووية، علما بأن السلاح الدعائي الإيراني هو تحريم السلاح النووي بموجب فتوى غير مدونة تنسب للولي الفقيه. تقول إيران إنها لا تسعى لامتلاك السلاح النووي لأنه حرام، ولا يتردد نصر الله في التهويل بنووي غير مباشر، ستكون له النتائج والتبعات المحرمة نفسها. لا يهم. منذ زمن لم يعد نصر الله يهتم باتساق منطقه، وهذا ليس جديداً أيضاً.
الجديد هو تهديده إسرائيل، في خطاب يوم القدس الأخير، بأنه في أي حرب مقبلة مع «حزب الله»، فإن مئات آلاف المقاتلين ستُفتح لهم الحدود لمقاتلة إسرائيل من العراق واليمن وإيران وأفغانستان وباكستان! حشد شعبي أممي، يستكمل عملية إلغاء لبنان وإسقاط دولته.
استسهال تهديد من هذا النوع ربما يكون مرده أن «حزب الله» يعلم أن إسرائيل ليست الآن في وارد فتح جبهة معه. لا «حزب الله» يجرؤ على شن حرب يكرر مسؤولوه بإصرار أنهم لا يريدونها، ولا إسرائيل راغبة في دفع تكاليف توجيه ضربة له، وهي تراه يعمل بآلية التدمير الذاتي في سوريا وغيرها.
لكن هذا الاستسهال فضح ملامح، حرص نصر الله على تغطيتها بكثير من اللغو والتهديد والوعيد سابقاً. لطالما أصرّ «حزب الله» على أنه قادر على مواجهة إسرائيل رغم انشغالاته السورية، وأن جهوزيته تجاه إسرائيل غير منتقصة بفعل أولوية معركة حماية بشار الأسد. إذّاك، يُطرح السؤال: لماذا يحتاج «حزب الله» لمئات آلاف المقاتلين الأجانب لإسناده في معركة، صمخ آذاننا باستعداده لها؟ لماذا يعترف نصر الله، من حيث لا يريد، بأن حزبه ليس كافياً أو قادراً وحده على الحرب المقبلة؟
مفجع أن يعبر نصر الله بيسر عن تواضع قواه العسكرية، وحاجاته لحشد شعبي أممي، وهو يحاجج إسرائيل، فيما يتنافخ على مواطنيه اللبنانيين وجيرانه العرب. تواضع مع إسرائيل واستكبار على من لا ينبغي أن تكون بينه وبينهم عداوات أكبر من عدائه لإسرائيل.
حين انخرط «حزب الله» في الجريمة في سوريا، تذرع بأنه يحمي السيادة اللبنانية، ويبذل الدماء للدفاع عن لبنانيين ناكرين للجميل لا يرون المصلحة التي يراها هو لهم. فهل الحشد الشعبي الأممي الموعود يندرج هو الآخر في مهمة حماية لبنان واللبنانيين وسيادة وسلامة بلدهم؟ أم أن خطاب السيادة مجرد استعارة وقحة لخطاب خصومه وتجييره لصالح مشروعه ومشروع إيران؟
السؤال الأكثر بديهية الذي يطرحه الخطاب الأخير هو التالي:
قبل الحشد الشعبي الأممي، ألا يحتاج نصر الله لحشد شعبي لبناني، يسانده في الحرب المقبلة؟ الحقيقة، أن نصر الله لطالما كرر أن المقاومة لا تحتاج إلى إجماع وطني، بل إنها لم تحُز هذا الإجماع في تاريخها، وبالتالي هو ليس معنياً بأكثر من الإجماع الميليشياوي، أي إجماع مكونات الحشد الأممي، ومرجعيته الإيرانية.
ما يفضحه الاستسهال أيضا، هو مقولة الدولة التي ينتحلها نصر الله في كل خطاباته. لا يريد دولة، من يعد مواطني الدولة بمئات آلاف المقاتلين الأجانب في معركة لا يملكون حيال قرارها إلا التسليم. على بديهية هذا الاستنتاج إلا أنه في العمق هو الفيصل بين لبنانين اثنين. بين لبنان الذي يريده نصر الله مرتعاً لمئات آلاف المقاتلين الأجانب و«اللبنان الأغلبي»، أي أغلبية ناسه الطبيعيين، من مختلف الانتماءات السياسية، الطامحين إلى مئات آلاف السياح. بهذه البساطة.
خطورة كلام نصر الله أنه يوفر كل الحجج للمجتمع الدولي ومنطق مؤسساته، للقول إن لبنان دولة فاشلة من جهة، ولإسرائيل لتقول إنها تخوض حرباً استباقية، لو قررت، ضد لاعب يجاهر بأنه سيجلب مئات آلاف المقاتلين الأجانب لمحاربتها في أعلى لحظة استنفار دولية ضد إرهاب الميليشيات غير النظامية.
مثل هذا الوعيد لا يردع، بقدر ما يوفر أسباباً إضافية لإسرائيل لتمارس ضد لبنان ما يبقي هذا البلد منهكاً وضعيفاً، وعاجزاً عن استثمار مقدراته الطبيعية والبشرية ليكون منافساً لإسرائيل.
أي سعادة في تل أبيب بعد هكذا خطاب.
افتراض أن هذا الخطاب يردع إسرائيل هو مزحة سمجة، وخرافة.
في الوقت الذي يعدنا حسن نصر الله باستقبال مئات آلاف المقاتلين من الميليشيات العراقية والسورية والإيرانية واليمنية والأفغانية والباكستانية، تعلن إسرائيل الأرقام السياحية التالية:
منذ بداية عام 2017 دخَّلت إسرائيل أكثر من ملياري دولار من السياحة، وزارها في الأشهر الخمسة الأولى من العام نحو مليون ونصف مليون سائح، منهم 347 ألف سائح في شهر مايو (أيار) وحده.
وتعكس الأرقام رعباً من نصر الله وحزبه والميليشيات العراقية والسورية والإيرانية الموعودة، بحيث زادت السياحة 25 في المائة عن أرقام العام الماضي.
نصر الله يعدنا بالمسلحين، ونحن نحلم بالسياح، وإسرائيل تنعم باستقبالهم وعائدات استقبالهم.
غداة انقلابه عام 1970، أتى حافظ الأسد برئيس اتحاد الطلبة آنذاك متعب شنان، وعيّنه وزيراً للدفاع، وأتى بنقيب المعلمين أحمد الخطيب وعينه رئيساً للجمهورية، بينما تسلم هو رئاسة الحكومة الموقتة بضعة أشهر قبل تسلمه الرئاسة رسمياً. أول وزير دفاع في عهده لم يكن عسكرياً، ولم يكن من رجالات السياسة أو رجالات البعث المعروفين، وكان مفهوماً أن الأسد يريد بقاء المنصب شاغراً عملياً ليبقى هو على رأس الوزارة التي أدار منها الانقلاب على رفاقه.
وزير دفاع الأسد الأشهر كان مصطفى طلاس، الذي توفي في باريس قبل أسبوع، فهو بقي في المنصب 32 عاماً بدءاً من 1972. ووفاته حازت اهتماماً واسعاً في الأوساط السورية، للدور الذي يُعزى إليه في تثبيت حكم الأسد أو التغطية عليه، وأيضاً لما يشوب سيرته من طرائف جعلته موضع تندر أو سخرية. فالراحل كان الوحيد المستعد للإفصاح علناً عن بعض ما يتحرج باقي المسؤولين في قوله، مثل تصريحه لمجلة «دير شبيغل» الشهير بأنه مع حافظ الأسد وأن باقي الطاقم حصلوا على السلطة بالبارودة، ومن يريد أخذها فليأتِ ببارودة أقوى. أو من نوع إطلاق نعوت مشينة على مارغريت ثاتشر إثر اتهام نظام الأسد بالضلوع في تفجيرات لوكربي، بما في ذلك تلميحه في مقال (نشرته آنذاك جريدة تشرين الرسمية) إلى خلوات خاصة تجمعها برونالد ريغان! وصولاً إلى تجرّئه في مذكراته على الحديث عن صلابة رأس حافظ الأسد، إذ كان ينطح زملاءه في الكلية العسكرية، حيث أدت ذكريات من هذا النوع إلى سحب المذكرات من الأسواق.
صورة طلاس لدى عموم السوريين أو متابعي الشأن السوري أنه كان وزيراً شكلياً للدفاع، فيما يرى قسم لا يُستهان به أنه كان مجرد واجهة سنيّة لجيش يسيطر عليه فعلياً ضباط علويون. في الحالتين، بتركيز على الجانب الطائفي أو من دونه، لا تقدم هذه الرواية المبسّطة معرفة جيدة عن مشروع حافظ الأسد الذي كان طلاس شريكاً كاملاً فيه، بما في ذلك قبوله لنفسه تلك الصورة المتهافتة لمنصبه، بل مبالغته فيها أحياناً.
