مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٠ يوليو ٢٠١٧
العلويون والتدخلات الإيرانية

في تاريخ الثامن من يوليو (تموز) الحالي أفادت صفحة موقع «جبلة وكالة إخبارية» على «فيسبوك» المؤيدة لنظام الأسد، التي تغطي أخبار الساحل السوري أو ما يعرف بالمناطق العلوية، بأن وزارة الأوقاف السورية قررت إغلاق الثانويات الشرعية التي تدرس مذهب أهل البيت في عدة مناطق وهي «مدرسة عين شقاق، ورأس العين، والقرداحة، وكرسانا، واسطامو، والثانوية المركزية»، وقد بررت الوزارة قرارها بأن هذه المدارس والثانويات التي تم إغلاقها لم تحصل على تراخيص من الجهات المختصة، وهي غير مسجلة في الأوقاف، وتعمل بطريقة غير شرعية.

يعود انتشار المدارس التي تدرس المذهب الجعفري في مناطق العلويين إلى ما بعد سنة 2011، عندما أصدر رأس نظام البعث بشار الأسد في الأول من يناير (كانون الثاني) مرسوماً بتأسيس معهد الشام العالي لعلوم الشريعة واللغة العربية والدراسات الإسلامية الذي يتكون من 3 فروع (مجمع الفتح الإسلامي، ومجمع الشيخ أحمد كفتارو، ومجمع السيدة رقية)، وقد حصل معهد السيدة رقية على دعم كبير من وجهاء الطائفة العلوية ومثقفيها، بداية ظناً منهم أن هذا المعهد سيشكل جسراً يعزز الروابط الإيمانية والفكرية بين العرفان العلوي والفقه الشيعي، إلا أن العلويين الذين رحبوا بالوجود الإيراني في مناطقهم، فوجئوا بأنه تجاوز فكرة حماية مناطقهم من التهديدات الأمنية والعسكرية، بعد أن تسللوا إلى داخل النسيج الاجتماعي لدى العلويين، واستغلوا حضورهم الكبير مادياً وعسكرياً ودعوياً، بهدف نشر التشيع، ولتنفيذ مشروعهم قاموا ببناء مسجد الرسول الأعظم في اللاذقية، ومن ثم افتتحوا فرعاً لمعهد السيدة رقية ومقره داخل بناء المسجد، وهذا الفرع غير قانوني أيضاً، وأوكلت إمامة المسجد وإدارة المعهد إلى رجل دين راديكالي درس في الحوزة العلمية في قم، يعاونه في المهمة مجموعة من رجال الدين الذين يغلب عليهم الطابع الفقهي الراديكالي الجامد، الذي يصعب عليه تقبل أو التعايش مع فكرة العرفان أو فلسفة التصوف عند العلويين، التي تشكل جزءاً أساسياً من عقائدهم، وقد اختار الإيرانيون لهذه المهمة رجال دين شيعة من سوريا ولبنان والعراق، وحتى بعض المغاربة المتشيعين، رافضين حتى التعاون مع رجال الدين العلويين، حتى الذين درسوا في الحوزات والجامعات الإيرانية، وقد أدى قرار استبعاد العلويين إلى ردة فعل سلبية بين الأوساط العلوية المؤثرة، التي عبرت علناً عن هواجسها جراء عملية التهميش الممنهج التي تنفذها جماعات إيرانية اختارت التعامل مع وجوه غير معروفة مهمشة اجتماعياً، ومن دون أي تأثير، وفي الأغلب استغل الإيرانيون رغبة هؤلاء في النفوذ، فتم توفير الإمكانيات لهم، وذلك في إطار المواجهة التي لم تعد خفية بين دعاة تشيع العلويين والنخب العلوية الاجتماعية والثقافية المتمسكة بالتراث العرفاني للعلويين وتناضل من أجل حماية خصوصياتها، وقد جاء القرار الإيراني باستبعاد هذه النخب عن مراكز القرار العلمي والإداري في هذه المؤسسات تدبيراً عقابياً لها على موقفها العقائدي، الأمر الذي مكن القيمين على إدارة مسجد الرسول الأعظم من فتح ثانويات شرعية غير مرخصة في المدن والقرى العلوية، والعمل بشكل غير مباشر للاستيلاء على مساجد العلويين وتعيين خطبائها، الأمر الذي فتح الأبواب أمام حركة الاستبصار التي أدت إلى حدوث شرخ اجتماعي وعقائدي داخل المجتمع العلوي من خلال آليات تصنيف اجتماعية وعقائدية جديدة، حيث بات الفرز بين علوي ومستبصر.

تمكن الإيراني في بداية الأحداث عندما كان لوحده في موقع المدافع عسكرياً عن النظام من استثمار خوف العلويين وقلقهم الوجودي، فلجأ إلى استغلال العواطف الدينية التي يزداد تأثيرها في زمن الأزمات، من أجل تمرير مشروعه التوسعي حتى يضمن لنفسه إقامة طويلة الأمد في مناطقهم، وفي التزامن مع وجوده العسكري والريعي عمل على تكوين شريحة علوية تكون مخلصة له عقائدياً، فاندفع في فكرة تشييع العلويين ودعوتهم إلى اعتناق المذهب الجعفري، الأمر الذي شهد رفضاً علوياً برز أكثر مع دخول الروس القوي في الحرب السورية ولعبهم دور الحامي الأول للأقليات، وخصوصاً العلويين الذين استغلوا الروس، من أجل الابتعاد التدريجي عن المشروع الإيراني الذي تجاوز السياسة والاستراتيجية وبدأ يتدخل في شؤونهم الخاصة.

فشلت طهران جراء استعانتها براديكاليين يصعب عليهم فهم المجتمع العلوي نشأة وصيرورة، على الرغم من أنهم تيار عرفاني فلسفي منشؤه وتكوينه في تاريخ الإمامية، هذا الفشل هو العلامة الأبرز الآن في مستقبل علاقتها مع العلويين الذين فشلوا في فك ارتباطهم مع النظام، فدفعوا تكلفة عالية تتجاوز 155 ألف قتيل معظمهم من الشباب، وهم في أغلب الظن على قناعة أنهم سيدفعون مستقبلاً ثمن ما ورطتهم فيه إيران وجعلتهم معادين لمحيطهم كما فعلت بغيرهم من الفرق الشيعية.

اقرأ المزيد
١٩ يوليو ٢٠١٧
ماكرون والأخطاء نحو إسرائيل وسورية

دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للمشاركة في إحياء الذكرى الخامسة والسبعين لحوادث فيل ديف، عندما اعتقلت الشرطة الفرنسية لحكومة فيشي ١٣٠٠٠ يهودي فرنسي لإرسالهم الى مخيمات النازيين، خطأ تاريخي وسياسي.

كان الرئيس جاك شيراك أول من اعترف واعتذر ليهود فرنسا عن ارتكاب حكومة فيشي هذه الجريمة بحق اليهود. ولكنه لم يدع أي مسوؤل إسرائيلي الى حضور هذه الذكرى الأليمة في تاريخ فرنسا. ثم جاء الرئيسان اللذان تعاقبا بعد شيراك، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، ولم يرتكبا خطأ ماكرون الذي يرتكب بإصراره على إظهار أنه مختلف عن أسلافه الخطأ بعد الآخر في بداية عهده. وخطابه الموجه الى نتانياهو يوم هذه الذكرى وقوله «إننا لن نستسلم لرسائل الكراهية ولمقاومة الصهيونية، لأنها نوع جديد من اللاسامية» يُحييان مسوؤلاً إسرائيلياً يعتمد الكراهية إزاء الفلسطينيين ويسيء معاملتهم وهو أول من يشجع على كراهية الفلسطينيين والعنصرية ضدهم وعزلهم ودفع سياسة المستوطنات على رغم إدانتها العالمية.

إضافة الى ذلك، إن نتانياهو دعا من باريس بوقاحته المعتادة، بعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف صحيفة «شارلي ايبدو» في فرنسا، اليهود الفرنسيين الى مغادرة بلدهم والتوجه الى إسرائيل. واضح أن ماكرون يبحث عن دور على الصعيد الدولي، لكن بحثه يشير الى عدم خبرة ديبلوماسية. وينبغي عليه أن يستفيد أكثر مما سبق خلال عهود أسلافه الرؤساء، لأن الأهم ليس أن يقوم بما يختلف عنهم بل أن يستفيد من خبراتهم وحتى من أخطائهم.

وحتى الآن، لا يزال الرئيس الشاب يحظى بالتأييد ولكن عليه أن يتجنب الأخطاء في قيادة الديبلوماسية الفرنسية. فهو أيضاً، كما قال في مؤتمر صحافي مشترك مع دونالد ترامب، عازم على تغيير الرؤية الفرنسية إزاء الصراع في سورية. وهنا أيضاً الغموض المقلق إزاء مبادرته. فهو يقول: «لقد حاولنا سبع سنوات إغلاق السفارة في دمشق وعزل بشار الأسد وهذا لم ينفع، فعلينا أن نغير». ولكنه قال للمعارض رياض حجاب، كما قال في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن إعادة فتح السفارة في دمشق ليست على الأجندة في الوقت الحاضر. وأوضح الى جانب ترامب أنه سيتحدث مع ممثلي النظام السوري عبر مجموعة اتصال تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودولاً عربية وممثلين عن النظام. ولكن مبادرته هذه غامضة. فالمفهوم منها حالياً أنه يريد إعادة دور لفرنسا من طريق روسيا، لأنها القوة النافذة في الصراع السوري.

لكن رغبة ماكرون تصطدم أيضاً بقوله خلال زيارة نتانياهو إنه سيكون في يقظة إزاء خطورة سياسة «حزب الله». ألا يعرف الرئيس الفرنسي أن الحليف الأساسي على الأرض في سورية لبشار الأسد هو «حزب الله» الذي يدفع من دماء مقاتلين شبان لبنانيين ثمن حماية بشار الأسد الذي يريد السيد ماكرون العودة الى التواصل معه؟ فأي دور فرنسي مع بوتين حليف الأسد وإيران و «حزب الله»؟ ولم تستطع فرنسا لعب دور مهم إلا في الحالات التي لم تكن تابعة لا لروسيا ولا للولايات المتحدة. بل كانت سياستها عاقلة ومنصفة من دون الاصطفاف الى جانب إسرائيل.

ربما استعصت تعقيدات الأوضاع في الشرق الأوسط جديدة على رئيس شاب ليست له خبرة في السياسة الدولية ومصر على أن يظهر كمختلف عن أسلافه بالشكل والمضمون. فهو يريد العودة الى رئاسة براقة على الطريقة الملكية بالشكل. كما دخل ساحة اللوفر يوم انتخابه أو قصر فرساي يوم استقبل بوتين سائراً وحده، في ظل فخامة يريدها لمنصبه الجديد على عكس هولاند الذي بدأ بمظهر الرئيس العادي. وماكرون أيضاً عازم على إبعاد الصحافة عنه وعدم التعاطي معها حتى في تنقلاته الى الخارج، حيث يقتصر على مؤتمرات صحافية ويحجب عن الصحافة الرئاسية المواكبة لقاءات معها. لكنه سرعان ما سيكتشف أنه في حاجة الى الاستفادة من خبرة أسلافه في صراعات المنطقة والتحالفات مع الدول الكبرى ومن التواصل مع إعلام هو في حاجة اليه.

اقرأ المزيد
١٩ يوليو ٢٠١٧
الموصل وعرسال والعفالقة المطلوبون

احتُفل، في لبنان، بسقوط الموصل كما لو أنّ أمتاراً قليلة تفصلنا عن شمال العراق. الأمين العام لـ «حزب الله» كرّم ذاك الحدث بحدث آخر هو خطابه. إذاً نحن أمام حدثين في واحد. لقد هبّت العاصفة مرّتين.

من دون شكّ، وبفتوى السيستاني أو من دونها، يستحقّ سقوط «داعش» في الموصل أن يُحتفل به. لكنّ ما جرى ويجري يوحي أنّ المحتفلين احتفلوا بسقوط المدينة نفسها وبدمارها المهول. هناك خلطة من تحرير واحتلال انقسمت حولهما العواطف.

والفارق بين الاحتفال بسقوط «داعش» والاحتفال بسقوط الموصل بسيط: واحد يريد أن يسقط «داعش» في الموصل، والآخر يريد أن تسقط الموصل في «داعش». قانون جديد لـ «اجتثاث داعش»، على غرار قانون «اجتثاث البعث»، سيكون كفيلاً بفرض الانتصار النهائيّ والحاسم لوجهة النظر الثانية. ذاك أنّ دمار عاصمة الشمال العراقيّ وإذلال أهلها أقصر الطرق إلى ازدهار التنظيم الإرهابيّ، إلى سقوط الموصل في «داعش». وازدهار هذا التنظيم مطلوب ومرغوب:

فهو، أوّلاً، يبرّر الاستمرار في مشروع طائفيّ راديكاليّ مقابل، مشروعٍ يجد في تنظيم البغدادي ذريعته وعلّة وجوده.

وهو، ثانياً، يبرّر المضيّ في إلحاق المنطقة بإيران، لأنّ خطراً كخطر «داعش» يستدعي الاستعانة بقاسم سليماني وحواشيه. هذا الميل يعزّزه أنّ التوافق الأميركيّ – الروسيّ في الجنوب السوريّ «قد» (؟) يحرم الإيرانيّين جسراً بارزاً من جسورهم إلى المشرق.

وهو، ثالثاً، يبرّر الدفاع عن الأسد ونظامه المتوحّش، إذ إنّ هذا النظام، وفقاً لروايته، لا يقاتل إلاّ الإرهاب التكفيريّ. التتمّة المنطقيّة التي يتلقّفها الأتباع في بيروت هي: ضرورة التطبيع مع النظام المذكور و «التنسيق» لأجل «عودة اللاجئين». في هذه الغضون يتمّ إخضاع اللاجئين إيّاهم لرقابة بوليسيّة ولإذلال أرعن يشارك فيهما السكّان. إنّ «الأخوّة»، مثلها مثل «الطريق إلى القدس»، تعمل بأشكال كثيرة ومتفاوتة!

وهو، رابعاً، يبرّر مضيّ «حزب الله» في الإمساك بلبنان ودولته وجيشه إلى ما لا نهاية، بل تشديد هذا الإمساك وتمتينه. والموضة الآن، ما بين بغداد وبيروت، أن يُحتفى بالجيش احتفاءً يشبه تسمين الطريدة، وأن يُمنح القرار لميليشيا كـ «الحشد الشعبيّ» أو «حزب الله». ذاك أنّ الجيوش ضعيفة أمام «داعش»، مثلما كانت ضعيفة أمام إسرائيل. إنّها ضعيفة أمام أيٍّ كان. الميليشيات وحدها هي الأهل لذلك، ولهذا ينبغي أن يبقى سلاحها بيدها إلى ما شاء الله.

تبعاً للأهداف أعلاه تبدو بلدة عرسال اللبنانيّة مُلحقاً بمدينة الموصل العراقيّة. الإلحاق هذا قد يتأخّر يومين أو ثلاثة، أسبوعين أو ثلاثة، إلاّ أنّه ماثل بقوّة في الأفق. فبالحجر العرساليّ يصاب لبنان وتصاب سوريّة معاً، وبه نتواصل مع الموصل فيما يتأكّد، مرّة أخرى، أنّ سلاح الميليشيا ضرورة قاهرة. ولأجل أهداف كتلك تسهر قيادةٌ سياسيّة وميدانيّة لا نكون تآمريّين إن وصفناها بالغرفة التي تسري أوامرها على مدى عريض عابر للحدود. إنّها، وبطريقتها الطقسيّة، تصف نفسها بذلك: قاسم سليماني يقبّل يد حسن نصر الله الذي قبّل يد علي الخامنئي.

لقد سبق أن عرفنا، في هذه المنطقة، «قيادة قوميّة» تحرّك «العمل الثوريّ من المحيط إلى الخليج». على رأس تلك القيادة وقف رجل بائس تبيّن لاحقاً أنّه زوج مخدوع في حزبه. إنّه ميشيل عفلق الذي دعا إلى «انقلاب في الحياة العربيّة» ففهم أتباعه العسكريّون أنّ المطلوب انقلاب عسكريّ في كلّ بلد عربيّ. وحين حاول أن يعترض، تمرّدت «القيادات القطريّة» على قيادته «القوميّة»، وتمرّد عليه حزبه وعسكره ليكتشف متأخّراً أنّ «هذا الحزب ليس حزبي وهذا العسكر ليس عسكري». ويبدو أنّ القوى والأحزاب التي من هذا النوع بحاجة دائمة إلى عفلقها، أو إلى اختراع عفلق ما، أو إلى استضافة غريب طارئ كي يكون عفلقها العابر. والعفلق هذا قد يكون جيشاً وطنيّاً، عراقيّاً أو لبنانيّاً، وقد يكون شخصيّة دينيّة كالسيستاني، أو سياسيّة كحيدر العبادي أو سعد الحريري. أمّا القرار الفعليّ، من الموصل إلى عرسال، فيبقى في تلك الغرفة السوداء التي تجهد لإسقاط المنطقة في «داعش».

اقرأ المزيد
١٩ يوليو ٢٠١٧
الموصل بعد حلب: تدمير المآذن وتشويه التاريخ

دفعت الموصل ثمن استعادتها من «داعش» غالياً. قتل ودمار وخراب ستستلزم عقوداً طويلة لنسيانها وموازنات ضخمة لإعادة بنائها. ولا نعلم حقاً إذا كان من الممكن ترميم الدمار الذي لحق النفوس والمشاعر بسبب تجاوزات من يفترض فيهم تحرير المدينة من طائفية «داعش» العنيفة والحدّية، فبدا كما لو أن بعض هؤلاء المحررين أتى فاتحاً وغازياً، لا مستعيداً لمدينة في وطنه. وهذا تماماً ما حصل في سورية، في حلب وحمص وغيرهما، وكما لا بد حاصل في الرقة التي التفتت الأنظار إليها الآن في عملية التطهير الواسعة ضد «داعش» التي تحركها الولايات المتحدة ويلعبها فرقاء محليون لا يبدو أنهم يتذكرون أن الملعب الذي عليه يلعبون لعبتهم الخطرة والقذرة كان يوماً ما وطنهم.

حدث مهم بين أحداث عدة مؤسفة في تحرير الموصل ثارت حوله الخلافات التي تصاعدت حدة الكثير منها، كما دأبنا اليوم في خلافاتنا، للوصول إلى حد الاتهام بالعمالة أو الخيانة أو التطاول على الجيش وقوات «الحشد الشعبي» التي بذلت الكثير في سبيل تحرير المدينة من «داعش» (طبعاً بعد أن كانت قد فقدتها ببلاهة وقصر نظر هائلين قبل ثلاث سنوات)، وهي كلها مواضيع مقدسة لا يجوز المساس بها في خطابنا العربي المأسور ضمن عقلية إقصائية بائسة. هذا الحدث هو تدمير منارة الجامع النوري الحدباء في ٢١ حزيران (يونيو) وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة عن مسؤولية تدميرها التي لم تحسم بعد. هذه المأذنة التي أعطت اسمها للمدينة في صفة محببة، وإن كانت تشير إلى عيب في بنائها، صمدت على مر القرون. فقد أمر ببنائها نور الدين محمود ابن زنكي الأمير التركي الذي وحد سورية الداخلية وأجزاء كبيرة من شمال العراق في مسعاه لاسترداد فلسطين من الصليبيين، ومصر من الفاطميين الإسماعيليين، وعموم سورية من الأمراء المتناحرين عام ١١٧٢. سياسة التوحيد التي اتبعها نور الدين ترافقت مع سياسة تسنين واضحة لدى هذا الأمير المتدين والطموح الذي وعى أن توحيد الجبهة الداخلية عقائدياً وسياسياً ضروري لمقاومة المد الصليبي الذي كان هدفه الأول.

مأذنة الجامع النوري في الموصل كانت كل ما بقي من جامع نور الدين. ولا يبدو لي أن تدميرها جاء نتيجة ضرورة عسكرية أو بسبب ضغط العمليات ضد «داعش»، بل لا بد أنه كان مقصوداً، تماماً كما كان تدمير مأذنة الجامع الأموي الكبير في حلب يوم ٢٣ نيسان (ابريل) ٢٠١٤ فعلاً متعمداً أيضاً. فالمأذنتان ترمزان الى الفترة ذاتها والسعي ذاته والعقلية ذاتها. كلتاهما نتاج العائلة الزنكية التي حكمت في سورية والعراق نحو القرن والتي استطاع أعظم أمرائها نور الدين محمود (وليس زنكي كما يخطئ الكثيرون في كتابة اسمه) استعادة زمام المبادرة في الحروب الصليبية وتمهيد السبيل أمام النصر الهائل الذي حققه صلاح الدين، الذي كان أحد قواده العسكريين، عام ١١٨٧ في معركة حطين واستعادته القدس إثر ذلك.

نور الدين بنى مأذنة الموصل في آخر سنوات حكمه، ومأذنة حلب بنيت على مراحل لكن إتمامها بالروعة التي كانت عليها تم على عهد آقسنقر، جد نور الدين ومؤسس الدولة التي عرفت فيما بعد بالزنكية أو الأتابكية، عام ١٠٩٤. أي أن المأذنتين مرتبطتان بطريقة أو بأخرى بنور الدين وبذكراه، وتدميرهما يحمل في طياته رسائل عابرة للزمن عن أحقاد وثارات لم تمت بعد بل تفاعلت وتطعمت بوقائع العصر الحديث وسياساته وتحالفاته لتكسب بُعداً آنياً. تدميرهما هو في الحقيقة تشويه متعمد للتاريخ.

لكن من دمرهما؟ هل هم الشيعة الذين لم يغفروا لنور الدين سياساته القمعية ضد شيعة سورية، بخاصة في حلب، بعد أكثر من تسعة قرون؟ أم هم «الداعشيون» الذين لم يهضموا أن يكون هناك أمير سني مجاهد من طراز نور الدين ولكنه في الآن نفسه متصوف ومتأله يعتقد بشيوخ الصوفية ويراعي مشاعر مدارس السنّة كلها؟ أم النظامان في العراق وسورية اللذان، كل لأسبابه، يحملان ضغينة عميقة ضد الوجه السني للمدينتين؟ أم القوات المحاربة الحليفة، خصوصاً الأميركية في العراق، التي لا تقيم وزناً للتراث الثقافي للبلاد كما أثبتت غير مرة؟ هم أي من هؤلاء؟ لعلنا نتمكن يوماً من تحديد المجرم الحقيقي في كلتا الحالتين بما أن الأدلة المتوافرة الآن، على الأقل بالنسبة لمراقب بعيد مثلي، غير كافية لتحديد الفاعل. لكنّ المدمرين الحقيقيين بنتيجة الأمر هم نحن كلنا، بثقافاتنا المتعادية وخطاباتنا الطائفية ونوازعنا التي لا ترضى إلا أن تستثمر في التاريخ كما لو أنه أداة عقائدية وسياسية في أيدينا نفعل به ما نشاء، نتشارك فيه مع البعض ونحرمه عن البعض الآخر.

كلنا مسؤول عن التدمير الهائل اللاحق بالبلاد وعن تدمير معالمها التاريخية عمداً كما في حالة المأذنتين، أو عرضاً كما في حالة مبانٍ أخرى لا تحصى، وفي شكل خاص تلك التي تنتمي للفترات ما قبل الإسلامية. فنحن كمواطنين وكثقافة لم نرق يوماً إلى مستوى الإحساس بأن تراث بلادنا كله تراثنا وأن المحافظة عليه واجبنا كلنا، وأن التركيز على معانيه السياسية وتقسيمه بين تراث مقبول وآخر مرفوض يستحق الإزالة، إنما يخالف في الآن نفسه المعنى الحقيقي للانتماء للوطن وللمحافظة على التراث. التراث الوطني كل كامل متكامل يصلنا بماضي الأرض التي عليها نشأنا والحضارات التي تتالت عليها والتي كونت ثقافاتنا شئنا أم أبينا. والمحافظة على هذا التراث بكامله، بغض النظر عن حقبته أو بانيه، واجب وطني وأساس من أسس بناء الوطن في الآن نفسه. كلنا مسؤول عن ذلك، وكلنا مسؤول عن التدمير الذي حاق بتراثنا، ببطء وإهمال قبل الحروب الطائفية، وبحقد وضغينة وتشفّ خلال الحروب التي تعاني منها بلادنا اليوم.

يبقى نور الدين، ذلك الأمير المجاهد والمفترى عليه من كارهيه ومحبيه على السواء. قبره في دمشق انتظر طويلاً قبل أن يحصل على بعض العناية. وذكراه أُهملت في الكتب المدرسية ربما بسبب ألق صلاح الدين الذي استكمل جهاده، وربما لأسباب أخرى عرقية أو طائفية أو حتى من منطلق الجهل المعشش في ذاكرتنا الجمعية. لكن نور الدين، على تسننه ومحاربته للتشيع، كان أميراً عظيماً. فهو الذي وضع أسس التسامح السني بسبب من دعمه للتصوف، الذي كان وما زال أفضل ترياق للمغالاة والتشدد، وبسبب من رعايته للمدارس الفقهية كلها على رغم انتمائه للمدرسة الحنفية، كما كل الحكام الأتراك. وهو الذي وضع أسس استراتيجية الاستعادة التي اتبعها الأيوبيون والمماليك من بعده وحرروا سورية من الصليبيين. وهو إلى ذلك كان زاهداً عادلاً ومحنكاً، وهي صفات لا نجدها في أي من حكامنا الحاليين.

اقرأ المزيد
١٩ يوليو ٢٠١٧
هل اهتم أحدٌ بجنيف 7؟

يغيب مؤتمر جنيف ونتائجه عن العناوين الرئيسية في الصحف العربية والأجنبية. يبدو أن اسم المدينة الأكثر أمناً في العالم يجذب سياحاً، لكنه لم يعد جاذباً للمهتمين في الشأن السياسي، وتقلصت قدرتُه على زيادة عدد قرّاء المواقع الإخبارية، فالسوريون المفترض أن يهتموا بمتابعة مجريات المؤتمر يعرفون، سلفاً، مقرّرات هذه النسخة منه، والتي تحمل رقم 7، ومتأكدون أنها غير معدّة للتنفيذ في الوقت الحالي، خصوصاً أن الجميع منصرفٌ إلى متابعة الخطة الأميركية الروسية الجارية لعزل القطاع الجنوبي في سورية عن حمم النار والاقتتال، والتي يتوقع أن تكون بداية هدنةٍ شاملةٍ تمهد لحل متكامل، أو لتقسيم البلاد.

ليس الحل بالتأكيد انتقالاً سياسياً بالشكل الذي تنتظره المعارضة، وأعادت تكراره على لسان مندوبها، خالد خوجة، في أروقة جنيف، وقد صار يقيناً أن الوصول إلى ذلك يحتاج وقتاً طويلاً، بعد تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عقب لقائه نظيره الأميركي دونالد ترامب، مؤكداً ما قاله، في 21 من الشهر الماضي، إن بلاده لم تعد تعتبر رحيل الأسد شرطاً لحل الصراع، واعترف أن هناك "تغييراً فعلياً" في سياسة فرنسا تجاه سورية. ومن هنا، نستطيع استنتاج وجهة النظر الأميركية أيضاً التي يمثلها زائره ترامب..

يستمر الأسد الذي يحظى بدعم سياسي وعسكري غير محدود من الحليف الروسي في محاولات قضم أراضٍ تقع تحت سيطرة المعارضة، وتدعمه مليشيات إقليمية، ترى في غض الطرف الدولي فرصةً مهمة للتقدم ميدانياً، وأولوية النظام الحالية هي عزل الغوطة الشرقية المشمولة بقرار "خفض التوتر"، بهدف التمكّن من السيطرة عليها لاحقاً، وهو ينعم براحة بالٍ مؤقتة، متابعاً ما يجري في الشمال السوري، حيث الاقتتال بين الكتائب المعارضة يحدث متكرّراً، كالاشتباك الذي جرى، قبل أيام، بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام (المحسوبة على القاعدة) قرب الحدود التركية. يأتي هذا الاشتباك وغيره في سياق "حرب الآخرين" التي تجري على الأرض السورية منذ أكثر من ست سنوات، في وقتٍ لا يزال فيه الحل السياسي متوارياً خلف ساتر ضبابي، تحتضنه مدينة جنيف.

الراضون بما نتج عن جنيف يُعدون على أصابع اليد، وأولهم المبعوث الأممي الخاص، ستيفان دي ميستورا، الذي نجح في تحديد تاريخ سبتمبر/ أيلول المقبل موعداً لعقد الجولة المقبلة من سلسلة هذه المؤتمرات. والتفاؤل مفهوم، حيث تكاد مهمة المبعوث تنحصر بالحصول على موافقة الأطراف المتنازعة على الاستمرار في حضور المؤتمرات التالية، ما سيكفل له وظيفةً مستمرةً في الأمم المتحدة بصفة مبعوث أممي! وثانيهم مندوب النظام السوري، بشار الجعفري، الذي أكد أن لقاءه بالمبعوث الخاص كان "جولة مفيدة"، استلزمت منه تكرار عبارة "مكافحة الإرهاب" أمام المبعوث، ومجموعة صغيرة من الصحافيين، كانت تنتظره خارج قاعة الاجتماع. ومع أن الجعفري أكد لأحد الصحافيين أنه تحدّث "بإسهاب" عن الاعتداءات الأميركية والإسرائيلية على الأراضي السورية، لكنه لم يسرِّب نتائج هذا الحديث المسهب، وهو يتعامل مع الأوضاع منذ سنين بالأسلوب نفسه، وتبدو الأمور سهلةً بالنسبة له، ولا تحتاج بذل جهدٍ للابتكار، فقط التأكيد على رسالتين، واحدة موجهة إلى الخارج تقول بأولوية مكافحة الإرهاب، وأخرى إلى الداخل تطمئن المؤيدين بأن النظام لن يسمح بتكرار الاعتداءات على سورية، وإن كَذَب..

الأسد الذي يستفيد، منذ سبع سنوات، من عامل الوقت، ويسعى إلى نقل المدن المدمرة إلى سلطته، وإن كانت البيوت المهدّمة لا تنفع أهلها، فهي تنفعه في تحقيق القبول الدولي به على أنه أمرٌ واقع، لن يكون المستقبل خالصاً له، فحل كارثةٍ إنسانية بهذا الحجم يحتاج إلى إحراق كبش كبيرٍ لرشوة من فقدوا بيوتهم وأهاليهم، ولتسديد فاتورة زعماء العالم الذين انسحبوا من اللعبة طائعين، وسمحوا لروسيا بفرض هيمنتها فوق تلك البقعة المشتعلة من العالم.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠١٧
تخبّط أم خداع؟

لست ممن يصدّقون أن أميركا فاشلة إلى الحد الذي حال، نيفا وستة أعوام، بينها وبين انتهاج سياساتٍ تخدم مصالحها في سورية. ولا أصدّق أن الرئيس السابق، باراك أوباما، نجح في فرض سياساته الشخصية على مؤسسة بلاده العسكرية، ودهاقنة برلماني كونغرسها، وأساتذة جامعات ومراكز التفكير والبحث فيها، التي تستشار عادة قبل أي قرار، وتشارك فيه عند اتخاذه. لو كانت سياسات أميركا محكومةً بالقدر الذي يتحدث بعضنا عنه من الفشل والعجز حيال منطقةٍ هي الأهم استراتيجيا، والأغنى نفطيا وماليا في العالم، لما كانت الدولة الأعظم، ولما أمسكت، منذ قرن ونصف القرن، بمفاتيح السياسات والمصالح الدولية، وألزمت بقية العالم باحترام الأطر، التي تحدد أوضاع دوله المختلفة.

إذا كانت خطط واشنطن في سورية قد استهدفت تحويل ثورتها إلى بؤرة استقطابٍ واقتتالٍ ينخرط فيها خصومها الروس والإيرانيون، ومرتزقتهم والإرهابيون، وكانت قد حققت ما هدفت إليه، هل تكون خططها فاشلةً وسياساتها متخبطة؟. وإذا كانت قد قرّرت إطالة أمد الحرب إلى أن يتلاشى النظام العربي، ويفقد تماسكه ماديا ومعنويا، ليسهل تفكيك دوله، وإعادة تركيبها في صيغ جديدة، تنفيذاً لاستراتيجية "الفوضي الخلاقة" التي أعلنتها وزيرة خارجية بوش الابن، كوندوليزا رايس، عام 2003، وإذا كانت الحرب قد طالت بالفعل، وأدت إلى تفككٍ خطير في كيانات العرب المجتمعية والدولية في طول منطقتنا وعرضها، هل نعتبرها فاشلة، كما دأبنا على وصفها خلال عهد أوباما؟. وإذا كانت قد رسمت خطوطا حمراء ألزمت مختلف القوى بالامتناع عن لعب دورٍ يتعارض معها في سورية، وحظرت تزويد الجيش الحر بأي سلاح، يمكنه حسم الصراع من جهة، وتقييد أدوار من تورّطوا في المستنقع السوري من جهة أخرى، أين يكون فشلها وضعفها وتخبطها؟. هل تجرأ طرفٌ ما وأرسل أو أوصل صاروخا واحدا مضادا للطائرات إلى أي مقاتل من أي فصيل يحارب النظام وإيران وروسيا؟

يعترف اليوم من بيدهم القرار الأميركي في إدارة الرئيس دونالد ترامب بأن أوباما "حفر حفرة عميقة" لن يكون من السهل على من سيليه في الرئاسة الخروج منها، في كل ما يخص الشأن السوري، أو إحداث تبدّل جدّي في سياسات واشنطن السورية. إذا كان هذا صحيحاً، هل نكون هنا أيضاً إزاء تخبط وفشل؟ وهل ما تقوم به العسكرتاريا الأميركية في شمال سورية والعراق، وما أقامه أوباما من علاقات تعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وقواته، وأشرف على تنفيذه في الأسابيع الأخيرة من ولايته، وأسس بواسطته قاعدة استراتيجية أميركية قوية في الشمال السوري، يسوّغ اتهامه بالفشل والتخبط وفقدان الاتجاه؟ إذا كان هدف سياسة واشنطن في شمال سورية والعراق يركز أساسا على حضور طويل الأمد يعوّضها عن فشلها في احتلال العراق، إبان عهد جورج بوش الابن، هل يكون أوباما الذي أسس هذا الحضور، وحول الصراع في سورية إلى فرصةٍ أمسك بقوة بها، أوصلت المنطقة إلى الهاوية التي تجد نفسها فيها، ونقلتها إلى طورٍ أخرج مصيرها من أيدي دولها وأبنائها، وشرع يهدّد كياناتها ويفتتها على أسس طائفية وفئوية، يعتمدها النظام الأسدي وإيران وحزب الله، وكذلك داعش وجبهة النصرة، أين يكون التخبط والضعف في سياسات البيت الأبيض الأوبامي؟.

ثمّة ثوابت لم تحد واشنطن عنها قيد أنملة، طوال فترة الصراع السوري. وقد حققت في كل واحدةٍ منها نجاحاتٍ مفصلية، يتوّجها اليوم حضور عسكري مباشر، يزداد كثافةً وديناميةً في الجغرافيا السورية، يتجاهله، على الرغم من ذلك، من يصرّون على خرافةٍ ترى أن أميركا تهمل الشأن السوري، وتتركه لروسيا، وعلى عدم الاهتمام بما يقوله جنرالاتها بشأن تصميمهم على إبقاء قواتهم عشرين إلى ثلاثين عاما في سورية والعراق، وهي فترة استبعد أن يستمر الصراع السوري الراهن خلالها.

كان من المحال لأي دولةٍ، غير أميركا، تحويل ثورة داخلية ومحلية ضد نظام استبدادي إلى بؤرة تستقطب وتكثف صراعات دولية وإقليمية وعربية وسورية، لم يكن أحد غير دهاقنتها يستطيع تحقيقه وإدامته، وصولا إلى إغراق إيران وروسيا والإرهاب الدولي في لججها، وقلبها إلى نقلة نوعية على طريق اقتتال شيعي/ سني متعاظم، بدأت ترعاه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتخلق صراعا دولياً جديداً ضد العالم الإسلامي، عبر عنه كبار كتابها واستراتيجييها، ما لبثت أن فجّرته وأدارته باسم بلدان الشمال المتقدمة، ليس من المحتم أن تنخرط مباشرةً فيه، كي تتحكّم به وتجني منافعه بالشروط التي ستحدّدها له، وأهمها تحوله إلى فوضى دموية كالتي تعيشها سورية: الساحة الراهنة لهذه السياسة وضحيتها.

لا يتخبط الأميركيون ولا يخادعون. إنهم ينتهجون استراتيجيات تتخطى سورية، نجحت في قلب ثورة شعب صغير ضد نظامه إلى بؤرةٍ كونيةٍ لصراعاتٍ جرّت إليه القوى الأخرى. إذا كان هذا هو الفشل، فكيف يكون النجاح؟. وكيف نخرج من محرقةٍ نجد أنفسنا فيها، لن نتخطّاها إطلاقا إذا ما واصلنا التجاهل بعد الصراع، الكوني ومتعدّد المستويات والجوانب، الدائر في بلادنا، ولا دور لنا فيه غير فشلنا في تخطّي متاهات غيابنا عن وعيه، في حين تخترق خيوطه منذ نيف وستة أعوام العالم كله، بقوةٍ لا مثيل لها، سنبقى ضحاياها ما دمنا عاجزين عن تخطي أوضاعنا الراهنة؟.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠١٧
مآلات التفاوض.. أسد ميّت ومعارضة مهزومة

تمارس روسيا دورها في الصراع السوري، باعتبارها صاحبة صلاحيات مطلقة، وتتصرّف وكأنها انتزعت كامل القرار من النظام، الذي يعتبرها "حليفته"، على الرغم من محاولات إيران المستمرة زعزة هذه الثقة الروسية، سواء من تصريحات رسمية، تفيد أنها غير معنيةٍ بالاتفاقات التي يبرمها الجانب الروسي مع الأميركي، أو عبر تحركاتٍ لقواتها أو المليشيات "الشيعية" التابعة لها، كحزب الله اللبناني وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس وألوية زينبيون وفاطميون العراقية والأفغانية وغيرهم، على الأرض.

ويظهر من ذلك أن موسكو تتابع تركيب قطع اللوحة، بحسب المشهد الذي يعزّز حضورها دولة عظمى شريكة للولايات المتحدة الأميركية، وإنْ بنسبةٍ أقل من النصف، وتوضّح دورها في سورية للشعب الروسي، وللمنظومة الدولية، وللسوريين، من خلال حجم التلاعب في هذا الصراع، وقدرتها على تغيير مواقع كل اللاعبين فيه، سواء من السوريين أو من الدول المتصارعة على سورية، وخصوصاً إيران وتركيا.

منذ دخولها رسمياً إلى حيز العمل الميداني في الصراع على سورية، في العام 2015، استطاعت روسيا أن تصل بالحرب إلى أقصى درجات قسوتها، حيث استباح طيرانها كل المحرّمات، وكل ما استعصى سابقاً على النظام ومن يسانده (إيران ومليشياتها)، بحيث تمكّنت من رسم خريطة جديدة للصراع، بإعادة تموضع صداقاتها وعداواتها. هكذا، فبعد وقوفها على حافة الحرب مع تركيا، استدارت لتعقد صفقة صداقةٍ معها، على حساب الموقف التركي من استراتيجية "تحرير" المعارضة للمدن السورية، كما أعطت لإيران أدواراً بأحجام مختلفة، بدأت بإطلاق يدها في مناطق الريف الدمشقي، وانتهت إلى إخراجها من المنطقة الجنوبية لدمشق، درعا والقنيطرة والسويداء، حسب الاتفاق الروسي الأميركي الأخير، في وقتٍ استرجعت فيه حلب للنظام، وشهدت تهجير السكان والتغيير الديمغرافي الذي أشرفت عليه إيران، من حمص حتى ريف إدلب، مروراً بريف دمشق المجاور للحدود اللبنانية.

وقد تابعت روسيا، باهتمام ملحوظ، خلافات المعارضة البينيّة، وتمكّنت من دعم مجموعات منها، على حساب تصغير أدوار كيانات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والهيئة العليا للمفاوضات، منذ جولة مفاوضات جنيف 4 حتى جنيف 7، التي انتهت أخيراً، بنتائج غير مرئية للمعارضة (الهيئة العليا للتفاوض) التي أعلنت أن لا تقدم فيها، بينما خرجت موسكو من هذه الجولة بعدة "انتصارات":

أول هذه "الانتصارات" أنها فرضت بشكلٍ لا يقبل الشك أن الطريق إلى جنيف يبدأ من الدور الروسي الذي سمحت به الإدارة الأميركية بتصريحاتها عن أن مصير الأسد، وبالتالي، غدا مصير مطالب الثورة السورية بيد روسيا، أيضاً، سواء كانت روسيا موجودة على طاولة مفاوضات الأردن (اتفاق الجنوب)، أو في جولات أستانة، أو عبر وفد النظام للتفاوض في جنيف.

وقاربت روسيا أحجام المعارضات السورية من بعضها بعضاً، وإن كثر عدد وفد الهيئة العليا للتفاوض، إلا أن فعلها تضاءل، وأصبح أقل تأثيراً حتى إعلامياً، وبدأ السوريون يتابعون تصريحات منصّتي موسكو والقاهرة، لأنهما الأقرب إلى واقع الحدث على الأرض، وفي غرف التفاوض بين الوسيط الأممي من جهة وبينهم، وبين الوسيط مع وفد النظام من جهة ثانية، وهذا يعني أن رفض "الهيئة العليا للتفاوض" إشراك هاتين المنصتين سابقاً، وقبولها بهما اليوم، على الرغم من "المغمغات" في التصريحات حول ذلك، هو إقرار من الهيئة بواقعية مطالب المنصتين، أو بتنازل الهيئة عن مطالبها السابقة التي اشترطتها للشراكة مع غيرها من المعارضات، وهو الاحتمال الأكبر.

إضافة إلى ما ذكرت، أكدت موسكو عبر هذه الجولة أن كل ما ترفضه المعارضة (الهيئة العليا) في جولةٍ ما تقبله في جولاتٍ لاحقة، ولعل الحديث عن السلال الأربع (الحكم ـ الدستور ـ الانتخابات ـ محاربة الإرهاب) خير دليل على ذلك، إضافة إلى كل ما كانت المعارضة ترفضه، بدءاً من بيان جنيف، وحتى انسحابها من جنيف 4، وما تلا ذلك من خسائر بشرية، وفي مساحات المعارضة، وفي مطالبها وأهدافها.

وفي كل الأحوال، نجحت موسكو، ومن خلال ما سميت الجلسات التقنية، في استدراج "الهيئة العليا للتفاوض" لنقل خلافات وفدها الفكرية المخفية حول رؤيتها لسورية المستقبل من الخفاء إلى العلن، عبر رفض تيارات أيديولوجية معينة لفكرة المشروع الديمقراطي في بناء مستقبل سورية، وهو ما تجلى في حربٍ إعلامية وشعبية، شنّت على الدكتورة بسمة قضماني، لا تهدف منها فقط إزاحة امرأة علمانية من وفد التفاوض، بقدر ما تهدف، أيضاً، إلى إزاحة فكرة المشروع الديمقراطي من أذهان من يريد تمثيل الهيئة العليا للتفاوض، منعاً لتداوله على طاولة التفاوض، وبالتالي إنهاء فكرة التقارب مع المنصّات التي تعتبر الديمقراطية أساساً لبناء سورية الجديدة، ومنطلقاً لأي تقاربٍ حقيقيٍّ بين المنصّات، بغض النظر عن رأيي بهذه المنصة أو تلك.

أخيراً، تفاوض موسكو باسم النظام وليس عنه، في المحطات التي تقرّر مستقبل سورية فعلياً، وهو (النظام) عبر وفده الذي يتمثل في مؤتمر جنيف، ليس إلا صورة إعلامية ترغب من خلالها موسكو بإقناع العالم بوجوده، بينما هي تمارس دورها وريثاً لأسدٍ فقد قدرته على الدفاع عن نفسه، وعن غيره ممن في زمرته، وهذا هو معنى "الأسد الميت"، أو الآيل إلى الموت، الذي تحتاجه موسكو لتحكم باسمه، وتفاوض العالم من خلال جثته، وتضيف إليه معارضةً مهزومة، لم تستطع حماية تضحيات شعبها، من أجل سورية ديمقراطية، تضع حقوق المواطنة أولاً، بينما تبحث معارضتها في ما يبعد هذا الحق عن السوريين، تحت شعارات الأيديولوجيات التي تحكمها.

هزيمة المعارضة هنا، وليس فقط في حلب أو غيرها. هزيمتها هنا، وليس فقط على طاولة المفاوضات. وفي المحصلة، لا تعني هزيمة المعارضة هزيمة المواطنين السوريين الذين نادوا بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، وبسورية لكل السوريين، وإنما هي هزيمة فقط لكل من فقد بوصلته، ومشى وفقاً لأجندةٍ لم تكن يوماً بين مطالب الثورة، عندما كانت ملكاً للسوريين فقط.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠١٧
هل ثمة مفاوضات سورية - سورية فعلاً؟

قبل أيام انتهت الجولة السابعة من مفاوضات جنيف، مع إعلان ستيفان ديميستورا المبعوث الدولي إلى سورية موعد انعقاد الجولة الثامنة في أيلول (سبتمبر) المقبل، وتأكيده أنه سيعقد جولات أخرى لاحقاً، وقبلها كانت انتهت الجولة الخامسة من مفاوضات آستانة، من دون التوصل إلى أي اتفاق، ومع ذلك تم الإعلان عن التحضير لجولة سادسة. لكن، وعلى رغم كل ذلك، وكل التصريحات والمؤتمرات التي تعقد، والأوراق التي تقدم، هل ماجرى هو مفاوضات فعلاً؟ أو ما الذي يجري حقاً؟

بداية أود أن أؤكد أن المعارضة السورية، بغض النظر عن تقييمنا وضعها أو أداءها، لا تستطيع رفض المشاركة في العملية التفاوضية، فهي لا تستطيع مجابهة المجتمع الدولي الذي فرض هذا المسار، لأنها بذلك تكون كمن يقدم هدية مجانية للنظام، وتظهر كمن يفوّت عليه فرصة الصراع على المكانة والشرعية، والرأي العام، وضمن ذلك فرصة تعزيز خبراتها السياسية.

بيد أن كل ذلك لا يعني تغييب الفرق الكبير بين انخراط المعارضة في العملية التفاوضية من واقع معرفتها محدودية إمكانياتها ودورها، ومن واقع وعيها انسداد أفق هذه المفاوضات، بحكم طبيعة النظام وطبيعة الظرفين الدولي والإقليمي غير المواتيين، وبين الانخراط فيها مع توهّم أنها يمكن أن تنتزع على الطاولة، ومن خلال الاجتماعات، ما لم تستطع انتزاعه من النظام في الصراع على الأرض.

منذ بيان جنيف 1 (2012)، الذي رفضته المعارضة («المجلس الوطني» وقتها)، والذي جمد قسم منها وجوده في كيانها الرئيس («الائتلاف») بسبب قبوله الانخراط في مفاوضات جنيف 2 (مطلع 2014)، مضت ثلاثة أعوام ونصف عام، من الجولة الثانية إلى السابعة، من دون تحقيق أي تقدم يذكر، على الأرض. بل يمكن التذكير هنا بناحيتين أساسيتين، أولاهما، أن وجهة نظر النظام هي التي تترسخ، وهو ما يظهر بتقديم هدف محاربة الإرهاب، والتشكيك بوحدانية مركز المعارضة، والترويج لضعف أهليتها وتمثيلها، الأمر الذي استمر من الجولة الثانية إلى الجولة السابعة، لمن يريد أن يلاحظ. وثانيتهما، أن أي تحول في الصراع السوري، من جهة التوافقات السياسية، إنما هو جرى من خارج العملية التفاوضية، ومن فوق إرادة السوريين (نظاماً ومعارضة)، هذا ما شهدناه في الدخول الروسي على خط الصراع المباشر (أيلول 2015)، وفي تكتيل الجهود الدولية في سورية للحرب على الإرهاب («داعش» و «جبهة النصرة»)، وتعزيز مكانة «قوات سورية الديموقراطية» في الشمال والشرق السوريين، ولا سيما في اتفاق «المناطق المنخفضة التصعيد»، بين روسيا وإيران وتركيا، وأخيراً في الاتفاق على منطقة آمنة في الجنوب بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يحجم نفوذ إيران في هذه المنطقة، وضمن ذلك منع التواصل بين قواتها والميلشيات التابعة لها من طهران إلى لبنان، عبر الحدود العراقية ـ السورية.

المشكلة أن «الائتلاف»، بوصفه الأكثر تمثيلاً للمعارضة السورية، والكيان المعترف به، لم يعمل شيئاً يذكر، أو يتناسب، مع كل هذه التطورات والتحولات، فهو لم يستطع أن يعزز مكانته ككيان سياسي لكل السوريين، أو لمعظمهم، بحكم بنيته المنغلقة، التي تتحكم فيها جماعات صغيرة بارتهانات خارجية، وبحكم الخطابات الفئوية الضيقة الصادرة عنه، التي لا تتمثل مصالح كل السوريين وتطلعاتهم، والتي خرجت عن المقاصد الأساسية للثورة السورية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية.

على سبيل المثال فقد شهدنا أن هذه المعارضة (المتمثلة في الائتلاف) لا تفعل شيئاً، مثلاً، بخصوص تلافي هذه الثغرات القاتلة، ولا تقطع تماماً مع الجماعات الإرهابية (النصرة أو هيئة تحرير الشام لاحقاً وأخواتها) على رغم أن هذه لا تعترف بالثورة السورية، وتشتغل ضدها، وتضر بشعبها، باستثناء بيان هنا وتصريح فردي هناك، للاستهلاك ووفقاً للظروف. هذا يشمل أن هذه المعارضة لم تبذل الجهود الكافية لتقديم رؤية وطنية وديموقراطية لحل المسألة الكردية، لقطع الطريق على النظام الذي يستثمر الخلاف بين المعارضة والقوة الرئيسة عند الكرد السوريين، مع الاختلاف مع بعض طروحاتها وممارساتها، بل إنها، بسبب ارتهاناتها الخارجية، اشتغلت على العكس، أي على تعظيم هذا الخلاف، في الوقت نفسه الذي سكتت فيه على جماعات المعارضة العسكرية (الإسلاموية)، التي ترفع أعلاماً خاصة بها بدل علم الثورة، والتي تجاهر برفضها للديموقراطية، وتنكل بالنشطاء السوريين، وحتى أنها لا تسمح بفتح مكتب للمعارضة، ولا بتوزيع جريدة، في المناطق التي تسيطر عليها.

وقد شهدنا، إضافة إلى ما تقدم، أن بعض المعارضة، او شخصيات مهمة فيها، أصدرت بياناً تدين فيه اتفاق التهدئة، أو «المنطقة الآمنة» في الجنوب، والتي تجنب ثلاث محافظات هي القنيطرة ودرعا والسويداء، مصير حلب المأساوي (العام الماضي)، وكأنها لا تدرك موازين القوى، ولا الظروف الإقليمية والدولية غير المواتية المحيطة بالصراع السوري، أو كأنها تتوهم أن لديها جيشا جراراً يمكن أن يجنب هذه المحافظات كارثة حلب، في حين أنها لا تستطيع حماية أي منطقة من القتل والحصار والتشريد. الأهم من كل ذلك أن هذا البيان صدر عن عقلية تتجاهل أهمية التعويض عن الخلل في موازين القوى، أو أهمية الحفاظ على الذات، بالاستناد إلى تضارب المواقف الدولية؛ ومثاله التوافق الروسي - الأميركي، الذي يحجم النفوذ الإيراني، فضلاً عن أن موقعي البيان لم يقولوا شيئاً يذكر عن مفاوضات آستانة، وتوافقاتها، ولا عن طريقة تشكيل وفدها، ولا عن التوافقات التي تمت فيها، ولا عن دورها في استبدال مسار جنيف بمسار آخر، مع تأكيدنا أن وجود المعارضة السورية العسكرية في آستانة هو مجرد وجود شكلي، إذ المفاوضات تجري بين الدول الثلاث المعنية، فقط.

ثمة كثير من التظلم لدى المعارضة السورية (الائتلاف ـ المجلس الوطني ـ الهيئة العليا للتفاوض) بكياناتها السياسية والعسكرية، نتيجة تجاهل القوى الدولية والإقليمية لها، وهذا صحيح ومرفوض، لكن ادعاء التظلم، وادعاء الحق، لا يكفيان إذ إن هذه المعارضة ينبغي قبل ذلك أن تتفحص مكانتها لدى مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وأن تشتغل لفتح اطاراتها لأوسع تمثيل للسوريين، بكل مكوناتهم وخلفياتهم وبغض النظر عن الاختلافات، كما عليها أن تتمثل مصالح كل السوريين أيضاً، ومن وجهة نظر المستقبل وليس الماضي.

للأسف، ثمة كثير من الأمور المتشابهة في المفاوضات السورية - السورية التي تذكر بالمفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية، فالمفاوضون الفلسطينيون، أيضاً، لم يدركوا حدود إمكانياتهم، ولا أدركوا استحالة التسوية مع إسرائيل في هذه الظروف. والمشكلة، أيضاً، أنهم لم يشتغلوا شيئاً، طوال ربع قرن من اتفاق أوسلو (1993)، سوى في المفاوضات، أي لم يشتغلوا على إعادة بناء كياناتهم، ولا على صوغ علاقاتهم البينية على أسس وطنية وكفاحية، ولا على صوغ خطابات سياسية جديدة، ولا على اجتراح أشكال نضالية أكثر ملاءمة لشعبهم ولإمكانياته ولقدرته على التحمل، ولا على جسر الفجوة بينهم وبين شعبهم في كل أماكن تواجده؛ وهذا ما جرى بالنسبة إلى المعارضة السورية، ايضاً، كأن لا أحد يتعلم إلا من كيسه ومن تجربته وبثمن باهظ يدفع ثمنه الشعب، السوري هنا والفلسطيني هناك.

فوق ذلك، تبدو المفاوضات بين السوريين مثل مفاوضات الفلسطينيين مع إسرائيل (مع الاحترام للمشاعر «القومية»)، إذ ان المفاوضات هناك، أيضاً، بلا أفق سياسي، وبلا مرجعيات، وبلا جدول زمني. فوق ذلك فهناك، أيضاً، قرر المجتمع الدولي، أو الدول الكبرى المعنية، ترك المفاوضات لما يتوصل إليه المتفاوضون، أي تركوها تحت رحمة إسرائيل، التي تتحدث حيناً عن أولوية مكافحة الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل، وحيناً أخر عن عدم أهلية الفلسطينيين للديموقراطية، أو لحكم أنفسهم بأنفسهم، ودليلها ما جرى في غزة، التي أسندت روايتها إلى انقسام الفلسطينيين.

قصارى القول، تشتغل المعارضة (في الائتلاف والهيئة العليا) كأنها دائرة منعزلة، وليس ككيان سياسي يمثل كل السوريين، ويفترض أن يعبر عن كل أصواتهم ومصالحهم وتطلعاتهم. وعلى رغم جهودها في المفاوضات، خلال السنوات الماضية، والأوراق التي قدمتها، إلا أنها تتصرف وكأنها تظن أن هذه الأوراق هي بمثابة جواز مرور، أو امتحان، من دون أن تنتبه أن الأمر يتعلق بموازين القوى، وبإرادات الأطراف الخارجيين المتحكمين بالصراع، بدليل أنها لا تجد حرجاً في حشد عشرات الأعضاء والمستشارين في وفدها إلى جنيف، من دون أي طائل، وهو أمر مخجل حقاً لشعب يدفع باهظاً من تضحياته ومعاناته.

يقول رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات»: «الشعب السوري سئم من تكرر اجتماعات جنيف وتزامنها مع عمليات القصف الجوي والتصعيد العسكري، وأعتقد أن الوساطة الأممية أصبحت في حاجة إلى التقدم بمعطيات جديدة تتناسب مع عمق التحولات الإقليمية والدولية، وأن تركز على تخفيف معاناة السوريين.» (الحياة»، 16/7) لكن المشكلة أن هذا الكلام الصحيح، يبقى مجرد كلام مع الأسف إذ إنه لا يترجم إلى أفعال.

اقرأ المزيد
١٨ يوليو ٢٠١٧
انفجارات سورية محتملة

قد يكون من باب التكرار الممل للبعض، القيام بجردة لما أصاب السوريين من خسائر وآثار، وما لحقهم من كوارث في السنوات السبع الماضية، والتي عاشوا فيها ظروفاً وشروطاً شديدة الاستثنائية، خلقتها سياسة نظام الأسد، وتفاعلت معها سياسات محلية وإقليمية، أدت بالنتيجة إلى وصول السوريين إلى عمق كارثة، سوف يستغرق العالم وقتاً طويلاً لجمع تفاصيل، وقراءة نتائجها، ثم الوصول إلى تقييم ما حصل، ومعالجة آثاره في المستويات المختلفة، ليس في حياة السوريين وحدهم، إنما في محيط واسع من جوارهم في عالم لم يعد سوى «قرية كبيرة».

غير أنه وفي انتظار ذلك الجهد الكبير الذي سيبذل، وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج، لا بد من مقاربة لخلاصات ما حصل ويحصل في سوريا، وهذا لا يتجاوز خطأ فكرة التكرار الممل فقط، إنما يبين اتجاهات تطور الأوضاع السورية، ومآلاتها المحتملة.

إن الظاهر الأبرز فيما أصاب السوريين في السنوات السبع الماضية، جاء نتيجة سياسة النظام الدموية، والتي شارك فيها الإيرانيون وميليشياتهم والروس، وتمخضت عن قتل وجرح واعتقال وتشريد ملايين داخل سوريا وخارجها، وترافق معها تدمير واسع للممتلكات الخاصة أو استيلاء عليها، وكلاهما أمر لم تسلم منه الممتلكات العامة.

وساهمت عوامل متعددة في انتقال سياسة النظام الدموية إلى أطراف أخرى في معادلة الصراع. وكان الأقرب إلى تلك الممارسة جماعات التطرف والإرهاب لا سيما «داعش» و«النصرة» والأقرب إليهما من تنظيمات مسلحة رفعت شعارات «إسلامية»، ذهبت إلى ممارسة القتل والاعتقال والتهجير وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها.

وفي خلفية ما أصاب السوريين في السنوات الماضية، توسع ظاهرة التشبيح. ولأن الظاهرة كانت صفة لأهل النظام، وأحد مظاهر الحياة في مناطق سيطرته، فقد انتقلت إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، وفي هذا لم يكن ثمة فارق كبير بين التشبيح في مناطق النظام أو مناطق سيطرة قوى التطرف والإرهاب، وفي مناطق سيطرة التشكيلات المسلحة المعتدلة، وفيها جميعاً، ولدت ظاهرة التشبيح عصابات إجرامية وأمراء حرب، صار لهم تأثير كارثي في حياة السوريين.

كما أن في خلفية ما أصاب السوريين، استمرار ظاهرة الفساد، وتصاعدها على نحو غير مسبوق باعتبار الفاسدين جزءاً من آليات السيطرة والضبط في مناطق سيطرة النظام وخارجها، وتحول جزء من الفاسدين إلى مافيات، يمتد نفوذها ومصالحها في سوريا وعبر حدودها إلى دول الجوار والأبعد منها، وليست ظاهرة تهريب السوريين إلا تعبيراً واضحاً عن وحدة تلك المافيا ونفوذها.

ولم تسلم بلدان اللجوء من ظواهر سلبية على حياة السوريين فيها؛ فإلى جانب السياسات الرسمية المقنعة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها سبباً في منع وتقييد وصول السوريين إلى تلك البلدان، وفي تفسير سوء وتردي الممارسة حيال اللاجئين والتقصير في تلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين، فتمت عمليات التضييق عليهم وحشرهم في مناطق وظروف تتعارض مع متطلبات العيش والاجتماع الإنساني البسيط، وشيوع سرقة وتبذير الموارد المحدودة المخصصة لهم من الدول والمنظمات الإنسانية المانحة، وفي ظل هذه السياسة، تقارب البؤس الذي يصيب السوريين في بلدان اللجوء مع ما يصيب أقرانهم من المقيمين في سوريا، ولعل الأقرب مثالاً في هذا المجال حالة السوريين في لبنان الذي يضيق على اللاجئين في دخولهم وإقامتهم وفي حركتهم، ومحدودية تلبية احتياجاتهم للغذاء والسكن والصحة والتعليم والعمل، وتقوم بعض قواته وميليشيات طائفية باقتحام مخيمات اللجوء، وتجرح وتعتقل، وتقتل معتقلين تحت التعذيب، وتدمر المخيمات على رؤوس سكانها، وتسعى إلى ترحيل السكان بما يخدم سياسات نظام الأسد.

ورغم أهمية ما يظهر من مآسٍ ومشكلات تصيب السوريين في حياتهم، فإن الأهم مما سبق، يبدو في الظروف السياسية، التي تحيط بمستقبل السوريين، وهي ظروف محاطة بتناقضات، تدفع القطاعات الأوسع من السوريين نحو الإحباط واليأس. وإذا كان مسار نظام الأسد وحلفائه، يعمل على استعادة القبضة الحديدية على سوريا والسوريين بكل الوسائل الممكنة، فإن المسار الآخر، لا يطرح خياراً مختلفاً في نتائجه، خاصة في ظل ما يبدو من طروحات حل سوري يقبل ببقاء الأسد ونظامه، مما يعني أن ترديات الحياة السورية مستمرة، وأنه لا أفق لمعالجة أي منها، خاصة في ظل نظام يعرف العالم كله أن لا حدود لوحشيته ودمويته وفساده، وإصراره على الاستمرار في ذات الطريق ولو بتعديلات شكلية طفيفة.

لقد أدت سياسات نظام الأسد في عهدي الأب والابن إلى خروج السوريين ثائرين عليه في مارس (آذار) من العام 2011 مطالبين بالحرية والتغيير نحو مستقبل أفضل، وقاد قمع النظام الدموي إلى ولادة تشكيلات مسلحة لمواجهة دمويته وإجرامه، وفتحت بوابات الصراع الدموي في سوريا الباب أمام مجيء قيادات وعناصر التنظيمات الإرهابية المتطرفة إلى سوريا، وانضمام سوريين إليها. ووسط تردي وتدهور الأداء في السياسة الدولية حول القضية السورية، اتسعت الكارثة السورية وتشعبت تفاعلاتها، مما يعني تصاعد احتمالات الانفجارات السورية. ولأن السوريين، لم يعودوا كما في السابق ضمن بلد واحد وفي ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية واحدة، فإن احتمالات انفجاراتهم ستكون مختلفة... وهذا ينبغي أن يشكل دافعاً للعالم من أجل البحث عن سياق آخر لمعالجة القضية السورية، بدل الاستمرار في الطريق الحالي الذي لن يقود إلا إلى انفجارات وكوارث في أكثر من مكان.

اقرأ المزيد
١٧ يوليو ٢٠١٧
سوريا: هل هو الفصل الأخير؟

من شرق حلب إلى جنوب الرقة المدن والأرياف تخضع تباعا لقوات نظام الأسد وميليشيات إيران، على وقع قصف الطائرات الروسية، وصواريخها من بوارجها في البحر المتوسط. المعارضة السورية، أو ما تبقى منها، تقاتل ببسالة في ظروف صعبة تكالبت عليها القوات الإيرانية، والميليشيات الموالية لها مع قوات النظام، ومن دون إسناد يذكر للمعارضة منذ غلق الممرات التركية والأردنية.

والوضع السوري في أسوأ حالاته، حيث لم تدم طويلاً الوقفة الأميركية المبهرة أمام معسكر موسكو في سوريا، كما أن للرئيس الفرنسي الجديد أسوأ موقف صدر عن باريس منذ بداية الحرب السورية، يضاف إلى نشاط مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذي كان دائما سلبياً في حق السوريين وخاصة في تعريفه لمن يمثل المعارضة.

لقد نجح الإيرانيون والروس في تحويل قضية الشعب السوري إلى معركة ضد الإرهاب الدولي، مستفيدين من أخطاء حلفاء الثورة السورية، مثل قطر التي كعادتها لم تقدر الأمور ولا عواقب أفعالها. فمعظم القوى السورية المقاتلة لا علاقة لها بالجماعات الإرهابية، ولا بالتطرف إنما كان كافيا وجود هذه الجماعات على الأرض، وبروزها إعلامياً، حتى تصبح فزاعة للعالم على حساب الشعب السوري وقضيته.

ورغم هذا المناخ القاتم، لا تزال قوات النظام السوري، وقيادات إيران العسكرية، وميليشياتها المختلفة الجنسيات، غير قادرة على إخضاع معظم سوريا، ولا قادرة على ضمان أمن المناطق التي استولت عليها. لكن إيران يهمها في هذه المرحلة تأمين المناطق الاستراتيجية لها بالدرجة الأولى أكثر مما يهمها رفع علم النظام على كل المناطق، لهذا هي تحارب في مناطق النفط جنوب الرقة، وتستعين بالميليشيات العراقية مع اللبنانية لتأمين المعابر البرية السورية مع محافظات الغرب العراقي لتأمين السيطرة على العراق، وضمان الدرب الطويل من حدود إيران جنوب العراق إلى لبنان. وخصصت إيران جزءا من تركيزها في استهداف درعا باتجاه الحدود الأردنية معتقدة أن هناك مشروعا للمعارضة السورية، بدعم أميركي، للزحف نحو دمشق لاحقا وفرض شروط من بينها إبعاد يشار الأسد من الحكم.

محافظة درعا كانت ساحة حرب كبيرة، كانت المقاومة السورية قد كسبتها في ظروف فاجأت ثلاثي دمشق، ومنيت فيها ميليشيات إيران بخسائر كبيرة. إنما التبدلات السياسية الأخيرة باعت تلك الانتصارات، فالموقف الأميركي الأخير تراجع أمام مطالب الروس وحلفائهم، رغم أن الدعم العسكري الأميركي كان الأفضل في السنوات الست الماضية لولا أن السياسيين خذلوا العسكريين في التفاهمات الأخيرة.

ومع التراجع الأميركي الجديد، والموقف الفرنسي السلبي، والاشتباك الخليجي، والتقارب التركي مع موسكو فإن المعارضة السورية أمام وضع فريد في صعوباته. والمراهنة المتبقية هي على أن نظام سوريا لا يملك وسائل السيطرة وإدارة المناطق التي يستولي عليها، واستمراره في الاستعانة بالإيرانيين و«حزب الله» والميليشيات العراقية، وكذلك الروس، سيذكي الرفض السوري ويحرض عليه محليا وإقليميا.

غداً، أقدم مراجعة للنزاع السعودي القطري في سوريا.

اقرأ المزيد
١٧ يوليو ٢٠١٧
لماذا شجع «حزب الله» عودة النازحين السوريين؟

في كل مرة تحدد الدولة اللبنانية موعداً لإجراء عمليات مسح العقارات والأملاك العامة والخاصة، يكتشف مهندس التحديد العقاري أن بعض المواطنين يقوم بالاستيلاء على أملاك إضافية من قطع المشاع. كما يكتشف أيضاً أن الفوضى المستشرية في مختلف دوائر الدولة تسمح لمستغلي فقدان الرقابة الرسمية بتغيير حدود أملاكهم. ومثل هذه الحال تنطبق سياسياً على زعماء دول المنطقة الذين يتنافسون حالياً على تجميع أكبر المساحات حجماً بانتظار إجراءات المسح «العقاري» الذي يقوم به الروسي والاميركي والايراني في العراق وسورية. أي في الدولتين اللتين أخضعهما تنظيم «داعش» لحكم استمر مدة ثلاث سنوات.

الرئيس السوري بشار الأسد استند الى كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليؤكد أن وثيقة مؤتمر الأقليات لا تمثل الحد الأدنى من مطالب غالبية الشعب.

وكان الرئيس بوتين قد شدد في مؤتمره الصحافي الذي عقده في هامبورغ، إثر اجتماعه مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، على ضرورة ضمان وحدة الأراضي السورية. وفسّر المراقبون كلام بوتين بأنه ردّ غير مباشر على وثيقة مؤتمر الأقليات السورية التي أسست لتقسيم البلاد الى كانتونات. وهي صادرة عن مؤتمر عُقِد في اسطنبول.

وانتقد أنصار النظام مضمون الوثيقة، لأنها في نظرهم تطالب بتقسيم سورية الى كانتونات أقلوية من دون مراعاة للتداخل الديموغرافي للشعب. واتهموا قوى سياسية خارجية بأنها تدعم هذا الطرح المريب الذي يعبّر عن دور الارتهان الى جهات غريبة. والملاحظ في هذا السياق أن بوتين عدّل موقفه من الأسد غداة لقائه مع ترامب. ففي منتدى بطرسبرغ قال إنه لا يدافع عن الأسد بقدر دفاعه عن الدولة. وحجته أنه يتحاشى نشوء وضع في سورية مماثل للوضع القائم في الصومال أو أفغانستان أو ليبيا. وأكد أن موسكو تريد استمرار الدولة السورية المهيأة لعقد تسوية سياسية مع خصومها على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254.

الجديد في لقاء بوتين وترامب هو اتفاقهما على إيجاد فترة انتقالية يصار خلالها الى إجراء انتخابات عامة ووضع دستور لا تستند نصوصه الى سياسة حزب البعث. وبما أن الرئيس الاميركي يجهل تفاصيل العملية السياسية في سورية، فقد أوكل الى وزير خارجيته ريكس تيلرسون مسؤولية تمثيله.

وقد أظهر تيلرسون في محادثاته أن بشار الأسد سوف يتخلى عن سلطاته في نهاية الأمر. وأكد أنه نجح مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في صوغ اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية بعد إطلاع الأردن على ذلك.

وفي مؤتمر آستانة، وقعت كل من روسيا وتركيا وايران اتفاقاً يقضي بإنشاء «مناطق تهدئة» في سورية. ولقد انتقدها في حينه وفد المعارضة احتجاجاً على دور ايران في ضمان التهدئة. وبما أن الدولة والمعارضة عجزتا طوال ست سنوات عن التوصل الى تسوية مقبولة من الطرفين، لذلك قبلتا بما يقترحه الآخرون. والاتفاق يقضي بإرسال قوات أجنبية الى سورية لحراسة حدود الفصل بين المناطق. ومع أن اتفاق آستانة لم يحدد هوية هذه القوات إلا أن الأمم المتحدة تتصور أنها قد تأتي من دول محايدة مثل ماليزيا واندونيسيا والمغرب.

يقول المراقبون المحايدون إن «مناطق التهدئة» ستكون نتيجة هدنة ملزمة للدولة والمعارضة معاً. وهم يتوقعون أن يفاقم هذا التقسيم انقسام سورية بطريقة يصعب معها استعادة التعايش السلمي السابق. ويرى هؤلاء أيضاً أن مشاركة النظام والمعارضة في مفاوضات آستانة وجنيف ليست أكثر من مناورة لتغطية واقع الأمور. من هنا قول أحد زعماء المعارضة «إن الدولة السورية موجودة في خرائط غوغل ودروس الجغرافيا وفوق كرسي العضوية في الجمعية العامة فقط»!

صحيح أن المعارضة سعت الى إنشاء كيان مستقل، وكذلك حاول الأكراد، ولكن المحاولتين باءتا بالفشل لأن المعارضة والأكراد تعرضوا لمقاومة عنيفة من قبل تركيا وايران وروسيا. ومع هذا كله فإن ترميم النظام أصبح من رابع المستحيلات!

عندما التقى في «فرساي» الرئيسان بوتين وماكرون طلب الرئيس الروسي من نظيره الفرنسي عدم الاعتراض على استمرار الأسد في الحكم الى حين إنتهاء المرحلة الانتقالية. وبالفعل، أعلن الرئيس الفرنسي الجديد موقفه المناقض لموقف سلفه هولاند حيال الوضع في سورية.

ويبدو أن بشار الأسد المتهم من قبل الولايات المتحدة وعدة دول اوروبية وعربية بحاجة الى دعم شرعيته بعدما شاركت قواته في قتل أكثر من أربعمئة ألف مواطن وتهجير أكثر من ستة ملايين نسمة وتدمير كل البنى التحتية في المدن الكبرى.

وكما فعل بوتين في هذا المجال، كذلك شجع «حزب الله» الحكومة اللبنانية على فتح حوار مع الأسد من أجل إعادة النازحين السوريين الى مناطق «التصعيد المخفض» في الجنوب الغربي. وكان ذلك عقب اقتحام الجيش اللبناني مخيمات النازحين في عرسال، الأمر الذي خلق أزمة سياسية ما زالت تداعياتها تتفاعل حتى اليوم. والسبب أن دعاة عودة النفوذ السوري الى لبنان شنوا حملة سياسية تطالب بالانفتاح على النظام المعزول. في حين مانعت جماعة «تيار المستقبل» بقيادة رئيس الحكومة سعد الحريري كل خطة تفتح المجال أمام تعويم نظام الأسد. وأعلن الحريري أن هذه المجازفة من شأنها أن تنعكس سلباً على الحكومة وتعطل عملها. وانتقد دعاتها بقسوة عندما قال: «القبول بالتواصل مع نظام مجرم يعني تغطية الأعمال التي يقوم بها الحلف الايراني - السوري».

ومن أجل احتواء هذا الخلاف ومنع وصوله الى الشارع، قرر الرئيس ميشال عون تكليف مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم القيام بمهمة التنسيق، بحيث لا تتحول مشكلة النازحين السوريين الى مشكلة لبنانية بامتياز.

ولفت الوزير درباس انتباه الحكومة الى وجود مليون وخمسين ألف نازح حسب الأرقام الرسمية. ولكنه على أرض الواقع يزيد عددهم على المليون ونصف المليون نسمة. وذكر أن ما نسبته 43 في المئة من مجموع هذا العدد يمكنهم الرجوع الى سورية بسبب انتمائهم الى مواقع موجودة في «المناطق الآمنة»... أو حسب الوصف التقني «مناطق منخفضة التصعيد». واستناداً الى الخبرة التي اكتسبها درباس في هذا المجال، اجتمع مع رئيس الحكومة سعد الحريري وبعض المهتمين بمعرفة تفاصيل هذه الأزمة، بحيث أطلعهم على مختلف وجهات النظر. المهم أن الجهود التي قام بها «حزب الله» خلال هذا الأسبوع بالتعاون مع «أبو طه» السوري قد أثمرت على الصعيد العملي. وكان من نتائجها عودة 33 عائلة تُعتبر الدفعة الثانية من سلسلة دفعات يشرف مندوبو الأمم المتحدة على عمليات رحيلها الطوعي.

ومن هذه المفاجأة تبرز أسئلة محيرة تتعلق بموقف «حزب الله» من النازحين السوريين: هل هو موقف طائفي يقود الى ترحيل مليون ونصف المليون سوري سنّي يمكن أن يؤدي بقاؤهم في الوطن الصغير الى إسقاط التوازنات القائمة؟

يُستدَل من لهجة الإنذارين اللذين أطلقهما الأمين العام السيد حسن نصرالله خلال الأسبوع الماضي أنه في صدد الإعداد لهجوم مسلح يبعد عن منطقة الجرد، الممتدة من نحلة وفليطا الى عرسال ورأس بعلبك، جميع المقاتلين المنتمين الى «داعش» و «جبهة النصرة» و «الجيش السوري الحر». ويقدر عددهم بألف وخمسمئة عنصر.

ويرى المراقبون أن انتصار «حزب الله» عليهم سيفتح أمامه الحدود مع سورية حيث تنتظره مهمات جديدة عقب استراحة الجيش السوري المنهك.

إضافة الى هذا الأمر، فإن «حزب الله» يسعى الى عدم الإخلال بالوضع الداخلي المريح، لكي يتفرغ الى ما هو أهم في نظره، أي الى مواجهة اسرائيل.

الرئيس بوتين تعهد بإقناع القوات الايرانية و «حزب الله» بالابتعاد من مناطق الاحتكاك مع اسرائيل. وفي اجتماع آستانة طالبت تركيا أيضاً بإبعاد مقاتلي «حزب الله» عن الحدود الشمالية لسورية. وهذا ما يفسر قيام الحزب بنقل معظم قواته الى مناطق جنوب شرق سورية بغرض مساعدة نظام الأسد في السيطرة على مثلث «التنف» على حدود سورية والأردن والعراق. وفي هذا المحيط توجد مواقع عسكرية اميركية أقيمت لمنع وصول الميليشيات الشيعية العراقية تحديداً الى حدود المثلث الخطر!

بقي أن نذكر أنه خلال فترة قريبة من المتوقع أن يقرر الكونغرس الاميركي فرض عقوبات إضافية أصعب من تلك التي فرضت على «حزب الله» في شتاء 2015. وتكمن خطورتها، بحسب مسودة اقتراح القانون الجديد، أنها تحذر المصارف الاميركية من التعامل والتعاون مع المصارف اللبنانية ما لم تلتزم عملياً بتطبيق العقوبات. علماً أن الزيارات المتواصلة التي قام بها لواشنطن مسؤولون من البنك المركزي اللبناني قد نجحت في إقناع غالبية شيوخ الكونغرس بتخفيف اقتراح القانون. ولكنها لم تقنع «اللوبي الاسرائيلي» في اميركا بتخفيف الضغوط على لبنان الذي تعتبره اسرائيل عدوها الأول في المنطقة!

اقرأ المزيد
١٧ يوليو ٢٠١٧
الأسد براغماتياً ديمقراطياً.. وحداثياً

ما زال بعضهم يصّر على العزف خارج السرب الدولي، مستغرباً سبب قبول زعماء العالم الغربي بقاء رأس النظام السوري في السلطة، مدّعمين استغرابهم بأن بشار الأسد أكبر قاتل في العصر الحديث، وهذا سبب كاف لأن ينبذه زعماء العالم الحر، لا أن يتحسّر زعيم ليبرالي عولمي بوزن الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، على إغلاق سفارة بلاده في دمشق سبع سنوات، وانقطاع التواصل مع نظام الأسد وأجهزته.

يعرف الغرب تماما من قتل وبأي سلاح فعل، لديهم تقنيات تكنولوجية، تتيح لهم رصد كل مكالمة وكل أمر عسكري، وينتشر عملاؤهم وعيونهم في كل مكان، يعرفون أكثر مما نعرف، نحن أهل البلاد، ما يجري في حوارينا وأزقتنا، ولكن ليس من مهامهم إعلان موقف من القاتل.

عندهم أن بشار الأسد ليس خطرا على الخارج، قالها ماكرون، وقبله ردّد وزير خارجية روسيا هذه المعزوفة على أسماع نظرائه الغربيين، قبله كان عبد الفتاح السيسي يقتل أول تجربة ديمقراطية في تاريخ الدولة المصرية الحديثة، ويجتث بيئتها الحاضنة، وكأنه يعيش في عالمٍ لا رقيب فيه، ومع ذلك جرى دعمه وتكريمه.

عندهم أيضاً أن كل ما يفعله الأسد خيرٌ صاف، الرجل أجرى هندسة اجتماعية بالسكين لموازنة الأكثرية بالأقليات، وضمن بقاء الأقلية وسيطرتها مدى زمنيا طويلا، أنقذ البلد من موجة الإسلاموية إلى مائة سنة مقبلة، رحّل إلى أوروبا عمالة تحتاجها بإلحاح في الوقت الراهن، ثمّة مهنٌ كثيرةٌ ضرورية لمجتمعات أوروبا عافها الأوروبيون، إما لقلة مردوديتها أو لصعوبة العمل بها، دعك من صراخات بعض الشعبويين هؤلاء، ليسوا على إطلاع بالمعطيات، ولا يعرفون المخططات.

أثبت الأسد قدرة هائلة على إدارة مساكنة دولية على أرض سورية، فقد أرضى جميع الأطراف، دولاً وجماعات وأحزابا، واستطاع منحهم ما يكفيهم من حصص وقواعد وممرات ومطارات. وشعر الكل معه بأنه أعظم من في العالم وأقوى من في الإقليم، وزَع عليهم ثروات سورية مثلما يشتهون ويحبّون، وفاض كرمه الذي تجاوز كرم حاتم الطائي الذي وقف عند ذبح حصانه للضيف، بأن منح صديقه فلاديمير بوتين سماء مفتوحة، وأرضاً عامرة باللحم الحي، ليجرّب عليها الأخير أسلحته، ويصنع دعايةً لمنتجاته القاتلة أمام الزبون وعلى الهواء مباشرة.

أثبت بشار الأسد أن الجغرافيا السورية رحبة، وتتسع لأشياء كثيرة، ولا تضيق إلا على السوري وحده، لا لشيءٍ سوى أنه لا يعرف استخدام المساحات بغير زراعة القمح ورعاية مواشيه، وملاعب لأولاده، فيما اكتشف الأسد أنها في عصر الصراعات الإستراتيجية وزمن العولمة وصراعات خطوط النفط والغاز ومشاريع طرق الحرير والسلام، تساوي أكثر من ذلك بكثير، وأثبت أن كل شيءٍ مسموح في جغرافية سورية، ووحدها حرية الشعب السوري الممنوعة، ليس من قلة حداثةٍ يفتقر لها الرجل، بل لأن حرية الجهلة جالبة للإرهاب، ومهدّدة وحدة التراب.

هل من قائل إن الأسد قاتل؟ نعم لكنه قتلٌ وظيفيٌّ هدفه تحديث الشعب، فالتحديث، في آخر نسخه، بات يعتمد القتل أداةً لإنجاز هذه المهمة، لم تعد مهمة الحاكم طرح أفكار ومشاريع تحديثية وصياغتها، ما دامت الأفكار ملقاةً على قارعة العالم بعد قرون من دخول الحداثة بوابة العالم، وتغلغلها في جنباته، خصوصا وأن الغرب علق في أزمة التحديث، إذ ليس شرطا أن تأتي عمليات التغيير السياسي بالتحديث الذي يتطابق مع الاغتراب أو التغرب، كما أن الديمقراطية يمكنها إيصال أشخاص إلى السلطة على تصادم مع الغرب، في حين أن قائمة الديكتاتوريين العرب، وإن كانت تمنع الديمقراطية، إلا أنها تطبق روشتية الغرب في التحديث والعولمة ونمط الحياة الغربي وسواها، ولا تستغربوا اقتران الحداثة بالقتل، الغرب نفسه كان قد دشّن حداثة اليابان بمذابح ناغازاكي وهيروشيما.

الأكثر من ذلك أن الأسد يمزج بين الحداثة والديمقراطية، فهو لم يجبر أحدا على الثورة ضده. استلم الرجل السلطة بالوراثة، وسمح للشعب بتجديد البيعة له كل سبع سنين، كما أنه لم يُجبر أحدا على القتال معه، من فعل ذلك فعله لأسبابه الخاصة، كان ديمقراطياً إلى أبعد الحدود، وغداً عندما تبرد الجراح، وينظر كلٌّ إلى الحدث من زاويته الخاصة، سيكتشف السوريون حجم إنجازات الأسد. كان الوصول إلى أوروبا وأميركا حلما لدى السوريين، لا يناله إلا أصحاب الثروات والمشاهير، وها هم السوريون يتجولون في أوروبا مثلما يتجولون في حواري مدنهم، حتى سكان المخيمات أغلبهم من أبناء الأرياف الذين ملّوا من رتابة الريف، وقيوده الاجتماعية وسنوات الجفاف القاهرة، وها هم اليوم يعيشون في المخيمات حياة المدن النشطة، وينعمون بالمساعدات الدولية، من دون انتظار السماء أمطرت أم لم تمطر، وحتى الموالون سيكتشفون أنهم تخلصوا من الزعران في قراهم ومدنهم، وحصلوا عوضاً عنهم على ساعاتٍ تزين حيطان بيوتهم.

كيف يفرّط العالم برئيسٍ كهذا، أدار كل هذه التوازنات، وحقق كل تلك النتائج المبهرة في زمنٍ ترتبك دول عظمى في إدارة صراعاتها على مساحةٍ صغيرة في بحر اليابان والمتجمد الشمالي، وتتهافت شعوبها على فرصة عملٍ تحسّن بها أوضاعها. فقط ممنوع على بشار استخدام الكيميائي، ونوع محدّد منه، وبالأصل لم يعد الرجل بحاجة لهذا النوع من السلاح. وباعتراف الأمم المتحدة، سبق أن استخدمه مائة وخمسين مرّة قبل ذلك، ما يعني أنه لو كان لعبة بلاي ستيشن تلك التي يعشقها الأسد أكثر شيء، لكان قد عافها وانتهى منها هذا الحداثي الديمقراطي.. والوسيم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان