المرة الوحيدة التي شذّت فيها السيدة أسماء الأخرس عن مواقف زوجها بشّار الأسد كانت عندما أنكر الأخير، في مقابلة له على التلفزيون السويسري، صحة صورة الطفل المنتشل من تحت الأنقاض عمران دقنيش وأعتبرها ملفّقة من قبل «الخوذ البيضاء وهم قناع للنصرة في حلب»، في حين أعربت الأخرس عن حزنها على كل طفل سوري «سواء إيلان أو عمران أو العديد العديد من الاطفال الآخرين»، عن رفضها أن «يقسم أطفالنا في هذا الصراع طبقاً للمعتقدات السياسية لآبائهم». جارت هذه السيّدة زوجها في كل شيء حتى الآن، ولم يرفّ لها جفن حين دمّر مدينة حمص، المدينة التي تتحدّر عائلتها منها، على رؤوس الثائرين من أهلها. وحده، إمّا سوء التنسيق الإعلامي بين الزوجين، أو توزيع الدور بينهما، كي تبقى مشرفة على «الملف الإنساني ـ الإغاثي»، أو مزيج من هذا وذاك، جعلها تأسف على مشهد محزن لطفل اعتبره زوجها ملفّقاً من لدن أعداء الوطن.
والأسد الزوج ينكر طبعاً أن يكون نوع النظام الذي هو على رأسه قد تسبّب بخروج الناس عليه ثم بإنفجار المجتمع السوري بأثر من قراره هو الإفراط في الخيار القمعي الدموي. وكل شيء بالنتيجة عرضة لتباين السرديات ومحوها أو تشذيبها لبعضها البعض. يمكنك أن تقول أنّ ما حدث في سوريا كان انتفاضة سلمية في البدء ثم آلت الأمور إلى حرب أهلية نتيجة لشراسة النظام ووحشيته، أو أن تقول أنّ العنف المضاد للنظام أخذ يتطوّر بالتوازي مع الإنتفاضة السلمية منذ أيّامها الأولى، أو أن تذهب إلى أنّ العناصر التفجيرية لهذا الصراع كانت مدارة عن بعد، أو أنّ القوى الدولية والإقليمية سارعت في استثمار الأزمة وزادت الأحوال بؤساً وانسدادا. يمكنك أن تنفي عن نظامك صفة المتسبب بالكارثة، وأن تنكر استخدامك للسلاح الكيماوي ثم تسلّم الجزء الأكبر منه، ثم تسعد باطراء أمريكي مستجد فستخدمه مجدداً وتنكره مجدداً.
يمكنك أن تقول أي شيء في نهاية الأمر، والعتب على من يصدّقك أو يكذّبك. والديكتاتور السوريّ طفق منذ ست سنوات ينكر كل شيء بطبيعة الحال، فلم تنحصر المسألة عنده بعدم تصديق صورتي الطفلي ايلان وعمران. الشيء الوحيد الذي ليس بمستطاعه إنكاره هو الطوفان البشري السوري على بلدان العالم. الكارثة الانسانية الأكبر منذ الإبادة الراوندية، والتهجير الأكبر لمجموعة سكانية من أرضها منذ التهجير المتبادل للمسلمين والهندوس وقت تقسيم شبه القارة الهندية، هذا من ناحية العدد. أما النسبة فلا وجه للمقارنة: المأساة السورية تبقى استثنائية. لم يسبق لحرب أهلية أن تسببت بإخراج أكثر من ثلث السكان من بلادهم في بضع سنوات. ولو سلّمنا أنّها مسؤولية الجماعات «التكفيرية» الدموية لن يعود هذا «التسرّب الجماعيّ» مفهوماً، إلا كموقف «لامبالاة» من جانب ملايين السوريين تجاه وطنهم، وتخلّفهم عن نصرة النظام الديمقراطي الشعبي البعثي أمام الهجمة الرجعية الإرهابية. وحده الكاتب الأردني ناهض حتّر، أخذ هذه الورطة المنطقية على عاتقه، من بين مشايعي النظام الأسدي. وكتب مقالته في 9 أيلول 2015 التي شمت فيها بملايين اللاجئين، وقال انه اذا استثنى الهاربين فعلاً من «الاضطهاد الإرهابي لأبناء المكونات السورية غير الوهابية» (يقصد غير السنيّة)، فـ»إنه يمكننا القول ان معظم اللاجئين السوريين خارج وطنهم هم من الفئات غير القادرة على التعايش مع التعددية والنمط الحضاري الخاص بسوريا. وهكذا، فإن خساراتهم لا تعد نزفاً ديموغرافيا، فيما ينبغي ايقاف نزف الكتلة الوطنية المدنية». ومع أنّ الصحيفة التي كتب فيها حتّر هذا الكلام لم تتمكّن من استيعاب مواقفه العدوانية من اللاجئين السوريين، ناهيك عن مواقفه العدوانية من اللاجئين الفلسطينيين، فإنّ نطق هنا بالنيابة عن كثيرين في «محور الممانعة»، وحاول على طريقته تعبئة الفراغ في الخطاب الرسمي السوري، الذي يمكنه أن يقول عن كل شيء أنّه ملفّق ومفبرك وغير موجود، إلا هذا الحجم الاستثنائي من التهجير. خمسة ملايين لاجىء خارج سوريا مسجل وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة لعام سلف، ما يعني ثمانية ملايين لاجىء خارج سوريا على أقل تقدير، وستة ملايين نازح داخل سوريا. يمكن، بالقول، أن ينكر بشّار الأسد كل شيء، وأي شيء، إلا ما هو الأكثر كارثية: تحويله الشعب السوري، إلى مجتمع من اللاجئين، في الداخل والشتات.
مع هذا، يتذاكى أنصاره وأصدقاؤه في لبنان. يقولون أنّه ليس محبّة به كنظام، وإنما لضرورات لبنانية صرفة، على البلد أن يتفاوض مع النظام الأسدي، من حيث هو النظام الذي يمثّل الدولة السورية حتى إشعار آخر، بل يتذاكى الرئيس السابق أمين الجميّل أيضاً بأنّه «لا مفرّ من التفاوض» مع النظام، لأجل إعادة اللاجئين إلى بلدهم. بالنسبة إلى حالة التذاكي هذه لا علاقة بين المتسبب بهذه الكارثة الكبرى وبين من يمكنه أن يساهم في إعادة اللاجئين إلى بلدهم. بل أكثر، بما أنّه هجرهم فالأولى، بموجب هذا المنطق، أن يعيدهم بمعرفته. لكن، ما الذي يعنيه هذا عملياً؟ الذهاب إلى النظام السوري لإقناعه بـ»العفو» عن مواطنيه؟ لكن النظام لم يوصد رسمياً لهم بابه. اذاً؟ اذا كان هناك ما هو «تطبيقي» في كل هذا الكلام فهذا يتمثل بالسماح للجيش السوري بأن يعبر الحدود، إلى عرسال والبقاع، لـ»المساهمة» في إعادة اللاجئين ومكافحة الجماعات المتطرفة. ان لم يكن هذا هو المقصود فما هو المقصود إذاً، لا سيّما وأنّ لبنان الرسميّ لم يطرح في أروقة رئاساته وحكومته وبرلمانه وطاولة حواره حتى الآن شيئا يتعلّق باطلاق مبادرة لبنانية، ولو بحلول دنيا، للإسهام في الحل السياسي بسوريا ـ سواء دعوة من وزير الاعلام ملحم رياشي لكي تستقبل بيروت حوار السوريين مع السوريين.
بسرعة مذهلة يتطور هذا التذاكي الداعي لـ»التفاوض مع النظام لإعادة اللاجئين» و»مكافحة الارهاب» إلى مكابرة على واقعة الإنقسام اللبناني حول النظام السوري، قبل الثورة، وبشكل أكثر جذرية مع الثورة. اللبنانيون منقسمون حيال المسألة السورية، لكنهم منقسمون أكثر حول تدخل «حزب الله» في سوريا، وما يحدث مع هذا التذاكي، وكذلك مع بعض الردود المحدودة عليه، انه تجري اغفال مسؤولية «حزب الله»، تحديداً في المناطق المحاذية للحدود مع لبنان، في حركة التهجير بإتجاه لبنان. في نفس الوقت، الطرف الذي قاد المطالبة بعلاقة ديبلوماسية مع سوريا هو الطرف المناوىء لنظامها في لبنان وليس الطرف الموالي لها، ويستطيع هذا الطرف بالتي هي أحسن التعايش مع بقاء العلاقات الديبلوماسية حتى بعد الثورة والقصف الكيماوي والكارثة الديموغرافية والعزل العربي للنظام الأسدي. الطرف المتذاكي يسوّق لـ»التفاوض مع النظام لإعادة اللاجئين» كما لو أنها اعادة علاقات ديبلوماسية.
بيد أنّ إعادة التفاوض مع النظام تمثل واحدة من طيات خطاب قسم الرئيس ميشال عون. حيث قال: «وسنتعامل مع الإرهاب استباقيًا وردعيًا وتصديًا، حتّى القضاء عليه، كما علينا معالجة مسألة النزوح السوري عبر تأمين العودة السريعة، ساعين أن لا تتحول مخيمات وتجمعات النزوح إلى محميات أمنية. كل ذلك بالتعاون مع الدول والسلطات المعنية، وبالتنسيق المسؤول مع منظّمة الأمم المتحدة التي ساهم لبنان في تأسيسها، ويلتزم مواثيقها في مقدمة دستوره، مؤكدين أنه لا يمكن أن يقوم حل في سوريا لا يضمن ولا يبدأ بعودة النازحين».
لكن حتى في هذه التخريجة التي مرر فيها عون غمزة تفيد الدعوة للتفاوض مع النظام، فانه لم يسمه الا بالجملة «مع الدول والسلطات المعنية»، مشترطاً «التنسيق المسؤول مع منظمة الأمم المتحدة»، ومذكراً بالتزام لبنان مواثيقها في مقدمة دستوره، وهذا يفترض ان يعني في المقام الأول الاعلان العالمي لحقوق الانسان، التي تتعهد الدولة «بتجسيده» في الفقرة باء من هذه المقدمة، والذي لا يشبه دعوات الاستخفاف بـ»حقوق الانسان» في الأيام الأخيرة، على خلفية الانتهاكات الخطيرة لها عند اقتحام احد مخيمات اللجوء.
وأكثر، الجملة الأخيرة في هذا المقطع «لا يمكن أن يقوم حل في سوريا لا يضمن ولا يبدأ بعودة النازحين» تفترض واحد من أمرين: اما ان يتوجه لبنان لكافة أطراف النزاع السوري، لاستطلاع ما عندهم ليطرحوه في موضوع اللاجئين وعودتهم لسوريا، واما أن يسعى لبنان لربط نفسه بالتسوية السياسية السورية بشكل من الأشكال. في الحالتين، هذا يناقض معزوفة التفاوض مع النظام الأسدي كما لو كان هذا النظام يمثّل دولة «بجد».
حتى هذا المقطع اذاً، الذي يمرّر الكرة للنظام السوري، في خطاب القسم، يحتوي على مواد كفيلة لوحدها بتعطيل التذاكي الحالي المطالب «بالتفاوض مع النظام» كما لو كان هذا النظام هو الدولة السورية «العادية». علام التذاكي اذاً؟
حسب الأخبار الواصلة حول التفاهم الأمريكي ـ الروسي في جنوب سوريا (يشمل محافظات درعا والقنيطرة والسويداء وقسما من القنيطرة) فإن الطرفين سيعملان على تثبيت وقف النار على خطوط التماس بين الفصائل وقوات النظام والمسلحين الموالين له على أن ينسحب الأخيرون إلى ثكنات تابعة للنظام وتنتشر عناصر للشرطة العسكرية الروسية على الحدود، وتتبع ذلك محادثات يستعيد فيها النظام السيطرة على المعابر الحدودية مع الأردن مما يسمح للشاحنات الأردنية بعبور سوريا باتجاه تركيا ولبنان وأوروبا.
الطرف الخفيّ في الاتفاق هو إسرائيل التي استطاعت، من وراء الكواليس، تأمين حدودها بحيث يُبعد عنها «حزب الله» والميليشيات التابعة لإيران، وعلى عكس المعارضة السورية التي اعتبرت التفاهم شرعنة للاحتلالين الروسي والإيراني فإن النظام السوري أعلن عن رضاه، لأن التفاهم، في صلبه العميق، هو مقدّمة لعودة الاعتراف الأمريكي بنظام بشار الأسد حيث أن علم النظام سيعود إلى الحدود وبعض المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، وستكون حليفته الكبرى، روسيا، ضامناً عسكرياً للاتفاق.
أحد تفاصيل الاتفاق سيكون له انعكاس على الأردن واللاجئين السوريين فيه حيث سيتم السعي لعودتهم إلى جنوب سوريا على خلفية وعود بإيصال المساعدات الإنسانية إليهم. يمثّل هذا الاتجاه تخفيفاً لعبء اللاجئين على الأردن كما أنه يحقّق مطلباً حقوقيّاً في عودة النازحين إلى بلادهم التي فرّوا منها للنجاة بعائلاتهم وأطفالهم، غير أن هذه العودة، التي قد تكون عاملاً مهمّاً في تحريك ديناميكيّات جديدة في الوضع السوريّ الشديد الاستعصاء، قد تتحوّل إلى مأساة جديدة إذا لم يتوفّر لهؤلاء الحماية من قصف النظام أو أشكال الاعتداء والهجوم عليهم.
ما يرجّح هذا الاحتمال هو تحالف دعايات النظام السوري وجهات سياسية متعددة، في لبنان والأردن وتركيا، ضد اللاجئين، وتصاعد أشكال العنصرية الفظيعة ضدهم، والذي شهدنا آثاره المرعبة في حوادث يندى لها جبين البشر، ومن ذلك، مؤخراً، اغتصاب طفل وقتله في الأردن، واغتصاب امرأة وقتلها مع رضيعها في تركيا، وعمليات التنكيل الجماعية ضد مخيمات اللاجئين في لبنان وما تبعها من حرق وتعذيب وقتل.
هناك حملات تحريض صريحة في البلدان الثلاثة التي لجأ إليها السوريون وقودها يمزج بين حوادث تافهة (من قبيل تصوير شاب سوري لفتيات تركيات على البحر) مع تذمّر فئات شعبيّة، لم ينلها من حصص الدعم الدولي ما يرضيها، مرفوعة كلها على أغراض سياسية قبيحة (كما هو حال بعض أطراف المعارضة التركية والكردية في تركيا و»حزب الله» وحلفائه في لبنان وأنصار النظام السوري في الأردن) لتتحول إلى تيّار عام مؤثر في الشارع والسياسة في البلدان الثلاثة، وإلى كابوس مرعب يطارد اللاجئين الذين صاروا خائفين من تبعات ذلك حيثما حلّوا وكثير منهم مرعوب من فكرة إعادتهم القسرية نحو سوريا ليكونوا عرضة لانتقام النظام السوري ومخابراته.
الرئيس اللبناني ميشال عون عبّر عن مخاوف من أن تصبح مخيمات لجوء السوريين «حواضن للإرهاب».
مخاوف الرئيس اللبنانية حقيقية طبعاً فللإرهاب معادلة اشتعال بسيطة من عناصرها الإفقار والإذلال والعنصريّة، ولا تحتاج لقدح زنادها أكثر من ممارسات الجيش ومخابراته، وجوّ الكراهية العامّ المتزايد الذي يدخل ضمنه تصريحات الرئيس اللبناني نفسه.
في سياق الجدال المندلع بالداخل الإيراني بين جماعة المرشد خامنئي والرئيس روحاني، قال الجنرال سليماني، قائد فيلق القدس، إنه لولا الحرس الثوري ما بقيت إيران، وإنه في مجريات الصراع على العراق وسوريا فإنّ إيران تضاعفت قوتها عشر مرات! ومشكلة روحاني مع الحرس الثوري ليس في مدى قوة إيران العسكرية، بل في أن الحرس استولى على الكثير من المرافق الاقتصادية بالداخل، وعلى الكثير من ملفات الكسب والتجارة، لكي يموِّل بها عملياته الخارجية، والتي لا يخضع الإنفاق عليها لرقابة الحكومة، بل لقيادة المرشد واعتباراته، فالملف الاقتصادي ضاغطٌ جداً على روحاني، باعتباره مسؤولاً عنه، وخصومه المحافظون يقولون إنّ وعوده الاقتصادية لم تتحقق لجهتين: لجهة انتظاراته من الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والدول الكبرى ولجهة مكافحة الفساد. وروحاني يدافع عن سياساته بأنّ ما لم يتحقق من الوعود علَّتُه استيلاء الحرس وجهات أُخرى تابعة للمرشد على مرافق تستنزف الكثير من جهود التنمية والتطوير.
هذا التنافر بالداخل الإيراني، والذي يتسبب بجدالاتٍ بين المرشد والرئيس في الأسابيع الأخيرة، لا يظهر مثله بالداخل التركي بين السياسيين والعسكريين. وفقط في وسائل الإعلام التي خضع أكثرها هناك تذمُّراتٌ من الفشل في الملف الكردي، وفي الأزمة السورية، وأخيراً في التدخل بين دول مجلس التعاون الخليجي لصالح قطر.
يعتقد المسؤولون العسكريون والأمنيون بإيران أنه آن أوانُ قطف ثمار التدخلات بسوريا والعراق بعد جهود هائلة لأكثر من خمس سنوات. لقد خدمتهم الولايات المتحدة بالتدخل ضد «داعش» في العراق، وخدمتهم روسيا بالتدخل ضد معارضي الأسد في سوريا. وهناك تنافُسٌ الآن على مَن يكون المستفيد الأكبر من زوال «داعش»، وَمَنْ يخلُفُها على الأرض. في المناطق العربية السنية بالعراق، تتقدم إيران، وتسير الميليشيات التي يقودها سليماني باتجاه الحدود العراقية السورية الأردنية، بل وتحاول الاقتراب من الحدود السورية الإسرائيلية. وستعود التجاذُباتُ قريباً على منطقة تلعفر بين إيران (ومعها الحكومة العراقية) وتركيا، التي لها قواتٌ بشرق الموصل، وعلى مقربة من تلعفر لجهة الحدود التركية مع المنطقة. والطريف أن الجدال اندلع علناً على المياه والسدود الإيرانية والتركية على فروع الفرات ودجلة. الأكراد الموالون لإيران في السليمانية ودهوك، شكوا من السدود الإيرانية التي قطعت المياه عنهم أخيراً، بحيث ما عادوا يستطيعون تزويد المناطق العراقية الأخرى بالمياه للزراعة والري. أما خامنئي فشكا علناً من السدود التركية التي قللت كثيراً من كميات المياه الواصلة إلى المنطقة الكردية، والمناطق العربية والإيرانية!
والصراع هائلٌ بين الإيرانيين والأتراك على البترول والمياه والحدود في الشمال السوري، ويشارك في ذلك بالطبع النظام السوري والروسي. إيران مرتاحة أكثر بالطبع، لأنه ما كان لميليشياتها وجود في شرق حلب وهي تتقدم الآن في تلك النواحي. وتأتي ميليشياتها وضباط حرسها الثوري مع قوات النظام من البادية باتجاه دير الزور. ويكون على تركيا الآن، مع الميليشيات السورية التابعة لها أن تصارع على عدة جبهات: الجبهة الرئيسية مع الأكراد على مقربة من حدودها، وقد تقدمت واستولت على مدينة الباب، لكن أميركا منعتها من الاستيلاء على منبج بغرب الفرات، وعهدت للأكراد بتحرير الرقة. ومشكلة تركيا الثانية مع الأكراد هي حول جيب بلدة عفرين الذي يسيطرون عليه، ويريدون استحداث كوريدور يصل بين عفرين ومناطقهم الأُخرى. وهذا الكوريدور الشاسع تقع على امتداده بلدات تسيطر عليها المعارضات المسلحة أكبرها مارع، ويحميه الجيش التركي. والأكراد المطمئنون للولايات المتحدة، يتهمون الآن الروس بأنهم هم الذين يسمحون للأتراك بحصار عفرين، وربما الاستيلاء عليها، بخلاف إرادة الأميركيين، فيما يزعمون!
لقد لعب الإيرانيون في العامين الماضيين مع أكراد العراق (طالباني) وسوريا (قوات الحماية، وحزب العمال)، وضد تركيا، لكنّ الشكوك بهم تصاعدت بعد إعلان الأكراد العراقيين جميعاً (البارزاني والطالباني وقوى التغيير) عن استفتاءٍ على الاستقلال. وصرحت تركيا علناً ضد الاستفتاء، وستنزعج جداً من حدوث أمرٍ مُشابهٍ من جانب الأكراد السوريين. لذا فهناك نوع من التقارب أخيراً بين الطرفين في هذا الملف بالذات.
إن الاستقلال الكردي في العراق يهدد إيران وتركيا بالفعل، لوجود ملايين الأكراد على حدود الدولتين مع كردستان الساعية للاستقلال.
لا يملك الأتراك حرية حركةٍ لا في سوريا ولا في العراق. وحرية الإيرانيين في الحركة بالبلدين أكبر بكثير، بيد أنّ المصائر النهائية لحكومات البلدين ووحدة أراضيهما أو تقسيمها متعلقةٌ بكلٍّ من الولايات المتحدة (في العراق وسوريا)، وبروسيا (في سوريا). وحتى الآن فإنّ الداخلين الإيراني والتركي لا يؤثران كثيراً على حكومتيهما لجهة التدخل والقتال باعتبار أنها مسألة أمن قومي واستراتيجي!
تشمل التوافقات الدائرة في شأن سورية اليوم ذاك التوفق الأساسي الحاصل بين الجانبين الروسي والأميركي. وهو الذي يمثل الإطار العام لجملة التوافقات الفرعية مع القوى الإقليمية. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى ما تم في الآستانة بين روسيا وتركيا وإيران، وإلى التواصل المستمر بين الدول الخليجية والأميركيين والروس والأوروبيين، وإلى الرسائل الديبلوماسية والميدانية المتبادلة بين الأميركيين والإيرانيين.
كل ذلك يشي ببلوغ عملية تقاسم النفوذ في سورية مرحلة متقدمة، ولكن من دون الوصول إلى مرحلة الإعلان عن التقسيم الفعلي الذي ستكون تبعاته معقدة ومكلفة بالنسبة إلى الجميع، وستكون سلبياته أكثر بكثير من ايجابياته المحتملة في حسابات كل طرف.
ولعل هذا ما يفسر جانباً من التصريح الأخير للرئيس الفرنسي ماكرون حول دور بشار الأسد، وهو تصريح يتناغم مع الموقف الروسي، ويستمد نسغه من حالة الغموض التي تحيط بالموقف الأميركي. ويلقي الضوء في الوقت ذاته على الإعلان التركي عن تقاسم الأدوار بين القوات الدولية في ما يسمى مناطق «خفض التوتر»، فطالما أن التقسيم الرسمي غير وارد في المدى المنظور، وبما أن الرغبة لدى مختلف الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة على الساحة السورية تتقاطع حول الحصول على منطقة نفوذ، أو ممر حيوي، فهذا مؤداه الإبقاء على بشار الأسد يافطة لوحدة سورية جغرافياً، انتظاراً لما قد تكون عليه الأمور مستقبلاً، وأمر من هذا القبيل ربما كان بمثابة القاسم المشترك المطمئن للجميع.
فبشّار، وبعد كل الذي حصل، سيكون مجرد واجهة هزيلة، تستخدم للتغطية على اللاعبين الأساسيين الذين سيحصل كل منهم على ما يريد بهذه الدرجة أو تلك من الرضا، وذلك ضمن إطار المتاح، وفي غياب عربي مثير للجدل والتساؤل.
وحدها إيران ستكون المزعجة والمنزعجة في الوقت ذاته. فهي تريد الدور الإقليمي الأكبر على حساب الدور العربي، السعودي تحديداً. وستحاول بشتى السبل الاحتفاظ بالأوراق والميادين التي تضمن لها قابلية هذا الدور.
ولكن هذا الدور لا يستقيم مع الإستراتيجية الأميركية الجديدة المتمحورة حول إعادة صياغة معادلات التوازن في المنطقة، وهي إستراتيجية متقاطعة في بعض جوانبها مع توجهات الشركاء الأوروبيين.
فإيران ستظل قوة إقليمية أساسية، ولكنها لن تكون المهيمنة. فكما أن روسيا تتحدث اليوم عن انتهاء مرحلة الأحادية القطبية على المستوى الدولي، فإن الأحادية ذاتها على المستوى الإقليمي لن تكون في مصلحة الفاعلين الإقليميين الآخرين.
وجود إيران قوةً إقليمية مهدِّدة، يُحسب حسابها، ضروري بالنسبة إلى القوى الدولية في سبيل الحفاظ على التوازن في المنطقة، والمصادرة على الاحتمالات غير المرغوب فيها مستقبلاً، هذا فضلاً عن الحسابات الاقتصادية ومنها مبيعات الأسلحة وتوابعها، والنفط والغاز.
وفي سياق تناولنا لدور العامل الإيراني في المنطقة، لا يمكننا تجاهل دور «حزب الله» المستقبلي في لبنان، وربما في مناطق محددة في سورية أيضاً، منها مثلاً الريف الدمشقي المحاذي للحدود البنانية- السورية، وكذلك الريف الحمصي.
فـ «حزب الله» خسر الكثير من أعضائه وسمعته نتيجة القتال في سورية إلى جانب النظام وضمن إطار الإستراتيجية الإيرانية، لكنه في المقابل امتلك المزيد من الخبرات القتالية والمعدات العسكرية، كما انه اكتسب المزيد من هيبة القوة، إذا صح التعبير، ضمن الساحة الداخلية اللبنانية نتيجة قوته الذاتية من ناحية، وضعف خصومه وخلافاتهم البينية من ناحية ثانية.
والسؤال هنا هو: هل سيستمر الوضع هكذا بالنسبة إلى حزب الله في أجواء المعادلات الإقليمية الجديدة، أم أن فائض القوة الموجود لديه سيعالج بطريقة ما؟ كيف؟ وأين؟ ومتى؟ وإلى أي حد؟ أسئلة يرجح وجودها على جداول أعمال الاجتماعات المحمومة المتواصلة التي تعقد بين مختلف الأطراف في أكثر من مكان.
والأمر ذاته بالنسبة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تشكل قواته النواة الصلبة ضمن قوات سورية الديموقراطية. وهي القوات التي اكتسبت خبرة قتالية، وامتلكت معدات عسكرية متطورة، وسيطرت على أراض واسعة في الشمال الشرقي، وشرق سورية، وكل ذلك بفضل الدعم الشامل، بخاصة الجوي من جانب قوات التحالف بقيادة الولايات المتخدة الأميركية.
هل سيستمر هذا التفاهم والتعاون مستقبلاً أم أن دوامه مرتبط بفاعلية الأسباب؟ ولكن ماذا بعد زوالها؟ وأي دور سيُناط بالحزب المذكور في المستقبل الإداري في المناطق الكردية على وجه التخصيص وفي غيرها من المناطق؟
هذا مع فارق لافت بالنسبة إلى وضعية هذه الحزب وحزب الله. فالأخير حزب لبناني، مهيمن على الساحة الشيعية في لبنان، وليس في مقدوره التمترس خلف أي دور سياسي في سورية مستقبلاً. بينما يقدم حزب الاتحاد الديموقراطي نفسه بوصفه حزباً سورياً، وله أنصاره بين الكرد السوريين، ولو إلى جانب أحزاب كردية سورية أخرى منافسة، تمتلك حاضنة شعبية واسعة لم يتمكن حزب الاتحاد الديموقراطي، على رغم كل أساليبه القمعية والترغيبية، من إقناعها بشرعية وجوده على المستوى الكردي السوري.
الأمور متداخلة كثيراً. ولكن يبدو أن عقدة الحكاية السورية بلغت دولياً وإقليمياً الذروة، وحان الوقت لإنهاء أسطورة داعش، تمهيداً لتقاسم الأدوار والنفوذ في الميدان السوري، الذي كان، وسيظل، هدفاً للهيمنة من قبل مختلف القوى المتصارعة التي تدرك أهمية ثقل الجغرافيا السورية وأهميتها في عملية إعادة ضبط الموازين في المنطقة.
تنتقل المسألة السورية إلى طورٍ جديد، يُراد له أن يكون طور ما بعد الثورة، طور تقرير مصير ملايين السوريين الذين طردهم النظام الطائفي/الاستبدادي من وطنهم، منذ استهدفهم بحملات قتلٍ منظمةٍ نفذها جيشه، لم تترك لهم غير الموت تحت ركام منازلهم، أو الفرار إلى بلدانٍ لا يقيم حكامها وزنا للقوانين، ولحقوقهم بشراً، وليس لديها الرغبة في خدمتهم، تفتقر مؤسساتهم الحكومية إلى إجماعٍ وطني، يمكن أن يفيدوا منه، باعتبارهم لاجئين تقرّ القوانين الوضعية والشرائع السماوية بحقوقهم، وإلى شرعيةٍ وطنيةٍ تقبلها الأطراف السياسية والحزبية، وتلزمها بما تتبناه حكومات بلدانها من مواقف. لو أخذنا لبنان مثالا، حيث يُعامل السوريون كأنهم أسرى حرب لدى حزب الله وامتداداته في الجيش وأجهزة الأمن، وتمارس عليهم سياساتٌ هي امتداد لحرب الحزب ضدهم، وهو الذي أخرجهم من مواطنهم الأصلية في سورية، بعد أن غزاها ودمرها بأمر من خامنئي، لوجدنا أن حكومته في واد وحزب إيران في آخر، وأن كلمته وليس كلمتها هي الحاسمة، وأن سلطاتها لا تشمله في أية قضية تخص إيران وسياساتها الاحتلالية والتدخلية في المشرق العربي عامة، وسورية ولبنان خصوصا.
لا يعني هذا أن حكومة لبنان ليست مسؤولةً عّما يتعرض له السوريون من عدوانٍ على يد جيشٍ تابع لها، يفترض أنه خاضع لإمرتها يضع نفسه بتصرفاته ضد مدنيين عزّل، ويضعها هي أيضا في موقع العداء للسوريين الذين لو كان ربع من اعتقله من لاجئيهم "إرهابيا"، لما نعم لبنان يوما واحدا بالأمن والاستقرار، ولما تمكّن جنوده من دخول المخيمات، ناهيك عن إلقائهم أرضا وتمريغ وجوههم بترابٍ مغطى بالحصى، وهم عراة الجذوع مكبلو الأيدي.
يقول ما يجري في لبنان أمرين:
أولاً، من اعتدوا على السوريين من دون تمييز، لمجرد أنهم سوريون، أنهوا سياسة النأي بالنفس التي أعلن لبنان الرسمي التزامه بها حيال الصراع الدائر في سورية. لذلك، يجب توجيه سؤال إلى حكومة الرئيس المقدّر سعد الحريري: عن أي نأيٍ بالنفس يمكن أن نتحدث منذ الآن، إذا كان حزب الله يقتل السوريين داخل بلادهم، وجيشكم الرسمي يقتلهم خارجها: في مخيمات البؤس والموت التي طردهم الحزب إليها عقابا لهم على رفضهم نظاما مرتبطا مذهبيا بإيران، هو أقوى ركائزها في المشرق، وأعمق اختراقاتها السياسية والعسكرية والمذهبية للجسد العربي؟
ثانياً، لبنان الرسمي الضعيف حيال لبنان المتحكّم، أي حزب إيران، قرار أن يسهم بقوةٍ في مرحلة قادمةٍ تلوح تباشيرها من الصراع السوري، تقول تصرفات جيشه المفاجئة، وأخبار تركيا والأردن، أنها ستستهدف ملايين السوريين خارج وطنهم، الذين أتاح خروجهم لهم فرصة النجاة من القتل، والتمسك بقضيتهم، فإن نظموا أنفسهم وقرّروا ممارسة عمل سياسي منظم ومؤسسي/ موحد، بقيت الثورة حية، وإن تراجعت أمام النظام في الداخل. للخلاص من هذا الاحتمال، بدأ عمل واسع وجدّي لتمزيق الخارج السوري وإرهابه، وهو الذي تفيد دلائل متنوعة بأنه سيكون ضحية سياساتٍ تريد تحقيق هذا الهدف، سواء أعادتهم طائعين خانعين من خلال "هدن" استسلامية إلى ركام بيوتهم، حيث ستفرض الأسدية عليهم نمطا من العيش الموتُ أفضل عليه، أو عرّضتهم أدواتها لتصفياتٍ وملاحقاتٍ وسياساتٍ إذلالية تقوّض قدرتهم على أن يظلوا كياناتٍ متماسكةٍ تعي نفسها جزءاً من مجتمع تاريخي، يوحّده الاستبداد داخل وطنه، ونضالهم للعودة إليه وطناً حرّا خارجه، إن أقام الأواصر والصلات المطلوبة بين جزأيه، الداخلي والخارجي، حافظ على هويته الجامعة شعباً ثائراً، يرفض الأسدية وعازم على تجاوز محنته، بما لديه من مؤهلاتٍ فردية وجماعية، وروح وطنية حية ولا تقبل الهزيمة. يريد الأسد وحزب الله تحويل الجسم السوري في لبنان إلى حالةٍ "غجرية"، ليست كيانا سياسيا أو وطنيا، وليس لها هوية جامعة وقضايا مشتركة، إن عاد بعضها إلى سورية صار عبدا تحت البوط العسكري الأمني، وانضم إلى جموع الأموات من مواطنيه. وإن بقي خارجها نبذ وقتل عشوائيا بالرصاص، أو تحت التعذيب في "المستشفيات"، مثلما حدث أخيرا في لبنان.
يعتقد أسد إيران أن روسيا قضت على جزءٍ مهم من قوى الثورة، وأنه حان وقت القضاء على حاملها: شعب سورية أو ما تبقى منه، فإن نجح جعله نجاحه خيارا لا بديل له، وقبله العالم. هذه الجريمة الفظيعة لا يجوز أن يشارك فيها جيش لبنان، فهي ليست مهمته، وستلحق مشاركته فيها ضررا فادحا بشعبين شقيقين، لا مصلحة لهما في ارتكابها.
أصيبت، أخيراً، مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان بانتكاساتٍ خطيرةٍ، تزامنت مع حملة إعلامية سياسية، تدعو إلى إعادة اللاجئين إلى سورية، وإلى فتح حوارٍ وتنسيق بين الحكومة اللبنانية والنظام السوري، لإتمام هذه الخطوة وإنجازها.
يُقدّر عدد اللاجئين السوريين في لبنان، والمسجّلين لدى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بأكثر من مليون ومئتي ألف لاجئ، فضلاً عن أعداد أخرى غير معروفة، وغير مسجّلة لدى المفوضية، ومنتشرة في أكثر من منطقة لبنانية، وتخضع كاملة للأنظمة والقوانين اللبنانية. أما المخيمات، فمنها المنظّمة ومنها العشوائية، وتتركّز أيضاً في مناطق كثيرة، لا سيما في وادي البقاع، وعند الحدود في منطقة عرسال الحدودية.
أصيبت المخيمات، أخيراً، بـ "انتكاسات"، فقد تعرّض بعضها في منطقة عرسال لمداهمةٍ قامت بها وحدات من الجيش اللبناني، على خلفية معلوماتٍ عن وجود "إرهابيين" (وفقاً للمصطلح المستخدم) في مخيمين منها، ينوون القيام بأعمال تضرّ بالأمن اللبناني. وأدّت المداهمة إلى مقتل لاجئين، قيل إن بعضهم فجّر أحزمة ناسفة عند المداهمة، أدّت إلى مقتلهم وإصابة بعض الجنود، فيما تحدّثت معلومات لاحقة عن مقتل آخرين في ظروف غامضة بعد توقيفهم. وقال بيان لقيادة الجيش إن أربعة لاجئين قضوا جرّاء أمراض مزمنة، وظروف مناخية، في أثناء توقيفهم، وقبل التحقيق معهم.
وتضاربت المعلومات بشأن أعداد الذين لقوا مصيرهم وحتفهم، ما جعل حقوقيين وناشطين يشكّكون في أسباب الوفاة، ويطلقون حملةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي يطالبون فيها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بتوفير الحماية لتلك المخيمات، ما يُعدّ تشكيكاً بقدرة السلطة اللبنانية على حماية المخيمات، وأيضاً مطلباً لحماية تلك المخيمات من أية مجموعات "إرهابية" مفترضة، تحاول اختراقها واستهدافها.
وبعد أيام قليلة من حادثة مخيمات عرسال، تعرّض مخيم للاجئين السوريين في بلدة قب إلياس البقاعية لحريق هائل لم تُعرف أسبابه، أدّى إلى مقتل طفلة وجرح عشرات آخرين، فضلاً عن احتراق عشرات الخيم. وبعد أربعين ساعة تقريباً، تعرّض مخيم آخر في مدينة بر إلياس المحاذية في البقاع الأوسط إلى حريقٍ هائل مماثل، ذهب ضحيته لاجئ آخر، وجرح فيه آخرون، ولم تُعرف أسبابه أيضاً.
الملفت أن هذه الأحداث التي حصلت في المخيمات تزامنت مع حملةٍ إعلاميةٍ سياسيةٍ، راحت تطالب بإعادة اللاجئين السوريين إلى سورية، فيما ذهب بعضهم في حملته إلى مطالبة الحكومة اللبنانية بفتح حوارٍ وتنسيق مع النظام السوري، لإتمام خطوة إعادتهم وإنجازها، إلا أن أطرافاً سياسية مشاركة في الحكومة رفضت الطلب، ووضعته في إطار محاولة تطبيع العلاقة مع النظام السوري، وتلميع صورته، مقدمةً لإعادته إلى جامعة الدول العربية والحظيرة الدولية من بوابة لبنان، وفضّلت هذه الأطراف المشاركة في الحكومة معالجة هذا الموضوع من خلال الأمم المتحدة.
كشفت هذه التطورات أن هذه المخيمات تعيش حالةً من الخوف والقلق، وأنها غير آمنة، وقد تكون عرضةً، في أي وقت، لأي عملٍ يستهدف اللجوء السوري، من أجل إخضاعه، أو ترهيبه، أو شيطنته، مقدمةً لضربه وطرده من البلد. وفي مطلق الأحوال، من يدفع ثمن ذلك هو اللاجىء السوري الذي قد لا يكون له أي ذنبٍ في كل ما حصل معه، وجرى له.
الحملة التي أطلقها ناشطون حقوقيون لحماية المخيمات، وتأمين حقوق اللاجئين، بدأت تلقى صدىً في الأوساط اللبنانية المتفاعلة مع القضايا الحقوقية، وحدّت في مكانٍ ما، ما اعتبره بعضهم حملة عنصرية استهدفت اللاجئين، ولكن ذلك كله لم ينهِ معاناة أولئك، والتي تحتاج إلى حلّ جذري، يبدو أنه ما زال بعيداً.
ظهر تزايد في الدور الأميركي في سورية في الأسابيع التي تلت استلام دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. وظل الحوار الأميركي الروسي راكداً، على الرغم من كل الآمال التي عُقدت على نجاح ترامب في ما يتعلق بعلاقته مع روسيا. لهذا، ظلت المشاركة الأميركية في مفاوضات أستانة وجنيف "خارجية"، حيث تعاملت بوصفها مراقباً. لكنها أوجدت قاعدةً عسكريةً في منطقة التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية، بعد أن أقامت، في فتراتٍ سابقة، قواعد في الشمال الشرقي، في سياق التنسيق مع "قوات سورية الديمقراطية".
ولقد قصفت قواتٍ داعمة للنظام السوري، حين تقدّمت باتجاه التنف، بعد أن كانت قد قصفت مطار الشعيرات بصواريخ بعيدة المدى، وأسقطت طائرةً له، يُقال إنها كانت تقصف "قوات سورية الديمقراطية".
ضمن ذلك كله، ما هو الممكن في سياسة أميركا تجاه سورية؟ يبدو واضحاً أن أميركا تريد تصفية وجود "داعش" في الرّقة، وحصره في دير الزور، وربما التقدّم من الجنوب لوصل التنف، حيث باتت تتمركز في الرّقة، وأيضاً ربما الاندفاع للسيطرة على الشرق والشمالي الشرقي، وفرض أمر واقع يتمثل في سيطرة أميركية على جزءٍ من سورية في مقابل السيطرة الروسية على الجزء الآخر. في هذه المعادلة، يصبح التفاوض الأميركي الروسي مبنياً على "توازن قوى" في سورية، وبالتالي، يجعل المفاوضات تبدأ من أساسٍ مختلفٍ عما يجري حالياً، حيث تتحكّم روسيا بكل اللعبة. ولقد عزّزت من مسار أستانة بديلاً عن جنيف، وهو المسار الذي يعني فرض "الحل الروسي" القائم على بقاء الأسد، ومحاولة دمج بعض الكتائب "الإسلامية" في بنية الدولة، على الرغم من أن هذا المسار تتشارك فيه تركيا التي تضغط على الكتائب "الإسلامية" للمشاركة، وقبول الشروط التي يجري التوافق عليها بين كل من تركيا وروسيا، والتي تعني إعطاء تركيا دوراً في السيطرة على الشمال الغربي من سورية، وإشراك "جماعتها" في الحل السياسي الروسي.
أميركا تحسم في العراق، وقد ظهر أن "داعش" يتلاشى، ولقد بات التأثير الأميركي كبيراً هناك، حيث لا بد من أن يصبح العراق مجال سيطرةٍ أميركيةٍ بديلة لسيطرة إيران. ولهذا، يصبح تركيز أميركا على وضع سورية، ولا شك في أنها تقدّمت في حسم الحرب ضد "داعش" في الرّقة، ووضعت حدوداً لنشاط قوات النظام السوري، على الرغم من كل التحذيرات الروسية، وتعزّز من دورها السوري أكثر مما كان، من خلال إرسال قوات برية وصواريخ مضادة للطائرات ودبابات. وبهذا، فقد زرعت عدداً من القواعد العسكرية، بـ "التحالف" مع "قوات سورية الديمقراطية"، وكتائب من الجبهة الجنوبية، جرى تدريبها في الأردن. هذا الوضع لا شك يجعل التفاوض الأميركي الروسي مختلفاً عمّا كان في السابق، وبالتالي يفرض شروطاً جديدة.
لكن، لا بد من ملاحظة أن أميركا ليست معنية بسورية في نهاية الأمر، وأن دورها الراهن يأتي في سياق كسب الأوراق في التفاوض مع روسيا. وهو الأمر الذي يعيد إلى أن الوصول إلى حلّ ما زال مرتبطاً بما يمكن أن تتفق عليه روسيا وأميركا، ومن دون ذلك سيبقى الصراع قائماً. والوصول إلى توافقٍ لا يرتبط بوضع سورية فقط، بل يشمل على الأقل كما تريد روسيا، التوافق في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا من "الغرب". وهذا أمرٌ لا يبدو أن في الأفق ما يشير إلى أنه قريب، نتيجة التشدّد الروسي، فروسيا تريد أن تظهر هي المنتصرة في هذا "الصراع"، وأنها كسبت ما يجعلها قوةً عالمية مهيمنة، في وقتٍ يبدو فيه أن أميركا ما زالت في غير وارد التخلي عن دورها العالمي الأول، وأن كل ما تقبله أن تشكّل مع روسيا ثنائياً "يحكم العالم".
يجلس فلاديمير فلاديميروفيتش على كرسي مكتبه المذهب في قصر الكرملين، وأمامه خريطة للعالم مكتظة بالدوائر الحمر والزرق التي تحدد مناطق النفوذ الروسية والأميركية، وتتقاطع خصوصاً في الشرق الأوسط، وتتداخل كثيراً في شرق أوروبا. يطرق العقيد السابق في الاستخبارات مفكراً كيف يمكنه معالجة الخلل الفادح وجعل اللون الأحمر طاغياً، أو على الأقل مساوياً للأزرق «اليانكي».
«حليفه» المفترض في البيت الأبيض الذي يلتقيه غداً للمرة الأولى، يواجه صعوبات متزايدة وأزمة ثقة بخياراته، قد تفضي في أقل تعديل الى حصاره وفرض رقابة على قراراته، مثلما فعل مجلس الشيوخ أخيراً عندما ألزمه بالرجوع إليه قبل التفكير في أي تخفيف للعقوبات على روسيا، فيما لا يملك في مواجهة الإنهيار المريع في شعبيته، سوى «تغريدات» يستنجد بها لمقاومة ماكينة إعلامية جبارة تعمل بلا كلل للنيل منه، بعدما تحدّاها وقرر تجاوزها.
اللقاء يعقد على أرض ألمانيا (الغربية سابقاً) التي طالما راقبها بوتين من وراء الجدار الذي انهار وجرف معه خزانة ملفاته. وعلى عادة ضباط الاستخبارات، ظن «صاحب» الكرملين أن بإمكانه التلاعب بالأميركيين «السذج»، قبل أن يتبيّن أن الخندق الذي حفره أوباما أعمق مما كان يتصور. تدخله في خصوصياتهم أيقظ مناعة الأميركيين، ورفع العداء لروسيا الى درجة تدعو للترحم على «الحرب الباردة». خسر بوتين الولايات المتحدة، ولم يربح ترامب بعد.
حلفاؤه الآخرون ليسوا من طينة القادة الذين يحلم بهم. غارقون في الفساد الذي أوصلهم الى حكم الجمهوريات السوفياتية السابقة. مشغولون بتحويل انفسهم الى ما يشبه الآلهة، وبنقل ثروات دولهم الى حساباتهم الخاصة، وتمهيد الطريق أمام ورثتهم. لا يمكنه الركون إليهم. فضمائرهم الخارجة من وراء «الستار الحديد» مطاطة، يسهل جذبها بعروض لا تقدر دولته شبه المفلسة على مضاهاتها. كلما استمال أحدهم او أخضعه، قفز آخر الى «حلف الأعداء» والمناورات المقلقة عند الحدود. مشكلته أن أرضه منبسطة كالكف وعاصمته منكشفة، على عكس البرّ الأميركي المطمئنّ الى حماية المحيطين الأطلسي والهادئ.
أما شركاء بوتين في مقاومة نفوذ واشنطن المتأرجح في شرق المتوسط، فلا يستطيع منحهم ثقته إلا في حدود ضيقة جداً، بعدما تأكد أن الإنقلاب متأصل في حمضهم النووي. الإيرانيون مثلاً، يستفيدون منه الى أقصى الحدود ويدفعونه الى خوض معاركهم في سورية، حيث لا يسددون ديناً قبل أن يقبضوه سلفاً أكثر من مرة. يمنحونه هيبة موقتة باتخاذ القرارات، بينما يعملون على الأرض لتطويق أي تفاهم يصبو إليه مع غيرهم. لا يمكنه التخلي عنهم لأنه يشعر بنفسه دخيلاً على منطقة مدججة بالطوائف، تستعصي على معايير التحالفات الطبيعية، وتغصّ بنظريات المؤامرة والحبكات البوليسية.
بشار الأسد خذله أكثر من مرة بقدرته العجيبة على ارتكاب الأخطاء المحرجة في السياسة والقتال. بالكاد ينقذه من ورطة حتى يسقط في أخرى، ويضطر الى استدعائه، إما الى إحدى قاعدتيه في سورية أو الى موسكو، قبل أن يتولى «التنظيف» من ورائه. فالسلاح الكيماوي لا ينضب في ترسانته، ولا قدرة على ضبط ولعه باستخدامه، مستجلباً، على الضد من رغبة موسكو، احتمالات «التأديب» الأميركية.
الأتراك المتقلبون يصافحونه بيد ويطعنونه بالثانية. يستخدمون سورية وكُردها مثقالاً للموازنة بينه وبين الأميركيين وابتزازهم، ويتأرجحون بالأسد بين الدعوة الى الرحيل وبين التغاضي. يستسهلون الانتقال بين ضفتي البوسفور كلما شعروا بالضيق من الامتثال لشروط لا تعترف بقدرتهم على استعادة مجد انقضى مع هزيمتين عالميتين. تركيا، العقدة التاريخية التي ورثها من أجداده القياصرة، لا تزال قادرة على تفكيك أحلامه.
لكن الفارق المحرج في ألوان الدوائر لا يشغل الرجل عن هدف تمديد ولايته، مع ما يستدعيه ذلك من عرض عضلات لإسكات المستنكرين. فسياسة العالم تخضع لأمزجة قادته، ومن المهم أن يبقى لـ «عموم الروسيا» زعيم أوحد.
لا يريد فلاديمير بوتين لقاء عابراً مع دونالد ترامب، على هامش قمة العشرين في هامبورغ، بل اجتماع عمل «براغماتياً» كما وصفه سيرغي لافروف. «القيصر» يريد نتائج، وهذا يناسب رجل الأعمال النيويوركي. ثمة نزاعات إقليمية- دولية تتولّى فيها روسيا أدواراً رئيسية وتسعى الى حلّها أو على الأقل الى تحريكها بالتنسيق أو التفاهم مع الولايات المتحدة، لكن محاولاتها مع إدارة باراك أوباما لم تسفر عن نتائج، لأن الطرفين لم ينضّجا الحلول الممكنة، أما المحاولة مع إدارة ترامب فلم تبدّأ جدّياً بعد وما أمكن التوصّل اليه إمّا تثبيت تفاهمات سابقة بالنسبة الى أزمة سورية في ملفَّي محاربة الإرهاب ومقاربة الصراع الداخلي، أو وضع تفاهمات مبدئية جديدة على محك الاختبار ومنها على سبيل المثال عدم التعرّض الأميركي لقوات النظام السوري شرط ألا ترتكب عمليات قتل جماعي بالسلاح الكيماوي.
أبدى الرئيس الروسي أكثر من مرّة استعجالاً، بالتالي استياء من تلكوء إدارة ترامب، ثم حنقاً على عقوبات جديدة فُرضت على بلاده سواء من البيت الأبيض أو الكونغرس ردّاً على التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية. وربما يُعزى الاستعجال الى الاتصالات المسبــقة التي تركت لدى بــوتـــين اقتناعاً بإمكان الرهان عـــلى أن الأفكار والخطط التي يحـــملها ترامب وتشير الى أن فوزه بالرئاسة سيترجم سريعاً بـ «صــفقة» تلبّي أبرز المطالب العاجلة لروسيا وأهمها رفع العقوبات عنها، فيما تضع على السكة احتـــمال تحقيق بعض أهدافها الاستراتيــجية بالنسبة الى تعديل المـــنظومة الدفاعية الأوروبية (الأطلسية). لكن بوتـــين استخفّ خطأً بـــتداعيات التدخل الالكتروني في الانتــــخابات واعتبرها ادعاءات وأوهاماً، على رغم أنه أوحى بالعكس في مقابلته مع المخرج الأميركي اوليفر ستـــون حـــين ذكّر بتدخلات أميركية مماثلة ضدّه، وكأنـــه يدعـــو الجانب الأميركي الى قبول الندّية: «فعل مقابل فــــعل». غير أن القضية أعادت شحذ العداء الأميركي- الروسي داخل مؤسسة الحكم الأميركي ما أثّـــر سلباً في دينامية توجّهات ترامب تجاه روسيا، وما لبث انكشاف اتصالات العديد من أعوانه والقريبين منه مع الروس أن فاقم العراقيل أمامه.
مع استقالة الجنرال مايكل فلين، قبل أن يُكمل شهره الأول في مستشارية الأمن القومي، تفرملت الماكينة الروسية وهي في أوج تأهبها لتحريك العلاقات مع أميركا. هبطت بورصة التوقّعات المتفائلة في موسكو لتبقى مستعدة للتعامل «بإيجابية» مع السياسات الجديدة في واشنطن، غير أن هذه تأخرت في التبلور أو بدأت تظهر متقطّعة ومتفاوتة، إذ يصعب أخذها كتوجّهات منبثقة من رؤية واضحة وبعيدة المدى. بل كان فيها ما أربك موسكو، كالضربة الصاروخية على مطار الشعيرات في سورية، أو تجديد التشدّد في العقوبات على خلفية النزاع الأوكراني، أو خفض التوتر مع أوروبا في شأن مسائل الدفاع ومستقبل «الناتو»... لعل بوتين بالغ ويبالغ في تقدير مدى الضعف الذي بلغته المبادرات الخارجية الأميركية، كما في تعظيم قدراته على استغلال ذلك الضعف لبلوغ حال من التحكّم بقرار واشنطن من خلال التحكّم المسبق بتوجّهات الرئيس الجديد.
كان بوتين حصد عام 2013 أفضل النتائج مع أوباما، فعلى رغم القطيعة بينهما بسبب قضية منح موظف الاستخبارات المنشقّ ادوارد سنودن التقى الرجلان على هامش قمة العشرين في سان بطرسبورغ، وتمكّن بوتين من إقناع أوباما بتجاهل «الخط الأحمر» الذي حدّده لضرب النظام السوري الذي تخطّاه فعلاً بالهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية. واعتبر الرئيسان لاحقاً أن اتفاقهما على تصفية ترسانة بشار الأسد الكيماوية كان أفضل انجازاتهما المشتركة. لكن الهجوم على خان شيخون والضربة الأميركية التي أعقبته أعادا رسم «الخط الأحمر» ولو أن ترامب لم يعلنه رسمياً، بل جدّداه من خلال التحذير الاستباقي الأخير. وفي أي حال يطمح بوتين مع ترامب الى ما هو أكثر من معالجة ملف عاجل، لكن الخلافات وعدم التناغم بين البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون أربكت الاتصالات بين الجانبين وأخّرت الإعداد للقاء عملي ومؤهّل لأن يُحدث اختراقاً.
تعلّم «القيصر» مثل غيره من الحكام أن هناك مسارات عدة للعمل مع واشنطن، فما يراه البيت الأبيض ليس ما يراه البنتاغون والخارجية والكونغـــرس. ولـــعله يراهن الآن على القناة الخاصة التي يمثّلها هنري كيسنجر منذ أيام أوباما من دون تكليف، وواظب عليها قبيل انتخاب ترامب وبعده ويواصلها الآن بتكــليف رســـمي منه. يمكن القول إن وزير الخارجية السابق كيسنجر، وليس أي مسؤول آخر في الإدارة، هو الذي يعدّ الخطوط العريضة لأجندة لقاء هامبورغ. وفي ضوء الأفكار التي صرّح بها أو نُقلت عن اجتماعاته مع ترامب، فإنه يميل بشدّة الى توافق بين الدولتين الكبريين. كانت الأزمة الأوكرانية هي التي أثــارت قلـــقه من تدهور العلاقات الروسية - الأميركية وعودة مناخات الحرب الباردة، لذلك كتب أكثر من مرّة منظّراً لروسيا كـ «عنصر رئيسي في أي توازن عالمي جديد» مستبعداً تصنيفها كـ «خطر رئيسي ومطلق يهدّد أميركا»، كما دعا الى تشكيل «منظومة عالمية جديدة متعدّدة الأقطاب تراعي التوازنات الجديدة وتساهم في إنهاء التوتّرات الحالية»، ومن ذلك حلّ الأزمة السورية «بعد فشل الأطراف المحلية والإقليمية»، وأيضاً حلّ أزمة أوكرانيا «بدمجها في منظومة الأمن الأوروبي لتصبح جسراً يربط بين روسيا والغرب».
على رغم أن اقتراح كيسنجر في شأن أوكرانيا لم يلقَ عام 2016 استجابة بوتينية، تحديداً بسبب مواصلة نشر منظومات الصواريخ في أوروبا وإقامة قواعد عسكرية أطلسية قريباً من الحدود الروسية. لكن الفكرة لا تزال قائمة، وإذا أمكن تحسينها فقد تشكّل انطلاقة للتفاوض. كيف؟ اذا كانت أميركا تعتبر الصين تحدّياً رئيسياً ينبغي ترويضه فما عليها سوى أن تصلح علاقتها روسيا. أي أن كيسنجر يطرح عملية عكسية لتلك التي نفّذها مطلع سبعينات القرن الماضي عندما فتح العلاقة مع بكين للّعب على «توازن القوى» مع روسيا في أوج الحرب الباردة. لكن الظروف تغيّرت، فالعلاقة الروسية- الصينية مستقرّة ويصعب تفكيكها والتأثير فيها، بل إن أقصى ما يؤمل راهناً هو ضبط تحدّيات روسيا وابتزازاتها لئلا تكون مصدر تشويش وازعاج لاستراتيجية أميركا حيال الصين. ولا شك في أن محاربة الإرهاب محور رئيسي محادثات كيسنجر، وبذلك يكون قد فصّل رؤية تتناسب مع ما طرحه ترامب خلال حملته الانتخابية وربما تتناسب أيضاً مع توقّعات بوتين.
يبقى أن «التوافق» المنشود لا بدّ أن يعرض حافزاً ما لاجتذاب بوتين، فهو أحرز الكثير من المكاسب لكنه في مأزق يريد التخلّص منه، اذ إنه ضمّ شبه جزيرة القرم ليفرض تقاسماً لأوكرانيا فجُبه بعقوبات موجعة، ثم أقدم على تدخّل «موقت» في سورية ليفرض مساومة أوسع لم تستجب لها أميركا، ومع أنه يرتّب الآن وجوداً طويل الأمد في سورية فإن تعقيدات الأزمة تحتّم «شراكة» أو تعاوناً مع أميركا. في هذا السياق يعتبر كيسنجر أن في الأزمتين الروسية والأميركية عناصر لا يمكن الدولتين الكبريين السيطرة عليها من دون تنسيق استراتيجي، وهو ينطلق من ضرورة رفع العقوبات عن روسيا -استناداً أيضاً الى رغبة العديد من الدول الأوروبية- لكن في إطار حلٍّ مبتكر لأوكرانيا بحيث لا تكون مصدر تهديد لهذا الجانب أو ذاك. أما قضية سورية ومتفرعاتها الكثيرة فتتطلّب أكثر من مجرّد تنسيق للضربات الجوية، وباتت تلحّ على الدولتَين الكبريَين التفاهم على «هيكلية لصياغة الحلول السلمية في الشرق الاوسط».
لكن العنصر الناقص أو المكتوم في أي أطروحة روسية صار عنصراً ثابتاً ومحورياً في الاستراتيجية غير المكتملة لإدارة ترامب. إنه انفلاش النفوذ الإيراني وتهديده لأي استقرار في المنطقة، ولعله بات «الخط الأحمر» الذي يبدو ترامب مصمّماً على احترامه وتفعيله، على عكس ما فعل أوباما. وحتى الآن لا تبدي روسيا معارضة ولا موافقة على هذا الخط، وإن كانت تراقب الاحتكاكات الأميركية- الإيرانية في سورية وإلى حدّ ما في العراق. والمؤكّد أن موسكو لن تتخذ وجهة في هذا الصراع إلا بعد اتضاح مسار العلاقة مع أميركا.
يترقّب العالم نتائج اجتماع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في هامبورغ، على الرغم من كل الإشكالات التي تمر بها علاقة بلديهما، علما أن الاجتماع نفسه ربما هو موضع أهمية أكثر، ليس بالنسبة لمواطني الدولتين المعنيتين، وإنما بالنسبة للشعوب التي تشهد بلدانها حروبا أهلية، وتعاني من قضايا ومشكلات صعبة ومعقدة، يجري كثير منها برعاية الدولتين العظميين، أو حمايتهما أو مشاركتهما، حسب التصنيف المعروف.
في ما يخص القضية السورية، قد تبدو الإدارة الأميركية، للوهلة الأولى، في حالة تسليم بدور روسيا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، كما يبدو من اكتفائها بالحضور مراقباً في مفاوضات آستانة، على الرغم من أن ذلك لا يعني اطلاقاً عدم قدرتها على التدخل، وخلط الأوراق، في اللحظة المناسبة.
لا يتنافى هذا التسليم، من حيث الظاهر، مع عدم الرغبة الأميركية في أن تصل امتدادات التدخل الروسي إلى كامل الأرض السورية، سيما أن روسيا استطاعت، منذ التدخل الرسمي في الصراع السوري (سبتمبر/ أيلول 2015)، تعزيز حضورها في سورية، ورسم حدود مصالحها، من خلال حركة قواتها والقوات السورية التي تدعمها، ومناطق النفوذ التي توخّت تعيينها، حسب خريطة طريق تعمل عليها، وتشتغل على فرضها على الأطراف الآخرين، باعتبار ذاتها كالمقرر أو الممسك بالورقة السورية.
الجدير ذكره أن الولايات المتحدة أقرّت بهذا الدور، في تصريح لوزير الخارجية الأميركية، أخيرا، قال فيه إن مصير الرئيس الأسد، وبالتالي مصير الصراع السوري، مرهونٌ بروسيا، في ما فهم على أنه تراجع أميركي عن وثيقة جنيف 1، من دون أن يعرف ما إذا كان ذلك مجرد تصريح للاستهلاك، أو لترضية روسيا لجرّها إلى توافقاتٍ تزيح إيران من المشهد، أو إن كان ذلك مجرّد دفع لروسيا إلى مزيدٍ من التورّط في الصراع السوري المعقد، وزيادة استنزافها فيه.
من جهةٍ أخرى، فإن سعي روسيا إلى تطوير اجتماعات أستانة، وإدخال بنودٍ تتعلق بالوضع المدني للمناطق التي لا يسيطر عليها النظام، هي من ضمن خريطة الطريق التي تعوّل موسكو عليها، بإدخال بند المصالحات والتعامل مع المجالس المحلية، باعتبارها جهة مدنية لإدارة شؤون المنطقة، بالتعاون مع المنظمات الفاعلة هناك.
وتعتقد موسكو أنها في ذلك تكون قد نجحت في الجمع بين الاتفاق العسكري الذي يمهد لمناطق آمنة، عبر وقف إطلاق النار، والفعاليات المجتمعية التي يمكن، من خلالها، متابعة ما سميت الهدن المحلية، والتي يستطيع النظام عبرها بسط سيطرته، ولو تدريجياً، عليها. كما تستطيع من إعلان ما تسمى المناطق الآمنة على الأراضي السورية توزيع مهمات مراقبة هذا "الأمان"، عبر توزيع الغنائم، أو تقاسم النفوذ، بين الدول المتصارعة على سورية من جهة، وتنفيذ مطالب الادارة الأميركية، والدول الأوروبية والعربية، في إبعاد إيران عن مناطق محدّدة على الحدود السورية الأردنية والسورية العراقية، وكذلك عن طريق الغاز الروسي في سورية.
وبذلك تحقق روسيا لنفسها معبرا آمنا لمصالحاتٍ مع الدول الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة، ما قد يمهد الطريق أمام مبادلاتٍ بالملفات العالقة معها، من ملف الدرع الصاروخي حتى ملف العقوبات وأوكرانيا وأسعار النفط التي تبدو عليها علائم الصحوة الآن.
لا يجعلنا هذا كله ننسى أن مفاوضات أستانة تجري أساساً بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، ولاسيما روسيا وإيران وتركيا، وقد انضمت، بشكل أو بآخر، إليهما، الولايات المتحدة والأردن، أي أن الأطراف المعنيين مباشرة، النظام والمعارضة، مجرّد شاهد، بعد أن خرج مصير سورية، وتقرير مصير شعبها، من أيديهما، بدليل أنه لا توجد مفاوضاتٌ مباشرة، ولا توقيع من الطرفين السوريين.
ويُفترض أن لا يُنسى، أيضاً، أن الاتفاق على هذه المنطقة أو تلك، كمناطق منخفضة التصعيد، لا يعني أن ذلك سيحصل حقا، بدليل قصف النظام درعا على الرغم من الهدنة، وبدليل التجارب السابقة، حيث استمر قصف الطيران الروسي والسوري درعا وجوبر ومناطق عديدة، إضافة إلى أن هذا الاتفاق سيواجه التعقيدات في عدة مناطق، وضمنها الشمال وإدلب تحديدا، حيث توجد جبهة النصرة. وفي الجنوب، حيث العقدة الإقليمية في الحدود مع إسرائيل والأردن، وفي الشرق، حيث تمنع الولايات المتحدة أي وجود عسكري لإيران، أو لأي ميلشيات تابعة لها.
من مصلحة الشعب السوري وقف القتال، ووضع حد للكارثة السورية، القائمة على القتل والتدمير والتشريد، التي لا تخدم إلا النظام وحلفاءه، بيد أن هذا الأمر ما زال بعيدا، بقدر البعد بين مساري أستانة وجنيف 1، أو بقدر البعد بين مصالح الدول المتصارعة ومصالح الشعب السوري.
ليست «الحرب ضد الإرهاب» هي كل السياسة الأميركية في سورية فقط، وإنما الميل الغالب هو أن كل سياسة صحيحة في البلد المنكوب تابعة للحرب ضد الإرهاب، على نحو وفر مظلة واسعة من محاربي الإرهاب لم يبق أحد خارجها غير... «الإرهابيين» أنفسهم، وهم بالتحديد «داعش» و «القاعدة». أميركا ليست بالضرورة على وفاق مع كل محاربي الإرهاب الآخرين في سورية، لكنها هي من «وضعت الأجندة» على نحو تفاخر به باراك أوباما قبل ثلاث سنوات باعتباره دليلاً على الدور الأميركي القيادي في العالم. والأجندة المشتركة التي تقسم العالم إلى إرهابيين ومحاربي إرهاب تُقرِّب بين نادي المحاربين هؤلاء أكثر مما تفرقهم احتكاكات وصراعات على النفوذ وحماية الأتباع.
ثم إنه لا يجرى تضييق تعريف الإرهاب في طوره الجديد على نحو يحابي الدول كلها فيستبعد من المبدأ أن يوصف أي منها بالإرهاب، ولا حتى على نحو يستبعد منظمات ما دون الدولة التي كانت ولا تزال على قوائم الإرهاب قبل طور محاربته الحالي («حزب الله»، حزب العمال الكردستاني)، ولا حتى على نحو يقصر الإرهاب على السلفية الجهادية السنية فقط، بل يجرى فوق ذلك تضييق تعريف ضحايا هذا الإرهاب السلفي الجهادي، فيُخرَج منه العرب السنيون في مناطق مثل الرقة ودير الزور... وعموم سورية، ممن وقعوا تحت سيطرة «داعش». قد توصف هذه البيئة بأنها حاضنة «داعش» (و «القاعدة») أو لا توصف، لكن لم يعرض محاربو الإرهاب أي اهتمام بالضحايا منهم، ولا يبدو لمخطوفي «داعش» ومقتوليه قيمة سياسية أو حقوقية في أجندة محاربي الإرهاب.
السياسة هنا ليست استمراراً للحرب على ما رأى ميشيل فوكو قالباً قضية كلاوسفتز الأقدم، بل هي استمرار للحرب ضد الإرهاب التي هي حرب متحررة من قوانين الحرب بين الدول (قلما روعيت هذه القوانين في الشرق الأوسط)، وتستهدف إبادة الإرهابيين المفترضين. هذا يُسهّله تضييق مفهوم الإرهاب ونزع صفة الضحية عن صنف بعينه من هؤلاء الضحايا. جرائم الحرب ضد الإرهاب التي يرتكبها محاربو الإرهاب ليست جرائم حرب، والأميركيون قبل حين غيروا قواعد الاشتباك في سورية على نحو يتساهل أكثر مع إيقاع ضحايا مدنيين، أي على نحو ينزع عن جرائمهم المحتملة صفة الجرائم، ويحيلها إلى «أضرار جانبية»، قد تكون مؤسفة لكنها محتومة، ولا يلام أحد في شأن وقوعها. هذا الاستثناء الذاتي يفتح الباب أيضاً لنزع صفة الجريمة عما ترتكب الدولة الأسدية وأية أطراف مضادة لـ «داعش» والسلفية الجهادية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. الإرهاب بتعريفه الضيق فوق هو وحده الجريمة التي يُعاقب عليها سياسياً.
وبما أن الحرب ضد الإرهاب مكونة أساساً وحصراً من أفعال إبادة وتدمير، منفصلة عن أي رؤية قانونية أو سياسية أو أخلاقية لما بعد، فليس هناك مدخل على أرضيتها لاستبعاد الدولة الأسدية، بالعكس كانت الحرب ضد الإرهاب مدخلاً لإعادة تأهيل نظام متمرس بالإبادة وله فيها تاريخ. واتساع محاربي الإرهاب ضمن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة (وخارجه إيران وموسكو والنظام الأسدي، والدول العربية كلها وتركيا) يظهر ميل الدول كلها إلى اغتنام فرص القتل أو ما يتيحه رد السياسة إلى الحرب ضد الإرهاب لتحقيق أهداف متنوعة: احتلال أراض، تعزيز حكم عميل، تصفية حسابات مع طرف آخر على أرض أخرى، السيطرة الطائفية، الاستيلاء على موارد وأخذها غنائم...، مما كان يظنه المرء ممارسات انطوت منذ زمن التوسع الامبريالي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
الدولة الأسدية قامت تكوينياً على إلحاق مجال السياسة التعددي بحيز السيادة الواحدي، بحث يصير كل عمل سياسي مستقل تمرداً على الدولة. لكن هذا ما تتجه إليه السياسة في كل مكان عبر الحرب ضد الإرهاب. ونمو الصفة الأمنية للسياسة في البلدان «الديموقراطية»، وعودة سياسات الحدود، فضلاً عن الإسلاموفوبيا المترسخة، تشير إلى سير العالم في اتجاه سوري بفعلٍ، جزئي على الأقل، من تعثر سير سورية في ما كان يبدو اتجاهاً عالمياً نحو الديموقراطية. منذ الآن يبدو هذا زمناً غابراً.
وما يخيف ليس فرض أجندة خارجية على السوريين، «الحرب ضد الإرهاب»، تجعل كفاحهم غير مرئي، بل ما يبدو من أن دماء الضحايا ذهبت هدراً، لا قيمة لموتهم، وهو لا يفتدي غيرهم. هو أن كل ما حصل خلال ست سنوات وأربعة أشهر خسائر لا معنى لها ولا يبنى عليها شيء، ولا يُستند إليها لحماية من لا يزالون أحياء. إعادة التأهيل الصاعدة للنظام لا تقول إلا أن كل آلامنا لا قيمة لها، وأن من يعطيها القيمة هم أناس في واشنطن وموسكو وغيرها، وأنه قر قرارهم على أنه لا قيمة لها. هذا مفزع. وهو بمثابة تعميم نموذج «الإنسان المباح» الذي تكلم عليه جيورجيو أغامبن، الشخص الذي لا حماية قانونية له ولا يعاقب من يقتله، ولا يحوز موته قيمة قربانية، فلا يكون فداء لغيره. نصف مليون لا يفتدون الباقين، فلا يتغير شيء من الأوضاع التي تسببت بقتلهم، ولا يعاب أحد على القتل، ولا يتغير شيء من أقدار الأحياء. بالعكس، يجرى فرض النظام ذاته الذي هيأ ظروف قتلهم. قد يكون هذا أسوأ حتى من الإبادة من حيث إنه إذ يحرم موت السوريين من المعنى يحرم حياتهم أيضاً من المعنى، ويبقي النزف مفتوحاً إلى أن يقرر محاربو الإرهاب الاكتفاء.
وعلى كل حال ما كانت الإبادة الجارية منذ 76 شهراً، وبرعاية دولية منذ الصفقة الكمياوية المشينة قبل نحو اربع سنوات، ما كان لهذه الإبادة أن تدخل حيز الوقع لولا الإباحة التي تتجاوز الإطار السوري إلى اللاجئين في البلدان المجاورة، ولبنان بخاصة. مشهد لاجئين سوريين مباحين لعسكر الجيش اللباني قبل أيام يصلح صورة رمزية للإباحة التامة.
وعلى أية حال، تصمد المذبحة السورية المستمرة، كماً ونوعاً وأمداً، للمقارنة بكبريات عمليات الإبادة في القرن العشرين. وتتفوق عليها من حيث إنها تجرى برعاية دولية (وهو ما سأتناوله في مقالة مستقلة).
لكن إن صح أن سورية تؤشر على اتجاه عالمي، فإن تآكل مجال السياسة لمصلحة مجال السيادة بفضل «الحرب ضد الإرهاب» قد يأخذ شكلاً جديداً، تبدو سورية طليعية فيه أيضاً: أمننة شاملة، لكن من دون مركز سياسي، أو بمركز سياسي لا يعدو كونه مظلة وعنواناً عاماً. نحصل على تعددية أمنية وواحدية سياسية. السيادة العائدة عالمياً بقوة لا تأخذ بالضرورة شكل دول قومية مركزية أقل ديموقراطية من ذي قبل، بل ربما شكل خصخصة الأمن وتفتيت الحقل السياسي على نحو يبقيه تحت سيطرة مقدمي الخدمات الأمنية من أجهزة شبه حكومية وشركات خاصة ومرتزقة. لكن، ما هذه السيادة الجديدة؟ عرف أشيل ممبه، الفيلسوف السياسي الكاميروني، هذه السيادة بأنها سلطة إملاء من يمكن أن يعيش ومن يجب أن يموت.
لكن، ألم يكن هذا تعريف السيد الإقطاعي؟ ومالك العبيد؟
ليست هناك مدينة تشبه المرأة كبيروت. الصفات التي تطلق على أي منهما تنطبق على الأخرى، فهي الفاتنة والمراوغة، الجذابة والعنيدة، الحنون والقاسية، السهلة والصعبة، ما من وصف إلا وبيروت سيدته، وهي التي منحها الشاعر محمود درويش أعذب قصائده.
هكذا كانت بيروت قبل أن نصبح نحن السوريين «لاجئين» بين جنبات مخيماتها، لأنها أقرب إلينا كلاجئين جدد، وأبعدها عن استبداد ينخر عظام «دولتنا»، ويقذف بنا في شتى أرجاء الأرض، وهي بقيت كذلك حتى بعد أن أصبحت النيران تأكل خيامنا، في مخيم الرائد، في محيط مدينة قب الياس، ومخيم تل السرحون في بلدة بر الياس، ولا نعلم متى وأين موعد النيران القادمة مع أجساد سوريين آخرين في أرجاء أخرى من لبنان «يا قطعة سما»!
في الغضون تصدح أصوات ممثلي الكتل البرلمانية داخل أروقة البرلمان اللبناني طالبة ترحيلنا، كأننا هناك بمحض صدفة سياحية قادتنا إلى حيث «سويسرا الشرق»، أو لؤلؤته، كما يحلو لنا تسميتها، والتي تناسى أصحابها أن ثمة منهم من ذهب إلى أماكننا في القلمون وريف دمشق وحمص وحلب، ليقتلعنا من جذورنا، بسلاح ادعى أنه لمقاومة إسرائيل فقط، في حين لم يعد يوجهه ضد عدوه المفترض إسرائيل وإنما ضدنا، أي ضد الشعب السوري الذي احتضنه، وأمّن له المسكن والاحتياجات زمن كان الادعاء صحيحاً، وكانت البندقية باتجاه غير صدور السوريين ومدنهم.
السوريون موجودون في لبنان في شكل طارئ وقسري، لكن بعض من ادعى أنه يمثل لبنان بات في سورية منذ سنوات، يقتل ويهجر ويدمر في شعبها، بل ويستولي على أملاك السوريين ويغير خريطة مدنهم جغرافياً وسكانياً. وهذا البعض يلبس حيناً وجهه اللبناني، الذي لا يشبه وجوه أهالي لبنان «الطيبين»، لكنه في أحايين أخرى لا يراه السوريون إلا وجهاً إيرانياً، ينفذ أجندة إيرانية بلسان لبناني في سورية، وكذلك اليوم في البرلمان اللبناني وفي الحكومة وعبر وشاياته بين المواطنين، عندما يطالب بإعادة السوريين إلى بلادهم عبر محادثات مع الحكومة السورية، ليس لأنه يرى أن الحرب الوحشية التي شنتها هذه الحكومة على السوريين انتهت وحل الأمان في أرض طاولها التدمير، بل لأن شروط توسيع حصة النظام في أي حل تفاوضي مع المعارضة، باتت تتطلب هذه الأكاذيب والمراوغات، متناسياً ومن معه، من المطالبين بعقد التفاهمات مع النظام لإعادة السوريين، أنه بذلك يزيد من دائرة ضحايا المقتلة السورية التي جرت بالمشاركة مع «حزب الله»، اللبناني الهيئة والإيراني التبعية والأجندة. ينسى هؤلاء كلهم أن معظم السوريين هربوا من جور النظام وملاحقاته الأمنية وأحكامه الجائرة عليهم، فكيف يمكن الدعوة لإعادتهم إلى حيث ينتظرهم الغدر؟ وكيف يحدث ذلك بدل أن تقوم الحكومة اللبنانية بدورها الانساني والسياسي برعايتهم وتوفير الأمان والحماية لهم؟
لا ينكر أحد على لبنان معاناته لكونه دولة صغيرة المساحة، وقليلة الموارد، وتعاني ما تعانيه اقتصادياً، وسياسياً، وهو ما يتوجب على الأمم المتحدة -الصامتة أمام عذابات السوريين في لبنان اليوم- أن تتحرك لإيجاد حلول تجنب لبنان الدولة آثار استضافتها نحو مليون ونصف المليون من السوريين، كما يتوجب على المعارضة السورية المتفرجة بدورها أيضاً، أن تتحرك مع أصدقائها لإيجاد مخرج للسوريين من جهة، وللدولة المضيفة التي أرهقت خلال السنوات السبع وما قبلها، من هجرة السوريين إليها، كملجأ من عذاباتهم، سواء السياسية أو الاقتصادية، حيث بنت العمالة السورية المهاجرة إلى لبنان كثيراً من ذاكرة العمارة الحديثة في بيروت وبقية المدن، وهو الأمر الذي لا ينكره شعب لبنان غير المؤدلج إيرانياً الآن، أو المرشح لانتخابات نيابية في العام المقبل.
لا أحد يريد لأهلنا أن يبقوا في غربتهم هذه، كما لا يمكن القول إننا عاجزون عن فعل أي شيء يتعلق بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، أو على الأقل عودتهم إلى المناطق المحررة عبر تركيا، وهو ما تستطيع كيانات المعارضة وفي مقدمها «الائتلاف»، أن تعمل عليه مع أصدقاء الثورة وذلك حماية للسوريين من جهة ولتعزيز وجودها في المناطق المحررة من جهة ثانية.
لا يمكن أن ننكر دور المعارضة في ضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه المواطنين السوريين في لبنان والأردن وتركيا، طالما أرادت أن تكون ممثلة لهم سياسياً وخدمياً، عندما أنشأت حكومتها التنفيذية. لكن قبل ذلك لا يمكن أن يتناسى المجتمع الدولي، ومنه الدولة اللبنانية، أن وجود السوريين في لبنان إنما هو بسبب حرب طاحنة شنها النظام على شعبه، وشارك فيها لبنانيون، أقصد «حزب الله»، سواء بتفويض من الحكومة الشرعية، أو باغتصاب هذا التمثيل عنوة، لذا فإن عودتهم، أي اللاجئين، إلى سورية قبل أن تحط هذه الحرب رحالها، وتعود ميليشيات «حزب الله» إلى جنوبها مع سلاحها، هي عودة بالإكراه، هدفها إكساب النظام السوري نصراً مزوراً، ككل انتصاراته على شعبه الأعزل الذي طالب بدولة ديموقراطية، دولة مواطنين أحرار متساوين أفراداً وقوميات، فقوبلت مطالباته بالنار والقنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة، من جانب النظام ومن يدعمه، مثل إيران عبر ذراعها «حزب الله» والميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب، ولا يستبعد أن جزءاً منها لن يغادر لبنان في طريق عودته من سورية بعد انتصاراته المزعومة.
أعود إلى بيروت: الطاحنة، القاهرة، بيروت التي تطحن الجيوب والأرواح وتقهر عشاقها بالانتكاسات المتجددة، وأقول هامسة، بيروت معشوقة السوريين، لا يهز صورتها بعض الأصوات النشاز، ولا يعكر صفو وجهها التنافس على طرد السوريين من قبل مرشحين لانتخابات قادمة، لأننا نثق أن بيروت الجميلة القوية الحرة ستنتصر على بيروت المتأرجحة على حساسية ميزان الصراعات الطائفية والمصلحية، وعلى بيروت التي زعمت النأي بالنفس في حرب تأكل من دمها، وتعتاش على أرواح أولادها. بيروت الحب التي يعرفها نزار قباني، ونحبها معه، على رغم حماقات الانسان ستظل معنا وفي قلوبنا: ما زلت أحبك يا بيروت القلب الطيب... ما زلت أحبك يا بيروت الأمل، يا بيروت العدل.