بالكذب وبالأرقام المزوّرة تتواصل الحملة على السوريّين في لبنان: يأكلون خبزنا. يستهلكون كهرباءنا. يسرقون مهننا. يهدّدون أمننا. يلوّثون بيئتنا. يعتدون على نسائنا... نسب التزايد سيف الحملة البتّار. ذاك أنّ العدد يخيف، وتحويله إلى صورة تتراقص أمامنا يخيف أكثر. وما يُنسب إليه من أفعال، كالزحف والتسلّل والتغلغل والانتشار والتوسّع، يدبّ الرعب في الأوصال.
البرابرة، إذاً، قادمون. وهم ولاّدون، خصوبتهم البيولوجية الرتيبة تمنع عنّا خصوبة الطبيعة المبدعة. عَرَقهم يحاصر عبيرنا.
فوق هذا، رجولتنا سوف توضع على المحكّ: قدرتها على ردّ التحدّي، بالإنجاب أو بالسلاح، تغدو موضع امتحان. لكنْ ماذا نفعل وهم يتناسلون كالفئران، فيما اللبوة لا تنجب إلاّ أسداً واحداً!
أين سمعنا هذه العبارة من قبل: يتناسلون كالفئران؟ في الأدبيّات الفاشيّة وأدبيّات البيض العنصريّين في الجنوبين الأميركيّ والأفريقيّ. هناك أيضاً، «يتعملق» الأصليّ و «يتجوهر» مقابل «الفأريّة» التي «تتقزّم» و «تُقزّم»، بتراكمها الكمّيّ المحض المنزّه عن النوعيّة، وبما تختزنه من عنف وفقر وأمراض مُعدية، ومن طفيليّة تمتصّ دمنا النقيّ.
وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة ذات الباع في التحريض، تتحدّث عن أنّنا نتناقص وأنّهم يتزايدون. تمنح هذا «الخبر» صدارتها. المؤسّسات الإعلاميّة تنحو، في عالم الفضيلة هذا، إلى تحسين أحوالها المتدهورة باللعب على غرائز ما دون الصفر، باستجلاب الزبائن الذين يختلط عليهم الإعلام بالإثارة. إنّه إعلام يخاطب أصحاب المخيّلة الفأريّة.
نعم، من دون إنكار أو مكابرة، هناك مشكلة متعدّدة الأبعاد ترتّبت على اضطرار مئات آلاف السوريّين إلى النزوح عن بلدهم إلى بلدنا. والمشكلة كانت لتنشأ في أيّ وطن صغير يتعرّض لنزوح كبير، خصوصاً في ظلّ أزمة اقتصاديّة وشحٍّ في المعونات وفساد وتفاهة في التخطيط الرسميّ، وهذا فضلاً عن مواضٍ معقّدة تخصّ الأنظمة والبلدان والتجارب. لكنّ ما يقترحه العنصريّون يبقى أسوأ أنماط التعامل و «التفكير». هنا، يصبّ تضخيم الأرقام والولادات الزيت على نار المشكلة فيزيدها إشكالاً ويُضعف احتمالات تذليلها. ولأنّ العدد يُشعل الحرائق، صار لغةً حصريّة لأمراء الخوف والتخويف بشعبويّيهم وعنصريّيهم وفاشيّيهم على اختلافهم. إنّه لعبة لوبن وترامب الأثيرة. لقد سبق أن لعبناها مع فلسطينيّي لبنان: أخفناهم وأخفنا اللبنانيّين منهم فاندفعوا إلى التسلّح ثمّ تسلّحنا في وجه تسلّحهم وكان ما كان...
لكنْ ينبغي أن لا ننسى سببين هما إسهامنا الخاصّ في العنصريّة: أنّ العلاقات بين طوائف اللبنانيّين متردّية جدّاً فيما ألحان السعادة والحبّ قويّة جدّاً. هذا التكارُه المكبوت نزيّت آلته ببعض الدم المعلن والسهل، دم الآخرين. إنّنا محتاجون إلى التشارك في صيد الطرائد بين الفينة والأخرى. ونحن، اللبنانيّين، أخصّائيّون في هذا: بعد اتّفاق الطائف جلسنا على صدور الفلسطينيّين المحشورين في مخيّماتهم، المهينة لنا، وتبادلنا التهاني.
ثمّ إنّ البُعد العنصريّ في طائفيّتنا لم يكفّ في السنوات الأخيرة عن النموّ. فشلُنا في التعايش، بسببنا وبمعونة جوارنا العسكريّ، جعل الاختلاف أكثر مراتبيّةً وحوّل كلّ آخر عدوّاً.
إلاّ أنّ قسوة العنصريّة التي يبديها بعضنا أسوأ من العنف العاديّ: إنّها لا تملك الأسباب التي قد يملكها العنف لكي يعنف، ولا تتوقّف عند إنجاز أهداف ملموسة قد يتوقّف العنف عندها. والقاسي طبعاً أجبن من العنيف. ذاك أنّ العنصريّين بيننا الذين يصوّرون السوريّ فأراً، كان معظمهم فئراناً فعليّين أمام جيش الأسد حين كان في لبنان. ومعظمهم لا يقولون اليوم إنّ بشّار هو المسؤول الأوّل عمّا اضطرّ شعبه إلى الإقامة في أرضنا التي تتحوّل أرضاً بخيلة ولئيمة تحرسها الريح الصفراء. وأغلب هؤلاء لا يجرأون على إعلان مسؤوليّة «حزب الله»، الذي يمثّلنا في الحكومة، عن إحراق قرى وبلدات سوريّة، وتوسيع ظاهرة النزوح بالتالي.
وهذا من صفات الأخلاق الفقيرة التي لا تسيء إلى السوريّين بقدر ما تسيء إلى لبنان الذي لا معنى له من دون الحرّيّة والانفتاح – الانفتاح لا على الغنيّ وحده، بل على الفقير أيضاً، ولا على المصطاف والسائح فحسب، بل على النازح واللاجئ كذلك. فإذا شكّل الانغلاق مقتلاً، فأيّ مقتل يشكّله بذل كلّ هذا الجهد المجبول بالرياء والتزوير لتبرير الانغلاق، بل لتمجيده أيضاً!؟
ءكلما جرى الحديث عن تنحية بشار الأسد، تقدّم روسيا خطابها المعهود، حيث إنها تتمسّك بالشرعية الدولية، ولا تقبل بقلب النظم، أو تغيير الرؤساء، فبشار الأسد رئيس شرعي، ولا يقرّر مصيره إلا الشعب السوري. وبالتالي، ليس مصير الأسد مطروحاً في محادثات السلام، وكأن الأمر يتعلق بحرب أهلية يكون حلها بعقد صفقة تعيد "المتمرّدين" إلى الشرعية مع تحقيق بعض مطالبهم.
إقرار شرعية بشار الأسد يعني أن ما حصل هو تمرّد عليه، فإما أن يُخمد بالقوة أو عبر حل سياسيٍّ يقوم على إشراك المتمردين في الحكومة. ولا شك في أن روسيا تعمل على إخماد "التمرّد" بالقوة، في وقتٍ تفاوض لإشراك بعض من الفصائل التي تشكلت، وبعض أطراف المعارضة، والمعارضة المزيّفة في حكومة "وحدة وطنية".
ما تريد تناوله هذه السطور لا يتعلق بذلك، إلا من زاوية الخطاب الروسي المتمسّك بـ "الشرعية". وهو تمسّكٌ نابعٌ من عنصرين، يتمثل الأول في أن الروس لا يريدون الإقرار بوجود ثورةٍ، فما جرى مؤامرة. وهذا ناتجٌ عن رفضهم الجوهري كل ثورة، لأن من يحكم في روسيا هو رأسمالية مافيا، تعرف أنها ستواجه ثورة. وبالتالي، يجب "كسر الثورات المخملية"، كما صرّح وزير الدفاع شويجو. تخاف الرأسمالية الثورة، لهذا ترفض الاعتراف بحدوثها في أيّ بُقعة في العالم. ويتمثل الثاني في أن وجودهم العسكري في سورية الذي بات يشكّل احتلالاً لا يكون "شرعياً"، إلا بتأكيد شرعية النظام. ولأنهم لا يقرّون أنهم محتلون يريدون تأكيد شرعية قدومهم بطلب من "رئيس شرعي".
لهذا لم يُعترف بالثورة، لأنها تعني إسقاط شرعية "الرئيس المنتخب".
لكن روسيا التي تتمسّك إلى هذا الحد بـ "الشرعية الدولية"، وقرارات مجلس الأمن، ترفض أولاً ما ورد في هذه القرارات، حيث إنها تنصّ على تشكيل هيئة حكم انتقالي، تقود مرحلة انتقالية، بالتالي، لا يكون لبشار الأسد موقع فيها. لكنها ثانياً تمارس ما يناقض كل خطابها "الشرعاني" هذا، حيث إنها تدخلت عسكرياً في جورجيا، فاحتلت أوستينيا الجنوبية. وتدخلت في أوكرانيا، حيث ضمّت شبه جزيرة القرم بدون قرار دولي. وأرسلت قواتٍ لمساعدة حلفائها في شرق أوكرانيا التي باتت مقسّمةً بين حكومة منتخبة وحكومة سابقة أسقطتها الثورة. طبعاً بالنسبة لروسيا الثورة في أوكرانيا هي "ثورة برتقالية" هذه المرة، بعكس المرة السابقة (سنة 2004) التي أسقطت "عملاء الغرب"، وسمحت باستحواذ حلفائها على السلطة، على الرغم من أن الشعب هو ذاته الذي قام بالثورتين.
وإذا كانت أميركا، منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، باتت تتدخل من دون قرار دولي، وقد احتلت أفغانستان والعراق، وتدخلت في ليبيا، وكان الخطاب الروسي يدين الخروج على الشرعية الدولية، على الرغم من أنه كان يوافق أو يلوذ بالصمت، فإن روسيا مارست السياسة ذاتها في محيطها، أي في البلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، حيث تعتبر أن هذا "مجالها الحيوي". وهي هناك، كما في سورية، ادعت شرعيةً لتبرير تدخلها (كما فعلت أميركا كذلك)، حيث كان لها "عملاء" يستطيعون "استدعاءها" لكي تحمي "الشرعية".
ما يُراد الوصول إليه، هنا، أن خطاب الشرعية غطاءٌ ما دامت روسيا تمارس عكسه، ولا تلتزم بـ "قرارات الشرعية الدولية"، والهدف منه تبرير تدخلها واحتلالها ليس أكثر، فدولة تخرج "الشرعية الدولية" وتعتدي على أمم أخرى لا يعني شيئاً تمسّكها بـ "الشرعية الدولية"، حين يخدم هذا الخطاب مصالحها. لقد لفظته، وهي تحتل شبه جزيرة القرم، وتتدخل في شرق أوكرانيا، وقبل ذلك حينما احتلت أوستينيا الجنوبية. وبالتالي، فهي تتمسّك به في سورية بالضبط لتغطية احتلالها، ولتبرير تدخلها. وهي هنا، مثل أميركا، تحتكم لمنظور إمبريالي، يبرّر كل عملية تدخل أو احتلال أو نهب.
عدة ملامح ومعالم على طريق واشنطن – طهران تبين أن احتمالات الصدام واردة وبقوة، سيما في ضوء التصريحات الأخيرة التي يمكن أن تحمل فلسفة إبراز العضلات الأميركية في مواجهة الأطماع الإيرانية التي لا توارى ولا تدارى.
كانت تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لإذاعة صوت أميركا قاطعة لا تحتمل أي لبس، وتعد بمثابة انقلاب على سياسات باراك أوباما تجاه طهران.
يتحدث تيلرسون عن سياسة أميركية تركز على دعم القوى الداخلية، من أجل إحداث تغيير سلمي للسلطة في هذا البلد.
لعل هذا أقوى تصريح علني منذ الثورة الإيرانية، ويتسق مع شهوة قلب الرئيس وإدارته، وجميعهم يرى في إيران الداعم الأول للإرهاب، وعدم الاستقرار في الخليج العربي خاصة، والشرق الأوسط عامة.
السحب الأميركية تجتمع في مشهد لا تعوزه الدلالة على سماوات طهران، وهذا ما أكده مدير الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو قبل يومين، حين أشار في لقائه مع شبكة: «إم إس إن بي سي» الأميركية إلى أن النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط توسع بشكل كبير، خلال السنوات الست أو السبع الأخيرة.
لم تنفصل السحب الداكنة بما جرى داخل مجلس الشيوخ حيث صوت 98 عضواً من أصل 100 على قرار جديد يفرض مزيداً من الحظر والعقوبات على إيران بسبب أوهامها الإمبراطورية التي لخصها وزير الدفاع جيمس ماتيس، في أنها تتجاوز برنامج الصواريخ الباليستية، إلى برنامج لبناء قوى بحرية مضادة للوجود الأميركي، عطفاً على شغبها الإلكتروني في المنطقة وقرصنتها لجيرانها، أضف إلى ذلك ميليشياتها التي جعلت نهار المنطقة قلقاً وليلها أرقاً.
يصف دنيس روس الدبلوماسي الأميركي العتيد المشهد بأنه تصادم قادم لا محالة، سيما أن طهران تستغل ارتباك ترمب في المنطقة من أجل إحكام قبضتها على سوريا، وهي تسعى في كل الأحوال لإقامة ممر بري نحو لبنان عبر العراق وسوريا، وتحقيقا لهذه الغاية تمارس إيران الضغوط من داخل العراق وسوريا، وذلك باستخدام وكلائها من الميليشيات الشعبية على جانبي الحدود.