يجوز وصف طلاس بأنه كان وزير الدفاع السوري ما بعد الأخير، إذا قلنا إن آخر وزير دفاع فعلي كان حافظ الأسد نفسه. فالأخير كان مثلاً يملك صلاحية الأمر بانسحاب القوات السورية من قسم كبير من الأراضي المحتلة عام 1967 قبل تعرضها لأي خطر، على ما ترويه وثائق إسرائيلية سرية كُشف عنها مؤخراً، والأهم أنه كان آخر وزير دفاع يسيطر على الجيش، ويستطيع من خلال سيطرته عليه تنفيذ انقلاب سلس وناجح. هذه الناحية تحديداً كانت الشغل الشاغل لحافظ الأسد، ولهذا السبب أتى بأول خلف له من خارج الشخصيات العسكرية أو المدنية ذات الوزن.
لقد كان طلاس شريكاً تاماً في تفريغ منصبه من أي معنى جدي له، وتطلب هذا تفريغ الجيش نفــسه من المعنى المتعارف عليه في الجيوش ذات التسلسل الهرمي. ما حدث وفق منهج متماسك منذ انقلاب الأسد يفسر السهولة التي سيُقاد فيها الجيش مرةً إلى سحق التمرد «الإخواني» مع سحق مدينة حماة بأكملها، ومرة أخرى إلى تدمير وسحق البلد كله بعد اندلاع الثورة. المسألة لم تكن في الإتيان بشخص يرتضي أن يكون واجهة لمنصب، هي في تحطيم المؤسسة ذاتها برضا وتعاون من هو نظرياً في رأس الهرم منها.
كان شقيق حافظ الأسد رفعت، أيام كان الأول وزيراً للدفاع، قد أصبح قائداً لما يُعرف باسم سرايا الدفاع التي ورثت مهام الحرس القومي في حماية النظام، وكان صديق حافظ الأسد علي حيدر يرأس قوات النخبة المعروفة بالوحدات الخاصة، وفي السبعينات أُسِّس لواحد من ضباط بيت الأسد تشكيل يسمى سرايا الصراع، بينما كان يصعد نجم شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة للمهام الخاصة أيضاً. في الواقع كان الجيش برمته يتحول إلى إقطاعيات عسكرية، يرتبط قائد كل منها مباشرة بشخص حافظ الأسد.
وظيفة تلك الإقطاعيات كانت واضحة لجهة حراسة نظام الأسد أولاً وأخيراً، وهذه «العقيدة القتالية» لم تكن سراً، بل كان منتسبو قوات النخبة تلك يُدربون على الطاعة المطلقة لقادة إقطاعياتهم، وعلى تقديس شخص الأسد بدرجات متفاوتة تكشف على مستوى تذلل أولئك القادة أمام رئيسهم. وحدهم منتسبو إقطاعية رفعت الأسد كانوا يكرسون تقديسهم لشخصه، باعتباره شقيق الرئيس ووريثه المنتظر، لتُحلّ الإقطاعية بعد تنحيته لمصلحة الابن باسل، ويُدعّم الحرس الجمهوري كقوة نخبة جديدة مع الفرقة الرابعة بقيادة فعلية من ماهر الأسد. تلك التربية العسكرية القائمة على التضحية بالذات تفسّر أيضاً حجم الخسائر البشرية الهائلة التي منيت بها قوات الأسد في جميع المعارك الداخلية والخارجية، إذ غالباً كان يُزجّ بالعناصر في مواجهات مكلفة بشرياً، وغير متوقعة من الخصم لهذا السبب، كأن يُقتحم حقل ألغام معروف من دون كاسحة ألغام كما حدث في إحدى المعارك في لبنان.
إلى جانب تلك الميليشيات، قوّى حافظ الأسد حضور المخابرات العسكرية لتكون عيناً إضافية على الجيش، وقوّى فرعاً مستقلاً هو المخابرات الجوية في دلالة على الأهمية التي يوليها لسلاح الطيران. وكما هو معلوم تداخلت صلاحيات هذه الأجهزة في شكل يؤدي إلى تنافسها لمصلحته، ولم توفّر عسكرياً أو مدنياً من قمعها.
هذا التاريخ، الذي كان مصطفى طلاس شريكاً فيه، لا يصحّ فيه التوقف عند سردية الواجهة السنية لتحكّم علويّ، لأنه تحت يافطة التآمر الطائفي يُغطى على تحولات أعمق أصابت المؤسسة العسكرية. استرجاعه سيكون مفيداً لفهم انكشاف البنية الصلبة للنظام منذ اندلاع الثورة عما تبقى من تلك الميليشيات فقط، ومن ثم تشكيل ميليشيات جديدة تحت مسميات مختلفة. ليست إيران من أدخل فكرة الميليشيات كما يُشاع الآن، وليست روسيا من يحارب هذا الطابع الميليشياوي، فهي أيضاً ماضية في تأسيس ميليشياتها الخاصة في سورية. ثمة نهج عمره نصف قرن يستحق أن يُسمى باسمه، وألا تكون المراهنة مستقبلاً على تعديل الميزان الطائفي، بل على التخلص نهائياً من كذبة كبرى اسمها الجيش السوري.
منذ وضع أبو بكر البغدادي نصب عينيه إحياء «الخلافة»، كانت السيطرة على الأرض أساسية في مشروعه التدميري. بالاستحواذ على الأرض، كان يمكنه أن يجمع حشود الإرهابيين من مختلف الأصقاع، للقيام بمهمات الإشراف على إرهاب السكان وتعذيب السجناء وذبح الرهائن وتدمير المساجد والمتاحف والآثار. كل ذلك كان بحاجة إلى رقعة جغرافية يسيطر عليها هؤلاء الإرهابيون، ويرفعون فوقها علمهم الملوّن بالأسود، بلون وجوههم وعقولهم، ويزعمون تنفيذ قوانين «دولتهم»، وفرض «عملتهم» التي سكّوا نقودها، وتحصيل الجزية من «مواطنيها»، وترتيب امور الولاية والقضاء والاحوال الشخصية وأصول الملبس والمأكل، وسائر حاجات الناس اليومية. باختصار، الأرض هي الترجمة الحسية لما أراده البغدادي واتباعه من رفع شعارهم الشهير «باقية وتتمدد»، للإيحاء بأن هذا مشروع غير قابل للزوال. وكان الوهم الذي سيطر على عقول هؤلاء، إذا صحّ أن في رؤوسهم شيء من هذا القبيل، أن السكان الذين ارتكب المجرمون في حقهم أبشع انواع الرعب، والدول التي أذاقوا رعاياها أسوأ ما عرفته أساليب التعذيب، أن كل هؤلاء سيخافون من دكّ أسوار تلك الدولة، أو الانقلاب عليها، وأن قدرتها على التدمير ستكون كافية لحمايتها من الزوال.
ما شهدناه في الموصل، وما يقترب حصوله في الرقة، يؤكد أن «دولة» البغدادي لن تبقى ولن تتمدد. وإذا كان البغدادي قد استغل ظروف الموصل وتواطؤ الحكم في بغداد قبل ثلاث سنوات، مثلما استغل انهيار الكيان السياسي والجغرافي في سورية وتواطؤ نظام بشار الأسد، وتزويده «خلافة» البغدادي بمن أطلق سراحهم من السجناء، فإن صلابة القرار السياسي في العراق، الذي شاركت فيه معظم المكونات السياسية، مضافاً إلى الضربات المحكمة للتحالف الدولي في سورية، والدور المهم الذي تلعبه هناك «قوات سورية الديموقراطية»، نجحت معاً في تقليص الرقعة التي يستطيع البغدادي، سواء كان حياً أو وهماً، أن يستمر في ارتكاب جرائمه فوقها.
لم يخسر البغدادي الأرض فقط، بل خسر أيضاً الأموال التي كان يستطيع بها شراء الولاءات ودفع أجور عناصر الاجرام الذين كان يستقطبهم. وفي الأرقام إن مداخيل التنظيم هبطت من 80 مليون دولار شهرياً في الربع الثاني من عام 2015 إلى ما لا يزيد عن 15 مليوناً في شهر أيار (مايو) الماضي، وهو ما يدفع كثيرين من الذين انضموا إلى التنظيم من مختلف الدول إلى سلوك طريق العودة عبر الحدود التي قدموا منها.
«داعش» ارتكب كذلك الجريمة الأكبر باستخدامه المزور لكلمة «الخلافة»، كغطاء لممارساته البعيدة من كل ما يتصل بالإنسانية، ممارسات لا يربطها شيء بالقيم التي عرفتها امبراطوريات الخلافة الإسلامية التي قرأنا عنها، والتي عاشت في ظلها شعوب وقبائل من مختلف الجنسيات والطوائف والأعراق. نجح البغدادي بشعاراته الزائفة وحملاته الإعلامية في استقطاب مغفّلين ومحتاجين وأصحاب عقول مريضة، قدم بعضهم من دول غربية كانت توفر لهم ولعائلاتهم أسباب الأمان، لكنهم تخلّوا عن ذلك بحثاً عن سراب «الخلافة». غير أن علاقة «داعش» بالسكان المحليين في المناطق التي استولى عليها بقيت علاقات استقواء وإرهاب وتخويف دائم، خصوصاً مع إرغامهم على البقاء في البيوت المعرضة للقصف وللتدمير، في كل مناطق سيطرته، وتحولهم نتيجة ذلك إلى دروع بشرية، لمعرفته أن الطائرات والدبابات والمدافع المهاجمة ربما تكون أكثر رحمة منه بهؤلاء السكان الذين يدّعي ممارسة الحكم و»الخلافة» لإنقاذهم. يكفي النظر إلى وجوه هؤلاء الرهائن عندما يتاح لهم الهرب من جحيم «داعش»، وسماع تعليقاتهم ووصفهم ما عانوه في السنوات الثلاث الماضية، لإدراك حجم الجريمة التي ارتكبها من أتاحوا لهذا التنظيم المجرم السيطرة على المساحات التي سيطر عليها في بلدين من أعظم بلدان العرب.
يُكتب الكثير هذه الأيام عن أن خسارة «داعش» للأرض لن تعني نهاية هذه الافكار المجنونة والمتخلفة، ولا نهاية هذا الإجرام المتنقل في ثوب «الذئاب المنفردة» التي تفلت بين وقت وآخر في أحد شوارع أو أرصفة المدن الغربية. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنه لا يجوز التقليل من أهمية خسارة الأرض بالنسبة إلى «داعش»، وهو السبب الذي يدفع عناصره للاستماتة في الدفاع عما بقي منها، على رغم الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين ما بقي من قوات التنظيم وما تملكه القوات المهاجمة.
منذ بدايات القرن العشرين، اعتُبر النفي العقوبة الثانية بعد الإعدام، واعتبر أشد قسوة على الروح الإنسانية من عقوبة السجن مدى الحياة، ومن عقوبة السجن مع الأعمال الشاقة. إذ يعتبر علماء النفس وعلماء المجتمع أن اجتثاث الإنسان من بيئته ووضعه قسريا في بيئة جديدة بالكامل، قريبة عليه في تفاصيلها، المكان والمناخ والثقافة، عقوبة. والأهم هو اللغة، وطبيعة الحياة، ولعل هذا كله كان في وسع الذات البشرية أن تتحمله، لكن ما يجعل الذات البشرية تشعر بذلك الشعور القاسي القاتل من حالة عدم الأمان، ومن حالة السقوط في هوّة الغربة، والاغتراب، هو الوجود في مكان لا يعترف بك وبذاكرتك، هو هذا التحول من كائن له مقوماته الزمنية، من ماض وحاضر ومستقبل، إلى كائن وحيد بدون ماض، ولا حاضر، ولا أي احتمال لمستقبل، بل على العكس، هو انعدام لكل الأزمنة، وضياع حقيقي لمقومات الشخصية، ومقومات الهوية.
عرف التاريخ البشري حالات نفي كثيرة، بدأت مع بدايات الحضارات البشرية، إذ استخدمت إمبراطوريات في العصور القديمة، مثل ممالك آشور وبابل وروما، التهجير القسري الشامل لشعوب كاملة، وذلك عقوبةً لتمرّدها، وذلك من منطلق الاعتقاد بأن الشعب المهجّر من أرضه سيتفكّك ويزول. وبالفعل، لم تصمد غالبية الشعوب أمام التهجير، وقد استمرت آلية التهجير والنفي، وصولا إلى العصور الحديثة، وكان أشهرها حالات نفي رؤساء، أو ملوك، أو زعماء ثورات، أو زعماء سياسيين. فقد جرى تهجير نابليون إلى جزيرة ألبا، ومن ثم إلى سانت هيلينا. وتأسست أستراليا منذ البداية مستوطنة عقابية للإمبراطورية البريطانية تنفي إليها من يعارضها، أو من يتمرد عليها. ومعظم هؤلاء المنفيين قتلهم المنفى، بعد أن عمر في أرواحهم حالاتٍ من القهر والوجع لا تحتمل، معلقين على جدران المنافي، بلا لون، ولا انتماء، ولا انسجام، كأشجارٍ اقتُلعت من تربتها وغُرزت في أراضٍ أخرى، وكان لابد لها أن تذبل وتنكسر، وتصفرّ ثم تهوي.
وبعد ذلك، بدأت الحكومات الدكتاتورية في العالم اتباع الأسلوب نفسه، ولكن بطريقة أكثر قسوة ووحشية، لهشاشتها، ولرعبها الدائم من ثورات شعوبها عليها، فقد قام الدكتاتور جوزيف ستالين بتهجير شعوب بأكملها إلى سيبيريا، واستخدمت حكومة ألمانيا النازية مبدأ التهجير الشعبي القسري.
تمّت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، المصادقة على ميثاق جنيف الرابع الذي يحظر طرد السكان المقيمين في أراض محتلة. واعترفت كل الدول به، ووقّعت عليه، وهذا ما أنتج هبوطا حادا في حالات التهجير إلى بلدانٍ أخرى. كما أقرّت منظمة العفو الدولية، تماشياً مع القانون الدولي، معارضتها كل حالات النفي القسري، وهو ما عرّفته بأنه عندما تُجبر حكومة ما أفراداً على مغادرة بلدهم، بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات النابعة من ضمائرهم، أو بسبب أصلهم العرقي أو جنسهم أو لونهم أو لغتهم أو أصلهم القومي أو الاجتماعي، ثم تمنعهم من العودة. لذا اعترفت "العفو الدولية" بحق الذين يتم نفيهم قسراً بالعودة إلى ديارهم. اعتمادا على القانون الدولي، بصرف النظر عن الظروف التي تم فيها نفي الأشخاص. وكما أن من المبادئ المهمة لحقوق الإنسان، المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق العودة، إذ تنص المادة 13 على أنه "يحق لكل فرد أن يغادر أية بلد، بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليها". وفي المادة 14 لا يجوز حرمان أي شخصٍ بصورة تعسفية من حق الدخول إلى بلاده."
اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات على إعلان حقوق الإنسان، وبعد محاولات البشرية في قطع أشواط طويلة لجعل الإنسان يعيش ضمن شروطٍ من الحياة الكريمة، يمارس النظام السوري آلية التفكير نفسها التي مارستها الدكتاتوريات، منذ أكثر من مائة عام، وبوحشيةٍ لم يعرف لها التاريخ الحديث مشابها. وأمام كل أنظار العالم الذي يتشدّق بتقدّمه التكنولوجي، وبتقدّم عالم الميديا والصورة والتواصل والسرعة، يهجّر النظام السوري ما يزيد عن نصف سكان أقدم وأعرق بلد في المنجز الحضاري البشري، وينفيهم نفيا قسريا، ويوزّعهم على كل خريطة العالم، ثم، بكل وقاحة، ينشر فيديو لزيارة سخيفة يقوم بها مع عائلته إلى بيت ريفي بسيط في ريف حماه، ويخلع حذاءه في تمثيلية فاشلة، ناسيا أنه داس بقدميه وبالحذاء المخابراتي العسكري القذر على كل ما صنعه العالم من قوانين وحقوق. وأنه في اللحظة التي دخل فيها هذا البيت، ترك مئات الآلاف من السوريين بيوتهم قسرا، ومضوا إلى منافيهم الباردة البعيدة، وهم يردّدون ما قاله محمود درويش:
قُلْ للغياب: نَقَصتني / وأنا حضرتُ.. لأُكملَكْ.
عندما التفت قوات من «الحشد الشعبي» الموالي لإيران وميليشيات تابعة لها عند نقطة على الحدود العراقية السورية مطلع الأسبوع الماضي، كانت طهران تُعد للخطوات التالية في خطتها لفتح طريق بري يربطها بالبحر المتوسط، ومن أهم الأهداف التالية التي تتضمنها هذه الخطة محاولة الوصول إلى معبر التنف الاستراتيجي في منطقة المثلث الحدودي العراقي السوري الأردني، والسيطرة على مدينة البوكمال ثاني أكبر مدن محافظة دير الزور، والخاضعة لتنظيم «داعش» الآن، وتكمن أهمية التنف والبوكمال في أن السيطرة عليهما تتيح طريقاً ممهدة بين المحافظات «الشيعية» جنوب العراق والبادية السورية، ومنها إلى تدمر ثم محيط دمشق، وصولاً إلى القلمون الغربي والحدود اللبنانية.
ويتطلب ذلك أن تسبق الميليشيات التابع لإيران فصائل سورية معارضة يُدرِّبها خبراء أميركيون وبريطانيون إلى خوض المعركة الفاصلة ضد «داعش» في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في محافظة دير الزور.
لكن معركة التنف والبوكمال صعبة بالنسبة للميليشيات الإيرانية، وربما يتعذر خوضها إذا صمدت مذكرة التفاهم الأولية التي اتفقت واشنطن وموسكو عليها الأربعاء الماضي، وتضمنت عدم وجود ميليشيات غير سورية بعمق 30 كم من حدود الأردن، وكانت هذه المذكرة نتيجة لإصرار واشنطن على «الخطوط الحُمر» التي رسمتها في منطقة التنف ومحيطها، وسعت إلى تأكيدها فعلياً عبر عدة عمليات عسكرية أثارت جدلاً واسعاً في الأسابيع الأخيرة. كانت الأولى في 18 مايو عندما قصفت طائرات التحالف الدولي قافلة حاولت التقدم نحو معبر التنف وأوقعت خسائر في صفوفها، وأعقب ذلك في 29 من الشهر نفسه إلقاء منشورات على تجمعات لقوات سورية نظامية وميليشيات تابعة لإيران لمطالبتها بالتراجع إلى منطقة حاجز ظاظا (على بعد 75 كم من معبر التنف) التي سبق أن أبلغت واشنطن موسكو ضرورة توقف هذه الميليشيات والقوات عندها، وجاءت العملية الثانية في 6 يونيو حيث قصفت طائرات أميركية ميليشيات إيرانية وقوات نظامية لم تستجب للتحذيرات. أما العملية الثالثة فكانت في 9 يونيو عشية الاختراق الذي حققته ميليشيات تابعة لإيران، وأسفرت عن إسقاط طائرة «درون» من دون طيار تابعة لقوات النظام السوري، كما أسقطت مقاتلة أميركيةٌ طائرةً سوريةً من طراز «إس -يو 22» في 18 يونيو رداً على قصفها لمقاتلين أكراد تدعمهم واشنطن، وبعدها بيومين (20 يونيو) تم إسقاط طائرة «درون» أخرى إيرانية الصنع أطلقتها قوات موالية للنظام، كما نشر الأميركيون راجمات الصواريخ المتطورة «هيمارس» في قاعدة التنف العسكرية.
وتمسكت الولايات المتحدة في الاتصالات التي أجريت مع روسيا بمنع مرابطة ميليشيات تابعة لإيران في المنطقة الممتدة من القنيطرة في الجولان إلى درعا وريف السويداء وصولاً إلى معبر التنف، مع إمكان أن يكون لنظام الأسد وجود رمزي في معبر نصيب مع الأردن.
لذا فالأرجح أن معركة إيران لتأمين طريق إلى البحر المتوسط ستكون أكثر صعوبة على الجانب السوري للحدود، منها على الجانب العراقي الذي تسيطر قوات «الحشد الشعبي» على منطقة واسعة منه تتيح لها التحرك بسهولة بين نينوى والحسكة.
والأرجح أن تسعى إيران، في حالة صمود التفاهم الأميركي الروسي القلق، لتسريع العمل الذي بدأته شركاتها لشق طريق التفافية وراء الموصل إلى الحدود لربطها بالطريق إلى دمشق، بعد أن نجح تكتيك ميليشياتها عندما التفت على المنطقة التي تعتبرها واشنطن ضمن «الخطوط الحمر»، ووصلت إلى الحدود. ورغم صعوبة هذا المسار وكلفته المرتفعة، فقد لا يكون أمام طهران غيره حال إصرار واشنطن على منع أي وجود لميلشياتها في المنطقة التي يمر عبرها المسار الأفضل للطريق بالنسبة لإيران إلى البحر المتوسط.
وربما تكون الأسابيع المقبلة حاسمة بشأن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لإيران، مثلما ستمثل اختباراً بالغ الأهمية لالتزام السياسة الأميركية بتقليص نفوذ طهران في المنطقة، ولذا ستتجه الأنظار خلالها إلى جنوب سوريا، وبالأخص المنطقة الممتدة من ريف دمشق إلى التنف، ومن محور ريف السويداء الشرقي جنوباً إلى أطراف دير الزور شرقاً، فضلاً عن درعا التي قد تصبح معركتها الأكثر عنفاً منذ معركة حلب، بسبب أهميتها للنظام السوري الذي يتطلع إلى استعادة أكبر جزء ممكن من المناطق الجنوبية، ولإيران التي تعتبر السيطرة عليها جزءاً مهماً في خطتها لتأمين طريقها إلى البحر المتوسط.
هل سيفعلان ذلك؟ ألن يفعلا ذلك؟ تلك هي التساؤلات التي تشغل الدوائر السياسية الدولية هذه الأيام. وتشير الصيغة إلى الرئيسين الأميركي الجديد دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين اللذين ربما يعقدان لقاءً ثنائياً على هامش قمة مجموعة الـ20 التي من المقرر أن تستضيفها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هامبورغ الأسبوع المقبل.
ورغم تضارب التحليلات التي تتناول الأوضاع العالمية، ثمة إجماع حول أن عقد ترمب وبوتين لقاءً ربما يسهم في الحد من التوترات الدولية، ويمهد الطريق نحو تسوية بعض القضايا المشتعلة. ويكمن السبب وراء ذلك في أنه رغم مشكلاتها الداخلية، تبقى الولايات المتحدة عاملاً يتعذر الاستغناء عنه في غالبية الأصعدة السياسية العالمية، بينما تلعب روسيا التي عاودت رسم صورتها باعتبارها قوة التحدي في مواجهة واشنطن، دور الرافض الأول.
يذكر أن القمة الأميركية - الروسية الأخيرة عقدت في سبتمبر (أيلول) 2016 خلال الأيام الأخيرة من عمر إدارة باراك أوباما، في وقت كان بوتين قد قرر انتظار نتيجة الرئاسة الأميركية. وعليه، فإن قمة أوباما - بوتين التي استضافتها مدينة هانغتشو الصينية لم تعد كونها استعراضاً للمكانة والنفوذ. من جانبه، حاول أوباما الظهور بوجه صارم في أيامه الأخيرة في السلطة، بينما فعل بوتين كل ما بوسعه لإذلاله. وبدلاً من الإسهام في تقليص التوترات، انتهى اللقاء إلى تصعيدها على نحو ملحوظ مع توجيه أوباما اتهاماً لبوتين بمحاولة التأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح ترمب.
كانت مجموعة الـ20 قد بدأت عام 1999 بمشاركة وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية بالدول المعنية، وذلك كمنتدى للتعاون الاقتصادي العالمي، مع انعقاد أول قمة عام 2008. وتحولت بمرور الوقت إلى لقاء قمة غير رسمي لكبار القيادات الدولية لمناقشة قضايا الحكم الداخلي.
ونظراً لأن غالبية الدول الفاعلة دولياً ممثلة في المجموعة، أصبح بإمكان هذا المنتدى ادعاء سلطة أخلاقية أكبر عن مجموعة الـ8 الأقدم، والتي تقلصت الآن إلى مجموعة الـ7. وعليه، فإنه إذا نجحت الولايات المتحدة وروسيا في الوصول لأرضية مشتركة، فإن بإمكانهما الاعتماد على قاعدة تأييد دولي واسعة لأي مقترح تطرحانه.
وحال انعقاد قمة أميركية - روسية، فإن ثلاث قضايا محورية من المحتمل أن تهيمن على أجندة اللقاء.
أولاً: محاولة وضع تعريف محدد بأكبر قدر ممكن لما تعنيه طموحات روسيا، خصوصاً فيما يتعلق بأوروبا. على ما يبدو، ترمي السياسة الروسية الحالية إلى إثارة الوقيعة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على أحد الدعم المالي والدعائي الذي يقدمه الكرملين لأحزاب شعبوية من تياري اليمين واليسار تتبع أجندات مناهضة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد يدعي بوتين أن موقفه المناهض للاتحاد الأوروبي يعكس حالة دفاع عن النفس، ويمثل استجابة للعقوبات المفروضة على روسيا، رداً على سياسات عدائية روسية وضم القرم والتدخل العسكري في دونتيسك.
في هذه المرحلة، يسعى بوتين نحو أمرين: أولاً: يرغب في أن تبتلع القوى الغربية فكرة خسارة أوكرانيا للقرم باعتبارها أمراً واقعاً. ولا يعني ذلك إعلان حلف «الناتو» اعترافه بضم روسيا للقرم، وإنما يكفي القبول الضمني فحسب.
وكان ذلك ما حدث في حالة دول بحر البلطيق التي ضمها ستالين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. استمرت ديمقراطيات غربية في النظر إلى الدول الثلاث باعتبارها أراضي محتلة، لكنها عملياً لم تفعل شيئاً لإجبار الروس على الخروج من هذه الدول حتى سقوط الإمبراطورية السوفياتية.
وعليه، يبدو من المحتمل أن تتخذ هذه الدول موقفاً مشابهاً إزاء القرم حتى تفكك الاتحاد الروسي ذاته، الأمر الذي يعتبره بعض الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين أكثر من محتمل. (سبق وأن أعرب الراحل زبغنيو بريجنينسكي عن اعتقاده بأن روسيا ستنقسم إلى ثلاث دول: واحدة إلى الغرب من جبال الأورال، والتي بمرور الوقت ستتحول إلى دولة «أوروبية» بصورة كاملة، وأخرى إلى الشرق من جبال الأورال وغرب سيبيريا يغلب عليها التتار المسلمون والباشكير، ودولة ثالثة في سيبيريا تضم مزيجاً من أعراق صينية وكورية وأبناء سيبيريا الأصليين.
