يحتل مسلحون لبنانيون منذ سنوات عديدة مساحات من أراضي «الجمهورية العربية السورية» لا تقل عن مساحة لبنان.
اعتبر ذلك خرقاً لإجماع لبناني وقع في القصر الجمهوري، بتحييد البلد عن التدخل في نزاعات البلد المجاور، وأوجد الخلفية التي تقف وراء الشلل في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي فترة الفراغ الحكومي بعد استقالته في اذار 2013 (حيث لم يتح لخلفه تمام سلام تشكيل حكومته الا بعد احد عشر شهرا من تكليفه)، ثم الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان.
واذا كانت «قوى 14 اذار» ، كما كانت لا تزال تتسمى الى ذلك الوقت، قد رفضت في البدء المشاركة في نفس الحكومة مع «حزب الله» طالما هو متدخل، بعسكره، في سوريا، فلم يواظب على هذا الموقف عندما تشكلت حكومة الرئيس تمام سلام (شباط 2014) سوى «القوات اللبنانية»، التي عادت وبنتيجة طبيعة التقلّبات اللبنانية، فتحالفت مع أبرز حليف مسيحي لبناني للنظام السوري و»حزب الله»: العماد ميشال عون.
سلّمت القوى اللبنانية الممانعة أمام هيمنة «حزب الله»، في نهاية الأمر، بتدخله في سوريا كأمر واقع أصبح أكبر من قدرات اللبنانيين ويتطلب قرارا دوليا حاسما. وهذا التدخل للحزب هو من دون أي طلب رسمي من الحكومة السورية الى الحكومة اللبنانية، الأمر الذي يكرّسه احتلالا، بل ان الشعور به كوجود عسكري وطقوسي غريب جاثم على صدور السوريين، وتحديدا في مدينة دمشق، يشترك فيه الموالي للنظام مع المعارض له، بل لا يزال النظام يغذي نفورا دمشقيا عاما بازاء هذه الثقافة الوافدة مع الميليشيات اللبنانية والعراقية والافغانية، الأمر الذي يجد تعبيره المذهبي في حملة وزارة الاوقاف السورية الاخيرة ضد «التشيّع». لا يعني هذا ان الاعتراض اللبناني على التدخل في الحرب السورية قد سحب من التداول، لكنه اعتراض «تشمّع»، وصار أشبه بالتعويذة المضافة الى جملة ما نجح الحزب الموالي لإيران في «تهذيبه»، من شعارات سياسية مناوئة له تحوّلت بمرور الوقت، واختلال الميزان، وشعور الانكسار وانعدام الحيلة أو الانتهازية الصرف، الى مجرد تحفظات رمزية «حتى قدوم الساعة».
والحكومات الغربية: تدين كل ما يقوم به «حزب الله» في الصراع مع اسرائيل، وتمتعض من تجبّره على اللبنانيين الآخرين بالسلاح، لكنها قلما تلتفت الى تدخل الحزب في سوريا. تصنّفه ارهابيا، ولا تعتبره بريئا من هذه التهمة بتجربته المتواصلة في محاربة ما يتوسع فيه هو من «ارهاب تكفيري» في سوريا، ليشمل فصائل متطرفة وأخرى أقل منه تطرفاً، على حد سواء.
والأنظمة العربية: استأثر تدخل الحزب في الخليج واليمن بتصلب الموقف منه. اعتبر ارهابيا على هذا الأساس، وليس لأنه متدخل في الحرب السورية. صحيح ان الحزب له باع في تدريب وتجهيز وأدلجة كوادر الحوثيين، لكن درجة تدخله في سوريا هي في أقل الايمان أعلى من ذلك بكثير.
سوّغ الحزب تدخله، من دون اجماع لبناني، ولا طلب سوري رسمي الى الجانب اللبناني، بأنه ذاهب لحماية مرقد السيدة زينب، ثم لحماية قرى شيعية من الجانب السوري للحدود، ثم لمنع «الارهاب التكفيري» من التمدد نحو لبنان، في نفس الوقت الذي توجه فيه الى الجهاديين اللبنانيين «الذي قد نكون وأنتم مختلفين في تفسير الواجب الجهادي» الى ملاقاته في الملعب السوري، حصرا. وبعد ان طاولت عمليات انتحارية منطقة الضاحية الجنوبية خرج الحزب بصيغة ان هذه العمليات كانت ستكون اكثر ايلاما وفتكا لو تأخر في التدخل بسوريا. التزم الحزب في كل هذه السنوات بالنهج السوري الرسمي في الاحتفاظ بحق الرد بعد كل غارة اسرائيلية تستهدفه، لكنه لم يلتزم بأي حدود لتوغله في الأرض السورية، وبعد ان كان يركز على المناطق القريبة من لبنان، كالقصير ويبرود، توسعت خارطة عملياته الى ريف حمص، وحلب، والبادية.
وكلما زاد الحزب في التوغل، زاد اللبنانيون المخالفون له في التطبع مع «لا حيلتهم» حيال تدخله. في نفس الوقت، قويت نزعة بينهم لفصل هذا التدخل عن نتائج تسبب بها كليا أو جزئيا. فاذا كان اللجوء السوري الى لبنان لا يختزل في تدخل الحزب وحده، لكن هذا التدخل اكثر من اساسي بالنسبة الى اهالي القصير والمناطق السورية في سلسلة جبال لبنان الشرقية. معظم اللاجئين السوريين في مخيمات شرق لبنان هم من «لبنان الداخل» جغرافيا، او «الأنتي ليبانوس» كما سماه الاغريق والرومان، اي السلسلة الممتدة من ريف حمص الى القلمون الى الغوطة الى حرمون. تهجير «لبنانيي الداخل» هؤلاء الى سهل البقاع، يتحمل مسؤولية كبرى فيه تدخل الحزب في المناطق التي كان مسلحو الثورة السورية فيها هم من نسيجها الأهلي بالدرجة الاولى، وليس من «المهاجرين» الجهاديين.
ان لا يكون لدى اللبنانيين قدرة على كف يد «حزب الله» عن سوريا، فهذا شيء، وان يكون بوسعهم فصل قضية اللاجئين السوريين من جهة، وقضية المجموعات المسلحة في جرود عرسال، عن هذا اللجوء فهذه مسألة أخرى. ليس صحيا ابدا ان لا تكون تظاهرة واحدة خرجت في بيروت ضد احتلال لبنانيين – من دون علم حكومة بلادهم رسميا رغم مشاركة حزب التدخل في الحكومة، للأراضي السورية.
لكن ما هو مرضي بحق، هو افتعال الكبرياء، للتعتيم على الشروط الاولية للسيادة الوطنية والحد الادنى من الالتزام بحقوق الانسان المنصوصة دستوراً: كبرياء الذين لا يترددون في قذف كل من يخالفهم الرأي في موضوع اللاجئين، بأنه «داعشي»، في مفارقة يصبح فيها الدواعش، بهذا الاتهام الاعتباطي، حركة علمانية عابرة للطوائف في لبنان، في مقابل عنتريات عنصرية وطائفية لنعامات تخفي رأسها في الرمل، لا تريد ان ترى الى واقعة أساسية، كواقعة تدخل الحزب في سوريا، الا كاختلاف في الاجتهاد أو كضرورة مكروهة. بقي ان الحزب لا يعطي المجال للنعامات طول الوقت، فتدخله الوشيك في جرود عرسال، يبعثر الرمال التي تخفي فيها رأسها. وبعد كل الجدل حول دور الجيش واسلوبه، يعود حزب الله ليذكر عمليا بما قاله الشيخ نعيم قاسم لفظيا: اي ان الحزب يخرج من الحرب السورية وقد تحول الى «جيش عظيم»، وبمعادلة «خوشبوشية»: لبنانيون يحتلون عسكريا أحياء من العاصمة السورية، وجيش النظام السوري ‘العائد» الى سهل البقاع.
هل يمثل الاتفاق الروسي/ الأميركي بشأن المناطق مخفضة التصعيد في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء خطوةً نحو تسوية الصراع الدولي والإقليمي في سورية، أم هو جزء من الاحتجاز الدولي القائم منذ ستة أعوام في سورية؟ للجواب على السؤال، علينا ملاحظة التالي:
ـ الاتفاق هو الأول بين الدولتين، لا يشاركهما فيه أحد ولا ينضوي في مساري جنيف وأستانة، فإن تلته خطوات أخرى، كما هو متوقع، كرّس مساراً جديداً، ستتولى واشنطن وموسكو تحريكه، لمصلحتهما حصراً.
ـ بينما رسم الاتفاق خطاً أحمر لإيران بموافقة روسيا في جنوب سورية، وضعت أميركا خطاً أحمر لتركيا شمالها، في تفاهمٍ بين العملاقين على تقليص قدرة الدولتين المعنيتين على تعطيل توافقهما.
ـ خلو الاتفاق من أي دور للنظام والمعارضة، ومن دور عربي، في سياق انفراد الدولتين بما ستقومان به من خطواتٍ، وتحييد الأطراف الأخرى. إذا كان الأردن قد استثني من الاستبعاد، فبسبب مجاورته المنطقة، والحاجة إلى جيشه المدرب الذي سيراقب تنفيذ الاتفاق، ومساحات شاسعة جنوب سورية وشرقها.
ـ أنجز الاتفاق بعد تشكل كيانين، هما الأسدي الذي تنقذه روسيا من الانهيار، وقرارها حاسم فيه، والكردي الذي تدعمه واشنطن، وقرارها مصيري بالنسبة إليه، بينما يجسّد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حالة فراغ وطني، لافتقاره إلى اعتراف داخلي فاعل به، وإلى علاقاتٍ دولية وإقليمية، كعلاقات الأسد بروسيا والكرد بأميركا، والتراجع الخطير في مكانته، وفشله في إقامة أوضاع ذاتية تقنع الدولتين الكبيرتين، بالتفاهم على تطبيق وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن حول الحل السوري. من هنا أهمية الاتفاق على الجنوب، باعتباره أول خطوة مشتركة يقومان بها، غرضها إخراجه من الحرب إلى تهدئة مؤطرة في مشروع سياسي متفق على أسسه بينهما.
ـ منح الاتفاق مناطق خفض التصعيد ضرباً من استقلالية عبر فصلها بقوات أميركية/ روسية / أردنية عن النظام ومرتزقة إيران من جهة، وتمكينها من إدارة شؤونها بواسطة مجالس منتخبة ديمقراطياً، ستديرها بوصفها مناطق خاضعة للمعارضة، تعترف بها الدولتان، ستعالج في مرحلة تالية مشكلات سورية بالتعاون مع النظام. تفرض هذه الحقيقة على "الائتلاف" العمل لإقناع الشعب بانتخاب مجالس وطنية/ ديمقراطية تكون مستقلة، وتتبنّى مشروع الثورة الذي يطالب بالديمقراطية بديلاً وحيداً للأسدية، فإن توحدت وخضعت لقيادة مشتركة، غدت نواة سلطة ديمقراطية لكيانٍ ثالث، وطني ومعارض، مرجعيتها "الائتلاف" الذي يجب الإسراع إلى إصلاح أوضاعه، ليكون قادراً على مواجهة ما سيعترضها من صعوباتٍ كبيرة ومتنوعة. هل يبدأ "الائتلاف" بتركيز جهوده على خطط عملية، تهدف إلى إيصال وطنيين إلى المجالس، يوحّدهم برنامج سياسي مشترك يوضع لها، تصير معه جهة وطنية فاعلة تسهم، من موقع طليعي، بتمثيل شعبٍ قرّر التخلص من الأسد ونيل الحرية.
ـ بهذه المعاني، يمثل الاتفاق خطوة مهمة، سيقضي الوقوف ضدها على "الائتلاف" ممثلاً معترفاً به للسوريين. ولو كان صاحبا الاتفاق عازميْن علي تقسيم سورية، لما كان باستطاعة أحد إرغامهما على إقامة مجالس ديمقراطية منتخبة، هي سلطة موازية للأسد، بديله له في مناطقها.
