مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٩ يوليو ٢٠١٧
ترامب في سورية

ظهر تزايد في الدور الأميركي في سورية في الأسابيع التي تلت استلام دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. وظل الحوار الأميركي الروسي راكداً، على الرغم من كل الآمال التي عُقدت على نجاح ترامب في ما يتعلق بعلاقته مع روسيا. لهذا، ظلت المشاركة الأميركية في مفاوضات أستانة وجنيف "خارجية"، حيث تعاملت بوصفها مراقباً. لكنها أوجدت قاعدةً عسكريةً في منطقة التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية، بعد أن أقامت، في فتراتٍ سابقة، قواعد في الشمال الشرقي، في سياق التنسيق مع "قوات سورية الديمقراطية".

ولقد قصفت قواتٍ داعمة للنظام السوري، حين تقدّمت باتجاه التنف، بعد أن كانت قد قصفت مطار الشعيرات بصواريخ بعيدة المدى، وأسقطت طائرةً له، يُقال إنها كانت تقصف "قوات سورية الديمقراطية".

ضمن ذلك كله، ما هو الممكن في سياسة أميركا تجاه سورية؟ يبدو واضحاً أن أميركا تريد تصفية وجود "داعش" في الرّقة، وحصره في دير الزور، وربما التقدّم من الجنوب لوصل التنف، حيث باتت تتمركز في الرّقة، وأيضاً ربما الاندفاع للسيطرة على الشرق والشمالي الشرقي، وفرض أمر واقع يتمثل في سيطرة أميركية على جزءٍ من سورية في مقابل السيطرة الروسية على الجزء الآخر. في هذه المعادلة، يصبح التفاوض الأميركي الروسي مبنياً على "توازن قوى" في سورية، وبالتالي، يجعل المفاوضات تبدأ من أساسٍ مختلفٍ عما يجري حالياً، حيث تتحكّم روسيا بكل اللعبة. ولقد عزّزت من مسار أستانة بديلاً عن جنيف، وهو المسار الذي يعني فرض "الحل الروسي" القائم على بقاء الأسد، ومحاولة دمج بعض الكتائب "الإسلامية" في بنية الدولة، على الرغم من أن هذا المسار تتشارك فيه تركيا التي تضغط على الكتائب "الإسلامية" للمشاركة، وقبول الشروط التي يجري التوافق عليها بين كل من تركيا وروسيا، والتي تعني إعطاء تركيا دوراً في السيطرة على الشمال الغربي من سورية، وإشراك "جماعتها" في الحل السياسي الروسي.

أميركا تحسم في العراق، وقد ظهر أن "داعش" يتلاشى، ولقد بات التأثير الأميركي كبيراً هناك، حيث لا بد من أن يصبح العراق مجال سيطرةٍ أميركيةٍ بديلة لسيطرة إيران. ولهذا، يصبح تركيز أميركا على وضع سورية، ولا شك في أنها تقدّمت في حسم الحرب ضد "داعش" في الرّقة، ووضعت حدوداً لنشاط قوات النظام السوري، على الرغم من كل التحذيرات الروسية، وتعزّز من دورها السوري أكثر مما كان، من خلال إرسال قوات برية وصواريخ مضادة للطائرات ودبابات. وبهذا، فقد زرعت عدداً من القواعد العسكرية، بـ "التحالف" مع "قوات سورية الديمقراطية"، وكتائب من الجبهة الجنوبية، جرى تدريبها في الأردن. هذا الوضع لا شك يجعل التفاوض الأميركي الروسي مختلفاً عمّا كان في السابق، وبالتالي يفرض شروطاً جديدة.

لكن، لا بد من ملاحظة أن أميركا ليست معنية بسورية في نهاية الأمر، وأن دورها الراهن يأتي في سياق كسب الأوراق في التفاوض مع روسيا. وهو الأمر الذي يعيد إلى أن الوصول إلى حلّ ما زال مرتبطاً بما يمكن أن تتفق عليه روسيا وأميركا، ومن دون ذلك سيبقى الصراع قائماً. والوصول إلى توافقٍ لا يرتبط بوضع سورية فقط، بل يشمل على الأقل كما تريد روسيا، التوافق في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا من "الغرب". وهذا أمرٌ لا يبدو أن في الأفق ما يشير إلى أنه قريب، نتيجة التشدّد الروسي، فروسيا تريد أن تظهر هي المنتصرة في هذا "الصراع"، وأنها كسبت ما يجعلها قوةً عالمية مهيمنة، في وقتٍ يبدو فيه أن أميركا ما زالت في غير وارد التخلي عن دورها العالمي الأول، وأن كل ما تقبله أن تشكّل مع روسيا ثنائياً "يحكم العالم".

اقرأ المزيد
٩ يوليو ٢٠١٧
بوتين والخريطة الصعبة

يجلس فلاديمير فلاديميروفيتش على كرسي مكتبه المذهب في قصر الكرملين، وأمامه خريطة للعالم مكتظة بالدوائر الحمر والزرق التي تحدد مناطق النفوذ الروسية والأميركية، وتتقاطع خصوصاً في الشرق الأوسط، وتتداخل كثيراً في شرق أوروبا. يطرق العقيد السابق في الاستخبارات مفكراً كيف يمكنه معالجة الخلل الفادح وجعل اللون الأحمر طاغياً، أو على الأقل مساوياً للأزرق «اليانكي».

«حليفه» المفترض في البيت الأبيض الذي يلتقيه غداً للمرة الأولى، يواجه صعوبات متزايدة وأزمة ثقة بخياراته، قد تفضي في أقل تعديل الى حصاره وفرض رقابة على قراراته، مثلما فعل مجلس الشيوخ أخيراً عندما ألزمه بالرجوع إليه قبل التفكير في أي تخفيف للعقوبات على روسيا، فيما لا يملك في مواجهة الإنهيار المريع في شعبيته، سوى «تغريدات» يستنجد بها لمقاومة ماكينة إعلامية جبارة تعمل بلا كلل للنيل منه، بعدما تحدّاها وقرر تجاوزها.

اللقاء يعقد على أرض ألمانيا (الغربية سابقاً) التي طالما راقبها بوتين من وراء الجدار الذي انهار وجرف معه خزانة ملفاته. وعلى عادة ضباط الاستخبارات، ظن «صاحب» الكرملين أن بإمكانه التلاعب بالأميركيين «السذج»، قبل أن يتبيّن أن الخندق الذي حفره أوباما أعمق مما كان يتصور. تدخله في خصوصياتهم أيقظ مناعة الأميركيين، ورفع العداء لروسيا الى درجة تدعو للترحم على «الحرب الباردة». خسر بوتين الولايات المتحدة، ولم يربح ترامب بعد.

حلفاؤه الآخرون ليسوا من طينة القادة الذين يحلم بهم. غارقون في الفساد الذي أوصلهم الى حكم الجمهوريات السوفياتية السابقة. مشغولون بتحويل انفسهم الى ما يشبه الآلهة، وبنقل ثروات دولهم الى حساباتهم الخاصة، وتمهيد الطريق أمام ورثتهم. لا يمكنه الركون إليهم. فضمائرهم الخارجة من وراء «الستار الحديد» مطاطة، يسهل جذبها بعروض لا تقدر دولته شبه المفلسة على مضاهاتها. كلما استمال أحدهم او أخضعه، قفز آخر الى «حلف الأعداء» والمناورات المقلقة عند الحدود. مشكلته أن أرضه منبسطة كالكف وعاصمته منكشفة، على عكس البرّ الأميركي المطمئنّ الى حماية المحيطين الأطلسي والهادئ.

أما شركاء بوتين في مقاومة نفوذ واشنطن المتأرجح في شرق المتوسط، فلا يستطيع منحهم ثقته إلا في حدود ضيقة جداً، بعدما تأكد أن الإنقلاب متأصل في حمضهم النووي. الإيرانيون مثلاً، يستفيدون منه الى أقصى الحدود ويدفعونه الى خوض معاركهم في سورية، حيث لا يسددون ديناً قبل أن يقبضوه سلفاً أكثر من مرة. يمنحونه هيبة موقتة باتخاذ القرارات، بينما يعملون على الأرض لتطويق أي تفاهم يصبو إليه مع غيرهم. لا يمكنه التخلي عنهم لأنه يشعر بنفسه دخيلاً على منطقة مدججة بالطوائف، تستعصي على معايير التحالفات الطبيعية، وتغصّ بنظريات المؤامرة والحبكات البوليسية.

بشار الأسد خذله أكثر من مرة بقدرته العجيبة على ارتكاب الأخطاء المحرجة في السياسة والقتال. بالكاد ينقذه من ورطة حتى يسقط في أخرى، ويضطر الى استدعائه، إما الى إحدى قاعدتيه في سورية أو الى موسكو، قبل أن يتولى «التنظيف» من ورائه. فالسلاح الكيماوي لا ينضب في ترسانته، ولا قدرة على ضبط ولعه باستخدامه، مستجلباً، على الضد من رغبة موسكو، احتمالات «التأديب» الأميركية.

الأتراك المتقلبون يصافحونه بيد ويطعنونه بالثانية. يستخدمون سورية وكُردها مثقالاً للموازنة بينه وبين الأميركيين وابتزازهم، ويتأرجحون بالأسد بين الدعوة الى الرحيل وبين التغاضي. يستسهلون الانتقال بين ضفتي البوسفور كلما شعروا بالضيق من الامتثال لشروط لا تعترف بقدرتهم على استعادة مجد انقضى مع هزيمتين عالميتين. تركيا، العقدة التاريخية التي ورثها من أجداده القياصرة، لا تزال قادرة على تفكيك أحلامه.

لكن الفارق المحرج في ألوان الدوائر لا يشغل الرجل عن هدف تمديد ولايته، مع ما يستدعيه ذلك من عرض عضلات لإسكات المستنكرين. فسياسة العالم تخضع لأمزجة قادته، ومن المهم أن يبقى لـ «عموم الروسيا» زعيم أوحد.

اقرأ المزيد
٨ يوليو ٢٠١٧
ترامب قد يتنازل في أوكرانيا ليتنازل بوتين في شأن إيران

لا يريد فلاديمير بوتين لقاء عابراً مع دونالد ترامب، على هامش قمة العشرين في هامبورغ، بل اجتماع عمل «براغماتياً» كما وصفه سيرغي لافروف. «القيصر» يريد نتائج، وهذا يناسب رجل الأعمال النيويوركي. ثمة نزاعات إقليمية- دولية تتولّى فيها روسيا أدواراً رئيسية وتسعى الى حلّها أو على الأقل الى تحريكها بالتنسيق أو التفاهم مع الولايات المتحدة، لكن محاولاتها مع إدارة باراك أوباما لم تسفر عن نتائج، لأن الطرفين لم ينضّجا الحلول الممكنة، أما المحاولة مع إدارة ترامب فلم تبدّأ جدّياً بعد وما أمكن التوصّل اليه إمّا تثبيت تفاهمات سابقة بالنسبة الى أزمة سورية في ملفَّي محاربة الإرهاب ومقاربة الصراع الداخلي، أو وضع تفاهمات مبدئية جديدة على محك الاختبار ومنها على سبيل المثال عدم التعرّض الأميركي لقوات النظام السوري شرط ألا ترتكب عمليات قتل جماعي بالسلاح الكيماوي.

أبدى الرئيس الروسي أكثر من مرّة استعجالاً، بالتالي استياء من تلكوء إدارة ترامب، ثم حنقاً على عقوبات جديدة فُرضت على بلاده سواء من البيت الأبيض أو الكونغرس ردّاً على التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية. وربما يُعزى الاستعجال الى الاتصالات المسبــقة التي تركت لدى بــوتـــين اقتناعاً بإمكان الرهان عـــلى أن الأفكار والخطط التي يحـــملها ترامب وتشير الى أن فوزه بالرئاسة سيترجم سريعاً بـ «صــفقة» تلبّي أبرز المطالب العاجلة لروسيا وأهمها رفع العقوبات عنها، فيما تضع على السكة احتـــمال تحقيق بعض أهدافها الاستراتيــجية بالنسبة الى تعديل المـــنظومة الدفاعية الأوروبية (الأطلسية). لكن بوتـــين استخفّ خطأً بـــتداعيات التدخل الالكتروني في الانتــــخابات واعتبرها ادعاءات وأوهاماً، على رغم أنه أوحى بالعكس في مقابلته مع المخرج الأميركي اوليفر ستـــون حـــين ذكّر بتدخلات أميركية مماثلة ضدّه، وكأنـــه يدعـــو الجانب الأميركي الى قبول الندّية: «فعل مقابل فــــعل». غير أن القضية أعادت شحذ العداء الأميركي- الروسي داخل مؤسسة الحكم الأميركي ما أثّـــر سلباً في دينامية توجّهات ترامب تجاه روسيا، وما لبث انكشاف اتصالات العديد من أعوانه والقريبين منه مع الروس أن فاقم العراقيل أمامه.

مع استقالة الجنرال مايكل فلين، قبل أن يُكمل شهره الأول في مستشارية الأمن القومي، تفرملت الماكينة الروسية وهي في أوج تأهبها لتحريك العلاقات مع أميركا. هبطت بورصة التوقّعات المتفائلة في موسكو لتبقى مستعدة للتعامل «بإيجابية» مع السياسات الجديدة في واشنطن، غير أن هذه تأخرت في التبلور أو بدأت تظهر متقطّعة ومتفاوتة، إذ يصعب أخذها كتوجّهات منبثقة من رؤية واضحة وبعيدة المدى. بل كان فيها ما أربك موسكو، كالضربة الصاروخية على مطار الشعيرات في سورية، أو تجديد التشدّد في العقوبات على خلفية النزاع الأوكراني، أو خفض التوتر مع أوروبا في شأن مسائل الدفاع ومستقبل «الناتو»... لعل بوتين بالغ ويبالغ في تقدير مدى الضعف الذي بلغته المبادرات الخارجية الأميركية، كما في تعظيم قدراته على استغلال ذلك الضعف لبلوغ حال من التحكّم بقرار واشنطن من خلال التحكّم المسبق بتوجّهات الرئيس الجديد.

كان بوتين حصد عام 2013 أفضل النتائج مع أوباما، فعلى رغم القطيعة بينهما بسبب قضية منح موظف الاستخبارات المنشقّ ادوارد سنودن التقى الرجلان على هامش قمة العشرين في سان بطرسبورغ، وتمكّن بوتين من إقناع أوباما بتجاهل «الخط الأحمر» الذي حدّده لضرب النظام السوري الذي تخطّاه فعلاً بالهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية. واعتبر الرئيسان لاحقاً أن اتفاقهما على تصفية ترسانة بشار الأسد الكيماوية كان أفضل انجازاتهما المشتركة. لكن الهجوم على خان شيخون والضربة الأميركية التي أعقبته أعادا رسم «الخط الأحمر» ولو أن ترامب لم يعلنه رسمياً، بل جدّداه من خلال التحذير الاستباقي الأخير. وفي أي حال يطمح بوتين مع ترامب الى ما هو أكثر من معالجة ملف عاجل، لكن الخلافات وعدم التناغم بين البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون أربكت الاتصالات بين الجانبين وأخّرت الإعداد للقاء عملي ومؤهّل لأن يُحدث اختراقاً.

تعلّم «القيصر» مثل غيره من الحكام أن هناك مسارات عدة للعمل مع واشنطن، فما يراه البيت الأبيض ليس ما يراه البنتاغون والخارجية والكونغـــرس. ولـــعله يراهن الآن على القناة الخاصة التي يمثّلها هنري كيسنجر منذ أيام أوباما من دون تكليف، وواظب عليها قبيل انتخاب ترامب وبعده ويواصلها الآن بتكــليف رســـمي منه. يمكن القول إن وزير الخارجية السابق كيسنجر، وليس أي مسؤول آخر في الإدارة، هو الذي يعدّ الخطوط العريضة لأجندة لقاء هامبورغ. وفي ضوء الأفكار التي صرّح بها أو نُقلت عن اجتماعاته مع ترامب، فإنه يميل بشدّة الى توافق بين الدولتين الكبريين. كانت الأزمة الأوكرانية هي التي أثــارت قلـــقه من تدهور العلاقات الروسية - الأميركية وعودة مناخات الحرب الباردة، لذلك كتب أكثر من مرّة منظّراً لروسيا كـ «عنصر رئيسي في أي توازن عالمي جديد» مستبعداً تصنيفها كـ «خطر رئيسي ومطلق يهدّد أميركا»، كما دعا الى تشكيل «منظومة عالمية جديدة متعدّدة الأقطاب تراعي التوازنات الجديدة وتساهم في إنهاء التوتّرات الحالية»، ومن ذلك حلّ الأزمة السورية «بعد فشل الأطراف المحلية والإقليمية»، وأيضاً حلّ أزمة أوكرانيا «بدمجها في منظومة الأمن الأوروبي لتصبح جسراً يربط بين روسيا والغرب».

على رغم أن اقتراح كيسنجر في شأن أوكرانيا لم يلقَ عام 2016 استجابة بوتينية، تحديداً بسبب مواصلة نشر منظومات الصواريخ في أوروبا وإقامة قواعد عسكرية أطلسية قريباً من الحدود الروسية. لكن الفكرة لا تزال قائمة، وإذا أمكن تحسينها فقد تشكّل انطلاقة للتفاوض. كيف؟ اذا كانت أميركا تعتبر الصين تحدّياً رئيسياً ينبغي ترويضه فما عليها سوى أن تصلح علاقتها روسيا. أي أن كيسنجر يطرح عملية عكسية لتلك التي نفّذها مطلع سبعينات القرن الماضي عندما فتح العلاقة مع بكين للّعب على «توازن القوى» مع روسيا في أوج الحرب الباردة. لكن الظروف تغيّرت، فالعلاقة الروسية- الصينية مستقرّة ويصعب تفكيكها والتأثير فيها، بل إن أقصى ما يؤمل راهناً هو ضبط تحدّيات روسيا وابتزازاتها لئلا تكون مصدر تشويش وازعاج لاستراتيجية أميركا حيال الصين. ولا شك في أن محاربة الإرهاب محور رئيسي محادثات كيسنجر، وبذلك يكون قد فصّل رؤية تتناسب مع ما طرحه ترامب خلال حملته الانتخابية وربما تتناسب أيضاً مع توقّعات بوتين.

يبقى أن «التوافق» المنشود لا بدّ أن يعرض حافزاً ما لاجتذاب بوتين، فهو أحرز الكثير من المكاسب لكنه في مأزق يريد التخلّص منه، اذ إنه ضمّ شبه جزيرة القرم ليفرض تقاسماً لأوكرانيا فجُبه بعقوبات موجعة، ثم أقدم على تدخّل «موقت» في سورية ليفرض مساومة أوسع لم تستجب لها أميركا، ومع أنه يرتّب الآن وجوداً طويل الأمد في سورية فإن تعقيدات الأزمة تحتّم «شراكة» أو تعاوناً مع أميركا. في هذا السياق يعتبر كيسنجر أن في الأزمتين الروسية والأميركية عناصر لا يمكن الدولتين الكبريين السيطرة عليها من دون تنسيق استراتيجي، وهو ينطلق من ضرورة رفع العقوبات عن روسيا -استناداً أيضاً الى رغبة العديد من الدول الأوروبية- لكن في إطار حلٍّ مبتكر لأوكرانيا بحيث لا تكون مصدر تهديد لهذا الجانب أو ذاك. أما قضية سورية ومتفرعاتها الكثيرة فتتطلّب أكثر من مجرّد تنسيق للضربات الجوية، وباتت تلحّ على الدولتَين الكبريَين التفاهم على «هيكلية لصياغة الحلول السلمية في الشرق الاوسط».

لكن العنصر الناقص أو المكتوم في أي أطروحة روسية صار عنصراً ثابتاً ومحورياً في الاستراتيجية غير المكتملة لإدارة ترامب. إنه انفلاش النفوذ الإيراني وتهديده لأي استقرار في المنطقة، ولعله بات «الخط الأحمر» الذي يبدو ترامب مصمّماً على احترامه وتفعيله، على عكس ما فعل أوباما. وحتى الآن لا تبدي روسيا معارضة ولا موافقة على هذا الخط، وإن كانت تراقب الاحتكاكات الأميركية- الإيرانية في سورية وإلى حدّ ما في العراق. والمؤكّد أن موسكو لن تتخذ وجهة في هذا الصراع إلا بعد اتضاح مسار العلاقة مع أميركا.

اقرأ المزيد
٨ يوليو ٢٠١٧
"أستانة 5" بين روسيا وأميركا

يترقّب العالم نتائج اجتماع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في هامبورغ، على الرغم من كل الإشكالات التي تمر بها علاقة بلديهما، علما أن الاجتماع نفسه ربما هو موضع أهمية أكثر، ليس بالنسبة لمواطني الدولتين المعنيتين، وإنما بالنسبة للشعوب التي تشهد بلدانها حروبا أهلية، وتعاني من قضايا ومشكلات صعبة ومعقدة، يجري كثير منها برعاية الدولتين العظميين، أو حمايتهما أو مشاركتهما، حسب التصنيف المعروف.

في ما يخص القضية السورية، قد تبدو الإدارة الأميركية، للوهلة الأولى، في حالة تسليم بدور روسيا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، كما يبدو من اكتفائها بالحضور مراقباً في مفاوضات آستانة، على الرغم من أن ذلك لا يعني اطلاقاً عدم قدرتها على التدخل، وخلط الأوراق، في اللحظة المناسبة.

لا يتنافى هذا التسليم، من حيث الظاهر، مع عدم الرغبة الأميركية في أن تصل امتدادات التدخل الروسي إلى كامل الأرض السورية، سيما أن روسيا استطاعت، منذ التدخل الرسمي في الصراع السوري (سبتمبر/ أيلول 2015)، تعزيز حضورها في سورية، ورسم حدود مصالحها، من خلال حركة قواتها والقوات السورية التي تدعمها، ومناطق النفوذ التي توخّت تعيينها، حسب خريطة طريق تعمل عليها، وتشتغل على فرضها على الأطراف الآخرين، باعتبار ذاتها كالمقرر أو الممسك بالورقة السورية.

الجدير ذكره أن الولايات المتحدة أقرّت بهذا الدور، في تصريح لوزير الخارجية الأميركية، أخيرا، قال فيه إن مصير الرئيس الأسد، وبالتالي مصير الصراع السوري، مرهونٌ بروسيا، في ما فهم على أنه تراجع أميركي عن وثيقة جنيف 1، من دون أن يعرف ما إذا كان ذلك مجرد تصريح للاستهلاك، أو لترضية روسيا لجرّها إلى توافقاتٍ تزيح إيران من المشهد، أو إن كان ذلك مجرّد دفع لروسيا إلى مزيدٍ من التورّط في الصراع السوري المعقد، وزيادة استنزافها فيه.

من جهةٍ أخرى، فإن سعي روسيا إلى تطوير اجتماعات أستانة، وإدخال بنودٍ تتعلق بالوضع المدني للمناطق التي لا يسيطر عليها النظام، هي من ضمن خريطة الطريق التي تعوّل موسكو عليها، بإدخال بند المصالحات والتعامل مع المجالس المحلية، باعتبارها جهة مدنية لإدارة شؤون المنطقة، بالتعاون مع المنظمات الفاعلة هناك.

وتعتقد موسكو أنها في ذلك تكون قد نجحت في الجمع بين الاتفاق العسكري الذي يمهد لمناطق آمنة، عبر وقف إطلاق النار، والفعاليات المجتمعية التي يمكن، من خلالها، متابعة ما سميت الهدن المحلية، والتي يستطيع النظام عبرها بسط سيطرته، ولو تدريجياً، عليها. كما تستطيع من إعلان ما تسمى المناطق الآمنة على الأراضي السورية توزيع مهمات مراقبة هذا "الأمان"، عبر توزيع الغنائم، أو تقاسم النفوذ، بين الدول المتصارعة على سورية من جهة، وتنفيذ مطالب الادارة الأميركية، والدول الأوروبية والعربية، في إبعاد إيران عن مناطق محدّدة على الحدود السورية الأردنية والسورية العراقية، وكذلك عن طريق الغاز الروسي في سورية.

وبذلك تحقق روسيا لنفسها معبرا آمنا لمصالحاتٍ مع الدول الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة، ما قد يمهد الطريق أمام مبادلاتٍ بالملفات العالقة معها، من ملف الدرع الصاروخي حتى ملف العقوبات وأوكرانيا وأسعار النفط التي تبدو عليها علائم الصحوة الآن.

لا يجعلنا هذا كله ننسى أن مفاوضات أستانة تجري أساساً بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، ولاسيما روسيا وإيران وتركيا، وقد انضمت، بشكل أو بآخر، إليهما، الولايات المتحدة والأردن، أي أن الأطراف المعنيين مباشرة، النظام والمعارضة، مجرّد شاهد، بعد أن خرج مصير سورية، وتقرير مصير شعبها، من أيديهما، بدليل أنه لا توجد مفاوضاتٌ مباشرة، ولا توقيع من الطرفين السوريين.

ويُفترض أن لا يُنسى، أيضاً، أن الاتفاق على هذه المنطقة أو تلك، كمناطق منخفضة التصعيد، لا يعني أن ذلك سيحصل حقا، بدليل قصف النظام درعا على الرغم من الهدنة، وبدليل التجارب السابقة، حيث استمر قصف الطيران الروسي والسوري درعا وجوبر ومناطق عديدة، إضافة إلى أن هذا الاتفاق سيواجه التعقيدات في عدة مناطق، وضمنها الشمال وإدلب تحديدا، حيث توجد جبهة النصرة. وفي الجنوب، حيث العقدة الإقليمية في الحدود مع إسرائيل والأردن، وفي الشرق، حيث تمنع الولايات المتحدة أي وجود عسكري لإيران، أو لأي ميلشيات تابعة لها.

من مصلحة الشعب السوري وقف القتال، ووضع حد للكارثة السورية، القائمة على القتل والتدمير والتشريد، التي لا تخدم إلا النظام وحلفاءه، بيد أن هذا الأمر ما زال بعيدا، بقدر البعد بين مساري أستانة وجنيف 1، أو بقدر البعد بين مصالح الدول المتصارعة ومصالح الشعب السوري.

اقرأ المزيد
٨ يوليو ٢٠١٧
الحرب ضد الإرهاب: الإباحة والإبادة

ليست «الحرب ضد الإرهاب» هي كل السياسة الأميركية في سورية فقط، وإنما الميل الغالب هو أن كل سياسة صحيحة في البلد المنكوب تابعة للحرب ضد الإرهاب، على نحو وفر مظلة واسعة من محاربي الإرهاب لم يبق أحد خارجها غير... «الإرهابيين» أنفسهم، وهم بالتحديد «داعش» و «القاعدة». أميركا ليست بالضرورة على وفاق مع كل محاربي الإرهاب الآخرين في سورية، لكنها هي من «وضعت الأجندة» على نحو تفاخر به باراك أوباما قبل ثلاث سنوات باعتباره دليلاً على الدور الأميركي القيادي في العالم. والأجندة المشتركة التي تقسم العالم إلى إرهابيين ومحاربي إرهاب تُقرِّب بين نادي المحاربين هؤلاء أكثر مما تفرقهم احتكاكات وصراعات على النفوذ وحماية الأتباع.

ثم إنه لا يجرى تضييق تعريف الإرهاب في طوره الجديد على نحو يحابي الدول كلها فيستبعد من المبدأ أن يوصف أي منها بالإرهاب، ولا حتى على نحو يستبعد منظمات ما دون الدولة التي كانت ولا تزال على قوائم الإرهاب قبل طور محاربته الحالي («حزب الله»، حزب العمال الكردستاني)، ولا حتى على نحو يقصر الإرهاب على السلفية الجهادية السنية فقط، بل يجرى فوق ذلك تضييق تعريف ضحايا هذا الإرهاب السلفي الجهادي، فيُخرَج منه العرب السنيون في مناطق مثل الرقة ودير الزور... وعموم سورية، ممن وقعوا تحت سيطرة «داعش». قد توصف هذه البيئة بأنها حاضنة «داعش» (و «القاعدة») أو لا توصف، لكن لم يعرض محاربو الإرهاب أي اهتمام بالضحايا منهم، ولا يبدو لمخطوفي «داعش» ومقتوليه قيمة سياسية أو حقوقية في أجندة محاربي الإرهاب.

السياسة هنا ليست استمراراً للحرب على ما رأى ميشيل فوكو قالباً قضية كلاوسفتز الأقدم، بل هي استمرار للحرب ضد الإرهاب التي هي حرب متحررة من قوانين الحرب بين الدول (قلما روعيت هذه القوانين في الشرق الأوسط)، وتستهدف إبادة الإرهابيين المفترضين. هذا يُسهّله تضييق مفهوم الإرهاب ونزع صفة الضحية عن صنف بعينه من هؤلاء الضحايا. جرائم الحرب ضد الإرهاب التي يرتكبها محاربو الإرهاب ليست جرائم حرب، والأميركيون قبل حين غيروا قواعد الاشتباك في سورية على نحو يتساهل أكثر مع إيقاع ضحايا مدنيين، أي على نحو ينزع عن جرائمهم المحتملة صفة الجرائم، ويحيلها إلى «أضرار جانبية»، قد تكون مؤسفة لكنها محتومة، ولا يلام أحد في شأن وقوعها. هذا الاستثناء الذاتي يفتح الباب أيضاً لنزع صفة الجريمة عما ترتكب الدولة الأسدية وأية أطراف مضادة لـ «داعش» والسلفية الجهادية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. الإرهاب بتعريفه الضيق فوق هو وحده الجريمة التي يُعاقب عليها سياسياً.

وبما أن الحرب ضد الإرهاب مكونة أساساً وحصراً من أفعال إبادة وتدمير، منفصلة عن أي رؤية قانونية أو سياسية أو أخلاقية لما بعد، فليس هناك مدخل على أرضيتها لاستبعاد الدولة الأسدية، بالعكس كانت الحرب ضد الإرهاب مدخلاً لإعادة تأهيل نظام متمرس بالإبادة وله فيها تاريخ. واتساع محاربي الإرهاب ضمن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة (وخارجه إيران وموسكو والنظام الأسدي، والدول العربية كلها وتركيا) يظهر ميل الدول كلها إلى اغتنام فرص القتل أو ما يتيحه رد السياسة إلى الحرب ضد الإرهاب لتحقيق أهداف متنوعة: احتلال أراض، تعزيز حكم عميل، تصفية حسابات مع طرف آخر على أرض أخرى، السيطرة الطائفية، الاستيلاء على موارد وأخذها غنائم...، مما كان يظنه المرء ممارسات انطوت منذ زمن التوسع الامبريالي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

الدولة الأسدية قامت تكوينياً على إلحاق مجال السياسة التعددي بحيز السيادة الواحدي، بحث يصير كل عمل سياسي مستقل تمرداً على الدولة. لكن هذا ما تتجه إليه السياسة في كل مكان عبر الحرب ضد الإرهاب. ونمو الصفة الأمنية للسياسة في البلدان «الديموقراطية»، وعودة سياسات الحدود، فضلاً عن الإسلاموفوبيا المترسخة، تشير إلى سير العالم في اتجاه سوري بفعلٍ، جزئي على الأقل، من تعثر سير سورية في ما كان يبدو اتجاهاً عالمياً نحو الديموقراطية. منذ الآن يبدو هذا زمناً غابراً.

وما يخيف ليس فرض أجندة خارجية على السوريين، «الحرب ضد الإرهاب»، تجعل كفاحهم غير مرئي، بل ما يبدو من أن دماء الضحايا ذهبت هدراً، لا قيمة لموتهم، وهو لا يفتدي غيرهم. هو أن كل ما حصل خلال ست سنوات وأربعة أشهر خسائر لا معنى لها ولا يبنى عليها شيء، ولا يُستند إليها لحماية من لا يزالون أحياء. إعادة التأهيل الصاعدة للنظام لا تقول إلا أن كل آلامنا لا قيمة لها، وأن من يعطيها القيمة هم أناس في واشنطن وموسكو وغيرها، وأنه قر قرارهم على أنه لا قيمة لها. هذا مفزع. وهو بمثابة تعميم نموذج «الإنسان المباح» الذي تكلم عليه جيورجيو أغامبن، الشخص الذي لا حماية قانونية له ولا يعاقب من يقتله، ولا يحوز موته قيمة قربانية، فلا يكون فداء لغيره. نصف مليون لا يفتدون الباقين، فلا يتغير شيء من الأوضاع التي تسببت بقتلهم، ولا يعاب أحد على القتل، ولا يتغير شيء من أقدار الأحياء. بالعكس، يجرى فرض النظام ذاته الذي هيأ ظروف قتلهم. قد يكون هذا أسوأ حتى من الإبادة من حيث إنه إذ يحرم موت السوريين من المعنى يحرم حياتهم أيضاً من المعنى، ويبقي النزف مفتوحاً إلى أن يقرر محاربو الإرهاب الاكتفاء.

وعلى كل حال ما كانت الإبادة الجارية منذ 76 شهراً، وبرعاية دولية منذ الصفقة الكمياوية المشينة قبل نحو اربع سنوات، ما كان لهذه الإبادة أن تدخل حيز الوقع لولا الإباحة التي تتجاوز الإطار السوري إلى اللاجئين في البلدان المجاورة، ولبنان بخاصة. مشهد لاجئين سوريين مباحين لعسكر الجيش اللباني قبل أيام يصلح صورة رمزية للإباحة التامة.

وعلى أية حال، تصمد المذبحة السورية المستمرة، كماً ونوعاً وأمداً، للمقارنة بكبريات عمليات الإبادة في القرن العشرين. وتتفوق عليها من حيث إنها تجرى برعاية دولية (وهو ما سأتناوله في مقالة مستقلة).

لكن إن صح أن سورية تؤشر على اتجاه عالمي، فإن تآكل مجال السياسة لمصلحة مجال السيادة بفضل «الحرب ضد الإرهاب» قد يأخذ شكلاً جديداً، تبدو سورية طليعية فيه أيضاً: أمننة شاملة، لكن من دون مركز سياسي، أو بمركز سياسي لا يعدو كونه مظلة وعنواناً عاماً. نحصل على تعددية أمنية وواحدية سياسية. السيادة العائدة عالمياً بقوة لا تأخذ بالضرورة شكل دول قومية مركزية أقل ديموقراطية من ذي قبل، بل ربما شكل خصخصة الأمن وتفتيت الحقل السياسي على نحو يبقيه تحت سيطرة مقدمي الخدمات الأمنية من أجهزة شبه حكومية وشركات خاصة ومرتزقة. لكن، ما هذه السيادة الجديدة؟ عرف أشيل ممبه، الفيلسوف السياسي الكاميروني، هذه السيادة بأنها سلطة إملاء من يمكن أن يعيش ومن يجب أن يموت.

لكن، ألم يكن هذا تعريف السيد الإقطاعي؟ ومالك العبيد؟

اقرأ المزيد
٨ يوليو ٢٠١٧
السوريون بين بيروت الظلم وبيروت العدل

ليست هناك مدينة تشبه المرأة كبيروت. الصفات التي تطلق على أي منهما تنطبق على الأخرى، فهي الفاتنة والمراوغة، الجذابة والعنيدة، الحنون والقاسية، السهلة والصعبة، ما من وصف إلا وبيروت سيدته، وهي التي منحها الشاعر محمود درويش أعذب قصائده.

هكذا كانت بيروت قبل أن نصبح نحن السوريين «لاجئين» بين جنبات مخيماتها، لأنها أقرب إلينا كلاجئين جدد، وأبعدها عن استبداد ينخر عظام «دولتنا»، ويقذف بنا في شتى أرجاء الأرض، وهي بقيت كذلك حتى بعد أن أصبحت النيران تأكل خيامنا، في مخيم الرائد، في محيط مدينة قب الياس، ومخيم تل السرحون في بلدة بر الياس، ولا نعلم متى وأين موعد النيران القادمة مع أجساد سوريين آخرين في أرجاء أخرى من لبنان «يا قطعة سما»!

في الغضون تصدح أصوات ممثلي الكتل البرلمانية داخل أروقة البرلمان اللبناني طالبة ترحيلنا، كأننا هناك بمحض صدفة سياحية قادتنا إلى حيث «سويسرا الشرق»، أو لؤلؤته، كما يحلو لنا تسميتها، والتي تناسى أصحابها أن ثمة منهم من ذهب إلى أماكننا في القلمون وريف دمشق وحمص وحلب، ليقتلعنا من جذورنا، بسلاح ادعى أنه لمقاومة إسرائيل فقط، في حين لم يعد يوجهه ضد عدوه المفترض إسرائيل وإنما ضدنا، أي ضد الشعب السوري الذي احتضنه، وأمّن له المسكن والاحتياجات زمن كان الادعاء صحيحاً، وكانت البندقية باتجاه غير صدور السوريين ومدنهم.

السوريون موجودون في لبنان في شكل طارئ وقسري، لكن بعض من ادعى أنه يمثل لبنان بات في سورية منذ سنوات، يقتل ويهجر ويدمر في شعبها، بل ويستولي على أملاك السوريين ويغير خريطة مدنهم جغرافياً وسكانياً. وهذا البعض يلبس حيناً وجهه اللبناني، الذي لا يشبه وجوه أهالي لبنان «الطيبين»، لكنه في أحايين أخرى لا يراه السوريون إلا وجهاً إيرانياً، ينفذ أجندة إيرانية بلسان لبناني في سورية، وكذلك اليوم في البرلمان اللبناني وفي الحكومة وعبر وشاياته بين المواطنين، عندما يطالب بإعادة السوريين إلى بلادهم عبر محادثات مع الحكومة السورية، ليس لأنه يرى أن الحرب الوحشية التي شنتها هذه الحكومة على السوريين انتهت وحل الأمان في أرض طاولها التدمير، بل لأن شروط توسيع حصة النظام في أي حل تفاوضي مع المعارضة، باتت تتطلب هذه الأكاذيب والمراوغات، متناسياً ومن معه، من المطالبين بعقد التفاهمات مع النظام لإعادة السوريين، أنه بذلك يزيد من دائرة ضحايا المقتلة السورية التي جرت بالمشاركة مع «حزب الله»، اللبناني الهيئة والإيراني التبعية والأجندة. ينسى هؤلاء كلهم أن معظم السوريين هربوا من جور النظام وملاحقاته الأمنية وأحكامه الجائرة عليهم، فكيف يمكن الدعوة لإعادتهم إلى حيث ينتظرهم الغدر؟ وكيف يحدث ذلك بدل أن تقوم الحكومة اللبنانية بدورها الانساني والسياسي برعايتهم وتوفير الأمان والحماية لهم؟

لا ينكر أحد على لبنان معاناته لكونه دولة صغيرة المساحة، وقليلة الموارد، وتعاني ما تعانيه اقتصادياً، وسياسياً، وهو ما يتوجب على الأمم المتحدة -الصامتة أمام عذابات السوريين في لبنان اليوم- أن تتحرك لإيجاد حلول تجنب لبنان الدولة آثار استضافتها نحو مليون ونصف المليون من السوريين، كما يتوجب على المعارضة السورية المتفرجة بدورها أيضاً، أن تتحرك مع أصدقائها لإيجاد مخرج للسوريين من جهة، وللدولة المضيفة التي أرهقت خلال السنوات السبع وما قبلها، من هجرة السوريين إليها، كملجأ من عذاباتهم، سواء السياسية أو الاقتصادية، حيث بنت العمالة السورية المهاجرة إلى لبنان كثيراً من ذاكرة العمارة الحديثة في بيروت وبقية المدن، وهو الأمر الذي لا ينكره شعب لبنان غير المؤدلج إيرانياً الآن، أو المرشح لانتخابات نيابية في العام المقبل.

لا أحد يريد لأهلنا أن يبقوا في غربتهم هذه، كما لا يمكن القول إننا عاجزون عن فعل أي شيء يتعلق بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، أو على الأقل عودتهم إلى المناطق المحررة عبر تركيا، وهو ما تستطيع كيانات المعارضة وفي مقدمها «الائتلاف»، أن تعمل عليه مع أصدقاء الثورة وذلك حماية للسوريين من جهة ولتعزيز وجودها في المناطق المحررة من جهة ثانية.

لا يمكن أن ننكر دور المعارضة في ضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه المواطنين السوريين في لبنان والأردن وتركيا، طالما أرادت أن تكون ممثلة لهم سياسياً وخدمياً، عندما أنشأت حكومتها التنفيذية. لكن قبل ذلك لا يمكن أن يتناسى المجتمع الدولي، ومنه الدولة اللبنانية، أن وجود السوريين في لبنان إنما هو بسبب حرب طاحنة شنها النظام على شعبه، وشارك فيها لبنانيون، أقصد «حزب الله»، سواء بتفويض من الحكومة الشرعية، أو باغتصاب هذا التمثيل عنوة، لذا فإن عودتهم، أي اللاجئين، إلى سورية قبل أن تحط هذه الحرب رحالها، وتعود ميليشيات «حزب الله» إلى جنوبها مع سلاحها، هي عودة بالإكراه، هدفها إكساب النظام السوري نصراً مزوراً، ككل انتصاراته على شعبه الأعزل الذي طالب بدولة ديموقراطية، دولة مواطنين أحرار متساوين أفراداً وقوميات، فقوبلت مطالباته بالنار والقنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة، من جانب النظام ومن يدعمه، مثل إيران عبر ذراعها «حزب الله» والميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب، ولا يستبعد أن جزءاً منها لن يغادر لبنان في طريق عودته من سورية بعد انتصاراته المزعومة.

أعود إلى بيروت: الطاحنة، القاهرة، بيروت التي تطحن الجيوب والأرواح وتقهر عشاقها بالانتكاسات المتجددة، وأقول هامسة، بيروت معشوقة السوريين، لا يهز صورتها بعض الأصوات النشاز، ولا يعكر صفو وجهها التنافس على طرد السوريين من قبل مرشحين لانتخابات قادمة، لأننا نثق أن بيروت الجميلة القوية الحرة ستنتصر على بيروت المتأرجحة على حساسية ميزان الصراعات الطائفية والمصلحية، وعلى بيروت التي زعمت النأي بالنفس في حرب تأكل من دمها، وتعتاش على أرواح أولادها. بيروت الحب التي يعرفها نزار قباني، ونحبها معه، على رغم حماقات الانسان ستظل معنا وفي قلوبنا: ما زلت أحبك يا بيروت القلب الطيب... ما زلت أحبك يا بيروت الأمل، يا بيروت العدل.

اقرأ المزيد
٧ يوليو ٢٠١٧
شهر العسل الإيراني على وشك نهاية غير سلسة

التغيرات الأخيرة التي يشهدها المجتمع الدولي لا تصب في مصلحة الطموحات السياسية لإيران في منطقة الشرق الأوسط، ويعد مسار السياسة الخارجية الأميركية والديناميكيات في منطقة الخليج وأهداف روسيا البعيدة الأمد في سورية عقبات تقف في طريق محاولة إيران ترسيخ مكانتها في المنطقة. ولكن توجد علامات تحذيرية تبين أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي مع تزايد الضغط عليها.

لأعوام كانت إيران تستغل الفرص لتوسيع نطاق تأثيرها الإقليمي، وقد وجدت طرقاً عديدة، من لبنان إلى سورية والعراق (وغيرها)، لترسيخ وجود طويل الأمد في الدول العربية المجاورة، مستفيدة لتحقيق ذلك من القوى المحركة المحلية داخل هذه الدول. ففي لبنان والعراق، أدت المنافسة الداخلية بين القادة السياسيين المنتمين إلى طوائف مختلفة، إذ يضع كل منهم مصلحته الشخصية، إلى جانب مصلحة مجتمعه الطائفي، قبل المصلحة الوطنية، إلى استدامة وجود دولة ضعيفة في هذين البلدين، ما جعلهما أكثر عرضة للتدخل الأجنبي من دولٍ مثل إيران.

إن وجود مجتمع شيعي كبير ولكن مهمش تاريخياً في لبنان والعراق، تتخذ نسبة كبيرة منه مدينة قم مرجعية دينية لها، سمح لإيران بالاستفادة من البيئة المحلية لترسيخ الدعم لنفسها على المستوى الشعبي في هذه المناطق. وأثناء قيامها بذلك، تبنت إيران نهجاً طويل الأمد باستخدام مزيج من الانتشار الاجتماعي العقائدي وتوفير الخدمات إضافة إلى النشاط العسكري، من خلال إعداد ميليشيات تابعة لها، لنشر نفوذها. ومهّد وجود إسرائيل في قضية لبنان ووجود «داعش» في قضية العراق الطريق أمام إيران ليس فقط لتقديم مشروعها على الصعيد الوطني، على أساس زيادة «القدرة على الصمود» في أوقات النزاع، ولكن أيضاً لتعبئة ميليشياتها باعتبارها جهات فاعلة شرعية تؤيد الدولة الضعيفة في سعيها للدفاع عن نفسها أمام العدو.

تتشارك سورية في أوجه الشبه والاختلاف مع هاتين القضيتين، لكن النموذج الذي تستخدمه إيران لممارسة نفوذها هناك هو نموذج مألوف. لا تحاول إيران فقط خلق دعم شعبي لها داخل سورية من خلال عملية التشييع، بل ترعى أيضاً الميليشيات التي تقاتل إلى جانب نظام بشار الأسد بحجة الدفاع عن سورية من الجماعات الإرهابية الجهادية السنّية.

لكن يبدو أن نهج إيران القائم على التوسع قد بلغ ذروته.

استلمت إدارة دونالد ترامب زمام الحكم بعد أن تعهدت حملته الانتخابية أن تشهد فترة ما بعد أوباما تغييرات كبيرة في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى رغم عدم إلغاء الاتفاق النووي الذي عُقد في ظل الإدارة السابقة، إلا أن الإدارة الأميركية الجديدة تلمح باستمرار إلى أنها ستتخذ موقفاً أكثر صرامة مع إيران من الإدارة السابقة. إن تزايد التقارب الواضح بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية هو مؤشر على أن ترامب يهدف إلى إعادة العلاقات الأميركية مع الخليج إلى مجرى إيجابي. ومن ضمن العناصر الرئيسية في هذا السياق هو أن تُظهر الولايات المتحدة للسعودية أنها لن تتسامح مع تزايد نفوذ الخصم اللدود للرياض في الشرق الأوسط. لم يتبين بعد إذا كانت الولايات المتحدة ستتخذ نهجاً مباشراً للقيام بذلك، لكن هناك احتمال أن تستخدم الولايات المتحدة إسرائيل كجهة فاعلة لتصعيد الضغط على إيران في سورية. ومن المحتمل أن يستند رد فعل إيران في حال وجود هذا السيناريو على استخدام ميليشياتها التابعة، ما قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل مثلما حدث في سيناريو حرب لبنان عام 2006.

وقد وجدت إيران في الحملة الحالية لتحرير شرق سورية من «داعش» فرصة كبيرة للانضمام إلى مكافحة تنظيم «داعش» لتبرير التدخل العسكري لمليشياتها. ونقل «حزب الله» أعداداً كبيرة من مقاتليه بالقرب من شرق سورية، حيث تتسابق كل من إيران والتحالف الدولي ضد «داعش» نحو هذه المنطقة لمهاجمة التنظيم. وإذا وصلت إيران إلى هناك أولاً، فسيكون هدفها ربط هذه المنطقة ذات الموقع الاستراتيجي بالمناطق التي تخضع لسيطرة الميليشيات التي تدعمها في العراق، ما يزيد من نفوذها في كلا البلدين. لكن إذا وصل التحالف الدولي ضد «داعش» إلى هناك أولاً، فمن المرجح أن يلعب عملاء إيران داخل سورية دور المفسدين، وقد بدأوا بالفعل الاشتباك مع الجماعات المسلحة التي تقاتل تحت مظلة التحالف.

وكما يشير زميلي ريناد منصور، لأول مرة منذ عام 2003، تدعم الولايات المتحدة وإيران قائدين سياسيين مختلفين في العراق، حيث تواصل إيران دعم نوري المالكي وحلفائه بينما تدعم الولايات المتحدة رئيس الوزراء حيدر العبادي. وعلى رغم أن إيران تمكنت من تقديم قوات «الحشد الشعبي» في العراق باعتبارها قوة وطنية شبه رسمية، إلا أنه لا تزال هناك أسئلة حول تورط المالكي في توجيه بعض جماعات «الحشد الشعبي»، إذ يبدو أنه يهدف إلى استخدامها لإحياء قيادته السياسية، وهو أمر يعارضه الآن العديد من أنصاره السابقين في العراق. وسيؤدي هذا الاختلاف إلى اشتباكات سياسية في العراق خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة في عام 2018، والسؤال هنا سيكون عن حجم الجهد التي ستبذله إيران لمحاولة إعادة المالكي أو أتباعه إلى السلطة.

هناك إشارة أيضاً إلى تغير وضع إيران في المنطقة، وهو الموقف الحالي الذي تتخذه كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة تجاه قطر. كان من ضمن نهج قطر البراغماتي في سياستها الخارجية الحفاظ على علاقات ودية مع إيران. ووجدت إيران في الأزمة الحالية فرصة لمحاولة تقديم قطر كدولة صديقة، بإرسال المساعدات الغذائية إليها في أعقاب هذه الأزمة. لكن من الصعب أن تعزل قطر نفسها باتخاذ جانب إيران في منطقة الخليج التي تسيطر عليها المشاعر المعادية لإيران، ولذلك قد تسعى إيران إلى إيجاد وسائل أخرى لإثارة الانقسامات في الخليج، من خلال محاولة حشد أنصارها وعملائها.

وما يزيد من مشكلات إيران هو التحالف الذي أقامته مع روسيا في سورية، إذ يقوم هذا التحالف على المصلحة بعد أن أدركت إيران أنها لن تتمكن بمفردها من الحفاظ على نظام الأسد، وأنها في حاجة إلى دعم روسيا للقيام بذلك. وعلى صعيد آخر، لم ترغب روسيا في استنفاد المزيد من الموارد لدعم النظام السوري، ووجدت أن إيران ستؤمن لها القوات البرية اللازمة لدعم حملتها الجوية في سورية.

لكن أهداف إيران وروسيا النهائية مختلفة. تفضل روسيا بقاء مؤسسات الدولة المركزية القوية في سورية، بما في ذلك الجيش السوري الذي تربطه علاقة طويلة المدى بروسيا، كما يشعر المجتمع العلوي في سورية أنه أقرب ثقافياً الى روسيا من النموذج السياسي العقائدي في إيران. ومن ناحية أخرى، أظهرت إيران، من خلال تجاربها في لبنان والعراق، أنها تفضل العمل مع الدول الضعيفة، والميليشيات التي ترعاها في سورية هي في نهاية المطاف بنية موازية للدولة، على رغم أسمائها التي تبدو وطنية ورسمية مثل «قوات الدفاع الوطني».

ولذلك قد تقبل روسيا في المستقبل سيناريو لحل أزمة سورية يكون مبنياً على بقاء الأسد في السلطة مقابل الحد من نفوذ إيران، على رغم أن ذلك يعتمد على ما يمكن للولايات المتحدة أن تقدمه من ضمانات في هذا الصدد، لأن روسيا تقوم حتى الآن بإحباط الجهود التي تبذل للتوصل إلى تسوية في سورية، ولا تزال الولايات المتحدة تفضل انتظار ما سيؤول إليه هذا النزاع.

بدأت إيران بالفعل في التحضير لهذا النوع من السيناريوات عبر إعداد مشاريع اجتماعية واقتصادية تهدف إلى ترسيخ قاعدتها الشعبية داخل سورية، فتحتفظ بوسيلة للتأثير فيها بغض النظر عما سيؤول إليه أي اتفاق لإنهاء هذا النزاع. ويعتبر تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، وتوقيع صفقات اقتصادية مع النظام، وعمليات نقل السكان لتوطيد الوجود الشيعي في المناطق الاستراتيجية جغرافياً، جزءاً من استراتيجية إيران الطويلة الأجل لترسيخ نفوذها في البلاد.

إن أي تطور في سورية سيؤثر في شكل مباشر في لبنان، وبالتالي إذا انخفضت سيطرة إيران في سورية، فسيلقي هذا المزيد من الضغط على «حزب الله» في لبنان. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن المعارضين السياسيين اللبنانيين لهذا الحزب ستكون لهم اليد العليا، لأن هناك العديد من الأسباب المحتملة التي تحول دون استقرار لبنان، وهذا يعني أن إيران قد تلجأ في نهاية الأمر إلى محاولة استخدام لبنان كنقطة انطلاق لمنع هذه الموجة من الضغط المتزايد عليها. وتعد عملية التشييع التي تحاول إيران تنفيذها داخل مجتمع اللاجئين السوريين في لبنان إحدى إشارات الخطر.

يبدو أن فترة شهر العسل الذي تقضيه إيران في العالم العربي تقترب من نهايتها، ولكن من غير المرجح أن يكون رد فعل هذه الإمبراطورية السابقة الطموحة هو مجرد الاستسلام.

 

اقرأ المزيد
٧ يوليو ٢٠١٧
من المسؤول عن مأساة السوريين في لبنان؟

التعامل الرسمي من قبل البعض في لبنان مع النازحين واللاجئين والمهاجرين السوريين (أياً كان المسمى) بلغ حداً من الإهانة والوحشية ما بات يستحق الحراك القانوني للاعتراض على ذلك. فمن جهة، تغض الحكومات اللبنانية المتعاقبة الطرف عن المزايا العظيمة التي تحصل عليها نظير الوجود السوري، فأهم الحسابات والودائع في المصارف اللبنانية تعود في المقام الأول لرجال أعمال وتجار سوريين، وأهم العقارات قيمة وعدداً تعود ملكيتها لوجهاء سوريين. ومنذ اللجوء والنزوح الهائل للمواطنين السوريين هرباً من بطش النظام الأسدي وملاحقة «حزب الله» الإرهابي اللبناني داخل بلادهم، وهم يساهمون في تحريك بضائع بعشرة أضعاف قيمتها لتجار لبنانيين هم أول من يعترف بالاستفادة من وجودهم وازدياد مبيعاتهم وأرباحهم، وكم من الأثاث والعقار والسيارات والأدوات والمعدات الاستهلاكية التي استفادت منها السوق اللبنانية لا تقدر بثمن.

فعلاً كما يقول المثل القديم: «مصائب قوم عند قوم فوائد»، وفي الحالة اللبنانية هي فوائد معظمة ومغلظة وأرباح هائلة، ناهيك مما يتعرض له السوري من معاملة سيئة تداني العنصرية معلنة عبر منشورات ولافتات معلقة في الشوارع العامة تحذر من البيع والشراء منهم والتعامل معهم وتحدد مواعيد تجولهم، في ظواهر تفوقت فيها بعض البلديات اللبنانية على قوى الاحتلال الإسرائيلي ومعاملتها للفلسطيني، أو كما كانت حكومة جنوب أفريقيا البيضاء تعامل مواطنيها الأفارقة. ومع كل هذه العنتريات والتصريحات بحق السوريين والممارسات القمعية ضدهم لم يجرؤ لتاريخه مسؤول واحد على أن يمارس دور «القبضاي» على تنظيم إرهابي اسمه «حزب الله» متهم علانية باغتيال رئيس وزرائه رفيق الحريري، والقتلة موجودون في حمايتهم، ولا يجرؤ على منع تجاوزات الحزب نفسه من ممارساته القمعية بحق زوار مطار رفيق الحريري كما بات معروفاً، ولا يجرؤ على إيقاف غسل الأموال وزرع الحشيشة وتجارة المخدرات وترويج السلاح والانطلاق إلى حدود دولة مجاورة لنصرة نظام غاشم في حرب على شعبه. ولكن العنتريات واستعراض القوة مسموح وينال القبول والترويج على عشرات من العزل في خيام مهلهلة.

من المعيب جداً في دولة تتباهى بأنها رمز المدنية في الشرق الأوسط أن يقوم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسؤولين فيها بما فعلوا بحق أناس أعزاء وكرام، ويستقووا عليهم لأجل تسجيل نقاط رخيصة في سباق سياسي لا قيمة له.

الاستفادة اللبنانية من الأزمة السورية أضعاف مضاعفة من الأضرار التي يدعيها البعض، وأي مبتدئ في عوالم الاقتصاد والسوق يدرك ذلك، ولكن ما يجري بحق السوريين سقطة أخلاقية واستغلال بشع لظروف تسبب فيها تردد السلطات أمام سطوة «حزب الله» في تفاقم الوضع وتأجيجه.

أقل ما يمكن أن يقال جراء تصرفات البعض في لبنان بحق السوريين هو: عيب عليكم.

اقرأ المزيد
٧ يوليو ٢٠١٧
السعودية منعت إيران من الهيمنة على المنطقة

دولة لا تؤمن بالعواطف، بل بالإعدام، تلعب على العواطف. دولة تدفع كل يوم ببعض من شعبها لإطلاق شعار «الموت لأميركا»، يحتج وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، ويقول إن قرار منع السفر الأميركي موجه ضد الجدات الإيرانيات. دولة إذا أحب أحد الأحفاد زيارة جدته في إيران، يزج به في السجن بتهمة محاولة قلب النظام لأنه يحمل الجنسية الأميركية. هذه الدولة التي تريد للجدات السفر إلى أميركا، اعتقلت الأسبوع الماضي 110 شباباً وشابات بتهمة المشاركة في حفل مختلط.

ولا تتردد القيادة الإيرانية في استغلال كل شيء لمصلحتها. يقول المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي لرئيس الوزراء العراقي حيدر عبادي: «إن الأميركيين ضد (الحشد الشعبي) الشيعي لأنهم يريدون أن يفقد العراق قوته الأساسية»، ويقول الرئيس حسن روحاني لعبادي: «إن تحرير الموصل هو انتصار لإيران والعراق وسوريا» (جاءت إيران أولاً).

تريد إيران كل ما هو عربي؛ أوجدت يوم القدس لتكشف عن تأثيرها المتمادي. في ذلك اليوم، ألقى زعيم «حزب الله» السيد حسن نصر الله كلمة عن توسيع «محور المقاومة» في بلاد الشام؛ نصر الله الذي يجيب مباشرة للمرشد الأعلى، هدد بأن الحرب بين إسرائيل ولبنان وسوريا ستجذب آلاف المقاتلين من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان واليمن، مع العلم بأن لبنان لم يعد يتسع. المثير في الأمر أن كل وسائل الإعلام الإيرانية، التابعة للحرس الثوري الإيراني، حذفت كل هذا المقطع، وسبب ذلك التقليل داخلياً من احتمال انتشار الإيرانيين في حرب أخرى، خصوصاً بعدما أثار الانتشار العسكري الإيراني في سوريا جدلاً داخلياً.

يحاول النظام الإيراني و«حزب الله» تبرير تدخلهما الإقليمي، تحت ستار دعم الفلسطينيين ضد إسرائيل، هذا على الرغم من أن الثورة الإيرانية في بداياتها، على زمن آية الله الخميني، لم تتردد في الحصول على أسلحة من إسرائيل لقتال العراق.

لم تتكلم إيران عن «التكفيريين» أثناء الغزو الأميركي للعراق، حيث كان تنظيم القاعدة الذي ولد «داعش» قوياً، لأنها كانت تقول إنها تمول كل من يقاتل الأميركيين في العراق. وهكذا، منذ الحرب في سوريا، تركز الاهتمام على المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى «القاعدة» و«داعش». وإيران التي لا تريد أن ينظر إليها على أنها تخوض الحرب دفاعاً عن نظام بشار الأسد، دعمت وشجعت على تسليط الأضواء على «التكفيريين»، وهذه تهمة شملت كل من يعارض نظام الأسد، إلا أن القليل من التغطية يُعطى للمتطوعين الشيعة الذين يشكلون الميليشيات لدعم نظام الأسد في معركته ضد «التكفيريين»، ومعركته الأكثر شراسة ضد الشعب السوري الذي سعى إلى التغيير داخل سوريا.

إيران دعمت وأنشأت وشجعت هذه الميليشيات المؤلفة من «متطوعين»، وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 3 آلاف من الحرس الثوري الإيراني يشاركون في المعارك داخل سوريا، ولا يقتصر دورهم فقط على التدريب والتنظيم. ووفقاً لما ذكره ضابط في الحرس الثوري، فإن إيران قامت بتجنيد وتدريب 42 فرقة و138 كتيبة للدفاع عن نظام الأسد.

وفي حين يبكي العالم على اليمن بدعوى قصف التحالف، يتجاهل دعم الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» للحوثيين هناك. وكان نصر الله قد قال في خطابه الأخير: «إن اليمن منطقة استراتيجية ومهمة جداً، وأهميتها مضيق باب المندب». وتتركز الأنظار الآن على سوريا، وما كان في البداية معركة رئيسية ضد «داعش»، أصبح محور اهتمام عالمي رئيسي، وتسابق إيران الزمن وروسيا وتركيا هناك.

من المهم أن نلاحظ أن الشرعية الدولية التي تمتع بها الملالي منذ الاتفاق النووي عام 2015، بدأت تتفكك. لقد صوت مجلس الشيوخ الأميركي الشهر الماضي على فرض عقوبات جديدة على إيران لانتهاكاتها شروط الاتفاق النووي، مثل استخدام الصواريخ الباليستية ودعمها مجموعات إرهابية، هذه التحركات السياسية لها دائماً تأثير اقتصادي كبير، وهذا هو السبب في استمرار المصارف الغربية في تقديم التحذير للشركات التي قد تخضع لإغراء الاستثمار في إيران. هذا لا يزعج الحرس الثوري الإيراني، ورغم محاولات وسائل الإعلام الأميركية لإقناع نفسها وإقناعنا بأن إصلاحيين يحكمون إيران، وعلى رأسهم روحاني وظريف، فإن الحرس الثوري هو من يحدد السياسة والنفوذ في إيران.

الآن، بعد هزيمة «داعش»، يدرس البرلمان الإيراني اقتراحاً لإنفاق ما يقرب من 500 مليون دولار على تعزيز الأمن، وتوسيع برنامج الصواريخ، وهذا سيرفع ميزانية الحرس إلى 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى خطة التنمية الخمسية المعتمدة بالفعل، التي تتطلب من الحكومة تخصيص 5 في المائة على الأقل من الميزانية للدفاع، ولا سيما تطوير نظام الصواريخ المتعدد الأبعاد.

يقول لي باباك تقوي، الخبير العسكري الإيراني المقيم خارج إيران: «إن المبلغ الإضافي قد ينفق على الأرجح على صاروخ (يا علي) الذي طال انتظاره بسبب نقص الأموال»، ويضيف: «إن إسراع البرلمان بوضع مشروع القانون لتسريع برنامج الصواريخ يعكس مستوى انعدام الأمن الذي تشعر به طهران من جيرانها الجنوبيين، الذين تتعاون معهم إدارة الرئيس دونالد ترمب»؛ الولايات المتحدة تعتبر النشاط المتزايد لبرنامج الصواريخ الإيرانية تهديداً للاستقرار الإقليمي.

ثم أطلت شركة النفط الفرنسية «توتال»، وكان رئيس مجلس إدارتها باتريك بويانيه قد اعترف في أبريل (نيسان) الماضي بأن التحديات المصرفية الإيرانية التي لم تحل بعد كانت عائقاً أمام استثمار «توتال». إن تردد المصارف الدولية في توفير التمويل، أو تسهيل المعاملات المتكررة اللازمة للأعمال اليومية في البلاد، يتطلب من «توتال» بذل جهد خاص لإيجاد «حل خاص بها». وكشف بويانيه عن أن «توتال» تختبر آلية مصرفية جديدة لتحريك المال من وإلى إيران بطريقة متوافقة. وحسب تفسير رجال المصارف، فإن هذا يعني على الأرجح أن مصرفاً متوسط الحجم، ربما فرنسي، قد أقام قناة لـ«توتال» لتحويل الأموال إلى إيران، دون إشراك أشخاص أميركيين أو دولار أميركي، وبالتالي تجنب ما يسمى بـ«رابطة الولايات المتحدة» مع المصارف.

هذا يعني أيضاً أن «توتال» مستعدة للعمل مع الحرس الثوري الذي يسيطر على قطاعات كثيرة، أبرزها قطاع النفط. واللافت للنظر قرار «توتال» المضي قدماً لأن الشركة لن تبدأ في تلقي الإيرادات قبل عام 2021، فهي التزمت بأن أول غاز سيوزع في السوق المحلية الكبيرة في إيران. وأول رد فعل صدر من جريدة «كيهان» الراديكالية: مكافأة الحكومة للخيانات الفرنسية.

وكان الرئيس روحاني قد قال أخيراً: «وضعت في زمن أحمدي نجاد أجزاء ضخمة من الاقتصاد تحت سيطرة الأجهزة العسكرية والأمنية، بذريعة الخصخصة»، في إشارة إلى الحرس الثوري، ووصف هذه الكيانات بأنها «حكومة مسلحة»، معترفاً بأن القطاع الخاص لا يستطيع التنافس معها. وقال: سلمنا جزءاً من الاقتصاد الذي تسيطر عليه «الحكومة غير المسلحة» إلى «حكومة مسلحة».

وكان موالون للمرشد الأعلى قد شنوا هجوماً على روحاني، وقال محسن أجني: «لدينا الحق الآن في أن نعتبر أنه عندما يقول الرئيس إن المؤسسات العسكرية يجب ألا تكون لها علاقة بالسياسة والاقتصاد، إنما هو ينسق مع العدو لفرض عقوبات على الحرس الثوري الإيراني».

ترتفع الخلافات السياسية في إيران وتتزايد؛ التهميش سيعاني منه روحاني. يتركه الحرس يغرق ما دام أنه لا سلطة لديه، ذلك أن الحرس المسيطر على الاقتصاد والسياسة في إيران يتطلع إلى شق ممر طوله 2000 ميل حتى البحر المتوسط. تحلم القيادة الإيرانية بإعادة الإمبراطورية الفارسية، لكن هذا الممر أمامه كثير من العقبات، إذ على طوله الكثير من السنة العرب المعادين لإيران.

بعد ضرب العراق وسوريا، شعرت إيران بأن المجال أمامها مفتوح. من هنا، ثورتها على عودة المملكة العربية السعودية إلى الواجهة؛ كادت المنطقة العربية تصبح تحت سيطرة إيرانية وتركية وإسرائيلية. الآن، العقبة الأساسية التي ستواجهها إيران ليس أميركا، إنما السعودية ومصر. من الضروري أن يؤكد العرب أنهم أصحاب الأرض، ومن الضروري أن تستمر السعودية في وثبتها؛ إذ مع الاحترام لكل الدول العربية، فإنها الدولة الوحيدة التي تخيف إيران!

اقرأ المزيد
٧ يوليو ٢٠١٧
هل تنتهي «الداعشية» بانتهاء «دولتها»؟

قبل ثلاث سنوات من الآن، كان المدعو أبو بكر البغدادي يعلن قيام ما سمّاه «دولة الخلافة» من على منبر جامع النوري الكبير التاريخي، الذي شيد في مدينة الموصل عام 1173 بأمر من نور الدين زنكي، بعد أن سيطر على المدينة. وها هم جنود «دولة الخلافة» وبعد أن اشتد الخناق عليهم، يقومون بتفجير المكان الذي كان منطلق الإعلان عن دولتهم المزعومة، إضافة إلى تفجير مئذنة الحدباء التاريخية، إيذاناً بانتهاء حلم الخليفة والخلافة سواء بسواء.

هل انتهت «دولة الخلافة» المزعومة التي علّقها المدحورون من سلطة بعض الجيوش العربية وأجهزتها الأمنية بين السماء والأرض، أملاً باستعادة سلطة لهم ولمن ساندهم وتواطأ معهم من استخبارات الدنيا؟ وفي حين أن وهم الخلافة هذا، لم يدم أكثر من ثلاث سنوات عجاف، قتل خلالها مئات الآلاف من البشر، كل ذنبهم أنهم لم يمتثلوا لسلطة «الخليفة» وجنوده الملاعين، ممن يعانون من متلازمات مرضية عديدة، انتزعت منهم عقولهم وقلوبهم وهيئاتهم الإنسانية، محولة إياهم إلى روبوتات لا تجيد القتل الرحيم مطلقاً، وها هي شرور أعمالهم بدأت تودي بهم إلى التهلكة، وهم يُطردون أو يهلكون في الموصل، فيما تتواصل حملة اجتثاثهم من الرقة.

بين رمضان 2014 ورمضان 2017 ثلاث سنوات «عاشت» فيها «دولة الخلافة» وأماتت بمسلكياتها الوحشية خلقاً كثيرين، لكن سلطات ما قبل تلك «الدولة» وما بعدها ستواصل مسلسل القتل، وفق ما درجت عليه السلطة بطبيعتها، والكهنوتية منها تحديداً، دفاعاً عن ذاتها أولاً، ومصالحها ثانياً، وتشبثها بهيمنتها التسلطية ثالثاً.

وهكذا وسط فتن الخراب السلطوي التديّني، تذهب الخرابات «الداعشية» و «المتدعشة» وأضرابهما على جانبي التمذهب الديني والسياسوي، إلى التمسك بالسلطة، أو الاحتفاظ بها، وإن لم تفلح ذهبت إلى تدميرها، أو محاولة ذلك، في حال أوشكت أن تضيع أو تفلت من أيدي «أهل الخراب»، الذين يزدادون تشبثاً بها، حتى ولو أدى الأمر إلى الانقلاب عليها وتأسيس سلطة لهم «جديدة» تماماً، تناقض أشكال الهيمنة والسيطرة السلطوية القديمة، على ما فعل ضباط الجيوش التي انهارت أنظمتها السياسية أو توشك على الانهيار، كما هو حال الجيشين العراقي والسوري، وفي العديد من أنظمة المنطقة التي استعصت على التغيير الشعبي أو الثوري، وأجهضت حراكاتها الجماهيرية، فما كان من «السلطة العميقة» إلا أن شكلت الغلاف البديل والسميك في إسنادها السلطة.

أما الوضع الفلسطيني العام فمأزوم هو الآخر وسط صراعاته السلطوية وما ذررته وفرخت من أزمات، أصابت كامل الكيانات السياسية والتجمعات الفلسطينية على امتداد الوطن وفي الشتات.

المسلكيات «الداعشية» الأخيرة التي رأيناها تتجسد على أيدي «جنود الخلافة»، كانت تناظرها على الدوام مسلكيات لجنود هذه السلطة أو تلك على مدى أزمان التسلط الاستبدادي، والحكم باسم السياسة أو الدين، لا فرق في جوهر الأمر، حيث السلطة الفاجرة لا ترعوي ولا تنصاع لقانون محلي أو دولي، أو حتى لتقاليد أهلية أو قبلية، طالما أن لا سلطة معتبرة، من تقاليدها الأساس محاسبة ومراقبة مسلكيات من يفترض فيهم أن يكونوا المثال الأعلى لتطبيق معايير النزاهة والعدل والمساواة والقيم الإنسانية المشتركة، واحترام مواطنية المواطن في بلد يحكمه القانون، حيث يتساوى أمامه كل الناس ويساوي هو بالطبع في الحقوق والواجبات بين كل الناس، لا فروق شكلية أو جوهرية في ما بينهم، لا جنسياً ولا طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً وعرقياً.

وهذا تحديداً هو مثال العيش الكريم والحرية كثمرة لمساواة مفتقدة وديموقراطية مشتهاة، تتوق إليها مجتمعاتنا ودولنا، وهي تقف عند عتبات انحدارها أو صعودها، نحو سلم القيم والأخلاقيات المفترض أننا نتشارك فيها مع الثقافات والأمم والحضارات التي كان لنا نصيبنا من المساهمات الخلاقة فيها، قبل أن يشملنا الانحدار لنعود القهقرى نكوصاً وانحطاطاً، فيصبح الماضي سيد المثالات والنماذج التي يسعى بعضنا الى الغرق فيها، والى الهروب إليها من حاضر ناشز، لا يقود إلى أي مستقبل.

كل هذا وسط الخراب التديّني، ما عاد يمكنه استعادة أمل الألق والحلم بحياة إنسانية تقف فيها السلطة على حيادها المفترض نسبياً، وسط سلوك بشري يعتاد على ممارسة الحرية كما ينبغي، طالما أن ليس هنالك ما يؤذي مشاعر وأحاسيس الآخرين، ولا يتدخل في جوهر خصوصياتهم المعيارية المتعارف عليها، ولا يؤثر قسراً وإكراهاً في رؤاهم تجاه بعضهم البعض، أو تجاه الآخر في شكل عام.

ووسط الخراب «الداعشي» العميم، حتى ما بعد سقوط «دولة الخلافة الداعشية» سيبقى هناك بقايا «متدعشين» هنا وهناك، يواصلون سرديات التآمر والقتل والإجرام بصبغته «الداعشية»، الأمر الذي يحتم علينا جميعاً، أفراداً وجماعات ومجتمعات، مواصلة التأهب لمواجهة كامل الانحرافات التدينية وما يشابهها من انحرافات قوى التكفير والتطرف والإرهاب، حتى لا تقوى شوكتها، وكي لا يعاد بناء سردية «داعشية» جديدة في فضاءات بلادنا الموبوءة بسرديات وطبائع استبداد متنوعة ومتعددة، جميعها لا تقبل الآخر الديني أو السياسي، وتعادي العالم بأكمله.

قبل «داعش» مثل «داعشيو» أنظمة الاستبداد السلطوية النموذج الفاقع على وجود الأفران والمحارق والمقابر والتمثيل بالجثث، وستبقى هذه الحالة مع اختفاء «داعش» كدولة أو كتنظيم أو كفقه أيديولوجي متوحش، يغالي في مناصبة الآخر ليس مجرد التعادي والتضاد معه، بل وسلوك دروب الإبادة بحقه. وما بعد «داعش» أو في ظل استمرار فقهه الوحشي، سوف تستمر بعض المسلكيات «الداعشية» بتداعياتها تطل بين الحين والآخر، لتنتقل هنا أو هناك أو هنالك.

لقد مثل السلوك «الداعشي» طوال السنوات الثلاث الماضية صدمة ترويعية هائلة لكل العالم، وحتى في دواخل بلداننا، لم تنج مجتمعاتنا من مضايقات «داعشية» على أيدي بعض السياسيين وإقطاعهم وزعاماتهم وأزلامهم والسلطات الموازية والعميقة وأشباهها، وهي تفرض عليهم إرادتها ورغباتها، حتى وصلنا في بعض بلداننا إلى أن يجري حشر وقولبة الديموقراطية (ديموقراطية صندوق الاقتراع) في قالب «قانوني» يتوافق مع رغبات هذا السياسي أو ذاك، عبر تلغيم قانون الانتخاب وجعله متوافقاً وآلية اختيار السياسي لناخبيه، لا انتخاب الناس لممثليهم.

وتلك مهزلة المهازل، و «داعشية» مختارة ومنتقاة، حين يراد للناس أن «تختار» من لا يلتفت إلى مصالحها وتطلعاتها، بل يُطلب منها أن تصفق للاستبداد السياسي، كما صفقت وتصفق بعض قوى «الإسلام السياسي» وفرقه التدينية لبعض فقهاء التقويل وفقه التوحش التكفيري، والشعارات التي لا تحوز قابلية العقل لها، بقدر ما قاد ويقود إليها عقل الاستتباع النقلي، وهو يتعدى على الدين، وعلى كامل محاولات التفقه به، وعلى التشريع، من دون أن يرف له جفن، كما فعل التدين «الداعشي» وأمثاله من تدين التطرف والتكفير والإرهاب، وكما يفعل الاستبداد السياسي وهو يقود مجتمعات الدولة عندنا للعودة إلى تقديس طواطم السلطة الاستبدادية الغاصبة، وما جلبته طوال السنين المواضي من تغييب سلطة العقل وإحلال عقل السلطة البراغماتية مكانه، حتى بتنا على ما هو حالنا اليوم، نشهد احتلال السلطة للفضاء العام واختلال السياسة مع اختلال العقل السياسي السلطوي، وإصراره على إنتاج وتوليد ما لا ينفع السياسة ولا الناس ولا الدولة ولا السلطة المعيارية المناقضة لطبائع الاستبداد السلطوي، الحالم بمد أمجاد امبراطوريته الخانقة نحو فضاء سلطوي أكثر اتساعاً –سياسياً ودينياً– على ما حاول فعله «دواعش» هذا الزمان... وفشلوا.

هل انتهت «الداعشية» بانتهاء «دولتها»؟ أم أن «داعشية» ما قبل «داعش»، ستواصل مسلكياتها المتوحشة في ظل سلطة استبدادية قمعها الوحشي أقرب إلى «التدعيش» المنفلت، في وقت لم تكن «داعشيتها» أقرب إلى القمع المنضبط؟ وفي كل الأحوال نادراً ما قد نجد خاصة في بلادنا سلطة تجافي «الحقيقة الداعشية» التي رأينا وعايشنا صورتها البشعة على امتداد السنوات الثلاث، حيث امتدت مفاعيل فقه التوحش من مركز وأطراف «دولة الخلافة» إلى أكثر من اتجاه على امتداد العالم.

اقرأ المزيد
٧ يوليو ٢٠١٧
فصائل ثورتنا "احذروا غضبة الشعب إذا ثار ضدكم"

شكل غياب القضاء المستقل والقيادة العسكرية الموحدة عبء كبير على المدنيين في المناطق المحررة التي تحكمها فصائل الثورة بتعدد أسمائها وتوجهاتها، حيث كثرت أخطاء هذه الفصائل في الوقت الذي يعجز فيه المدنيون دفع أي ظلم عنهم أو اللجوء لأي محكمة تبت في مظلمتهم ما دامت الفصائل هي الخصم والحكم.


هذه الأخطاء تتمثل في عمليات الاعتقال والتضييق على الحواجز واستغلال المؤسسات المدنية في صالح الفصيل، وعدم إنصاف الضعيف ومساندته، وتسلط القوي وتجار الدم، وسط غياب الرقابة والمحاسبة، إلا إذا كان للأمر علاقة بالفصيل أو حتى عنصر أو قيادي تابع للفصيل فتتحرك الأرتال وتجمع الحشود، أما غير ذلك فيضيع الحق بين محاكم الفصائل وبين شد ومد.


لا يمكن أن تستثني أي فصيل في هذا الأمر ولا أي منطقة، فكما هي الأخطاء والتجاوزات والمظالم في الغوطة الشرقية ذاتها في إدلب وفي مناطق درع الفرات وفي درعا مع بعض الفوارق الصغيرة بينها، فالمدنيون تحكمهم القوة والقبضة الأمنية، وسط غياب الدوائر القضائية التي من المفترض أن تدافع وتحمي حقوقهم.


كثيراً ما نسمع عن تجاوزات للهيئة هنا والأحرار هناك، والجيش الحر على اختلاف أسماء فصائلهم، يتصرفون كلا في مناطق سيطرته بأنه السيد الاقوى والحاكم الأجدر، يفعل مايريد، ولو على حساب الجميع، فالأرض قد ملكت له، والمدنيون فيها تحت حكمه وسلطته وجبروت قادته، فتعاظمت الأخطاء ولم يحاسب أي من المخطئين مع اعتذارات ببيانات لا تتعدى حبر الورق الذي كتبت عليه.


التشبيح الإعلامي أيضاَ للفصيل والدفاع عنه عن كل خطأ يرتكبه عناصره يتولاه إعلاميون من ذات الفصائل، قالوا أنهم مستقلون وينطقون بالحق، ويدافعون عن المظلوم، وما نطقت ألسنتهم إلا بشيء ينصر فصيلهم، ويتهم الخصم، لتتوازى التراشقات الإعلامية، وكل طرف ينتظر الآخر على خطأ يشن فيها حربه ضده ويشعل بها مواقع التواصل الاجتماعي، قد تليها حشود وأرتال وتسير جيوش.


ما الفرق اليوم بين ما ارتكبه الجيش الحر في الغندورة بحلب وما فعلته الهيئة في إحسم ومعرة النعمان، ومافعله جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة، وماحصل قبل عدة أيام بين مدينة بصرى الشام وبلدة معربة بريف درعا من اعتقالات وانتهاك لحقوق المدنيين وقصف وقتل متبادل، وعلى حساب دماء أبنائهم وتضحياتهم التي قدموها طيلة أعوام الثورة، فهل باتت شريعة الغاب تحكمنا، وبات كل فصيل سيد على بقعة جغرافية تضيق به يوماً بعد يوم، يلاحق أبناء جلدته ويضيق على المدنيين في الوقت الذي تكالبت فيه كل أمم الفساد لصالح الأسد ضد هذا الشعب، وباتت تتوسع على حساب الفصائل يومياً بعد يوم وهم في غفلة من أمرهم.


سبع سنوات مرت عجاف على الشعب السوري منذ بداية الحراك السوري وهو يترقب تلك السنوات الخضر التي ستليها بعد أن ينهي عهد الاستبداد والظلم، واضعاً كل أمله وثقته بعد الله بفصائل الثورة وأبنائه العسكر، ليأتي الظلم منها، ويقتل من يقتل بدم بارد، لا محاسب ولا رقيب عليهم، وقضاء ولا ناصر لهم، يعتقل أبنائهم أمام عيونهم على يد من حسبوه حامياً لهم، تتعدد الحجج في الأسباب، وتتعدد الوجوه والفصائل التي تمارس ذات الفعل، الذي بسببه ثار كل هذا الشعب على جلاده الأسد ودفع كل هذه التضحيات والدماء لأجل أن يحيا بحرية وكرامة وعدالة، فاحذروا غضبة الشعب، واعلموا أن فيه قوتكم، كما أن فيه سقوطكم عندما تحاربونه وتنتهكون حقوقه، فإن للشعب غضبة إذا ثارت ضدكم لايمكنكم بعدها الوقوف في وجهه.

اقرأ المزيد
٦ يوليو ٢٠١٧
لقاء ترامب وبوتين المرتقب

رغم أن عواصم العالم تترقب لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، على هامش قمة العشرين، المزمع انعقادها الأسبوع المقبل في مدينة هامبورج الألمانية، إلا أن اللقاء بحد ذاته، حتى لو كان إيجابياً، لن يؤدي على الأرجح إلى تحولات كبرى في أي من الملفات الدولية.

فعواصم العالم تترقب اللقاء لأنه يأتي في أجواء ملتهبة في أقاليم شتى، لأميركا وروسيا دور في أغلب ملفاتها لكن اللقاء يتم أيضا بين زعيمين لم تتحسن العلاقة بين بلديهما بقدوم ترامب للحكم، كما كان متوقعاً، بل على العكس وصل التوتر لمستويات خطيرة في الأسابيع الأخيرة.

فترامب الذي كان قد أعلن أثناء الحملة الانتخابية أنه سيسعى لتحسين العلاقة مع روسيا وصرح بإعجابه الشخصي بالرئيس بوتين لم تتغير سياسة بلاده كثيراً عما كانت عليه في عهد أوباما تجاه موسكو.

ففي الأسبوع الماضي مثلا، فرضت وزارة المالية الأميركية المزيد من العقوبات على روسيا بسبب الموقف في شرق أوكرانيا. وهو ما تبعه إلغاء روسيا للاجتماعات الثنائية بين مسؤولي البلدين التي كان مزمعاً عقدها في بيطرسبرغ بهدف البحث في تحسين العلاقات، متهمة واشنطن بأنها تبدد فرص التعاون.

وقد أدى صدور تلك العقوبات الجديدة إلى تراشق بالتصريحات بين البلدين بشأن الوضع في أوكرانيا يؤكد على أن سياسة الولايات المتحدة بالنسبة لجزيرة القرم لم تتغير، رغم تصريحات ترامب كمرشح للرئاسة والتي كانت تسير في الاتجاه المعاكس.

والتوتر بين موسكو وواشنطن لم ترتفع حدته فقط في أوكرانيا وإنما أيضا في سوريا وبحر البلطيق. ففي المشهد السوري، كانت آخر حلقات التوتر هي التحذيرات المتبادلة التي بدأت بذلك الذي وجهه البيت الأبيض لقوات الأسد بعواقب وخيمة «إذا ما شنت قصفاً كيماوياً»، فتلاه تحذير روسي للولايات المتحدة بقصف طائراتها إذا ما استهدفت قوات النظام السوري.

لكن لعل الأخطر في التوتر الجاري هو ما وقع من مواجهات جوية فوق بحر البلطيق بين طائرات روسية وأميركية كان أكثرها خطورة عندما اقتربت مقاتلة من طراز إف 16 تابعة للناتو من طائرة كانت تقل وزير الدفاع الروسي فاقتربت طائرة حربية روسية من طائرة ناتو.

والأرجح ألا يغير لقاء ترامب بوتين أياً من ذلك، والسبب ببساطة أنه فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، يقف ترامب وحده في مواجهة جل المؤسسات الأميركية.

فكما صار معلوماً للكافة فإن أجهزة الاستخبارات الأميركية تتخذ موقفاً متشدداً من روسيا وتتهم الحكومة الروسية بأنها تدخلت إلكترونياً للتأثير في مجريات الانتخابات الأميركية. وقد أدت تداعيات الموقف لتعيين محقق مستقل لبحث تلك القضية تحديداً. والكونغرس، الذي يتمتع فيه حزب الرئيس بالأغلبية، لا يقف في صف الرئيس فيما يتعلق بالعلاقة مع الروس.

فعلى عكس الرئيس الذي لم يقل صراحة حتى الآن أنه يؤمن بما تقوله أجهزة استخبارات بلاده بشأن تدخل موسكو في الانتخابات الأميركية فإن أغلب أعضاء الكونغرس الجمهوريين، قبل الديمقراطيين، يتخذون موقف تلك الأجهزة بل وتوجد تحقيقات داخل الكونغرس نفسه بخصوص تلك القضية يقودها الجمهوريون، كونهم حزب الأغلبية.

بل أن مجلس الشيوخ كان قد أصدر قبل أسابيع وبأغلبية ساحقة مشروع قانون يقنن العقوبات على روسيا التي كان أوباما قد فرضها قبل رحيله بقرار تنفيذي. لكن مشروع القانون لا يزال يلقى محاولات من جانب حلفاء ترامب في مجلس النواب لتخفيف حدته.

حتى ركس تيلرسون، الذي كان في صف الرئيس بخصوص روسيا، غير موقفه ليس فقط لأنه يشعر بتهميش دوره في صنع القرار كوزير للخارجية لصالح زوج ابنة الرئيس جاريد كوشنر وإنما بسبب ما ترتب على اللقاء الذي اجتهد لعقده في البيت الأبيض بين ترامب ووزير الخارجية الروسي.

فبينما تم منع الإعلام الأميركي من حضور اللقاء، نشر الروس صوراً من داخل المكتب البيضاوي التقطها إعلاميون روس دون إذن مسبق. ليس ذلك فقط بل تبين لاحقاً أن ترامب تحدث في ذلك اللقاء مع الروس عن إطاحته بمدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، وعن معلومات سرية في مجال مكافحة الإرهاب، الأمر الذي أحرج تيلرسون.

حتى مجلس الأمن القومي، والذي يتبع الرئيس مباشرة، فإنه على ما يبدو يتخذ المواقف نفسها التي تتخذها باقي المؤسسات الأميركية. فقد برزت معلومات عشية اجتماع الرئيسين في قمة العشرين نشرتها الغارديان في تقرير لها مؤداها أن ترامب طالب مساعديه بالبيت الأبيض بإعداد قائمة تنازلات يمكن استخدامها في ذلك الاجتماع في إطار مقايضة الروس بشأن قضايا أخرى.

لكن الطلب، وفق الغارديان، لقى مقاومة شديدة ليس فقط بين المسؤولين في مجلس الأمن القومى، وإنما في وزارتي الخارجية والدفاع، حيث يخشون أن يقدم ترامب مثل تلك التنازلات دون مقابل.

وفى مثل هذه الأجواء، كان طبيعياً ألا تتم دعوة بوتين حتى الآن لزيارة البيت الأبيض أو تحدث تحولات إيجابية في العلاقات بمجرد لقاء ترامب وبوتين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني