هل سيفعلان ذلك؟ ألن يفعلا ذلك؟ تلك هي التساؤلات التي تشغل الدوائر السياسية الدولية هذه الأيام. وتشير الصيغة إلى الرئيسين الأميركي الجديد دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين اللذين ربما يعقدان لقاءً ثنائياً على هامش قمة مجموعة الـ20 التي من المقرر أن تستضيفها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هامبورغ الأسبوع المقبل.
ورغم تضارب التحليلات التي تتناول الأوضاع العالمية، ثمة إجماع حول أن عقد ترمب وبوتين لقاءً ربما يسهم في الحد من التوترات الدولية، ويمهد الطريق نحو تسوية بعض القضايا المشتعلة. ويكمن السبب وراء ذلك في أنه رغم مشكلاتها الداخلية، تبقى الولايات المتحدة عاملاً يتعذر الاستغناء عنه في غالبية الأصعدة السياسية العالمية، بينما تلعب روسيا التي عاودت رسم صورتها باعتبارها قوة التحدي في مواجهة واشنطن، دور الرافض الأول.
يذكر أن القمة الأميركية - الروسية الأخيرة عقدت في سبتمبر (أيلول) 2016 خلال الأيام الأخيرة من عمر إدارة باراك أوباما، في وقت كان بوتين قد قرر انتظار نتيجة الرئاسة الأميركية. وعليه، فإن قمة أوباما - بوتين التي استضافتها مدينة هانغتشو الصينية لم تعد كونها استعراضاً للمكانة والنفوذ. من جانبه، حاول أوباما الظهور بوجه صارم في أيامه الأخيرة في السلطة، بينما فعل بوتين كل ما بوسعه لإذلاله. وبدلاً من الإسهام في تقليص التوترات، انتهى اللقاء إلى تصعيدها على نحو ملحوظ مع توجيه أوباما اتهاماً لبوتين بمحاولة التأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح ترمب.
كانت مجموعة الـ20 قد بدأت عام 1999 بمشاركة وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية بالدول المعنية، وذلك كمنتدى للتعاون الاقتصادي العالمي، مع انعقاد أول قمة عام 2008. وتحولت بمرور الوقت إلى لقاء قمة غير رسمي لكبار القيادات الدولية لمناقشة قضايا الحكم الداخلي.
ونظراً لأن غالبية الدول الفاعلة دولياً ممثلة في المجموعة، أصبح بإمكان هذا المنتدى ادعاء سلطة أخلاقية أكبر عن مجموعة الـ8 الأقدم، والتي تقلصت الآن إلى مجموعة الـ7. وعليه، فإنه إذا نجحت الولايات المتحدة وروسيا في الوصول لأرضية مشتركة، فإن بإمكانهما الاعتماد على قاعدة تأييد دولي واسعة لأي مقترح تطرحانه.
وحال انعقاد قمة أميركية - روسية، فإن ثلاث قضايا محورية من المحتمل أن تهيمن على أجندة اللقاء.
أولاً: محاولة وضع تعريف محدد بأكبر قدر ممكن لما تعنيه طموحات روسيا، خصوصاً فيما يتعلق بأوروبا. على ما يبدو، ترمي السياسة الروسية الحالية إلى إثارة الوقيعة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على أحد الدعم المالي والدعائي الذي يقدمه الكرملين لأحزاب شعبوية من تياري اليمين واليسار تتبع أجندات مناهضة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد يدعي بوتين أن موقفه المناهض للاتحاد الأوروبي يعكس حالة دفاع عن النفس، ويمثل استجابة للعقوبات المفروضة على روسيا، رداً على سياسات عدائية روسية وضم القرم والتدخل العسكري في دونتيسك.
في هذه المرحلة، يسعى بوتين نحو أمرين: أولاً: يرغب في أن تبتلع القوى الغربية فكرة خسارة أوكرانيا للقرم باعتبارها أمراً واقعاً. ولا يعني ذلك إعلان حلف «الناتو» اعترافه بضم روسيا للقرم، وإنما يكفي القبول الضمني فحسب.
وكان ذلك ما حدث في حالة دول بحر البلطيق التي ضمها ستالين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. استمرت ديمقراطيات غربية في النظر إلى الدول الثلاث باعتبارها أراضي محتلة، لكنها عملياً لم تفعل شيئاً لإجبار الروس على الخروج من هذه الدول حتى سقوط الإمبراطورية السوفياتية.
وعليه، يبدو من المحتمل أن تتخذ هذه الدول موقفاً مشابهاً إزاء القرم حتى تفكك الاتحاد الروسي ذاته، الأمر الذي يعتبره بعض الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين أكثر من محتمل. (سبق وأن أعرب الراحل زبغنيو بريجنينسكي عن اعتقاده بأن روسيا ستنقسم إلى ثلاث دول: واحدة إلى الغرب من جبال الأورال، والتي بمرور الوقت ستتحول إلى دولة «أوروبية» بصورة كاملة، وأخرى إلى الشرق من جبال الأورال وغرب سيبيريا يغلب عليها التتار المسلمون والباشكير، ودولة ثالثة في سيبيريا تضم مزيجاً من أعراق صينية وكورية وأبناء سيبيريا الأصليين.
ثانياً: يرغب بوتين في توقف أعمال التوسع من جانب «الناتو»، خصوصاً داخل أوروبا وجنوب القوقاز.
وبالنظر إلى سوريا في إطار الأطماع الروسية الجديدة في الشرق الأوسط، نجد أن بوتين سعى على عجل لصياغة حزمة من المقترحات بناءً على «مشاورات» مع تركيا وإيران، لعرضها على مجموعة الـ20 على أمل تعزيز موقف روسيا، باعتبارها الدولة الأجنبية صاحبة النفوذ الأكبر داخل سوريا، مع إقناع القوى الغربية بالتشارك في عبء التعامل مع موقف عصيب.
من ناحيته، يرغب بوتين في إبقاء الديكتاتور السوري بشار الأسد في السلطة لفترة قصيرة، في الوقت الذي ترسخ روسيا وجودها داخل سوريا على نحو لا يمكن لأي نظام سوري في المستقبل تجاهله. ومن أجل كسب تأييد الغرب لمثل هذه الحزمة من المقترحات، سيتعين على بوتين طرح إمكانية عمله على تقليص نفوذ ملالي إيران داخل سوريا، مع العمل في الوقت ذاته على معاونة تركيا، عضو «الناتو» على الفوز بـ«حقوق مراقبة» داخل أراضي سوريا على امتداد الحدود.
هنا أيضاً، يحتاج بوتين إلى نتائج سريعة، بينما يمكن للغرب السماح له بتعزيز نفوذه داخل سوريا كيفما شاء.
ثالثاً: الحرب السيبرية التي تجب إضافتها إلى أنماط الحروب المعروفة - البرية والبحرية وعبر الغواصات والجوية، وذلك باعتبارها صورة خامسة من صور الحرب. وحتى هذه اللحظة، تمتعت روسيا باليد العليا في إطار هذه الحرب، من خلال إقدامها على مخاطر وجدت ديمقراطيات غربية صعوبة في خوضها بسبب المعارضة الداخلية. بيد أنه على المدى ما بين المتوسط والطويل، لن تتمكن روسيا أبدا من مضاهاة الموارد العلمية والتكنولوجية الغربية الهائلة. ومثلما كان الحال مع سباق الفضاء في خمسينات وستينات القرن الماضي، ربما تكون روسيا قد تقدمت على الغرب في جولة، لكنها ستأتي في مرتبة متأخرة عنه حتماً عند خط النهاية.
ورغم أن وسائل الإعلام التابعة للكرملين تشيد بـ«انتصارات» بوتين، فإنها في حقيقتها انتصارات وهمية. في الواقع، إن هذا يذكرني بقصيدة لألكسندر بوشكين بعنوان «القيصر نيكيتا وبناته الأربعون» والتي تدور حول قيصر سعيد لديه أربعون ابنة فائقات الجمال والذكاء والسحر، لكن المشكلة الوحيدة أنهن يملكن كل شيء ما عدا ما يجعل من الإنسان أنثى ـ بمعنى أنهن يحظين بكل شيء ما عدا العنصر الضروري. وعليه، اضطر القيصر نيكيتا المسكين للتوسل للصديق والعدو، وبشكل خاص العدو، لمعاونته في إصلاح هذا الأمر.
واليوم، يبدو القيصر فلاديمير بحاجة إلى الغرب أكثر مما يحتاجه الغرب.
دعا السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، في خطابه الأخير إلى استقدام عشرات الآلاف من المجاهدين إلى لبنان من أنحاء العالم العربي والإسلامي «من العراق ومن اليمن ومن كل مكان آخر ومن إيران وأفغانستان ومن باكستان»، وتابعه نائب للحزب في البرلمان، نواف الموسوي، بدعوة الحرس الثوري الإيراني و«الحشد الشعبي» العراقي و«القوى السورية الشعبية وكل مناضل عربي وقف إلى جانب القيادة السورية» للقتال معاً في لبنان صفاً واحداً.
أحد الردود المفاجئة على الخطاب المذكور كانت عنواناً رئيسياً في جريدة لبنانية مرموقة بعنوان: «اللبنانيون يتناقصون… والسوريون يتزايدون»، وهو ردّ يستهدف عمليّاً اللاجئين السوريين في لبنان ويندد بزيادة عدد مواليدهم وفتوّتهم فيما يتجاهل تماماً كل المدعوّين الآخرين للقتال «صفّا واحدا» في لبنان.
ما تقوله تصريحات مسؤولي «حزب الله» هو أن سقوط تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» قد فتح الطريق عمليّاً لصعود «الحشد الشعبي في العراق وسوريا… ولبنان»، أو بمعنى آخر، انفتاح الطريق البرّي من طهران مروراً بدمشق ووصولاً إلى بيروت.
التصريحات الأخيرة يمكن فهمها بحرفيّتها، بما هي دعوة للإجهاز على ما تبقى من السيادة المهتوكة للدولة اللبنانية، أو باعتبارها جزءاً من توازن الرعب والتهديد بين تل أبيب، التي قالت إن حرباً جديدة ضد لبنان ستكون أكبر بكثير مما سبقها، و«حزب الله»، الذي يقول إن الحرب معه لن تكون مع بيروت فحسب بل مع كل الميليشيات الشيعية من لبنان حتى أفغانستان؛ أو، باختصار، إعلان من إيران أنها أقوى من المخططات الأمريكية ـ العربية لتحجيم نفوذها المتصاعد في المنطقة العربية بعد الخلاص من العدو المشترك للجميع: تنظيم «الدولة الإسلامية».
لكن تفاصيل صغيرة في هذه اللوحة الكبرى المعقدة تفضح البراغماتية الوحشية للمعارك الجارية على أرض العرب والتي تستخدم الرايات المقدّسة لآل الرسول وأسماء الله ودعوات تحرير فلسطين و«المقاومة»، من جهة إيران وميليشياتها وقوّات بشار الأسد والحوثيين وعلي صالح، أو التصدّي للسلاح النووي الإيراني ونفوذ قم والميليشيات الطائفيّة الشيعية وللتكفيريين والإرهابيين، حسب سرديّات بعض خصومهم الألدّاء.
من تفاصيل هذه البراغماتية الوحشية والعنصرية المعمّمة واحتقار البشر، بما هم بشر، ما يحصل للمهجرين والنازحين وسكان المخيمات وأهالي المناطق المحاصرة والمجوّعة والمقصوفة بكافة أشكال الطيران من سوريين وعراقيين، كما يحصل لفقراء اليمن الذين يعانون من وطأة الكوليرا والفقر والقصف والحصار.
فـ«حزب الله» الذي اعترف أمينه العامّ مؤخراً بأن ثورات الربيع العربي كانت حقيقية وليست «مؤامرة إسرائيلية» (كما كان يردد على مدى سنوات)، لا ينفكّ يرعى ويبجّل ويبرّر عمليات التنكيل البشعة التي يقوم بها الجيش اللبناني ضد مخيّمات اللاجئين السوريين وقد اعتبر أن جولتها القمعية الأخيرة هي لحماية أمن الحدود اللبنانية.
وجحافل المقاومين الذين يدعوهم لمشاركته شرف قتال العدو الإسرائيلي في لبنان هم أنفسهم الذين اشتهر بعضهم بشيّ البشر وتقطيعهم والتمثيل بجثثهم واعتقال وتعذيب وقتل الآلاف من شباب الأنبار والموصل.
وعلى المقلب الآخر صار معروفاً وذائعاً خبر السجون الرهيبة التي تشرف عليها الإمارات في اليمن وهناك روايات تقشعر لها الأبدان عن الممارسات التي تجري فيها.
في هذه الأحداث كلّها تكتشف جامعاً واحداً يجمع المنفّذين ويجعل «نضالهم» كلهم، رغم اختلاف الشعارات، يصبّ في الأهداف نفسها: تأبيد الاستبداد والطغيان ومنع التغيير المدني والديمقراطي وتصعيد الغرائز الوحشية والطائفية.
يندرج تهديد الأمين العام لـ «حزب الله» بنقل الميليشيات الشيعية المتعددة الجنسية التي تقاتل في سورية الى لبنان، في اطار اجراءات التحسّب التي تُعدّها ايران لمرحلة ما بعد الحرب الأميركية على «داعش»، لا سيما في ضوء اللقاء المرتقب بين ترامب وبوتين الأسبوع المقبل، وشعورها بالقلق منه، على رغم التوقعات المتواضعة لنتائجه.
وقد يعتقد كثيرون بأن تلويح نصرالله بحشد شيعي تهويل بحت، ويهدف الى ترهيب اسرائيل وردعها عن التفكير في استهدافه، إلا ان تجربة الحزب خلال السنوات الماضية تشير الى انه يلجأ عادة الى طرح افكار غامضة ومتقطعة عن خططه، ثم يوسعها في شكل متصاعد، لتشمل في كل مرة تفاصيل اضافية وذرائع متنوعة، الى ان تصبح اكثر قبولاً ويتم التعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً. ويشكل التدرج الذي اعلن به الحزب تدخله العسكري في سورية نموذجاً لهذا الأسلوب.
فالمؤكد، ان الرسالة الجديدة موجهة هذه المرة ليس الى اسرائيل فحسب، بل خصوصاً الى الولايات المتحدة وروسيا. إذ ليس شيئاً جديداً ان «حزب الله» لا يعترف بالحدود اللبنانية الرسمية التي لم يُقم لها وزناً منذ نشأته، والتي لم تحل يوماً دون تلقيه شحنات الأسلحة الإيرانية والسورية، ولم تشكل عائقاً امام انتقال الآلاف من مقاتليه الى الداخل السوري للدفاع عن نظام الأسد، ولم تكن ابداً عقبة أمام استقباله في معسكرات التدريب في البقاع والجنوب والضاحية «متطوعين» من البحرين واليمن والسعودية. ولذا سيكون أمراً «عادياً»، بالنسبة إليه، ان يستقدم «فاطميين» و «نجباء» الى «الساحة اللبنانية» التي يمتلك قرارها.
والتوجس الذي تعيشه ايران وحزبها، يتمحور حول صفقة ما قد يبرمها ترامب وبوتين في شأن سورية، لتشكل صافرة البداية للسعي الأميركي الى تقليص الدور الإيراني في هذا البلد. وتشعر طهران بأن ثمة احتمالاً، ولو ضعيفاً، بأن تقايض روسيا بقاء بشار الأسد بخفض الانتشار الإيراني وملحقاته، اي ضمانات اميركية بعدم التعرض للنظام اذا ساعدت روسيا واشنطن في تطلعها الى محاصرة الامتدادات الإقليمية لإيران.
ويضغط الأميركيون بقوة في هذا الاتجاه، سواء عبر تصديهم لمحاولات قوات موالية لإيران الاقتراب من منطقة الحدود السورية مع العراق والأردن، او عبر الإنذار الذي وجهوه الى الأسد من مغبة شن اعتداء كيماوي جديد وتهديدهم بتدفيعه مع جيشه «ثمناً فادحاً». لكنهم يطرحون على الروس في المقابل مغريات متعددة، بينها امكان تخفيف العقوبات الاقتصادية وتجميد او تقليص خطط توسيع الحلف الأطلسي في شرق اوروبا، وبالتأكيد، الإقرار الواضح والعملي بمصالح موسكو في سورية والشرق الأوسط، بعدما جرى تجاهلها حتى الآن.
وإذا نجح لقاء هامبورغ في صوغ اتفاق روسي - اميركي، بما يعني اقتراب التسوية في سورية، ستطرح اسئلة من نوع: هل تستطيع ايران مقاومة النتائج العملية لهذا التقارب؟ وماذا ستفعل بميليشياتها العراقية والأفغانية والباكستانية وقوات «الحرس الثوري»؟ وكيف ستحميها اذا رفع عنها الغطاء الجوي الروسي؟
وسواء اكتملت عناصر الصفقة بين القطبين الدوليين أو لا، فإن ايران التي تعتبر «حزب الله» ورقتها الأقوى على الإطلاق في المنطقة، تدرك ان اي تراجع لدورها في سورية سيمهد الطريق لمواجهة مقبلة هدفها اضعاف حزبها في لبنان. ولذا يخدم مدّه بآلاف المقاتلين الشيعة المنتشرين حالياً في سورية هدفين: تعزيز امكاناته عبر تحويل لبنان «قاعدة شيعية» دائمة، بما يجعل الحرب البرية عليه اكثر صعوبة، ومنحه القدرة على التخريب لاحقاً على أي تسوية في سورية لا تضمن المصالح الإيرانية.
يمضي السيناريو كما كان متصوَّراً ومتوقّعاً، وما تحقّق منه في اللحظة الراهنة أمران: الأول، أن النظام لم يعد له قرار في ما يتعلّق بمستقبل سورية سواء كان يعمل للتقسيم أم لا، وأن المعارضة أُنهكت ووُزّعت على معازل ولم تعد قادرة على الدفاع عن وحدة سورية. والآخر، أن روسيا تتولّى التنسيق مع الولايات المتحدة من جهة، ومع إيران وتركيا من جهة اخرى، لرسم خرائط «مناطق النفوذ» وحدودها، ولتحديد الأطراف المقبولة أو المرفوضة فيها.
منذ بداية ولاية دونالد ترامب لم يُسجّل لأي مسؤول سياسي أو استخباري أي موقف يحذّر من تقسيم سورية على غرار ما فعل الوزير السابق جون كيري أو المدير السابق لـ «سي آي اي» جون برينان. وبدلاً من استراتيجية أميركية «جديدة» في شأن سورية كانت مرتقبة بها منذ ايار (مايو) الماضي، تبدو واشنطن مكتفية باتفاقات تكتيكية مع موسكو، ولو متقطّعة ببعض التوتر والاستفزاز من الجانبين. والثابت أن هناك قبولاً أميركياً بدور روسيا من دون الجهر بإطلاق يدها في سورية، وفي المقابل هناك قبول روسي متفاوت الدرجة بدور أميركا، فهو مشروط بالنسبة الى محاربة «داعش» في الرقّة، وغامض في دير الزور، وغير محسوم حيال خطّة أميركية - (اسرائيلية؟) لـ «مناطق آمنة» في جنوب سورية. الثابت أيضاً أن مستوى التنسيق بين تركيا وروسيا ينمو باستمرار اذا صحّ أنهما ستتشاركان السيطرة على ادلب والريف الشمالي الشرقي لحلب، فيما يشهد التفاهم بين تركيا والولايات المتحدة تراجعاً مطّرداً. لكن خلاف روسيا مع الجميع، أميركيين وعرباً وإسرائيليين، يتعلّق بالدور الإيراني المتوسّع في سورية. ولم يصدر عن الروس سوى اشارات ايجابية تجاه الإيرانيين، اذ اعتبروا أنهم موجودون مثلهم بدعوة من «الحكومة الشرعية»، ومثلهم «يحاربون الإرهابيين (بالأحرى معارضي النظام)» ويساعدون نظام بشار الأسد على البقاء والصمود. وفيما نأت موسكو بنفسها عن النزاع الإيراني - الإسرائيلي، مطمئنّة الى أنها وإسرائيل متّفقتان في دعم بقاء نظام الأسد، إلا أن التنسيق الإستراتيجي بينهما أعطى اسرائيل ترخيصاً لتوجيه ضربات لـ «حزب الله» والميليشيات الاخرى التابعة لإيران في أي موقع سوري، وهي ضربات تحقّق أحياناً أهدافاً روسية غير معلنة. وفي الردّ على الاحتجاجات العربية، تشير موسكو الى واقع أن الدولتَين العربيتَين المحاذيتَين لسورية (العراق ولبنان) هما تحت الهيمنة الإيرانية، لكنها ومن موقع مسؤوليتها الدولية لا تبدي رأياً في ما يخصّ الحدود السورية مع هاتَين الدولتَين، مع علمها أن الحدود من لبنان باتت تحت سيطرة إيران - «حزب الله» امتداداً الى دمشق وحمص، ومن الجانب العراقي يضاعف الإيرانيون جهودهم تحت غطاء «الحشد الشعبي» لاختراق الحدود وتكريس حال احتلالية ناجزة لما يسمّى «سورية المفيدة».
لم تكن موسكو قادرة، وهي تحاول تسويق مناطقها الأربع لـ «خفض التصعيد»، على الدفاع عن «قوات النظام» وهي تقترب من حدود الاردن في درعا أو من حدود اسرائيل في القنيطرة. فهذه ليست «قوات النظام» بل ميليشيات تابعة لإيران، وليس لدى النظام سوى أعداد قليلة العدد يفرزها لتغطية تلك الميليشيات. كذلك لم تكن موسكو قادرة على اطالة وقف التنسيق الجوي مع الأميركيين الذين أسقطوا طائرة «سوخوي 22» للنظام حين حاولت مؤازرة «قوات النظام» في هجمات على «قوات سورية الديموقراطية» التي تقاتل «داعش» في الرقّة بتكليف وحماية أميركيَين. ولم يُسمع أي تعليق روسي على وقائع ثلاث مهمة: تزايد الاحتكاكات بين الأميركيين والإيرانيين، وإطلاق إيران صواريخ من أراضيها على دير الزور، والغارات الاسرائيلية على «قوات النظام» في القنيطرة.
ربما تعتقد روسيا أن كل ما يجري معارك جانبية لا تمسّ مصالحها، فهي توزّع الأدوار وتديرها، تسهّلها أو تعرقلها وتكبحها، وهي متحكّمة بقرار النظام في النزاع الداخلي وبتحرّكات المعارضة عبر تركيا وقطر، ولم يحدث أن أقلقها الدور الأميركي المقتصر على محاربة «داعش» بل لعلها باشرت منافسته بضرباتها الصاروخية وإعلانها قتل ابي بكر البغدادي، أما النفوذ الإيراني فتتعايش معه كأنه مجرد دفاع عن مصالح في سورية متغاضيةً عن كونه جزءاً من مشروع توسّعي. لذلك يبقى الأهم عندها أن تواصل الإيحاء بأنها تمسك بمفاتيح حل الأزمة عسكرياً وسياسياً، اذ ربطت حركة مسار جنيف بتقدّم مسار آستانة، لكن خططها تفتقد وجود قوات لها على الأرض، بل تعاني من تعويلها على القوّة التي توفّرها ميليشيات إيران ميدانياً ولو لم تكن تحت سيطرتها، وتعاني خصوصاً من اخفاقها في اعادة بناء الجيش السوري وتوحيده. كان يمكن هذا المشروع أن يمحض روسيا صدقية، والأهم أنه كان يمكن أن يكون ورقة محورية في إنجاز حل سياسي وإحباط تقسيم سورية الذي أصبح مشروعاً إيرانياً.
كان الروس أسّسوا الفيلق الخامس وروّجوا أنه إطار معدّ لاستيعاب فصائل وميليشيات شتّى، لكنه يبدو اليوم وفقاً لأحد ضباطه (في رسالة فايسبوكية موجّهة الى الأسد) «أسوأ تشكيل مقاتل»، إذ يشكو من العتاد والخطط «الفاشلة» ومن اهانات القادة الروس والنيران الصديقة التي تقتل ضباطاً من الفيلق الذي خاض معارك حاسمة في تدمر وحماة. أما الفيلق الرابع، الذي كان يُفترض أن يلمّ الشراذم الميليشياوية التي أنشأها ضباط علويون في اللاذقية ومناطق الساحل، فلم يتمكّن من هدفه، لأن «قوات النمر» و «مغاوير البحر» و «صقور الصحراء» و «درع الأمن العسكري» وغيرها رفضت الإنضواء فيه، مفضّلةً بقاءها منفلتة لممارسة السلطة والنفوذ (تعفيش، تشبيح، خوّات...). هذه الشراذم تنشط محتمية بقاعدة حميميم الروسية وهي التي نظّمت قبل أيام مسيرات تتحدّى قرارات بالحد من امتيازات الضباط ومحاسبة الفاسدين، وكان الأسد أعلن شخصياً هذه القرارات خلال ترؤسه للمرة الأولى منذ فترة طويلة جلسة لحكومته مخصّصة لـ «الاصلاح الاداري»، لكن المتمرّدين ذكّروه بأنهم ينفّذون قوله سابقاً إن «سورية لمن يدافع عنها». وقد أثبت الروس والإيرانيون أن ذلك القول يسري أيضاً عليهم، اذ دافعوا عن النظام واستأثروا بسورية.
ما الذي أيقظ الأسد على سيرة «الاصلاح الاداري»؟ رسائل كثيرة من دول غربية على اتصال بروسيا تجاوزت مسؤوليته عن جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية الى عدم التشكيك بـ «شرعيته» مع استعداد للاعتراف بها (كما فعل الرئيس الفرنسي الجديد)، ومع ذلك أشارت الى صعوبة وحتى استحالة العمل مع «دولة فاشلة». لكن استفاقة الأسد متأخرة جداً، صحيح أن نظامه لم يعد في خطر إلا أن الدول المتدخّلة لم تعد تلتفت اليه، فالروس والإيرانيون يتداولون الخرائط وينسّقون معه في الحدّ الأدنى، وإذا كانت بيئته المذهبية لا تزال تحتضن النظام إلا أنها تتبرّم الآن من حلفائه جميعاً ولا تبدو مرتاحةً أو مندفعةً الى مشروع التقسيم، بل ان بعض القريبين منه يتخوّفون من تحالف تركي - إيراني يضيفون اليه قطر ولذا يتساءلون عن حلفاء عرب أو دوليين يمكن أن يساعدوا النظام على تبديد احتمال كهذا يظنّون أنه سيفرض عليهم «الإخوان المسلمين» كثمنٍ للتسوية.
مطلع حزيران (يونيو) تحدّث الرئيس الروسي ووزير خارجيته في مناسبتَين لتأكيد أن «مناطق خفض التصعيد» الأربع ليست مشروعاً للتقسيم وإنما محاولة لوقف القتال بغية إعطاء دفع للمفاوضات السياسية. لكن قراءة الخرائط تشير الى مناطق نفوذ موزّعة مبدئياً كالآتي:
أولاً - الشمال والوسط لروسيا وإيران وتركيا، والجنوب لأميركا وإسرائيل.
ثانياً - 1) محافظة ادلب وريف حلب الشمالي بإشراف روسي - تركي، 2) دمشق - الغوطة الشرقية - حمص بإشراف روسي - إيراني، 3) درعا و 4) القنيطرة تحت نظر أميركا واسرائيل، 5) الساحل الغربي منطقة عسكرية للروس، 6) الرقة ودير الزور والبادية يحُسم مصيرها بعد طرد «داعش» منها وسط تنافس حادٍّ عليها... تبقى هذه خريطة أولية، وفيما تحدّ روسيا وأميركا من وجودهما على الأرض، كما تضع موسكو ضوابط للتدخّل التركي، وتكتفي اسرائيل بغاراتها الهادفة، تتمتّع إيران وحدها بالقدرة والسهولة لتغطية الأرض بمزيد من المقاتلين.
ما يجري على الساحة السورية وحولها هذه الأيام أحيا الكلام مجدداً عن مخططات التقسيم، خصوصاً في ظل السباق المحموم بين الأطراف المختلفة لاقتطاع مناطق نفوذ استراتيجية، والمخاوف المثارة بشأن «مناطق خفض التصعيد» المقترحة، والتفاهمات الروسية - التركية - الإيرانية الأخيرة.
صحيح أن الحديث حول مخاوف التقسيم ظل يلازم الأزمة السورية منذ اللحظة التي تحولت فيها إلى حرب داخلية بأبعاد إقليمية ودولية، وصحيح أيضاً أن البلد بدا مقسماً بحكم الأمر الواقع منذ سنوات، وذلك مع تقطيعه إلى مناطق واقعة تحت سيطرة الأطراف المختلفة، لكن أحداث الفترة الأخيرة والتحركات المرافقة على الأرض أعطت الانطباع بأن الأطراف الدولية والإقليمية بدأت تتحرك فعلياً في اتجاه خطط تقود إما إلى التقسيم، أو إلى إبقاء سوريا في حالة من التمزق والاحتراب الداخلي والتجاذب الإقليمي والدولي لسنوات كثيرة مقبلة، أي إلى حالة عراقية أخرى، ولكن بصورة معدلة.
وأكثر التطورات اللافتة في الآونة الأخيرة كان السباق المحموم بين قوات النظام السوري وإيران وحلفائها من جهة، وبين أميركا وحلفائها من فصائل المعارضة السورية من الجهة الأخرى، للسيطرة على منطقة الحدود السورية - العراقية. فإيران لديها مشروع لإيجاد ممر يمتد من حدودها عبر العراق حتى مناطق الساحل السوري. فهذا الممر يعني أن يكون لها منفذ مفتوح للإمدادات من إيران إلى سوريا، يمكن أن يستخدم لاحقاً أيضاً كخط إمداد إلى «حزب الله» في لبنان.
وفي هذا الصدد، دعمت طهران بقوة ميليشيا «الحشد الشعبي» العراقي حتى أصبح قوة كبرى في العراق، على غرار «حزب الله» في لبنان، وإن كان يقل عنه كثيراً من ناحية التنظيم والانضباط والخبرة العسكرية والقتالية.
وعلى الجانب السوري، استثمرت إيران أيضاً كثيراً في دعمها لنظام بشار الأسد، كما عملت مع «حزب الله» اللبناني على بناء وتدريب قوات في سوريا تكون نواة مستقبلاً لما يشبه «الحشد الشعبي»، خصوصاً أن كل المؤشرات تدل على أن سوريا ستكون خاضعة مستقبلاً لتوازنات بين القوى والميليشيات المسلحة المدعومة من أطراف خارجية.
وعندما اندلعت معركة تحرير الموصل، فرض «الحشد الشعبي» لنفسه دوراً فيها. ومنها، انطلق أخيراً في اتجاه منطقة الحدود السورية، ليلتقي هناك مع قوات النظام السوري وحلفائه من الإيرانيين ومن «حزب الله» والمقاتلين المحليين، وكانت تلك خطوة مهمة في إطار وضع الممر الإيراني موضع التنفيذ. لكن «اللقاء الرمزي» بين هذه القوات على الحدود العراقية - السورية لم يمر مرور الكرام، فبدأت بعده سلسلة من الاحتكاكات مع المعارضة السورية المدعومة من واشنطن، كما قصفت القوات الأميركية قوات النظام السوري وحلفائه، بحجة منعهم من الاقتراب من قاعدة التنف التي تستخدمها القوات الخاصة الأميركية لدعم المقاتلين الموالين، ولمنع تسلل فلول «داعش» من العراق إلى سوريا.
واشنطن تريد أن تمنع بلا شك فتح ممر يربط من إيران إلى العراق وسوريا، واضعة في حساباتها أن إسرائيل تراقب الأمر بقلق أيضاً. وفي حين تعمل أميركا لمنع هذا الممر، فإن إسرائيل كثفت في الأيام الأخيرة غاراتها على مواقع القوات السورية قرب مناطق الجولان، لتوجيه رسالة لدمشق بأنها لن تقبل باقتراب إيران أو «حزب الله» من هذه المناطق، خصوصاً في ظل المواجهات الدائرة بين قوات النظام السوري والمعارضة في القنيطرة.
الأردن كذلك يراقب ما يحدث في منطقة الحدود العراقية، وعلى جبهة درعا الجنوبية، خصوصاً مع التقارير عن أن الحرس الثوري الإيراني بات يوجد في مطار عسكري سوري لا يبعد أكثر من 75 كيلومتراً عن الحدود الأردنية.
ما يحدث على هذه الجبهات لا يمكن فصله عما يحدث على جبهة معركة الرقة، والدعم الأميركي لقوات «سوريا الديمقراطية»، التي يشكل الأكراد عمادها، لكنها تضم أيضاً مجموعات عربية. فتركيا عبرت عن قلقها الشديد من تسليح الأميركيين لأكراد سوريا، ولوحت بأنها مثلما تدخلت في السابق لمنع تمدد الأكراد في الشمال السوري، خوفاً من أن يشجع ذلك حلم الفيدرالية الكردية، فإنها قد ترسل قوات مجدداً لمنع أي تمدد جديد لقوات حماية الشعب الكردية، المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية. وبينما اتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حلفاءه الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة، بممارسة الألاعيب، فإن حكومته قالت إنها تلقت تأكيدات من واشنطن بسحب الأسلحة المتطورة من الأكراد بعد معركة الرقة.
لكن وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس صبّ ماءً بارداً على هذه التأكيدات التركية قبل يومين، ملمحاً إلى أن واشنطن قد تستمر في تسليح «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية حتى بعد استعادة الرقة من «داعش»، وكان رده على أسئلة الصحافيين: «دعونا نرَ، فالمسألة ليست وكأن القتال سينتهي بعد استعادة الرقة».
الرسالة من كل الأطراف أن سوريا لا تزال بعيدة كل البعد عن «خفض التصعيد»، بل إنها قد تكون متجهة نحو مرحلة أخرى من التصعيد والصراع لاقتطاع مناطق نفوذ، أو توسيع أخرى بما يعني عملياً خطوة أخرى نحو التقسيم... بسياسة الأمر الواقع.
كان ينقص الفوضى التي تعصف بالميدان السوري، سياسياً وعسكرياً وفي التحالفات بين القوى الخارجية المتدخلة في بلاد الشام، أن يضاف إليها الموقف الأميركي الأخير بالتهديد بعمل عسكري ضد قوات نظام بشار الأسد لأن واشنطن تمتلك معطيات عن تحضيره لهجوم كيماوي جديد، وتحذير موسكو من أي خطوة من هذا النوع.
رفع تهديد البيت الأبيض بضربة استباقية في سورية المخاوف من مواجهة روسية- أميركية، كانت بدأت تبرز مع انفراد كل من الدولتين، مع حلفائها، بخططها الخاصة للعمليات من أجل التخلص من «داعش» في الرقة، وغيرها. والسبب أنه بموازاة سعي كل منهما إلى الإفادة من الصعوبات التي يواجهها الآخر في الميدان ومع حلفائه، فإن الرغبة باقتطاع مناطق النفوذ في مرحلة ما بعد «داعش» المفترضة يعطي ضوءاً أخضر للحلفاء الذين يعاكسون خططه أحياناً. ولذلك يبدو الكثير من الأحداث في الحرب بالواسطة التي يخوضها الجباران في سورية، عصياً على الفهم، ويكرس الانطباع بأن الفوضى سيدة الموقف.
إلا أن الجانب الروسي ينسب الغموض إلى غياب سياسة أميركية واضحة في بلاد الشام، كما يقول زوار موسكو التي يردد المسؤولون فيها عبارة: لا نعرف ماذا يريد الأميركيون. أما الجانب الأميركي فتراوده الشكوك في استمرار الدب الروسي في استغلال الجموح الإيراني، والانسجام مع خوضه معارك تكون موسكو تبرأت منها في اتصالاتها مع واشنطن.
في تقسيم الرعاية الخارجية لمناطق خفض التوتر التي تقرر قيامها في آستانة الشهر الماضي، بدا أن الجانبين الأميركي والروسي اتفقا في اجتماعات الأردن خلال الأسبوعين الماضيين على توزيع مواقع النفوذ الجغرافي، إلا أن اللاعبين الإقليميين غير مرتاحين إلى نتائجها. فلكل من هؤلاء اللاعبين خصم سيشارك موسكو أو واشنطن في النفوذ على منطقة. وإذا صح ما نشر عن هذا التوزيع، تتولى القوات الأميركية النفوذ على المنطقة الجنوبية مع الأردن، وواشنطن وإسرائيل تعود لهما حرية الحركة في المنطقة الجنوبية الشرقية المحاذية للجولان المحتل، وتتولى روسيا (مع إيران) النفوذ في المنطقة الساحلية، وتشمل حمص وصولاً إلى مدينة حلب، فيما تكون اليد الطولى للجانبين الروسي والتركي في إحدى المناطق الشمالية وتحديداً محافظة إدلب، بينما تكون اليد الطولى للأميركيين والأكراد في المنطقة الشمالية الشرقية التي تشمل الرقة والمناطق المختلطة بين الأكراد والعرب...
رسم هذا التوزيع معالم تقسيم سورية كما توقعه كثيرون في السنتين الماضيتين. إلا أنه توزيع يترك بعض الفراغات التي تسعى قوى إقليمية إلى ملئها، لا سيما إيران التي يستفزها تقزيم الدولتين العظميين دورَها، على رغم الأثمان التي دفعتها في المعارك العسكرية التي خاضتها دفاعاً عن النظام وعن موطئ القدم السياسي والجغرافي الذي ضمنته على مدى عقود من البناء السياسي والعسكري.
ومع أن الافتراض المنطقي هو أن ترعى روسيا منطقة العاصمة ومحيطها، فإن التواجد الإيراني في محيط دمشق وفي المناطق القريبة من الحدود مع الجولان المحتل، بقي موضوع تساؤل. وليس متوقعاً أن ينسحب الحرس الثوري و «حزب الله» وسائر الميليشيات المصنفة إيرانية من هذه المواقع. بل إن طهران قاومت اتفاقات الدولتين الكبريين في اقتحامها الحدود العراقية السورية للقاء القوات السورية الأسدية وصولاً إلى البادية المؤدية إلى دير الزور، للحؤول دون أن يؤدي انفراد الأميركيين بالخلاص من «داعش» في الرقة إلى توسع نفوذهم نحو المنطقة التي تختزن النفط والغاز. بات التنافس على سورية الغنية بعد أن كان على سورية المفيدة.
أوحى التهديد الأميركي بضربة عسكرية رداً على هجوم كيماوي محتمل، أنه قد يكون رداً على تمكن طهران من اختراق الحدود العراقية- السورية، فيما استغربت موسكو سماح واشنطن للحشد الشعبي وميليشيات أخرى بأن تصل إلى الحدود، حيث باتت قادرة على قطع طريق المعارضة المعتدلة الحليفة للأميركيين، إلى دير الزور.
ترددت واشنطن في منع إيران، من بلوغ الحدود، لأنها تخوفت من انتقام الحشد الشعبي من قواتها الموجودة بالآلاف في العراق، ثم ندمت فقررت التشدد الآن.
ومع قول إدارة دونالد ترامب إن التلويح بعمل عسكري هو رسالة إلى روسيا وإيران، يشيع الجانب الروسي أنه ضغط على الأخيرة من أجل عدم اقتحام الحدود مع العراق، لأنه يقوض جهودها لإقناع الجانب الأميركي بمشروع موسكو للحل السياسي، على قاعدة رجحان كفة النظام.
تحضير القوى الدولية والإقليمية لمرحلة ما بعد الرقة، يختزن عوائق قد تؤخر نهايتها، وتزيد الفوضى. تتأكد كل يوم الحاجة إلى التوافق الأميركي- الروسي وفق آلية لا تحتاج إلى اجتهادات لتفسيرها.
بالكذب وبالأرقام المزوّرة تتواصل الحملة على السوريّين في لبنان: يأكلون خبزنا. يستهلكون كهرباءنا. يسرقون مهننا. يهدّدون أمننا. يلوّثون بيئتنا. يعتدون على نسائنا... نسب التزايد سيف الحملة البتّار. ذاك أنّ العدد يخيف، وتحويله إلى صورة تتراقص أمامنا يخيف أكثر. وما يُنسب إليه من أفعال، كالزحف والتسلّل والتغلغل والانتشار والتوسّع، يدبّ الرعب في الأوصال.
البرابرة، إذاً، قادمون. وهم ولاّدون، خصوبتهم البيولوجية الرتيبة تمنع عنّا خصوبة الطبيعة المبدعة. عَرَقهم يحاصر عبيرنا.
فوق هذا، رجولتنا سوف توضع على المحكّ: قدرتها على ردّ التحدّي، بالإنجاب أو بالسلاح، تغدو موضع امتحان. لكنْ ماذا نفعل وهم يتناسلون كالفئران، فيما اللبوة لا تنجب إلاّ أسداً واحداً!
أين سمعنا هذه العبارة من قبل: يتناسلون كالفئران؟ في الأدبيّات الفاشيّة وأدبيّات البيض العنصريّين في الجنوبين الأميركيّ والأفريقيّ. هناك أيضاً، «يتعملق» الأصليّ و «يتجوهر» مقابل «الفأريّة» التي «تتقزّم» و «تُقزّم»، بتراكمها الكمّيّ المحض المنزّه عن النوعيّة، وبما تختزنه من عنف وفقر وأمراض مُعدية، ومن طفيليّة تمتصّ دمنا النقيّ.
وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة ذات الباع في التحريض، تتحدّث عن أنّنا نتناقص وأنّهم يتزايدون. تمنح هذا «الخبر» صدارتها. المؤسّسات الإعلاميّة تنحو، في عالم الفضيلة هذا، إلى تحسين أحوالها المتدهورة باللعب على غرائز ما دون الصفر، باستجلاب الزبائن الذين يختلط عليهم الإعلام بالإثارة. إنّه إعلام يخاطب أصحاب المخيّلة الفأريّة.
نعم، من دون إنكار أو مكابرة، هناك مشكلة متعدّدة الأبعاد ترتّبت على اضطرار مئات آلاف السوريّين إلى النزوح عن بلدهم إلى بلدنا. والمشكلة كانت لتنشأ في أيّ وطن صغير يتعرّض لنزوح كبير، خصوصاً في ظلّ أزمة اقتصاديّة وشحٍّ في المعونات وفساد وتفاهة في التخطيط الرسميّ، وهذا فضلاً عن مواضٍ معقّدة تخصّ الأنظمة والبلدان والتجارب. لكنّ ما يقترحه العنصريّون يبقى أسوأ أنماط التعامل و «التفكير». هنا، يصبّ تضخيم الأرقام والولادات الزيت على نار المشكلة فيزيدها إشكالاً ويُضعف احتمالات تذليلها. ولأنّ العدد يُشعل الحرائق، صار لغةً حصريّة لأمراء الخوف والتخويف بشعبويّيهم وعنصريّيهم وفاشيّيهم على اختلافهم. إنّه لعبة لوبن وترامب الأثيرة. لقد سبق أن لعبناها مع فلسطينيّي لبنان: أخفناهم وأخفنا اللبنانيّين منهم فاندفعوا إلى التسلّح ثمّ تسلّحنا في وجه تسلّحهم وكان ما كان...
لكنْ ينبغي أن لا ننسى سببين هما إسهامنا الخاصّ في العنصريّة: أنّ العلاقات بين طوائف اللبنانيّين متردّية جدّاً فيما ألحان السعادة والحبّ قويّة جدّاً. هذا التكارُه المكبوت نزيّت آلته ببعض الدم المعلن والسهل، دم الآخرين. إنّنا محتاجون إلى التشارك في صيد الطرائد بين الفينة والأخرى. ونحن، اللبنانيّين، أخصّائيّون في هذا: بعد اتّفاق الطائف جلسنا على صدور الفلسطينيّين المحشورين في مخيّماتهم، المهينة لنا، وتبادلنا التهاني.
ثمّ إنّ البُعد العنصريّ في طائفيّتنا لم يكفّ في السنوات الأخيرة عن النموّ. فشلُنا في التعايش، بسببنا وبمعونة جوارنا العسكريّ، جعل الاختلاف أكثر مراتبيّةً وحوّل كلّ آخر عدوّاً.
إلاّ أنّ قسوة العنصريّة التي يبديها بعضنا أسوأ من العنف العاديّ: إنّها لا تملك الأسباب التي قد يملكها العنف لكي يعنف، ولا تتوقّف عند إنجاز أهداف ملموسة قد يتوقّف العنف عندها. والقاسي طبعاً أجبن من العنيف. ذاك أنّ العنصريّين بيننا الذين يصوّرون السوريّ فأراً، كان معظمهم فئراناً فعليّين أمام جيش الأسد حين كان في لبنان. ومعظمهم لا يقولون اليوم إنّ بشّار هو المسؤول الأوّل عمّا اضطرّ شعبه إلى الإقامة في أرضنا التي تتحوّل أرضاً بخيلة ولئيمة تحرسها الريح الصفراء. وأغلب هؤلاء لا يجرأون على إعلان مسؤوليّة «حزب الله»، الذي يمثّلنا في الحكومة، عن إحراق قرى وبلدات سوريّة، وتوسيع ظاهرة النزوح بالتالي.
وهذا من صفات الأخلاق الفقيرة التي لا تسيء إلى السوريّين بقدر ما تسيء إلى لبنان الذي لا معنى له من دون الحرّيّة والانفتاح – الانفتاح لا على الغنيّ وحده، بل على الفقير أيضاً، ولا على المصطاف والسائح فحسب، بل على النازح واللاجئ كذلك. فإذا شكّل الانغلاق مقتلاً، فأيّ مقتل يشكّله بذل كلّ هذا الجهد المجبول بالرياء والتزوير لتبرير الانغلاق، بل لتمجيده أيضاً!؟
ءكلما جرى الحديث عن تنحية بشار الأسد، تقدّم روسيا خطابها المعهود، حيث إنها تتمسّك بالشرعية الدولية، ولا تقبل بقلب النظم، أو تغيير الرؤساء، فبشار الأسد رئيس شرعي، ولا يقرّر مصيره إلا الشعب السوري. وبالتالي، ليس مصير الأسد مطروحاً في محادثات السلام، وكأن الأمر يتعلق بحرب أهلية يكون حلها بعقد صفقة تعيد "المتمرّدين" إلى الشرعية مع تحقيق بعض مطالبهم.
إقرار شرعية بشار الأسد يعني أن ما حصل هو تمرّد عليه، فإما أن يُخمد بالقوة أو عبر حل سياسيٍّ يقوم على إشراك المتمردين في الحكومة. ولا شك في أن روسيا تعمل على إخماد "التمرّد" بالقوة، في وقتٍ تفاوض لإشراك بعض من الفصائل التي تشكلت، وبعض أطراف المعارضة، والمعارضة المزيّفة في حكومة "وحدة وطنية".
ما تريد تناوله هذه السطور لا يتعلق بذلك، إلا من زاوية الخطاب الروسي المتمسّك بـ "الشرعية". وهو تمسّكٌ نابعٌ من عنصرين، يتمثل الأول في أن الروس لا يريدون الإقرار بوجود ثورةٍ، فما جرى مؤامرة. وهذا ناتجٌ عن رفضهم الجوهري كل ثورة، لأن من يحكم في روسيا هو رأسمالية مافيا، تعرف أنها ستواجه ثورة. وبالتالي، يجب "كسر الثورات المخملية"، كما صرّح وزير الدفاع شويجو. تخاف الرأسمالية الثورة، لهذا ترفض الاعتراف بحدوثها في أيّ بُقعة في العالم. ويتمثل الثاني في أن وجودهم العسكري في سورية الذي بات يشكّل احتلالاً لا يكون "شرعياً"، إلا بتأكيد شرعية النظام. ولأنهم لا يقرّون أنهم محتلون يريدون تأكيد شرعية قدومهم بطلب من "رئيس شرعي".
لهذا لم يُعترف بالثورة، لأنها تعني إسقاط شرعية "الرئيس المنتخب".
لكن روسيا التي تتمسّك إلى هذا الحد بـ "الشرعية الدولية"، وقرارات مجلس الأمن، ترفض أولاً ما ورد في هذه القرارات، حيث إنها تنصّ على تشكيل هيئة حكم انتقالي، تقود مرحلة انتقالية، بالتالي، لا يكون لبشار الأسد موقع فيها. لكنها ثانياً تمارس ما يناقض كل خطابها "الشرعاني" هذا، حيث إنها تدخلت عسكرياً في جورجيا، فاحتلت أوستينيا الجنوبية. وتدخلت في أوكرانيا، حيث ضمّت شبه جزيرة القرم بدون قرار دولي. وأرسلت قواتٍ لمساعدة حلفائها في شرق أوكرانيا التي باتت مقسّمةً بين حكومة منتخبة وحكومة سابقة أسقطتها الثورة. طبعاً بالنسبة لروسيا الثورة في أوكرانيا هي "ثورة برتقالية" هذه المرة، بعكس المرة السابقة (سنة 2004) التي أسقطت "عملاء الغرب"، وسمحت باستحواذ حلفائها على السلطة، على الرغم من أن الشعب هو ذاته الذي قام بالثورتين.
وإذا كانت أميركا، منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، باتت تتدخل من دون قرار دولي، وقد احتلت أفغانستان والعراق، وتدخلت في ليبيا، وكان الخطاب الروسي يدين الخروج على الشرعية الدولية، على الرغم من أنه كان يوافق أو يلوذ بالصمت، فإن روسيا مارست السياسة ذاتها في محيطها، أي في البلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، حيث تعتبر أن هذا "مجالها الحيوي". وهي هناك، كما في سورية، ادعت شرعيةً لتبرير تدخلها (كما فعلت أميركا كذلك)، حيث كان لها "عملاء" يستطيعون "استدعاءها" لكي تحمي "الشرعية".
ما يُراد الوصول إليه، هنا، أن خطاب الشرعية غطاءٌ ما دامت روسيا تمارس عكسه، ولا تلتزم بـ "قرارات الشرعية الدولية"، والهدف منه تبرير تدخلها واحتلالها ليس أكثر، فدولة تخرج "الشرعية الدولية" وتعتدي على أمم أخرى لا يعني شيئاً تمسّكها بـ "الشرعية الدولية"، حين يخدم هذا الخطاب مصالحها. لقد لفظته، وهي تحتل شبه جزيرة القرم، وتتدخل في شرق أوكرانيا، وقبل ذلك حينما احتلت أوستينيا الجنوبية. وبالتالي، فهي تتمسّك به في سورية بالضبط لتغطية احتلالها، ولتبرير تدخلها. وهي هنا، مثل أميركا، تحتكم لمنظور إمبريالي، يبرّر كل عملية تدخل أو احتلال أو نهب.
عدة ملامح ومعالم على طريق واشنطن – طهران تبين أن احتمالات الصدام واردة وبقوة، سيما في ضوء التصريحات الأخيرة التي يمكن أن تحمل فلسفة إبراز العضلات الأميركية في مواجهة الأطماع الإيرانية التي لا توارى ولا تدارى.
كانت تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لإذاعة صوت أميركا قاطعة لا تحتمل أي لبس، وتعد بمثابة انقلاب على سياسات باراك أوباما تجاه طهران.
يتحدث تيلرسون عن سياسة أميركية تركز على دعم القوى الداخلية، من أجل إحداث تغيير سلمي للسلطة في هذا البلد.
لعل هذا أقوى تصريح علني منذ الثورة الإيرانية، ويتسق مع شهوة قلب الرئيس وإدارته، وجميعهم يرى في إيران الداعم الأول للإرهاب، وعدم الاستقرار في الخليج العربي خاصة، والشرق الأوسط عامة.
السحب الأميركية تجتمع في مشهد لا تعوزه الدلالة على سماوات طهران، وهذا ما أكده مدير الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو قبل يومين، حين أشار في لقائه مع شبكة: «إم إس إن بي سي» الأميركية إلى أن النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط توسع بشكل كبير، خلال السنوات الست أو السبع الأخيرة.
لم تنفصل السحب الداكنة بما جرى داخل مجلس الشيوخ حيث صوت 98 عضواً من أصل 100 على قرار جديد يفرض مزيداً من الحظر والعقوبات على إيران بسبب أوهامها الإمبراطورية التي لخصها وزير الدفاع جيمس ماتيس، في أنها تتجاوز برنامج الصواريخ الباليستية، إلى برنامج لبناء قوى بحرية مضادة للوجود الأميركي، عطفاً على شغبها الإلكتروني في المنطقة وقرصنتها لجيرانها، أضف إلى ذلك ميليشياتها التي جعلت نهار المنطقة قلقاً وليلها أرقاً.
يصف دنيس روس الدبلوماسي الأميركي العتيد المشهد بأنه تصادم قادم لا محالة، سيما أن طهران تستغل ارتباك ترمب في المنطقة من أجل إحكام قبضتها على سوريا، وهي تسعى في كل الأحوال لإقامة ممر بري نحو لبنان عبر العراق وسوريا، وتحقيقا لهذه الغاية تمارس إيران الضغوط من داخل العراق وسوريا، وذلك باستخدام وكلائها من الميليشيات الشعبية على جانبي الحدود.
المتابع للمشهد يرى واشنطن وقد بعثت برسالة ساخنة لطهران ففي 18 مايو (أيار) المنصرم، قصفت القوات الأميركية موكبا تابعا لميليشيا تدعمها إيران بعد رفضه الإذعان للإنذارات الموجهة إليه بالتوقف، ثم دمرت طائرة من دون طيار قامت بإطلاق النار على القوات الأميركية في 8 يونيو (حزيران) الحالي.
المتابع المحقق والمدقق لمشهد التصادم الأميركي المرتقب لا يمكنه أن يوفر معنى ومبنى تعيين مايكل دانداريا رجل الاستخبارات الأميركي الشهير بـ«آية الله مايك» مسؤولا عن إيران في الوكالة الشهيرة.
لم تتأخر «نيويورك تايمز» في تحليل الحدث، وبما يتفق شكلا وموضوعا مع تصريحات تيلرسون، إذ أكدت أن: «تعيين دانداريا في هذا المنصب يعني أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بات يميل نحو سياسة تغيير النظام في إيران»، وأن ترمب يفي بكل كلمة قالها خلال حملته الانتخابية، وتتصل بإيران ونظام الملالي هناك، والمرجح أن يكون دوره تهيئة الداخل الإيراني لعمليات أولية في طريق الصدام.
قرأت إدارة ترمب نوايا إيران مبكرا على لسان الإيرانيين أنفسهم، فقد قال حيدر مصلحي وزير الاستخبارات الإيراني السابق إن إيران تسيطر فعلا على أربع عواصم عربية، ومن قبله أشار الجنرال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري الإيراني إلى الأمر ذاته، أما نائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قاناني فمن جهته اعتبر أن نفوذ إيران بات يصل اليوم إلى أفغانستان، وهو ممتد لما وراءها، وأن هذا حق طبيعي لبلاده.
أغلب الظن أن السحب الأميركية فوق السماوات الإيرانية سوف تبدأ بالحرس الثوري الإيراني، ذلك أن عقوبات مجلس الشيوخ ولأول مرة تسميه أميركا كجهة مستهدفة بعقوبات بشكل رسمي، دون إهمال كذلك لملف حقوق الإنسان المهترئ في الداخل الإيراني.
العقوبات الأميركية والصدام سيتصلان بكل من يساعد إيران لوجيستياً وعسكرياً، ومن يسعى لأن يدور في فلكها، وللرئيس ترمب الحق في فرض عقوبات مباشرة في هذا الإطار.
هل ستتحول السحب إلى أمطار ساخنة من نار وبارود؟
الأحاديث الرائجة الآن عن سيناريوهات المواجهة العسكرية تكاد تقترب من شجرة التين، فمتى لانت أوراقها واخضرت أغصانها يعلم الناظر أن الصيف قريب.
في خطابه الأخير بمناسبة ما يسميه النظام الإيراني بيوم القدس العالمي الذي يقام دائماً في آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك، كشف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن معادلة جيوسياسية جديدة أوسع من إقليمية تنفذها إيران، مبنية على تجاهل السيادة الوطنية لعدة دول في أغلبها إما لديها حدود مشتركة مع إيران أو أنها تخضع لهيمنة طهران، ملوحاً بأن الدفاع عن وحدة المسار والمصير بين الأطراف التي تنتمي للنظام الإقليمي الإيراني الجديد لن تختصر فقط على الأنظمة الرسمية التي تنتمي لهذا المحور، بل جعل الميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات التي تديرها طهران والتي لا تعترف بالحدود الرسمية بين الدول في صلب هذه المعادلة، حيث قال في إطار تهديده تل أبيب بحال قامت بشن حرب على لبنان أو سوريا إن «هناك دولاً قد لا تدخل بشكل مباشر، ولكن قد تفتح الأجواء لعشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، ليكونوا شركاء في هذه المعركة، من العراق ومن اليمن ومن إيران ومن أفغانستان ومن باكستان».
كلام نصر الله هو ترجمة سياسية للواقع الميداني الذي يحاول قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ترسيخه منذ الحرب على الثورة السورية، التي يجب الاعتراف دون مكابرة بأن الخطط الإيرانية لقمع الشعب السوري والسيطرة على القرار السياسي في دمشق قد نجحت جراء تخاذل إقليمي ودولي عن مساعدة السوريين، هذا النجاح سمح لطهران بالانقضاض على ما تبقى من سيادة في سوريا والعراق ولبنان بهدف الوصول إلى استراتيجية إسقاط الحدود الرسمية بينها لكي تتمكن من فرض امتدادها الجيوسياسي الذي يعزز حضورها الإقليمي، ضمن خطة توسعية في إطار مشروع دولة كبرى إقليمية، وانتزاع اعتراف دولي بما تعتبره حالياً مجالها الحيوي الذي بات يمتد من تخوم آسيا الوسطى مروراً بأفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان حتى اليمن، وتحويله إلى فضاء إيراني بصيغة عقائدية متماسكة ومترابطة ببعد مذهبي واحد، لن يكتب له النجاح إلا على حطام ما تبقى من كيانات سياسية والعبث بالعلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية بين الجماعات الإثنية والعرقية والدينية في مناطق الشرق الأوسط الكبير.
ففي لحظة تشكل الفضاء الإيراني المفتوح تصبح فلسطين ومعها القدس ضرورة ملحة لخروج إيران من عزلتها القومية والمذهبية، فالمزايدة بالقضية الفلسطينية وسيلة تستغلها طهران عادة عندما يرتفع مستوى التوتر بينها وبين جيرانها العرب أصحاب القضية الأساسيين، فقد أدى تبني طهران المبكر للقضية الفلسطينية في مساعدتها على مواجهة التأثيرات السلبية لحربها مع العراق على علاقتها مع دول وشعوب المنطقة، ففي مواجهة المعادلة التي حاول صدام حسين ترسيخها في حرب الخليج الأولى أن العراقي العربي السني يواجه مشروع إيران التوسعي الفارسي، كانت فلسطين الرافعة التي استغلتها طهران من أجل التأسيس لمشروعها التوسعي، واختراق المجتمعات العربية المحبطة نتيجة الإخفاق العربي في مواجهة إسرائيل، إضافة إلى تراجع الدعم العربي لحركات المقاومة وهزيمة منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1982 في لبنان واحتلال بيروت.
ففي طريقها إلى بسط نفوذها، تستثمر طهران التناقضات العربية والتباينات الإقليمية والدولية حول معالجة قضايا المنطقة، لتوسع نفوذها الإقليمي بعناية وإصرار، تتكئ على استقطاب مذهبي مكنها مرحلياً من فرض إرادتها، فالباكستانيون والأفغان الشيعة هم الأداة التي فرضت على إسلام آباد مداراة طهران سياسياً، أما الحشد الشعبي العراقي فبات الذراع الأقوى الذي تحاصر به حكومة بغداد وتساوم به واشنطن في الموصل وتناكفها من خلاله في الرقة ودير الزور، فيما يضع حزب الله يده على العاصمة السورية دمشق، وفي ظل غياب استراتيجية أميركية لمواجهتها، وتمسك روسي في الشراكة معها، تواصل طهران أفعالها التوسعية في محاولة لفرض أمر واقع طويل الأمد، تحمي من خلاله مكاسبها، وتستقوي به على الداخل الإيراني المستاء جراء غرق نظامه المتزايد في تفاصيل المنطقة المليئة بالشياطين، تلك الشياطين التي جعلت الاتحاد السوفياتي يدفع ثمن طموحاته التوسعية، وينهار من الداخل ويتفكك، نتيجة إدارة فاشلة لقضايا الداخل الاقتصادية والاجتماعية وعداء عقائدي مع الخارج، وهو ما ينطبق الآن على النظام الإيراني المسكون بالقلق الدائم من محيطه، الذي تسيطر عليه هواجس مواجهة مع الخارج، وعداء مع الأغلبية العربية والإسلامية، التي وإن لم تتمكن من تقويض مشروعه فإنها قادرة وبقليل من الإمكانيات على فرض حالة دائمة من عدم الاستقرار فيما تسميه طهران المجال الحيوي الإيراني.
لن يطول الوقت لتتكشف تفاصيل صعود «داعش» في العراق قبل ثلاث سنوات، والدور الذي لعبته إيران في تمكين هذا التنظيم من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية. كما ستظهر تفاصيل أكثر عن دور رجل إيران نوري المالكي الذي كان رئيساً للحكومة آنذاك، وكيف ساهمت سياسته في خروج الجيش العراقي من الموصل وتسليمها إلى «داعش». كانت هذه السياسة ضرورية للحرس الثوري الإيراني في إعطائه شرعية التدخل العسكري تحت حجة محاربة الإرهاب والحفاظ على الأماكن المقدسة في الشكل، فيما يضمر المضمون السيطرة على العراق وإلحاقه بالدولة الفارسية، وهو ما بدا صريحاً في كلام المسؤولين الإيرانيين، لاحقاً، وعلى أعلى المستويات، من أن العراق بات جزءاً من الأمبراطورية الفارسية، وأن مدينة بغداد هي عاصمة هذه الإمبراطورية.
شكلت معركة محاربة تنظيم «داعش» الحلقة الثانية في السيطرة الإيرانية على العراق وعلى السلطة السياسية وحتى الدينية فيه، وهي حلقة تستكمل ما قدمه الاحتلال الأميركي لإيران من تسهيلات للسيطرة منذ العام 2003. لذا لا يستقيم الحديث عن الهيمنة الإيرانية من دون العودة الى سنوات احتلال العراق، حيث كانت خطة أميركا تدمير هذا البلد ونهب ثرواته، فيما كانت خطة إيران إلحاقه بسلطتها في وصفه جزءاً من المدى الحيوي لإيران.
إضافة الى التدخل العسكري ونشر الحرس الثوري داخل العراق واحتلاله أراضي واسعة، اعتبرت إيران أن احتلالها لا يستقيم ويدوم من دون توافر عناصر أساسية ثلاثة. الأول، فرض سيطرة المؤسسة الدينية المتمثلة بمرجعية «قم» على المؤسسات الدينية في العراق، وفرض نظرية ولاية الفقيه على شيعة العراق بوصفها الأيديولوجيا الدينية الإيرانية. وهو ما وضعها في تناقض مع مرجعية النجف الأشرف، التي تعتبر نفسها الأصل والمسؤولة عن المذهب، وهي مرجعية لا تقول بولاية الفقيه، بل ولا تعترف بها. نجحت إيران في استقطاب مرجعيات دينية عراقية، وأدخلت انقساماً في المؤسسة الدينية من منطلق قبول او رفض هذه المنظومة الأيديولوجية. وهو صراع لم يحسم، لا إيرانياً، ولا عراقياً.
أما العنصر الثاني الذي رأته إيران حاسماً، فهو خلق ميليشيات موازية للجيش الوطني العراقي، ذات طابع مذهبي صاف، أطلقت عليه اسم «الحشد الشعبي»، وبنته على غرار الحرس الثوري الإيراني. كان خلق هذه الميليشيات يضمر عدم ثقة إيرانية بالجيش الوطني الذي يحوي مختلف المكونات الطائفية العراقية. قدمت له السلاح والعتاد والعديد، بحيث بات طرفاً أساسياً في المعركة ضد تنظيم «داعش». على رغم إضفاء الصفة الرسمية على هذه الميليشيات، إلا أن الصراعات حول وجودها لم تتوقف، وهي نقطة خلافية داخل المجتمع العراقي وحتى داخل السلطة السياسية فيه.
اما العنصر الثالث، فهو الهيمنة على ثروات العراق ونهبها، عبر شركات اقتصادية مشتركة بين عراقيين وإيرانيين، او عبر توظيف استثمارات ضخمة في ميادين متعددة من القطاعات الإنتاجية. وهو أمر جعل من المستثمرين الإيرانيين شركاء فعليين في الاقتصاد العراقي، وتكونت فئات عراقية ترى مصالحها في استمرار هذا الاحتلال.
تحت حجة محاربة إرهاب «داعش»، مارست إيران وميليشياتها تسلطاً على الشعب العراقي وعلى الحكم في آن. لم تكن العنصرية القومية الفارسية بعيدة من هذا التسلط، كما سلّطت الحشد الشعبي ضد المكونات الطائفية العراقية بما فيها المكوّن الشيعي نفسه الذي رفض الخضوع للحرس الثوري. لم تكن ممارسات الحشد أقل وحشية من ممارسات «داعش». تكاثرت الاعتراضات على السياسة الإيرانية، خرجت تظاهرات حاشدة بقيادات شيعية تطالب بخروج إيران من العراق، لم تكن بعيدة من المصادمات مع «الحشد» والحرس الثوري، وللذكر رُفعت شعارات تقول «ايران برّا برّا». حتى أن رئيس الحكومة حيدر العبادي أبدى أكثر من مرة استياءه من تدخل الحرس الثوري الإيراني في الحكم.
يبدو المشهد العراقي مقبلاً على ختام المعركة مع «داعش» وإخراجها من الموصل. ستشكل هزيمة التنظيم مرحلة جديدة في العراق وفي علاقته بإيران. عندما كانت الصيحات تخرج معترضة على الوجود الإيراني، كانت تواجهها ردود فعل أن الأولوية الآن لمحاربة «داعش» حيث المساعدة الإيرانية حاجة وضرورة. كانت إيران تلعب على هذا الوتر لتكريس نفوذها على الأرض وداخل السلطة. بعد زوال هذه الحجة، سيكون العراق أمام استحقاق التناقضات التي ستظهر على السطح، بما هي داخل أركان الحكم والمكونات السياسية القائمة، وسيندلع السجال حول سعي المؤسسة الدينية الإيرانية وضع يدها على مرجعية النجف، وستزداد المطالبة بحل ميليشيات الحشد الشعبي لصالح الجيش الوطني، كما سيزداد العداء القومي العربي ضد العنصر القومي الفارسي. كلها عوامل تشكل عنوان معركة استعادة العراق استقلاله وسيادته.
لن تكون معركة الاستقلال سهلة، فإيران باتت عنصراً داخلياً في العراق، ولها قوى تأتمر بأمرها، ناهيك عن المصالح الاقتصادية المرتبطة بها. مما يشي بدخول العراق مرحلة من الاضطرابات مجدداً، لكن هذه المرة في صراع مرير مع إيران، يصعب توقع نتائجه سلفاً.
نقلت «الحياة» يوماً عن مصدر قريب من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نيته اعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق. لم يكن ذلك بعيداً عن ذهنه ولو أنه خلال القمة التي جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فرساي قال ان ذلك ليس على جدول الأعمال حاليًا. فماكرون كان حتى خلال حملته الانتخابية يعتقد ان سلفه فرانسوا هولاند فشل في ديبلوماسيته في سورية وعليه ان يرسم تحركاً جديداً، خصوصاً انه يستمع الى مسؤولين سابقين يحظون باحترام كبير على الساحة الفرنسية والدولية وكانوا على خلاف مع نظرة هولاند في ما يتعلق بقطع العلاقات الديبلوماسية مع سورية. فماكرون بدأ يأخذ برأي هولاء وليست لديه خبرة في الملف السوري ولا في الديبلوماسية عموماً. إضافة الى ذلك وعلى غرار اسلافه نيكولا ساركوزي وفرانسوا ميتران وجاك شيراك يعتقد ماكرون انه سيفعل أفضل منهم في الملف السوري لإعطاء دور لفرنسا في مفاوضات الحل في سورية الى جانب روسيا، خصوصاً انه يرى ان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليست لها استراتيجية واضحة في ما يخص سورية. كما يرى ان أصدقاء فرنسا وشركاءها في دول الخليج، المعنيين بالملف السوري، منشغلون بخلافاتهم ما يجعله مقتنعاً ان بإمكانه رسم سياسة خاصة بفرنسا من دون الأخذ برأيهم. فكان تصريحه في مقابلة الى عدد من الصحف الأوروبية ان بشار الأسد ليس عدواً لفرنسا بل هو عدو الشعب السوري غير موفق. وقال: اذا رأيتم مسؤولاً شرعياً آخر مكان بشار الأسد في سورية فدلوني عليه.
واضح ان ماكرون يظن ان بالإدلاء بمثل هذا الموقف يستطيع ان يحصل على دور من الجانب الروسي. لكنه يقدم هدية لبوتين سابقة لأي تفاوض. فما الحاجة الى التنازل بهذا الشكل قبل الحصول على أي دور؟ وزاد ماكرون ان بشار الأسد ليس عدو فرنسا بل عدو الشعب السوري، في حين انه خلال حملته وفي زيارته الى لبنان قال لصحيفة «لوريان لو جور» عن بشار الأسد انه «ديكتاتور ارتكب جرائم دانتها الأمم المتحدة ولن يكون هناك سلام من دون عدالة.» فغريب الآن ان يغير رأيه الى حد القول ان هذا الديكتاتور الذي ارتكب جرائم دانتها الأمم المتحدة ليس عدواً لفرنسا. فهل هو صديق اذن؟ او رئيس كغيره سيتعامل معه؟ ماكرون يعتبر الآن اذا قرأنا موقفه ان لا علاقة للأسد بأزمة النزوح واللاجئين الى الدول المجاورة لسورية وأيضاً الى أوروبا. كما ان موقفه يعني انه لا يرى علاقة بين الإرهاب «الداعشي» الذي يضرب فرنسا وينتشر في أوروبا وسياسات بشار الأسد واستخباراته التي ابتكرت الإرهاب منذ عقود في سورية وفي لبنان.
من المؤسف ان ماكرون لا يرى ما جرى مع اسلافه مع بشار الأسد. ألم يقل احد من فريقه الديبلوماسي اللامع لهذا الرئيس الشاب ان أسلافه الرؤساء باستثناء فرانسوا هولاند حاولوا الكثير مع بشار الأسد لمساعدته دوليًا ودفعه الى الانفتاح وتغيير نهجه وكانت النتيجة معروفة مع كل من جاك شيراك ونيكولا ساركوزي. وكل مرة انتهت بالقطيعة مع فرنسا. وليذكّر المحيطون بماكرون رئيسهم ان ساركوزي من قبله اعتقد ان بإمكانه لعب دور في التقارب والمصالحة مع بشار الأسد ودعاه الى فرنسا مرتين بعد كل ما حدث من اغتيالات لحسابه في لبنان، ومنها دعوة لحضور احتفالات العيد الوطني الفرنسي حيث يتم احياء قيم غريبة على الأسد وهي الحرية والمساواة والأخوة. اما حديث ماكرون عن الشرعية الوحيدة للأسد فغريب ان رئيساً لامعاً مثله ينعت بالشرعي رئيساً يقصف شعبه بالبراميل وطيران جيشه وجيش حليفه الروسي ويقتله بمساعدة حليفه الإيراني.
كان من الأفضل ان يكتفي ماكرون بالقول انه لا يجب ان يكون رحيل الأسد شرطاً مسبقاً للمفاوضات لأن ذلك اصبح مفهوم البراغماتية الغربية. فالمرجو ان يعيد ماكرون قراءة تاريخ فرنسا القريب مع عائلة الأسد ليرى ان اغتيالات لوي دولامار وميشيل سورا ورفيق الحريري وشلة أصدقاء فرنسا تناقض موقفه من علاقة فرنسا مع آل الأسد.