أجيب الآن على سؤال البداية: نعم، سيخدم الاتفاق شعبنا السوري، إن تم التعامل معه فرصة جدية، لا شيء يمنعنا من دفعها في الاتجاه الذي نريده سياسياً اليوم، وتفاوضياً غداً، إلا إذا تمسّكنا بأوهامنا حول انتصارٍ صار في متناول أيدينا، وقدرتنا على تحقيق أهدافنا عبر خطوة واحدةٍ حاسمة، وتركنا المجالس للمذهبيين الذين دمروا الثورة لصالح النظام، وبدأت عناصرهم بالتشبيح في الجنوب، حيث قرّرت فرض "رسوم جمركية" على شاحنات نقل الخضار من حوران إلى دمشق، وعندما اعترض السائقون عليها، قيل لهم: "عم تدفعوا هونيك وبدكن تدفعوا هون، إذا بدكم تمروا".
بالمجالس الديمقراطية الموحدة، وبانتهاج خط وطني يخدم مصالح جميع السوريين أينما كانوا، سيكون الاتفاق مكسباً للثورة، والمدخل إلى حلٍّ يوقف إبادة شعبنا، ويأخذه تدريجياً، وخطوةً بعد أخرى، إلى الحرية. أما في حال أهمل "الائتلاف" وأطراف العمل الوطني هذه الفرصة، كما فوّتوا غيرها، وبقوا غارقين في النق وبكائيات الرفض، فإن ما ينتطرنا لن يكون فقط تقسيم وطننا الذي تمنعنا أوضاعنا الراهنة من المشاركة في تقرير مصيره، بل زواله من الوجود. عندئذٍ، سيكون الجواب: ليس اتفاق الجنوب، ولن يكون أي اتفاق آخر، لصالحنا، لأننا لا نستحق وطناً نواصل نحره بأيدينا، ونتهم غيرنا بقتله.
1
لم يتعرّض شعب في التاريخ الحديث لما تعرّض له الشعب السوري في الأعوام السبع الماضية. ولم يحصل في أي وقت أن دولةً، بكل ما تملكه من قوةٍ وأجهزةٍ ومؤسسات، انقلبت على شعبها وتحولت من إطارٍ لحمايته وتنظيم شؤونه والدفاع عن مصالحه إلى أداةٍ لقتله بالجملة، وتشريد من أمكن من أبنائه وتجويعه وتقطيع أوصاله، وفتح أبواب بلاده للاحتلالات الأجنبية. ولم يكن من المنتظر، في أسوأ التوقعات الممكنة، أن يحظى نظامٌ سياسي، تخلى عن جميع مسؤولياته السياسية والأمنية، وانتهك، بشكل فاضح، وخلال سنوات طويلة، كل مواثيق الحرب الدولية وحقوق الإنسان، تجاه شعبه نفسه، وفي مقدمها الحق الأول في الحياة، واستخدم من دون رادع جميع أسلحة الدمار الشامل، بما فيها الأسلحة الكيميائية، بما حظي به نظام الأسد من الدعم العلني والواسع من مجموعةٍ واسعة من الدول المهمة. ولم يجد أي نظامٍ دموي في التاريخ الحديث من يدافع عنه، ويبرّر جرائمه الوحشية، ويتعاطف مع الجلاد ضد الضحية، من الأنظمة والمثقفين والسياسيين والصحفيين والفنانين، ما وجده في عصرٍ اعتقد الجميع أنه مثل نهاية الحرب الباردة، وفتح الأبواب أمام تعميم قيم الحرية والديمقراطية.
ولم يظهر المجتمع الدولي الذي قامت مؤسساته لما بعد الحرب العالمية الثانية على مبادئ حفظ الأمن والسلام الدوليين، والحيلولة دون العودة إلى نظام العنصرية، وتبرير المذابح الجماعية وجرائم الإبادة العرقية أو الدينية، وتمكين الشعوب من حقها في تقرير مصيرها، تحللا من التزاماته القانونية والأخلاقية، في أي حقبةٍ سابقةٍ، كما أظهره إزاء الانتهاكات والارتكابات الشاملة والمستمرة لحقوق الشعب وحقوق الإنسان، حقوق الفرد والجماعة التي حصلت، ولا تزال تحصل، منذ سنوات، على يد الطغمة الحاكمة في دمشق.
ولم يظفر أي مجرمٍ في التاريخ الحديث بمن يبرّر جرائمه، ويزيّن أعماله له ولغيره، ويدعو إلى تأهيل القاتل، وتمكينه من شعبه، كما ظفر الأسد ونظامه. ولم يظهر الرأي العام الدولي تواطؤا مع قاتلٍ، أجمعت المنظمات الإنسانية والحقوقية على ضرورة تقديم ملفه للعدالة الدولية، واتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما أظهره أمام نظامٍ لم يتوقف عن التأكيد على تصميمه على الاستمرار في إبادة "شعبه"، وإخضاعه بالحديد والنار لشهواته وإرادته. ولا تكاد تكون هناك سابقةٌ في العالم على الغياب الكامل لأي رد فعل، رسمي أو شعبي، وانعدامٍ كامل للتضامن الإنساني، أمام صور ألوف البشر، من الاطفال والنساء والشباب والشيوخ، الذين قضوا تحت التعذيب حتى الموت، وأؤلئك الذين ماتوا خنقا بالأسلحة الكيميائية، أو تحت أنقاض المنازل والملاجئ المستهدفة بالبراميل المتفجرة، كما حصل مع جرائم الحرب الدائرة في سورية منذ سنوات. ولم يعامل احتلالٌ لبلد آخر بالتساهل، إن لم نقل بالتعاطف، ولم يحصل استهتار بمبدأ السيادة وحرمة الدم، وشرعنة لغزو المليشيات الطائفية، وإقامة للقواعد العسكرية في أراضي الغير، كما حظي به الاحتلال الإيراني والروسي للأراضي السورية.
بالتأكيد، ليست المذبحة السورية الأولى في التاريخ القديم أو الحديث، فقد سبقتها مذابح وحروب تطهير عرقي وإبادة جماعية في أكثر من منطقة، حتى بعد الحرب العالمية الثانية، لا تقلّ دمويةً عما شهده السوريون، مرت من دون أي محاسبةٍ أو عقاب. لكن ما يميز حرب التطهير العنصري السورية أنها لم تحصل في غفلةٍ من الرأي العام العالمي، ولكنها تكاد تجري مباشرة على الشاشات، في كل مراحلها وتفاصيلها. وربما لم تحظ حربٌ بالقدر الهائل من التصوير ونقل المعلومة ومعرفة الجناة والضحايا، أي بهذه الشفافية و"المعروضية"، كما حظيت المحنة السورية. فقد مرّت حروب الإبادة الجماعية السابقة جميعا من دون إعلام واسع، أي قبل الثورة المعلوماتية، ونجح مرتكبوها في إخفاء صورها الأليمة عن الرأي العام، كما أنها حصلت في عالمٍ لم يكن على الدرجة التي يعرفها اليوم من التواصل والتفاعل والاندماج.
2
حتى الحرب السورية، كان هناك افتراض واسع الانتشار بأن المجازر الكبرى التي شهدتها المعمورة في القرن الماضي حصلت لأن مرتكبيها نجحوا في إبقائها بعيدةً عن الأنظار، ونشأ شعور واسع، في المقابل، بأن مثل هذه المجازر لن يكون حدوثها ممكناً في عالم ثورة المعلومات، وأن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية مشاهد المذابح الواسعة، من دون أن يتدخل أو يسعى إلى وقفها. ونشأ عن ذلك اعتقادٌ لدى الناشطين السوريين الذين كانوا يتعرّضون للقتل المنهجي واليومي أن خلاصهم يكمن في التوثيق اليومي، بالصوت والصورة، لكل ما يحصل من مجازر، حتى صارت وظيفة الإعلام الأبرز بين وظائف نشطاء الثورة جميعها، وهذا ما حوّل الناشطين الإعلاميين من الشباب إلى هدفٍ أول لرصاص النظام. وبانعدام وسائل أخرى لمواجهة عنف السلطة، راهن السوريون على تعبئة الرأي العام الدولي، وتمسّكوا بأمل أن يثير النشر الواسع لصور المأساة ومشاهد العنف الوحشي للنظام رد فعل عالمياً قوياً، ويبعث ديناميات التضامن مع الشعب المذبوح. كان شعارهم غير المنطوق به: لا يمكن للعالم أن يقول إنه لا يعرف كما حصل مع المذابح السابقة. اليوم نحن نقدّم يوميا، بالصور والأرقام، الأدلة القاطعة على ما يجري من انتهاكاتٍ غير مسبوقة لحقوق الشعب والأفراد. أدلة على القتل والتمثيل بالجثامين والتجويع والتشريد. لذلك لم تحظ أحداثٌ بالأرشفة اليومية التي حظيت بها الأحداث السورية. حتى ليكاد يكون هناك كل يوم سجلٌ كاملٌ بعدد القتلى والشهداء وأسمائهم وسيرهم، ومكان استشهادهم، وبمشاهد القصف والعنف والإبادة. لم يحظ الموت بسجلٍّ مفصل وجامع ويومي في أي حرب، كما حصل في الحرب السورية.
كان هذا هو الفخ الذي وقع فيه السوريون، ولا يزال أغلبهم، وفي مقدمهم الناشطون، غير متحررين من وهمه بعد، فقد اكتشف السوريون، على حساب أرواح أبنائهم، عدم صحة هذه الفرضية التي تستمد قوتها من الاعتقاد المثلث الخاطئ بأن ما منع العالم من التدخل لوقف المجازر الجماعية في الماضي هو غياب المعلومات أو تغييبها، وأن النزوع إلى الحرية والديمقراطية أصبح مطلبا عالميا وأخلاقيا معا، يوحّد بين جميع الأمم والشعوب، ويشكل مصدراً للتضامن في ما بينها، وأن العالم الذي نعيش فيه ارتقى بثقافته السياسية إلى ما فوق أنانية المصالح القومية، وولد بالتأكيد، في المعمورة المعولمة، ضمير جماعي، يدفع الدول والحكومات والرأي العام إلى العمل لوقف أي مذابح أو جرائم ضد الإنسانية. ما حصل في الحالة السورية أثبت خطأ هذه الافتراضات جميعاً.
فلم يؤثر التوثيق اليومي للأحداث على سلوك الجمهور العالمي، ولا أعارت الدول والحكومات الديمقراطية اهتماماً كبيراً للوثائق الدامغة التي قدّمتها منظمات حقوق الإنسان الدولية عن اتساع دائرة الانتهاكات والقتل بالجملة خارج القانون، والموت تحت التعذيب، أو في حصار التجويع وتحت قصف القنابل العمياء، أو حتى بالأسلحة الكيماوية والعنقودية المحرّمة. ولم يُحدث نشر هذه الوثائق والصور أي تغييرٍ في مواقف الدول المؤثرة، ولم يجعلها تتقدّم خطوةً عما كانت تفعله في أول أيام اندلاع الأحداث. وربما أكثر مما حصل في أي أحداث دولية كبيرة سابقة، لم يسد منطق المصالح الوطنية حسابات الدول الكبرى والصغرى على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية، كما ساد في الحالة السورية. ولم تشهد الساحة الدولية تظاهرةً مهمة واحدةً لإدانة القتل والضغط على الحكومات، لوقف المذبحة السورية المستمرة منذ سنوات. منذ البداية وحتى الآن، لم تغيّر الحكومات المعنية بالأحداث رؤيتها للمسألة وللمعادلة الأساسية التي توافقت عليها ضمنا منذ الأيام الأولى: معادلة لا غالب ولا مغلوب، والتي لا تعني شيئا آخر سوى مساواة الجلاد بالضحية، وشرعنة استمرار الحرب، والقبول بفكرة استمرار القتل والإبادة.
3
ظهرت معالم هذا الواقع واضحةً منذ إفشال النظام أول مسعىً دولي لطرح حل للمشكلة، والرد الباهت للمجتمع الدولي على إخفاق مؤتمر جنيف الأول الذي عقد في فبراير/ شباط 2012، لتطبيق المبادرة العربية الدولية التي لخصها كوفي أنان في ست نقاط، أبرزها وقف النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن، والسماح بدخول المساعدات الإغاثية، والبدء بإطلاق سراح المعتقلين، والبدء بمفاوضات الانتقال السياسي. وقد حاول بعضنا الهرب من مواجهة هذه الحقيقة التي سوف تتأكد أكثر مع الوقت، بافتعال قضيتين ثانويتين، والتذرّع بهما، هما غياب وحدة المعارضة، وفي ما بعد تسليح الثورة وأسلمتها. وساعدت الذريعتان على الإبقاء على وهم الرهان على تحريك المجتمع الدولي، وتدخله الإنساني أو السياسي قويا عند الأغلبية الساحقة من جمهور الثورة والرأي العام. وزاد من قوة هذا الاعتقاد أيضا عزلة موسكو في استخدامها حق الاعتراض في مجلس الأمن، حتى تقلصت خطة العمل السياسي الثوري بمجموعه تقريبا إلى البحث في وسائل ثني روسيا عن موقفها المعارض اتخاذ أي قرارٍ يفرض على النظام التحرّك في اتجاه الانتقال السياسي، أو يمكن، أقل من ذلك، من تشكيل ضغط قوي على النظام السوري. وشيئا فشيئا، وجدت الدول الصديقة، أو التي أعلنت عزمها على مناصرة القضية السورية، في اعتراض موسكو وتعطيلها مجلس الأمن أفضل ذريعةٍ لتبرير تقاعسها ورفضها الانخراط أو التورّط في أي خطوةٍ عمليةٍ للضغط على النظام، أو ثنيه عن سياساته الدموية.
هكذا اكتملت شروط المجزرة، وصار من الممكن للنظام السوري أن يستمر في قتل شعبه وتشريده وتدمير شروط حياته، بشكل علني ومنهجي. ومع سبق الإصرار أمام صمت العالم، وعطالة حكوماته، ورأيه العام معا. وفي المحصلة النهائية، قبول الجميع واستسلامه لما يحصل. ولم يعد لعرض مشاهد العنف المروّعة وتوثيقها أي أثر إيجابي على سياسات الدول والحكومات. بل تحولت القضية بسرعةٍ من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتركّز الحديث فيها في مسائل الإغاثة ومساعدة اللاجئين واستقبالهم هنا وهناك، وترك الفاعل الرئيسي وموقد الفتنة والنار حرا طليقا، وصرف النظر عن تسليحه، وتعزيز قدراته من حلفائه. ومع مرور الوقت، لم يعد القتل الجماعي والتنكيل بالناس وتشريد الملايين وقتل الأطفال يثير أي رد فعل، أو حتى اعتراضٍ، من المجتمع الدولي. بل إن الصور والفيديوهات التي لا تحصى التي عرضت على شاشات العالم حوّلت حرب الإبادة إلى ما يشبه التمثيلية التي يلعبها أشخاصٌ مجهولون على مسرحٍ مفتوح على مستوى العالم، وحولت القتلة والضحايا ممثلين في تراجيديا يونانية، وساعدت في تخدير مشاعر الجمهور وتبليده، بدل أن تدفعه إلى التحرّك والوقوف في وجه مأساة حقيقية.
لم تكن هناك إرادة سياسية دولية لوقف الجريمة. لذلك، لم تكن هناك أيضاً مصلحة في إعطاء الصورة والشهادة الحية معنىً وتحويلها إلى فعل أو رد فعل على العنف المتصاعد. فما منع الرأي العام في حروب التطهير العرقي السابقة من التحرّك، حتى في أوروبا الوسطى سنوات طويلة، ليس عدم المعرفة الصحيحة بما يجري، ولا تعقيد الوضع، كما كان يقال بالنسبة للحالة السورية، وفي الواقع في جميع حالات الصراع، وإنما الاعتقاد بغياب المصلحة في وقف الحرب، وربما المصلحة في تسعير نارها، وتوسيع دائرة انتشارها. وهو موقفٌ نابعٌ من أمور مختلفة أهمها المراهنة على إمكانية الاستفادة من حروب الآخرين لتأمين مصالح أو ما يعتقد أنه مصالح قومية أو خاصة، بصرف النظر عن مصير الضحايا، وهو ما يندرج تحت بند الأنانية القومية، ومنها الخوف من التورّط في حروبٍ لا تنجم عن المشاركة فيها مصالح واضحة، وقد يترتب على هذه المشاركة خسائر ينبغي تجنبها، ومنها عدم الرغبة في تقديم تضحياتٍ لإنقاذ شعبٍ لا يثير مصيره التعاطف، أو لا يحظى بالثقة، إما بسبب ثقافته أو ديانته أو الإرث السلبي من العلاقات التاريخية.
كل هذه العوامل والمصالح المباشرة وغير المباشرة تفسّر ما ينبغي أن نسميه التواطؤ الدولي على تمرير المذبحة السورية، وهو تواطؤ يعكس، لدى جميع الأطراف التي التزمت الصمت على الجرائم ضد الإنسانية أن السياسة الدولية شهدت عودة ما يسمى مذهب الواقعية السياسية، أي البحث عن تعظيم المصالح لكل دولة، مهما كان الثمن، وخارج أي اعتبار أخلاقي أو سياسي، وبصرف النظر عن مصير العالم ككل، وشعوبه الضعيفة خصوصاً، إلى حقل العلاقات الدولية. وهذا يعني تحرير منطق القوة من أي قيد، وتحويل العالم إلى غابةٍ يفترس فيها القوي الضعيف، ويعني، في ما وراء ذلك، شرعنة الحرب الدائمة على حساب حلم إقامة سلامٍ عالميٍّ، وتعاون ناجع بين جميع الدول والشعوب من أجل التنمية، وتحسين فرص التقدم الشامل الذي راود المجتمع الدولي، بعد كوارث الحرب العالمية الثانية.
والقصد من ذلك أن كوننا ضحايا التحولات العميقة التي تحصل على مستوى ديناميات العلاقات الدولية لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاستسلام لموقف الضحية، والغرق في الندب والشكوى، وإنما بالعكس إلى استعادة زمام المبادرة، وتحمل مسؤولياتنا تجاه شعوبنا. وبدل أن تقودنا خيبتنا من المجتمع الدولي إلى قبول الحلول الخادعة والعرجاء التي يقدّمها لنا أصحاب الانتداب الجديد، علينا أن نعود إلى تلمس إمكانية تفعيل نوابض القوة المادية والمعنوية في مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز فرص الحلول الداخلية، وربما البدء بتكوين لجنة اتصالٍ وطنية، مهمتها القيام بالمشاورات الأولية لاستكشاف إمكانية فتح حوار وطني منتج، على مستوى المجتمع المدني، يمهد في المستقبل لبناء تفاهمات والإعداد لعهد وطني جديد، يختم حقبة الحرب، ويؤسس لحقبة ما بعد الأسد وإنهاء التدخلات والاحتلالات الأجنبية جميعا. وربما وجدنا في هذا المسار، بعد معاناة الجميع من ويلات الحروب الداخلية والخارجية المهولة، ونهاية مشروع إيران وقرب التخلص من "داعش"، فرصا جديدة لإعادة التواصل بين أطياف المجتمع المختلفة، وبدء الخطوة الأولى على طريق التحرّر من وهم الحلول الخارجية، والعودة إلى منطق التفاهم الداخلي والحوار الوطني.
"سيف الفرات"، هو العنوان الذي أطلقته الصحافة التركية على العملية العسكرية التي يستعد لها الجيش التركي، بعد أن حشد قواته في الطرف المقابل لعفرين وإدلب، وسط قصف مدفعي لمواقع وحدات حماية الشعب الكردية في ريف عفرين. ولعل السؤال هنا هو: لماذا عفرين؟
على الرغم من أن عفرين معزولة جغرافيا عن باقي الكانتونات الكردية في سورية (كوباني – عين العرب والجزيرة)، إلا أنها تحتل أهمية استراتيجية كبيرة في المشروعين، الكردي والتركي معا، فكرديا تشكل عفرين الجسر الجغرافي لوصل المناطق الكردية بالبحر، إذا ما أتيحت الظروف للمشروع الكردي للتقدّم. وفي الوقت نفسه، فإن المشروع التركي هو منع تحقق هذا المشروع، نظرا لأن من شأن تحقيقه خروج الأمور عن السيطرة، وتشكل مقومات الكيان الكردي، وربما تصبح الفيدرالية على طاولة تسوية الأزمة السورية. وعليه، فإن مصير عفرين يقع في صلب الصراع الجاري في الشمال السوري في المرحلة المقبلة، لكن الثابت أن استراتيجية تركيا تجاه عفرين تتجاوز البعد الكردي إلى استراتيجيةٍ شاملةٍ لمستقبل الشمال السوري الذي بات في صلب الأمن القومي التركي.
ترى تركيا التي خرجت من حلب خالية الوفاض، لصالح النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، أن عملية درع الفرات لم تحقق هدفها الأساسي، طالما أن منبج، ومعها مثلث الشيخ عيسى وتل رفعت واقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية، إذ قد يتيح هذا الوضع الجغرافي في ظروف مرحلة ما بعد تحرير الرقة من "داعش" تحرك هذه القوات باتجاه عفرين، لوصلها بالكانتونات الكردية. وتشعر تركيا، التي أبعدت من معركة تحرير الرقة بقرار أميركي، بقلق شديد من أن مواصلة واشنطن دعمها العسكري للكرد ربما يشجعهم في المرحلة المقبلة على توسيع نفوذهم. وعليه، ربما ترى أن كلفة الانتظار باتت أكبر من كلفة عملية عسكرية استباقية تقطع الطريق أمام المشروع الكردي نهائيا. وعليه، فإن الحديث في تركيا ليس عن العملية، بل عن عمقها ومداها ومراحلها، على نحو: هل تستهدف عفرين فقط أم أنها قد تصل إلى إدلب؟ في الحديث عن السيناريوهات المطروحة، ثمّة من يتحدّث عن توسيع نفوذ عملية درع الفرات، بحيث تصل إلى منبج، على اعتبار أنها تشكل جسر التحرّك الكردي القادم. ومن دون ذلك، فإن عملية درع الفرات تبقى مهدّدة، ويبقى المشروع الكردي قابلا للتقدّم على الأرض في المرحلة المقبلة.
أبعد من منبج، يرى بعضهم أن عفرين تبقى الهدف، طالما أن السيطرة عليها وضرب نفوذ حزب العمال الكردستاني وحليفه السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي، هناك تشكل الضمانة الحقيقية للأمن القومي التركي. وأبعد من عفرين، ثمّة من يرى في تركيا أن الظروف السياسية والميدانية باتت مواتيةً لتحرّك أوسع، وأن الحماس التركي – الروسي للاتفاق على التفاهم في إطار اتفاق المناطق المنخفضة التوتر، قد ينتج تفاهما أوسع، يصل إلى رسم مصير محافظة إدلب، وخصوصا أن الطرفين منزعجان من موقف الكرد وتحالفهم مع الإدارة الأميركية. وبالتالي، فان إمكانية التفاهم على عملية عسكرية تركية في عفرين، مرحلة أولى، قد تفضي إلى اتفاق أوسع للتحرك معا نحو إدلب للقضاء على نفوذ "القاعدة" وباقي التنظيمات المتشدّدة في هذه المنطقة، وحماية الهدنة وفق اتفاق أستانة.
أمام هذا الواقع، ربما لا ترى تركيا أن هناك مشكلة مع روسيا في التوصل إلى تفاهماتٍ مدروسة، في حين أن المشكلة الأساسية هي مع الجانب الأميركي الداعم لقوات سورية الديمقراطية، ولعل التحدّي هنا، هو كيف ستتعامل تركيا مع الموقف الأميركي، ولا سيما في ظل التأكيدات الأميركية على مواصلة دعم الكرد بالسلاح.
يبقى القول إن بين قيام تركيا بعملية عسكرية وممارسة الضغط السياسي والعسكري حسابات متداخلة، تختلط فيها حسابات الميدان بسياسات الدول المعنية بالأزمة السورية ومواقفها وحساباتها.
«الذي يُهادن الطغاة هو كمَن يطعم تمساحاً بأمل أن يكون آخر ضحاياه» (وينستون تشرتشل)
في الذكرى السنوية الثانية للاتفاق النووي الإيراني، سنخطئ جداً إذا ظننا - ولو للحظة - أن «مهندسي» سياسة باراك أوباما، القائمة على تسليم مفاتيح الشرق الأوسط لحكام طهران، يشعرون بالندم.
إطلاقاً.
«الزمرة» المحيطة بأوباما، التي أطلقت يد الحرس الثوري الإيراني في المشرق العربي عندما كانت مولجة بصوغ سياساته الإقليمية، سعيدة جداً بما «أنجزته» على الرغم من «اعترافها» بأن الاتفاق النووي «لم يغيّر سلوكيات» الملالي.
بالأمس، تكرّم علينا روبرت مالي، أحد أبرز هؤلاء، بتغريد مقالة تشارك في كتابتها زميلٌ له في «الزمرة» فيليب غوردن مع ريتشارد نيفيو - الباحث والخبير بالملف النووي الإيراني بين 2011 و2013 - في مجلة «ذي أتلانتيك».
مالي، «التقدمي» المُعجب بـ«حزب الله» اللبناني وحكام إيران والكاره لـ«المحافظين» العرب، كتب في تغريدته الكلمات التالية: «لماذا حقّقت الصفقة الإيرانية مبتغاها، ولماذا منتقدوها مخطئون؟». أما غوردن ونيفيو فلقد اختارا عنواناً لمقالتهما «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».
في المقالة كتب غوردن ونيفيو، حاملَين على انتقادات الرئيس دونالد ترمب وقيادات بارزة في الحزب الجمهوري الأميركي للاتفاق، «في الحقيقة، الصفقة تحقّق تماماً ما كان مقصوداً منها: منع إيران من الحصول على كميات كافية من المواد الانشطارية الكافية لصنع سلاح نووي، والتبيان للجمهور الإيراني منافع التعاون مع المجتمع الدولي، وشراء مزيد من الوقت كافٍ لحدوث تغييرات محتملة بالوضع السياسي في إيران وسياساتها الخارجية».
وتابع الكاتبان: «الذين توقعوا أن تُحدث الصفقة تغيّراً فورياً في جدول أعمال إيران الإقليمي، أو زعموا أنه لو أصرّت أميركا وشريكاتها على تغيّر كهذا أثناء المفاوضات لحدث التغيّر، فإنهم يجهلون ما بمقدور العقوبات والضغوط الدبلوماسية فعله. ومن واقع انخراطنا العميق بالعملية التفاوضية، فإننا نعتقد أنه من الأهمية بمكان توضيح الغاية، والفوائد الطويلة الأمد، والحدود الحتمية لما يمكن للاتفاق تحقيقه».
إلى أن يخلص الكاتبان إلى القول: «ما أنجزته الصفقة، على الأقل خلال العَقد المقبل، هو إزالة أي تهديد واقعي قصير الأمد بتطوير إيران أسلحة نووية. على الولايات المتحدة استغلال هذا العَقد بحكمة: مواجهة التجاوزات الإيرانية ومعاقبتها، ودعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (الشرق الأوسط)، والتوضيح للجمهور الإيراني أن الغرب ليس عدواً له، والتحضير ليوم انتهاء مفعول التضييقات المفروضة في الصفقة. ومن ثم، إذا لم تثبت إيران بحلول 2030 أن برنامجها ذو غايات سلمية بحتة، وأنها مستعدة للعيش بسلام مع جيرانها، سيترتّب إذ ذاك على الولايات المتحدة وشريكاتها اتخاذ قرارات صعبة حول مستقبل هذا الأمر. ولكن بما أن ثمة فرصة بأنه سيكون لإيران قادة مختلفون وسياسات مختلفة - المرشد الأعلى سيكون على الأرجح قد غاب عن المشهد، وسيأتي جيل جديد إلى السلطة - لماذا علينا أخذ تلك القرارات الصعبة الآن؟ لقد اشترت الصفقة مع إيران وقتاً ثميناً، وسيكون من الغباء هدر هذا الوقت في غياب خطة أفضل».
نقطة مهمة ينبغي تذكرها لدى قراءة هذه الكلمات، هي هل كان وارداً في ذهنَي مالي وغوردن، المقرّبين جداً من أوباما ومن هيلاري كلينتون، احتمال خسارة الديمقراطيين معركة البيت الأبيض أمام دونالد ترمب؟ لقد كانت غالبية المعطيات تشير إلى العكس، وكان غوردن مرشحاً للعب دور في إدارة هيلاري لو فازت. ومن ثم، هل كان الديمقراطيون «يُرحِّلون» الأزمة خلال فترة حكم ديمقراطية تالية، لتوريط الجمهوريين باستحقاقاتها الصعبة لاحقاً؟
كما شهدنا في حينه خطّط «ليبراليو» الحزب الديمقراطي «الصفقة» - وفق تعبير غوردن ونيفيو - وقاتلوا من أجلها بعناد. و«الليبراليون» هؤلاء ينقسمون إلى فريقين؛ الأول، يضم «التقدميين الاعتذاريين» المُعجبين بشعارات طهران «الثورية» في وجه عالم عربي «عسكريتاري» أو «محافظ»... وعلى رأس هؤلاء أوباما نفسه. والثاني يضم «أصدقاء إسرائيل» الموثوقين الذين يؤمنون بأن أفضل ضمان لأمن إسرائيل يتمثّل بانشغال دول المنطقة عنها بحروبها الأهلية والدينية والمذهبية.
الظن خيراً بالحكم الإيراني كان في صميم تفكير سيد البيت الأبيض، إذ سبق له وصفه بأنه «ليس انتحارياً». ومصلحة إسرائيل، طبعاً، تظل جزءاً استراتيجياً في حسابات أي إدارة أميركية. في المقابل، مصير المنطقة العربية لم يحتل موقعاً عالياً في حسابات أوباما الذي تراجع عن معظم ما جاء في خطابه التاريخي في القاهرة عام 2009، وبلغ منتهاه بسقوط «الخطوط الحمراء» التي توهّم كثيرون وجودها لمنع نظام بشار الأسد من قتل شعبه بالغازات السامة وغيرها.
منذ تلك «الصفقة» مع إيران تغيّر الكثير في الشرق الأوسط. تغيّر الكثير في كل الشرق الأوسط... إلا في إيران التي شعرت أنها حصلت على «شيك على بياض» لتفعل ما تشاء..
صحيح، حرص وزير الخارجية السابق جون كيري، منذ البداية، على القول إن التفاوض على الاتفاق النووي كان مخصّصاً للاتفاق نفسه، ولا يتطرّق لمسائل أخرى. ولكن كان بين تلك «المسائل الأخرى» عمل الحرس الثوري على احتلال 4 عواصم عربية، وتدمير المدن في سوريا والعراق، وتهجير - أو فرض نزوح - عشرات الملايين من سكان البلدين جُلّهم من العرب السنّة!
ومن المسائل الأخرى أيضاً أن كل أزمات المنطقة اختزلت بـ«الحرب على داعش»... ذلك التنظيم الإرهابي الشَّبَحي المُصطنع، الذي أسهمت سياسات طهران وموسكو و«واشنطن - أوباما» خلال 3 سنوات دامية من الانتفاضة السورية في «فبركته» وتغذيته وتجميع عناصره وإعطائه «المبرّر» الطائفي لوجوده.
كان وجود «داعش» المسوّغ لنشوء «شرق أوسط جديد» كان مطلوباً لإسقاط الكثير مقابل ألا يخلق غير كيانات فاشلة، وأحقاد مذهبية، ووباء من الجهل والتجهيل، وتدمير منظّم للمؤسسات ومعالم الحضارة ومقوّمات الثقافة.
إن العَقد الذي منحه الاتفاق النووي لإيران دفعت ثمنه غالياً منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بما فيها المواطن الإيراني العادي، الذي سلبه متعصبّوه وملاليه و«حرسه» شبكة أمانه وفرص العيش الكريم لأبنائه.
ماذا يعني «مسار آستانة» والاتفاق الذي انبثق منه لإقامة المناطق الأربع «لخفض التصعيد»، وماذا يعني «مسار عمّان» واتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية؟ إنهما نموذجان لإدارة الأزمة بعدما تعب الطرفان المتقاتلان، نظام بشار الأسد وفصائل المعارضة، وبلغا من الضعف ما يسمح للقوى الدولية والإقليمية بأن تقرّر أن سورية المعروفة انتهت، أصبحت مناطق مشرذمة، ولم يعد ممكناً توحيدها ولا حُكمها، وأن المتاح هو تقاسمها مناطق نفوذ في انتظار الظروف المواتية لـ «حلٍّ نهائي» يُفترض أن يفضي الى تقسيمها. ولا شيء يؤكّد أن التقسيم ممكنٌ وعمليٌّ، أو أنه قدرٌ محسوم. والأهم أن شعب سورية (وليس النظام)، على رغم كل الانقسامات، يرفض مثل هذا المصير.
ليس في الغالبية الصامتة، بمَن تضم من موالين ليسوا مع الأسد ومعارضين لا يراهنون على المعارضة، مَن يؤيّد التقسيم أو يسلّم به، بل إن لديهم ايماناً ضمنياً بأن صعوبات ترميم التعايش مهما بلغت تبقى أهون من آلام التجزئة الجغرافية والاجتماعية. كذلك، ليس في المعارضة وأنصار الانتفاضة الشعبية مَن دفعهم هول المآسي، على فظاعاتها، الى اعتبار التقسيم مصيراً يلبي طموحاتهم أو يحقق المستقبل الذي حلموا به. ما يتوافق عليه هؤلاء وأولئك أن دمار الوطن أصاب الجميع، شعباً ودولةً، وأن تقسيمه لا يعوّض خسارات الأفراد والعائلات والطوائف، بل يضاعفها.
الأكيد أنهم متوافقون أيضاً على رفض الأمر الواقع الذي تفرضه القوى الدولية والإقليمية عليهم الآن، وليست لديهم قدرة ولا حلفاء أو «أصدقاء» يعولون عليهم لتفعيل هذا الرفض بموقف «وطني» جامع. فالمعارضة تحاول بشقّ الأنفس الحفاظ على وجودها في آستانة وجنيف، من دون أي قدرة على مقاومة «مناطق النفوذ» وأصحابها. أما النظام، الطائر زهواً بـ «انتصارات» اعتقدها نتيجة لشطارته وتزكيةً لبقائه، فيتبيّن له أكثر فأكثر أنه لم يكن سوى أداة في أيدي حلفائه وأعدائه، حتى أنه يتلهّف اليوم لقنوات مفتوحة مع الولايات المتحدة والسعودية، اعتقاداً منه أن اللعب على التناقضات والتوازنات لا يزال في مستطاعه. لم تمكّنه عقليته السياسية البائسة من إدراك أن حلفاءه عملوا على تقزيم أي قيمة يمكن أن يمثّلها، وأنه بالنسبة اليهم لم يعد سوى ورقة يساومون بها على مصالحهم، وتوشك أن تفقد صلاحيتها. ولعل اللحظة الراهنة الأكثر دلالة الى أنه فاقد «الشرعية»، فميليشياته وأجهزته وشبّيحته لا تؤهّله لأن يكون حاكماً، أما تآمره على شعبه فلا يخوّله استنهاض حال «وطنية» - على افتراض أنها خطرت في باله - ضد الاملاءات الخارجية. لذلك، وحده هذا النظام يجد في التقسيم مآلاً يناسب طائفته ومخرجاً يغطّي عجزه عن إبقاء البلد موحّداً ويعفيه من مواجهة تحدّيات ما بعد الحرب.
في ضوء التقاسم الحاصل راهناً، ودخلت الولايات المتحدة على خطّه من باب التعاون لا التصادم مع روسيا، دخل الصراع السوري مرحلة يقول اللاعبون الرئيسيون فيها إنهم يسعون الى وقف التقاتل، سواء عبر «مسار آستانة» أو «مسار عمّان»، ليتوجّهوا بعدئذ الى «المسار السياسي». وفيما هم يتقاسمون لا يزالون يقولون، باستثناء الإسرائيليين، أنهم يرفضون أي مشاريع لتقسيم سورية. فبعدما استخدموا التقاتل لتمكين النظام هنا وإيران هناك و «داعش» و «القاعدة» هنالك، ولتعجيز المعارضة وإضعافها في كل مكان، استخدموه أيضاً لرسم الخرائط والحدود بين المناطق، هل يمكّنهم وقف التقاتل من استخدام الفوضى التي صنعوها في استنباط «حلّ سياسي» كفيل بعدم زرع أسباب لتجدّد القتال. الأكثر واقعية أنهم، أي الروس والأميركيين والإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، يتنافسون على تقاسم البلد، وليسوا مهتمّين بأي حل سياسي، ويصعب تصوّر أي في ظل هذا التقاسم. ولذلك يُعزى عدم أكتراثهم بـ «مسار جنيف» الى أن التفاوض بين النظام والمعارضة ليس الإطار الذي يُتوقّع منه البحث في التقسيم أو الاتفاق عليه. هذا يفسّر أيضاً لعبة إضاعة الوقت التي يمارسها النظام في المفاوضات، واذا كان انخرط أخيراً في مناقشة «أي دستور للمرحلة الانتقالية» فلأن هذه رغبة موسكو المهتمّة بدسترة تعيد انتاج النظام (من دون الأسد) وبفدرلة تغلّف التقسيم المزمع.
لا وقف حقيقياً للتقاتل، وعدا مواصلة الحرب على «داعش» في دير الزور التي تُوصف بأنها أهم مواقع سيطرته بعد الموصل، سيخوض المتقاسمون المعارك المقبلة لتحريك حدود مناطق النفوذ، توسيعاً أو تضييقاً، فالتقاسم لم يُحسم بعد. لا شك في أن إيران راكمت في الآونة الأخيرة خسائر عدة، بعضٌ منها بفعل الاتفاق الأميركي- الروسي- الأردني في شأن الجنوب الغربي لسورية، وبعضٌ آخر قبله. ولعل هذا الاتفاق أشعر طهران للمرّة الأولى بما عنته واشنطن حين تحدثت عن تقليص نفوذها، إذ إنه يحول دون أن تهاجم باسم «قوات النظام» لاستعادة كامل درعا والاقتراب من حدود الأردن أو لاستعادة كامل القنيطرة لبلوغ الحدود مع إسرائيل. كان هذان الهدفان بالغَي الأهمية في الاستراتيجية الإيرانية، سواء للعبث بأمن الأردن أو بالأخص لإشعال جبهة الجولان.
قبل ذلك، حاول الإيرانيون باسم «قوات النظام» أيضاً السيطرة على معبر التنف، وباسم «الحشد الشعبي» الاستحواذ على معبر القائم - البوكمال، لجعل الحدود العراقية - السورية مفتوحةً لتنقّل ميليشياتها وآلياتها، وتحديداً لتأمين مشاركتها في معركة دير الزور، غير أن الضغط الأميركي على حكومة بغداد أوقف اندفاعها. بل حاولت أيضاً اقحام «قوات النظام» في معركة الرقّة، فأسقط الأميركيون طائرة «سوخوي 22» تابعة للنظام لمنعها من قصف «قوات سورية الديموقراطية»، ما أغضب الروس فأوقفوا التنسيق الجوي ثم أعادوه بعدما اضطرّوا لتفهّم الدوافع. يضاف الى ذلك أن نهاية معركة الموصل، بجهد رئيسي للجيش العراقي وجهازَي مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية، تترافق مع تطورَين: أولهما فرز سياسي حاصل، خصوصاً في البيئة الشيعية المؤيدة لإيران، والآخر طرح مصير ميليشيات «الحشد الشعبي» التي كانت محاربة «داعش» المبرّر المعلن لإنشائها... صحيح أن هذه الوقائع لم تُضعف نفوذ طهران، لكنها تظهر أن ثمة عقبات باتت قائمة أمام تمدّدها، وأن التقارب الروسي - الأميركي سيربك أهدافها ولا بد أن تعمل للتفلّت من قيوده.
المواجهة الأخرى المؤكّدة ستخوضها تركيا لإحباط أي مشروع لدويلة كردية محاذية لحدودها في شمال سورية، أو في أسوأ الأحوال لتكبيل أي كيان كردي بكثير من القيود لمنعه من التحوّل الى دولة. هذه معركة تجمع بين إيران وتركيا وتتجاوز خلافاتهما، بل تجمعهما مع نظام الأسد اذا كان لا يزال مؤثّراً في المعادلات الدولية والإقليمية. لكن روسيا وأميركا تبدوان متوافقتَين على خطوط عامة ومبدئية بالنسبة الى تلبية طموحات الكرد، وتحاولان معاً تهدئة الغضب التركي، من دون أن تقطعا أي تعهّد حاسم لأنقرة، إما لأن توافقهما لم يبتّ الوضع النهائي لما سيكون عليه الكيان الكردي أو لأنهما - خصوصاً الولايات المتحدة - لا يريدان كشف أوراقهما وسط تصدّر الكرد القتال ضد «داعش» في الرقة، ولذلك مثلاً أكّد وزير الدفاع الأميركي أن واشنطن ستستمر في تسليح الكرد حتى بعد تحرير الرقّة ردّاً على الرئيس التركي الذي كشف أن الأميركيين أبلغوه أنهم سيسحبون الأسلحة التي وفّرت لمقاتلي «حزب الاتحاد الديموقراطي» بعد انتهاء الحرب على الإرهاب. والمؤكّد أن تركيا التي عدّلت سياساتها مراراً في إطار تعاملها مع الأزمة السورية، وقدّمت تنازلات كثيرة على حساب فصائل المعارضة، لا تستطيع التنازل أو التهاون في المسألة الكردية.
قد تكون القوى المتقاسمة في صدد إنهاء القتال بأبعاده الداخلية البحتة، لكن المرحلة المقبلة ربما تشهد أغرب حرب بالوكالة تتقاتل فيها الأطراف المحلية لا من أجل استعادة سورية وإعادة حق تقرير المصير للشعب السوري، بل من أجل تحسين حصص الأطراف الخارجية وتعزيز مواقفها التفاوضية في عملية التقسيم. لكن السوريين «بحاجة الى وقف إطلاق شامل للنار وإلى نشر الأمن في سورية كافة، وليس الى اتفاقات تتخذ ذريعة المناطق الآمنة حجة لتقسيم سورية وتناهب أرضها...» على ما يقول بيان هو أولٌ من نوعه ووقّعت عليه عشرات من الشخصيات السورية.
لا شك أن الطواغيت العرب وخاصة الذين صنعوا الدولة على مقاسهم، وسموها بأسمائهم أحياناً كسوريا الأسد مثلاً، ربطوا الدولة كلها بمصير الرئيس والنظام، بحيث إذا انهار النظام يجب أن تنهار معه الدولة كلها، لأن الطاغية العربي يعمل على طريقة لويس الرابع عشر الذي قال يوماً: «أنا الدولة والدولة أنا». إما أن يحكم حتى ينتقل من القصر إلى القبر أو أنه إذا اضطر إلى التخلي عن الحكم تحت ظروف معينة فلا بد من الانتقام من الدولة والشعب معاً بتدمير كل مؤسسات الدولة ومقوماتها كما فعل بشار الأسد في سوريا والقذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن. وقد لاحظنا في سوريا مثلاً أن النظام أوعز لشبيحته ومؤيديه أن يكتبوا على جدران سوريا شعارهم الفاشي الشهير: «الأسد أو نحرق البلد» ليقولوا للسوريين إما أن تقبلوا بحكم الأسد أو أننا نحرق سوريا الدولة والوطن، لا بل نقوم بتهجير الشعب أيضاً. وهذا ما فعلوه عملياً، فقد دمروا أكثر من نصف البلد، وشردوا أكثر من نصف الشعب، وحطموا غالبية البنية التحتية للبلاد بالقصف الممنهج وخاصة عبر البراميل المتفجرة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولا حتى على أيدي النازية والفاشية.
لقد قالها جنرالات سوريون كبار مرات ومرات إنهم لو وجدوا أنفسهم محاصرين داخل دمشق، فسيحرقون العاصمة عن بكرة أبيها. لكن هناك قوى دولية وإقليمية لا يمكن أن تسمح بسقوط الدولة السورية، ليس من أجل عيون السوريين والحفاظ على دولتهم أو ما تبقى منها، بل لأنه ليس من مصلحة قوى إقليمية ودولية كثيرة القضاء على الدولة السورية، فسوريا ليست ليبيا ولا اليمن البعيد عن إسرائيل، بل إن أمن إسرائيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الدولة في الدول المجاورة وخاصة في سوريا. ولوعدنا إلى الوراء سنوات وتابعنا التصريحات الأمريكية تحديداً، لوجدنا أن كبار الاستراتيجيين والمسؤولين الأمريكيين أكدوا مرات ومرات بأنهم لن يسمحوا بسقوط الدولة ولا النظام في سوريا، لكن ليس لأنهم يحبون الشعب السوري ولا يريدونه أن يخسر دولته التي بناها على مدى عقود، بل لأن لا إسرائيل ولا أمريكا يمكن أن تسمح بوجود أفغانستان أو صومال أو ليبيا أخرى على حدود إسرائيل. بعبارة أخرى، فإن الدولة السورية ضرورة وجودية بالنسبة لإسرائيل قبل أن تكون ضرورة للسوريين أو الروس. وقد قالها رامي مخلوف الواجهة الاقتصادية لبشار الأسد في الأسابيع الأولى من الثورة عندما ذكّر إسرائيل بالاتفاق السري بينها وبين نظام الأسد، بأن أمن إسرائيل من أمن النظام. وقد كان مخلوف وقتها صريحاً إلى حد الفضيحة.
ورغم كل ما حصل في سوريا من دمار وخراب إلا أن الأمريكيين والروس والإسرائيليين عملوا المستحيل كي لا تنهار الدولة السورية.
لكن رب ضارة نافعة للسوريين بعد أن شاهدوا ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة كأفغانستان والصومال وليبيا. لا شك أن المصلحة الإسرائيلية والأمريكية بالحفاظ على الدولة السورية صب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب السوري تحديداً، خاصة وأن فصائل المعارضة والجماعات التي تقاتل النظام لا تقل قذارة عن النظام في معاداة الدولة واستهدافها، فكما عمل النظام على تدمير البلد، لم تقصّر فصائل المعارضة في استهداف البنية التحتية ولا حتى البنى الحيوية والاستراتيجية في البلد بحجة إيذاء النظام، مع العلم أن المعارض الوطني يعلم علم اليقين أن الدولة شيء والنظام شيء آخر تماماً، حتى لو حاول النظام أن يربط الدولة بالنظام والحاكم كما فعل النظام السوري عندما أطلق اسم «سوريا الأسد» على سوريا. صحيح أن الدولة السورية ارتبطت منذ عام السبعين بنظام البعث الأسدي، لكن هذا لا يعني أن الدولة السورية صناعة أسدية بعثية، بل هي صناعة سورية وطنية ساهم في بنائها العديد من السوريين العظماء والوطنيين كفارس الخوري وأمثاله من السوريين الشرفاء. بعبارة أخرى، لقد فشل الكثير من المعارضين في التمييز بين الثابت والمتحول، فاستهدفوا الدولة على أنها هي والنظام صنوان، دون أن يعلموا أن النظام متحول والدولة ثابتة بغض النظر من يحكمها. لا بأس أن يستهدفوا النظام وينتقموا منه على اعتبار أنه مجرد عصابة اغتصبت الدولة، لكن من الخطأ الاستراتيجي أن يستهدفوا الدولة على اعتبار أنها هي والنظام شيء واحد، حتى لو بدت ذلك ظاهرياً. ولا شك أن بعض المغرضين من المعارضين تحجج باستهداف النظام كي يؤذي الدولة، فكان يبرر هجومه على مرافق الدولة ومؤسساتها مدعياً أنها أداة في يد النظام.
بكل الأحوال الآن وبعد أن شاهد السوريون ما حل بالبلدان التي سقطت فيها الدولة وتفكك جيشها، عليهم أن يحمدوا ربهم أن الدولة السورية رغم كل الخراب والتدمير الذي لحق بها إلا أنها مازالت موجودة وقابلة للترميم والإصلاح، خاصة وأن قوى المعارضة لم تقدم نموذجاً أفضل من الدولة التعيسة في سوريا. لقد تصرف معظم الفصائل في سوريا في الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب بعقلية العصابات والإقطاعيات والإمارات. وهل ثار السوريون أصلاً على النظام الفاشي ليقسموا بلدهم إلى إمارات ومقاطعات وغنائم بين الفصائل التي تدعي معارضة النظام؟ بالطبع لا. لقد لاحظنا كيف كان كل فصيل يتعامل مع المنطقة التي يسيطر عليها بعقلية العصابة أو الإمارة في أحسن الأحوال على اعتبار أنها غنيمة حرب. وقد شاهدنا أيضاً التناحر الكبير بين تلك الفصائل التي كانت تتنافس على الغنائم دون أي اهتمام ببناء دولة جديدة على أساس المواطنة والكرامة والحرية، أو تقديم نموذج أفضل من نموذج النظام. ولو كان السوريون قد وجدوا خياراً ثالثاً أقرب إلى دولة المواطنة الحديثة فلا شك أنهم كانوا سيركلون ما تبقى من الدولة السورية إلى مزبلة التاريح، لكنهم وجدوا أنفسهم بين بقايا دولة ولا دولة، فاختاروا بقايا الدولة على اللادولة. كم هم سخفاء أولئك الذين يقولون إن الجيش السوري والنظام حافظا على الدولة السورية! لا أبداً، فلو كان الأمر عائداً للنظام وفصائل المعارضة لما تركوا حجراً على حجر في الدولة السورية. وسيذكر التاريخ أن الذي منع سقوط الدولة السورية ليس النظام ولا جيش النظام ولا حتى حلفاء النظام، فالروس تدخلوا في سوريا بضوء أخضر إسرائيلي وأمريكي. ولو كانت سوريا بعيدة عن إسرائيل لسقطت الدولة منذ الشهر الأول. لكن قرب سوريا من اسرائيل منع سقوط الدولة بأمر اسرائيلي، مع الاعتراف طبعاً أن النوع الوحيد من «الدول» الذي يمكن أن تسمح به إسرائيل على حدودها هو نظام القمع والمخابرات والتشبيح ، فهذا النوع من الدول والانظمة هو الذي يحميها من الشعوب منذ نصف قرن.
قبل نصف قرن لم تكن تهمة الإرهاب تعني أنك إسلامي جهادي، بل شيوعيا لأن من عمم مصطلح الإرهاب وجعله مسيسا هو الولايات المتحدة، فهي تصنف الدول والمنظمات حسب درجة عدائها لها.
يمكن ان تكون جزارا وقاتلا كإسرائيل والسيسي، لكنك لست إرهابيا لأنك حليف للولايات المتحدة، بل يمكن ان تكون إسلاميا جهاديا وتحصل على استقبال في البيت الأبيض من ريغان، ومديح من ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، إذا كنت تقاتل اعداءهم، كما حصل مع الفصائل الأفغانية التي قاتلت الروس والشيوعية بالثمانينيات، حين كان الخطر الشيوعي هو الذي يشغل بال الامريكيين لا البعبع الاسلامي. والمفارقة أن الولايات المتحدة تنجح في كثير من الاحيان في الهيمنة على وعي خصومها، وجعلهم في موقف دفاعي عن تهمة مسيسة كالإرهاب، ويشغلون أنفسهم في تبرئة ذواتهم من هذه التهمة وكأنهم يأخذونها على محمل التوصيف الحقيقي، وينقاد الناس بسهولة للتماهي مع النقاش بالتهم الموجهة إليها، ليصبح شغلهم الشاغل نفي تلك الصفة عنهم.
الثورة السورية مثلت أحد الامثلة الحية على هذه القضية في زماننا الراهن، بتركيز جزء كبير من خطابها على نفي الإسلاموية والتشدد الديني، خشية من هذا التصنيف الغربي، بهدف الحصول على دعم الغرب الذي لم يأت. والمفارقة أن مقاربة مشابهة حصلت في سوريا قبل اكثر من نصف قرن، تكشف التلاعب الامريكي بوعي الشعوب بوضعهم دائما في موقع المتهم، ودفعهم بالنتيجة لتبني خطاب ذي أفكار وقيم ترمز للتبعية للغرب، رغبة في كسب رضا القوة العالمية الكبرى، ففي الخمسينيات كانت بعض القوى السياسية في سوريا تسعى لإثبات القطيعة مع الشيوعية عدوة الولايات المتحدة، ولعل ما قادنا لهذا الحديث هو تقرير تم نشره مؤخرا على قناة «بي بي سي» يظهر مراسل القناة وهو يتجول في دمشق نهاية الخمسينيات، ويلتقي عددا من المواطنين في الشارع وبعض السياسيين، يسأل المراسل البريطاني السكان وكأنه محقق: هل أنتم شيوعيون؟ هل تحبون الشيوعية؟ يأتي الجواب سريعا من الاشخاص المحيطين به (لا.. لا.. نحن لا نحب الشيوعية، نحن نحب الرأسمالية). مشهد يذكرنا بحديث مشابه لناشطي الثورة في سوريا لوسائل الإعلام الغربية التي ملت وهي تسألهم هل أنتم إسلاميون؟ وهم يجيبون منذ خمس سنوات آملين أن يجدوا آذانا صاغية (نحن لسنا داعش، نحن وطنيون معتدلون، نحن خرجنا من أجل الحرية والديمقراطية).
ولكن آذان الغرب مع ذلك استمعت لرواية الأسد أكثر منهم، رغم أن خطابه اللفظي مليء بالعداء للغرب ومحو القارة العجوز من الخريطة. الطريف في الامر ان احد الاشخاص في تقرير «بي بي سي» التاريخي، أجاب بطريقة لافتة، إذ قال للمذيع «نحن لسنا شيوعيين لأننا بلد اسلامي» يا لها من مفارقة.. قبل خمسين عاما تتم طمأنة الغربيين (بأننا اسلاميون.. لا تقلقوا). اما اليوم فالاسلاموية اصبحت هي الصفة البديلة للارهاب لا الشيوعية، فحسبما اختلف اعداء امريكا يختلف تعريف الإرهاب، ويختلف بناء عليه خطاب ردات الفعل الذي يغزو عقل الجماهير. أحد رجال الأعمال الذين التقتهم «بي بي سي»، كان جوابه مختلفا كليا، قال إنه يدعم الشيوعية، وانتخب القيادي الشيوعي خالد بكداش، مضيفا «أفضل ان اكون شيوعيا مئة مرة على ان تضيع بلادي بيد اسرائيل، كما حصل مع إخواننا، انتخبت خالد بكداش لأننا مللنا من شرح وضعنا للغربيين». يضحك المذيع البريطاني، فيكمل الرجل «انتخبته للفت انتباه الغربيين اكثر»، لو كان هذا الرجل في زماننا لوصف بالـ»متدعشن».
نصف قرن مضى، والغربيون مستمتعون لحماسة الجماهير العربية بالاصطفاف بالطابور لمنح صكوك البراءة من الإرهاب، وحدهم الذين فهموا اللعبة ونفضوا أيديهم من العم سام، غضبت منهم امريكا، بعضهم تمكنت من تطويقه كما حصل مع الزعيم الفلسطيني الراحل ابو عمار، الذي تحدى وزير الخارجية الامريكي كولن باول، والذي قال له في لقائه الاخير به في المقاطعة في رام الله «سنتركك لمصيرك»، ليموت أبو عمار مسموما، لكنه ظل رمزا خالدا عند شعبه، الذي تعلم منه ربما درسا يقول، إن الذي دعم وأنشأ اسرائيل لا يمكن ان يكون ظهيرا للعرب ضدها.
أما حديثا فإن الذين فهموا اللعبة مبكرا، نجحوا في مناوئة الامريكي بخطاب هجومي مقابل، ومشروع خارج عن الوصاية الامريكية في المنطقة، وتحولوا من عضو في محور للشر وأكبر راع للارهاب، حسب الوصف الامريكي النظري الى شريك حربي في مكافحة الارهاب في العراق وسوريا، يزور السفير الامريكي جرحاه في مستشفيات بغداد ليذكرنا بلوحة لاحد رسامي الكاريكاتير الغربيين، يظهر فيها اوباما يحتضن روحاني، وكلاهما يقول للاخر: «شيطان، لكنه ليس كبير حقا، شرير لكنه ليس إلى ذلك الحد».
ليس واضحاً ما تمخضت عنه القمة الأميركية الروسية الأولى في هامبورغ على هامش قمة العشرين. المعلن هو اتفاق، لم تُنشر تفاصيله، عن إقامة منطقة هدنة في جنوب شرقي سوريا، تشمل القنيطرة ودرعا والسويداء وسفح الجولان امتداداً باتجاه الحدود الأردنية السورية واللبنانية السورية.
الاتفاق، الذي من غير الواضح من سيضمن آليات تطبيقه، أو ما هي الآليات هذه أساساً، هو الثاني بين الدولتين، إذ سبقه في سبتمبر (أيلول) 2016 اتفاق أول بين الكرملين وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما في حلب، كان حصيلة جولات مكوكية بين جون كيري وسيرغي لافروف، طالت 11 شهراً، ليسقط الاتفاق بعد 5 أيام فقط من الإعلان عنه.
ما الجديد؟ يأتي الاتفاق الروسي الأميركي بعد ثلاثة تطورات ميدانية مهمة في سوريا.
الأول تمثل في دخول أميركا مباشرة إلى الميدان السوري بآليات وقوات برية وقوات خاصة في منبج على الحدود السورية العراقية (بالإضافة طبعاً للدخول الميداني المستجد في الرقة). وهو دخول يزعج، بالحد الأدنى، الطريق البري من طهران إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، أو يقفل هذا الطريق الآمن كلياً مبقياً على بديل له هو عبارة عن مسارب متعرجة وطويلة ومكشوفة تستخدمها إيران وتتحكم بها القوة النارية الأميركية عند اللزوم.
التطور الميداني الثاني تمثل في سلسلة ضربات وتحركات عسكرية أمر بها ترمب على امتداد «محور الشغب» في الشرق الأوسط، وهي غارة التوماهوك على مطار الشعيرات في سوريا، ضرب زورق إيراني قبالة سواحل اليمن، رمي «أم القنابل» في أفغانستان لأول مرة في تاريخ الجيش الأميركي، وتحريك قطعات بحرية قبالة سواحل كوريا الشمالية. وفي مؤشر على الاستمرار بسياسة التحفز الأميركية، شهد الميدان السوري ضرب ميليشيات موالية للنظام بالقرب من التنف، وإسقاط مقاتلة حربية روسية وطائرتين إيرانيتين من دون طيار، في سابقة واضحة غيرت طبيعة التدخل الأميركي في سوريا من مقاتلة «داعش» حصراً إلى مقاتلتها ومواجهة إيران والأسد عسكرياً حيث يلزم.
التطور الميداني-السياسي الثالث كان الاتفاق بين روسيا وتركيا وإيران على تحديد أربع مناطق منخفضة النزاع في سوريا، لم يتسن بعد للأطراف الاتفاق على آليات فرضها وضمان استمراريتها، ولا على حدود أدوار كل من تركيا وإيران، وهو ما أدى إلى فشل جولة آستانة الأخيرة.
وبالتالي يدرك بوتين أنه أمام معطيين: نجاح روسي سياسي جزئي في آستانة، وإدارة أميركية جديدة مستنفرة، وتمتلك من طاقة التحفز أكثر من إدارة أوباما التي كانت قد أهانت نفسها يوم وضع الرئيس السابق خطاً أحمر لبشار الأسد بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية مهددا بضربة عسكرية، سرعان ما تراجع عنها بشكل بدد الهيبة الأميركية.
يضاف إلى كل ذلك أن فترة شهر العسل التي استمتع بها بوتين في سوريا انتهت، ولم تعد له اليد العليا في التحكم بالأحداث كما كان في السابق نتيجة ضعف الدور الأميركي، وفقدان إيران لثقتها بنفسها، ما استدعى أصلاً استجداء التدخل الروسي. تغيرت الوقائع. والحقيقة أن قواعد الاشتباك التي غيرتها واشنطن، تفاعلت معها إيران، وغيرت هي الأخرى قواعد الاشتباك من جهتها. في هذا السياق جاء إطلاق الحرس الثوري صواريخ أرض - أرض للمرة الأولى منذ ثلاثين عاما من قواعده غرب إيران على ما وصفه بأنه مقر قيادة تنظيم داعش في دير الزور شرق سوريا. وفي هذا السياق أيضاً، صرح أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في لبنان عن استعداده لفتح الجبهات أمام مئات آلاف المقاتلين الأجانب في سوريا ولبنان، لمقاتلة إسرائيل.
أما تركيا فهي تحشد شمال غربي سوريا في محيط مدينة عفرين، إحدى مدن محافظة حلب، مبدية استعدادها لتجاوز قواعد الاشتباك مع الأكراد المتفاهم عليها مع واشنطن وموسكو، في حال شعرت أنقرة أن القوات الكردية ستسيطر على المدينة بغية وصل الكيان الكردي (كوباني والجزيرة) مع عفرين.
الأهم أن تركيا تعتبر أن الإمساك بعفرين سيمكنها من وصل أجزاء من ريفي حلب الشمالي والغربي (والشرقي لاحقاً إذا انهار «داعش»)، وريف حماة الشمالي، ومحافظة إدلب، التي تعتبرها أنقرة، هي عمقها الاستراتيجي الفعلي، قبل خسارة حلب، ولا سيما بعد خسارة حلب. هذا الكيان الجديد الذي يتمدد نحو بعض قرى اللاذقية أيضا على تخوم مناطق نفوذ نظام الأسد، هو «لواء الإسكندرون 2»، الذي هو امتداد طبيعي وجغرافي للواء الأول الذي صار جزءاً من الجغرافيا التركية، وهو اليوم العقدة الأهم في جغرافيا النفوذ في سوريا.
من ضمن هذا المشهد السوري الجديد قيد التشكل، والذي يميزه غياب عربي فاقع، يأتي الاتفاق الأميركي الروسي في جنوب غربي سوريا. نقطة الضعف الجدية التي تهدد مستقبل هذا الاتفاق وإمكاناته تكمن في عدم تماسك السياسة الخارجية الأميركية، بسبب إشارات متناقضة تصدر عن الإدارة، وخلافات علنية بين البيت الأبيض والبنتاغون، الذي لم يُستشر حول الاتفاق الأخير مع روسيا، واختلافات أخرى بين ترمب والخارجية في أزمات أخرى آخرها قطر، دعك عن ملفات الداخل الأميركي التي تعصف بإدارة ترمب.
ليس لأن صحفاً أميركية رئيسية وذات مصداقية وتأثير فعلي، إنْ على أصحاب القرار وإنْ على الرأي العام في الولايات المتحدة، قد أثارت هذا الموضوع وبمنتهى الجدية في الأيام الأخيرة بل لأن هذا هو واقع الحال ولأن إيران، التي قد تبدو مستقرة ومتماسكة بالنسبة للناظر إليها من الخارج البعيد، تعاني في حقيقة الأمر من تناحر ومن اشتباكات داخلية مع نفسها بين من يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم الآخرون أصحاب هذا الحكم الذي مرَّ عليه منذ انتصار الثورة الخمينية ثمانية وثلاثون عاماً والذي كما يقول بعض أهله وبعض قادته الأوائل بات أوهى من خيوط العنكبوت وغدا مهدداً بالانهيار في أي لحظة.
إن الأخطر كثيراً مما تحدثت عنه بعض الصحف ووسائل الإعلام الأميركية هو ما نسب إلى الجنرال محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي كان قد قال قبل أيام قليلة إن نظام بلاده على وشك الانهيار من الداخل وإنه على المسؤولين أن يلتفتوا إلى الداخل بقدر ما يولون أهمية لتوسيع نفوذ إيران الإقليمي. وحقيقة أنَّ كل هذه التحذيرات التي أطلقها الجنرال رضائي هي تكرار لمواقف مسؤولين إيرانيين كبار كانوا قد حذروا هم بدورهم من تآكل نظامهم من الداخل «بسبب استشراء الفساد وتفشي الاختلاس وانتشار المحسوبية والرشى وضعف مؤسسات الدولة».
في إيران الآن هناك أجنحة متصارعة كثيرة داخل النظام نفسه؛ كل جناح منها ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على النظام والسيطرة عليه، واللحظة المناسبة هي الرحيل المفاجئ لمرشد الثورة والولي الفقيه علي خامنئي وعدم القدرة على اختيار بديل له بالسرعة التي تجنب البلاد الوقوع في الفراغ التي إنْ هي وقعت فيه فإنها ستغرق في الفوضى غير الخلاقة بالطبع مما سيفتح المجال لمغامر أو لمغامرين من قادة حراس الثورة للقيام بانقلاب عسكري على غرار الانقلاب العسكري الذي كان قام به الجنرال رضا شاه الذي أورث الحكم من بعده لابنه محمد رضا شاه الذي لم يحافظ عليه كما الرجال والذي انتهى بعد تجارب مُرة بالفعل إلى روح الله الخميني الذي بعد نجاح ثورته في فبراير (شباط) عام 1979 بدأ هؤلاء الملالي صراعاتهم الداخلية وإلى أن أوصلوا البلاد إلى كل هذا الذي وصلت إليه.
ثم وبالإضافة إلى كل أجنحة النظام هذه، التي ينتظر كل واحد منها اللحظة المناسبة لإقصاء الآخرين وإنْ بالحديد والنار والسيطرة على الحكم ليواصل هذه المسيرة الظلامية ولكن على نحو أكثر دموية واستبداداً وديكتاتورية، فإن هناك الذين يعتبرون أنفسهم «ليبراليين» كرئيس الوزراء السابق حسين موسوي وكمهدي كروبي وكأتباع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وإنَّ هناك أيضاً تيارات أكثر تطرفاً، بالإضافة إلى أجنحة حراس الثورة وبعض قادة الجيش الإيراني الذي يعتبر بمثابة الصامت الأكبر والذي قد يبرز من بين كبار جنرالاته من سيسيطر على الحكم في اللحظة المناسبة ويكرر ما فعله رضا شاه ويقيم دولة ملكية يتوارثها أبناؤه وذلك إنْ استطاع هؤلاء الصمود أمام العواصف الإيرانية المفاجئة المعهودة.
ربما أنَّ الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ومعه كثيرون لم يكن يعرف أن حرب الثمانية أعوام التي أرادها نهاية للنظام الخميني ولحكم هؤلاء الملالي الذين يحكمون الآن في طهران قد أطالت في عمر هذا النظام، فالإيرانيون مشهورون بالعناد والقبول بالتحدي، ومشهورون أيضاً برفض أي تدخل خارجي في شؤونهم الداخلية، ولذلك فإن حتى بعض الذين كانوا مناوئين لهذا النظام والذين كانوا يسعون لإسقاطه وبالقوة العسكرية وجدوا أنفسهم تلقائياً في مواجهة العراق ووقوداً لتلك الحرب المدمرة التي إذا أردنا قول الحقيقة فإن النظام الإيراني كان يريدها وكان يسعى إليها أكثر من نظام البعث في بغداد.
الآن وبعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وبعد إسقاط صدام حسين وتدمير نظام حزب البعث فإن ما يجب البحث عن سببه ومسبباته هو فتح أبواب بلاد الرافدين لإيران التي غدت دولة محتلة وبكل معنى الاحتلال لهذه الدولة التي توصف، وهي كذلك، بأنها الجدار الشرقي للعرب وللأمة العربية ودائماً وأبدا وفي كل حقب التاريخ ضد الأطماع الفارسية وضد التمدد الفارسي في العالم العربي مما جعل نظام الملالي يشغل الشعب الإيراني الذي من المفترض أنه شعب شقيق يربط بيننا تاريخ مشترك طويل بكل هذا الذي يفعله بهذه المنطقة كلها وصولاً حتى إلى اليمن وحتى إلى لبنان وحتى إلى بعض دول المغرب العربي التي تعتبر نائية وبعيدة.
وهكذا فإنَّ التعجيل بانهيار هذا النظام، الذي غدا عبئاً على الشعب الإيراني أكثر مما هو عبء على المنطقة العربية كلها، يتطلب إخراجه وبكل وجوده الاحتلالي من العراق ومن سوريا وأيضاً من لبنان واليمن وحتى وإن اقتضى الأمر الأخذ بتلك المعادلة القائلة عدو عدوي صديقي والتعاون مع الولايات المتحدة التي هي دولة صديقة في كل الأحوال والتي اعتبرت، ومعها بعض الدول الغربية، إيران الخمينية والخامنئية دولة إرهابية.
ثم، وهذا يجب أن يقال الآن مراراً وتكراراً، فإنه وللإسراع في انهيار هذا النظام، نظام الملالي، ورحيله لا بد من أن تنضوي كل قوى المعارضة التي يشكل «مجاهدين خلق» عمودها الفقري وقوتها الرئيسية في جبهة مقاومة واحدة وموحدة وعلى أساس برنامج الحد الأدنى والمعروف هنا أن «المجاهدين» في مؤتمرهم الأخير قد أبدوا استعداداً لإقامة هذه الجبهة التي يجب أن تتمثل فيها كل تنظيمات وقوى المجموعات القومية في إيران كالعرب والأكراد والبلوش والبختيار والآذاريين وغيرهم.
وهنا وما دام أن برنامج الحد الأدنى هو الشرط الرئيسي لنجاح أي جبهة معارضة وبخاصة في إيران فإن المفترض أن يكون البند الرئيسي من بين أهداف هذه الجبهة المطلوبة هو إسقاط هذا النظام، نظام الملالي، واستبدال نظام ديمقراطي به تشارك فيه كل مكونات الشعب الإيراني وذلك لأنه من غير الممكن أن يستقطب أي برنامج يدعو لتجزئة الدولة الإيرانية وتقسيمها إلى كيانات ودويلات قومية ومذهبية غالبية الإيرانيين الذين يرفضون ولو مؤقتاً الانقسام والتقسيم والذين يسعون فعلاً إلى دولة علمانية وديمقراطية تساوي بين كل أبنائها بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية.
يجب أن يكون الهدف الوحيد في هذه المرحلة وبالنسبة لكل تنظيمات المعارضة وفصائلها حتى المسلحة منها هو إسقاط هذا النظام الرجعي الاستبدادي الذي يحشر شعباً عظيماً هو الشعب الإيراني بكل أعراقه وانتماءاته المذهبية والدينية في كهوف التاريخ الرطبة والمنتنة وإقامة حكم تعددي وديمقراطي عنوانه: الوطن للجميع والمساواة للإيرانيين كلهم بكل انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية.
وهكذا وعوْدٌ على بدء فإن الذين وصفوا انهيار إيران المتوقع والمنتظر بأنه سيشبه انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كان يصفه أتباعه ومؤيدوه بأنه «عظيم»، لم يبتعدوا عن الحقيقة، فالروس - السوفيات قبل انهيارهم كانوا يحتلون أفغانستان وأيضاً كانوا يحتلون أوروبا الشرقية كلها وكانت خزائنهم فارغة وكان تضخم «الروبل» قد وصل إلى أرقام فلكية.
والمعروف أنَّ إيران، التي باتت تعاني من أوجاع كثيرة، تخوض الآن ثلاث حروب طاحنة هي الحرب العراقية والحرب السورية والحرب اليمنية وكل هذا بينما أصبح الـ«تومان» مصاباً بالانهيار الذي أصاب «الروبل» عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وبينما أيضاً أنَّ ما يزيد الطين بلة كما يقال أن الدولة الإيرانية غير متجانسة قومياًّ وأنها عبارة عن مكون «فسيفسائي» من الفرس والآذاريين والعرب والأكراد والبلوش والبختيار وغيرهم، وأن بعض هذه المكونات القومية قد لجأت إلى امتشاق السلاح بعدما وصلت ممارسات حراس الثورة و«إطلاعات» وكل هذه الزمر «الميليشياوية» ضدها إلى حدود لم يعد بالإمكان احتمالها!!
الاتفاق الروسي - الأميركي حول منطقة آمنة في جنوب سورية، والاتفاقات الأخرى التي في طور التحضير، نقطة تحول حاسمة في القضية السورية، وقد تكون بداية نهاية القضية السورية في شكلها القتالي. فهو ينقلها إلى أعلى مستوى ممكن، ويحصر معالجتها بالقوتين العظميين، بالتالي يجعل كل اتفاق أو قرار بشأنها قابلاً للنفاذ، بعد أن علقت المبادرات والحلول لسنوات طويلة في الاستعصاء الذي فرضته توازنات القوة بين المتنازعين المحليين والإقليميين وتناقضاتهم، ودفع ثمنها الشعب السوري غالياً.
تمثل كل من الولايات المتحدة وروسيا معسكراً من المتصارعين في سورية وعليها، وهما قادرتان على تلافي التباينات داخل كل معسكر، وعلى فرض القرارات على الجميع، عبر تسوية سياسية، لم يعد من الممكن الفرار منها، في ظل المأزق الدموي الذي وصلت إليه البلاد، وهو استحالة انتصار أي طرف.
لقد أعلن الروس والأميركيون، أن الاتفاق الحالي لا علاقة له بما يدعى بمسار آستانة، وهذا مبدئياً كفّ يد كل من إيران وتركيا، وبداية عملية تحييد المتصارعين الأكثر عنفاً وإشكالية في الصراع، سواء كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، أو القوى السنية المتشددة، أو حتى الجزء المرتبط بحزب العمال الكردستاني من المقاتلين الأكراد.
وهي رؤية يبدو أن الجانب العربي المعني قد أبلغ بها باكراً سواء من الطرف الأميركي أو الطرف الروسي، ونالت رضاه، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الصمت والإحجام العربي غير المفهوم في سورية منذ أشهر طويلة.
الاتفاق الذي يشمل جنوب سورية حالياً يتضمن إخراج إيران وميليشياتها من هناك، من خلال حضور عسكري روسي على الأرض، ومراقبة عن كثب من طرف الأردن وإسرائيل لجديّة تنفيذ ذلك، ويتضمن من ناحية أخرى القضاء على جيوب «داعش» والنصرة في تلك المنطقة، وهو ما ستتكفل به واشنطن والقوى المرتبطة بها على الأرض.
الأمر عينه سينسحب على بقية المناطق، من ريف دمشق إلى حمص إلى الحدود الأردنية إلى الحدود مع العراق، وصولاً إلى شرق سورية الذي سيكون الحلقة الأخيرة والختامية من الصراع ومن التسوية معاً، نظراً الى تعقد وتجمع الملفات الحساسة هناك. فهو الملاذ الأخير لداعش، وهو مركز الملف الكردي في سورية، إضافة إلى كونه الجدار الفاصل بين النفوذ الإيراني في العراق ومناطق نفوذ إيران على المتوسط، وهذا إلى الموارد التي تكتنفها تلك المنطقة بوصفها «سورية الغنية» حيث النفط والماء.
بعد إخلاء الميدان السوري من القوى المتطرفة السنية منها والشيعية وكذلك الكردية، ينتظر أن يجري التفكير بترتيب بديل للأسد ونظامه، يرضي بعض المعارضة وفصائلها، ويراعي بعض متطلبات القوى الإقليمية التي تم إبعادها من دون استبعاد مصالحها بطبيعة الحال، ويؤمن بعض الاستقرار داخل البلاد، وسلطة أمنية عسكرية تستطيع منع ظهور القوى الإسلامية المتشددة مجدداً.
الرئيس بوتين الذي نال أخيراً ما سعى إليه لسنوات في سورية، وهو التعاون الأميركي في الملف العسكري، سيفعل كل ما في وسعه لإنجاح هذا الاتفاق وتطويره، وسيتخلى عن حذره الذي لازمه في السنتين الماضيتين خشية التورط وحيداً في الرمال المتحركة السورية، وهو يعرف جيداً ثمن هذا التعاون وإطلاق يده في مسألة تقرير مصير سورية، وهو إخراج الميليشيات الايرانية، الذي هو ليس فقط شرطاً أميركياً، بل مطلب عربي وإسرائيلي ملح.
لكن مواجهة إيران بمطلب مغادرة ميليشياتها سورية ليست سهلة، فهي ستمانع في البداية بلا شك، ثم ستطلب تعويضاً مجزياً لما قدمته طوال السنوات الماضية. والأمر لن يقتصر على نفوذ في سورية وتأسيس مركز قوى يحفظ مصالحها هناك، بل ضمان نفوذها في لبنان، من خلال ممر ما إلى حليفها «حزب الله».
تركيا أيضاً لن تخضع للإملاءات ببساطة، ستطلب أجوبة عملية عن سؤال الدولة أو الإقليم الكردي في جنوبها، ولديها أوراق قوة ستلعبها، ابتداء من وجودها العسكري المباشر في شمال حلب، وصولاً إلى علاقاتها القوية ببعض فصائل الشمال، مروراً بورقة اللاجئين الذين تحتضنهم.
بين هؤلاء وأولئك يقبع نظام الأسد والمعارضة السورية، وهما بحالة يرثى لها من البؤس والاعياء، ومن فقدان الفاعلية والقدرة الذاتية، بعد أن سلم كلاهما أوراقه للقوى الخارجية، التي ستقوم بالتوافق في ما بينها بصنع واجهة لنفوذها ومصالحها وأطماعها من ركام النظام والمعارضة، على شكل نظام قليل التماسك، يشارك فيه فقط من يكون له دور وظيفي لمصلحة تلك القوة أو تلك، ومن لا يكون كذلك سيجد نفسه حجراً ناشزاً وغير محتاج إليه، وسيلقى إلى الإهمال ويغيبه الصمت.
في البعيد البعيد، يقبع الشعب السوري صامتاً، خائر القوى محطم الاحلام، لا ينتظر شيئاً وغير راغب بشيء، سوى أن يتوقف الجميع عن طعنه.
الضربات العسكرية التي يتعرض لها تنظيم «داعش» قد تنهي وجوده على الأرض التي أعلن عليها قيام «الخلافة الإسلامية» أواخر حزيران (يونيو) 2014. لكنّ أفكار التنظيم وتصوراته للحياة والدنيا لن تنتهي في الأفق المنظور، وربما لا تنتهي أبداً.
لقد حاكت أفكار «داعش» طبقات الوعي المتدنية في العقل العربي الإسلامي، ثم أصاب ذلك بالعدوى عقولاً أوروبية وأميركية، استنبتت لنفسها داعشية رديفة، تحت ذرائع انتقامية تصب في نهر العنف نفسه الذي أحال العيش إلى قدَر إرغامي صعب الاحتمال!
«داعش» استثمر في لحظة الانهيار النفسي والوجداني لدى الشعوب العربية الغارقة في وحل الهزيمة السياسية واليأس وانسداد الآفاق، ومهانة الكرامة القومية، وتردي الروح الجمعية، وتكالب الدنيا على «الحق» ونصرتها التي بلا حدود لـ «الباطل» وأعوانه، فحاز التنظيم تأييداً خرافياً تغذى، في البدء، من المظلومية المعكوسة لما يعرف بـ «أهل السنة» بعد أن كانت تلك المظلومية، لقرون، حكراً حصرياً للمكون الإسلامي الشيعي، وأثّثت مخياله الكربلائي.
وفي بوتقة التشدّد الذي اعتمده «داعش» صبّت كل نزعات العقل الباطني العربي، وخرجت إلى السطح المشاعر الدفينة تجاه المجتمع والمرأة والآخر والتعايش، فسقطت الأوهام المديدة، وذابت أوثان الشمع حول التسامح واحترام الأديان وتوقير الحساسيات الإثنية والمذهبية. كان «داعش» بمثابة البركان المرعب الذي أخرج مما استقر في باطن الأرض منذ آلاف السنين. سيندحر التنظيم كـ «دولة خلافة»، لكنه قد يعيد تموضعه هنا أو هناك، وقد ينتهي هذا التموضع حتى يعود القهقرى، فيعيد سيرة «القاعدة» وطرائق عملها، لكنّ خطره لن ينتهي على مستوى العنف المادي إلى الأبد. بيْد أنّ الذي سيبقى، وربما يتغلغل، هو ما سبّبه «فكر» هذا التنظيم في الوعي العربي الإسلامي الراهن من شروخ غوريّة، حيث أنعش التشدّد في مستوياته الدينية والسياسية والاجتماعية، وغذّى النزعات الثأرية لدى الخصوم الذين لطالما رفعوا من قبل شعار الحوار «بالتي هي أحسن».
التهدّمات التي أحدثها «داعش» من الصعب ردمها. خذ الخلاف السنّي- الشيعي، وشاهد لساعة واحدة فقط الفيديوات على «اليوتيوب» من كلا الطرفين. وخذ أيضاً التهديدات التي تطاول المسيحيين في المشرق العربي. وخذ الإكراهات الاجتماعية التي تواجه النساء، حيث أضحت المرأة رمزاً للفجور، وتنامت دعوات تسري كالنار في الهشيم، إلى السيطرة على لباسها وحركتها وكلامها وتفكيرها، حتى إن بعضهم دعا إلى فرض «شرطة دينية» للسيطرة على ما ترتديه النساء في الشارع، باعتباره مدعاة إلى «الفتنة والفجور»!
أما إن راح المهتم يرصد الخسائر المادية والبشرية التي تسبّب بها التنظيم في بلدين اثنين فقط: سورية والعراق، فالأرقام مرعبة، حتى ليخيل المرء أنّ الفتق اتسع على الراتق، فانسدت الكوى، ورُدمت الملاذات.
وما يزيد الصورة كآبة أنّ القوى المناهضة لأفكار «داعش» كشفت عن هشاشة بنيوية عميقة، فأهل اليسار، في جلهم، ناصروا الجلادين والقتلة، وراحوا يلتقطون الصور التذكارية معهم، وأما العلمانيون والليبراليون فظلوا معتكفين في أبراجهم الشاهقة، ومضوا يطلون على النيران من خلف شبابيكهم السوداء، ولم ينخرطوا، إلا شفاهياً في «المعركة». وليتهم لم ينخرطوا وبقوا متفرجين، لأنهم أظهروا في خطاباتهم نزعات إقصائية واستئصالية، جعلت الحرية والديموقراطية، والتعددية، واحترام الاختلاف، وتقدير الحساسيات الدينية، «يوتوبيا»، فانهار الخطاب، وسال الزبد على شفتيه!
ما تهدّم كبير ومتسع وعميق، ما يجعل البناء، وإعادة تأهيل المجتمعات العربية، نفسياً وروحياً، أمراً صعباً، فهذه المجتمعات الآن في مرمى الخرافة، والأنظمة المستبدة، والحركات الدينية التي أيدت «داعش» ضمنياً، ما يعني أنّ العرب بعد «داعش» خرجوا، كما يقول المثل الشعبي «من الدلف إلى المزراب»!