حرص الجيش اللبناني، في روايته حول الهجمات التي نفذها جنوده ضد مخيمات للاجئين السوريين في عرسال، إلى استدراج العنصر الأهلي للجماعة التي يستهدفها، متقصداً بذلك الخلط بين ساكني الخيم منزوعي الحصانة القانونية، و«الإرهابيين» الذين يستمد منهم تعريفه الأخير لنفسه.
تعريف، ظاهره «حماية الوطن» وباطنه التناوب بين تطبيق تعليمات دول مهووسة بمحاربة «الإرهاب»، وإرضاء تناقضات الطبقة السياسية المحلية. والأخيرة، إذ اتفقت على تأجيل خلافاتها المفتعلة أصلاً، وجدت في اللاجئ عدواً مثالياً، وتدرجت في لغة عدائه قياساً بالحال الطائفي، الذي ينطوي عليه جمهورها. فالبيان الصادر عن قيادة الجيش زج بطفلة قتلت أثناء الهجمات، جاعلة إياها معادلاً عائلياً للانتحاري، ذاك أن تقارير كتبها صحافيون مقربون من الأجهزة الأمنية، كشفت أن الطفلة ابنة اخ أحد الانتحاريين، وسقطت بسبب تفجيره حزاماً ناسفاً. اللاجئ «الإرهابي»، كما تصوره الرواية العسكرية، وما استتبعها من خيال إعلامي مخطط له، ليس قاتل نفسه فحسب، بل أفراد عائلته، خطره فائض ليشمل المخيم كله، ما استلزم مسح المكان وتخريبه حرقاً وهدماً.
والعائلة – الأهلية، في البيان المذكور، ترمي أيضاً إلى جعل الطفلة شريكة في شبهة «الإرهاب»، وحصر «القاتل» و»ضحيته» في حيز واحد. «الإرهابي» لاجئ وكذلك الطفلة، من مكان واحد يخرج الاثنان وللتخلص من هذا «المرض» لابد من الاستئصال.
وإذا كان الانتحاري مؤبلس بطبيعة الحال بحكم موقعه، فإن الضحية، أي الطفلة، ليس بعيدة عن صورة عمها، فهي المستهدفة من قبل حملة إعلامية عنصرية، ما انفكت تستعدي كل اللاجئين وتصنفهم كأعداء متساوين في الشر، فلا فرق بين نازح وآخر إلا في درجة ضرره. والحملة تلك، تدرجت تبعاً للأحداث الأمنية التي ارتبطت باللاجئين، فقسمت هؤلاء بين «إرهابيين» و»إرهابيين محتملين»، وإن انتمى العم إلى الصنف الأول، أدرجت الطفلة مع الفئة الثانية، لينال الاثنان مصيراً واحداً.
هذا التعسف اتسع كذلك ليشمل المعتقلين، هؤلاء إذ أغفلهم بيان الجيش، تكفل بهم إعلاميوه والمروجون لروايته، فنسبوا زوراً رجالا مذلين ومهانين، إلى تنظيمي «الدولة الإسلامية» و»النصرة». والفرق الزائل بين معتقل و»إرهابي» هو نفسه الذي يماهي بين طفلة وعمها. ثمة استواء صلب لا يحتمل أي تمايزات أو اختلافات. الأطفال والانتحاريون والمعتقلون واحد لا ينفصل، جوهره لاجئ سوري يهدد البلد ويستجلب إليه الخراب. لاجئ، بات ضحية مستويين من الكراهية، الأول مصدره صورة نمطية حيال السوري في لبنان، تمزج بين رجل الأمن والعامل، فيما الثاني يتأتى من الحملة التحريضية التي تستثمر بكل الضغوط الاقتصادية التي تسبب بها النزوح الأخير. والحال فإن المستويين متكاملين، يستدعي كلاهما الآخر لتغذية صورة «العدو».
والجيش الذي يصادر «حزب الله» وظيفته المركزية، وجد في اختلاط اللجوء والإرهاب، فرصة مثالية لتقديم شهادة حسن سلوك أمام الدول التي تدعمه لوجستياً، وتزعم محاربة «الإرهاب». والمحاربة هنا، فعل أمني – استخباراتي، تتعمم في ظله صورة «الإرهابي» ليصبح بيئة واجتماعا، فيتداخل المدني بالعسكري، والخيمة بالمتراس، والسلاح بأدوات الطبخ، ويغدو الكل هدفاً مباحاً. اقتحام المخيمين في عرسال لم يشذ عن هذه القاعدة، بل هو تطبيق حرفي لها بنسخة لبنانية، جرت تغذيتها عبر حملات منظمة اشتركت في صناعتها الطبقة السياسية بمختلف تلاوينها. انمحت الخلافات بين معسكري 14 و8 آذار، توحد الخطاب، وعقدت الطوائف هدنة بإيعاز من قادتها، الذين انصرفوا لاستكمال هواياتهم في تمرير توريث أولادهم وصفقات الفساد وتفصيل قوانين انتخاب على مقاساتهم. وكان اللاجئ ضحية الصفقة فهو الغريب «العدو» الذي يمكن أن يتحمل أخطاء البلد وخطاياه، أمام الرأي العام، فيمتص نقمة الشارع ويستوعبها أفعالاً عنصرية تتكرر بشكل دوري.
والدفاع عن الجيش، بوجه الانتهاكات التي ترتكبها عناصره ضد اللاجئين، وإن تمظهر في فلكلورية لبنانية مملة ومعدومة الخيال، فهو في وظيفته المراد أداؤها دفاعاً عن الطبقة السياسية وارتباطاتها مع الدول المحاربة للإرهاب، لتستوي المعادلة بضرب اللاجئ الذي اختير من قبل السياسيين قرباناً لاستكمال لعبة الحكم بكل منافعها، ورشوة المجتمع بإطلاق يد أفراده لممارسة عنصرية مقززة ما يظهر من نتائجها أقل بكثير مما يحدث في الواقع.
يشكل التصريح الرسمي الذي صدر عن الجيش اللبناني , يوم أمس , حول شهادة معتقلين سوريين تحت التعذيب , و لجوءه إلى تبرير ذلك بأنه عائد لـ "ظروف جوية" , يشكل تطور خطير في المشهد القادم لقرابة 100 ألف لاجئ سوري في عرسال خصوصا و مليون و يزيد في كل لبنان.
الرسالة التي آثر الجيش اللبناني ايصالها , من خلال البيان , هو التأكيد أن الفعل "الآثم" هو شيء سيتكرر و يتتابع دوماً , و لن يكون هناك حاجة لتبريره أو إيجاد مخرج يمتص بعضاً من الاحتقان , إذ تعد الرسالة بأن في لبنان يوجد أيضاً من يقتل السوريين وبالتالي موتوا على يد أبناء ما يسمى "وطن" أفضل من الموت على يد الغريب أو الجار الذي كان ضمن من "ربينا سوا".
الرواية الرسمية التي تبنتها لبنان , كانت "وقحة" لأنها حقيقية , و لكن الحقيقة دوما قاسية و لا تطابق الآمال , إذ كان في امكانه أن يقول أنهم من ضمن من فجروا أنفسهم (كما ادعوا ليقدموا دليل ملموس) , ولكن قول الجيش اللبناني أن ماتوا لديه و في مشهد مشابه لمعتقلات التي توجد لدى الأسد , هي تمهيد أن لا خط للمواربة أو مسعى لمراعاة مشاعر الإنسان في بلد يقال أنه يحب الحرية والديمقراطية .
سبعة أو عشرة ضحايا , هي رقم مبدئي يخفي خلفه مصير مجهول لقرابة 350 آخرين , اعتقلهم جيش لبنان , في 30 حزيران الأسود , ممنوعون من كافة حقوقهم الإنسانية سواء في ظروف الاعتقالات و مسبباته و حق الدفاع عن النفس بتوكيل من يدافع عنهم , في تهمة مطاطة قد تصل حد الإعدام في أي وقت يشاء الجلاد.
السياسيون اللبنانيون (بمختلف الطوائف في بلد الطوائف) يسعون لايجاد تبرير لكل ما حدث أنه يصب في اطار مكافحة الارهاب وإحباط مخططات خطيرة تعصف في بلد , لا يوجد فيه مقومات ليس لدولة فحسب , فقد يكون المنطق حتى العشائرية بعيدة عن هذا النموذج الغريب , الذي يسيطر فيه ارباب ارضيون ممثلون لله بمختلف أشكاله الدينية , يتفوق فيه العابد على المعبود.
اليوم ليس وحدهم السوريون يجب عليهم الوقوف أمام آلة القتل الجديد "القذرة" في لبنان , و لكن حتى اللبنانية أنفسهم عليهم التحرك , قبل أن يصل الأمر لنشهد بشار الأسد ثان عبر عون ومن خلفه حزب الله.
لا يمكن فصل عملية اقتحام الجيش اللبناني لمخيمات اللاجئين السوريين في محيط بلدة عرسال القريبة من الحدود الشرقية مع سوريا، عن الكلام المتصاعد لقيادات حزب الله عن ضرورة التنسيق بين الحكومتين اللبنانية والسورية من أجل التنسيق لعودة اللاجئين إلى سوريا. عرسال ومحيطها كما هو معروف يضمان أكثر من سبعين ألف لاجئ معظمهم قدموا من المقلب الآخر من الحدود أيّ منطقة القلمون السورية التي خاض فيها حزب الله أشرس المعارك ضد الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة منذ العام 2013، ونجح في السيطرة عليها بعدما تمّ تدمير معظم الحواضر والبلدات في هذه المنطقة وأشهرها مدينة القصير فضلا عن مناطق أخرى في حمص وريفها.
الجيش اللبناني قبل أيام قام من خلال قوة عسكرية باقتحام المخيم، وسط حملة إعلامية مركزة كان من الصعب خلالها تقصي المعلومات الدقيقة، ففيما تحدث الجيش في بياناته الرسمية عن عملية استباقية استهدفت مخططا جهنميا كان يجري التحضير له في هذه المخيمات ضد مناطق لبنانية، نفت أوساط قريبة من اللاجئين وجود مثل هذا المخطط وتحدثت عن عملية ترويع طالت اللاجئين في هذه المخيمات، وأدّت إلى اعتقال مئات اللاجئين بطريقة وحشية كشفت عنها بعض الصور التي جرى تسريبها خلال هذه العملية وأثرها، كما أنّ بيانات الجيش تحدثت عن خمسة انتحاريين فجروا أنفسهم خلال تنفيذ الجيش عملياته داخل المخيمات ولكن من دون أن يؤدي هذا التفجير إلى سقوط ضحايا من الجيش اللبناني، فيما جرى الحديث عن سقوط طفلة سورية قال الجيش اللبناني إنّها قضت نتيجة التفجير الانتحاري.
للمرة الأولى يمكن الحديث عن عملية عسكرية لا تلقى ردات فعل سلبية من جهات طالما انتقدت عمليات استهداف اللاجئين السوريين. الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحده انتقد استهداف الآمنين في هذه المخيمات داعيا إلى التمييز بينهم وبين المطلوبين، لكنه ما لبث بعد ساعات أن حذف تغريدته، مبررا ذلك بأنه لا يريد أن يساء فهم موقفه، وسوى ذلك خيم الصمت على الجهات السياسية المشاركة في السلطة والتي تفادت تأييد خطوة الجيش أو إدانتها.
وحده حزب الله كان يغرد ويثني على هذه الخطوة ووجه رسالة تهنئة للجيش، بعد أن سرب صورا لطلاب في المدرسة الحربية في الجيش اللبناني وهم يقومون بزيارة إلى أحد مواقعه المدنية والسياحية في مليتا، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها ضباط من الجيش اللبناني لهذا الموقع الذي تمّ إنشاؤه قبل أكثر من عشر سنوات، ولم تكن الزيارة في أصلها وفي توقيتها، مع اقتحام الجيش لمخيمات اللاجئين، إلاّ محاولة من حزب الله لإظهار الجيش اللبناني في موقع المتناغم معه، لا سيما أنّ حزب الله كان من أكثر المؤيدين لخطوة اقتحام مخيمات اللاجئين، لإدراكه أنّ هؤلاء يحملونه مسؤولية تهجيرهم إلى جانب النظام السوري، بعد أن دمرّ بلداتهم وقتل الآلاف من أبنائهم.
لذا خرج نائب أمين عام حزب الله إثر العملية ليطالب الحكومة اللبنانية بالتنسيق مع الحكومة السورية من أجل تأمين “عودة طوعية للاجئين إلى سوريا”، وهذا المطلب ليس جديدا كما هو معروف لكنّه كان مطلبا مرفوضا من قبل أكثر من نصف أعضاء الحكومة الماضية والحالية، انطلاقا من أنّ لبنان لا يريد أن يكون طرفا في الأزمة السورية ويريد أن يكون منسجما مع الموقف العربي الذي اتخذ موقفا مقاطعا لنظام الأسد في سوريا بسبب ارتكاباته ضد شعبه، وعدم نجاح حزب الله في السنوات الماضية في خلق قنوات اتصال علنية ورسمية بين الحكومتين اللبنانية والسورية، لا يمنعه من خلق الظروف الضاغطة التي تساعد بنظره على فتح هذه القنوات، ويتم ذلك من خلال قلب الحقائق، فحزب الله الذي دخل الأراضي السورية عسكريا ورغم الاعتراض الرسمي اللبناني، بدل أن يبدأ من خطوة الخروج من سوريا استجابة لشروط السيادة اللبنانية، يعمل على فرض كل الظروف الضاغطة ليس من أجل عودة السوريين إلى بلادهم بل من أجل إلزام السوريين بالعودة ضمن ما يسميه المصالحات وهي في جوهرها الإقرار من قبل اللاجئين بأنّهم يلتزمون بشروط النظام ويقبلون بشروطه، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر الاعتقال والقتل والانتقام.
ومن جانب آخر يريد حزب الله أن يلزم الحكومة اللبنانية بالعودة إلى حصر العلاقة بالشأن السوري بالنظام نفسه، وهو في هذه المرحلة يستثمر معركة القضاء على الإرهاب الجارية من أجل تعزيز موقع الأسد في المعادلة ومن خلال مواقع تأثيره أي لبنان.
ومن المعروف أيضا أنّ فلول تنظيم داعش وتنظيم جبهة النصرة ما زالت تتواجد في بعض المناطق الحدودية من الجانب الشرقي، وهذه التنظيمات التي لا يمكن النظر إلى معنى تواجدها ونشأتها في سوريا وفي هذه المناطق على أنقاض الجيش الحر، إلا لكونها ساهمت بوعي وبغير وعي في تمدد النظام السوري وفي شيطنة اللاجئين السوريين في لبنان، وكانت أداة طيعة في توفير الحجج والذرائع لنظام الأسد وحلفائه في كثير من محطات الحرب على هذه الحدود. بل يمكن القول إنّ نشأة هذه التنظيمات تمت إلى حد بعيد بدعم من نظام الأسد وحلفائه ضمن الاستراتيجية التي لا تزال مستمرة والقائمة على أن تغطية فظائع نظام الأسد ضد شعبه لا يمكن أن تتم إلا بمحاولة خلق تنظيمات تحترف القتل وقابلة للشيطنة.
لبنان في المرحلة المقبلة يجري تحضيره بوسائل شتى إعلامية وسياسية واجتماعية ومخابراتية لمواجهة مع اللاجئين، ويتم ذلك من خلال تضخيم آثار وجود اللاجئين على البلد، من خلال شيطنة هذا الوجود على الكيان اللبناني، وعبر بث الشائعات وتضخيم أحداث معينة ولصقها بالوجود السوري في لبنان، ومحاولة تحميل اللاجئين مسؤولية الأزمات اللبنانية الاقتصادية والمالية والبطالة، وهو سلوك خبيث من قبل السلطة للتغطية على فسادها وتقصيرها، وللتغطية أيضا على الارتكاب الاستراتيجي المتمثل بتدخل حزب الله في سوريا والذي ساهم في تعميق الشرخ النفسي والاجتماعي بين فئة كبيرة من السوريين وفئة كبيرة من اللبنانيين، ويحاول حزب الله اليوم أن يجعله شرخا لبنانيا سوريا لغاية توريط اللبنانيين في هذا العداء الذي صنعه بالأساس تدخله الفج في الأزمة السورية.
تحويل حياة اللاجئين السوريين في لبنان إلى ما يشبه الجحيم هو الهدف الذي تتجه إليه السياسة اللبنانية والتي يدفع حزب الله نحوها، والغاية منه جعل العودة إلى العيش تحت سلطة نظام الأسد أفضل من البقاء في لبنان، فالمعادلة هي ذاتها إمّا داعش وإما الأسد، وفي لبنان إمّا البؤس والاعتقال أو العودة إلى الأسد. فبعد يومين على اقتحام مخيمات عرسال، احترقت مئات الخيام التي تقيم فيها عائلات سورية في البقاع الأوسط، ومن دون أن تعرف الأسباب إلا أن ذلك يصب في خيار الدفع باتجاه جعل الحياة صعبة إن لم تكن مستحيلة للاجئين السوريين في لبنان، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحوادث التي تطال اللاجئين تتم في مناطق تشكل بيئة حاضنة لهم، وهذا أمر ليس بريئا باعتبار أن الشرخ لم يعد بين بيئة حزب الله والسوريين، بل أيضا في بيئات معروفة بانحيازها إلى تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري
الدول العربية التي كانت تعرف بالمؤيدة للثورة السورية، والتي دعمت في مرحلة ما المعارضة السورية بوجه النظام وإيران، باتت اليوم بحاجة لمن يدعمها بوجه أزماتها، فحمى النزاعات وحالة الشقاق تتصاعد بين الدول العربية، التي يفترض أن تشكل العمق مقابل النفوذ الإيراني المكتسح يوما بعد يوم..
فأي مشهد قاتم يمكن تصوره لمستقبل النزاع مع ايران، في ظل هذا التراجع المطرد للنظام الرسمي العربي؟ الدول الخليجية متنازعة، وتركيا فقدت الثقة بمعظم حلفائها الخليجيين في الرياض بعد التطورات الاخيرة، وهذا يعني أن الخلافات الخليجية الأخيرة أفقدت اصدقاء سوريا العرب حليفا مهما بوجه ايران، هو تركيا الدولة الاقليمية الأهم التي كان من الممكن ان تشكل ظهيرا للدول الخليجية الداعمة للمعارضة.
بالطبع سيدفع هذا التطور الاتراك للعمل منفردين، وبالتنسيق مع الامريكيين والروس، دون الاخذ بالاعتبار وجود موقف عربي معارض للنظام، وهو موقف تلاشى عمليا في العامين الاخيرين، بل ان شريكا جديدا بات أكثر تاثيرا من تركيا في ما يتعلق بالموقف من الاسد، وهو السيسي، الذي يدفع باتجاه التطبيع العربي التام مع نظام الاسد.
يواصل النظام فرض واقعه العسكري على الارض بالدم والدمار، مدعوما بحلف وثيق منظم من طهران لبيروت، لكن في المقابل، فإن أكثر ما يشغل القاهرة والرياض هذه الايام ليس ضياع هذه الحواضر العربية في الشام والعراق، بل حسابات الثأر من الدولة التي لعبت دورا مهما في إيقاظ روح الثورة والتمرد العربي بوجه الأنظمة الرسمية، وإن كان محكوما بالسقف الأمريكي الذي لا يريد مثلا دعم حركات مقاومة كحماس في فلسطين، وغيرها من تيارات اسلامية، بات الثأر منها يهيمن على طموحات وخطط الدول التي قادت الثورات المضادة..
الكثيرون تعلقوا بالامل بعد زيارة ترامب للرياض، وعلاقته الوطيدة مع هذا المحور الممتد من ابو ظبي للقاهرة، وظنوا ان الجعجعة التي رافقت هذه الزيارة ستنعكس طحنا للمشروع الايراني في العراق وسوريا، وان الدعم الامريكي الوثيق سينعكس بقوة على جهود تلك الدول بمواجهة إيران، وبدأ البعض يسهب بالتفاؤل عن سيناريوهات لإدخال قوات من أصدقاء سوريا العرب مستعينين بالدعم الترامبي الكبير. ولكن تبين ان ما كان يجمعه هذا الحلف من قوة ومن مؤازرة امريكية، انما توجه بالنهاية ضد دولة شقيقة، كانت حليفتهم يوما بدعم المعارضة السورية! ولكنهم اكتشفوا أنها اكثر تهديدا لهم ممن يحتل عواصم اليمن والعراق وسوريا، ويقتل يوميا المئات من العرب، العرب الذين ظنوهم يوما «اصدقاء».
تسببت الحرب والفقر في نثر الأفغان في مختلف أرجاء العالم كما لو أنهم شظايا قنبلة. فالكثير من الأفغان وصلوا سن الرشد وهم يسكنون معسكرات اللاجئين في باكستان وإيران أو أصبحوا عمالا في دول كثيرة في المعمورة، ولا تزال الهجرة متواصلة. وحملت السنوات الأخيرة تطوراً خطيراً لجغرافية أفغانستان السكانية في المنفي، وهي أرض المعركة من أجل الدفاع عن نظام الأسد في سوريا.
فمنذ نحو عامين، غادر عبد الأمين (19 عاماً) بيته في فولادي فالي بمدينة باميان، وهي إحدى أفقر مدن أفغانستان، بحثا عن عمل في إيران، حيث يعيش نحو مليونا أفغاني غير مسجلين في إيران، بالإضافة إلى قرابة المليون إيراني مسجلين كلاجئين أفغان أيضا. وتعيش شقيقته وأخاها في أصفهان، ويأمل أن تتحسن حياته التي كانت تعتمد على الزراعة بمنطقة باميان الفقيرة، حيث يعيش نحو ثلثي سكان باميان بدخل لا يتعدى 25 دولاراً شهريا. ودفع الفقر المدقع وغياب فرص العمل آلاف الشباب الأفغاني بمدينة باميان إلى السفر بطرق غير مشروعة إلى إيران بحثا عن عمل، غير أن الكثيرين منهم مثل أمين انتهى بهم الحال بالتورط في حروب مع الغير.
واستطاع أمين أن يضمن دخلا يقارب 200 دولار شهريا كعامل بناء في أصفهان. والعام الماضي، استخدم مدخراته المتواضعة في السفر إلى العراق مع بعض زملائه من اللاجئين الأفغان. ثم اتجه إلى إيران.
وكما يحدث غالباً مع اللاجئين الأفغان في إيران، تعرض أمين للإهانة والتمييز، وعاش يملؤه الخوف من الترحيل مثل كل الأفغان هناك، وهو ما عبر عنه بقوله «إيران ليس بلادنا. فهنا إما أن تكافح لجمع المال أو تموت». وفي الشتاء الماضي، تقدمت السلطات الإيرانية لأمين بمقترح لتقنين وضعه في إيران ليتخلص من خوفه من الترحيل. عرض عليه الإيرانيون تصريحا بالإقامة لمدة 10 سنوات ومبلغ 800 دولار شهرياً لو أنه وافق على التوجه إلى سوريا للقتال لحماية «ضريح السيدة زينب».
ففي عام 2013، وعندما كانت قوات الأسد تخسر المعارك على الأرض في ظل تقدم الانتفاضة، قدمت إيران مليارات الدولارات إلى سوريا وأحضرت مقاتلي حزب الله، وشرعت في تكوين الميليشيات الشيعية من العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول ذات النسب المرتفعة من السكان الشيعة.
تعود العلاقة بين إيران وسوريا إلى وقت الدعم السوري لإيران أثناء الحرب الإيرانية العراقية، وتعتبر سوريا المحور الأهم في الحركة بين إيران وحزب الله في لبنان. تأتي غالبية الأسلحة في حزب الله من إيران من خلال سوريا. وتسمح سيطرة الأسد على سوريا لطهران بإعادة إمداد حزب الله بما يحتاجه وبمد جسر إلى البحر المتوسط.
وعمل الحرس الثوري الإيراني ومقاتلو حزب الله على تدريب أمين وغيره من المجندين الأفغان الذين يشكلون قوام «فيلق فاطميون» على استخدام الأسلحة وعلى المناورات الحربية لشهر كامل، وبعضهم تلقى التدريب ليصبحوا قناصة، وبعضهم تدرب على حرب الدبابات، وبعد التدريب أخذوا إلى سوريا للقتال في الصفوف الأمامية في دمشق وحلب.
بعد عجز نظام الأسد وداعميه من الروسي والإيراني وحزب الله من العودة والسيطرة على المدن والقرى المحررة بالقوة العسكرية، لجأ الى أساليب جديدة تمكنه من اختراق المناطق المحررة عبر فكرة ابتكرها وزير المصالحة الوطنية علي حيدر.
وركز حيدر على تعزيز فكرة المجالس الأهلية أو مجلس الأعيان في المناطق المحاصرة والتي تعتمد على المبدأ العشائري او العائلي، واعتبرها الوصي الوحيد المعترف به في التفاوض مع نظام الأسد في تلك المناطق.
وقد يظن الجميع أن هذه الظاهرة عفوية وتسير في سياق الأحداث بشكل غير مسبق التخطيط له ، الا أن ظهورها مر عبر مراحل تؤكد بأنها تنفيذ لمخططات سابقة ، حيث تمر على مراحل متسلسلة ومتناغمة مع الأعمال العسكرية للنظام وتشديد الحصار أو تخفيفه.
وأولى المراحل هي مرحلة التسويق لشخصيات المجلس من مدنيين وعسكريين يعملون لصالح النظام ومحسوبين على التيار الثوري ومعظمهم يكونون أصحاب خلفيات حزبية أو دينية مشبوهة يعملون على استغلال عواطف المدنيين مبررين لأنفسهم ترويج بعض المفاهيم كرفع المعاناة عن المدنيين، ومصلحة الأمة، وضرورة التنظيم، في الوقت الذي تتواجد فيه شخصيات ثورية حقيقية لكنها مسلوبة القرار ومهمشة الرأي ووجودها لإضفاء الشرعية والواجهة الثورية للتشكيل لا أكثر.
وتعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الأخطر والتي ينال فيها المجلس كامل التفويض ويستلم زمام القرار ويكون ذلك من خلال حدث جذري كخسارة معركة او وقوع مجزرة من الطيران او خلافات عائلية تملك سمة فصائلية ليلعب حينها على عواطف عامة المدنيين ويظهر بدور الحريص والوصي، ويترافق ذلك مع تصعيد من قبل النظام لتعزيز أفكاره لتمرير مشروعه ، وغالباً ما يتم طرح فكرة مجلس الاعيان من قبل أحد الجهات العسكرية التي يتعامل قائدها بالسر مع نظام الأسد، ويتذرع بحجة حاجة العسكريين الى جهات مدنية تكون مشكلة على أساس عائلي او عشائري، ويكون دور أشخاص مجلس الأعيان والعسكريين في الفترات السابقة بث الإشاعات بين الناس والتي تحرض على المؤسسات الثورية كالمجالس المحلية والعسكرية ومؤسسات الدفاع المدني والصحة وترويج فكرة أن سبب الاستهداف هو تلك المؤسسات ويتوقف التصعيد حينما تتم ازالتها ، وتحميل الفعاليات الثورية مسؤولية كل ما يحدث وإيجاد سبب وتبرير لكل جريمة يرتكبها النظام وتوجيه الأنظار الى أن السبب الأساسي هو نشاطات الفعاليات الثورية.
وتعتبر أخطر المراحل في تاريخ الأخيرة هي مرحلة التحشيد الشعبي خلفها باعتبار هذا الكيان الحامل لهموم المواطن والمداعي لحقوقه والمتواصل مع النظام بعد كل تصعيد والطلب منه إيقاف التصعيد ومعرفة مطالبه لتحقيقها وإيقاف التصعيد، وإجراء المفاوضات العلنية مع الجهات الثورية بالتزامن مع بث الإشاعات عليها في مكنة إعلامية مدروسة تعمل على عواطف المواطن المدني وتسعى الى تقسيمه الى قسمين الأول يريد أن يعيش بهدوء وناقم بعد كل قصف على فعاليات الثورة، والآخر يريد استمرار القصف والحرب باعتبار وجوده بوجودها وتظهره بأنه المستفيد من استمرارها على حساب الصنف الأول، وتزيد من هوة الشقاق بين الطرفين عبر مكنتها الإعلامية التي ترفع من وتيرة التشنج من التقسيمات التي تفترضها.
وبعد الاحداث الأخيرة التي انتهجتها يصطف خلفها شريحة كبيرة من المواطنين الذين تم اللعب على عواطفهم ويصبح لها شعبية وتيار كبير باعتبارها الملاك البريء الذي يريد الخير للآخرين والمخلص لهم والحريص على السهر لراحتهم.
وقد يستغرب الكثير ممن يقرأ التفسيرات الأخيرة وخصوصاً قاطني المناطق المحررة المفتوحة باعتبار هذه الظاهرة غير عامة، ولكن الكثير من الذين هُجروا قسراً يؤيدون ما تم ذكره، وأن مايسمى بالمجالس الأهلية او مجالس الأعيان التي كانت تعتبر نفسها " ثورية " هي السبب الرئيسي بما لحق بهم من تهجير، وأن كل أزلامها بقوا في مناطقهم على حساب تهجير كل من له علاقة بالثورة ولم يكن يعمل لصالح النظام.
وقد كشفت احداث التهجير الأخيرة في حمص ودمشق حقيقة مجالس الاعيان بأنها الحراك الناعم للثورة المضادة التي تساعد نظام الأسد على الدخول الى مناطق طالما كانت حلماً لقادته العسكريين بدون إطلاق أية طلقة، وأن ظهور هذه التشكيلات في المناطق الأهلية في الشهور الأخيرة ما هي إلا تطبيق لخطةٍ اثبتت نجاعتها في مضايا وعين الفيجة وبرزة والوعر والتل وغيرها وسيتم نقلها من المختبرات الصغيرة المحاصرة لتعمم على كل الأراضي المحررة، حيث بدأت تظهر في المناطق المحررة التي تقع على تماس مباشر مع مناطق النظام بوادر تلك التشكيلات في الشهور الأخيرة الماضية.
لم يعد السوريون يعوّلون كثيراً على أرقام الجولات التفاوضية وتزايدها المستمر، سواء التي تعقد في جنيف أو أستانة، أو في أماكن لا يتم الإعلان عنها، وتمرّر فيها القرارات الفعلية التي يعمل كل الأطراف المعنيين في الصراع السوري على ترجمتها عبر الاتفاقات، أو التمهيد لها ضمن معارك التصريحات الإعلامية المتبادلة. ولعل دخول مباحثات "أستانة"، المخصّصة لمناقشة الأوضاع الميدانية والصراع المسلح والإرهاب، جولتها الخامسة، وسط مزيدٍ من التصعيد العسكري في مناطق عديدة في سورية هو أحد تلك التقديمات المتبعة منذ ما يزيد عن خمس سنوات، بدءاً من جولة جنيف 1 في 2012.
وعلى الرغم من قناعة كل الأطراف أنه ما من حلول قادمة قريبة من دون أن تصل كل من الدولتين الكبريين، أي روسيا والولايات المتحدة، إلى تصوّر واضح بشأن الصفقة النهائية لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، وسورية خصوصا، إلا أن ذلك لا يعني أن مباحثات أستانة التي تدعمها روسيا، بالتعاون مع إيران وتركيا، تجري بعيداً كلياً عن إرادة الإدارة الأميركية التي تتّخذ موقع المراقب فيها لغايات كثيرة، منها دفع كل الأطراف إلى مزيدٍ من التورّط في حرب استنزاف لطاقاتها العسكرية والاقتصادية من جهة، ولعلاقات هذه الأطراف الديبلوماسية مع محيطها المحلي والإقليمي والعالمي.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم، أيضاً، إصرار روسيا على عقد جولة جديدة في أستانة، حيث إن دوراً فعلياً لهذه المباحثات تعوّل عليه موسكو في إدارة الصراع، ليصبح أكثر تكيّفاً مع الظرف الدولي، ما يسمح ببدء مشاوراتٍ سياسيةٍ تمهد لتقاسم النفوذ، وفق خطةٍ تقوم على شرعنة الوجود العسكري للأطراف الفاعلة، تحت مسمياتٍ جديدة، منها ما يتم تداوله باسم قوات "مراقبة" أو قوات "ضمان وقف إطلاق النار"، وكل هذا يمكنه أن يقود إلى المرحلة التي يتم الحديث عنها، والمتعلقة بإنشاء "مناطق آمنة" لن تكون من دون المرور فعليا بمرحلة وقف إطلاق النار، والذي يعني مناطق "خفض التصعيد"، وصولاً إلى المناطق الآمنة والعبور باتجاه الحل السياسي الذي تغيب معالمه اليوم عن جنيف، على الرغم من الجولات السبع الماضيات.
وتجتهد الديبلوماسية الروسية في تسويق عملها، بالتأكيد على اتفاق "خفض التصعيد"، ورسم خارطة جديدة لخطوط التماس، والالتزام بها من الطرفين (الأطراف)، نظاماً ومعارضة، وذلك للحؤول دون دخولها معارك جديدة، تلزمها التدخل والإخلال بدورها لمصلحة مساندة النظام السوري، ما يعني فقدان مصداقية دورها دولة ضامنة لوقف إطلاق النار، ليس فقط أمام دولٍ حليفةٍ مشاركة في الاتفاق، مثل تركيا. ولكن لإثبات أن يدها هي العليا في الشأن السوري أمام واشنطن، لزيادة حصتها في أي تفاهماتٍ جديدةٍ بين الدولتين، سواء في الملف السوري، مستقلا، أو بمبادلته بملفاتٍ خارجية، كالعقوبات الأميركية والأوروبية والدرع الصاروخي وأسعار النفط وطريق الغاز.
إلى ذلك، ولإنجاح مهمتها في بلورة اتفاقٍ قابل للتنفيذ، وليس للتهليل الإعلامي، وكسب مزيد من الوقت، على حساب دماء السوريين، لابد لروسيا أن تكون مستعدةً لتنفيذ مطالب مثل: أن تتعهد بسحب (وتجميع) المليشيات الأجنبية عن خط الجبهة، وإفساح المجال فقط لقوات حكومية شرطية، على أن تكون هي القوة التنفيذية في المناطق التابعة للنظام، مع توفير نقاط مراقبة تتبع للقوات الروسية، تكون هي الضامنة لتنفيذ الاتفاق كاملا. كذلك وقف أي طلعات جوية للنظام فوق المناطق غير التابعة لسيطرته، والأهم أن يضمن الاتفاق عدم تجاوز أطراف الصراع خط وقف إطلاق النار والخطوط الأخرى المتفق عليها، أي منع استغلال الاتفاق لكسب النظام، أو أيٍّ من داعميه أراضي جديدة، على حساب التزام فصائل المعارضة بالاتفاق.
من كل ما تقدّم، يمكن استنتاج أن روسيا أمام فرصةٍ حقيقيةٍ قد تمكّنها من العودة إلى واجهة العمل الديبلوماسي من جديد، على الرغم مما ارتكبته من جرائم بحق السوريين، قبل توقيعها على اتفاق مناطق "خفض التصعيد"، وبعده. ومثال ذلك ما يحدث في درعا من معارك، يحلّق فيها طيرانها، إلى جانب طيران النظام، ليسقط ضحاياه، من مدنيين ونساء وأطفال، وصل عددهم إلى حوالي مئة خلال الشهر الماضي، ما أحرج ممثلي الجنوب في مؤتمر أستانة، مع أن هذا لم ولن يمنع من تبقّى من الوفود من المشاركة.
من جهة أخرى، باتت فصائل المعارضة، مع هذا الدور الروسي المتناقض، أمام تساؤلاتٍ كثيرة، منها كيف يمكن أن يكون لها دورها ورأيها في ظل انقساماتها واختلاف أولوياتها، إنْ في خصوص المشاركة في مسار "أستانة" من عدمه؟ أو في خصوص كيفية التعامل مع الدور الروسي متعدّد الوجوه والوظائف؟
ليس جديداً أن يلجأ أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله إلى لغة التهديد والوعيد. منذ عام 2006، بات التهديد هو سلاحه الأكثر استعمالاً، بل شبه الوحيد، في مواجهة إسرائيل، فيما البندقية والرصاص والصواريخ وجهتها الشعب السوري. هدّد سابقاً بقصف خزانات الأمونيا، ثم هدّد بضرب مفاعل ديمونا. للفعلين الآنفين مفعول قنبلة نووية، علما بأن السلاح الدعائي الإيراني هو تحريم السلاح النووي بموجب فتوى غير مدونة تنسب للولي الفقيه. تقول إيران إنها لا تسعى لامتلاك السلاح النووي لأنه حرام، ولا يتردد نصر الله في التهويل بنووي غير مباشر، ستكون له النتائج والتبعات المحرمة نفسها. لا يهم. منذ زمن لم يعد نصر الله يهتم باتساق منطقه، وهذا ليس جديداً أيضاً.
الجديد هو تهديده إسرائيل، في خطاب يوم القدس الأخير، بأنه في أي حرب مقبلة مع «حزب الله»، فإن مئات آلاف المقاتلين ستُفتح لهم الحدود لمقاتلة إسرائيل من العراق واليمن وإيران وأفغانستان وباكستان! حشد شعبي أممي، يستكمل عملية إلغاء لبنان وإسقاط دولته.
استسهال تهديد من هذا النوع ربما يكون مرده أن «حزب الله» يعلم أن إسرائيل ليست الآن في وارد فتح جبهة معه. لا «حزب الله» يجرؤ على شن حرب يكرر مسؤولوه بإصرار أنهم لا يريدونها، ولا إسرائيل راغبة في دفع تكاليف توجيه ضربة له، وهي تراه يعمل بآلية التدمير الذاتي في سوريا وغيرها.
لكن هذا الاستسهال فضح ملامح، حرص نصر الله على تغطيتها بكثير من اللغو والتهديد والوعيد سابقاً. لطالما أصرّ «حزب الله» على أنه قادر على مواجهة إسرائيل رغم انشغالاته السورية، وأن جهوزيته تجاه إسرائيل غير منتقصة بفعل أولوية معركة حماية بشار الأسد. إذّاك، يُطرح السؤال: لماذا يحتاج «حزب الله» لمئات آلاف المقاتلين الأجانب لإسناده في معركة، صمخ آذاننا باستعداده لها؟ لماذا يعترف نصر الله، من حيث لا يريد، بأن حزبه ليس كافياً أو قادراً وحده على الحرب المقبلة؟
مفجع أن يعبر نصر الله بيسر عن تواضع قواه العسكرية، وحاجاته لحشد شعبي أممي، وهو يحاجج إسرائيل، فيما يتنافخ على مواطنيه اللبنانيين وجيرانه العرب. تواضع مع إسرائيل واستكبار على من لا ينبغي أن تكون بينه وبينهم عداوات أكبر من عدائه لإسرائيل.
حين انخرط «حزب الله» في الجريمة في سوريا، تذرع بأنه يحمي السيادة اللبنانية، ويبذل الدماء للدفاع عن لبنانيين ناكرين للجميل لا يرون المصلحة التي يراها هو لهم. فهل الحشد الشعبي الأممي الموعود يندرج هو الآخر في مهمة حماية لبنان واللبنانيين وسيادة وسلامة بلدهم؟ أم أن خطاب السيادة مجرد استعارة وقحة لخطاب خصومه وتجييره لصالح مشروعه ومشروع إيران؟
السؤال الأكثر بديهية الذي يطرحه الخطاب الأخير هو التالي:
قبل الحشد الشعبي الأممي، ألا يحتاج نصر الله لحشد شعبي لبناني، يسانده في الحرب المقبلة؟ الحقيقة، أن نصر الله لطالما كرر أن المقاومة لا تحتاج إلى إجماع وطني، بل إنها لم تحُز هذا الإجماع في تاريخها، وبالتالي هو ليس معنياً بأكثر من الإجماع الميليشياوي، أي إجماع مكونات الحشد الأممي، ومرجعيته الإيرانية.
ما يفضحه الاستسهال أيضا، هو مقولة الدولة التي ينتحلها نصر الله في كل خطاباته. لا يريد دولة، من يعد مواطني الدولة بمئات آلاف المقاتلين الأجانب في معركة لا يملكون حيال قرارها إلا التسليم. على بديهية هذا الاستنتاج إلا أنه في العمق هو الفيصل بين لبنانين اثنين. بين لبنان الذي يريده نصر الله مرتعاً لمئات آلاف المقاتلين الأجانب و«اللبنان الأغلبي»، أي أغلبية ناسه الطبيعيين، من مختلف الانتماءات السياسية، الطامحين إلى مئات آلاف السياح. بهذه البساطة.
خطورة كلام نصر الله أنه يوفر كل الحجج للمجتمع الدولي ومنطق مؤسساته، للقول إن لبنان دولة فاشلة من جهة، ولإسرائيل لتقول إنها تخوض حرباً استباقية، لو قررت، ضد لاعب يجاهر بأنه سيجلب مئات آلاف المقاتلين الأجانب لمحاربتها في أعلى لحظة استنفار دولية ضد إرهاب الميليشيات غير النظامية.
مثل هذا الوعيد لا يردع، بقدر ما يوفر أسباباً إضافية لإسرائيل لتمارس ضد لبنان ما يبقي هذا البلد منهكاً وضعيفاً، وعاجزاً عن استثمار مقدراته الطبيعية والبشرية ليكون منافساً لإسرائيل.
أي سعادة في تل أبيب بعد هكذا خطاب.
افتراض أن هذا الخطاب يردع إسرائيل هو مزحة سمجة، وخرافة.
في الوقت الذي يعدنا حسن نصر الله باستقبال مئات آلاف المقاتلين من الميليشيات العراقية والسورية والإيرانية واليمنية والأفغانية والباكستانية، تعلن إسرائيل الأرقام السياحية التالية:
منذ بداية عام 2017 دخَّلت إسرائيل أكثر من ملياري دولار من السياحة، وزارها في الأشهر الخمسة الأولى من العام نحو مليون ونصف مليون سائح، منهم 347 ألف سائح في شهر مايو (أيار) وحده.
وتعكس الأرقام رعباً من نصر الله وحزبه والميليشيات العراقية والسورية والإيرانية الموعودة، بحيث زادت السياحة 25 في المائة عن أرقام العام الماضي.
نصر الله يعدنا بالمسلحين، ونحن نحلم بالسياح، وإسرائيل تنعم باستقبالهم وعائدات استقبالهم.
غداة انقلابه عام 1970، أتى حافظ الأسد برئيس اتحاد الطلبة آنذاك متعب شنان، وعيّنه وزيراً للدفاع، وأتى بنقيب المعلمين أحمد الخطيب وعينه رئيساً للجمهورية، بينما تسلم هو رئاسة الحكومة الموقتة بضعة أشهر قبل تسلمه الرئاسة رسمياً. أول وزير دفاع في عهده لم يكن عسكرياً، ولم يكن من رجالات السياسة أو رجالات البعث المعروفين، وكان مفهوماً أن الأسد يريد بقاء المنصب شاغراً عملياً ليبقى هو على رأس الوزارة التي أدار منها الانقلاب على رفاقه.
وزير دفاع الأسد الأشهر كان مصطفى طلاس، الذي توفي في باريس قبل أسبوع، فهو بقي في المنصب 32 عاماً بدءاً من 1972. ووفاته حازت اهتماماً واسعاً في الأوساط السورية، للدور الذي يُعزى إليه في تثبيت حكم الأسد أو التغطية عليه، وأيضاً لما يشوب سيرته من طرائف جعلته موضع تندر أو سخرية. فالراحل كان الوحيد المستعد للإفصاح علناً عن بعض ما يتحرج باقي المسؤولين في قوله، مثل تصريحه لمجلة «دير شبيغل» الشهير بأنه مع حافظ الأسد وأن باقي الطاقم حصلوا على السلطة بالبارودة، ومن يريد أخذها فليأتِ ببارودة أقوى. أو من نوع إطلاق نعوت مشينة على مارغريت ثاتشر إثر اتهام نظام الأسد بالضلوع في تفجيرات لوكربي، بما في ذلك تلميحه في مقال (نشرته آنذاك جريدة تشرين الرسمية) إلى خلوات خاصة تجمعها برونالد ريغان! وصولاً إلى تجرّئه في مذكراته على الحديث عن صلابة رأس حافظ الأسد، إذ كان ينطح زملاءه في الكلية العسكرية، حيث أدت ذكريات من هذا النوع إلى سحب المذكرات من الأسواق.
صورة طلاس لدى عموم السوريين أو متابعي الشأن السوري أنه كان وزيراً شكلياً للدفاع، فيما يرى قسم لا يُستهان به أنه كان مجرد واجهة سنيّة لجيش يسيطر عليه فعلياً ضباط علويون. في الحالتين، بتركيز على الجانب الطائفي أو من دونه، لا تقدم هذه الرواية المبسّطة معرفة جيدة عن مشروع حافظ الأسد الذي كان طلاس شريكاً كاملاً فيه، بما في ذلك قبوله لنفسه تلك الصورة المتهافتة لمنصبه، بل مبالغته فيها أحياناً.
يجوز وصف طلاس بأنه كان وزير الدفاع السوري ما بعد الأخير، إذا قلنا إن آخر وزير دفاع فعلي كان حافظ الأسد نفسه. فالأخير كان مثلاً يملك صلاحية الأمر بانسحاب القوات السورية من قسم كبير من الأراضي المحتلة عام 1967 قبل تعرضها لأي خطر، على ما ترويه وثائق إسرائيلية سرية كُشف عنها مؤخراً، والأهم أنه كان آخر وزير دفاع يسيطر على الجيش، ويستطيع من خلال سيطرته عليه تنفيذ انقلاب سلس وناجح. هذه الناحية تحديداً كانت الشغل الشاغل لحافظ الأسد، ولهذا السبب أتى بأول خلف له من خارج الشخصيات العسكرية أو المدنية ذات الوزن.
لقد كان طلاس شريكاً تاماً في تفريغ منصبه من أي معنى جدي له، وتطلب هذا تفريغ الجيش نفــسه من المعنى المتعارف عليه في الجيوش ذات التسلسل الهرمي. ما حدث وفق منهج متماسك منذ انقلاب الأسد يفسر السهولة التي سيُقاد فيها الجيش مرةً إلى سحق التمرد «الإخواني» مع سحق مدينة حماة بأكملها، ومرة أخرى إلى تدمير وسحق البلد كله بعد اندلاع الثورة. المسألة لم تكن في الإتيان بشخص يرتضي أن يكون واجهة لمنصب، هي في تحطيم المؤسسة ذاتها برضا وتعاون من هو نظرياً في رأس الهرم منها.
كان شقيق حافظ الأسد رفعت، أيام كان الأول وزيراً للدفاع، قد أصبح قائداً لما يُعرف باسم سرايا الدفاع التي ورثت مهام الحرس القومي في حماية النظام، وكان صديق حافظ الأسد علي حيدر يرأس قوات النخبة المعروفة بالوحدات الخاصة، وفي السبعينات أُسِّس لواحد من ضباط بيت الأسد تشكيل يسمى سرايا الصراع، بينما كان يصعد نجم شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة للمهام الخاصة أيضاً. في الواقع كان الجيش برمته يتحول إلى إقطاعيات عسكرية، يرتبط قائد كل منها مباشرة بشخص حافظ الأسد.
وظيفة تلك الإقطاعيات كانت واضحة لجهة حراسة نظام الأسد أولاً وأخيراً، وهذه «العقيدة القتالية» لم تكن سراً، بل كان منتسبو قوات النخبة تلك يُدربون على الطاعة المطلقة لقادة إقطاعياتهم، وعلى تقديس شخص الأسد بدرجات متفاوتة تكشف على مستوى تذلل أولئك القادة أمام رئيسهم. وحدهم منتسبو إقطاعية رفعت الأسد كانوا يكرسون تقديسهم لشخصه، باعتباره شقيق الرئيس ووريثه المنتظر، لتُحلّ الإقطاعية بعد تنحيته لمصلحة الابن باسل، ويُدعّم الحرس الجمهوري كقوة نخبة جديدة مع الفرقة الرابعة بقيادة فعلية من ماهر الأسد. تلك التربية العسكرية القائمة على التضحية بالذات تفسّر أيضاً حجم الخسائر البشرية الهائلة التي منيت بها قوات الأسد في جميع المعارك الداخلية والخارجية، إذ غالباً كان يُزجّ بالعناصر في مواجهات مكلفة بشرياً، وغير متوقعة من الخصم لهذا السبب، كأن يُقتحم حقل ألغام معروف من دون كاسحة ألغام كما حدث في إحدى المعارك في لبنان.
إلى جانب تلك الميليشيات، قوّى حافظ الأسد حضور المخابرات العسكرية لتكون عيناً إضافية على الجيش، وقوّى فرعاً مستقلاً هو المخابرات الجوية في دلالة على الأهمية التي يوليها لسلاح الطيران. وكما هو معلوم تداخلت صلاحيات هذه الأجهزة في شكل يؤدي إلى تنافسها لمصلحته، ولم توفّر عسكرياً أو مدنياً من قمعها.
هذا التاريخ، الذي كان مصطفى طلاس شريكاً فيه، لا يصحّ فيه التوقف عند سردية الواجهة السنية لتحكّم علويّ، لأنه تحت يافطة التآمر الطائفي يُغطى على تحولات أعمق أصابت المؤسسة العسكرية. استرجاعه سيكون مفيداً لفهم انكشاف البنية الصلبة للنظام منذ اندلاع الثورة عما تبقى من تلك الميليشيات فقط، ومن ثم تشكيل ميليشيات جديدة تحت مسميات مختلفة. ليست إيران من أدخل فكرة الميليشيات كما يُشاع الآن، وليست روسيا من يحارب هذا الطابع الميليشياوي، فهي أيضاً ماضية في تأسيس ميليشياتها الخاصة في سورية. ثمة نهج عمره نصف قرن يستحق أن يُسمى باسمه، وألا تكون المراهنة مستقبلاً على تعديل الميزان الطائفي، بل على التخلص نهائياً من كذبة كبرى اسمها الجيش السوري.
منذ وضع أبو بكر البغدادي نصب عينيه إحياء «الخلافة»، كانت السيطرة على الأرض أساسية في مشروعه التدميري. بالاستحواذ على الأرض، كان يمكنه أن يجمع حشود الإرهابيين من مختلف الأصقاع، للقيام بمهمات الإشراف على إرهاب السكان وتعذيب السجناء وذبح الرهائن وتدمير المساجد والمتاحف والآثار. كل ذلك كان بحاجة إلى رقعة جغرافية يسيطر عليها هؤلاء الإرهابيون، ويرفعون فوقها علمهم الملوّن بالأسود، بلون وجوههم وعقولهم، ويزعمون تنفيذ قوانين «دولتهم»، وفرض «عملتهم» التي سكّوا نقودها، وتحصيل الجزية من «مواطنيها»، وترتيب امور الولاية والقضاء والاحوال الشخصية وأصول الملبس والمأكل، وسائر حاجات الناس اليومية. باختصار، الأرض هي الترجمة الحسية لما أراده البغدادي واتباعه من رفع شعارهم الشهير «باقية وتتمدد»، للإيحاء بأن هذا مشروع غير قابل للزوال. وكان الوهم الذي سيطر على عقول هؤلاء، إذا صحّ أن في رؤوسهم شيء من هذا القبيل، أن السكان الذين ارتكب المجرمون في حقهم أبشع انواع الرعب، والدول التي أذاقوا رعاياها أسوأ ما عرفته أساليب التعذيب، أن كل هؤلاء سيخافون من دكّ أسوار تلك الدولة، أو الانقلاب عليها، وأن قدرتها على التدمير ستكون كافية لحمايتها من الزوال.
ما شهدناه في الموصل، وما يقترب حصوله في الرقة، يؤكد أن «دولة» البغدادي لن تبقى ولن تتمدد. وإذا كان البغدادي قد استغل ظروف الموصل وتواطؤ الحكم في بغداد قبل ثلاث سنوات، مثلما استغل انهيار الكيان السياسي والجغرافي في سورية وتواطؤ نظام بشار الأسد، وتزويده «خلافة» البغدادي بمن أطلق سراحهم من السجناء، فإن صلابة القرار السياسي في العراق، الذي شاركت فيه معظم المكونات السياسية، مضافاً إلى الضربات المحكمة للتحالف الدولي في سورية، والدور المهم الذي تلعبه هناك «قوات سورية الديموقراطية»، نجحت معاً في تقليص الرقعة التي يستطيع البغدادي، سواء كان حياً أو وهماً، أن يستمر في ارتكاب جرائمه فوقها.
لم يخسر البغدادي الأرض فقط، بل خسر أيضاً الأموال التي كان يستطيع بها شراء الولاءات ودفع أجور عناصر الاجرام الذين كان يستقطبهم. وفي الأرقام إن مداخيل التنظيم هبطت من 80 مليون دولار شهرياً في الربع الثاني من عام 2015 إلى ما لا يزيد عن 15 مليوناً في شهر أيار (مايو) الماضي، وهو ما يدفع كثيرين من الذين انضموا إلى التنظيم من مختلف الدول إلى سلوك طريق العودة عبر الحدود التي قدموا منها.
«داعش» ارتكب كذلك الجريمة الأكبر باستخدامه المزور لكلمة «الخلافة»، كغطاء لممارساته البعيدة من كل ما يتصل بالإنسانية، ممارسات لا يربطها شيء بالقيم التي عرفتها امبراطوريات الخلافة الإسلامية التي قرأنا عنها، والتي عاشت في ظلها شعوب وقبائل من مختلف الجنسيات والطوائف والأعراق. نجح البغدادي بشعاراته الزائفة وحملاته الإعلامية في استقطاب مغفّلين ومحتاجين وأصحاب عقول مريضة، قدم بعضهم من دول غربية كانت توفر لهم ولعائلاتهم أسباب الأمان، لكنهم تخلّوا عن ذلك بحثاً عن سراب «الخلافة». غير أن علاقة «داعش» بالسكان المحليين في المناطق التي استولى عليها بقيت علاقات استقواء وإرهاب وتخويف دائم، خصوصاً مع إرغامهم على البقاء في البيوت المعرضة للقصف وللتدمير، في كل مناطق سيطرته، وتحولهم نتيجة ذلك إلى دروع بشرية، لمعرفته أن الطائرات والدبابات والمدافع المهاجمة ربما تكون أكثر رحمة منه بهؤلاء السكان الذين يدّعي ممارسة الحكم و»الخلافة» لإنقاذهم. يكفي النظر إلى وجوه هؤلاء الرهائن عندما يتاح لهم الهرب من جحيم «داعش»، وسماع تعليقاتهم ووصفهم ما عانوه في السنوات الثلاث الماضية، لإدراك حجم الجريمة التي ارتكبها من أتاحوا لهذا التنظيم المجرم السيطرة على المساحات التي سيطر عليها في بلدين من أعظم بلدان العرب.
يُكتب الكثير هذه الأيام عن أن خسارة «داعش» للأرض لن تعني نهاية هذه الافكار المجنونة والمتخلفة، ولا نهاية هذا الإجرام المتنقل في ثوب «الذئاب المنفردة» التي تفلت بين وقت وآخر في أحد شوارع أو أرصفة المدن الغربية. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنه لا يجوز التقليل من أهمية خسارة الأرض بالنسبة إلى «داعش»، وهو السبب الذي يدفع عناصره للاستماتة في الدفاع عما بقي منها، على رغم الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين ما بقي من قوات التنظيم وما تملكه القوات المهاجمة.
منذ بدايات القرن العشرين، اعتُبر النفي العقوبة الثانية بعد الإعدام، واعتبر أشد قسوة على الروح الإنسانية من عقوبة السجن مدى الحياة، ومن عقوبة السجن مع الأعمال الشاقة. إذ يعتبر علماء النفس وعلماء المجتمع أن اجتثاث الإنسان من بيئته ووضعه قسريا في بيئة جديدة بالكامل، قريبة عليه في تفاصيلها، المكان والمناخ والثقافة، عقوبة. والأهم هو اللغة، وطبيعة الحياة، ولعل هذا كله كان في وسع الذات البشرية أن تتحمله، لكن ما يجعل الذات البشرية تشعر بذلك الشعور القاسي القاتل من حالة عدم الأمان، ومن حالة السقوط في هوّة الغربة، والاغتراب، هو الوجود في مكان لا يعترف بك وبذاكرتك، هو هذا التحول من كائن له مقوماته الزمنية، من ماض وحاضر ومستقبل، إلى كائن وحيد بدون ماض، ولا حاضر، ولا أي احتمال لمستقبل، بل على العكس، هو انعدام لكل الأزمنة، وضياع حقيقي لمقومات الشخصية، ومقومات الهوية.
عرف التاريخ البشري حالات نفي كثيرة، بدأت مع بدايات الحضارات البشرية، إذ استخدمت إمبراطوريات في العصور القديمة، مثل ممالك آشور وبابل وروما، التهجير القسري الشامل لشعوب كاملة، وذلك عقوبةً لتمرّدها، وذلك من منطلق الاعتقاد بأن الشعب المهجّر من أرضه سيتفكّك ويزول. وبالفعل، لم تصمد غالبية الشعوب أمام التهجير، وقد استمرت آلية التهجير والنفي، وصولا إلى العصور الحديثة، وكان أشهرها حالات نفي رؤساء، أو ملوك، أو زعماء ثورات، أو زعماء سياسيين. فقد جرى تهجير نابليون إلى جزيرة ألبا، ومن ثم إلى سانت هيلينا. وتأسست أستراليا منذ البداية مستوطنة عقابية للإمبراطورية البريطانية تنفي إليها من يعارضها، أو من يتمرد عليها. ومعظم هؤلاء المنفيين قتلهم المنفى، بعد أن عمر في أرواحهم حالاتٍ من القهر والوجع لا تحتمل، معلقين على جدران المنافي، بلا لون، ولا انتماء، ولا انسجام، كأشجارٍ اقتُلعت من تربتها وغُرزت في أراضٍ أخرى، وكان لابد لها أن تذبل وتنكسر، وتصفرّ ثم تهوي.
وبعد ذلك، بدأت الحكومات الدكتاتورية في العالم اتباع الأسلوب نفسه، ولكن بطريقة أكثر قسوة ووحشية، لهشاشتها، ولرعبها الدائم من ثورات شعوبها عليها، فقد قام الدكتاتور جوزيف ستالين بتهجير شعوب بأكملها إلى سيبيريا، واستخدمت حكومة ألمانيا النازية مبدأ التهجير الشعبي القسري.
تمّت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، المصادقة على ميثاق جنيف الرابع الذي يحظر طرد السكان المقيمين في أراض محتلة. واعترفت كل الدول به، ووقّعت عليه، وهذا ما أنتج هبوطا حادا في حالات التهجير إلى بلدانٍ أخرى. كما أقرّت منظمة العفو الدولية، تماشياً مع القانون الدولي، معارضتها كل حالات النفي القسري، وهو ما عرّفته بأنه عندما تُجبر حكومة ما أفراداً على مغادرة بلدهم، بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات النابعة من ضمائرهم، أو بسبب أصلهم العرقي أو جنسهم أو لونهم أو لغتهم أو أصلهم القومي أو الاجتماعي، ثم تمنعهم من العودة. لذا اعترفت "العفو الدولية" بحق الذين يتم نفيهم قسراً بالعودة إلى ديارهم. اعتمادا على القانون الدولي، بصرف النظر عن الظروف التي تم فيها نفي الأشخاص. وكما أن من المبادئ المهمة لحقوق الإنسان، المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق العودة، إذ تنص المادة 13 على أنه "يحق لكل فرد أن يغادر أية بلد، بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليها". وفي المادة 14 لا يجوز حرمان أي شخصٍ بصورة تعسفية من حق الدخول إلى بلاده."
اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات على إعلان حقوق الإنسان، وبعد محاولات البشرية في قطع أشواط طويلة لجعل الإنسان يعيش ضمن شروطٍ من الحياة الكريمة، يمارس النظام السوري آلية التفكير نفسها التي مارستها الدكتاتوريات، منذ أكثر من مائة عام، وبوحشيةٍ لم يعرف لها التاريخ الحديث مشابها. وأمام كل أنظار العالم الذي يتشدّق بتقدّمه التكنولوجي، وبتقدّم عالم الميديا والصورة والتواصل والسرعة، يهجّر النظام السوري ما يزيد عن نصف سكان أقدم وأعرق بلد في المنجز الحضاري البشري، وينفيهم نفيا قسريا، ويوزّعهم على كل خريطة العالم، ثم، بكل وقاحة، ينشر فيديو لزيارة سخيفة يقوم بها مع عائلته إلى بيت ريفي بسيط في ريف حماه، ويخلع حذاءه في تمثيلية فاشلة، ناسيا أنه داس بقدميه وبالحذاء المخابراتي العسكري القذر على كل ما صنعه العالم من قوانين وحقوق. وأنه في اللحظة التي دخل فيها هذا البيت، ترك مئات الآلاف من السوريين بيوتهم قسرا، ومضوا إلى منافيهم الباردة البعيدة، وهم يردّدون ما قاله محمود درويش:
قُلْ للغياب: نَقَصتني / وأنا حضرتُ.. لأُكملَكْ.
عندما التفت قوات من «الحشد الشعبي» الموالي لإيران وميليشيات تابعة لها عند نقطة على الحدود العراقية السورية مطلع الأسبوع الماضي، كانت طهران تُعد للخطوات التالية في خطتها لفتح طريق بري يربطها بالبحر المتوسط، ومن أهم الأهداف التالية التي تتضمنها هذه الخطة محاولة الوصول إلى معبر التنف الاستراتيجي في منطقة المثلث الحدودي العراقي السوري الأردني، والسيطرة على مدينة البوكمال ثاني أكبر مدن محافظة دير الزور، والخاضعة لتنظيم «داعش» الآن، وتكمن أهمية التنف والبوكمال في أن السيطرة عليهما تتيح طريقاً ممهدة بين المحافظات «الشيعية» جنوب العراق والبادية السورية، ومنها إلى تدمر ثم محيط دمشق، وصولاً إلى القلمون الغربي والحدود اللبنانية.
ويتطلب ذلك أن تسبق الميليشيات التابع لإيران فصائل سورية معارضة يُدرِّبها خبراء أميركيون وبريطانيون إلى خوض المعركة الفاصلة ضد «داعش» في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في محافظة دير الزور.
لكن معركة التنف والبوكمال صعبة بالنسبة للميليشيات الإيرانية، وربما يتعذر خوضها إذا صمدت مذكرة التفاهم الأولية التي اتفقت واشنطن وموسكو عليها الأربعاء الماضي، وتضمنت عدم وجود ميليشيات غير سورية بعمق 30 كم من حدود الأردن، وكانت هذه المذكرة نتيجة لإصرار واشنطن على «الخطوط الحُمر» التي رسمتها في منطقة التنف ومحيطها، وسعت إلى تأكيدها فعلياً عبر عدة عمليات عسكرية أثارت جدلاً واسعاً في الأسابيع الأخيرة. كانت الأولى في 18 مايو عندما قصفت طائرات التحالف الدولي قافلة حاولت التقدم نحو معبر التنف وأوقعت خسائر في صفوفها، وأعقب ذلك في 29 من الشهر نفسه إلقاء منشورات على تجمعات لقوات سورية نظامية وميليشيات تابعة لإيران لمطالبتها بالتراجع إلى منطقة حاجز ظاظا (على بعد 75 كم من معبر التنف) التي سبق أن أبلغت واشنطن موسكو ضرورة توقف هذه الميليشيات والقوات عندها، وجاءت العملية الثانية في 6 يونيو حيث قصفت طائرات أميركية ميليشيات إيرانية وقوات نظامية لم تستجب للتحذيرات. أما العملية الثالثة فكانت في 9 يونيو عشية الاختراق الذي حققته ميليشيات تابعة لإيران، وأسفرت عن إسقاط طائرة «درون» من دون طيار تابعة لقوات النظام السوري، كما أسقطت مقاتلة أميركيةٌ طائرةً سوريةً من طراز «إس -يو 22» في 18 يونيو رداً على قصفها لمقاتلين أكراد تدعمهم واشنطن، وبعدها بيومين (20 يونيو) تم إسقاط طائرة «درون» أخرى إيرانية الصنع أطلقتها قوات موالية للنظام، كما نشر الأميركيون راجمات الصواريخ المتطورة «هيمارس» في قاعدة التنف العسكرية.
وتمسكت الولايات المتحدة في الاتصالات التي أجريت مع روسيا بمنع مرابطة ميليشيات تابعة لإيران في المنطقة الممتدة من القنيطرة في الجولان إلى درعا وريف السويداء وصولاً إلى معبر التنف، مع إمكان أن يكون لنظام الأسد وجود رمزي في معبر نصيب مع الأردن.
لذا فالأرجح أن معركة إيران لتأمين طريق إلى البحر المتوسط ستكون أكثر صعوبة على الجانب السوري للحدود، منها على الجانب العراقي الذي تسيطر قوات «الحشد الشعبي» على منطقة واسعة منه تتيح لها التحرك بسهولة بين نينوى والحسكة.
والأرجح أن تسعى إيران، في حالة صمود التفاهم الأميركي الروسي القلق، لتسريع العمل الذي بدأته شركاتها لشق طريق التفافية وراء الموصل إلى الحدود لربطها بالطريق إلى دمشق، بعد أن نجح تكتيك ميليشياتها عندما التفت على المنطقة التي تعتبرها واشنطن ضمن «الخطوط الحمر»، ووصلت إلى الحدود. ورغم صعوبة هذا المسار وكلفته المرتفعة، فقد لا يكون أمام طهران غيره حال إصرار واشنطن على منع أي وجود لميلشياتها في المنطقة التي يمر عبرها المسار الأفضل للطريق بالنسبة لإيران إلى البحر المتوسط.
وربما تكون الأسابيع المقبلة حاسمة بشأن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لإيران، مثلما ستمثل اختباراً بالغ الأهمية لالتزام السياسة الأميركية بتقليص نفوذ طهران في المنطقة، ولذا ستتجه الأنظار خلالها إلى جنوب سوريا، وبالأخص المنطقة الممتدة من ريف دمشق إلى التنف، ومن محور ريف السويداء الشرقي جنوباً إلى أطراف دير الزور شرقاً، فضلاً عن درعا التي قد تصبح معركتها الأكثر عنفاً منذ معركة حلب، بسبب أهميتها للنظام السوري الذي يتطلع إلى استعادة أكبر جزء ممكن من المناطق الجنوبية، ولإيران التي تعتبر السيطرة عليها جزءاً مهماً في خطتها لتأمين طريقها إلى البحر المتوسط.