مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٥ يوليو ٢٠١٧
لماذا حافظت إسرائيل على الدولة السورية؟

لا شك أن الطواغيت العرب وخاصة الذين صنعوا الدولة على مقاسهم، وسموها بأسمائهم أحياناً كسوريا الأسد مثلاً، ربطوا الدولة كلها بمصير الرئيس والنظام، بحيث إذا انهار النظام يجب أن تنهار معه الدولة كلها، لأن الطاغية العربي يعمل على طريقة لويس الرابع عشر الذي قال يوماً: «أنا الدولة والدولة أنا». إما أن يحكم حتى ينتقل من القصر إلى القبر أو أنه إذا اضطر إلى التخلي عن الحكم تحت ظروف معينة فلا بد من الانتقام من الدولة والشعب معاً بتدمير كل مؤسسات الدولة ومقوماتها كما فعل بشار الأسد في سوريا والقذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن. وقد لاحظنا في سوريا مثلاً أن النظام أوعز لشبيحته ومؤيديه أن يكتبوا على جدران سوريا شعارهم الفاشي الشهير: «الأسد أو نحرق البلد» ليقولوا للسوريين إما أن تقبلوا بحكم الأسد أو أننا نحرق سوريا الدولة والوطن، لا بل نقوم بتهجير الشعب أيضاً. وهذا ما فعلوه عملياً، فقد دمروا أكثر من نصف البلد، وشردوا أكثر من نصف الشعب، وحطموا غالبية البنية التحتية للبلاد بالقصف الممنهج وخاصة عبر البراميل المتفجرة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولا حتى على أيدي النازية والفاشية.

لقد قالها جنرالات سوريون كبار مرات ومرات إنهم لو وجدوا أنفسهم محاصرين داخل دمشق، فسيحرقون العاصمة عن بكرة أبيها. لكن هناك قوى دولية وإقليمية لا يمكن أن تسمح بسقوط الدولة السورية، ليس من أجل عيون السوريين والحفاظ على دولتهم أو ما تبقى منها، بل لأنه ليس من مصلحة قوى إقليمية ودولية كثيرة القضاء على الدولة السورية، فسوريا ليست ليبيا ولا اليمن البعيد عن إسرائيل، بل إن أمن إسرائيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الدولة في الدول المجاورة وخاصة في سوريا. ولوعدنا إلى الوراء سنوات وتابعنا التصريحات الأمريكية تحديداً، لوجدنا أن كبار الاستراتيجيين والمسؤولين الأمريكيين أكدوا مرات ومرات بأنهم لن يسمحوا بسقوط الدولة ولا النظام في سوريا، لكن ليس لأنهم يحبون الشعب السوري ولا يريدونه أن يخسر دولته التي بناها على مدى عقود، بل لأن لا إسرائيل ولا أمريكا يمكن أن تسمح بوجود أفغانستان أو صومال أو ليبيا أخرى على حدود إسرائيل. بعبارة أخرى، فإن الدولة السورية ضرورة وجودية بالنسبة لإسرائيل قبل أن تكون ضرورة للسوريين أو الروس. وقد قالها رامي مخلوف الواجهة الاقتصادية لبشار الأسد في الأسابيع الأولى من الثورة عندما ذكّر إسرائيل بالاتفاق السري بينها وبين نظام الأسد، بأن أمن إسرائيل من أمن النظام. وقد كان مخلوف وقتها صريحاً إلى حد الفضيحة.

ورغم كل ما حصل في سوريا من دمار وخراب إلا أن الأمريكيين والروس والإسرائيليين عملوا المستحيل كي لا تنهار الدولة السورية.

لكن رب ضارة نافعة للسوريين بعد أن شاهدوا ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة كأفغانستان والصومال وليبيا. لا شك أن المصلحة الإسرائيلية والأمريكية بالحفاظ على الدولة السورية صب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب السوري تحديداً، خاصة وأن فصائل المعارضة والجماعات التي تقاتل النظام لا تقل قذارة عن النظام في معاداة الدولة واستهدافها، فكما عمل النظام على تدمير البلد، لم تقصّر فصائل المعارضة في استهداف البنية التحتية ولا حتى البنى الحيوية والاستراتيجية في البلد بحجة إيذاء النظام، مع العلم أن المعارض الوطني يعلم علم اليقين أن الدولة شيء والنظام شيء آخر تماماً، حتى لو حاول النظام أن يربط الدولة بالنظام والحاكم كما فعل النظام السوري عندما أطلق اسم «سوريا الأسد» على سوريا. صحيح أن الدولة السورية ارتبطت منذ عام السبعين بنظام البعث الأسدي، لكن هذا لا يعني أن الدولة السورية صناعة أسدية بعثية، بل هي صناعة سورية وطنية ساهم في بنائها العديد من السوريين العظماء والوطنيين كفارس الخوري وأمثاله من السوريين الشرفاء. بعبارة أخرى، لقد فشل الكثير من المعارضين في التمييز بين الثابت والمتحول، فاستهدفوا الدولة على أنها هي والنظام صنوان، دون أن يعلموا أن النظام متحول والدولة ثابتة بغض النظر من يحكمها. لا بأس أن يستهدفوا النظام وينتقموا منه على اعتبار أنه مجرد عصابة اغتصبت الدولة، لكن من الخطأ الاستراتيجي أن يستهدفوا الدولة على اعتبار أنها هي والنظام شيء واحد، حتى لو بدت ذلك ظاهرياً. ولا شك أن بعض المغرضين من المعارضين تحجج باستهداف النظام كي يؤذي الدولة، فكان يبرر هجومه على مرافق الدولة ومؤسساتها مدعياً أنها أداة في يد النظام.

بكل الأحوال الآن وبعد أن شاهد السوريون ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة وتفكك جيشها، عليهم أن يحمدوا ربهم أن الدولة السورية رغم كل الخراب والتدمير الذي لحق بها إلا أنها مازالت موجودة وقابلة للترميم والإصلاح، خاصة وأن قوى المعارضة لم تقدم نموذجاً أفضل من الدولة التعيسة في سوريا. لقد تصرف معظم الفصائل في سوريا في الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب بعقلية العصابات والإقطاعيات والإمارات. وهل ثار السوريون أصلاً على النظام الفاشي ليقسموا بلدهم إلى إمارات ومقاطعات وغنائم بين الفصائل التي تدعي معارضة النظام؟ بالطبع لا. لقد لاحظنا كيف كان كل فصيل يتعامل مع المنطقة التي يسيطر عليها بعقلية العصابة أو الإمارة في أحسن الأحوال على اعتبار أنها غنيمة حرب. وقد شاهدنا أيضاً التناحر الكبير بين تلك الفصائل التي كانت تتنافس على الغنائم دون أي اهتمام ببناء دولة جديدة على أساس المواطنة والكرامة والحرية، أو تقديم نموذج أفضل من نموذج النظام. ولو كان السوريون قد وجدوا خياراً ثالثاً أقرب إلى دولة المواطنة الحديثة فلا شك أنهم كانوا سيركلون ما تبقى من الدولة السورية إلى مزبلة التاريح، لكنهم وجدوا أنفسهم بين بقايا دولة ولا دولة، فاختاروا بقايا الدولة على اللادولة. كم هم سخفاء أولئك الذين يقولون إن الجيش السوري والنظام حافظا على الدولة السورية! لا أبداً، فلو كان الأمر عائداً للنظام وفصائل المعارضة لما تركوا حجراً على حجر في الدولة السورية. وسيذكر التاريخ أن الذي منع سقوط الدولة السورية ليس النظام ولا جيش النظام ولا حتى حلفاء النظام، فالروس تدخلوا في سوريا بضوء أخضر إسرائيلي وأمريكي. ولو كانت سوريا بعيدة عن إسرائيل لسقطت الدولة منذ الشهر الأول. لكن قرب سوريا من اسرائيل منع سقوط الدولة بأمر اسرائيلي، مع الاعتراف طبعاً أن النوع الوحيد من «الدول» الذي يمكن أن تسمح به إسرائيل على حدودها هو نظام القمع والمخابرات والتشبيح ، فهذا النوع من الدول والانظمة هو الذي يحميها من الشعوب منذ نصف قرن.

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
عندما كانت «الإسلاموية» تبرئة للسوريين من التطرف الشيوعي

 قبل نصف قرن لم تكن تهمة الإرهاب تعني أنك إسلامي جهادي، بل شيوعيا لأن من عمم مصطلح الإرهاب وجعله مسيسا هو الولايات المتحدة، فهي تصنف الدول والمنظمات حسب درجة عدائها لها.

يمكن ان تكون جزارا وقاتلا كإسرائيل والسيسي، لكنك لست إرهابيا لأنك حليف للولايات المتحدة، بل يمكن ان تكون إسلاميا جهاديا وتحصل على استقبال في البيت الأبيض من ريغان، ومديح من ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، إذا كنت تقاتل اعداءهم، كما حصل مع  الفصائل الأفغانية التي قاتلت الروس والشيوعية بالثمانينيات، حين كان الخطر الشيوعي هو الذي يشغل بال الامريكيين لا البعبع الاسلامي. والمفارقة أن الولايات المتحدة تنجح في كثير من الاحيان في الهيمنة على وعي خصومها، وجعلهم في موقف دفاعي عن تهمة مسيسة كالإرهاب، ويشغلون أنفسهم في تبرئة ذواتهم من هذه التهمة وكأنهم يأخذونها على محمل التوصيف الحقيقي، وينقاد الناس بسهولة للتماهي مع النقاش بالتهم الموجهة إليها، ليصبح شغلهم الشاغل نفي تلك الصفة عنهم.

الثورة السورية مثلت أحد الامثلة الحية على هذه القضية في زماننا الراهن، بتركيز جزء كبير من خطابها على نفي الإسلاموية والتشدد الديني، خشية من هذا التصنيف الغربي، بهدف الحصول على دعم الغرب الذي لم يأت. والمفارقة أن مقاربة مشابهة حصلت في سوريا قبل اكثر من نصف قرن، تكشف التلاعب الامريكي بوعي الشعوب بوضعهم دائما في موقع المتهم، ودفعهم بالنتيجة لتبني خطاب ذي أفكار وقيم ترمز للتبعية للغرب، رغبة في كسب رضا القوة العالمية الكبرى، ففي الخمسينيات كانت بعض القوى السياسية في سوريا تسعى لإثبات القطيعة مع الشيوعية عدوة الولايات المتحدة، ولعل ما قادنا لهذا الحديث هو تقرير تم نشره مؤخرا على قناة «بي بي سي» يظهر مراسل القناة وهو يتجول في دمشق نهاية الخمسينيات، ويلتقي عددا من المواطنين في الشارع وبعض السياسيين، يسأل المراسل البريطاني السكان وكأنه محقق: هل أنتم شيوعيون؟ هل تحبون الشيوعية؟ يأتي الجواب سريعا من الاشخاص المحيطين به (لا.. لا.. نحن لا نحب الشيوعية، نحن نحب الرأسمالية). مشهد يذكرنا بحديث مشابه لناشطي الثورة في سوريا لوسائل الإعلام الغربية التي ملت وهي تسألهم هل أنتم إسلاميون؟ وهم يجيبون منذ خمس سنوات آملين أن يجدوا آذانا صاغية (نحن لسنا داعش، نحن وطنيون معتدلون، نحن خرجنا من أجل الحرية والديمقراطية).

ولكن آذان الغرب مع ذلك استمعت لرواية الأسد أكثر منهم، رغم أن خطابه اللفظي مليء بالعداء للغرب ومحو القارة العجوز من الخريطة. الطريف في الامر ان احد الاشخاص في تقرير «بي بي سي» التاريخي، أجاب بطريقة لافتة، إذ قال للمذيع «نحن لسنا شيوعيين لأننا بلد اسلامي» يا لها من مفارقة.. قبل خمسين عاما تتم طمأنة الغربيين (بأننا اسلاميون.. لا تقلقوا). اما اليوم فالاسلاموية اصبحت هي الصفة البديلة للارهاب لا الشيوعية، فحسبما اختلف اعداء امريكا يختلف تعريف الإرهاب، ويختلف بناء عليه خطاب ردات الفعل الذي يغزو عقل الجماهير. أحد رجال الأعمال الذين التقتهم «بي بي سي»، كان جوابه مختلفا كليا، قال إنه يدعم الشيوعية، وانتخب القيادي الشيوعي خالد بكداش، مضيفا «أفضل ان اكون شيوعيا مئة مرة على ان تضيع بلادي بيد اسرائيل، كما حصل مع إخواننا، انتخبت خالد بكداش لأننا مللنا من شرح وضعنا للغربيين». يضحك المذيع البريطاني، فيكمل الرجل «انتخبته للفت انتباه الغربيين اكثر»، لو كان هذا الرجل في زماننا لوصف بالـ»متدعشن».  

نصف قرن مضى، والغربيون مستمتعون لحماسة الجماهير العربية بالاصطفاف بالطابور لمنح صكوك البراءة من الإرهاب، وحدهم الذين فهموا اللعبة ونفضوا أيديهم من العم سام، غضبت منهم امريكا، بعضهم تمكنت من تطويقه كما حصل مع الزعيم الفلسطيني الراحل  ابو عمار، الذي تحدى وزير الخارجية الامريكي كولن باول، والذي قال له في لقائه الاخير به في المقاطعة في رام الله «سنتركك لمصيرك»، ليموت أبو عمار مسموما، لكنه ظل رمزا خالدا عند شعبه، الذي تعلم منه ربما درسا يقول، إن الذي دعم وأنشأ اسرائيل لا يمكن ان يكون ظهيرا للعرب ضدها.

أما حديثا فإن الذين فهموا اللعبة مبكرا، نجحوا في مناوئة الامريكي بخطاب هجومي مقابل، ومشروع خارج عن الوصاية الامريكية في المنطقة، وتحولوا من عضو في محور للشر وأكبر راع للارهاب، حسب الوصف الامريكي النظري الى شريك حربي في مكافحة الارهاب في العراق وسوريا، يزور السفير الامريكي جرحاه في مستشفيات بغداد ليذكرنا بلوحة لاحد رسامي الكاريكاتير الغربيين، يظهر فيها اوباما يحتضن روحاني، وكلاهما يقول للاخر: «شيطان، لكنه ليس كبير حقا، شرير لكنه ليس إلى ذلك الحد».

اقرأ المزيد
١٥ يوليو ٢٠١٧
هل يفشل اتفاق بوتين ـ ترمب في سوريا؟

ليس واضحاً ما تمخضت عنه القمة الأميركية الروسية الأولى في هامبورغ على هامش قمة العشرين. المعلن هو اتفاق، لم تُنشر تفاصيله، عن إقامة منطقة هدنة في جنوب شرقي سوريا، تشمل القنيطرة ودرعا والسويداء وسفح الجولان امتداداً باتجاه الحدود الأردنية السورية واللبنانية السورية.

الاتفاق، الذي من غير الواضح من سيضمن آليات تطبيقه، أو ما هي الآليات هذه أساساً، هو الثاني بين الدولتين، إذ سبقه في سبتمبر (أيلول) 2016 اتفاق أول بين الكرملين وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما في حلب، كان حصيلة جولات مكوكية بين جون كيري وسيرغي لافروف، طالت 11 شهراً، ليسقط الاتفاق بعد 5 أيام فقط من الإعلان عنه.

ما الجديد؟ يأتي الاتفاق الروسي الأميركي بعد ثلاثة تطورات ميدانية مهمة في سوريا.

الأول تمثل في دخول أميركا مباشرة إلى الميدان السوري بآليات وقوات برية وقوات خاصة في منبج على الحدود السورية العراقية (بالإضافة طبعاً للدخول الميداني المستجد في الرقة). وهو دخول يزعج، بالحد الأدنى، الطريق البري من طهران إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، أو يقفل هذا الطريق الآمن كلياً مبقياً على بديل له هو عبارة عن مسارب متعرجة وطويلة ومكشوفة تستخدمها إيران وتتحكم بها القوة النارية الأميركية عند اللزوم.

التطور الميداني الثاني تمثل في سلسلة ضربات وتحركات عسكرية أمر بها ترمب على امتداد «محور الشغب» في الشرق الأوسط، وهي غارة التوماهوك على مطار الشعيرات في سوريا، ضرب زورق إيراني قبالة سواحل اليمن، رمي «أم القنابل» في أفغانستان لأول مرة في تاريخ الجيش الأميركي، وتحريك قطعات بحرية قبالة سواحل كوريا الشمالية. وفي مؤشر على الاستمرار بسياسة التحفز الأميركية، شهد الميدان السوري ضرب ميليشيات موالية للنظام بالقرب من التنف، وإسقاط مقاتلة حربية روسية وطائرتين إيرانيتين من دون طيار، في سابقة واضحة غيرت طبيعة التدخل الأميركي في سوريا من مقاتلة «داعش» حصراً إلى مقاتلتها ومواجهة إيران والأسد عسكرياً حيث يلزم.

التطور الميداني-السياسي الثالث كان الاتفاق بين روسيا وتركيا وإيران على تحديد أربع مناطق منخفضة النزاع في سوريا، لم يتسن بعد للأطراف الاتفاق على آليات فرضها وضمان استمراريتها، ولا على حدود أدوار كل من تركيا وإيران، وهو ما أدى إلى فشل جولة آستانة الأخيرة.

وبالتالي يدرك بوتين أنه أمام معطيين: نجاح روسي سياسي جزئي في آستانة، وإدارة أميركية جديدة مستنفرة، وتمتلك من طاقة التحفز أكثر من إدارة أوباما التي كانت قد أهانت نفسها يوم وضع الرئيس السابق خطاً أحمر لبشار الأسد بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية مهددا بضربة عسكرية، سرعان ما تراجع عنها بشكل بدد الهيبة الأميركية.

يضاف إلى كل ذلك أن فترة شهر العسل التي استمتع بها بوتين في سوريا انتهت، ولم تعد له اليد العليا في التحكم بالأحداث كما كان في السابق نتيجة ضعف الدور الأميركي، وفقدان إيران لثقتها بنفسها، ما استدعى أصلاً استجداء التدخل الروسي. تغيرت الوقائع. والحقيقة أن قواعد الاشتباك التي غيرتها واشنطن، تفاعلت معها إيران، وغيرت هي الأخرى قواعد الاشتباك من جهتها. في هذا السياق جاء إطلاق الحرس الثوري صواريخ أرض - أرض للمرة الأولى منذ ثلاثين عاما من قواعده غرب إيران على ما وصفه بأنه مقر قيادة تنظيم داعش في دير الزور شرق سوريا. وفي هذا السياق أيضاً، صرح أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في لبنان عن استعداده لفتح الجبهات أمام مئات آلاف المقاتلين الأجانب في سوريا ولبنان، لمقاتلة إسرائيل.

أما تركيا فهي تحشد شمال غربي سوريا في محيط مدينة عفرين، إحدى مدن محافظة حلب، مبدية استعدادها لتجاوز قواعد الاشتباك مع الأكراد المتفاهم عليها مع واشنطن وموسكو، في حال شعرت أنقرة أن القوات الكردية ستسيطر على المدينة بغية وصل الكيان الكردي (كوباني والجزيرة) مع عفرين.

الأهم أن تركيا تعتبر أن الإمساك بعفرين سيمكنها من وصل أجزاء من ريفي حلب الشمالي والغربي (والشرقي لاحقاً إذا انهار «داعش»)، وريف حماة الشمالي، ومحافظة إدلب، التي تعتبرها أنقرة، هي عمقها الاستراتيجي الفعلي، قبل خسارة حلب، ولا سيما بعد خسارة حلب. هذا الكيان الجديد الذي يتمدد نحو بعض قرى اللاذقية أيضا على تخوم مناطق نفوذ نظام الأسد، هو «لواء الإسكندرون 2»، الذي هو امتداد طبيعي وجغرافي للواء الأول الذي صار جزءاً من الجغرافيا التركية، وهو اليوم العقدة الأهم في جغرافيا النفوذ في سوريا.

من ضمن هذا المشهد السوري الجديد قيد التشكل، والذي يميزه غياب عربي فاقع، يأتي الاتفاق الأميركي الروسي في جنوب غربي سوريا. نقطة الضعف الجدية التي تهدد مستقبل هذا الاتفاق وإمكاناته تكمن في عدم تماسك السياسة الخارجية الأميركية، بسبب إشارات متناقضة تصدر عن الإدارة، وخلافات علنية بين البيت الأبيض والبنتاغون، الذي لم يُستشر حول الاتفاق الأخير مع روسيا، واختلافات أخرى بين ترمب والخارجية في أزمات أخرى آخرها قطر، دعك عن ملفات الداخل الأميركي التي تعصف بإدارة ترمب.

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
إيران... الانهيار بات قريباً والخروج من سوريا والعراق البداية

ليس لأن صحفاً أميركية رئيسية وذات مصداقية وتأثير فعلي، إنْ على أصحاب القرار وإنْ على الرأي العام في الولايات المتحدة، قد أثارت هذا الموضوع وبمنتهى الجدية في الأيام الأخيرة بل لأن هذا هو واقع الحال ولأن إيران، التي قد تبدو مستقرة ومتماسكة بالنسبة للناظر إليها من الخارج البعيد، تعاني في حقيقة الأمر من تناحر ومن اشتباكات داخلية مع نفسها بين من يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم الآخرون أصحاب هذا الحكم الذي مرَّ عليه منذ انتصار الثورة الخمينية ثمانية وثلاثون عاماً والذي كما يقول بعض أهله وبعض قادته الأوائل بات أوهى من خيوط العنكبوت وغدا مهدداً بالانهيار في أي لحظة.

إن الأخطر كثيراً مما تحدثت عنه بعض الصحف ووسائل الإعلام الأميركية هو ما نسب إلى الجنرال محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي كان قد قال قبل أيام قليلة إن نظام بلاده على وشك الانهيار من الداخل وإنه على المسؤولين أن يلتفتوا إلى الداخل بقدر ما يولون أهمية لتوسيع نفوذ إيران الإقليمي. وحقيقة أنَّ كل هذه التحذيرات التي أطلقها الجنرال رضائي هي تكرار لمواقف مسؤولين إيرانيين كبار كانوا قد حذروا هم بدورهم من تآكل نظامهم من الداخل «بسبب استشراء الفساد وتفشي الاختلاس وانتشار المحسوبية والرشى وضعف مؤسسات الدولة».

في إيران الآن هناك أجنحة متصارعة كثيرة داخل النظام نفسه؛ كل جناح منها ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على النظام والسيطرة عليه، واللحظة المناسبة هي الرحيل المفاجئ لمرشد الثورة والولي الفقيه علي خامنئي وعدم القدرة على اختيار بديل له بالسرعة التي تجنب البلاد الوقوع في الفراغ التي إنْ هي وقعت فيه فإنها ستغرق في الفوضى غير الخلاقة بالطبع مما سيفتح المجال لمغامر أو لمغامرين من قادة حراس الثورة للقيام بانقلاب عسكري على غرار الانقلاب العسكري الذي كان قام به الجنرال رضا شاه الذي أورث الحكم من بعده لابنه محمد رضا شاه الذي لم يحافظ عليه كما الرجال والذي انتهى بعد تجارب مُرة بالفعل إلى روح الله الخميني الذي بعد نجاح ثورته في فبراير (شباط) عام 1979 بدأ هؤلاء الملالي صراعاتهم الداخلية وإلى أن أوصلوا البلاد إلى كل هذا الذي وصلت إليه.

ثم وبالإضافة إلى كل أجنحة النظام هذه، التي ينتظر كل واحد منها اللحظة المناسبة لإقصاء الآخرين وإنْ بالحديد والنار والسيطرة على الحكم ليواصل هذه المسيرة الظلامية ولكن على نحو أكثر دموية واستبداداً وديكتاتورية، فإن هناك الذين يعتبرون أنفسهم «ليبراليين» كرئيس الوزراء السابق حسين موسوي وكمهدي كروبي وكأتباع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وإنَّ هناك أيضاً تيارات أكثر تطرفاً، بالإضافة إلى أجنحة حراس الثورة وبعض قادة الجيش الإيراني الذي يعتبر بمثابة الصامت الأكبر والذي قد يبرز من بين كبار جنرالاته من سيسيطر على الحكم في اللحظة المناسبة ويكرر ما فعله رضا شاه ويقيم دولة ملكية يتوارثها أبناؤه وذلك إنْ استطاع هؤلاء الصمود أمام العواصف الإيرانية المفاجئة المعهودة.

ربما أنَّ الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ومعه كثيرون لم يكن يعرف أن حرب الثمانية أعوام التي أرادها نهاية للنظام الخميني ولحكم هؤلاء الملالي الذين يحكمون الآن في طهران قد أطالت في عمر هذا النظام، فالإيرانيون مشهورون بالعناد والقبول بالتحدي، ومشهورون أيضاً برفض أي تدخل خارجي في شؤونهم الداخلية، ولذلك فإن حتى بعض الذين كانوا مناوئين لهذا النظام والذين كانوا يسعون لإسقاطه وبالقوة العسكرية وجدوا أنفسهم تلقائياً في مواجهة العراق ووقوداً لتلك الحرب المدمرة التي إذا أردنا قول الحقيقة فإن النظام الإيراني كان يريدها وكان يسعى إليها أكثر من نظام البعث في بغداد.

الآن وبعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وبعد إسقاط صدام حسين وتدمير نظام حزب البعث فإن ما يجب البحث عن سببه ومسبباته هو فتح أبواب بلاد الرافدين لإيران التي غدت دولة محتلة وبكل معنى الاحتلال لهذه الدولة التي توصف، وهي كذلك، بأنها الجدار الشرقي للعرب وللأمة العربية ودائماً وأبدا وفي كل حقب التاريخ ضد الأطماع الفارسية وضد التمدد الفارسي في العالم العربي مما جعل نظام الملالي يشغل الشعب الإيراني الذي من المفترض أنه شعب شقيق يربط بيننا تاريخ مشترك طويل بكل هذا الذي يفعله بهذه المنطقة كلها وصولاً حتى إلى اليمن وحتى إلى لبنان وحتى إلى بعض دول المغرب العربي التي تعتبر نائية وبعيدة.

وهكذا فإنَّ التعجيل بانهيار هذا النظام، الذي غدا عبئاً على الشعب الإيراني أكثر مما هو عبء على المنطقة العربية كلها، يتطلب إخراجه وبكل وجوده الاحتلالي من العراق ومن سوريا وأيضاً من لبنان واليمن وحتى وإن اقتضى الأمر الأخذ بتلك المعادلة القائلة عدو عدوي صديقي والتعاون مع الولايات المتحدة التي هي دولة صديقة في كل الأحوال والتي اعتبرت، ومعها بعض الدول الغربية، إيران الخمينية والخامنئية دولة إرهابية.

ثم، وهذا يجب أن يقال الآن مراراً وتكراراً، فإنه وللإسراع في انهيار هذا النظام، نظام الملالي، ورحيله لا بد من أن تنضوي كل قوى المعارضة التي يشكل «مجاهدين خلق» عمودها الفقري وقوتها الرئيسية في جبهة مقاومة واحدة وموحدة وعلى أساس برنامج الحد الأدنى والمعروف هنا أن «المجاهدين» في مؤتمرهم الأخير قد أبدوا استعداداً لإقامة هذه الجبهة التي يجب أن تتمثل فيها كل تنظيمات وقوى المجموعات القومية في إيران كالعرب والأكراد والبلوش والبختيار والآذاريين وغيرهم.

وهنا وما دام أن برنامج الحد الأدنى هو الشرط الرئيسي لنجاح أي جبهة معارضة وبخاصة في إيران فإن المفترض أن يكون البند الرئيسي من بين أهداف هذه الجبهة المطلوبة هو إسقاط هذا النظام، نظام الملالي، واستبدال نظام ديمقراطي به تشارك فيه كل مكونات الشعب الإيراني وذلك لأنه من غير الممكن أن يستقطب أي برنامج يدعو لتجزئة الدولة الإيرانية وتقسيمها إلى كيانات ودويلات قومية ومذهبية غالبية الإيرانيين الذين يرفضون ولو مؤقتاً الانقسام والتقسيم والذين يسعون فعلاً إلى دولة علمانية وديمقراطية تساوي بين كل أبنائها بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية.

يجب أن يكون الهدف الوحيد في هذه المرحلة وبالنسبة لكل تنظيمات المعارضة وفصائلها حتى المسلحة منها هو إسقاط هذا النظام الرجعي الاستبدادي الذي يحشر شعباً عظيماً هو الشعب الإيراني بكل أعراقه وانتماءاته المذهبية والدينية في كهوف التاريخ الرطبة والمنتنة وإقامة حكم تعددي وديمقراطي عنوانه: الوطن للجميع والمساواة للإيرانيين كلهم بكل انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية.

وهكذا وعوْدٌ على بدء فإن الذين وصفوا انهيار إيران المتوقع والمنتظر بأنه سيشبه انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كان يصفه أتباعه ومؤيدوه بأنه «عظيم»، لم يبتعدوا عن الحقيقة، فالروس - السوفيات قبل انهيارهم كانوا يحتلون أفغانستان وأيضاً كانوا يحتلون أوروبا الشرقية كلها وكانت خزائنهم فارغة وكان تضخم «الروبل» قد وصل إلى أرقام فلكية.

والمعروف أنَّ إيران، التي باتت تعاني من أوجاع كثيرة، تخوض الآن ثلاث حروب طاحنة هي الحرب العراقية والحرب السورية والحرب اليمنية وكل هذا بينما أصبح الـ«تومان» مصاباً بالانهيار الذي أصاب «الروبل» عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وبينما أيضاً أنَّ ما يزيد الطين بلة كما يقال أن الدولة الإيرانية غير متجانسة قومياًّ وأنها عبارة عن مكون «فسيفسائي» من الفرس والآذاريين والعرب والأكراد والبلوش والبختيار وغيرهم، وأن بعض هذه المكونات القومية قد لجأت إلى امتشاق السلاح بعدما وصلت ممارسات حراس الثورة و«إطلاعات» وكل هذه الزمر «الميليشياوية» ضدها إلى حدود لم يعد بالإمكان احتمالها!!

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
الاتفاق الأميركي - الروسي في جنوب سورية ربما يكون بداية النهاية

الاتفاق الروسي - الأميركي حول منطقة آمنة في جنوب سورية، والاتفاقات الأخرى التي في طور التحضير، نقطة تحول حاسمة في القضية السورية، وقد تكون بداية نهاية القضية السورية في شكلها القتالي. فهو ينقلها إلى أعلى مستوى ممكن، ويحصر معالجتها بالقوتين العظميين، بالتالي يجعل كل اتفاق أو قرار بشأنها قابلاً للنفاذ، بعد أن علقت المبادرات والحلول لسنوات طويلة في الاستعصاء الذي فرضته توازنات القوة بين المتنازعين المحليين والإقليميين وتناقضاتهم، ودفع ثمنها الشعب السوري غالياً.

تمثل كل من الولايات المتحدة وروسيا معسكراً من المتصارعين في سورية وعليها، وهما قادرتان على تلافي التباينات داخل كل معسكر، وعلى فرض القرارات على الجميع، عبر تسوية سياسية، لم يعد من الممكن الفرار منها، في ظل المأزق الدموي الذي وصلت إليه البلاد، وهو استحالة انتصار أي طرف.

لقد أعلن الروس والأميركيون، أن الاتفاق الحالي لا علاقة له بما يدعى بمسار آستانة، وهذا مبدئياً كفّ يد كل من إيران وتركيا، وبداية عملية تحييد المتصارعين الأكثر عنفاً وإشكالية في الصراع، سواء كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، أو القوى السنية المتشددة، أو حتى الجزء المرتبط بحزب العمال الكردستاني من المقاتلين الأكراد.

وهي رؤية يبدو أن الجانب العربي المعني قد أبلغ بها باكراً سواء من الطرف الأميركي أو الطرف الروسي، ونالت رضاه، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الصمت والإحجام العربي غير المفهوم في سورية منذ أشهر طويلة.

الاتفاق الذي يشمل جنوب سورية حالياً يتضمن إخراج إيران وميليشياتها من هناك، من خلال حضور عسكري روسي على الأرض، ومراقبة عن كثب من طرف الأردن وإسرائيل لجديّة تنفيذ ذلك، ويتضمن من ناحية أخرى القضاء على جيوب «داعش» والنصرة في تلك المنطقة، وهو ما ستتكفل به واشنطن والقوى المرتبطة بها على الأرض.

الأمر عينه سينسحب على بقية المناطق، من ريف دمشق إلى حمص إلى الحدود الأردنية إلى الحدود مع العراق، وصولاً إلى شرق سورية الذي سيكون الحلقة الأخيرة والختامية من الصراع ومن التسوية معاً، نظراً الى تعقد وتجمع الملفات الحساسة هناك. فهو الملاذ الأخير لداعش، وهو مركز الملف الكردي في سورية، إضافة إلى كونه الجدار الفاصل بين النفوذ الإيراني في العراق ومناطق نفوذ إيران على المتوسط، وهذا إلى الموارد التي تكتنفها تلك المنطقة بوصفها «سورية الغنية» حيث النفط والماء.

بعد إخلاء الميدان السوري من القوى المتطرفة السنية منها والشيعية وكذلك الكردية، ينتظر أن يجري التفكير بترتيب بديل للأسد ونظامه، يرضي بعض المعارضة وفصائلها، ويراعي بعض متطلبات القوى الإقليمية التي تم إبعادها من دون استبعاد مصالحها بطبيعة الحال، ويؤمن بعض الاستقرار داخل البلاد، وسلطة أمنية عسكرية تستطيع منع ظهور القوى الإسلامية المتشددة مجدداً.

الرئيس بوتين الذي نال أخيراً ما سعى إليه لسنوات في سورية، وهو التعاون الأميركي في الملف العسكري، سيفعل كل ما في وسعه لإنجاح هذا الاتفاق وتطويره، وسيتخلى عن حذره الذي لازمه في السنتين الماضيتين خشية التورط وحيداً في الرمال المتحركة السورية، وهو يعرف جيداً ثمن هذا التعاون وإطلاق يده في مسألة تقرير مصير سورية، وهو إخراج الميليشيات الايرانية، الذي هو ليس فقط شرطاً أميركياً، بل مطلب عربي وإسرائيلي ملح.

لكن مواجهة إيران بمطلب مغادرة ميليشياتها سورية ليست سهلة، فهي ستمانع في البداية بلا شك، ثم ستطلب تعويضاً مجزياً لما قدمته طوال السنوات الماضية. والأمر لن يقتصر على نفوذ في سورية وتأسيس مركز قوى يحفظ مصالحها هناك، بل ضمان نفوذها في لبنان، من خلال ممر ما إلى حليفها «حزب الله».

تركيا أيضاً لن تخضع للإملاءات ببساطة، ستطلب أجوبة عملية عن سؤال الدولة أو الإقليم الكردي في جنوبها، ولديها أوراق قوة ستلعبها، ابتداء من وجودها العسكري المباشر في شمال حلب، وصولاً إلى علاقاتها القوية ببعض فصائل الشمال، مروراً بورقة اللاجئين الذين تحتضنهم.

بين هؤلاء وأولئك يقبع نظام الأسد والمعارضة السورية، وهما بحالة يرثى لها من البؤس والاعياء، ومن فقدان الفاعلية والقدرة الذاتية، بعد أن سلم كلاهما أوراقه للقوى الخارجية، التي ستقوم بالتوافق في ما بينها بصنع واجهة لنفوذها ومصالحها وأطماعها من ركام النظام والمعارضة، على شكل نظام قليل التماسك، يشارك فيه فقط من يكون له دور وظيفي لمصلحة تلك القوة أو تلك، ومن لا يكون كذلك سيجد نفسه حجراً ناشزاً وغير محتاج إليه، وسيلقى إلى الإهمال ويغيبه الصمت.

في البعيد البعيد، يقبع الشعب السوري صامتاً، خائر القوى محطم الاحلام، لا ينتظر شيئاً وغير راغب بشيء، سوى أن يتوقف الجميع عن طعنه.

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
قد ينتهي التنظيم وتبقى «الداعشية»

الضربات العسكرية التي يتعرض لها تنظيم «داعش» قد تنهي وجوده على الأرض التي أعلن عليها قيام «الخلافة الإسلامية» أواخر حزيران (يونيو) 2014. لكنّ أفكار التنظيم وتصوراته للحياة والدنيا لن تنتهي في الأفق المنظور، وربما لا تنتهي أبداً.

لقد حاكت أفكار «داعش» طبقات الوعي المتدنية في العقل العربي الإسلامي، ثم أصاب ذلك بالعدوى عقولاً أوروبية وأميركية، استنبتت لنفسها داعشية رديفة، تحت ذرائع انتقامية تصب في نهر العنف نفسه الذي أحال العيش إلى قدَر إرغامي صعب الاحتمال!

«داعش» استثمر في لحظة الانهيار النفسي والوجداني لدى الشعوب العربية الغارقة في وحل الهزيمة السياسية واليأس وانسداد الآفاق، ومهانة الكرامة القومية، وتردي الروح الجمعية، وتكالب الدنيا على «الحق» ونصرتها التي بلا حدود لـ «الباطل» وأعوانه، فحاز التنظيم تأييداً خرافياً تغذى، في البدء، من المظلومية المعكوسة لما يعرف بـ «أهل السنة» بعد أن كانت تلك المظلومية، لقرون، حكراً حصرياً للمكون الإسلامي الشيعي، وأثّثت مخياله الكربلائي.

وفي بوتقة التشدّد الذي اعتمده «داعش» صبّت كل نزعات العقل الباطني العربي، وخرجت إلى السطح المشاعر الدفينة تجاه المجتمع والمرأة والآخر والتعايش، فسقطت الأوهام المديدة، وذابت أوثان الشمع حول التسامح واحترام الأديان وتوقير الحساسيات الإثنية والمذهبية. كان «داعش» بمثابة البركان المرعب الذي أخرج مما استقر في باطن الأرض منذ آلاف السنين. سيندحر التنظيم كـ «دولة خلافة»، لكنه قد يعيد تموضعه هنا أو هناك، وقد ينتهي هذا التموضع حتى يعود القهقرى، فيعيد سيرة «القاعدة» وطرائق عملها، لكنّ خطره لن ينتهي على مستوى العنف المادي إلى الأبد. بيْد أنّ الذي سيبقى، وربما يتغلغل، هو ما سبّبه «فكر» هذا التنظيم في الوعي العربي الإسلامي الراهن من شروخ غوريّة، حيث أنعش التشدّد في مستوياته الدينية والسياسية والاجتماعية، وغذّى النزعات الثأرية لدى الخصوم الذين لطالما رفعوا من قبل شعار الحوار «بالتي هي أحسن».

التهدّمات التي أحدثها «داعش» من الصعب ردمها. خذ الخلاف السنّي- الشيعي، وشاهد لساعة واحدة فقط الفيديوات على «اليوتيوب» من كلا الطرفين. وخذ أيضاً التهديدات التي تطاول المسيحيين في المشرق العربي. وخذ الإكراهات الاجتماعية التي تواجه النساء، حيث أضحت المرأة رمزاً للفجور، وتنامت دعوات تسري كالنار في الهشيم، إلى السيطرة على لباسها وحركتها وكلامها وتفكيرها، حتى إن بعضهم دعا إلى فرض «شرطة دينية» للسيطرة على ما ترتديه النساء في الشارع، باعتباره مدعاة إلى «الفتنة والفجور»!

أما إن راح المهتم يرصد الخسائر المادية والبشرية التي تسبّب بها التنظيم في بلدين اثنين فقط: سورية والعراق، فالأرقام مرعبة، حتى ليخيل المرء أنّ الفتق اتسع على الراتق، فانسدت الكوى، ورُدمت الملاذات.

وما يزيد الصورة كآبة أنّ القوى المناهضة لأفكار «داعش» كشفت عن هشاشة بنيوية عميقة، فأهل اليسار، في جلهم، ناصروا الجلادين والقتلة، وراحوا يلتقطون الصور التذكارية معهم، وأما العلمانيون والليبراليون فظلوا معتكفين في أبراجهم الشاهقة، ومضوا يطلون على النيران من خلف شبابيكهم السوداء، ولم ينخرطوا، إلا شفاهياً في «المعركة». وليتهم لم ينخرطوا وبقوا متفرجين، لأنهم أظهروا في خطاباتهم نزعات إقصائية واستئصالية، جعلت الحرية والديموقراطية، والتعددية، واحترام الاختلاف، وتقدير الحساسيات الدينية، «يوتوبيا»، فانهار الخطاب، وسال الزبد على شفتيه!

ما تهدّم كبير ومتسع وعميق، ما يجعل البناء، وإعادة تأهيل المجتمعات العربية، نفسياً وروحياً، أمراً صعباً، فهذه المجتمعات الآن في مرمى الخرافة، والأنظمة المستبدة، والحركات الدينية التي أيدت «داعش» ضمنياً، ما يعني أنّ العرب بعد «داعش» خرجوا، كما يقول المثل الشعبي «من الدلف إلى المزراب»!

اقرأ المزيد
١٤ يوليو ٢٠١٧
هل انتهت المغامرة الروسية في سورية؟

لعل أهم إنجاز روسي، بنطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحقّق من اتفاق الجنوب السوري مع الرئيس دونالد ترامب أنه استطاع فتح ثغرة داخل الإدارة الأميركية تسمح بأحد خيارين: إما أن تكون هذه الثغرة بداية انفتاح أبواب واشنطن أمام روسيا ومناقشتها ومشاركتها في القضايا العالقة معها، أو زرع لغم ينفجر داخل الإدارة ويخلق صراعات بين أركانها يتيح لبوتين التحرك بسهولة أكبر في خرائط الأزمات الدولية.

لكن ماذا لو لم يحصل أحد الاحتمالين، بحيث أن الإدارة الأميركية اكتفت بهذا الاتفاق، على ما هو ظاهر حتى اللحظة، بل وذهبت إلى توكيل الأردن وإسرائيل لمتابعة ترتيباته وإجراءاته، بالتالي إخراج نفسها من أي استحقاقات مستقبلية، وبالتبعية لم تحصل أي توتّرات في العلاقة بين الأجنحة والتيارات في إدارة ترامب؟

تشكّل هذه الاحتمالات في حال تحقّقها ضربة غير مسبوقة لبوتين، فهو للمرّة الأولى يقدم على خطوة بهذا العمق في سورية، وكان قبل ذلك اعتمد سياسة الصبر والإمساك بأكبر قدر من مسارات الحرب السورية انتظاراً لنضوج التسويات التي اعتقد انه سيكون المتحكِّم بخيوطها ويجبر واشنطن على دور شرفي ديكوري لا يتعدى اعترافها بنهائية السيطرة الروسية على الإقليم السوري.

أن يشكّل خطأ تقديرات بوتين مغامرة فتلك مسألة بنيوية لها علاقة بوضع روسيا وواقعها في ميزان القوّة العالمي، فروسيا دولة ما زالت في طور بناء قوّتها ليست لديها إمكانات الدول العظمى والتي إضافة الى ثراء عناصر قوتها فإنها تملك مساحة واسعة من الخيارت والأوراق التفاوضية تدعم بها مواقفها وتسند بها تحركاتها.

وإذ لا تمتلك روسيا مثل هذه المزايا، إلا في خيالات وأوهام بعض رجالات الكرملين، فإنها بسبب قلة أوراقها وضيق خياراتها تعتبر أن كل ورقة تملكها كافية لتسوية جميع ملفاتها الخلافية مع العالم، من جزيرة القرم في أوكرانيا إلى تمدّد حلف الأطلسي على حدودها، وثبت أن هذا أمر لا يمكن ترجمته وتصريفه سياسياً لذلك تتحول القضايا العادية إلى أزمات مستدامة نتيجة هذه الحسابات المعقّدة.

ويذكر الجميع العروض التي قدّمتها دول الخليج العربية لروسيا كي تتخذ مواقف متوازنة من الأزمة السورية، وأثار موقفها هذا الاستغراب والشك لدرجة ذهب البعض معها إلى اعتبار أن روسيا عادت لزمن المواقف المبنية على الإيديولوجيا، غير أن الحقيقة التي تكشّفت بعد ذلك أثبتت وجود فارق شاسع بين تقدير روسيا للأوراق التي تملكها ورؤية وتقدير الآخرين لتلك الأوراق، وهذه إشكالية من شأنها تخريب أي عملية تفاوضية لأن أي طرف مقابل لروسيا سيجد نفسه أمام معادلة خاسرة غير مضطر للقبول بها في الوقت الذي تتوافر له بدائل، او حتى يمكن صناعتها، بأثمان أقل مما تطلبه روسيا.

لا شك في أن تراكب الإشكاليات البنيوية للقوّة الروسية مع طرائق إدارة صراعات موسكو مع اللاعبين الآخرين كفيلة بإنتاج مركب المغامرة الذي يشكل وزناً معتبراً في السلوك الروسي الحديث، فقد انبنت جميع تحركات موسكو على مغامرة واضحة ومزيج من النزق والتهوّر لم يكن في الإمكان إخفاءهما، وهو ما يشبه سلوك دولة إقليمية ليست لديها الثقة الكاملة بتصرفاتها.

ولكن ماذا لو أن واشنطن اعتبرت أنها دفعت ثمن الاتفاق مع روسيا عبر الاعتراف بها طرفاً مقرّراً في سورية، وبخاصة أن هذا الأمر لطالما شكل هدفاً عزيزاً على قلب موسكو، بالتالي تصبح واشنطن هي التي في موقع من ينتظر من روسيا دفع الاستحقاقات المترتبة عليها؟

والأمر ليس تخميناً، بل ثمّة مؤشرات عديدة على أن واشنطن بالفعل تسعى إلى تطوير الاتفاق بهذا الاتجاه، وبخاصة بعد أن صرّحت إدارة الرئيس ترامب بأنها تطمح لاستنساخه على بقية المناطق السورية، بما يعني حصر التفاهمات بين روسيا وأميركا وإبعاد إيران، ليس سياسياً وحسب، بل مادياً عبر إخراج ميليشياتها من تلك المناطق كما حصل في اتفاق جنوب سورية، بل أن واشنطن تذهب أبعد من ذلك في ما يخص الترتيبات الواجب إجراؤها لتهيئة المناخ اللازم لحل الأزمة في سورية، عبر تحديد مصير بشار الأسد ووضع إطار زمني لخروجه لا يتعدى المرحلة الانتقالية على ما صرح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وعلى رغم رد بوتين العصبي لا يبدو أن كلام الوزير الأميركي يدخل في إطار توقعاته من روسيا بقدر ما هو نتيجة تفاوضية صريحة جرت خلال لقاء ترامب – بوتين.

لقد مارست روسيا، منذ تدخلها في سورية، سياسات تضليلية الهدف منها استنزاف الخصوم بالخدع، ولا شك في أنها استنزفت ما لديها من تكتيكات بهذا الخصوص، وتضع اليوم نفسها في قلب اتفاق ربما يرتب عليها استحقاقات أكبر من قدرتها على الالتزام بها، وفي حال استمرار سيرها بالاتفاق أو تراجعها عنه فإن المغامرة الروسية في سورية أمام شروط ووقائع مختلفة.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
اللجوء السوري حيال سياسات الهوية والسؤال الأخلاقي

من زمن الحديث عن الوجود المهدّد إلى أيام الشكوى من الحقوق المسلوبة أو الزهو باستعادتها، انطبعت سياسات الهوية الطائفية عند فئة كبيرة من السياسيين بسمات متشابهة، على اختلاف الطوائف وعلاقات القوى. جاء كلام الهوية سافراً مرة ومن باب التورية مرة أخرى. وكثيراً ما غاب السؤال الأخلاقي عن الحياة العامة. ولا يكفي الفصل بين السياسة والأخلاق الذي قال به ماكيافيلي، لتفسير هذا الغياب. ذلك أن جنوح سياسيين كثر إلى التشديد على مظلومية الطوائف اللبنانية وخوف الواحدة من الأخرى، هو بمثابة إعفاء من المسؤولية الأخلاقية. فحين تكون السياسة محكومة بمصلحة الجماعة المفترضة بوصفها الخير الأعلى، يضيق مجال الأخلاقيات إلى حدود العلاقات بين الأفراد، وداخل الجماعة الواحدة في شكل خاص. ويضيق أيضاً حين تلبس الهويات الطائفية لبوس الهوية الوطنية.

واليوم، يغيب السؤال الأخلاقي عند فئة من السياسيين وعدد غير قليل من اللبنانيين حين يتعلق الأمر بالتعامل مع اللاجئين السوريين. صحيح أن السوريين الذين هجّروا من بلادهم استقبلوا في البداية من غير خوف ولا عداء. ولم تؤد مشكلات الاستضافة الكثيرة إلى موجات تعصب أو عنصرية على غرار بلدان أخرى أكثر ازدهاراً واستقراراً وديموقراطية من لبنان. واستحق اللبنانيون تقديراً كبيراً في العالم. لكنه بات صحيحاً أيضاً أن الرصيد المعنوي تناقص وأن التضايق من وجود السوريين تصاعد، بعد أن أثارته ثم استثمرته سياسات الهوية اللبنانية المختلطة بسياسات الهوية الطائفية.

وبفعل هذه السياسات، صارت الأعباء التي يتحملها اللبنانيون المحرك الأول والأقوى للمواقف حيال السوريين. بطبيعة الحال، لم تكن تلك الأعباء قليلة. غير أنه تمّ تضخيمها على حساب حقائق بسيطة ومعروفة عن حياة اللاجئين إلى لبنان. راجت المبالغات عن أعدادهم وحجم منافستهم اللبنانيين في سوق العمل اللبنانية. وبخلاف ما تؤيده الأرقام عن المساعدات الدولية وإنفاق السوريين، عُزي إليهم تراجع النمو الاقتصادي. وشهدنا إجراءات تعسفية بحقوقهم في الإقامة والانتقال. وبلغ الخلط والإيحاء حدوداً غير مسبوقة، على غرار الإيهام بوجود علاقة سببية بين تناقص اللبنانيين وتزايد السوريين. وعلى رغم أن سبعين في المئة من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر، صُوّروا كأنهم يرغبون في البقاء في لبنان تبعاً لارتفاع مزعوم لمستوى معيشتهم فيه. ومنذ بدء تهجير السوريين إلى لبنان، اعتمد البعض لغة حربية في الحديث عنهم، فهم «قنبلة موقوتة» تارة و «لغم» طوراً.

كذّب الواقع هذه اللغة المقيتة لكنها لم تتغيّر. بل كانت تتجدّد كلما أوقفت الأجهزة العسكرية والأمنية إرهابياً أو قتلته. كأن أصحابها يحسبون أن هذا الاستثناء يؤيد الاعتقاد بأن خيم اللاجئين أو أماكن تجمعاتهم هي خطر أمني بذاته، ما يسمح بالاستغناء عن التمييز القاطع بين الإرهابيين والمدنيين، وهو قاعدة قانونية وواجب أخلاقي.

وفي ما يتعدى المناقشة التفصيلية لكل مسألة، بلغ التوجس من الآخر السوري المختلف، والمقيم موقتاً في لبنان، مبلغاً خطيراً. والتوجس، وهو في قلب سياسات الهوية، لم يُخلق من عدم. هو صنو الطائفية مهما تبدلت ملامحها منذ أن كانت «بغيضة» يخجل سياسيوها بها. وهو يتغذّى من فكرة الاستثناء، بل التفوق، اللبناني. والتوجس كما يعبّر عنه ينذر بالتعاظم. وكما أن الحرب أولها كلام فإن التوجس المتورّم أول الكراهية، والكراهية أول العنف. قد لا يقينا منه تأكيد الحرص على لبنان ومصالحه العليا وترداد الخطابة القديمة عن الأشقاء والجيران، ولا عقلنة المخاوف من انحياز طائفي إلى اللاجئين السوريين في وجه انحياز طائفي آخر ضدهم.

يبقى لنا أن نتعامل معهم بوصفهم بشراً مثلنا، فلا تكون الفروقات الصغيرة بيننا عيباً من عيوبهم. قضية حقوق اللاجئين السوريين الإنسانية، عندنا وعند سوانا، قضية أخلاقية في المقام الأول.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
نحو وصاية دولية على سورية!

لم يكن مستغرباً أن تخرج اجتماعات آستانة 5 بفشل في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية. لا يخفف من وطأة الفشل قول المبعوث الدولي إلى سورية دي مستورا أن التقدم في اجتماع آستانة هو تقدم بسيط، لكنه مهم وسيتم استغلاله في تحقيق تقدم على الصعيد السياسي في محادثات جنيف المقبلة. حُدد الاجتماع نهاية شهر آب (أغسطس) المقبل موعداً جديداً للمفاوضات، وهو سيكون بالتأكيد على شاكلة الاجتماعات السابقة. فالحل السياسي للأزمة السورية يحتاج إلى اتفاق دولي ترعاه أميركا وروسيا في شكل رئيسي، فيما يتم البحث في ما يمكن أن تنال إيران وتركيا والنظام السوري من حصص جزئية في هذه التسوية. لكن الثابت حتى الآن أن كلا الطرفين الأميركي والروسي لم ينضج طبخة الوصاية على سورية.

استبشرت قوى إقليمية ودولية تعيين مناطق آمنة أطلق عليها «مناطق تخفيف التصعيد». لكن وقائع الأشهر السابقة لم تشهد تطبيقاً لمنع التصعيد، بل استمر النظام مدعوماً من إيران والميليشيات التابعة لها في السعي إلى الحسم العسكري وقضم المناطق غير الخاضعة للنظام، مستخدماً أقصى مظاهر العنف والتدمير. لم يمر ذلك من دون غض نظر روسي ساهم في تشجيع النظام على التقدم نحو مناطق جديدة. في المقابل، لم تردع الضربات الأميركية الجوية ضد بعض مواقع النظام من إكمال هذا الأخير خطته التصعيدية.

في الأسبوع الماضي طرأ تطور في شأن الأزمة السورية قد يكون الأكثر أهمية من كل ما حصل سابقاً. في اجتماع قمة العشرين في هامبورغ، تم الاتفاق بين الرئيسين الأميركي والروسي على وقف النار في جنوب غربي سورية، وبدأ الحديث عن نشر قوات روسية كشرطة محلية لمراقبة وقف النار. قد يكون ما أعلن عنه هو بداية الصفقة الدولية على سورية التي ستحدد مناطق النفوذ لكل طرف. صحيح أن الطرف الأميركي لا يزال متخبطاً في كيفية تحديد موقفه من بقاء الرئيس الأسد أو من رحيله. مرة يعلن أن لا مكان للأسد في التسوية المقبلة، ومرة أخرى يشير إلى أن الهدف ليس الأسد إنما القضاء على الإرهاب، وأخيراً يقول هذا الموقف ببقاء الأسد راهناً ولكن ليس لزمن بعيد. وهي مواقف تعكس عدم الوصول إلى تسوية نهائية مع روسيا تحسم في طبيعة النظام وتركيب الدولة السورية على قاعدة جديدة، ما يجعل الموقف الأميركي متذبذباً في انتظار مظاهر الحل.

في ظل «الطبخات» الجارية، تتحسس القوى الإقليمية الأخرى مواقع أقدامها، وبالنظر إلى الشعور باقتراب تسوية ما، تسعى تركيا إلى تصعيد لهجتها العسكرية، وتحشد جيوشها في الشمال السوري، تحت حجة منع قيام كيان كردي على حدودها قد يشكل خطراً على الأمن القومي لتركيا، لكن الهدف الأبعد لتركيا هو السعي لاقتطاع أراض سورية وضمها إلى الكيان التركي، مستعيدة تجربة إلحاق لواء الإسكندرون في القرن الماضي. ترغب تركيا في تكريس أمر واقع على الأرض يعزز موقعها على طاولة مفاوضات التسوية لاحقاً.

أما إيران، فلا تكف عن تثبيت مواقع نفوذها، سواء داخل أروقة النظام أو على الأرض. تتوجس إيران من الموقف الأميركي الذي لا يكف عن التصريح بضرورة إخراج إيران وميليشياتها من الأراضي السورية. لن تتساهل إيران في إلغاء موقعها في سورية، وهي التي استثمرت فيه بمليارات الدولارات، ودفعت أثماناً بشرية من جيشها، وذاقت لأول مرة طعم تمددها نحو تحقيق الهلال الشيعي الذي يمتد من العراق إلى لبنان، وتشكل فيه سورية الحلقة المركزية. لذا، يتولى الحرس الثوري الإيراني قيادة المعارك في مناطق كثيرة، ويحفر على الأرض مواقع ثابتة تكرس سيطرته. لعل تصريحات «حزب الله» الأخيرة وتسريباته عن معركة مقبلة في جرود عرسال لطرد التنظيمات الإرهابية، تقع في سياق التذكير بموقع إيران، والتحذير من تجاهلها في التسوية المقبلة أو الحد من نفوذها.

يبقى النظام السوري، الحاكم شكلاً لسورية والعاجز عن توظيف ما تقدمه له روسيا وإيران من استعادة نفوذه السياسي أو العسكري. كأن الدور المنوط اليوم هو تدمير ما تبقى من المدن السورية، مقابل بقائه في السلطة.

من المغامرة القول بقرب التسوية في سورية، لكن من الثابت أن سورية مقبلة على وصاية دولية عمادها أميركا وروسيا وتركيا وإيران، كل واحد سيكون له مناطق نفوذه. ولن يكون غريباً أن تشهد سورية دخول «قوات ردع دولية وعربية» إلى أراضيها لتبسط الأمن وتحرس التسوية. قد تشهد سورية «فيلماً» مشابهاً لما قامت به في لبنان عام 1976 عندما شكلت القوى الدولية قوات الردع التي باتت سورية الطابع وتحولت لاحقاً إلى سلطة احتلال للبنان.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
إسرائيل شريكة في خفض التوتر جنوب سوريا وإيران غربا

التفاهمات الأميركية الروسية في المنطقة الجنوبية الغربية لسوريا، تعيد الاعتبار للتعاون الروسي- الأميركي في هذا البلد، وهذا الاتفاق الذي يندرج ضمن صفقة المناطق المنخفضة التوتر في سوريا، أظهر أن أولوية الأمن الإقليمي تتقدم على ما عداها من عناوين التغيير السياسي في سوريا، رغم تأكيد وزير الخارجية الأميركية تيلرسون غداة إنجاز الاتفاق خلال لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين في هامبورغ، أنّه لا يرى وجودا لبشار الأسد وعائلته في مستقبل النظام في سوريا، على أنّ ما اعتبره بعض المراقبين في الاتفاق الروسي الأميركي بمشاركة أردنية، أنه يعيد الاعتبار إلى نظام الأسد لا يعبر بدقة عن التوجه لدى إدارة ترامب تجاه مقاربة الأزمة السورية، فالإدارة الأميركية لا تبدو مهتمة في المدى المنظور بكيفية إعادة الاعتبار إلى النظام السوري سواء في ظل الأسد أو في ظل نظام سياسي جديد يبسط سلطته على كامل الأراضي السورية.

ذهب مستشار الأمن القومي الأميركي إلى وصف الاتفاق هذا بأنه أولوية أميركية، فيما قال الرئيس الروسي إن إسرائيل شريك في الاتفاق إلى جانب الأردن.

ما تشي به المعلومات المتداولة، أنّ الاهتمام الأميركي منصب على استمرار عملية إنهاء تنظيم داعش في الأراضي السورية، وتعزيز دور قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وفي الجنوب السوري على ضمان الاستقرار على الحدود الأردنية والحدود مع الجولان المحتل، لذا ركز الاتفاق الآنف الذكر على حفظ الاستقرار المتلازم مع محاربة جيوب تنظيم داعش في هذه المنطقة مع إبعاد النفوذ الإيراني عبر الميليشيات عن الحدود مع إسرائيل والأردن بضمانة روسية.

الاتفاق في جنوب سوريا جدد التأكيد على أنّ المظلة الأميركية والروسية باتت المقرر في المعادلة السورية إلى حدّ كبير، وتجربة الجنوب السوري أظهرت من خلال الصمت الإيراني والترحيب التركي إلى جانب الصمت العربي تسليماً بهذا الاتفاق، فيما تبدو إسرائيل الأكثر اطمئناناً بعدما نجحت في استدراج هذه المظلة الروسية الأميركية لضمان أمنها الحدودي بعدما تدهورت أحوال النظام السوري وسطوته، الذي لم يعد يشكل مصدر ثقة في قدرته على توفير الاستقرار على حدود الجولان كما كان الحال قبل اندلاع الثورة السورية ومنذ العام 1974 على وجه الدقة.

“الاتفاق الروسي الأميركي يجعل إيران أكثر اهتماماً بالمزيد من إمساك مفاصل السلطة في لبنان وبتعزيز السيطرة الميدانية لحزب الله وميليشيات إيران في سوريا”

الاتفاق الأميركي الروسي، الذي اعترضت فصائل سورية معارضة على مضامينه ولا سيما في ما ينطوي عليه من تأجيل حسم ملف الانتقال السياسي، وترسيخ الاستقرار في مناطق الجنوب على أسس تعزز، بنظرها، نظام مصالح مناطقي قد يزيد من نزعات الانفصال داخل سوريا، بالإضافة إلى مطالبتها بأن يكون اتفاق وقف النار شاملا كلّ الأراضي السورية، في المقابل لا تبدو إيران التي لم تعلن موقفاً سلبياً من الاتفاق، مطمئنة إلى مجرياته، ولا سيما استثناءها من المباحثات، بل إن التأكيد على استبعاد قواتها وميليشياتها من هذه المناطق لا يطمئنها علما أن إيران لم تبد اعتراضا لا على الاتفاق ولا على مشاركة إسرائيل كطرف فيه كما أكد الرئيس الروسي، من هنا يمكن فهم أن الاستعداد الإيراني، من خلال ذراعها الأبرز في سوريا ولبنان أي حزب الله، لملاقاة هذا الاتفاق بالمزيد من السيطرة على مفاصل القرار اللبناني، وفتح ملف النازحين السوريين في لبنان، شكّل إلى حدّ بعيد وسيلة من وسائل الدخول إلى المعادلة التي ترسم في المناطق الجنوبية الغربية السورية وفي خطوة استباقية على ما يمكن أن يحمله من مفاجآت، ويتمّ ذلك من خلال تفجير ملف اللاجئين السوريين في لبنان بما يحول دون إظهار المواقف المعارضة داخل السلطة اللبنانية لتدخل حزب الله في الأزمة السورية، فالعزف على وتر شيطنة اللجوء السوري غايته الأساسية إنهاء ما تبقى من جيوب معارضة للسياسة الإيرانية وللنظام السوري في لبنان.

تورط الجيش اللبناني في اقتحام بعض مخيمات اللاجئين السوريين ولا سيما في ما تردد عن موت بعض المعتقلين من قبل الجيش تحت التعذيب، وما أحاط بهذه العملية من تجاوزات طالت شظاياها مؤسسة الجيش وسط حال من الصمت الرسمي حيالها، يأتي كمقدمة لاستعدادات عسكرية معلنة لخوض حزب الله معركة إنهاء نفوذ تنظيمات إرهابية متواجدة على حدود منطقة عرسال من الجانب السوري.

وليس خافياً على المتابعين أنّ هذه الجيوب الإرهابية بقيت موجودة لسنوات رغم حصارها، ولا يمكن النظر إلى استمرارها في هذه المناطق بمعزل عن أهداف سياسية وأمنية يحتاجها حزب الله لأسباب شتى، قد يكون منها تبرير قتاله واستخدام هذا الوجود كوسيلة قابلة للاستخدام الداخلي اللبناني وفي إظهار دوره في مواجهة الإرهاب دوليا.

وهذا ما يطرح سؤال هل أن حزب الله وصل إلى المرحلة التي تتطلب إنهاء هذه الجيوب الإرهابية على حدود عرسال السورية؟

سيف المجموعات الإرهابية يبقى مسلطاً وقابلاً للاستثمار سواء في اتجاه الشعب اللبناني أو الشعب السوري، إذ يمكن لأي عمل أمني إرهابي يتم لصقه بهذه المجموعات سواء المتواجدة في لبنان أو على حدوده أو في المناطق الممتدة من الحدود اللبنانية إلى ريف دمشق الغربي، وبالتالي عملية تفجير ملف اللاجئين السوريين في لبنان والحديث عن عملية عسكرية ضد جيوب التنظيمات الإرهابية، أن يساهم في تأكيد الدور الإيراني ضد الإرهاب من جهة، ويحاول أن يفرض مساراً لإدارة عملية استخدام اللاجئين بما يخدم سلطة نظام الأسد والنفوذ الإيراني في مناطق سوريا الغربية من جهة ثانية، من دون حلّ هذه القضية، بحيث تطمح إيران التي شجعت على عمليات مقايضة ديموغرافية في القلمون السوري كما حصل في كفريا والفوعة والزبداني ومضايا، إلى خلق ظروف أمنية واجتماعية في مخيمات اللجوء السوري في لبنان، تدفع إما إلى عودة اللاجئين مرغمين إلى سوريا، أو إلى تهجيرهم مجددا إلى مناطق خارج لبنان.

وقبل ذلك فإن النظام السوري ليس بوارد أو قادر على إعادتهم وما يثبت ذلك وجود نحو ستة ملايين لاجئ داخل سوريا لم يسع النظام إلى إعادتهم.

علما أن جزءا كبيرا منهم هم في مناطق نفوذه هذا كله، دون أن نشير إلى السياسة التي اعتمدها وهي تهجير كل من يعاديه من بيئات حاضنة للمعارضة بما يحول دون عودتها بعدما دمر أماكن سكناها بشكل كامل.

من هنا فإن الاتفاق الروسي الأميركي يجعل إيران أكثر اهتماماً بالمزيد من إمساك مفاصل السلطة في لبنان وبتعزيز السيطرة الميدانية لحزب الله وميليشيات إيران في سوريا، سواء عبر عمليات تفريغ مناطق النفوذ خاصة تلك المحاذية للحدود مع لبنان مع السماح بعودة جزئية للاجئين بما لا يهدد هذا النفوذ أو يخل به.

ولكن هذه السياسة تبقى غير قابلة إلا للمزيد من عدم الاستقرار طالما أنّ البيئة السورية ولا سيما تلك التي شارك حزب الله في قتالها إلى جانب النظام السوري أو وحيداً، لن تسلم بسلطته التي باتت ضرورية لصمود نظام الأسد.

فالنظام الذي يتداعى رغم الفرص الدولية التي تعطى له، غير قادر على الصمود في أيّ بقعة من دون الوجود الإيراني وهذا بحد ذاته عنصر استمرار للحرب وللاستنزاف الذي ثبت قواعده الاتفاق الروسي الأميركي بعنوان خفض التوتر على الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل، وهذا لا يعني لجم الاستنزاف بعيدا عن هذه الحدود وعلى امتداد الداخل السوري حيث يترسخ النفوذ الإيراني ونظام الأسد.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٧
العودة خشبة خلاص السوريين

تكبد الشعب السوري خلال السنوات السبع الماضية من عمر ثورته المجيدة خسائر كبرى غير مسبوقة، في محاولته الارتقاء بالنظام السياسي الرابض على صدور أبنائه منذ عشرات السنين، من موقع الاستبداد وظلاميته إلى رحاب قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة. ولا يزال الجرح السوري نازفا بلا هوادة، وقوافل الشهداء والضحايا ترتقي يوميا، وأعداد الجرحى والمصابين في تزايد مستمر، بينما يقبع مئات الألوف من المعتقلين ومجهولي المصير والمختفين قسرا، خلف ظلام زنانين النظام المارق وحلفائه من المرتزقة القادمين من كل حدب وصوب. مثلما يتواصل التدمير الممنهج للبنى التحتية والعمرانية وللمفاصل الحيوية في الاقتصاد السوري وحواضره وأريافه، لكن على الرغم من كل تلك الفظاعات وفداحتها، وما تولده من معاناة وآلام لا تحتمل في أجساد ونفوس جموع السوريين، تبقى قضية التهجير السكاني والتغيير الديموغرافي وتذويب الهوية الوطنية السورية الجامعة، وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري في صدارة مجموع تلك الخسائر الثقيلة، لا لشيء إلا لأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بالمستقبل السياسي والاجتماعي والثقافي للبلاد، على المستويين الفردي والمجتمعي.في هذا السياق، يمكن تسجيل مجموعة من العوامل التي أدت إلى حالة العبث الطاحنة بالهوية الوطنية السورية ومكوناتها السكانية:

- انهيار الدولة المركزية أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وميدانيا، واتضاح المدى الفاضح لافتقارها للشرعية الدستورية، ما أدى، بالمقابل، إلى إحداث فراغ سياسي سرعان ما عملت الأطراف والمكونات الأخرى على ملئه بأشكال وطرائق غير مسبوقة.

- حالة الإنكار التي تبناها النظام السوري وتنكره لاستحقاقات التغيير السياسي الاجتماعي التي اندلعت الثورة السورية على أساسها، ما دفعه إلى اعتماد أشد الممارسات القمعية لوأد الثورة وحواضنها، تحت شعار»الأسد أو نحرق البلد».

- عندما فشلت أدوات النظام وممارساته القمعية المعتادة في وأد الثورة السورية في مكامنها التقليدية، استنبطت العقلية الشيطانية لدوائره العليا منهجا جديدا لتحقيق أهدافه الدنيئة، فتتالت عمليات التهجير السكاني، فرادى وجماعات، وتحولت إلى ظاهرة لا ترحم، واعتمدت كاستراتيجية الهدف منها تمزيق النسيج المجتمعي السوري، وحشر مختلف مكوناته في شرانق هوياتية ضيقة، تعويلا على خلق شرعيات بديلة يستند إليها نظام الاستبداد في بقائه على رأس السلطة السياسية أطول فترة ممكنة.

- تغول بعض مكونات الشعب السوري على بعضها الآخر، ودخولها على خط ممارسات النظام، وتماهيها مع سياساته القمعية المتمثلة بالقتل والقصف، وقضم المدن والقرى والتهجير الجماعي، تحت راية تحالفات محلية وإقليمية ودولية مشبوهة، تفوح منها رائحة الانتهازية والمصالح الفئوية الضيقة، وإدارة الظهر لمصالح واهتمامات بقية مكونات الشعب السوري.

- تقاطع ممارسات النظام التدميرية، مع مصالح قوى إقليمية ودولية عديدة، لا تبطن للشعب السوري الخير، بل تكن له حالة غير مسبوقة من العداء، فجاءت الأحداث الدامية في سوريا لتشكل فرصة ذهبية لتلك القوى، التي تحرص على ألا تفوتها تلك الفرصة الذهبية في تنفيذ أجنداتها العدوانية والنيل من السوريين بلدا وشعبا.

انطلاقا من المفهوم القائل بأن المشاركة السياسية هي في الأساس مجموعة من الإجراءات والفعاليات التي يقوم بها المواطنون، الذين لا يشاركون بالضرورة في الحياة السياسية مباشرة بغية التأثير على العملية السياسية ونتائجها، ولتحقيق الصالح العام للجميع، وفي محاولة جادة للخروج من النفق المظلم الذي وجد الشعب السوري نفسه محشورا في دهاليزه المعتمة، بأقل قدر ممكن من الخسائر الجمعية والفردية، تعالت أصوات مجموعة مستقلة من الشباب السوريين المنتشرين داخل الوطن وفي الشتات والمنافي القريبة والبعيدة إلى تشكيل إطار اجتماعي يعنى بقضية العودة إلى الديار، على قاعدة أن العنصر البشري يبقى الرقم الصعب، في أي معادلة سياسية مقبلة من شأنها رسم ملامح سوريا المستقبل بكافة مكوناتها السكانية المعروفة للجميع، بعيدا عن أدران التعصب والإقصاء، وخارج لغة الأكثرية والأقليات والامتيازات، والتفرد في مشروع وطني شامل يرمي لتحقيق هدفين رئيسيين اثنين لا انفصام في عراهما، مع احتمال ظهور الكثير من الأهداف الفرعية الأخرى التي لا تقل شأنا عما يعتمل في عقول وصدور هذه المجموعة من الشباب، لحظة اطلاق مشروعهم الوطني الشامل في قلب المجتمع السوري أينما كان.

الهدف الأول يتمثل في ضمان حق العودة لكل مواطن سوري إلى مدينته أو قريته، بغض النظر عما ستؤول إليه الأحداث الجارية على الأرض السورية، على اعتبار أن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، مهما طال الزمن وتبدلت الظروف، وأنه حق فردي وجماعي تكفله القوانين والشرائع الدولية كافة للمواطنين الذين تعرضوا للتهجير القسري، وعمليات النزوح وإعادة الهندسة الديموغرافية، ما دفعهم إلى طلب النجاة بأرواحهم، سواء داخل حدود الوطن أو خارجه، حيث تتعانق ظاهرة النزوح الداخلي وظاهرة اللجوء الخارجي مشكلتان باجتماعهما معا التغريبة السورية الكبرى، التي صمم أصحاب مبادرة العودة من الشابات والشباب على التقليل من حجمها وآثارها تدريجيا قدر الامكان، على طريق محو نتائجها من المشهد السوري برمته، من خلال برامج ملموسة من شأنها ترسيخ فكرة العودة وضرورتها الوطنية في أذهان ووجدان أبناء الشعب السوري جميعا.

أما الهدف الثاني، فيذهب باتجاه تشكيل كيان وطني سوري حاضن لجموع النازحين واللاجئين السوريين في سائر أماكن عيشهم المؤقتة والاضطرارية، ومعبر عن هويتهم الوطنية، وعاكس لأحلامهم وتطلعاتهم وآمالهم في مواجهة ما يعترضهم من صعاب وتحديات سياسية وقانونية وثقافية في جغرافيات النزوح واللجوء المتناثرة حول العالم على اختلاف أنواعها وأشكالها، بحيث تشكل هذه المبادرة الوليدة صوت من لا صوت لهم، ممن يتجرعون مرارة المنافي وحرقة الاغتراب، ويتوقون للعودة إلى الديار والتواصل مع جذورهم الطبيعية في الوطن السليب، الأمر الذي يشكل رافعة مادية ومعنوية في الشتات، ومقدمة لتحقيق حلم العودة النهائية المنشود إلى وطن حر ومتحرر من أغلال الاستبداد والاحتلال.

هي دعوة للتفكير الجدي في العودة بوصفها حقا مطلقا غير منقوص لجموع السوريين المقتلعين من ديارهم، أمام أنظار الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بمختلف مؤسساته السياسية والحقوقية، فلقد آن الأوان لإعلاء الصوت والقول إن قضية الشعب السوري ليست قضية إنسانية فحسب، تحل عن طريق تقديم مساعدات انسانية وملاذات للجوء فقط، قضية الشعب السوري قضية سياسية بامتياز ومأساة اللاجئين والنازحين منهم لا تمثل سوى رأس الجبل الجليدي لنكبتهم وأوجاعهم، ولن تستقيم حياتهم ولن تولد سوريا الجديدة إلا بسواعدهم، التي باتت متمددة في تعرجات شتات مترامي الأطراف.

اقرأ المزيد
١٢ يوليو ٢٠١٧
هل سيتغير دور روسيا في سورية؟

وقّعت روسيا وتركيا وإيران، في شهر يونيو/حزيران الماضي، اتفاقاً لإنشاء "مناطق خفض التصعيد" في سورية، تعتبر روسيا الوسيط والعرّاب في هذه الصفقة، فقد أكد الاتفاق أن المناطق الأربع المعلنة في سورية ليست "مناطق آمنة"، ولكن "مناطق خفض التصعيد" في خطوةٍ أخرى للتمييز عن مفهوم المناطق الآمنة التي كانت المعارضة السورية تطالب بها فترة من الوقت.

لا يوجد تعريف قانوني لمثل هذه "مناطق تخفيف التصعيد" في القانون الدولي، لأن هذه المصطلحات تستخدم على نطاق واسع من المنظور العسكري، بدلا من الخلفية القانونية، وهذا هو السبب في أن شروطها دائماً غامضة، ويمكن أن تُملأ بتعاريف وتفسيرات عديدة؛ وهذا بالطبع مفضّلٌ بالنسبة لروسيا، لأنها تحت اتهامات يومية من المنظمات الحقوقية السورية والدولية، بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية، ضد المدنيين، خصوصاً في حلب.

ويعكس الاتفاق الدور الذي قامت به محادثات أستانة خلال الفترة الماضية، والتي انتهى اجتماعها أخيراً بدون تحقيق أي نتائج تذكر، والتي حاولت روسيا جاهدةً تظهير هذه المفاوضات على حساب مفاوضات جنيف، لتكون "المكان" لمناقشة عملية السلام في سورية، في محاولةٍ لنزع الشرعية عن أي جهودٍ للأمم المتحدة في جنيف، والأهم من ذلك التقاط وتحديد مجموعة المعارضة السورية التي ترغب في التعامل معها.

ادّعت روسيا، خصوصاً بعد معركة حلب، أنها تركّز على فرض وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، وأحدثت مسار أستانة لخدمة هذا الغرض، جنبا إلى جنب مع تركيا وإيران.

والهدف الأساسي من مفاوضات أستانة هو فرض وقف إطلاق النار، وفق الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين تركيا وروسيا مع نهاية عام 2016؛ لكن ما هو مثير للاهتمام في مثل وقف إطلاق النار هذا أن قوات نظام الأسد لم تحترمه أبداً، فالغارات الجوية لم تتوقف يوما في الغوطة الشرقية، والآن في درعا وغيرها من المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، كما أنه جرت عمليات تهجير قسري للسكان، لم تتم من قبل بهذا الحجم، كما جرى في حي الوعر في حمص، والمدن الأربع الأخرى، مضايا والزبداني والفوعة وكفريا، حيث أجبر السكان على ترك منازلهم بسبب سياسات حكومة الأسد، كما تم استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون في إدلب. والسؤال: إذا كانت كل هذه السياسات والترسانة العسكرية استخدمت في "وقت وقف إطلاق النار"، فما الذي يمكن توقّعه عند عدم احترام وقف إطلاق النار، ويمكننا أن نسأل أنفسنا عن مدى احترام الأطراف هذه الصفقة!

رفضت روسيا الإعلان عن انهيار وقف إطلاق النار هذا، وأصرّت على استمرار محادثات أستانة، على الرغم من لا جدواها، وانتقلت إلى الحديث عمّا تسمى "مناطق التصعيد" في جولة محادثات أستانة في مايو/أيار 2017، كانت الولايات المتحدة حاسمةً في رفض الاتفاق الجديد بسبب إضافة إيران "ضامنا"، فقد ذكر بيان وزارة الخارجية الأميركية: "إن الأنشطة الإيرانية في سورية لم تساهم إلا في العنف، وعدم توقفه، ودعم إيران الثابت نظام الأسد أدّى إلى استمرار البؤس في سورية". ولم تعلق وزارة الخارجية الأميركية على الإطلاق على مفهوم "مناطق التصعيد" في سورية، حيث انتقد البيان دور إيران، لكنه رحب بأي شيء يمكن أن يساعد في تهدئة العنف في سورية اليوم.

يمكن القول إذاً إن الدور الروسي تغيّر من فرض عملية سياسية إلى شبه إجراءات عسكرية تقوم على تخفيف العنف، مع قناعتها بفشل القيام بأية عملية سياسية في سورية اليوم، فقد كانت روسيا راعيةً، خلال محادثات أستانة في العاصمة الكازاخية، عملية سياسية تقوم على البدء بكتابة الدستور، فقد وزعت على المعارضة السورية المسلحة التي شاركت في المحادثات مسودة مقترحة لدستور جديد لسورية وضعته "لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع"، وفقاً لمبعوث الكرملين.

والسؤال الذي طُرح حينها: لماذا قرّرت روسيا أن تبدأ من نقطةٍ بالغة الحساسية بالنسبة لأية أمة، فأي دستورٍ لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وبما أن روسيا تكرّر، في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، أن الأمر متروكٌ للشعب السوري، وتصر في كل فرصة أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من السوريين. ثم كيف تأتي روسيا وتُقدم على صياغة "دستور سوري"، وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه.

أعد هذا الدستور "خبراء روس"، بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون أي إشارة إلى وجود اختراقٍ للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب. ثم فجأة، قرّرت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريبا، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلت المعارضة به، على أمل أن يحدث فرقا على الأرض، من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار، بدل التركيز على ذلك، فضلا عن قضايا أخرى، تشكل أولوية للسوريين اليوم، مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور، ووضعته تحت تصرّف الشعب السوري.

مثّل الاقتراح الروسي لدستور "سوري" مفاجأة، لاسيما أن الطريقة التي تم الإعلان عنها خلال محادثات أستانة، وكأنه من أشكال الفرض الروسي على المحادثات، وكون روسيا هي الفاعل العسكري الأكبر في سورية، فمنذ تدخّلها العسكري في سبتمبر/أيلول 2015، أصبحت روسيا المحرك العسكري والسياسي الرئيسي، بحكم انسحاب الولايات المتحدة، خصوصا بعد مجيء الرئيس ترامب الذي طبّق سياسة أميركية انعزالية، مع تركيز وحيد على محاربة "داعش" في سورية.

تعكس قراءة النص الروسي المقترح للدستور في سورية، بكل تأكيد، وجهة النظر الروسية للحل السياسي في سورية الذي تنادي به يومياً من دون الالتزام بمحدّداته على الأرض.

تظهر المسودة المقترحة، والتي قال وزير الخارجية الروسي، لافروف، إن "خبراء روس" أعدوها، أنها مصاغة على صيغةٍ مماثلة تقريبا لدستور الاتحاد الروسي الذي أقر في 12 ديسمبر/كانون الأول 1993، فالديباجة تكاد تكون نفسها تقريباً، والتبويب يحمل السمات نفسها، وتوزيع الصلاحيات بني بناء على صلاحيات المؤسسات الروسية الشبيهة. لكن، ما يجدر التوقف عنده هو كيف ينظر الروس إلى سورية الجديدة التي يقترحونها من خلال دستورهم، خصوصا قضيتي التركيبة التعددية الطائفية والإثنية التي يشير إليها الدستور مراراً، ومركزية السلطات بيد السلطة التنفيذية التي تكاد تكون مكرّرة من مواد الدستور الروسي.

فالدستور الروسي المقترح يقوم على فكرة تعدّدية الشعب السوري، لينتهي إلى مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية في المناصب الوزارية، بما يذكّر بأنظمة سياسية شبيهة في لبنان والعراق وإيرلندا الشمالية والبوسنة والهرسك، من دون أن تفلح أيٌّ من الأنظمة السياسية المذكورة، القائمة على مبدأ المحاصصة الطائفية، في ضمان الاستقرار السياسي للنظام السياسي، أو تحقيق النمو الاقتصادي، فهي أنظمةٌ قائمةٌ على الشلل الطائفي، بدل أن تفتح الباب لتحويل النظام السياسي إلى نظامٍ ديمقراطي كامل.

تبدو روسيا اليوم أنها البلد الوحيد الذي يقوم بالمبادرات في سورية، من محادثات أستانة إلى اقتراح دستور جديد، إلى اتفاق خفض التصعيد، ويعكس ذلك كله بشكل ما كيف تحاول روسيا الخروج من سورية، بأقل الخسائر الممكنة، مع المحافظة على بقاء الأسد، بوصفه الورقة الوحيدة الذي يمكن لها أن تضمن مصالحها من خلاله.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني