لعل أهم إنجاز روسي، بنطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحقّق من اتفاق الجنوب السوري مع الرئيس دونالد ترامب أنه استطاع فتح ثغرة داخل الإدارة الأميركية تسمح بأحد خيارين: إما أن تكون هذه الثغرة بداية انفتاح أبواب واشنطن أمام روسيا ومناقشتها ومشاركتها في القضايا العالقة معها، أو زرع لغم ينفجر داخل الإدارة ويخلق صراعات بين أركانها يتيح لبوتين التحرك بسهولة أكبر في خرائط الأزمات الدولية.
لكن ماذا لو لم يحصل أحد الاحتمالين، بحيث أن الإدارة الأميركية اكتفت بهذا الاتفاق، على ما هو ظاهر حتى اللحظة، بل وذهبت إلى توكيل الأردن وإسرائيل لمتابعة ترتيباته وإجراءاته، بالتالي إخراج نفسها من أي استحقاقات مستقبلية، وبالتبعية لم تحصل أي توتّرات في العلاقة بين الأجنحة والتيارات في إدارة ترامب؟
تشكّل هذه الاحتمالات في حال تحقّقها ضربة غير مسبوقة لبوتين، فهو للمرّة الأولى يقدم على خطوة بهذا العمق في سورية، وكان قبل ذلك اعتمد سياسة الصبر والإمساك بأكبر قدر من مسارات الحرب السورية انتظاراً لنضوج التسويات التي اعتقد انه سيكون المتحكِّم بخيوطها ويجبر واشنطن على دور شرفي ديكوري لا يتعدى اعترافها بنهائية السيطرة الروسية على الإقليم السوري.
أن يشكّل خطأ تقديرات بوتين مغامرة فتلك مسألة بنيوية لها علاقة بوضع روسيا وواقعها في ميزان القوّة العالمي، فروسيا دولة ما زالت في طور بناء قوّتها ليست لديها إمكانات الدول العظمى والتي إضافة الى ثراء عناصر قوتها فإنها تملك مساحة واسعة من الخيارت والأوراق التفاوضية تدعم بها مواقفها وتسند بها تحركاتها.
وإذ لا تمتلك روسيا مثل هذه المزايا، إلا في خيالات وأوهام بعض رجالات الكرملين، فإنها بسبب قلة أوراقها وضيق خياراتها تعتبر أن كل ورقة تملكها كافية لتسوية جميع ملفاتها الخلافية مع العالم، من جزيرة القرم في أوكرانيا إلى تمدّد حلف الأطلسي على حدودها، وثبت أن هذا أمر لا يمكن ترجمته وتصريفه سياسياً لذلك تتحول القضايا العادية إلى أزمات مستدامة نتيجة هذه الحسابات المعقّدة.
ويذكر الجميع العروض التي قدّمتها دول الخليج العربية لروسيا كي تتخذ مواقف متوازنة من الأزمة السورية، وأثار موقفها هذا الاستغراب والشك لدرجة ذهب البعض معها إلى اعتبار أن روسيا عادت لزمن المواقف المبنية على الإيديولوجيا، غير أن الحقيقة التي تكشّفت بعد ذلك أثبتت وجود فارق شاسع بين تقدير روسيا للأوراق التي تملكها ورؤية وتقدير الآخرين لتلك الأوراق، وهذه إشكالية من شأنها تخريب أي عملية تفاوضية لأن أي طرف مقابل لروسيا سيجد نفسه أمام معادلة خاسرة غير مضطر للقبول بها في الوقت الذي تتوافر له بدائل، او حتى يمكن صناعتها، بأثمان أقل مما تطلبه روسيا.
لا شك في أن تراكب الإشكاليات البنيوية للقوّة الروسية مع طرائق إدارة صراعات موسكو مع اللاعبين الآخرين كفيلة بإنتاج مركب المغامرة الذي يشكل وزناً معتبراً في السلوك الروسي الحديث، فقد انبنت جميع تحركات موسكو على مغامرة واضحة ومزيج من النزق والتهوّر لم يكن في الإمكان إخفاءهما، وهو ما يشبه سلوك دولة إقليمية ليست لديها الثقة الكاملة بتصرفاتها.
ولكن ماذا لو أن واشنطن اعتبرت أنها دفعت ثمن الاتفاق مع روسيا عبر الاعتراف بها طرفاً مقرّراً في سورية، وبخاصة أن هذا الأمر لطالما شكل هدفاً عزيزاً على قلب موسكو، بالتالي تصبح واشنطن هي التي في موقع من ينتظر من روسيا دفع الاستحقاقات المترتبة عليها؟
والأمر ليس تخميناً، بل ثمّة مؤشرات عديدة على أن واشنطن بالفعل تسعى إلى تطوير الاتفاق بهذا الاتجاه، وبخاصة بعد أن صرّحت إدارة الرئيس ترامب بأنها تطمح لاستنساخه على بقية المناطق السورية، بما يعني حصر التفاهمات بين روسيا وأميركا وإبعاد إيران، ليس سياسياً وحسب، بل مادياً عبر إخراج ميليشياتها من تلك المناطق كما حصل في اتفاق جنوب سورية، بل أن واشنطن تذهب أبعد من ذلك في ما يخص الترتيبات الواجب إجراؤها لتهيئة المناخ اللازم لحل الأزمة في سورية، عبر تحديد مصير بشار الأسد ووضع إطار زمني لخروجه لا يتعدى المرحلة الانتقالية على ما صرح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وعلى رغم رد بوتين العصبي لا يبدو أن كلام الوزير الأميركي يدخل في إطار توقعاته من روسيا بقدر ما هو نتيجة تفاوضية صريحة جرت خلال لقاء ترامب – بوتين.
لقد مارست روسيا، منذ تدخلها في سورية، سياسات تضليلية الهدف منها استنزاف الخصوم بالخدع، ولا شك في أنها استنزفت ما لديها من تكتيكات بهذا الخصوص، وتضع اليوم نفسها في قلب اتفاق ربما يرتب عليها استحقاقات أكبر من قدرتها على الالتزام بها، وفي حال استمرار سيرها بالاتفاق أو تراجعها عنه فإن المغامرة الروسية في سورية أمام شروط ووقائع مختلفة.
من زمن الحديث عن الوجود المهدّد إلى أيام الشكوى من الحقوق المسلوبة أو الزهو باستعادتها، انطبعت سياسات الهوية الطائفية عند فئة كبيرة من السياسيين بسمات متشابهة، على اختلاف الطوائف وعلاقات القوى. جاء كلام الهوية سافراً مرة ومن باب التورية مرة أخرى. وكثيراً ما غاب السؤال الأخلاقي عن الحياة العامة. ولا يكفي الفصل بين السياسة والأخلاق الذي قال به ماكيافيلي، لتفسير هذا الغياب. ذلك أن جنوح سياسيين كثر إلى التشديد على مظلومية الطوائف اللبنانية وخوف الواحدة من الأخرى، هو بمثابة إعفاء من المسؤولية الأخلاقية. فحين تكون السياسة محكومة بمصلحة الجماعة المفترضة بوصفها الخير الأعلى، يضيق مجال الأخلاقيات إلى حدود العلاقات بين الأفراد، وداخل الجماعة الواحدة في شكل خاص. ويضيق أيضاً حين تلبس الهويات الطائفية لبوس الهوية الوطنية.
واليوم، يغيب السؤال الأخلاقي عند فئة من السياسيين وعدد غير قليل من اللبنانيين حين يتعلق الأمر بالتعامل مع اللاجئين السوريين. صحيح أن السوريين الذين هجّروا من بلادهم استقبلوا في البداية من غير خوف ولا عداء. ولم تؤد مشكلات الاستضافة الكثيرة إلى موجات تعصب أو عنصرية على غرار بلدان أخرى أكثر ازدهاراً واستقراراً وديموقراطية من لبنان. واستحق اللبنانيون تقديراً كبيراً في العالم. لكنه بات صحيحاً أيضاً أن الرصيد المعنوي تناقص وأن التضايق من وجود السوريين تصاعد، بعد أن أثارته ثم استثمرته سياسات الهوية اللبنانية المختلطة بسياسات الهوية الطائفية.
وبفعل هذه السياسات، صارت الأعباء التي يتحملها اللبنانيون المحرك الأول والأقوى للمواقف حيال السوريين. بطبيعة الحال، لم تكن تلك الأعباء قليلة. غير أنه تمّ تضخيمها على حساب حقائق بسيطة ومعروفة عن حياة اللاجئين إلى لبنان. راجت المبالغات عن أعدادهم وحجم منافستهم اللبنانيين في سوق العمل اللبنانية. وبخلاف ما تؤيده الأرقام عن المساعدات الدولية وإنفاق السوريين، عُزي إليهم تراجع النمو الاقتصادي. وشهدنا إجراءات تعسفية بحقوقهم في الإقامة والانتقال. وبلغ الخلط والإيحاء حدوداً غير مسبوقة، على غرار الإيهام بوجود علاقة سببية بين تناقص اللبنانيين وتزايد السوريين. وعلى رغم أن سبعين في المئة من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر، صُوّروا كأنهم يرغبون في البقاء في لبنان تبعاً لارتفاع مزعوم لمستوى معيشتهم فيه. ومنذ بدء تهجير السوريين إلى لبنان، اعتمد البعض لغة حربية في الحديث عنهم، فهم «قنبلة موقوتة» تارة و «لغم» طوراً.
كذّب الواقع هذه اللغة المقيتة لكنها لم تتغيّر. بل كانت تتجدّد كلما أوقفت الأجهزة العسكرية والأمنية إرهابياً أو قتلته. كأن أصحابها يحسبون أن هذا الاستثناء يؤيد الاعتقاد بأن خيم اللاجئين أو أماكن تجمعاتهم هي خطر أمني بذاته، ما يسمح بالاستغناء عن التمييز القاطع بين الإرهابيين والمدنيين، وهو قاعدة قانونية وواجب أخلاقي.
وفي ما يتعدى المناقشة التفصيلية لكل مسألة، بلغ التوجس من الآخر السوري المختلف، والمقيم موقتاً في لبنان، مبلغاً خطيراً. والتوجس، وهو في قلب سياسات الهوية، لم يُخلق من عدم. هو صنو الطائفية مهما تبدلت ملامحها منذ أن كانت «بغيضة» يخجل سياسيوها بها. وهو يتغذّى من فكرة الاستثناء، بل التفوق، اللبناني. والتوجس كما يعبّر عنه ينذر بالتعاظم. وكما أن الحرب أولها كلام فإن التوجس المتورّم أول الكراهية، والكراهية أول العنف. قد لا يقينا منه تأكيد الحرص على لبنان ومصالحه العليا وترداد الخطابة القديمة عن الأشقاء والجيران، ولا عقلنة المخاوف من انحياز طائفي إلى اللاجئين السوريين في وجه انحياز طائفي آخر ضدهم.
يبقى لنا أن نتعامل معهم بوصفهم بشراً مثلنا، فلا تكون الفروقات الصغيرة بيننا عيباً من عيوبهم. قضية حقوق اللاجئين السوريين الإنسانية، عندنا وعند سوانا، قضية أخلاقية في المقام الأول.
لم يكن مستغرباً أن تخرج اجتماعات آستانة 5 بفشل في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية. لا يخفف من وطأة الفشل قول المبعوث الدولي إلى سورية دي مستورا أن التقدم في اجتماع آستانة هو تقدم بسيط، لكنه مهم وسيتم استغلاله في تحقيق تقدم على الصعيد السياسي في محادثات جنيف المقبلة. حُدد الاجتماع نهاية شهر آب (أغسطس) المقبل موعداً جديداً للمفاوضات، وهو سيكون بالتأكيد على شاكلة الاجتماعات السابقة. فالحل السياسي للأزمة السورية يحتاج إلى اتفاق دولي ترعاه أميركا وروسيا في شكل رئيسي، فيما يتم البحث في ما يمكن أن تنال إيران وتركيا والنظام السوري من حصص جزئية في هذه التسوية. لكن الثابت حتى الآن أن كلا الطرفين الأميركي والروسي لم ينضج طبخة الوصاية على سورية.
استبشرت قوى إقليمية ودولية تعيين مناطق آمنة أطلق عليها «مناطق تخفيف التصعيد». لكن وقائع الأشهر السابقة لم تشهد تطبيقاً لمنع التصعيد، بل استمر النظام مدعوماً من إيران والميليشيات التابعة لها في السعي إلى الحسم العسكري وقضم المناطق غير الخاضعة للنظام، مستخدماً أقصى مظاهر العنف والتدمير. لم يمر ذلك من دون غض نظر روسي ساهم في تشجيع النظام على التقدم نحو مناطق جديدة. في المقابل، لم تردع الضربات الأميركية الجوية ضد بعض مواقع النظام من إكمال هذا الأخير خطته التصعيدية.
في الأسبوع الماضي طرأ تطور في شأن الأزمة السورية قد يكون الأكثر أهمية من كل ما حصل سابقاً. في اجتماع قمة العشرين في هامبورغ، تم الاتفاق بين الرئيسين الأميركي والروسي على وقف النار في جنوب غربي سورية، وبدأ الحديث عن نشر قوات روسية كشرطة محلية لمراقبة وقف النار. قد يكون ما أعلن عنه هو بداية الصفقة الدولية على سورية التي ستحدد مناطق النفوذ لكل طرف. صحيح أن الطرف الأميركي لا يزال متخبطاً في كيفية تحديد موقفه من بقاء الرئيس الأسد أو من رحيله. مرة يعلن أن لا مكان للأسد في التسوية المقبلة، ومرة أخرى يشير إلى أن الهدف ليس الأسد إنما القضاء على الإرهاب، وأخيراً يقول هذا الموقف ببقاء الأسد راهناً ولكن ليس لزمن بعيد. وهي مواقف تعكس عدم الوصول إلى تسوية نهائية مع روسيا تحسم في طبيعة النظام وتركيب الدولة السورية على قاعدة جديدة، ما يجعل الموقف الأميركي متذبذباً في انتظار مظاهر الحل.
في ظل «الطبخات» الجارية، تتحسس القوى الإقليمية الأخرى مواقع أقدامها، وبالنظر إلى الشعور باقتراب تسوية ما، تسعى تركيا إلى تصعيد لهجتها العسكرية، وتحشد جيوشها في الشمال السوري، تحت حجة منع قيام كيان كردي على حدودها قد يشكل خطراً على الأمن القومي لتركيا، لكن الهدف الأبعد لتركيا هو السعي لاقتطاع أراض سورية وضمها إلى الكيان التركي، مستعيدة تجربة إلحاق لواء الإسكندرون في القرن الماضي. ترغب تركيا في تكريس أمر واقع على الأرض يعزز موقعها على طاولة مفاوضات التسوية لاحقاً.
أما إيران، فلا تكف عن تثبيت مواقع نفوذها، سواء داخل أروقة النظام أو على الأرض. تتوجس إيران من الموقف الأميركي الذي لا يكف عن التصريح بضرورة إخراج إيران وميليشياتها من الأراضي السورية. لن تتساهل إيران في إلغاء موقعها في سورية، وهي التي استثمرت فيه بمليارات الدولارات، ودفعت أثماناً بشرية من جيشها، وذاقت لأول مرة طعم تمددها نحو تحقيق الهلال الشيعي الذي يمتد من العراق إلى لبنان، وتشكل فيه سورية الحلقة المركزية. لذا، يتولى الحرس الثوري الإيراني قيادة المعارك في مناطق كثيرة، ويحفر على الأرض مواقع ثابتة تكرس سيطرته. لعل تصريحات «حزب الله» الأخيرة وتسريباته عن معركة مقبلة في جرود عرسال لطرد التنظيمات الإرهابية، تقع في سياق التذكير بموقع إيران، والتحذير من تجاهلها في التسوية المقبلة أو الحد من نفوذها.
يبقى النظام السوري، الحاكم شكلاً لسورية والعاجز عن توظيف ما تقدمه له روسيا وإيران من استعادة نفوذه السياسي أو العسكري. كأن الدور المنوط اليوم هو تدمير ما تبقى من المدن السورية، مقابل بقائه في السلطة.
من المغامرة القول بقرب التسوية في سورية، لكن من الثابت أن سورية مقبلة على وصاية دولية عمادها أميركا وروسيا وتركيا وإيران، كل واحد سيكون له مناطق نفوذه. ولن يكون غريباً أن تشهد سورية دخول «قوات ردع دولية وعربية» إلى أراضيها لتبسط الأمن وتحرس التسوية. قد تشهد سورية «فيلماً» مشابهاً لما قامت به في لبنان عام 1976 عندما شكلت القوى الدولية قوات الردع التي باتت سورية الطابع وتحولت لاحقاً إلى سلطة احتلال للبنان.
التفاهمات الأميركية الروسية في المنطقة الجنوبية الغربية لسوريا، تعيد الاعتبار للتعاون الروسي- الأميركي في هذا البلد، وهذا الاتفاق الذي يندرج ضمن صفقة المناطق المنخفضة التوتر في سوريا، أظهر أن أولوية الأمن الإقليمي تتقدم على ما عداها من عناوين التغيير السياسي في سوريا، رغم تأكيد وزير الخارجية الأميركية تيلرسون غداة إنجاز الاتفاق خلال لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين في هامبورغ، أنّه لا يرى وجودا لبشار الأسد وعائلته في مستقبل النظام في سوريا، على أنّ ما اعتبره بعض المراقبين في الاتفاق الروسي الأميركي بمشاركة أردنية، أنه يعيد الاعتبار إلى نظام الأسد لا يعبر بدقة عن التوجه لدى إدارة ترامب تجاه مقاربة الأزمة السورية، فالإدارة الأميركية لا تبدو مهتمة في المدى المنظور بكيفية إعادة الاعتبار إلى النظام السوري سواء في ظل الأسد أو في ظل نظام سياسي جديد يبسط سلطته على كامل الأراضي السورية.
ذهب مستشار الأمن القومي الأميركي إلى وصف الاتفاق هذا بأنه أولوية أميركية، فيما قال الرئيس الروسي إن إسرائيل شريك في الاتفاق إلى جانب الأردن.
ما تشي به المعلومات المتداولة، أنّ الاهتمام الأميركي منصب على استمرار عملية إنهاء تنظيم داعش في الأراضي السورية، وتعزيز دور قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وفي الجنوب السوري على ضمان الاستقرار على الحدود الأردنية والحدود مع الجولان المحتل، لذا ركز الاتفاق الآنف الذكر على حفظ الاستقرار المتلازم مع محاربة جيوب تنظيم داعش في هذه المنطقة مع إبعاد النفوذ الإيراني عبر الميليشيات عن الحدود مع إسرائيل والأردن بضمانة روسية.
الاتفاق في جنوب سوريا جدد التأكيد على أنّ المظلة الأميركية والروسية باتت المقرر في المعادلة السورية إلى حدّ كبير، وتجربة الجنوب السوري أظهرت من خلال الصمت الإيراني والترحيب التركي إلى جانب الصمت العربي تسليماً بهذا الاتفاق، فيما تبدو إسرائيل الأكثر اطمئناناً بعدما نجحت في استدراج هذه المظلة الروسية الأميركية لضمان أمنها الحدودي بعدما تدهورت أحوال النظام السوري وسطوته، الذي لم يعد يشكل مصدر ثقة في قدرته على توفير الاستقرار على حدود الجولان كما كان الحال قبل اندلاع الثورة السورية ومنذ العام 1974 على وجه الدقة.
“الاتفاق الروسي الأميركي يجعل إيران أكثر اهتماماً بالمزيد من إمساك مفاصل السلطة في لبنان وبتعزيز السيطرة الميدانية لحزب الله وميليشيات إيران في سوريا”
الاتفاق الأميركي الروسي، الذي اعترضت فصائل سورية معارضة على مضامينه ولا سيما في ما ينطوي عليه من تأجيل حسم ملف الانتقال السياسي، وترسيخ الاستقرار في مناطق الجنوب على أسس تعزز، بنظرها، نظام مصالح مناطقي قد يزيد من نزعات الانفصال داخل سوريا، بالإضافة إلى مطالبتها بأن يكون اتفاق وقف النار شاملا كلّ الأراضي السورية، في المقابل لا تبدو إيران التي لم تعلن موقفاً سلبياً من الاتفاق، مطمئنة إلى مجرياته، ولا سيما استثناءها من المباحثات، بل إن التأكيد على استبعاد قواتها وميليشياتها من هذه المناطق لا يطمئنها علما أن إيران لم تبد اعتراضا لا على الاتفاق ولا على مشاركة إسرائيل كطرف فيه كما أكد الرئيس الروسي، من هنا يمكن فهم أن الاستعداد الإيراني، من خلال ذراعها الأبرز في سوريا ولبنان أي حزب الله، لملاقاة هذا الاتفاق بالمزيد من السيطرة على مفاصل القرار اللبناني، وفتح ملف النازحين السوريين في لبنان، شكّل إلى حدّ بعيد وسيلة من وسائل الدخول إلى المعادلة التي ترسم في المناطق الجنوبية الغربية السورية وفي خطوة استباقية على ما يمكن أن يحمله من مفاجآت، ويتمّ ذلك من خلال تفجير ملف اللاجئين السوريين في لبنان بما يحول دون إظهار المواقف المعارضة داخل السلطة اللبنانية لتدخل حزب الله في الأزمة السورية، فالعزف على وتر شيطنة اللجوء السوري غايته الأساسية إنهاء ما تبقى من جيوب معارضة للسياسة الإيرانية وللنظام السوري في لبنان.
تورط الجيش اللبناني في اقتحام بعض مخيمات اللاجئين السوريين ولا سيما في ما تردد عن موت بعض المعتقلين من قبل الجيش تحت التعذيب، وما أحاط بهذه العملية من تجاوزات طالت شظاياها مؤسسة الجيش وسط حال من الصمت الرسمي حيالها، يأتي كمقدمة لاستعدادات عسكرية معلنة لخوض حزب الله معركة إنهاء نفوذ تنظيمات إرهابية متواجدة على حدود منطقة عرسال من الجانب السوري.
وليس خافياً على المتابعين أنّ هذه الجيوب الإرهابية بقيت موجودة لسنوات رغم حصارها، ولا يمكن النظر إلى استمرارها في هذه المناطق بمعزل عن أهداف سياسية وأمنية يحتاجها حزب الله لأسباب شتى، قد يكون منها تبرير قتاله واستخدام هذا الوجود كوسيلة قابلة للاستخدام الداخلي اللبناني وفي إظهار دوره في مواجهة الإرهاب دوليا.
وهذا ما يطرح سؤال هل أن حزب الله وصل إلى المرحلة التي تتطلب إنهاء هذه الجيوب الإرهابية على حدود عرسال السورية؟
سيف المجموعات الإرهابية يبقى مسلطاً وقابلاً للاستثمار سواء في اتجاه الشعب اللبناني أو الشعب السوري، إذ يمكن لأي عمل أمني إرهابي يتم لصقه بهذه المجموعات سواء المتواجدة في لبنان أو على حدوده أو في المناطق الممتدة من الحدود اللبنانية إلى ريف دمشق الغربي، وبالتالي عملية تفجير ملف اللاجئين السوريين في لبنان والحديث عن عملية عسكرية ضد جيوب التنظيمات الإرهابية، أن يساهم في تأكيد الدور الإيراني ضد الإرهاب من جهة، ويحاول أن يفرض مساراً لإدارة عملية استخدام اللاجئين بما يخدم سلطة نظام الأسد والنفوذ الإيراني في مناطق سوريا الغربية من جهة ثانية، من دون حلّ هذه القضية، بحيث تطمح إيران التي شجعت على عمليات مقايضة ديموغرافية في القلمون السوري كما حصل في كفريا والفوعة والزبداني ومضايا، إلى خلق ظروف أمنية واجتماعية في مخيمات اللجوء السوري في لبنان، تدفع إما إلى عودة اللاجئين مرغمين إلى سوريا، أو إلى تهجيرهم مجددا إلى مناطق خارج لبنان.
وقبل ذلك فإن النظام السوري ليس بوارد أو قادر على إعادتهم وما يثبت ذلك وجود نحو ستة ملايين لاجئ داخل سوريا لم يسع النظام إلى إعادتهم.
علما أن جزءا كبيرا منهم هم في مناطق نفوذه هذا كله، دون أن نشير إلى السياسة التي اعتمدها وهي تهجير كل من يعاديه من بيئات حاضنة للمعارضة بما يحول دون عودتها بعدما دمر أماكن سكناها بشكل كامل.
من هنا فإن الاتفاق الروسي الأميركي يجعل إيران أكثر اهتماماً بالمزيد من إمساك مفاصل السلطة في لبنان وبتعزيز السيطرة الميدانية لحزب الله وميليشيات إيران في سوريا، سواء عبر عمليات تفريغ مناطق النفوذ خاصة تلك المحاذية للحدود مع لبنان مع السماح بعودة جزئية للاجئين بما لا يهدد هذا النفوذ أو يخل به.
ولكن هذه السياسة تبقى غير قابلة إلا للمزيد من عدم الاستقرار طالما أنّ البيئة السورية ولا سيما تلك التي شارك حزب الله في قتالها إلى جانب النظام السوري أو وحيداً، لن تسلم بسلطته التي باتت ضرورية لصمود نظام الأسد.
فالنظام الذي يتداعى رغم الفرص الدولية التي تعطى له، غير قادر على الصمود في أيّ بقعة من دون الوجود الإيراني وهذا بحد ذاته عنصر استمرار للحرب وللاستنزاف الذي ثبت قواعده الاتفاق الروسي الأميركي بعنوان خفض التوتر على الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل، وهذا لا يعني لجم الاستنزاف بعيدا عن هذه الحدود وعلى امتداد الداخل السوري حيث يترسخ النفوذ الإيراني ونظام الأسد.
تكبد الشعب السوري خلال السنوات السبع الماضية من عمر ثورته المجيدة خسائر كبرى غير مسبوقة، في محاولته الارتقاء بالنظام السياسي الرابض على صدور أبنائه منذ عشرات السنين، من موقع الاستبداد وظلاميته إلى رحاب قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة. ولا يزال الجرح السوري نازفا بلا هوادة، وقوافل الشهداء والضحايا ترتقي يوميا، وأعداد الجرحى والمصابين في تزايد مستمر، بينما يقبع مئات الألوف من المعتقلين ومجهولي المصير والمختفين قسرا، خلف ظلام زنانين النظام المارق وحلفائه من المرتزقة القادمين من كل حدب وصوب. مثلما يتواصل التدمير الممنهج للبنى التحتية والعمرانية وللمفاصل الحيوية في الاقتصاد السوري وحواضره وأريافه، لكن على الرغم من كل تلك الفظاعات وفداحتها، وما تولده من معاناة وآلام لا تحتمل في أجساد ونفوس جموع السوريين، تبقى قضية التهجير السكاني والتغيير الديموغرافي وتذويب الهوية الوطنية السورية الجامعة، وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري في صدارة مجموع تلك الخسائر الثقيلة، لا لشيء إلا لأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بالمستقبل السياسي والاجتماعي والثقافي للبلاد، على المستويين الفردي والمجتمعي.في هذا السياق، يمكن تسجيل مجموعة من العوامل التي أدت إلى حالة العبث الطاحنة بالهوية الوطنية السورية ومكوناتها السكانية:
- انهيار الدولة المركزية أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وميدانيا، واتضاح المدى الفاضح لافتقارها للشرعية الدستورية، ما أدى، بالمقابل، إلى إحداث فراغ سياسي سرعان ما عملت الأطراف والمكونات الأخرى على ملئه بأشكال وطرائق غير مسبوقة.
- حالة الإنكار التي تبناها النظام السوري وتنكره لاستحقاقات التغيير السياسي الاجتماعي التي اندلعت الثورة السورية على أساسها، ما دفعه إلى اعتماد أشد الممارسات القمعية لوأد الثورة وحواضنها، تحت شعار»الأسد أو نحرق البلد».
- عندما فشلت أدوات النظام وممارساته القمعية المعتادة في وأد الثورة السورية في مكامنها التقليدية، استنبطت العقلية الشيطانية لدوائره العليا منهجا جديدا لتحقيق أهدافه الدنيئة، فتتالت عمليات التهجير السكاني، فرادى وجماعات، وتحولت إلى ظاهرة لا ترحم، واعتمدت كاستراتيجية الهدف منها تمزيق النسيج المجتمعي السوري، وحشر مختلف مكوناته في شرانق هوياتية ضيقة، تعويلا على خلق شرعيات بديلة يستند إليها نظام الاستبداد في بقائه على رأس السلطة السياسية أطول فترة ممكنة.
- تغول بعض مكونات الشعب السوري على بعضها الآخر، ودخولها على خط ممارسات النظام، وتماهيها مع سياساته القمعية المتمثلة بالقتل والقصف، وقضم المدن والقرى والتهجير الجماعي، تحت راية تحالفات محلية وإقليمية ودولية مشبوهة، تفوح منها رائحة الانتهازية والمصالح الفئوية الضيقة، وإدارة الظهر لمصالح واهتمامات بقية مكونات الشعب السوري.
- تقاطع ممارسات النظام التدميرية، مع مصالح قوى إقليمية ودولية عديدة، لا تبطن للشعب السوري الخير، بل تكن له حالة غير مسبوقة من العداء، فجاءت الأحداث الدامية في سوريا لتشكل فرصة ذهبية لتلك القوى، التي تحرص على ألا تفوتها تلك الفرصة الذهبية في تنفيذ أجنداتها العدوانية والنيل من السوريين بلدا وشعبا.
انطلاقا من المفهوم القائل بأن المشاركة السياسية هي في الأساس مجموعة من الإجراءات والفعاليات التي يقوم بها المواطنون، الذين لا يشاركون بالضرورة في الحياة السياسية مباشرة بغية التأثير على العملية السياسية ونتائجها، ولتحقيق الصالح العام للجميع، وفي محاولة جادة للخروج من النفق المظلم الذي وجد الشعب السوري نفسه محشورا في دهاليزه المعتمة، بأقل قدر ممكن من الخسائر الجمعية والفردية، تعالت أصوات مجموعة مستقلة من الشباب السوريين المنتشرين داخل الوطن وفي الشتات والمنافي القريبة والبعيدة إلى تشكيل إطار اجتماعي يعنى بقضية العودة إلى الديار، على قاعدة أن العنصر البشري يبقى الرقم الصعب، في أي معادلة سياسية مقبلة من شأنها رسم ملامح سوريا المستقبل بكافة مكوناتها السكانية المعروفة للجميع، بعيدا عن أدران التعصب والإقصاء، وخارج لغة الأكثرية والأقليات والامتيازات، والتفرد في مشروع وطني شامل يرمي لتحقيق هدفين رئيسيين اثنين لا انفصام في عراهما، مع احتمال ظهور الكثير من الأهداف الفرعية الأخرى التي لا تقل شأنا عما يعتمل في عقول وصدور هذه المجموعة من الشباب، لحظة اطلاق مشروعهم الوطني الشامل في قلب المجتمع السوري أينما كان.
الهدف الأول يتمثل في ضمان حق العودة لكل مواطن سوري إلى مدينته أو قريته، بغض النظر عما ستؤول إليه الأحداث الجارية على الأرض السورية، على اعتبار أن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، مهما طال الزمن وتبدلت الظروف، وأنه حق فردي وجماعي تكفله القوانين والشرائع الدولية كافة للمواطنين الذين تعرضوا للتهجير القسري، وعمليات النزوح وإعادة الهندسة الديموغرافية، ما دفعهم إلى طلب النجاة بأرواحهم، سواء داخل حدود الوطن أو خارجه، حيث تتعانق ظاهرة النزوح الداخلي وظاهرة اللجوء الخارجي مشكلتان باجتماعهما معا التغريبة السورية الكبرى، التي صمم أصحاب مبادرة العودة من الشابات والشباب على التقليل من حجمها وآثارها تدريجيا قدر الامكان، على طريق محو نتائجها من المشهد السوري برمته، من خلال برامج ملموسة من شأنها ترسيخ فكرة العودة وضرورتها الوطنية في أذهان ووجدان أبناء الشعب السوري جميعا.
أما الهدف الثاني، فيذهب باتجاه تشكيل كيان وطني سوري حاضن لجموع النازحين واللاجئين السوريين في سائر أماكن عيشهم المؤقتة والاضطرارية، ومعبر عن هويتهم الوطنية، وعاكس لأحلامهم وتطلعاتهم وآمالهم في مواجهة ما يعترضهم من صعاب وتحديات سياسية وقانونية وثقافية في جغرافيات النزوح واللجوء المتناثرة حول العالم على اختلاف أنواعها وأشكالها، بحيث تشكل هذه المبادرة الوليدة صوت من لا صوت لهم، ممن يتجرعون مرارة المنافي وحرقة الاغتراب، ويتوقون للعودة إلى الديار والتواصل مع جذورهم الطبيعية في الوطن السليب، الأمر الذي يشكل رافعة مادية ومعنوية في الشتات، ومقدمة لتحقيق حلم العودة النهائية المنشود إلى وطن حر ومتحرر من أغلال الاستبداد والاحتلال.
هي دعوة للتفكير الجدي في العودة بوصفها حقا مطلقا غير منقوص لجموع السوريين المقتلعين من ديارهم، أمام أنظار الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بمختلف مؤسساته السياسية والحقوقية، فلقد آن الأوان لإعلاء الصوت والقول إن قضية الشعب السوري ليست قضية إنسانية فحسب، تحل عن طريق تقديم مساعدات انسانية وملاذات للجوء فقط، قضية الشعب السوري قضية سياسية بامتياز ومأساة اللاجئين والنازحين منهم لا تمثل سوى رأس الجبل الجليدي لنكبتهم وأوجاعهم، ولن تستقيم حياتهم ولن تولد سوريا الجديدة إلا بسواعدهم، التي باتت متمددة في تعرجات شتات مترامي الأطراف.
وقّعت روسيا وتركيا وإيران، في شهر يونيو/حزيران الماضي، اتفاقاً لإنشاء "مناطق خفض التصعيد" في سورية، تعتبر روسيا الوسيط والعرّاب في هذه الصفقة، فقد أكد الاتفاق أن المناطق الأربع المعلنة في سورية ليست "مناطق آمنة"، ولكن "مناطق خفض التصعيد" في خطوةٍ أخرى للتمييز عن مفهوم المناطق الآمنة التي كانت المعارضة السورية تطالب بها فترة من الوقت.
لا يوجد تعريف قانوني لمثل هذه "مناطق تخفيف التصعيد" في القانون الدولي، لأن هذه المصطلحات تستخدم على نطاق واسع من المنظور العسكري، بدلا من الخلفية القانونية، وهذا هو السبب في أن شروطها دائماً غامضة، ويمكن أن تُملأ بتعاريف وتفسيرات عديدة؛ وهذا بالطبع مفضّلٌ بالنسبة لروسيا، لأنها تحت اتهامات يومية من المنظمات الحقوقية السورية والدولية، بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية، ضد المدنيين، خصوصاً في حلب.
ويعكس الاتفاق الدور الذي قامت به محادثات أستانة خلال الفترة الماضية، والتي انتهى اجتماعها أخيراً بدون تحقيق أي نتائج تذكر، والتي حاولت روسيا جاهدةً تظهير هذه المفاوضات على حساب مفاوضات جنيف، لتكون "المكان" لمناقشة عملية السلام في سورية، في محاولةٍ لنزع الشرعية عن أي جهودٍ للأمم المتحدة في جنيف، والأهم من ذلك التقاط وتحديد مجموعة المعارضة السورية التي ترغب في التعامل معها.
ادّعت روسيا، خصوصاً بعد معركة حلب، أنها تركّز على فرض وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، وأحدثت مسار أستانة لخدمة هذا الغرض، جنبا إلى جنب مع تركيا وإيران.
والهدف الأساسي من مفاوضات أستانة هو فرض وقف إطلاق النار، وفق الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين تركيا وروسيا مع نهاية عام 2016؛ لكن ما هو مثير للاهتمام في مثل وقف إطلاق النار هذا أن قوات نظام الأسد لم تحترمه أبداً، فالغارات الجوية لم تتوقف يوما في الغوطة الشرقية، والآن في درعا وغيرها من المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، كما أنه جرت عمليات تهجير قسري للسكان، لم تتم من قبل بهذا الحجم، كما جرى في حي الوعر في حمص، والمدن الأربع الأخرى، مضايا والزبداني والفوعة وكفريا، حيث أجبر السكان على ترك منازلهم بسبب سياسات حكومة الأسد، كما تم استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون في إدلب. والسؤال: إذا كانت كل هذه السياسات والترسانة العسكرية استخدمت في "وقت وقف إطلاق النار"، فما الذي يمكن توقّعه عند عدم احترام وقف إطلاق النار، ويمكننا أن نسأل أنفسنا عن مدى احترام الأطراف هذه الصفقة!
رفضت روسيا الإعلان عن انهيار وقف إطلاق النار هذا، وأصرّت على استمرار محادثات أستانة، على الرغم من لا جدواها، وانتقلت إلى الحديث عمّا تسمى "مناطق التصعيد" في جولة محادثات أستانة في مايو/أيار 2017، كانت الولايات المتحدة حاسمةً في رفض الاتفاق الجديد بسبب إضافة إيران "ضامنا"، فقد ذكر بيان وزارة الخارجية الأميركية: "إن الأنشطة الإيرانية في سورية لم تساهم إلا في العنف، وعدم توقفه، ودعم إيران الثابت نظام الأسد أدّى إلى استمرار البؤس في سورية". ولم تعلق وزارة الخارجية الأميركية على الإطلاق على مفهوم "مناطق التصعيد" في سورية، حيث انتقد البيان دور إيران، لكنه رحب بأي شيء يمكن أن يساعد في تهدئة العنف في سورية اليوم.
يمكن القول إذاً إن الدور الروسي تغيّر من فرض عملية سياسية إلى شبه إجراءات عسكرية تقوم على تخفيف العنف، مع قناعتها بفشل القيام بأية عملية سياسية في سورية اليوم، فقد كانت روسيا راعيةً، خلال محادثات أستانة في العاصمة الكازاخية، عملية سياسية تقوم على البدء بكتابة الدستور، فقد وزعت على المعارضة السورية المسلحة التي شاركت في المحادثات مسودة مقترحة لدستور جديد لسورية وضعته "لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع"، وفقاً لمبعوث الكرملين.
والسؤال الذي طُرح حينها: لماذا قرّرت روسيا أن تبدأ من نقطةٍ بالغة الحساسية بالنسبة لأية أمة، فأي دستورٍ لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وبما أن روسيا تكرّر، في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، أن الأمر متروكٌ للشعب السوري، وتصر في كل فرصة أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من السوريين. ثم كيف تأتي روسيا وتُقدم على صياغة "دستور سوري"، وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه.
أعد هذا الدستور "خبراء روس"، بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون أي إشارة إلى وجود اختراقٍ للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب. ثم فجأة، قرّرت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية، حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريبا، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلت المعارضة به، على أمل أن يحدث فرقا على الأرض، من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار، بدل التركيز على ذلك، فضلا عن قضايا أخرى، تشكل أولوية للسوريين اليوم، مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور، ووضعته تحت تصرّف الشعب السوري.
مثّل الاقتراح الروسي لدستور "سوري" مفاجأة، لاسيما أن الطريقة التي تم الإعلان عنها خلال محادثات أستانة، وكأنه من أشكال الفرض الروسي على المحادثات، وكون روسيا هي الفاعل العسكري الأكبر في سورية، فمنذ تدخّلها العسكري في سبتمبر/أيلول 2015، أصبحت روسيا المحرك العسكري والسياسي الرئيسي، بحكم انسحاب الولايات المتحدة، خصوصا بعد مجيء الرئيس ترامب الذي طبّق سياسة أميركية انعزالية، مع تركيز وحيد على محاربة "داعش" في سورية.
تعكس قراءة النص الروسي المقترح للدستور في سورية، بكل تأكيد، وجهة النظر الروسية للحل السياسي في سورية الذي تنادي به يومياً من دون الالتزام بمحدّداته على الأرض.
تظهر المسودة المقترحة، والتي قال وزير الخارجية الروسي، لافروف، إن "خبراء روس" أعدوها، أنها مصاغة على صيغةٍ مماثلة تقريبا لدستور الاتحاد الروسي الذي أقر في 12 ديسمبر/كانون الأول 1993، فالديباجة تكاد تكون نفسها تقريباً، والتبويب يحمل السمات نفسها، وتوزيع الصلاحيات بني بناء على صلاحيات المؤسسات الروسية الشبيهة. لكن، ما يجدر التوقف عنده هو كيف ينظر الروس إلى سورية الجديدة التي يقترحونها من خلال دستورهم، خصوصا قضيتي التركيبة التعددية الطائفية والإثنية التي يشير إليها الدستور مراراً، ومركزية السلطات بيد السلطة التنفيذية التي تكاد تكون مكرّرة من مواد الدستور الروسي.
فالدستور الروسي المقترح يقوم على فكرة تعدّدية الشعب السوري، لينتهي إلى مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية في المناصب الوزارية، بما يذكّر بأنظمة سياسية شبيهة في لبنان والعراق وإيرلندا الشمالية والبوسنة والهرسك، من دون أن تفلح أيٌّ من الأنظمة السياسية المذكورة، القائمة على مبدأ المحاصصة الطائفية، في ضمان الاستقرار السياسي للنظام السياسي، أو تحقيق النمو الاقتصادي، فهي أنظمةٌ قائمةٌ على الشلل الطائفي، بدل أن تفتح الباب لتحويل النظام السياسي إلى نظامٍ ديمقراطي كامل.
تبدو روسيا اليوم أنها البلد الوحيد الذي يقوم بالمبادرات في سورية، من محادثات أستانة إلى اقتراح دستور جديد، إلى اتفاق خفض التصعيد، ويعكس ذلك كله بشكل ما كيف تحاول روسيا الخروج من سورية، بأقل الخسائر الممكنة، مع المحافظة على بقاء الأسد، بوصفه الورقة الوحيدة الذي يمكن لها أن تضمن مصالحها من خلاله.
توصل الرئيسان؛ الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، على هامش قمة دول الاقتصاديات العشرين الكبرى (G20) إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، يشمل مناطق القتال في محافظتَيْ درعا والقنيطرة، ويبدأ تنفيذه يوم التاسع من تموز/ يوليو 2017. وجاء الاتفاق نتيجة مسارٍ تفاوضيٍّ بعيدٍ من الأضواء، جرى بين خبراء روس وأميركيين وأردنيين في العاصمة الأردنية عمّان، لم تكن إسرائيل بعيدةً منه، لوضع ترتيباتٍ أمنيةٍ تشمل جنوب سورية الغربي، تؤمن حدود الأردن وإسرائيل، وتمنع إيران من الاقتراب منها. وهذا هو هدف الاتفاق الرئيس بالنسبة إلى الدولتين.
ويعد هذا الاتفاق الأخير في سلسلة اتفاقاتٍ روسيةٍ أميركية، هدفها فرض وقف لإطلاق النار في سورية، أو في أجزاء منها، والسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى مناطق القتال أو المناطق المحاصرة، كان أبرزها اتفاق 27 شباط/ فبراير 2016 (على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن) واتفاق 9 أيلول/ سبتمبر 2016 (في جنيف) اللذيْن وضع أسسهما وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي السابق جون كيري، فما الذي ينصّ عليه الاتفاق الجديد؟ وما أهدافه؟ وكيف يختلف عن غيره، وما فرص نجاحه؟
نص الاتفاق
بحسب وزير الخارجية الروسي؛ سيرغي لافروف، ومصادر أردنية وأميركية، ينص الاتفاق على وقف إطلاق النار على طول خطوط تماسّ يتم الاتفاق عليها بين النظام السوري والقوات المرتبطة به من جانب، وقوات المعارضة المسلحة من جانب آخر، على أن يكون ذلك خطوةً في اتجاه الوصول إلى خفضٍ دائمٍ للتصعيد في جنوب سورية، يُنهي الأعمال العدائية، ويسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة. كما ينص الاتفاق على إنشاء مركز مراقبة في العاصمة الأردنية، عمّان، وتُراقَب الهدنة عبر أقمار صناعية وطائرات من دون طيار. ولحفظ الأمن، تنشر روسيا عناصر من شرطتها العسكرية في المنطقة.
هدف الاتفاق
تمثل الهدف الرئيس للاتفاق الذي تم الإعلان عنه في هامبورغ (ألمانيا)، وعُدّ أبرز نتائج القمة الروسية- الأميركية الأولى بين ترامب وبوتين، في إبعاد إيران والمليشيات المرتبطة بها عن خط الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل. ولهذه الغاية، استضاف الأردن، منذ أيار/ مايو الماضي، محادثات روسية- أميركية على مستوى الخبراء، هدفها التوصل إلى اتفاقٍ يمنع وجود مجموعاتٍ تهدّد أمن الأردن؛ تكون مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو مليشيات تتبع إيران. وكانت ساحة الصراع في سورية شهدت، خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، سباقًا محمومًا على الأرض بين مختلف القوى المحلية وداعميها الإقليميين والدوليين، للسيطرة على أكبر قدر ممكن من المساحة الجغرافية السورية؛ لفرض وقائع سياسية وميدانية، تسبق انهيارًا محتملًا لتنظيم الدولة الإسلامية في مناطق سورية الشمالية والشرقية، أو تفرض وقائع على الأرض، قبل تسويةٍ سياسيةٍ ممكنة للصراع المستمر منذ نحو ستة أعوام. وتمثلت أبرز مظاهر الصراع في سعي إيران إلى إنشاء "كوريدور"، يربطها جغرافيًا بسورية عبر العراق، وصولًا إلى لبنان، من خلال السيطرة على الأراضي التي يخسرها "داعش" في غرب العراق وشرق سورية. وتأمين تموضع إيران على الحدود مع فلسطين المحتلة يسمح لها بنافذة تطل منها على الصراع العربي- الإسرائيلي، ويجعل منها لاعبًا لا غنى عنه في أي تسويةٍ مستقبليةٍ له. وقد اصطدم هذا المسعى الإيراني بمقاومةٍ أميركيةٍ، عُبِّر عنها في أكثر من مناسبة، حين قصفت طائراتٌ أميركيةٌ قوات موالية لإيران، كانت تحاول التقدم في اتجاه معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية مع العراق والأردن، حيث تتمركز فصائل سورية معارضة مدعومة من واشنطن.
حاولت إسرائيل، من دون توقف، منع إيران من إنشاء وجود لها في مناطق جنوب سورية القريبة من حدودها، واستهدفت أكثر من مرة مراكز عمليات وخلايا تابعة لإيران في المنطقة، كان أبرزها الغارة التي وقعت في القنيطرة في شباط/ فبراير 2015، وسقطت فيها خلية تابعة لحزب الله، على رأسها جهاد مغنية، نجل القيادي في حزب الله عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق مطلع عام 2008، كما استهدفت إسرائيل قادة آخرين في حزب الله، مثل سمير القنطار ومصطفى بدر الدين، كانوا، كما تدّعي إسرائيل، مسؤولين عن إنشاء وجود عسكري إيراني على حدودها الشمالية مع سورية.
وقد زادت وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية في العمق السوري خلال الشهور الأخيرة، ونالت مواقعَ مختلفةً مرتبطة بإيران، شملت محيط العاصمة دمشق ووسط البلاد وجنوبها؛ ففي 27 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت الطائرات الإسرائيلية مستودع أسلحة لحزب الله اللبناني وخزانات وقود للطائرات في محيط مطار دمشق الدولي. وكانت تقارير إعلامية أفادت بأنّ أربع طائرات شحن؛ ثلاثٌ منها إيرانية والرابعة سورية، كانت قد وصلت إلى مطار دمشق من إيران قبل الضربة الإسرائيلية بنحو ساعتين. وفي 22 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت طائرات إسرائيلية معسكرًا تابعًا "لقوات الدفاع الوطني"، وهي تنظيمٌ شبه عسكري تابع للنظام السوري في محافظة القنيطرة؛ ما أسفر عن مقتل ثلاثة أفراد. وفي 17 آذار/ مارس 2017 استهدفت طائراتٌ إسرائيليةٌ موقعًا قرب تدمر وسط سورية، يحتوي على صواريخ متطورة؛ ذكرت تقارير أنّها كانت معدّة لنقلها إلى حزب الله في لبنان. وقد مثّل تزايد وتيرة الهجمات الإسرائيلية على أهداف مرتبطة بإيران داخل الأراضي السورية مؤشرًا مهمًا على إصرار إسرائيل على منع أي وجود إيراني في مناطق قريبة من حدودها، أو تطوير قدرات عسكرية إيرانية قريبة منها، تمثل تهديدًا لها. وينطبق الأمر نفسه على الأردن الذي أخذ يحذّر، أخيرا، من أي محاولة إيرانية للاقتراب من حدوده الشمالية مع سورية.
تعثر "أستانة" وفشل مساعي السيطرة على درعا
مثل اتفاق هامبورغ ذروة الفشل في مساعي إيران إحكام سيطرتها على مناطق جنوب سورية، ومنذ الإعلان عن مناطق خفض التصعيد في اجتماع أستانة 4، الذي عقد مطلع شهر أيار/ مايو الماضي، ودخوله حيز التنفيذ في السادس من الشهر نفسه، وإيران تسابق الوقت لاستعادة السيطرة على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من مناطق جنوب سورية، عبر فرض "مصالحاتٍ" محلية، ومحاولة الوصول إلى الحدود السورية مع الأردن لإغلاقها، بغرض حصار المعارضة في درعا، ومنع سبل الإمداد عنها. لكن إيران لم تفشل عسكريًا فقط في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف، قبل التوصل إلى اتفاقٍ لترسيم خطوط التماس في مناطق خفض التصعيد، بل فشلت مساعيها أيضًا خلال مؤتمر أستانة 5 الذي عقد في العاصمة الكازاخية يومَيْ 5 و6 يوليو/ تموز الجاري، في تأمين وجود عسكري لها على الأرض في المنطقة الجنوبية، بموجب اتفاق أستانة 4، بعدما رفضت روسيا التي كانت منخرطةً في محادثات بعيدة من الأضواء في عمّان مع الأميركيين الاستجابة للمطلب الإيراني، والذي جاء على شكل مسعىً لإعادة النظر في حدود التماس في منطقة خفض التصعيد في الجنوب، حيث تتولى الدول الأطراف في الاتفاق نشر قواتٍ لها في كل منطقة متّفقٍ عليها.
لم ينجح اجتماع أستانة أخيرا إلا في الاتفاق على ترسيم حدود المنطقتين الخاصتين بالغوطة الشرقية قرب دمشق ومنطقة شمال حمص، في حين فشل التوصل إلى اتفاق بين روسيا وتركيا حول حدود المنطقة الشمالية (إدلب وأجزاء من محافظات حماة وحلب واللاذقية)، وبين روسيا وإيران حول حدود المنطقة الجنوبية (أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء). وكانت الدول الراعية لمسار أستانة اتفقت على إقامة مراكز مراقبة، بمشاركة روسية وتركية وإيرانية في شمال سورية وجنوبها ووسطها، لكن اتفاق هامبورغ وضع المنطقة الجنوبية تحت مظلة الاتفاق الروسي- الأميركي، وبذلك جرى استبعاد إيران منها. وبهذا، أصبح واضحًا كيف ستتم إدارة مناطق خفض التصعيد، إذ سيكون الإشراف على منطقة خفض التصعيد في الشمال من الجانبين الروسي والتركي، بينما سيؤدي الجانبان الأميركي والروسي وكذلك الأردني، الدور الأبرز في تنفيذ الاتفاق جنوبي البلاد في بعض أجزاء محافظتَيْ درعا والقنيطرة، بينما يؤول تنفيذ الاتفاقية، والرقابة عليها في محيط دمشق، إلى روسيا وإيران، وهذا يعني عدم خفض التصعيد في هذه المنطقة، لأنه لا يوجد طرفٌ دوليٌّ أو إقليميٌّ مقابل إيران وروسيا فيها. وهذا يعني استمرار عمليات النظام فيها مستقبلًا.
الرابحون والخاسرون
مثل اتفاق هامبورغ انخراطًا أميركيًا أكبر في الصراع السوري، وأعاد تأكيد حقيقة أن لا حل في سورية من دون الولايات المتحدة الأميركية، لكنه في المقابل أقرّ بدور روسيا القيادي أيضًا، فروسيا هي الطرف الوحيد المؤثر في كل مناطق خفض التوتر من الشمال إلى الجنوب، وستكون موجودةً على الأرض فيها جميعًا. ويبدو أن الانخراط الأميركي يهدف إلى خدمة السياسة المزدوجة العامة للولايات المتحدة في المنطقة، والتي تقوم على احتواء إيران وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. فمن جهةٍ؛ نجح الاتفاق في إبعاد إيران من حدود حليفَيْ واشنطن في الجنوب السوري (إسرائيل والأردن)، مع استمرار جهد احتواء مساعي طهران الرامية إلى الاستفادة من انحسار رقعة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في غرب العراق وشرق سورية. ومن جهة أخرى؛ يمهد اتفاق هامبورغ لتنسيقٍ أكبر بين واشنطن وموسكو فيما يتعلق بالصراع في سورية، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. ووفقًا لتقارير، نص اتفاق هامبورغ على إبعاد المليشيات الإيرانية 30 كيلومترًا من الحدود الأردنية- السورية، كما يتولى أطراف الاتفاق تطهير المنطقة من أي تنظيماتٍ متشددة أيضًا.
ومن زاوية جديدة؛ قد يمثل الاتفاق اقترابًا من فكرة المناطق الآمنة في سورية، والتي طرحها الرئيس ترامب عند وصوله إلى السلطة لحل مشكلة اللاجئين؛ ففي حال جرى تنفيذه، من المتوقع أن يساعد الاتفاق الأردن على إعادة عشرات آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وخصوصا من مخيم الزعتري، وهو ما قد تفعله أيضًا تركيا ولبنان ودول أخرى.
وبهذا، يمكن النظر إلى الاتفاق باعتبار أنه يحقق لكل طرفٍ من الأطراف المعنية به مصلحة ما، وهو في الواقع أقصى ما يمكن لها تحقيقه في ظل موازين القوى القائمة حاليًا. أما السوريون، وهم الأطراف الأصيلة في هذا الصراع، فقد وجدوا أنفسهم – نظامًا ومعارضةً - على الهامش؛ إذ جرى التوصل إلى الاتفاق في غيابهم، ومن دون أدنى اهتمامٍ برغباتهم. وفوق ذلك، ازدادت هواجسهم؛ إذ يجري تقسيم بلادهم إلى مناطق نفوذ تنتشر فيها قوات أجنبية على امتداد الشريط الغربي للبلاد، من الشمال إلى الجنوب، بينما يستمر تمدّد قوات حماية الشعب الكردية في الشرق والشمال الشرقي، في سياق الحرب على تنظيم الدولة.
خاتمة
يقوم اتفاق هامبورغ على حصر الصراع السوري حاليًا في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، مفترضًا أن التركيز سوف ينصبّ بعد ذلك على كيفية إدامة حالة الهدوء من خلال حل سياسي عادل، لا يمكن من دونه تحقيق استقرار مستدام وسلام دائم. فالهُدَن، واتفاقيات وقف إطلاق النار ليست وضعًا مستدامًا، وإذا لم تكن مقدمة لحل، فسوف تكون مقدمة لاستعادة النظام وحلفائه هجومهم مستقبلًا.
ويتطلب هذا الحل، في رأينا، التعامل مع أكثر العقد التي تواجه مستقبل سورية أهميةً وصعوبة، وفي مقدمتها محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المختفين قسرًا والمخطوفين، وعودة اللاجئين، وإلغاء كل آثار التغيير الديموغرافي، وتحقيق مصالحة وطنية، والتوجه نحو بناء نظام سياسي تعدّدي أساسه المواطنة، يساعد في إبقاء سورية دولةً موحدة بعيدة من التدخلات الأجنبية والاستقطابات الإقليمية والدولية.
يلتقي ما قالته، أخيرا، القيادات التركية على أعلى المستويات عند نقطتين أساسيتين: التوتر التركي الأميركي في ذروته، وتركيا تصر على عملية عسكرية جديدة في شمال سورية في المثلث الرابط بين منبج وعفرين وتل رفعت.
ستكون "سيف الفرات" في العلن عملية عسكرية، بغرض قطع الطريق على مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، في ربط الكانتونات الكردية في شمال سورية بين القامشلي وعفرين ببعضها بعضا، لكنها أيضا رسالة ردٍّ على تخلي واشنطن عن تعهداتها لتركيا بسحب الوحدات الكردية إلى شرق الفرات، استجابةً لطلب أميركيٍّ بالبقاء في منبج، وتحت حماية الأعلام الأميركية.
لكن، بين الأهداف غير المعلنة للعملية إنجاز خطة مناطق تخفيف التوتر المتفق عليها روسياً وإيرانياً وتركياً، وتحديدا القسم المتعلق منها بمنطقة إدلب، والهادف إلى انتشار عسكري تركي، بالتنسيق مع روسيا، توفر لتركيا البقعة الجغرافية الواسعة التي تريدها في إطار المنطقة الآمنة التي تسهل عودة آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وتخفيف أعباء تركيا المادية واللوجستية في هذا الملف، وتولي إدارة شؤونها مع المعارضة السورية وموسكو في إطار اتفاقيات أستانة.
تهدف العملية العسكرية التركية كذلك إلى تكريس التعاون العسكري والاستراتيجي التركي الروسي الذي عاد إلى سابق عهده، بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية قبل عامين، وبدأ يأخذ تدريجيا منحى اصطفافاتٍ إقليمية، حيث تجاوز التنسيق ملف الأزمة السورية إلى مشروع نقل الطاقة الروسية عبر تركيا إلى أوروبا، بل وصل إلى درجة التفاهم العسكري الذي يقلق الغرب، ويهدّد علاقات تركيا وتحالفاتها، وتحديدا مع شريكها الأطلسي، من خلال عملية التوافق على بيع منظومة "إس 400"، الصاروخية الدفاعية لأنقرة.
ناهيك عن أن التحرّك العسكري التركي لا يمكن فصله إطلاقا عن التوتر التركي الأميركي الذي اندلع قبل عامين، بسبب التباعد في تحديد المواقف والسياسات حيال قضايا ثنائية وإقليمية، في مقدمها الموقف من أكراد شمال سورية. لم يتردد وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أكثر من مرة، في التعبير عن قلقه من التقارب التركي الروسي، وتأكيده أن أهداف الإدارة الأميركية تقوم "على عدم تعقيد العلاقات مع تركيا بشكل أكبر، والعمل على إيجاد سبل لإعادة الانخراط بين الجانبين، وتعزيز العلاقات التركية الأميركية"، لكن معطيات كثيرة تقول إن الأمور تتقدم باتجاهٍ آخر، سواء بسبب الموقف الأميركي في عملية الرقة وشكل عودتها السياسية والعسكرية إلى سورية، وتذكيرها الدائم لحكومة العدالة والتنمية أنها ترصد، عن قرب، مسار الداخل التركي السياسي والاجتماعي والدستوري. هذا إلى جانب أن أنقرة تريد توجيه رسائل جديدة إلى واشنطن أنها ستبدل من نظرتها إلى إيران في المنطقة، كلما شعرت أن الإدارة الأميركية تتحرّك باتجاه تهديد مصالح تركيا الإقليمية، وهو مؤشر آخر على اقتراب الانفجار التركي الأميركي، بسبب خيارات تركيا الهادفة إلى موازنة علاقاتها في المنطقة.
قدوم بريت ماكغورك، منسق عمليات الحرب على "داعش" باسم البيت الأبيض، إلى أنقرة من شمال سورية، حيث كان في زيارة دعم تفقدية لمواقع قوات سوريا الديمقراطية، رسالة أميركية واضحة للأتراك أن لا تغيير في المواقف والسياسات الأميركية حيال تركيا. الاتصال الهاتفي المباشر بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، تلاه على الفور اتصال هاتفي آخر بين أردوغان والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهي مدلولات تفيد بأن مشكلة تركيا الأهم تبقى في محاولة مفاوضة واشنطن وموسكو معا على ملفاتٍ قد تعرّضها للبقاء خارج المعادلات، إذا ما أخطأت في الحسابات والتنفيذ.
طبول الحرب في شمال سورية رسالة تركية باتجاه استكمال المواجهة المؤجلة مع زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، فهل تسمح واشنطن بذلك، أم أن الدخول الروسي المباشر على خط التوتر التركي الأميركي هو الذي أقنع الطرفين بالتخلي عن التصعيد، بسبب ما يقوله ويريده حزب الاتحاد الديمقراطي، وإرجاء المنازلة إلى موعد ومكان آخرين.
تريد تركيا الرهان على موسكو، لكنها لا تريد إغضاب واشنطن شريكها الاستراتيجي المفترض. تريد كذلك لعب الورقة الإيرانية، لكنها لا تريد خسارة حلفائها المحليين في سورية.
الرد الأميركي الذي يقلق لاعبين محليين وإقليميين كثيرين، بينهم تركيا طبعا، هو أن قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على 40 ألف كلم من الأراضي السورية و65% من المناطق الحدودية المشتركة بين سورية وتركيا، وتواصل التقدم والانتشار في أهم المناطق الاستراتيجية السورية في مصادر الطاقة. وفي مقابل السيناريو العسكري التركي، هناك سيناريو سياسي آخر جديد متعدد الأبعاد، بدأ يظهر:
- النفوذ الأميركي في العمق السوري يقول إن القوات الأميركية باقية، وإن التوازنات السورية الجديدة ستكون عبر نقاش أميركي روسي مباشر، وإن حصة الأكراد في سورية محفوظة.
- إذا ما حصلت أنقرة على ما تريده في شمال سورية استكمالا لعملية درع الفرات، وأنجزت بالتفاهم مع موسكو التي كانت مهمتها التفاوض مع واشنطن في قمة العشرين على منطقة أمنية أميركية أردنية في الجنوب، فهي لن تحرّك "سيف الفرات" ضد وحدات صالح مسلم في شمال غربي سورية.
- سيكون المشروع الجديد امتدادا للتفاهم الثلاثي الروسي التركي الإيراني، في لقاءات أستانة، لكنه سيكون أيضا بمثابة خطوة سياسية - عسكرية جديدة في مسار الأزمة السورية، عبر إنشاء آلية جديدة لإدارة المرحلة المقبلة بإشراف الضامنيْن، الروسي والأميركي.
- بناء على التفاهمات الجديدة، ستكون أميركا أكثر انخراطا في الملف السوري ومرحلة ما بعد "داعش"، وهي ستفاوض باسم قوات سوريا الديمقراطية وإسرائيل، وقبل كل شيء من أجل حماية مصالحها هي المتراجعة في سورية، بغرض قطع الطريق على التمدّد الروسي والإيراني والتركي، والتحضير لمرحلة انتقالية سياسية ودستورية، تتفاهم عليها مع موسكو مباشرة من دون وسطاء أو وكلاء. قد تكون ميزة المرحلة المقبلة بناء ساحة مفاوضات أميركية روسية خارج "جنيف" و"أستانة"، تبدأ بمشروع التهدئة ومناطق تخفيض التوتر، ثم تتبعها المساومة على مستقبل سورية، إما باتجاه التقسيم أو صناعة مشهد سياسي دستوري جديد في إطار توازنات ومساومات وحسابات محلية وإقليمية متداخلة.
- إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن الولايات المتحدة وروسيا اتفقتا على مذكرة تفاهم لإقامة منطقة خفض تصعيد في درعا والقنيطرة والسويداء، يعكس احتمال إشعال الضوء الأخضر الأميركي أمام العملية العسكرية التركية في شمال غربي سورية، وأن أميركا قد تقبل "سيف الفرات"، إذا ما نجحت في التفاهم مع موسكو وأنقرة على ما تقوله وتريده في الجنوب، وتحديدا في الجولان، حيث تتصلب إسرائيل بتعهد أميركي، يضمن إبعاد إيران وتركيا، ويخرج النظام السوري عسكريا وأمنيا من المنطقة، ويحولها إلى فرصة تمهد لاتفاقية سلام سوري إسرائيلي، تدرج في إطار خطة - صفقة بناء سورية الجديدة.
- قد ترضى تركيا بخطة مساوماتٍ من هذا النوع، تبعد شبح الكيان الكردي المستقل عن حدودها الجنوبية، وتفتح الطريق أمام تسوية سياسية تنهي الأزمة السورية التي تحمّلت أعباءها سنوات. لكن ما ستقوله وتفعله إيران مهم أيضا عندما تتأكد أن مشروعا من هذا النوع يستهدف مصالحها ونفوذها وما شيّدته وغامرت من أجله طوال سنوات الأزمة للإمساك والاحتفاظ بالورقة السورية القوية بيدها، ومحاولة بناء توازن إيراني عربي تركي، يبقيها لاعبا إقليميا مهما. لكن تحت الرقابة الأميركية الروسية، وعلى مسافة واحدة من بقية اللاعبين الإقليميين؟
- تهديدات صالح مسلم وقيادات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بتسليم مدينة عفرين إلى النظام السوري، "في حال لم تعمل روسيا والولايات المتحدة على وقف التلويحات التركية بعمل عسكري"، وقطع الطريق أمام تركيا في احتلال شبر من تراب سورية "هي رسالة الاستعداد للانتحار أمام خطة التوافق الأميركي الروسي التي ستعرقل المشروع الانفصالي الكردي الذي بنى حساباته على التناقضات المحلية والتباعد الإقليمي والدعم الأميركي الروسي له في شمال سورية. وستساعد مهمة عرّاب البيت الأبيض في سورية والعراق، بريت ماك غورك، في لقاء واشنطن المرتقب مع الحلفاء الأكراد على حسم قرار العملية العسكرية التركية، والضمانات التي ستقدمها الإدارة الأميركية لتركيا، باتجاه إقناعها بالتخلي عن المواجهة العسكرية في مثلث عفرين - تل رفعت - مينغ، وحل الأمور سياسيا في مقابل حماية مصالح صالح مسلم في شرق الفرات والحسكة ودير الزور. لن تسمح واشنطن لصالح مسلم باستخدام السلاح الذي قدمته له لمحاربة "داعش" ضد الحليف التركي، حتى ولو كانت المسألة دفاعا عن الأراضي السورية ضد "الاحتلال التركي".
سخرية القدر أن ما قاله الرئيس أردوغان، قبل عام، عند إعطاء إشارة الانطلاق في عملية "درع الفرات" بالتنسيق مع "الجيش السوري الحر" بأنه بين الأهداف إبعاد "داعش" ومَن يحاول لعب ورقته ضد تركيا، وإفشال مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في بناء كيان كردي مستقل على الحدود التركية السورية، والدفاع عن الجغرافيا السورية ووحدتها وتماسكها، يقوله صالح مسلم اليوم "دفاعا عن سورية والتصدّي للمحتلين". هل انتهى مشروع ربط الكانتونات الكردية في سورية بعضها ببعض؟ وهل قبلت واشنطن بمحاصرة "الشريك الكردي" في سورية؟
.. قد تتحول عملية "سيف الفرات" مناورة سياسية - عسكرية، تكون جزءا من صفقة تسوياتٍ سياسية وأمنية أميركية روسية ترضي الجميع.. تقريبا.
في السنة السابعة للحرب الدائرة في سورية، تتكثّف في سماء الأرض المستباحة سحبٌ ركامية سوداء، تنذر بوقوع أربع حروبٍ أشد هولاً من كل ما سبقها من معارك ومواجهات بدأت بأناشيد الحرية والكرامة، وتحوّلت فيما بعد إلى مقتلةٍ كبرى، بعد أن جرت وتائرها المتصاعدة حربا بالوكالة، وغدت ساحتها ملعباً مفتوحاً لجملةٍ من اللاعبين الأشداء، ثم أفضت تراكماتها لاحقاً إلى تهميش العنصر المحلي، وإضعاف حضوره في المشهد الميداني المتنقل، لتفضي تفاعلاتها، في نهاية مطافٍ طويل، إلى تهيئة المسرح وتجهيزه لسلسلة من الحروب بالأصالة، تتواجه فيها القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر.
ففي غضون الفترة المديدة الماضية، استهلكت سورية مقوّمات وجودها دولة، وفقدت القوى السورية المتحاربة، بما في ذلك النظام، قدراتها الذاتية لإدامة الحرب الداخلية بالوتيرة الرهيبة السابقة، وتزايد التدخل الخارجي فيها بصورةٍ مضطردة، وأدّت توازنات القوى المتصارعة إلى العجز عن حسم الموقف لصالح أيٍّ منها، وفيما كانت السماء تزدحم بشتى أنواع الطائرات الحربية، كانت الأرض نهباً لكل أشكال المليشيات الطائفية والجماعات الجهادية، الأمر الذي أنتج وضعاً يستحيل معه إيجاد حل سياسي، وتنتفي فيه أيضاً القدرة على الحسم العسكري في المقابل.
في ظلال هذه الصورة المركّبة، وعلى جانبي إطارها الواسع، بدأت ترتسم، منذ عدة أشهر، لا سيما بعد معركة حلب أواخر العام الماضي، معالم أربع حروب كبيرة، من المقدر لها أن تنشب تباعاً، وربما على نحوٍ متزامن، بين القوى المنخرطة في صراع النفوذ الإقليمي والدولي، فوق خشبة مسرح حربي، يطلّ على فناءٍ يتربص فيه الجميع بالجميع، وتتقابل فيه الحساباتُ والتحسباتُ والهواجس وجهاً لوجه، وتتوازى فيه المصالح المتضاربة والأوزان النسبية المتعادلة، والأدوار والادّعاءات والأوهام التي راحت تترجم نفسها عبر خطط خرجت من الأدراج، ووضُعت على سطح المائدة.
ومع أن الحروب المحتملة هذه سوف تجري في نطاق الجغرافيا السورية، أي أنها سورية بالتعريف المكاني، إلا أن السوريين أنفسهم ليسوا طرفاً فيها، إلا في الحدود التي تبرّر للاعبين الكبار تسويغ هذه الحرب أو تلك، وتبرير المزاعم المتهافتة حول الحرص على وحدة الأراضي الوطنية، والدفاع عن السيادة التي باتت أثراً بعد عين، الأمر الذي من شأنه أن ينقل مجريات الاشتباكات الجارية من مفهوم "الحرب في سورية" إلى مفهوم "الحرب على سورية" بصورة أوضح مما كانت عليه في السنوات الست الماضية.
تقوم هذه المقاربة على فرضيةٍ قوامها حدوث خمس حروب وشيكة، إحداها من المستبعد وقوعها تماماً، وإن لم يكن من المستحيل نفيها قطعياً، ونعني به الصدام الجوي بين القوات الروسية ونظيرتها الأميركية، فيما الحروب الأربع الأخرى دخلت في طور المقدمات المفضية، بالضرورة الموضوعية، إلى مرحلة تطبيقية لا رادّ لها، لا سيما بعد أن استنفذت الحرب بالوكالة أغراضها، وتحول القتال فيها إلى عمليات قتل موضعية لا أثر حاسماً لها على المجريات الكلية، على الرغم من جسامة آثارها البشرية والمادية على مجموع الكتلة السكانية السورية النازفة والممزّقة.
أولى هذه الحروب وأكثرها وضوحاً لعين المراقب، الحرب التي اجتازت مرحلة قرع الطبول، وبدأ غبار معاركها المتفرّقة يلوح في أفق بادية الشام، بين المليشيات الإيرانية العازمة على إقامة "كاريدور" بري واصل بين طهران وبيروت، وبعضهم يدّعي وصوله إلى غزة، وبين القوات الأميركية كثيفة الحضور جواً، ومتزايدة الثقل البشري أرضاً غربي نهر الفرات، ولعل رافعة مثل هذه الحرب، ودافعها الجوهري، ينطلق من أن هذا الجسر يمثل إنجازاً جيواستراتيجيا إيرانيا بالغ الأهمية، فيما يمثل للولايات المتحدة خسارة استراتيجية ثقيلة، أحسب أنها غير مقبولة لدولةٍ عظمى، وضعت طهران على رأس جدول اهتماماتها في هذه الآونة، بعد أن تم تصنيف إيران دولةً راعية للإرهاب في العالم.
ثاني هذه الحروب التي قد تنشب في أي لحظة مفاجئة، هي بين إسرائيل والمليشيات الإيرانية ذاتها، بما في ذلك حزب الله، حيث من المرجح أن يندلع لهبها في الجولان والقنيطرة، وليس في جنوب لبنان هذه المرّة، خصوصاً إذا واصلت هذه المليشيات تقدمها البطيء نحو الهضبة السورية المحتلة، ونجحت في وضع قدمٍ لها قبالة الحدود، التي من شأنها أن تحقق لطهران منطقة احتكاك إضافية مع العدو الذي تبرّر به سائر حروبها وتدخلاتها وخسائرها في الهلال الشيعي، وتدّعي أن ذلك كله سيمهد لشطب إسرائيل عن خريطة الشرق الأوسط.
أما الحربان اللتان من المرجح نشوبهما في المدى الزمني المنظور، فمن المحتمل أن يأخذ كل منهما شكل حرب استنزافٍ طويلة، تتراءى أولاهما عن قرب في الشمال السوري، بين تركيا والوحدات الكردية، حيث من المحتمل لها أن تبدأ في منطقة عفرين وشمالي حلب، ثم تمتد شرقاً إلى منطقة تل أبيض، وثانيتهما تتراءى عن بعد، وقد يأزف أوانها في المدى المتوسط، ونعني بها خاتمة "الحروب على سورية" بين المليشيات الإيرانية وبقايا قوات النظام السوري والحليف الروسي من جهة، وبين الجيش الحر والكتائب الإسلامية، خصوصاً جبهة تحرير الشام التي تمركزت في إدلب، واقتطعت لنفسها حصة من الجغرافيا السورية.
ولعل السؤال المنطقي هو؛ ما الذي ستفضي إليه كل هذه الحروب المتوقعة في سورية، إن لم تؤد إلى تقسيم البلد على نحو واقعي، ومن دون إعلاناتٍ مجلجلة؟ ولعل السؤال الآخر، وهو الأكثر تعلقاً بالأمنيات هو؛ هل من سبيلٍ إلى درء كل هذه الحروب، أو احتواء بعضها على الأقل، إذا كانت تنطوي، في مجموعها، على مواجهاتٍ قد تخرج عن نطاق السيطرة، وتؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، وذات مضاعفاتٍ لا يمكن التنبؤ بها من الآن، بما في ذلك امتدادها إلى مناطق مجاورة، مثل جنوب لبنان أو شرق العراق أو جنوب تركيا مثلاً؟
بما أن المليشيات الإيرانية تمثل القاسم المشترك الأعظم في كل هذه الحروب المرجّحة بقوة، بحكم التطورات التي تسابق نفسها بنفسها، فإن السبيل الوحيد لاحتواء سلسلة الانفجارات المتوقعة، وكبح جماح المواجهات الخطيرة المحتملة، هو تكبيد هذه المليشيات هزيمةً ثقيلة، سواء في البادية السورية على الحدود مع العراق، أو على تخوم هضبة الجولان، في المنطقة الممتدة من درعا وحتى القنيطرة، على نحوٍ يكسر إصرار نظام الولي الفقيه على إعادة بعث مشروعه الإمبراطوري في المنطقة، ويثنيه عن اللعب بالنار، والسيطرة على مزيدٍ من العواصم العربية.
الدخان الأسود يغطي سماء مخيم عرسال للاجئين السوريين.. رسمياً، ما زال المذنب مجهولاً، فتصريحات المسؤولين اللبنانيين، وما يقوله الناشطون وسكان المخيم، متناقضة، لكن الملفت تداول قضية إرجاع اللاجئين إلى وطنهم، على الرغم من انهيار اتفاقات الهدن هناك، وفشل خطة تخفيض التصعيد.. ستبدأ القصة باقتراحاتٍ حسنة النية، لإعادة اللاجئين الذين يقطنون الخيام إلى قراهم وبلداتهم، حيث من المفترض أن يستعيدوا بيوتهم ودكاكينهم وأراضيهم الزراعية التي تركوها.. اقتراحاتٌ لها شكل إنساني، ولون وردي، سيرفضها اللاجئ العارف حقيقة ما ينتظره في سورية.. سترتفع بعد ذلك شعارات عنصرية بشكل عفوي، أو مخطط له، وستحتل أخبار اللاجئ الذي يتلقى مساعداتٍ إنسانية محدودة من الأمم المتحدة مقدمات نشرات الأخبار في لبنان، بوصفه سبباً أساسياً، وربما وحيد، للأزمات العميقة التي تعاني منها الدولة، أكان ذلك على الصعيد الأمني أو الاقتصادي والاجتماعي، وستتحوّل اقتراحات التخلص من اللاجئين إلى مناشداتٍ ملحة، وسيبرز التواصل مع الحكومة السورية حلاً وحيداً لتنسيق عمليات إعادة اللاجئين.
انتشرت صور وفيديوهات عن ممارسات قتل واعتقال وتعذيب للاجئين سوريين في لبنان. وأشار ناشطون إلى مسؤولية الجيش اللبناني عمّا جرى، وتابعنا سيلاً عكسياً مدافعاً عن مؤسسة الجيش. المستغرب موقف مسؤولي حزب الله ومؤيديه الذين شاهدناهم يُثنون على ما قام به الجيش ضد السوريين، في سياق مكافحة الإرهاب، ويؤكد بعضهم أن هذا الجيش الذي طالما حطت المليشيا من شأنه وقوته وقدرته، بات مؤهلاً للدفاع عن الوطن! ألا يدفع ذلك إلى السؤال عن جدوى وجود المليشيا ذاتها، طالما لدى الدولة جيش قادر على الدفاع عن لبنان ضد الأخطار الخارجية؟ هذا ليس موضوع المقال، لكن علينا أن نذكّر بأن وجود الحزب ذاته في سورية سبب يعيق النازحين من العودة إلى أرضهم.
كان نائب أمين عام الحزب، الشيخ نعيم قاسم، أحد الأصوات التي اقترحت التواصل مع النظام في دمشق للبدء بإعادة اللاجئين، وأيده وزير العدل، سليم جريصاتي، ومسؤولون لبنانيون آخرون، وكانت الثقة تعتري سفير سورية، علي عبد الكريم، وهو يشير إلى ضرورة التواصل مع النظام السوري، بدون وساطة من أي طرف، احتراماً للسيادة السورية.
ينفع هنا تكرار وصف واقع الحال في سورية الذي يبدأ بالقصف والمداهمات والاعتقالات، ولا ينتهي بمراسيم الخدمة العسكرية التي تلزم الشبان بحماية كرسي الأسد، حتى لو قاربت أعمارهم الخمسين عاماً. ليست هذه مشكلة سورية، من وجهة نظر السفير، وحال السوريين المضطهدين في البلدان المجاورة أمر ثانوي أمام الرغبة الجامحة، واستغلال الأزمات لتلميع صورة نظام الأسد أمام الرأي العام..
أعلن الجيش اللبناني في بيان أن المقتولين من اللاجئين كانوا مصابين بأمراضٍ تفاعلت مع الظروف الجوية، فأدت إلى الوفاة. واحتراق المخيمات اتّهمت به أيضاً درجات الحرارة التي تجاوزت الأربعين.. على الجانب الآخر، يصر محللون لبنانيون على التأكيد بأن المخيم يؤوي عائلات أفراد تنظيمي داعش وجبهة النصرة، وكأن الأمر، إن صح، يعطي المبرّر لقتل ذويهم وحرق خيامهم. اختيار عبارة "عائلات الإرهابيين" سيغطّي على الأخبار التي تحكي عن مقتل أطفال، أو إصابتهم، طالما أنه من الطبيعي لعائلة الإرهابي أن تحوي طفلاً إرهابياً مستقبلياً.
تتتابع الروايات الرسمية وغير الرسمية، فتصبح القصة أكثر ترتيباً: اقتحم الجيش المخيمات في عمليةٍ وصفت بالاستباقية، بعد معلوماتٍ عن وجود مخططات للقيام بعمليات تفجير هناك، رغم ذلك حدثت هذه التفجيرات، وأدت إلى وفاة بعض سكان المخيم، وهجرة بعضهم الآخر.. الاستهتار في التعامل مع قضيةٍ خطيرةٍ بهذا الحجم وسهولة إنكار الجرائم التي ترتكب بحق السوري أينما كان باتا أمراً في متناول الجميع، بمن فيهم السوريون أنفسهم، طالما أن العالم يفتح أذنيه لتصديق كل شيء إلا الحقيقة.
إذا كان القانون الدولي العام ينص على «ألاّ يُعاد أي لاجئ إلى أرض تتعرض فيها حياته أو حريته للتهديد»، بصرف النظر عما إذا كان البلد المضيف وقّع أو لم يوقّع على معاهدات اللجوء، فما هو حكم القانون في حال أحدقت تلك الأخطار ذاتها باللاجئين في البلدان التي هربوا اليها؟ وما هو حكم القانون الدولي إن كان مصدر الخطر يتعدى الهبات الشعبية وسورات الغضب الأهلي، الى تورط السلطات الرسمية والمؤسسات الأمنية والعسكرية في شكل مباشر؟ من يحمي من ساعتئذ؟
ما شهده لبنان أخيراً ذروة غير مسبوقة على هذا الصعيد. موقوفون سوريون قضوا تحت التعذيب وهم في عهدة الجيش اللبناني بعد اقل من ثلاثة ايام على توقيفهم ومداهمة المخيم الذي يقيمون فيه. بداية، لا بد من القول إن الموت بتلك السرعة القياسية يعني أن الجهة المسؤولة عن التوقيف والتحقيق والاستجواب لا تسعى إلى انتزاع اعترافات أو استخلاص معلومات يحال على اثرها المتهمون الى المحاكمة وتكشف من خلالها شبكات ارهابية فعلية، وإنما هي تسعى الى تصفية سريعة وثأرية، لإشاعة الرعب قبل أي شيء آخر. والأهم انها تريدها علنية غير مواربة لتلقين العبر. نعم، لقد أراد الجيش أن يعلمنا أن سجلاته باتت تتسع لوفاة أشخاص تحت التعذيب وإحالة موتهم على الظروف المناخية والحالة الصحية.
والواقع إنه منذ انطلقت مسيرة اللجوء السوري قبل نحو 5 سنوات، نال السوريون اينما حلوا قسطاً من العسف والانتهاك، سواء في بلدان الجوار المباشر أو بلدان الدرجة الأولى التي حاولوا بلوغها إبحاراً ومسيراً لأيام وأشهر. يكفي أن تقارير حقوقية نشرت أخيراً تتهم بعض دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الإغاثية الدولية، بمعرفتها المسبقة باحتمال غرق قوارب تقل لاجئين وعدم تحريك ساكن لإنقاذهم.
لكن اللافت يبقى تلك الخطوات الحثيثة التي تتخذها دول الجوار المباشر، لا سيما لبنان وتركيا، للدفع بالعدد الأكبر من السوريين للعودة الى بلادهم بينما توضع اللمسات الأخيرة على اتفاقات المناطق الآمنة، على أن يُجنّس من يبقى منهم في تركيا وربما الأردن وفق مؤشرات كثيرة.
ومع الفارق الهائل في ظروف الإقامة والرعاية والحماية التي يحظى بها او يحرم منها السوريون في كلا البلدين، فإن التحشيد الإعلامي والاجتماعي الذي شهده لبنان وبلغ حده الأقصى مع المقتلة الأخيرة، شهدت تركيا ما يشابهه الى حد بعيد من حملات تجييش وتعبئة، تناقلتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وتقول صراحة: «اطردوا السوريين». وترافقت الحملة مع رسائل زعم أصحابها أنها من قبل نافذين في «حزب العدالة والتنمية» تطلب من السوريين عدم التجمع وارتياد الشواطئ أو الأماكن المكتظة، وعدم لفت الانتباه في الأسواق والأماكن العامة، وتفادي الدخول في مشاجرات حتى وإن استدرجوا اليها، في محاولة واضحة لبث الخوف والارتياب. اي باختصار، ضرورة اعتماد التقية سلوكاً عاماً لدرء الأذى. والأدهى أن ذلك كله ترافق مع كلام كثير عن «مؤامرات خارجية» و «فتنة» يسعى الى زرعها «المتربصون» بالشعبين السوري والتركي. وليس سراً أن التضييق الرسمي وشبه الرسمي على السوريين في تركيا بدأ يشتد في الآونة الأخيرة، حيث سحبت استثناءات وتسهيلات كثيرة كانت ممنوحة لهم، ومنعت بعض جمعياتهم من العمل، وبات المقيمون منهم شبه ملزمين باستصدار جوازات سفر من قنصلية بلدهم، فيما «التوقيف الاحترازي» لبعضهم قد يمتد إلى أجل غير مسمى إن لم ينته بالترحيل (غالباً الى السودان). أما الجندرمة فتملك ضوءاً اخضر لإطلاق النار على كل من يحاول اختراق الجدار الحدودي المبني حديثاً بين البلدين، وقد فعلت ذلك عملياً وأسقطت ضحايا غير آسفة. تلك ليست بالطبع حالة شائعة أو عامة، ولكنها تعكس جواً من الاحتقان والنفور الشعبي الذي بات يتردد صداه في مراكز صناعة القرار. فقد اصدرت الخارجية التركية بياناً للتهدئة واعتبار ما يجري «تضخيماً للأحداث لغايات سياسية (...) بما لا يتوافق ومعايير حسن الضيافة ومبدأ الأنصار والمهاجرين»، وذلك عملياً ليس الا اعترافاً ولو جزئياً بمشكلة آخذة في التفاقم، سيما أن جزءاً لا يستهان به من الشعب التركي لا يستهويه الأنصار ولا المهاجرون.
لكن، وفيما علت اصوات سورية تصف لبنان بـ «الخطأ التاريخي والفائض الجغرافي»، وتتوعد اللبنانيين بعودة حكم العسكر فور سقوط نظام الأسد، ترافقت كلها مع استهزاء صريح بالبلد وأهله وتاريخه وكيل الإهانات لجيشه لما كان يفترض أن يمتدح به، أي «ضعفه»، تداعى سوريون مقيمون في تركيا الى حملة تنظيف شواطئ، وإطلاق مبادرات صداقة وأخوّة حيال الشعب التركي وتقديم الاعتذارات عما صدر من بعضهم من سلوكات تنافي العادات والتقاليد المحلية، فبدا أكثر من شرخ في بيئات اللجوء نفسها.
وبين تقية مفرطة هنا واستعلاء متضخم هناك، كلاهما مؤذ وغير ذي طائل، يتخبط اللاجئون بين واقع يومي مؤلم، ومصائر مجهولة ترسم لهم. ففي حين تريد تركيا أن تدفع بهم نحو مناطق «درع الفرات» شمالاً لإقامة حزام عربي يخضع لسيطرتها وفق اتفاقات «المناطق الآمنة»، يريد لبنان الرسمي والشعبي رميهم في فم الأسد وإعادتهم الى بلدات وقرى حدودية على المقلب الآخر من عرسال، والتي كان «حزب الله» سبب تهجيرهم منها وتدمير بيوتهم. والأسوأ والأمرّ أن هؤلاء لن يعيشوا تحت سلطة طرف ثالث وإنما سيضطرون للعودة الى كنف جلادهم، في مناطق تخضع إما لسيطرة «حزب الله» في شكل مباشر أو توضع تحت النفوذ الإيراني كما هي حال حمص.
وعليه، لن يبقى أمام اللبنانيين والسوريين على السواء إلا الإذعان للعودة إلى ما قبل 2011 وإن بصيغة أكثر عنفاً وقهراً. أما عن ذلك القانون الذي يفرض ألا يُعاد اللاجئ إلى أرض تهدد حياته او حريته، فالضمانة تأتي على شكل اتفاقات «مناطق آمنة»، وأخرى «يُخفّض فيها التصعيد»!
في ديار الله الواسعة يهيم السوريّ. لكنّه في معظم تلك الديار يقاسي ويتألّم كما لو أنّ الدنيا هي الوحشة أو الغاب أو المتاهة. في تغريبته هذه، وفي معاناتها، قد يتراءى له أنّ العالم لم يعرف ذات مرّة التنوير وصعود النزعة الإنسانيّة. أنّ هذا العالم لا يعيش راهناً زمن التواصل والاتّصال. بل قد يتراءى له أنّ أحداً لم يحبّ أحداً في هذا الكون، وأنّ أحداً لم يُهدِ أحداً وردة أو شيئاً جميلاً. الناس لا يتبادلون بينهم إلّا السمّ. هكذا هي الحياة.
حقّاً، هناك الكثير ممّا يُغري السوريّ بأن يكفر بالعالم.
من لبنان إلى تركيّا، تواجهه المِحن التي ترقى إلى سويّة الوجود نفسه. الجدران تُرفع في وجهه. الأسوار تُسوِّر إقامته وإقامة أهله. فوق هذا، تُلقى عليه مسؤوليّة الأزمات في تلك البلدان، علماً أنّ تلك البلدان، جلّها إن لم يكن كلّها، مرادفات للأزمة وبيوت للاستحالة...
في البرّ الأقرب والأبعد، تشحذ القوى المتعصّبة نصلها على عنقه. في البحر، ومع رفاق آخرين من بلدان منكوبة كبلده، يحاول الوصول إلى يابسة يدرك أنّها سوف تعامله باللؤم والقسوة. مع هذا، يناضل كي يبلغ تلك اليابسة اللئيمة، فقط كي لا يموت غرقاً كما مات آخرون!
السوريّ إذاً تواجهه خيارات من نوع تفضيل المهانة على الموت أو تفضيل الموت على المهانة!
شامُه وحلبه وراءه، وكذلك أريافه وحقوله المحروقة وبيوته المهدّمة، ووراءه أيضاً وجوه أحبّة قضوا أو أُعطبوا أو خُطفوا أو يئنّون في الزنازين تحت الأرض. أمّا أمامه، فوق هذه الأرض، فوجوهٌ كالحة وسياسات عديمة الرحمة وأسماء مدن وعواصم تقرّر له. تقرّر عنه. «تطمئنه» إلى أنّها سوف تكتب له تاريخاً لا يستند إلى جغرافيا، وأنّها سوف ترسم له مستقبلاً يعالج ماضيه بالنسيان.
لكنّ السوريّ وقد جُعل «الآخرَ المطلق» لكثيرين، بات مِعلماً في تحقيب الزمن، بل المِعلم الأوّل للقرن الحادي والعشرين. سيقال: عشنا المحنة السوريّة ولم نفعل شيئاً، أو لم نفعل إلّا القليل، تماماً كما قال كثيرون ممّن عاصروا المحن الكبرى للقرن العشرين. وهو يغدو معياراً للقياس، لقياس الأنظمة: أيّها أخلاقيٌّ وأيّها عديم الأخلاق. لكنْ، أيضاً لمحاكمة أخلاق الشعوب وما تقوله في مديح ذاتها. إنّ السوريّ اليوم يمتحن طاقة الشعوب على تقبّل أن يكون الجار «إنساناً حلّت عليه اللعنة»، إنساناً يُستثنى من ضمانات القانون من دون أن يُستثنى من عقوباته.
في هذه المعاني، يلوح السوريّ، المهيض الجناح، قوّة جبّارة.
وإذا صحّ أنّ فقر الأخلاق يستدعي ذريعته، صحّ أنّ الذريعة تملك اليوم اسماً: مساواته بـ «داعش» و «النصرة». هكذا يُرسَم، هو الأعزل، مسلّحاً. هكذا يصير من الجائز أن يُعامَل كإرهابيّ خطير. أن يموت كما تموت الحشرات.
تصنيع السوريّ كإرهابيّ وظيفةٌ مطلوبة بأكثر من معنى. جعله ذاك الغجريّ الخطر، لا الغجريّ المألوف والمزعج، أمر يخدم أغراضاً عدّة. إنّه، في زمن الثورات المضادّة والقمع الذي ينقضّ في بلدان ويتأهّب للانقضاض في بلدان أخرى، يُجعل رائزاً وتمريناً. قسوة الأنظمة يمتحنونها عليه وبه يختبرون أشكال المقاومة كي يطبّقوا على شعوبهم ما اختبروه. والسوريّ، عند حكّام يومنا، وعند حاكمه خصوصاً، عبرة ينبغي أن يُعتبر بها: يريد الحرّيّة؟ فليتعلّم، إذاً، وليتعلّم الآخرون، أنّ البقاء على قيد الحياة هو وحده الهدف الممكن والمعقول. السوريّ لا يتعلّم. نحن أيضاً لا نتعلّم.
ولأنّنا كذلك، فإنّ معاييرنا تناهض معاييرهم. وستبقى تناهضها. وأوّل تلك المعايير أنّنا معه، مع السوريّ، ضدّ أشياء كثيرة جدّاً وبشعة جدّاً جدّاً.