ثانياً: يرغب بوتين في توقف أعمال التوسع من جانب «الناتو»، خصوصاً داخل أوروبا وجنوب القوقاز.
وبالنظر إلى سوريا في إطار الأطماع الروسية الجديدة في الشرق الأوسط، نجد أن بوتين سعى على عجل لصياغة حزمة من المقترحات بناءً على «مشاورات» مع تركيا وإيران، لعرضها على مجموعة الـ20 على أمل تعزيز موقف روسيا، باعتبارها الدولة الأجنبية صاحبة النفوذ الأكبر داخل سوريا، مع إقناع القوى الغربية بالتشارك في عبء التعامل مع موقف عصيب.
من ناحيته، يرغب بوتين في إبقاء الديكتاتور السوري بشار الأسد في السلطة لفترة قصيرة، في الوقت الذي ترسخ روسيا وجودها داخل سوريا على نحو لا يمكن لأي نظام سوري في المستقبل تجاهله. ومن أجل كسب تأييد الغرب لمثل هذه الحزمة من المقترحات، سيتعين على بوتين طرح إمكانية عمله على تقليص نفوذ ملالي إيران داخل سوريا، مع العمل في الوقت ذاته على معاونة تركيا، عضو «الناتو» على الفوز بـ«حقوق مراقبة» داخل أراضي سوريا على امتداد الحدود.
هنا أيضاً، يحتاج بوتين إلى نتائج سريعة، بينما يمكن للغرب السماح له بتعزيز نفوذه داخل سوريا كيفما شاء.
ثالثاً: الحرب السيبرية التي تجب إضافتها إلى أنماط الحروب المعروفة - البرية والبحرية وعبر الغواصات والجوية، وذلك باعتبارها صورة خامسة من صور الحرب. وحتى هذه اللحظة، تمتعت روسيا باليد العليا في إطار هذه الحرب، من خلال إقدامها على مخاطر وجدت ديمقراطيات غربية صعوبة في خوضها بسبب المعارضة الداخلية. بيد أنه على المدى ما بين المتوسط والطويل، لن تتمكن روسيا أبدا من مضاهاة الموارد العلمية والتكنولوجية الغربية الهائلة. ومثلما كان الحال مع سباق الفضاء في خمسينات وستينات القرن الماضي، ربما تكون روسيا قد تقدمت على الغرب في جولة، لكنها ستأتي في مرتبة متأخرة عنه حتماً عند خط النهاية.
ورغم أن وسائل الإعلام التابعة للكرملين تشيد بـ«انتصارات» بوتين، فإنها في حقيقتها انتصارات وهمية. في الواقع، إن هذا يذكرني بقصيدة لألكسندر بوشكين بعنوان «القيصر نيكيتا وبناته الأربعون» والتي تدور حول قيصر سعيد لديه أربعون ابنة فائقات الجمال والذكاء والسحر، لكن المشكلة الوحيدة أنهن يملكن كل شيء ما عدا ما يجعل من الإنسان أنثى ـ بمعنى أنهن يحظين بكل شيء ما عدا العنصر الضروري. وعليه، اضطر القيصر نيكيتا المسكين للتوسل للصديق والعدو، وبشكل خاص العدو، لمعاونته في إصلاح هذا الأمر.
واليوم، يبدو القيصر فلاديمير بحاجة إلى الغرب أكثر مما يحتاجه الغرب.
دعا السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، في خطابه الأخير إلى استقدام عشرات الآلاف من المجاهدين إلى لبنان من أنحاء العالم العربي والإسلامي «من العراق ومن اليمن ومن كل مكان آخر ومن إيران وأفغانستان ومن باكستان»، وتابعه نائب للحزب في البرلمان، نواف الموسوي، بدعوة الحرس الثوري الإيراني و«الحشد الشعبي» العراقي و«القوى السورية الشعبية وكل مناضل عربي وقف إلى جانب القيادة السورية» للقتال معاً في لبنان صفاً واحداً.
أحد الردود المفاجئة على الخطاب المذكور كانت عنواناً رئيسياً في جريدة لبنانية مرموقة بعنوان: «اللبنانيون يتناقصون… والسوريون يتزايدون»، وهو ردّ يستهدف عمليّاً اللاجئين السوريين في لبنان ويندد بزيادة عدد مواليدهم وفتوّتهم فيما يتجاهل تماماً كل المدعوّين الآخرين للقتال «صفّا واحدا» في لبنان.
ما تقوله تصريحات مسؤولي «حزب الله» هو أن سقوط تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» قد فتح الطريق عمليّاً لصعود «الحشد الشعبي في العراق وسوريا… ولبنان»، أو بمعنى آخر، انفتاح الطريق البرّي من طهران مروراً بدمشق ووصولاً إلى بيروت.
التصريحات الأخيرة يمكن فهمها بحرفيّتها، بما هي دعوة للإجهاز على ما تبقى من السيادة المهتوكة للدولة اللبنانية، أو باعتبارها جزءاً من توازن الرعب والتهديد بين تل أبيب، التي قالت إن حرباً جديدة ضد لبنان ستكون أكبر بكثير مما سبقها، و«حزب الله»، الذي يقول إن الحرب معه لن تكون مع بيروت فحسب بل مع كل الميليشيات الشيعية من لبنان حتى أفغانستان؛ أو، باختصار، إعلان من إيران أنها أقوى من المخططات الأمريكية ـ العربية لتحجيم نفوذها المتصاعد في المنطقة العربية بعد الخلاص من العدو المشترك للجميع: تنظيم «الدولة الإسلامية».
لكن تفاصيل صغيرة في هذه اللوحة الكبرى المعقدة تفضح البراغماتية الوحشية للمعارك الجارية على أرض العرب والتي تستخدم الرايات المقدّسة لآل الرسول وأسماء الله ودعوات تحرير فلسطين و«المقاومة»، من جهة إيران وميليشياتها وقوّات بشار الأسد والحوثيين وعلي صالح، أو التصدّي للسلاح النووي الإيراني ونفوذ قم والميليشيات الطائفيّة الشيعية وللتكفيريين والإرهابيين، حسب سرديّات بعض خصومهم الألدّاء.
من تفاصيل هذه البراغماتية الوحشية والعنصرية المعمّمة واحتقار البشر، بما هم بشر، ما يحصل للمهجرين والنازحين وسكان المخيمات وأهالي المناطق المحاصرة والمجوّعة والمقصوفة بكافة أشكال الطيران من سوريين وعراقيين، كما يحصل لفقراء اليمن الذين يعانون من وطأة الكوليرا والفقر والقصف والحصار.
فـ«حزب الله» الذي اعترف أمينه العامّ مؤخراً بأن ثورات الربيع العربي كانت حقيقية وليست «مؤامرة إسرائيلية» (كما كان يردد على مدى سنوات)، لا ينفكّ يرعى ويبجّل ويبرّر عمليات التنكيل البشعة التي يقوم بها الجيش اللبناني ضد مخيّمات اللاجئين السوريين وقد اعتبر أن جولتها القمعية الأخيرة هي لحماية أمن الحدود اللبنانية.
وجحافل المقاومين الذين يدعوهم لمشاركته شرف قتال العدو الإسرائيلي في لبنان هم أنفسهم الذين اشتهر بعضهم بشيّ البشر وتقطيعهم والتمثيل بجثثهم واعتقال وتعذيب وقتل الآلاف من شباب الأنبار والموصل.
وعلى المقلب الآخر صار معروفاً وذائعاً خبر السجون الرهيبة التي تشرف عليها الإمارات في اليمن وهناك روايات تقشعر لها الأبدان عن الممارسات التي تجري فيها.
في هذه الأحداث كلّها تكتشف جامعاً واحداً يجمع المنفّذين ويجعل «نضالهم» كلهم، رغم اختلاف الشعارات، يصبّ في الأهداف نفسها: تأبيد الاستبداد والطغيان ومنع التغيير المدني والديمقراطي وتصعيد الغرائز الوحشية والطائفية.
يندرج تهديد الأمين العام لـ «حزب الله» بنقل الميليشيات الشيعية المتعددة الجنسية التي تقاتل في سورية الى لبنان، في اطار اجراءات التحسّب التي تُعدّها ايران لمرحلة ما بعد الحرب الأميركية على «داعش»، لا سيما في ضوء اللقاء المرتقب بين ترامب وبوتين الأسبوع المقبل، وشعورها بالقلق منه، على رغم التوقعات المتواضعة لنتائجه.
وقد يعتقد كثيرون بأن تلويح نصرالله بحشد شيعي تهويل بحت، ويهدف الى ترهيب اسرائيل وردعها عن التفكير في استهدافه، إلا ان تجربة الحزب خلال السنوات الماضية تشير الى انه يلجأ عادة الى طرح افكار غامضة ومتقطعة عن خططه، ثم يوسعها في شكل متصاعد، لتشمل في كل مرة تفاصيل اضافية وذرائع متنوعة، الى ان تصبح اكثر قبولاً ويتم التعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً. ويشكل التدرج الذي اعلن به الحزب تدخله العسكري في سورية نموذجاً لهذا الأسلوب.
فالمؤكد، ان الرسالة الجديدة موجهة هذه المرة ليس الى اسرائيل فحسب، بل خصوصاً الى الولايات المتحدة وروسيا. إذ ليس شيئاً جديداً ان «حزب الله» لا يعترف بالحدود اللبنانية الرسمية التي لم يُقم لها وزناً منذ نشأته، والتي لم تحل يوماً دون تلقيه شحنات الأسلحة الإيرانية والسورية، ولم تشكل عائقاً امام انتقال الآلاف من مقاتليه الى الداخل السوري للدفاع عن نظام الأسد، ولم تكن ابداً عقبة أمام استقباله في معسكرات التدريب في البقاع والجنوب والضاحية «متطوعين» من البحرين واليمن والسعودية. ولذا سيكون أمراً «عادياً»، بالنسبة إليه، ان يستقدم «فاطميين» و «نجباء» الى «الساحة اللبنانية» التي يمتلك قرارها.
والتوجس الذي تعيشه ايران وحزبها، يتمحور حول صفقة ما قد يبرمها ترامب وبوتين في شأن سورية، لتشكل صافرة البداية للسعي الأميركي الى تقليص الدور الإيراني في هذا البلد. وتشعر طهران بأن ثمة احتمالاً، ولو ضعيفاً، بأن تقايض روسيا بقاء بشار الأسد بخفض الانتشار الإيراني وملحقاته، اي ضمانات اميركية بعدم التعرض للنظام اذا ساعدت روسيا واشنطن في تطلعها الى محاصرة الامتدادات الإقليمية لإيران.
ويضغط الأميركيون بقوة في هذا الاتجاه، سواء عبر تصديهم لمحاولات قوات موالية لإيران الاقتراب من منطقة الحدود السورية مع العراق والأردن، او عبر الإنذار الذي وجهوه الى الأسد من مغبة شن اعتداء كيماوي جديد وتهديدهم بتدفيعه مع جيشه «ثمناً فادحاً». لكنهم يطرحون على الروس في المقابل مغريات متعددة، بينها امكان تخفيف العقوبات الاقتصادية وتجميد او تقليص خطط توسيع الحلف الأطلسي في شرق اوروبا، وبالتأكيد، الإقرار الواضح والعملي بمصالح موسكو في سورية والشرق الأوسط، بعدما جرى تجاهلها حتى الآن.
وإذا نجح لقاء هامبورغ في صوغ اتفاق روسي - اميركي، بما يعني اقتراب التسوية في سورية، ستطرح اسئلة من نوع: هل تستطيع ايران مقاومة النتائج العملية لهذا التقارب؟ وماذا ستفعل بميليشياتها العراقية والأفغانية والباكستانية وقوات «الحرس الثوري»؟ وكيف ستحميها اذا رفع عنها الغطاء الجوي الروسي؟
وسواء اكتملت عناصر الصفقة بين القطبين الدوليين أو لا، فإن ايران التي تعتبر «حزب الله» ورقتها الأقوى على الإطلاق في المنطقة، تدرك ان اي تراجع لدورها في سورية سيمهد الطريق لمواجهة مقبلة هدفها اضعاف حزبها في لبنان. ولذا يخدم مدّه بآلاف المقاتلين الشيعة المنتشرين حالياً في سورية هدفين: تعزيز امكاناته عبر تحويل لبنان «قاعدة شيعية» دائمة، بما يجعل الحرب البرية عليه اكثر صعوبة، ومنحه القدرة على التخريب لاحقاً على أي تسوية في سورية لا تضمن المصالح الإيرانية.
يمضي السيناريو كما كان متصوَّراً ومتوقّعاً، وما تحقّق منه في اللحظة الراهنة أمران: الأول، أن النظام لم يعد له قرار في ما يتعلّق بمستقبل سورية سواء كان يعمل للتقسيم أم لا، وأن المعارضة أُنهكت ووُزّعت على معازل ولم تعد قادرة على الدفاع عن وحدة سورية. والآخر، أن روسيا تتولّى التنسيق مع الولايات المتحدة من جهة، ومع إيران وتركيا من جهة اخرى، لرسم خرائط «مناطق النفوذ» وحدودها، ولتحديد الأطراف المقبولة أو المرفوضة فيها.
منذ بداية ولاية دونالد ترامب لم يُسجّل لأي مسؤول سياسي أو استخباري أي موقف يحذّر من تقسيم سورية على غرار ما فعل الوزير السابق جون كيري أو المدير السابق لـ «سي آي اي» جون برينان. وبدلاً من استراتيجية أميركية «جديدة» في شأن سورية كانت مرتقبة بها منذ ايار (مايو) الماضي، تبدو واشنطن مكتفية باتفاقات تكتيكية مع موسكو، ولو متقطّعة ببعض التوتر والاستفزاز من الجانبين. والثابت أن هناك قبولاً أميركياً بدور روسيا من دون الجهر بإطلاق يدها في سورية، وفي المقابل هناك قبول روسي متفاوت الدرجة بدور أميركا، فهو مشروط بالنسبة الى محاربة «داعش» في الرقّة، وغامض في دير الزور، وغير محسوم حيال خطّة أميركية - (اسرائيلية؟) لـ «مناطق آمنة» في جنوب سورية. الثابت أيضاً أن مستوى التنسيق بين تركيا وروسيا ينمو باستمرار اذا صحّ أنهما ستتشاركان السيطرة على ادلب والريف الشمالي الشرقي لحلب، فيما يشهد التفاهم بين تركيا والولايات المتحدة تراجعاً مطّرداً. لكن خلاف روسيا مع الجميع، أميركيين وعرباً وإسرائيليين، يتعلّق بالدور الإيراني المتوسّع في سورية. ولم يصدر عن الروس سوى اشارات ايجابية تجاه الإيرانيين، اذ اعتبروا أنهم موجودون مثلهم بدعوة من «الحكومة الشرعية»، ومثلهم «يحاربون الإرهابيين (بالأحرى معارضي النظام)» ويساعدون نظام بشار الأسد على البقاء والصمود. وفيما نأت موسكو بنفسها عن النزاع الإيراني - الإسرائيلي، مطمئنّة الى أنها وإسرائيل متّفقتان في دعم بقاء نظام الأسد، إلا أن التنسيق الإستراتيجي بينهما أعطى اسرائيل ترخيصاً لتوجيه ضربات لـ «حزب الله» والميليشيات الاخرى التابعة لإيران في أي موقع سوري، وهي ضربات تحقّق أحياناً أهدافاً روسية غير معلنة. وفي الردّ على الاحتجاجات العربية، تشير موسكو الى واقع أن الدولتَين العربيتَين المحاذيتَين لسورية (العراق ولبنان) هما تحت الهيمنة الإيرانية، لكنها ومن موقع مسؤوليتها الدولية لا تبدي رأياً في ما يخصّ الحدود السورية مع هاتَين الدولتَين، مع علمها أن الحدود من لبنان باتت تحت سيطرة إيران - «حزب الله» امتداداً الى دمشق وحمص، ومن الجانب العراقي يضاعف الإيرانيون جهودهم تحت غطاء «الحشد الشعبي» لاختراق الحدود وتكريس حال احتلالية ناجزة لما يسمّى «سورية المفيدة».
لم تكن موسكو قادرة، وهي تحاول تسويق مناطقها الأربع لـ «خفض التصعيد»، على الدفاع عن «قوات النظام» وهي تقترب من حدود الاردن في درعا أو من حدود اسرائيل في القنيطرة. فهذه ليست «قوات النظام» بل ميليشيات تابعة لإيران، وليس لدى النظام سوى أعداد قليلة العدد يفرزها لتغطية تلك الميليشيات. كذلك لم تكن موسكو قادرة على اطالة وقف التنسيق الجوي مع الأميركيين الذين أسقطوا طائرة «سوخوي 22» للنظام حين حاولت مؤازرة «قوات النظام» في هجمات على «قوات سورية الديموقراطية» التي تقاتل «داعش» في الرقّة بتكليف وحماية أميركيَين. ولم يُسمع أي تعليق روسي على وقائع ثلاث مهمة: تزايد الاحتكاكات بين الأميركيين والإيرانيين، وإطلاق إيران صواريخ من أراضيها على دير الزور، والغارات الاسرائيلية على «قوات النظام» في القنيطرة.
ربما تعتقد روسيا أن كل ما يجري معارك جانبية لا تمسّ مصالحها، فهي توزّع الأدوار وتديرها، تسهّلها أو تعرقلها وتكبحها، وهي متحكّمة بقرار النظام في النزاع الداخلي وبتحرّكات المعارضة عبر تركيا وقطر، ولم يحدث أن أقلقها الدور الأميركي المقتصر على محاربة «داعش» بل لعلها باشرت منافسته بضرباتها الصاروخية وإعلانها قتل ابي بكر البغدادي، أما النفوذ الإيراني فتتعايش معه كأنه مجرد دفاع عن مصالح في سورية متغاضيةً عن كونه جزءاً من مشروع توسّعي. لذلك يبقى الأهم عندها أن تواصل الإيحاء بأنها تمسك بمفاتيح حل الأزمة عسكرياً وسياسياً، اذ ربطت حركة مسار جنيف بتقدّم مسار آستانة، لكن خططها تفتقد وجود قوات لها على الأرض، بل تعاني من تعويلها على القوّة التي توفّرها ميليشيات إيران ميدانياً ولو لم تكن تحت سيطرتها، وتعاني خصوصاً من اخفاقها في اعادة بناء الجيش السوري وتوحيده. كان يمكن هذا المشروع أن يمحض روسيا صدقية، والأهم أنه كان يمكن أن يكون ورقة محورية في إنجاز حل سياسي وإحباط تقسيم سورية الذي أصبح مشروعاً إيرانياً.
كان الروس أسّسوا الفيلق الخامس وروّجوا أنه إطار معدّ لاستيعاب فصائل وميليشيات شتّى، لكنه يبدو اليوم وفقاً لأحد ضباطه (في رسالة فايسبوكية موجّهة الى الأسد) «أسوأ تشكيل مقاتل»، إذ يشكو من العتاد والخطط «الفاشلة» ومن اهانات القادة الروس والنيران الصديقة التي تقتل ضباطاً من الفيلق الذي خاض معارك حاسمة في تدمر وحماة. أما الفيلق الرابع، الذي كان يُفترض أن يلمّ الشراذم الميليشياوية التي أنشأها ضباط علويون في اللاذقية ومناطق الساحل، فلم يتمكّن من هدفه، لأن «قوات النمر» و «مغاوير البحر» و «صقور الصحراء» و «درع الأمن العسكري» وغيرها رفضت الإنضواء فيه، مفضّلةً بقاءها منفلتة لممارسة السلطة والنفوذ (تعفيش، تشبيح، خوّات...). هذه الشراذم تنشط محتمية بقاعدة حميميم الروسية وهي التي نظّمت قبل أيام مسيرات تتحدّى قرارات بالحد من امتيازات الضباط ومحاسبة الفاسدين، وكان الأسد أعلن شخصياً هذه القرارات خلال ترؤسه للمرة الأولى منذ فترة طويلة جلسة لحكومته مخصّصة لـ «الاصلاح الاداري»، لكن المتمرّدين ذكّروه بأنهم ينفّذون قوله سابقاً إن «سورية لمن يدافع عنها». وقد أثبت الروس والإيرانيون أن ذلك القول يسري أيضاً عليهم، اذ دافعوا عن النظام واستأثروا بسورية.
ما الذي أيقظ الأسد على سيرة «الاصلاح الاداري»؟ رسائل كثيرة من دول غربية على اتصال بروسيا تجاوزت مسؤوليته عن جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية الى عدم التشكيك بـ «شرعيته» مع استعداد للاعتراف بها (كما فعل الرئيس الفرنسي الجديد)، ومع ذلك أشارت الى صعوبة وحتى استحالة العمل مع «دولة فاشلة». لكن استفاقة الأسد متأخرة جداً، صحيح أن نظامه لم يعد في خطر إلا أن الدول المتدخّلة لم تعد تلتفت اليه، فالروس والإيرانيون يتداولون الخرائط وينسّقون معه في الحدّ الأدنى، وإذا كانت بيئته المذهبية لا تزال تحتضن النظام إلا أنها تتبرّم الآن من حلفائه جميعاً ولا تبدو مرتاحةً أو مندفعةً الى مشروع التقسيم، بل ان بعض القريبين منه يتخوّفون من تحالف تركي - إيراني يضيفون اليه قطر ولذا يتساءلون عن حلفاء عرب أو دوليين يمكن أن يساعدوا النظام على تبديد احتمال كهذا يظنّون أنه سيفرض عليهم «الإخوان المسلمين» كثمنٍ للتسوية.
مطلع حزيران (يونيو) تحدّث الرئيس الروسي ووزير خارجيته في مناسبتَين لتأكيد أن «مناطق خفض التصعيد» الأربع ليست مشروعاً للتقسيم وإنما محاولة لوقف القتال بغية إعطاء دفع للمفاوضات السياسية. لكن قراءة الخرائط تشير الى مناطق نفوذ موزّعة مبدئياً كالآتي:
أولاً - الشمال والوسط لروسيا وإيران وتركيا، والجنوب لأميركا وإسرائيل.
ثانياً - 1) محافظة ادلب وريف حلب الشمالي بإشراف روسي - تركي، 2) دمشق - الغوطة الشرقية - حمص بإشراف روسي - إيراني، 3) درعا و 4) القنيطرة تحت نظر أميركا واسرائيل، 5) الساحل الغربي منطقة عسكرية للروس، 6) الرقة ودير الزور والبادية يحُسم مصيرها بعد طرد «داعش» منها وسط تنافس حادٍّ عليها... تبقى هذه خريطة أولية، وفيما تحدّ روسيا وأميركا من وجودهما على الأرض، كما تضع موسكو ضوابط للتدخّل التركي، وتكتفي اسرائيل بغاراتها الهادفة، تتمتّع إيران وحدها بالقدرة والسهولة لتغطية الأرض بمزيد من المقاتلين.
ما يجري على الساحة السورية وحولها هذه الأيام أحيا الكلام مجدداً عن مخططات التقسيم، خصوصاً في ظل السباق المحموم بين الأطراف المختلفة لاقتطاع مناطق نفوذ استراتيجية، والمخاوف المثارة بشأن «مناطق خفض التصعيد» المقترحة، والتفاهمات الروسية - التركية - الإيرانية الأخيرة.
صحيح أن الحديث حول مخاوف التقسيم ظل يلازم الأزمة السورية منذ اللحظة التي تحولت فيها إلى حرب داخلية بأبعاد إقليمية ودولية، وصحيح أيضاً أن البلد بدا مقسماً بحكم الأمر الواقع منذ سنوات، وذلك مع تقطيعه إلى مناطق واقعة تحت سيطرة الأطراف المختلفة، لكن أحداث الفترة الأخيرة والتحركات المرافقة على الأرض أعطت الانطباع بأن الأطراف الدولية والإقليمية بدأت تتحرك فعلياً في اتجاه خطط تقود إما إلى التقسيم، أو إلى إبقاء سوريا في حالة من التمزق والاحتراب الداخلي والتجاذب الإقليمي والدولي لسنوات كثيرة مقبلة، أي إلى حالة عراقية أخرى، ولكن بصورة معدلة.
وأكثر التطورات اللافتة في الآونة الأخيرة كان السباق المحموم بين قوات النظام السوري وإيران وحلفائها من جهة، وبين أميركا وحلفائها من فصائل المعارضة السورية من الجهة الأخرى، للسيطرة على منطقة الحدود السورية - العراقية. فإيران لديها مشروع لإيجاد ممر يمتد من حدودها عبر العراق حتى مناطق الساحل السوري. فهذا الممر يعني أن يكون لها منفذ مفتوح للإمدادات من إيران إلى سوريا، يمكن أن يستخدم لاحقاً أيضاً كخط إمداد إلى «حزب الله» في لبنان.
وفي هذا الصدد، دعمت طهران بقوة ميليشيا «الحشد الشعبي» العراقي حتى أصبح قوة كبرى في العراق، على غرار «حزب الله» في لبنان، وإن كان يقل عنه كثيراً من ناحية التنظيم والانضباط والخبرة العسكرية والقتالية.
وعلى الجانب السوري، استثمرت إيران أيضاً كثيراً في دعمها لنظام بشار الأسد، كما عملت مع «حزب الله» اللبناني على بناء وتدريب قوات في سوريا تكون نواة مستقبلاً لما يشبه «الحشد الشعبي»، خصوصاً أن كل المؤشرات تدل على أن سوريا ستكون خاضعة مستقبلاً لتوازنات بين القوى والميليشيات المسلحة المدعومة من أطراف خارجية.
وعندما اندلعت معركة تحرير الموصل، فرض «الحشد الشعبي» لنفسه دوراً فيها. ومنها، انطلق أخيراً في اتجاه منطقة الحدود السورية، ليلتقي هناك مع قوات النظام السوري وحلفائه من الإيرانيين ومن «حزب الله» والمقاتلين المحليين، وكانت تلك خطوة مهمة في إطار وضع الممر الإيراني موضع التنفيذ. لكن «اللقاء الرمزي» بين هذه القوات على الحدود العراقية - السورية لم يمر مرور الكرام، فبدأت بعده سلسلة من الاحتكاكات مع المعارضة السورية المدعومة من واشنطن، كما قصفت القوات الأميركية قوات النظام السوري وحلفائه، بحجة منعهم من الاقتراب من قاعدة التنف التي تستخدمها القوات الخاصة الأميركية لدعم المقاتلين الموالين، ولمنع تسلل فلول «داعش» من العراق إلى سوريا.
واشنطن تريد أن تمنع بلا شك فتح ممر يربط من إيران إلى العراق وسوريا، واضعة في حساباتها أن إسرائيل تراقب الأمر بقلق أيضاً. وفي حين تعمل أميركا لمنع هذا الممر، فإن إسرائيل كثفت في الأيام الأخيرة غاراتها على مواقع القوات السورية قرب مناطق الجولان، لتوجيه رسالة لدمشق بأنها لن تقبل باقتراب إيران أو «حزب الله» من هذه المناطق، خصوصاً في ظل المواجهات الدائرة بين قوات النظام السوري والمعارضة في القنيطرة.
الأردن كذلك يراقب ما يحدث في منطقة الحدود العراقية، وعلى جبهة درعا الجنوبية، خصوصاً مع التقارير عن أن الحرس الثوري الإيراني بات يوجد في مطار عسكري سوري لا يبعد أكثر من 75 كيلومتراً عن الحدود الأردنية.
ما يحدث على هذه الجبهات لا يمكن فصله عما يحدث على جبهة معركة الرقة، والدعم الأميركي لقوات «سوريا الديمقراطية»، التي يشكل الأكراد عمادها، لكنها تضم أيضاً مجموعات عربية. فتركيا عبرت عن قلقها الشديد من تسليح الأميركيين لأكراد سوريا، ولوحت بأنها مثلما تدخلت في السابق لمنع تمدد الأكراد في الشمال السوري، خوفاً من أن يشجع ذلك حلم الفيدرالية الكردية، فإنها قد ترسل قوات مجدداً لمنع أي تمدد جديد لقوات حماية الشعب الكردية، المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية. وبينما اتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حلفاءه الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة، بممارسة الألاعيب، فإن حكومته قالت إنها تلقت تأكيدات من واشنطن بسحب الأسلحة المتطورة من الأكراد بعد معركة الرقة.
لكن وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس صبّ ماءً بارداً على هذه التأكيدات التركية قبل يومين، ملمحاً إلى أن واشنطن قد تستمر في تسليح «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية حتى بعد استعادة الرقة من «داعش»، وكان رده على أسئلة الصحافيين: «دعونا نرَ، فالمسألة ليست وكأن القتال سينتهي بعد استعادة الرقة».
الرسالة من كل الأطراف أن سوريا لا تزال بعيدة كل البعد عن «خفض التصعيد»، بل إنها قد تكون متجهة نحو مرحلة أخرى من التصعيد والصراع لاقتطاع مناطق نفوذ، أو توسيع أخرى بما يعني عملياً خطوة أخرى نحو التقسيم... بسياسة الأمر الواقع.
كان ينقص الفوضى التي تعصف بالميدان السوري، سياسياً وعسكرياً وفي التحالفات بين القوى الخارجية المتدخلة في بلاد الشام، أن يضاف إليها الموقف الأميركي الأخير بالتهديد بعمل عسكري ضد قوات نظام بشار الأسد لأن واشنطن تمتلك معطيات عن تحضيره لهجوم كيماوي جديد، وتحذير موسكو من أي خطوة من هذا النوع.
رفع تهديد البيت الأبيض بضربة استباقية في سورية المخاوف من مواجهة روسية- أميركية، كانت بدأت تبرز مع انفراد كل من الدولتين، مع حلفائها، بخططها الخاصة للعمليات من أجل التخلص من «داعش» في الرقة، وغيرها. والسبب أنه بموازاة سعي كل منهما إلى الإفادة من الصعوبات التي يواجهها الآخر في الميدان ومع حلفائه، فإن الرغبة باقتطاع مناطق النفوذ في مرحلة ما بعد «داعش» المفترضة يعطي ضوءاً أخضر للحلفاء الذين يعاكسون خططه أحياناً. ولذلك يبدو الكثير من الأحداث في الحرب بالواسطة التي يخوضها الجباران في سورية، عصياً على الفهم، ويكرس الانطباع بأن الفوضى سيدة الموقف.
إلا أن الجانب الروسي ينسب الغموض إلى غياب سياسة أميركية واضحة في بلاد الشام، كما يقول زوار موسكو التي يردد المسؤولون فيها عبارة: لا نعرف ماذا يريد الأميركيون. أما الجانب الأميركي فتراوده الشكوك في استمرار الدب الروسي في استغلال الجموح الإيراني، والانسجام مع خوضه معارك تكون موسكو تبرأت منها في اتصالاتها مع واشنطن.
في تقسيم الرعاية الخارجية لمناطق خفض التوتر التي تقرر قيامها في آستانة الشهر الماضي، بدا أن الجانبين الأميركي والروسي اتفقا في اجتماعات الأردن خلال الأسبوعين الماضيين على توزيع مواقع النفوذ الجغرافي، إلا أن اللاعبين الإقليميين غير مرتاحين إلى نتائجها. فلكل من هؤلاء اللاعبين خصم سيشارك موسكو أو واشنطن في النفوذ على منطقة. وإذا صح ما نشر عن هذا التوزيع، تتولى القوات الأميركية النفوذ على المنطقة الجنوبية مع الأردن، وواشنطن وإسرائيل تعود لهما حرية الحركة في المنطقة الجنوبية الشرقية المحاذية للجولان المحتل، وتتولى روسيا (مع إيران) النفوذ في المنطقة الساحلية، وتشمل حمص وصولاً إلى مدينة حلب، فيما تكون اليد الطولى للجانبين الروسي والتركي في إحدى المناطق الشمالية وتحديداً محافظة إدلب، بينما تكون اليد الطولى للأميركيين والأكراد في المنطقة الشمالية الشرقية التي تشمل الرقة والمناطق المختلطة بين الأكراد والعرب...
رسم هذا التوزيع معالم تقسيم سورية كما توقعه كثيرون في السنتين الماضيتين. إلا أنه توزيع يترك بعض الفراغات التي تسعى قوى إقليمية إلى ملئها، لا سيما إيران التي يستفزها تقزيم الدولتين العظميين دورَها، على رغم الأثمان التي دفعتها في المعارك العسكرية التي خاضتها دفاعاً عن النظام وعن موطئ القدم السياسي والجغرافي الذي ضمنته على مدى عقود من البناء السياسي والعسكري.
ومع أن الافتراض المنطقي هو أن ترعى روسيا منطقة العاصمة ومحيطها، فإن التواجد الإيراني في محيط دمشق وفي المناطق القريبة من الحدود مع الجولان المحتل، بقي موضوع تساؤل. وليس متوقعاً أن ينسحب الحرس الثوري و «حزب الله» وسائر الميليشيات المصنفة إيرانية من هذه المواقع. بل إن طهران قاومت اتفاقات الدولتين الكبريين في اقتحامها الحدود العراقية السورية للقاء القوات السورية الأسدية وصولاً إلى البادية المؤدية إلى دير الزور، للحؤول دون أن يؤدي انفراد الأميركيين بالخلاص من «داعش» في الرقة إلى توسع نفوذهم نحو المنطقة التي تختزن النفط والغاز. بات التنافس على سورية الغنية بعد أن كان على سورية المفيدة.
أوحى التهديد الأميركي بضربة عسكرية رداً على هجوم كيماوي محتمل، أنه قد يكون رداً على تمكن طهران من اختراق الحدود العراقية- السورية، فيما استغربت موسكو سماح واشنطن للحشد الشعبي وميليشيات أخرى بأن تصل إلى الحدود، حيث باتت قادرة على قطع طريق المعارضة المعتدلة الحليفة للأميركيين، إلى دير الزور.
ترددت واشنطن في منع إيران، من بلوغ الحدود، لأنها تخوفت من انتقام الحشد الشعبي من قواتها الموجودة بالآلاف في العراق، ثم ندمت فقررت التشدد الآن.
ومع قول إدارة دونالد ترامب إن التلويح بعمل عسكري هو رسالة إلى روسيا وإيران، يشيع الجانب الروسي أنه ضغط على الأخيرة من أجل عدم اقتحام الحدود مع العراق، لأنه يقوض جهودها لإقناع الجانب الأميركي بمشروع موسكو للحل السياسي، على قاعدة رجحان كفة النظام.
تحضير القوى الدولية والإقليمية لمرحلة ما بعد الرقة، يختزن عوائق قد تؤخر نهايتها، وتزيد الفوضى. تتأكد كل يوم الحاجة إلى التوافق الأميركي- الروسي وفق آلية لا تحتاج إلى اجتهادات لتفسيرها.