المتابع للمشهد يرى واشنطن وقد بعثت برسالة ساخنة لطهران ففي 18 مايو (أيار) المنصرم، قصفت القوات الأميركية موكبا تابعا لميليشيا تدعمها إيران بعد رفضه الإذعان للإنذارات الموجهة إليه بالتوقف، ثم دمرت طائرة من دون طيار قامت بإطلاق النار على القوات الأميركية في 8 يونيو (حزيران) الحالي.
المتابع المحقق والمدقق لمشهد التصادم الأميركي المرتقب لا يمكنه أن يوفر معنى ومبنى تعيين مايكل دانداريا رجل الاستخبارات الأميركي الشهير بـ«آية الله مايك» مسؤولا عن إيران في الوكالة الشهيرة.
لم تتأخر «نيويورك تايمز» في تحليل الحدث، وبما يتفق شكلا وموضوعا مع تصريحات تيلرسون، إذ أكدت أن: «تعيين دانداريا في هذا المنصب يعني أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بات يميل نحو سياسة تغيير النظام في إيران»، وأن ترمب يفي بكل كلمة قالها خلال حملته الانتخابية، وتتصل بإيران ونظام الملالي هناك، والمرجح أن يكون دوره تهيئة الداخل الإيراني لعمليات أولية في طريق الصدام.
قرأت إدارة ترمب نوايا إيران مبكرا على لسان الإيرانيين أنفسهم، فقد قال حيدر مصلحي وزير الاستخبارات الإيراني السابق إن إيران تسيطر فعلا على أربع عواصم عربية، ومن قبله أشار الجنرال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري الإيراني إلى الأمر ذاته، أما نائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قاناني فمن جهته اعتبر أن نفوذ إيران بات يصل اليوم إلى أفغانستان، وهو ممتد لما وراءها، وأن هذا حق طبيعي لبلاده.
أغلب الظن أن السحب الأميركية فوق السماوات الإيرانية سوف تبدأ بالحرس الثوري الإيراني، ذلك أن عقوبات مجلس الشيوخ ولأول مرة تسميه أميركا كجهة مستهدفة بعقوبات بشكل رسمي، دون إهمال كذلك لملف حقوق الإنسان المهترئ في الداخل الإيراني.
العقوبات الأميركية والصدام سيتصلان بكل من يساعد إيران لوجيستياً وعسكرياً، ومن يسعى لأن يدور في فلكها، وللرئيس ترمب الحق في فرض عقوبات مباشرة في هذا الإطار.
هل ستتحول السحب إلى أمطار ساخنة من نار وبارود؟
الأحاديث الرائجة الآن عن سيناريوهات المواجهة العسكرية تكاد تقترب من شجرة التين، فمتى لانت أوراقها واخضرت أغصانها يعلم الناظر أن الصيف قريب.
في خطابه الأخير بمناسبة ما يسميه النظام الإيراني بيوم القدس العالمي الذي يقام دائماً في آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك، كشف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن معادلة جيوسياسية جديدة أوسع من إقليمية تنفذها إيران، مبنية على تجاهل السيادة الوطنية لعدة دول في أغلبها إما لديها حدود مشتركة مع إيران أو أنها تخضع لهيمنة طهران، ملوحاً بأن الدفاع عن وحدة المسار والمصير بين الأطراف التي تنتمي للنظام الإقليمي الإيراني الجديد لن تختصر فقط على الأنظمة الرسمية التي تنتمي لهذا المحور، بل جعل الميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات التي تديرها طهران والتي لا تعترف بالحدود الرسمية بين الدول في صلب هذه المعادلة، حيث قال في إطار تهديده تل أبيب بحال قامت بشن حرب على لبنان أو سوريا إن «هناك دولاً قد لا تدخل بشكل مباشر، ولكن قد تفتح الأجواء لعشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، ليكونوا شركاء في هذه المعركة، من العراق ومن اليمن ومن إيران ومن أفغانستان ومن باكستان».
كلام نصر الله هو ترجمة سياسية للواقع الميداني الذي يحاول قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ترسيخه منذ الحرب على الثورة السورية، التي يجب الاعتراف دون مكابرة بأن الخطط الإيرانية لقمع الشعب السوري والسيطرة على القرار السياسي في دمشق قد نجحت جراء تخاذل إقليمي ودولي عن مساعدة السوريين، هذا النجاح سمح لطهران بالانقضاض على ما تبقى من سيادة في سوريا والعراق ولبنان بهدف الوصول إلى استراتيجية إسقاط الحدود الرسمية بينها لكي تتمكن من فرض امتدادها الجيوسياسي الذي يعزز حضورها الإقليمي، ضمن خطة توسعية في إطار مشروع دولة كبرى إقليمية، وانتزاع اعتراف دولي بما تعتبره حالياً مجالها الحيوي الذي بات يمتد من تخوم آسيا الوسطى مروراً بأفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان حتى اليمن، وتحويله إلى فضاء إيراني بصيغة عقائدية متماسكة ومترابطة ببعد مذهبي واحد، لن يكتب له النجاح إلا على حطام ما تبقى من كيانات سياسية والعبث بالعلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية بين الجماعات الإثنية والعرقية والدينية في مناطق الشرق الأوسط الكبير.
ففي لحظة تشكل الفضاء الإيراني المفتوح تصبح فلسطين ومعها القدس ضرورة ملحة لخروج إيران من عزلتها القومية والمذهبية، فالمزايدة بالقضية الفلسطينية وسيلة تستغلها طهران عادة عندما يرتفع مستوى التوتر بينها وبين جيرانها العرب أصحاب القضية الأساسيين، فقد أدى تبني طهران المبكر للقضية الفلسطينية في مساعدتها على مواجهة التأثيرات السلبية لحربها مع العراق على علاقتها مع دول وشعوب المنطقة، ففي مواجهة المعادلة التي حاول صدام حسين ترسيخها في حرب الخليج الأولى أن العراقي العربي السني يواجه مشروع إيران التوسعي الفارسي، كانت فلسطين الرافعة التي استغلتها طهران من أجل التأسيس لمشروعها التوسعي، واختراق المجتمعات العربية المحبطة نتيجة الإخفاق العربي في مواجهة إسرائيل، إضافة إلى تراجع الدعم العربي لحركات المقاومة وهزيمة منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1982 في لبنان واحتلال بيروت.
ففي طريقها إلى بسط نفوذها، تستثمر طهران التناقضات العربية والتباينات الإقليمية والدولية حول معالجة قضايا المنطقة، لتوسع نفوذها الإقليمي بعناية وإصرار، تتكئ على استقطاب مذهبي مكنها مرحلياً من فرض إرادتها، فالباكستانيون والأفغان الشيعة هم الأداة التي فرضت على إسلام آباد مداراة طهران سياسياً، أما الحشد الشعبي العراقي فبات الذراع الأقوى الذي تحاصر به حكومة بغداد وتساوم به واشنطن في الموصل وتناكفها من خلاله في الرقة ودير الزور، فيما يضع حزب الله يده على العاصمة السورية دمشق، وفي ظل غياب استراتيجية أميركية لمواجهتها، وتمسك روسي في الشراكة معها، تواصل طهران أفعالها التوسعية في محاولة لفرض أمر واقع طويل الأمد، تحمي من خلاله مكاسبها، وتستقوي به على الداخل الإيراني المستاء جراء غرق نظامه المتزايد في تفاصيل المنطقة المليئة بالشياطين، تلك الشياطين التي جعلت الاتحاد السوفياتي يدفع ثمن طموحاته التوسعية، وينهار من الداخل ويتفكك، نتيجة إدارة فاشلة لقضايا الداخل الاقتصادية والاجتماعية وعداء عقائدي مع الخارج، وهو ما ينطبق الآن على النظام الإيراني المسكون بالقلق الدائم من محيطه، الذي تسيطر عليه هواجس مواجهة مع الخارج، وعداء مع الأغلبية العربية والإسلامية، التي وإن لم تتمكن من تقويض مشروعه فإنها قادرة وبقليل من الإمكانيات على فرض حالة دائمة من عدم الاستقرار فيما تسميه طهران المجال الحيوي الإيراني.
لن يطول الوقت لتتكشف تفاصيل صعود «داعش» في العراق قبل ثلاث سنوات، والدور الذي لعبته إيران في تمكين هذا التنظيم من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية. كما ستظهر تفاصيل أكثر عن دور رجل إيران نوري المالكي الذي كان رئيساً للحكومة آنذاك، وكيف ساهمت سياسته في خروج الجيش العراقي من الموصل وتسليمها إلى «داعش». كانت هذه السياسة ضرورية للحرس الثوري الإيراني في إعطائه شرعية التدخل العسكري تحت حجة محاربة الإرهاب والحفاظ على الأماكن المقدسة في الشكل، فيما يضمر المضمون السيطرة على العراق وإلحاقه بالدولة الفارسية، وهو ما بدا صريحاً في كلام المسؤولين الإيرانيين، لاحقاً، وعلى أعلى المستويات، من أن العراق بات جزءاً من الأمبراطورية الفارسية، وأن مدينة بغداد هي عاصمة هذه الإمبراطورية.
شكلت معركة محاربة تنظيم «داعش» الحلقة الثانية في السيطرة الإيرانية على العراق وعلى السلطة السياسية وحتى الدينية فيه، وهي حلقة تستكمل ما قدمه الاحتلال الأميركي لإيران من تسهيلات للسيطرة منذ العام 2003. لذا لا يستقيم الحديث عن الهيمنة الإيرانية من دون العودة الى سنوات احتلال العراق، حيث كانت خطة أميركا تدمير هذا البلد ونهب ثرواته، فيما كانت خطة إيران إلحاقه بسلطتها في وصفه جزءاً من المدى الحيوي لإيران.
إضافة الى التدخل العسكري ونشر الحرس الثوري داخل العراق واحتلاله أراضي واسعة، اعتبرت إيران أن احتلالها لا يستقيم ويدوم من دون توافر عناصر أساسية ثلاثة. الأول، فرض سيطرة المؤسسة الدينية المتمثلة بمرجعية «قم» على المؤسسات الدينية في العراق، وفرض نظرية ولاية الفقيه على شيعة العراق بوصفها الأيديولوجيا الدينية الإيرانية. وهو ما وضعها في تناقض مع مرجعية النجف الأشرف، التي تعتبر نفسها الأصل والمسؤولة عن المذهب، وهي مرجعية لا تقول بولاية الفقيه، بل ولا تعترف بها. نجحت إيران في استقطاب مرجعيات دينية عراقية، وأدخلت انقساماً في المؤسسة الدينية من منطلق قبول او رفض هذه المنظومة الأيديولوجية. وهو صراع لم يحسم، لا إيرانياً، ولا عراقياً.
أما العنصر الثاني الذي رأته إيران حاسماً، فهو خلق ميليشيات موازية للجيش الوطني العراقي، ذات طابع مذهبي صاف، أطلقت عليه اسم «الحشد الشعبي»، وبنته على غرار الحرس الثوري الإيراني. كان خلق هذه الميليشيات يضمر عدم ثقة إيرانية بالجيش الوطني الذي يحوي مختلف المكونات الطائفية العراقية. قدمت له السلاح والعتاد والعديد، بحيث بات طرفاً أساسياً في المعركة ضد تنظيم «داعش». على رغم إضفاء الصفة الرسمية على هذه الميليشيات، إلا أن الصراعات حول وجودها لم تتوقف، وهي نقطة خلافية داخل المجتمع العراقي وحتى داخل السلطة السياسية فيه.
اما العنصر الثالث، فهو الهيمنة على ثروات العراق ونهبها، عبر شركات اقتصادية مشتركة بين عراقيين وإيرانيين، او عبر توظيف استثمارات ضخمة في ميادين متعددة من القطاعات الإنتاجية. وهو أمر جعل من المستثمرين الإيرانيين شركاء فعليين في الاقتصاد العراقي، وتكونت فئات عراقية ترى مصالحها في استمرار هذا الاحتلال.
تحت حجة محاربة إرهاب «داعش»، مارست إيران وميليشياتها تسلطاً على الشعب العراقي وعلى الحكم في آن. لم تكن العنصرية القومية الفارسية بعيدة من هذا التسلط، كما سلّطت الحشد الشعبي ضد المكونات الطائفية العراقية بما فيها المكوّن الشيعي نفسه الذي رفض الخضوع للحرس الثوري. لم تكن ممارسات الحشد أقل وحشية من ممارسات «داعش». تكاثرت الاعتراضات على السياسة الإيرانية، خرجت تظاهرات حاشدة بقيادات شيعية تطالب بخروج إيران من العراق، لم تكن بعيدة من المصادمات مع «الحشد» والحرس الثوري، وللذكر رُفعت شعارات تقول «ايران برّا برّا». حتى أن رئيس الحكومة حيدر العبادي أبدى أكثر من مرة استياءه من تدخل الحرس الثوري الإيراني في الحكم.
يبدو المشهد العراقي مقبلاً على ختام المعركة مع «داعش» وإخراجها من الموصل. ستشكل هزيمة التنظيم مرحلة جديدة في العراق وفي علاقته بإيران. عندما كانت الصيحات تخرج معترضة على الوجود الإيراني، كانت تواجهها ردود فعل أن الأولوية الآن لمحاربة «داعش» حيث المساعدة الإيرانية حاجة وضرورة. كانت إيران تلعب على هذا الوتر لتكريس نفوذها على الأرض وداخل السلطة. بعد زوال هذه الحجة، سيكون العراق أمام استحقاق التناقضات التي ستظهر على السطح، بما هي داخل أركان الحكم والمكونات السياسية القائمة، وسيندلع السجال حول سعي المؤسسة الدينية الإيرانية وضع يدها على مرجعية النجف، وستزداد المطالبة بحل ميليشيات الحشد الشعبي لصالح الجيش الوطني، كما سيزداد العداء القومي العربي ضد العنصر القومي الفارسي. كلها عوامل تشكل عنوان معركة استعادة العراق استقلاله وسيادته.
لن تكون معركة الاستقلال سهلة، فإيران باتت عنصراً داخلياً في العراق، ولها قوى تأتمر بأمرها، ناهيك عن المصالح الاقتصادية المرتبطة بها. مما يشي بدخول العراق مرحلة من الاضطرابات مجدداً، لكن هذه المرة في صراع مرير مع إيران، يصعب توقع نتائجه سلفاً.
نقلت «الحياة» يوماً عن مصدر قريب من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نيته اعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق. لم يكن ذلك بعيداً عن ذهنه ولو أنه خلال القمة التي جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فرساي قال ان ذلك ليس على جدول الأعمال حاليًا. فماكرون كان حتى خلال حملته الانتخابية يعتقد ان سلفه فرانسوا هولاند فشل في ديبلوماسيته في سورية وعليه ان يرسم تحركاً جديداً، خصوصاً انه يستمع الى مسؤولين سابقين يحظون باحترام كبير على الساحة الفرنسية والدولية وكانوا على خلاف مع نظرة هولاند في ما يتعلق بقطع العلاقات الديبلوماسية مع سورية. فماكرون بدأ يأخذ برأي هولاء وليست لديه خبرة في الملف السوري ولا في الديبلوماسية عموماً. إضافة الى ذلك وعلى غرار اسلافه نيكولا ساركوزي وفرانسوا ميتران وجاك شيراك يعتقد ماكرون انه سيفعل أفضل منهم في الملف السوري لإعطاء دور لفرنسا في مفاوضات الحل في سورية الى جانب روسيا، خصوصاً انه يرى ان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليست لها استراتيجية واضحة في ما يخص سورية. كما يرى ان أصدقاء فرنسا وشركاءها في دول الخليج، المعنيين بالملف السوري، منشغلون بخلافاتهم ما يجعله مقتنعاً ان بإمكانه رسم سياسة خاصة بفرنسا من دون الأخذ برأيهم. فكان تصريحه في مقابلة الى عدد من الصحف الأوروبية ان بشار الأسد ليس عدواً لفرنسا بل هو عدو الشعب السوري غير موفق. وقال: اذا رأيتم مسؤولاً شرعياً آخر مكان بشار الأسد في سورية فدلوني عليه.
واضح ان ماكرون يظن ان بالإدلاء بمثل هذا الموقف يستطيع ان يحصل على دور من الجانب الروسي. لكنه يقدم هدية لبوتين سابقة لأي تفاوض. فما الحاجة الى التنازل بهذا الشكل قبل الحصول على أي دور؟ وزاد ماكرون ان بشار الأسد ليس عدو فرنسا بل عدو الشعب السوري، في حين انه خلال حملته وفي زيارته الى لبنان قال لصحيفة «لوريان لو جور» عن بشار الأسد انه «ديكتاتور ارتكب جرائم دانتها الأمم المتحدة ولن يكون هناك سلام من دون عدالة.» فغريب الآن ان يغير رأيه الى حد القول ان هذا الديكتاتور الذي ارتكب جرائم دانتها الأمم المتحدة ليس عدواً لفرنسا. فهل هو صديق اذن؟ او رئيس كغيره سيتعامل معه؟ ماكرون يعتبر الآن اذا قرأنا موقفه ان لا علاقة للأسد بأزمة النزوح واللاجئين الى الدول المجاورة لسورية وأيضاً الى أوروبا. كما ان موقفه يعني انه لا يرى علاقة بين الإرهاب «الداعشي» الذي يضرب فرنسا وينتشر في أوروبا وسياسات بشار الأسد واستخباراته التي ابتكرت الإرهاب منذ عقود في سورية وفي لبنان.
من المؤسف ان ماكرون لا يرى ما جرى مع اسلافه مع بشار الأسد. ألم يقل احد من فريقه الديبلوماسي اللامع لهذا الرئيس الشاب ان أسلافه الرؤساء باستثناء فرانسوا هولاند حاولوا الكثير مع بشار الأسد لمساعدته دوليًا ودفعه الى الانفتاح وتغيير نهجه وكانت النتيجة معروفة مع كل من جاك شيراك ونيكولا ساركوزي. وكل مرة انتهت بالقطيعة مع فرنسا. وليذكّر المحيطون بماكرون رئيسهم ان ساركوزي من قبله اعتقد ان بإمكانه لعب دور في التقارب والمصالحة مع بشار الأسد ودعاه الى فرنسا مرتين بعد كل ما حدث من اغتيالات لحسابه في لبنان، ومنها دعوة لحضور احتفالات العيد الوطني الفرنسي حيث يتم احياء قيم غريبة على الأسد وهي الحرية والمساواة والأخوة. اما حديث ماكرون عن الشرعية الوحيدة للأسد فغريب ان رئيساً لامعاً مثله ينعت بالشرعي رئيساً يقصف شعبه بالبراميل وطيران جيشه وجيش حليفه الروسي ويقتله بمساعدة حليفه الإيراني.
كان من الأفضل ان يكتفي ماكرون بالقول انه لا يجب ان يكون رحيل الأسد شرطاً مسبقاً للمفاوضات لأن ذلك اصبح مفهوم البراغماتية الغربية. فالمرجو ان يعيد ماكرون قراءة تاريخ فرنسا القريب مع عائلة الأسد ليرى ان اغتيالات لوي دولامار وميشيل سورا ورفيق الحريري وشلة أصدقاء فرنسا تناقض موقفه من علاقة فرنسا مع آل الأسد.
مع اقتراب معركة الرقة من نهايتها تتجه الأنظار إلى اليوم التالي لتحرير المدينة من قبضة تنظيم «داعش»، في ظل صراع علني/ مضمر بين أطراف محليين وإقليميين ودوليين على تركة التنظيم، ليس في المدينة فحسب، وإنما في عموم المحافظة.
الصراع على الرقة يختلف عن غيرها من المحافظات مثل ما جرى في حلب وما سيجري في دير الزور. المسألة هنا مرتبطة بالسيطرة السياسية/ المدنية.
بدأت ملامح الصراع مع استبعاد «لواء ثوار الرقة» التابع لـ «الجيش الحر» من المشاركة في عملية تحرير مدينة الرقة بسبب أجندته الثورية الواضحة، في وقت سُمح لـ17 فصيلاً المشاركة في تحرير المدينة، لكن هذه القوى تنتمي في معظمها إلى الأقليات الدينية والإثنية، وليس لها أي وزن عسكري يعتد به.
حتى القوى العربية المشاركة في العملية، معظمها مكون من أبناء القبائل الرحّل وليس من العشائر ذات المكانة والمستقرة تاريخياً في المحافظة، والفصيلان العربيان الأبرز المشاركان في عملية التحرير («قوات النخبة» التابعة للرئيس الأسبق للائتلاف الوطني أحمد الجربا، مجلس دير الزور العسكري المشكل في 19 آذار (مارس) الماضي من أبناء عشيرة الشعيطات)، لا ينتميان إلى محافظة الرقة، أي ليس لهما طموح ولا حظوظ في حكم المدينة.
أما «لواء صقور الرقة» المكون من بعثيين وموالين للنظام، فلا يعدو أن يكون له مجرد حضور رمزي، وهكذا تعتمد الوحدات الكردية تكتيكاً يقوم على الاستعانة بقوى عربية رمزية تكون بمثابة غطاء للهيمنة الكردية، ويجب على هذه القوى أن تمتلك أجندات متباينة حتى لا تشكل كتلة عسكرية قادرة على إحداث التغيير.
وما جرى مع «قوات النخبة» و «قوات صناديد شمر» التابعة لحميدي دهام الجربا، حين تم تطويقهما من قبل الوحدات الكردية منذ شهرين، وما جرى مع «لواء صقور الرقة» حين تم قصفه من قبل التحالف، يؤكد أن الوحدات الكردية لن تتسامح مع أي فصيل يحاول التفكير والعمل خارج الحدود المرسومة له.
هنا تبرز المخاوف التركية، ومع أن الولايات المتحدة نجحت في احتواء الأتراك وإبعادهم عن معركة الرقة، وتطمينهم أكثر من مرة بأن تحالفهم مع الوحدات الكردية يقتصر على محاربة التنظيم، وأن الإدارة الأميركية لن تسمح بهيمنة كردية مطلقة على المحافظة، إلا أن الأتراك يراقبون بدقة ما يجري، سواء على المستوى العسكري أو على المستوى السياسي، مع محاولات «الاتحاد الديموقراطي الكردي» فرض مجالس محلية كردية ذات تلوينات عربية.
سيكون اليوم التالي لتحرير مدينة الرقة الاختبار الأهم والأصعب بين أنقرة وواشنطن، وفي حين تبدو الولايات المتحدة عاجزة إلى الآن عن تقديم خيار واضح ومحدد، تبدو تركيا عاجزة أيضاً عن بلورة خطوات على الأرض تحول دون هيمنة الإدارة الكردية الذاتية على مجمل المحافظة.
ويزداد المشهد تعقيداً مع دخول قوات النظام إلى الجنوب الغربي من المحافظة، في خطوة تبدو ظاهرياً منع «داعش» من الهروب نحو البادية، لكنها تحمل أبعاداً أعمق من ذلك، فالنظام لا يريد أن يصبح مصير الرقة بين الثلاثي الأميركي- الكردي- التركي.
المسألة الآن هي أن مرحلة ما قبل «داعش» تختلف عن مرحلة ما بعده، وإذا كانت المرحلة الأولى تتطلب تحييد تركيا وإبعاد النظام لمصلحة الوحدات الكردية، فإن المرحلة الثانية تتطلب حواراً وتفاهماً مع تركيا، وربما تفاهمات غير مباشرة مع النظام، إضافة إلى التفاهم مع الوحدات الكردية التي لا تزال تشكل ورقة مهمة بيد الولايات المتحدة.
ثمة ثلاثة احتمالات لمصير الرقة:
* إبقاء الولايات المتحدة على الهيمنة الكردية المطلقة في المحافظة، لكنه احتمال بعيد، لأن هذا الوضع سيؤدي إلى انفجارات محلية تضاف إلى البعد التركي. والأكراد أنفسهم يدركون أخطار ذلك، ويدركون حقيقة قوتهم في هذه المحافظة التي تختلف عن وضع الحسكة، وهم أعلنوا أكثر من مرة أنهم لن يضموا الرقة إلى منطقة الحكم الذاتي.
* انسحاب الوحدات الكردية تماماً من المحافظة، وهذا أمر مستبعد بسبب تأثيراته السلبية على محاولاتهم الحثيثة للسيطرة على وادي الفرات في محافظتي حلب والرقة، فضلاً عن أن الرقة تشكل الجسر الجغرافي الضروري للتواصل بين أذرع الإدارة الذاتية في الشرق والغرب.
* توسيع مروحة المشاركة في عملية الحكم لتضم مختلف الأطراف مع غلبة المكون العربي على الحكم، ممن ليسوا على علاقة مباشرة مع الأتراك ولا على علاقة مباشرة مع النظام، وهذا الطرح تقبل به كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.
ومع أن الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى التطبيق، إلا أن اختلاف أهداف الفرقاء وطبيعة التحالفات المعقدة في الشمال السوري، قد تدفع الأمور إلى مسارب أخرى، فالوحدات الكردية التي وجدت نفسها خلال السنوات الماضية أقرب إلى النظام، قد تجد نفسها في المرحلة المقبلة بعيدة عنه، في ظل اقتناع «الاتحاد الديموقراطي الكردي» أن النظام لن يقبل بأية محاولات للحكم الذاتي.
كما أن الوحدات الكردية لا تثق كثيراً بالولايات المتحدة، وهي تعلم أن الاختيار الأميركي لها جاء بعيد فشل واشنطن في استحصال حلف مع القوى العربية، مثلما حصل مع «جبهة ثوار سورية» و «حركة حزم» و «الفرقة 30».
والأمر ينطبق على تركيا التي قد تقبل بتواجد للنظام في مدينة الرقة وفي عموم المحافظة على حساب الوحدات الكردية، متقاطعة في ذلك مع دمشق وطهران في مخاوفهما من تضخم القومية الكردية.
في سورية المخطوفة، تحالف نهب دولي يدير تقاسم أراضيها، فيحولها إلى إقطاعات وقواعد ومحميات، وينظم نهب إرادة شعبها، فيحوله أتباعاً وأدوات. لقد مرَّت إدارة النهب بتعرجات كثيرة، وحرص الناهبون الدوليون على تغطية عملياتهم بآليات أمنية استخباراتية، وبمناورات تضليل سياسية، هذا قبل الآن، لكن كل ذلك صار من الماضي، وكما يقال، بات اللعب مكشوفاً بعد استنفاد المقاربة من بعد، والمباشرة من «خلف»، والالتفاف على الخطوط البعيدة.
الدور الأميركي هو الناهب الأول، وأشكال نهبه «أنيقة»، والقاتلون يرتدون بزّات ديموقراطية ويضعون ربطات عنق حضارية، وبعيداً من الموت الفج، على الطريقة الداعشية، يقتل الأميركي قتلاً رحيماً. نعم الأميركي رحيم في مفاجأته، فلا توجس قبل الموت، بل الدخول فيه دونما توقع، وهو رحيم في صعقه، مما لا يشبه جزع العين من التماع السكين.
الدور الروسي هو الناهب الثاني، وهذا يختبئ خلف حليفه الشرعي، نظام الأسد، فيأخذ بطاقة المرور إلى أمكنة النهب المشروع، وما أكثرها عندما يتعلق الأمر بالسياسي الروسي الذي يقتل قتلاً مشروعاً، ويسلب مظاهر القرار الرسمي سلباً قانونياً، ويفاوض على حدود الاقتطاعات التي اتخذها شركاؤه ومنافسوه غنيمة لتدخلهم، تفاوضاً رسمياً، ويصوغ دستوراً ويدعو إلى مؤتمرات، ويبعث برسائل اطمئنان إلى إسرائيل التي كانت عدواً، وكل ذلك بتفويض مشروع ثمنه تأمين الحماية للنظام.
الدور الإيراني هو الناهب الثالث، وهذا عاث في الأرض السورية خراباً باسم معاداة الاستكبار، وتصاغر كلما كان الأمر ضرورياً أمام المستكبرين، خدمة لطموحات نفوذ يتجلبب بديماغوجيا العقيدة، ويستر مناوراته بستر الدفاع عن الأمة الإسلامية، ولم يقتصر الأمر على الأرض، بل إن الخراب الأكبر أصاب بنية الشعب، وكان للإيراني اليد الطولى فيه، فما حصّله السوريون من وحدة، بدَّد الأساسي منه الحلف «المذهبي» بين المتدخل الإيراني والمتحكمين بسورية، وما كان عروبة صار مذاهب وقوميات، واستمرأ السياسي الإيراني سهولة تصنيف أراضٍ بدل الأرض، وشعوباً بدل شعب، ووطنيات بدل الوطنية. هكذا نهبت الوحدة المجتمعية، ومن ممرات تصدعها تسربت كل مياه وأصابع سياسات الخراب الإيرانية.
الناهب الرابع، محجوز للدور التركي، فهذا عاد أولاً بشبح عثمانيته، أو بوهم إحيائها، ولم يطل الانتظار حتى ارتدى عباءة «إخوانيته»، وعندما انقشع ليل التحاصص، سارع إلى حجز مقعده الأمامي في معاداة الكردي، ولما لم ينفع غطاء «داعش» كتبرير للحملة التركية في سورية، أدلى اللاعب التركي بمطالبه في الميدان، ومارس لعبة القفز فوق الحبال، فتارةً تكون لغته روسية، وطوراً فارسية، وعند الحاجة عربية، وخلف الستار عبرية، ولا تنقصه الحصافة ليشعر حليفه الناهب الأميركي، أنه سيظل أطلسياً.
ماذا تفعل الأمة العربية وهي ترى لعبة الناهبين؟ قلنا أمة عربية، وهذا قول بات غير مطابق لواقع الحال، لكن اقتضته ضرورة الحديث بالجملة، حتى لا يصير الحديث شأن دول يتم تداول أوضاعها ومواقفها بالمفرّق، الجواب عن السؤال: لا تفعل الأمة شيئاً، إذا كان الفعل مرادفاً للتأثير في تحديد وجهة الأحداث ورسمها. وفقاً لذلك، الأمة العربية متفرجة ولو ساهمت، وخاسرة ولو زينت لها سياساتها أنها رابحة، ومُهمَلة ولو ظنت أنها موضع اهتمام. لقد باتت الأمة تلك ميدان رمي، وساحة مواجهات، وخزينة مال للهدر ومجموعات سكانية مرشحة للقتل، ودياراً منذورة للخراب. لماذا؟ لأن ضرورات الحضارة الأخرى تقتضي ذلك، وغالباً ما عرف التاريخ أضراراً جانبية لكل حضارة.
الصراع في سورية اليوم يدور على خواتيم الصراع عليها، ولا يبدو أن مواقيت الخواتيم تلك قد حانت، بل لعل الأرجح أن يكون ربع الساعة الأخير، الذي ما زال يفصل اللاعبين عنها، هو الفصل الأشد وطأة على مصير السوريين، وعلى مصائر سائر العرب، الذين عرفوا معنى خسارة بغداد عام 2003، ومن بعدها كرّت سبحة الدمار التي انفرطت حباتها على طول المساحة العربية.
حتى ذلك التاريخ، ما زال التمهل صفة لحركة اللاعب الأميركي، الذي يُقدم أو يُحجم بمقادير محسوبة، وما زال الارتباك سمة لحركة اللاعب الروسي الذي يريد ثمن استثماره من مصارف السياسة الأميركية، وما زال الاندفاع المحسوب طابعاً لحركة اللاعب الإيراني الذي يتكئ على البنية الداخلية السورية، وما زال التطلب المأزوم لغة للسياسة التركية، التي جرى تقييدها بقيود حلفاء الأمس وأصدقاء اليوم...
وفي مواكبة كل ذلك، الحيرة والعجز يظلان صفتين عربيتين، بينما ينهار الهيكل على الرؤوس العربية وحدها... فقط الرؤوس العربية.
أعادت تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة حول سوريا، طرح الموقف في موضوع الرئاسة السورية على بساط البحث. وقال الرئيس ماكرون، إنه لا يرى بديلا شرعيا لبشار الأسد، وإن بلاده لا تعتبر أن رحيل الأسد شرط لحل الصراع في سوريا، وأضاف ماكرون إلى ما سبق قوله، إن «الأسد عدو للشعب السوري، لكن ليس عدوا لفرنسا».
موقف ماكرون في أحد جوانبه، يتقارب مع الموقف الروسي الداعم لبشار الأسد باعتباره «رئيساً شرعياً ومنتخباً»، وبالتالي وضعه خارج أي سياق للحل في سوريا، لكن الموقف الروسي يبدو أكثر تماسكا في أنه لا يرى أن الأسد «عدو للشعب السوري» كما يقول ماكرون.
وبغض النظر عن الاختلافات بين الموقفين، فإن فكرة شرعية أي رئيس تستند في الأساس إلى مسار وصوله إلى السلطة وإلى محتوى سياساته التي تحافظ على بلاده ومصالح شعبه، والأخيرة قضية لا تحتاج إلى نقاش بعد أكثر من ست سنوات من الصراع السوري، حيث كرست سياسة الأسد التوجه منذ البداية إلى حل عسكري أمني بدلا من الحل السياسي في الرد على مطالب السوريين السلمية والمدنية، ووسعت في سياق الحل العسكري الأمني، عمليات القتل والاعتقال والتهجير للسوريين في بلدهم وإلى خارجه، ثم زادت إليها فتح الأبواب أمام ولادة وتكاثر الجماعات الإرهابية المتطرفة، سواء من خلال إطلاق سراح معتقلين متطرفين ومجرمين من سجون النظام وتنظيمهم وتسليحهم، وفتح البوابات الحدودية للبلاد أمام المتطرفين وجماعاتهم للدخول إلى سوريا بعد انسحاب قواته وأجهزته من تلك البوابات، ثم أضاف إلى ما سبق خطا ثالثا في سياسته، وهو استدعاء قوى إقليمية ودولية في مواجهة السوريين الثائرين على النظام من ميليشيات طائفية متطرفة إلى إيران ذات المطامع المعلنة بسوريا إلى روسيا الباحثة عن موطئ قدم على شواطئ المتوسط، والراغبة في استعمال سوريا ورقة مساومة في صراعاتها الإقليمية والدولية، مما أدى إلى رهن مستقبل البلاد بيد من استدعاهم، وصار نظام الأسد الطرف الأضعف بينهم في أي قرار يتعلق بسوريا، وصار هؤلاء في عداد قوى الاحتلال في سوريا.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أن مجمل تلك السياسات أفقدت الأسد أي شرعية حصل عليها لاحتلاله موقع الرئاسة السورية، رغم أن شرعيته قبل ثورة السوريين كانت محط اعتراض، ليس بسبب سياق التوريث الذي حمله إلى سدة الرئاسة فقط، إنما أيضا بسبب فشله عبر السنوات العشر الأولى من رئاسته في تحقيق أي خطوات إصلاحية،
فقدان شرعية الأسد في الرئاسة لا تحتاج إلى تأكيد من أي قوة خارجية، إذ هي مستمدة من إرادة السوريين، ومن المسار الذي مضى عليه بشار الأسد ونظامه، وفي الحالتين فإن الوقائع أثبتت أن الأسد ونظامه لا شرعية لهما، وأن أطروحات غير السوريين في هذا لا قيمة لها، وغالباً، ما يتم طرحها لتبرير سياسات ومواقف تتخذها هذه الدولة أو تلك، أو يطلقها رئيس أو زعيم لإحدى الدول المهتمة أو المتدخلة في سوريا.
البحث عن بديل للأسد في إطار مستقبل سوريا أمر يتعلق بالسوريين وطموحاتهم وأهدافهم، وهو لا يتعلق بشخص، ولو كان الأمر كذلك، فإن أي سوري يمكن أن يكون أحسن من الأسد، لأنه لم يذهب في مشوار الدم والدمار والتهجير بالقدر الذي ذهب فيه الأسد، بل الأمر أبسط من ذلك حتى، فقد مضى على تأسيس الكيان السوري الحديث نحو ثمانين عاماً، تولى فيها الرئاسة السورية عشرات الأشخاص، وكلهم كانوا أفضل من الأسد وأبيه في مسؤوليتهم الوطنية وفي مستويات الأداء السياسي والأخلاقي، ولم تصل أبشع أخطاء أحدهم إلى عتبة الحد الأدنى من جرائم ارتكبها الأب والابن في نحو أربعين عاما من رئاستهما المشكوك في شرعيتها، مما يعني أن السوريين قادرون على إيجاد كثير من الأشخاص ممن يستطيعون تولي منصب الرئاسة،
الأمر الثاني في موضوع الرئاسة السورية وبديل الأسد، هو برنامج الرئاسة القادم، والمفترض، أن يضمن انتقال السلطة من نظام رئاسي ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي تعددي، يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، ويعالج تداعيات ما صار إليه حال سوريا والسوريين في سنوات الحرب، والتدخلات الإقليمية والدولية، ومعالجة قضايا المعتقلين والمختفين قسرا والمحاصرين والمشردين والمهجرين واللاجئين، ومحاسبة المجرمين والمرتكبين، وإعادة تطبيع الحياة السورية، وتتطلب محتويات البرنامج وضع إعلان دستوري، وخلق هيئات ومؤسسات لها مهمات، ووضع آليات تنفيذية لعملها وطرق لمراقبة حسن الأداء، وعندها لن تكون هناك مشكلة في أي شخص يختاره السوريون رئيساً، لأنه سيكون قابلا للتغيير والاستبدال، ما لم يلتزم وينفذ محتويات برنامج السوريين.
إن تدخلات الأطراف الخارجية في القضية السورية تفرض على المتدخلين، ليس فقط وقف تدخلاتهم الكارثية، التي أطالت عمر نظام الاستبداد والإجرام، وعززت قوة جماعات التطرف والإرهاب، ووضعت السوريين في أتون أكبر كارثة إنسانية، وحملت العالم جزءا من تداعيات تلك الكارثة. إن واجبهم هو المساعدة على خروج سوريا من النفق المظلم، لا إصدار الفتاوى حول شرعية الأسد ونظامه، أو تجزئة الملف السوري، وغير ذلك من سياسات ثبت فشلها طوال السنوات الست الماضية.
بعيداً عما يحمل هذا القانون أو تلك الوثيقة أو ذاك الدستور - الذي اعتمد من قبل البعض كمرجعية - في طياته من مواد تتناسب مع هذا الواقع أو تتناقض معه ولا تصلح للتطبيق فيه. وبعيداً عن أي انعكاسات متوقعة سلبية كانت أم إيجابية، وعن أي اتهامات متبادلة بالخيانة أو العمالة أو الرقبة، وبعيداً عن المهاترات والرفض أو القبول.
بعيداّ عمن يرى في هذه الصيغة حبل نجاة للأمة ومن يرى فيها ردة تستوجب الحرب والقتال… بعيداً عن كل ذلك...
فإن الناظر إلى الغاية التي لا زالت تجمع كل من في واقعنا المحرر، هي واحدة ولا يكاد يختلف عليها أحد على اختلاف أسمائهم وألوانهم. فالكل يدعي وصلاً بالمشروع الإسلامي العظيم الذي سيعيد للأمة الإسلامية دورها في ريادة العالم وسيادة البشرية وإقامة دولة الحق، وملء أرضنا عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً.
وما أكثر من يسعى جاهداً (بأقواله) ليصحح المسار إن صح التعبير، ويعيد الثورة إلى طهرها الأول لتكون بداية الطريق الصحيح لتحقيق ذلك المشروع المعلن.
لكن رغم كل ذلك فإننا إذا ما نظرنا إلى أرض الواقع لا نكاد نرى شيئاً من ذلك سوى مزيد بيانات وتوضيحات وتبريرات لا تسمن ولا تغني من جوع لا بل وأحيانا تصل الأمور إلى أبعد من ذلك بكثير فنرى أرتال تسير وحروب هنا وهناك بين من يحملون ذات الغاية...فيقف إزاء ذلك الحليم حيراناً.
ولا نكاد نرى تفسيراً لذلك سوى تلك الفجوة الأزلية بين النظرية والممارسة التي وجدت مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم ولا زالت حاضرة إلى يومنا هذا ولربما هي باقية مالم تقم الساعة.
فجميعنا كمسلمين متفقين بشكل أو بآخر على نظرية تعد من المسلمات بالنسبة لنا وليس هناك من إشكالية فيها، فالكل متفق على شرع الله كمبدأ في حياته ومنطلق يحكم من خلاله على أصغر الأمور وأكبرها والقضية في ذلك محسومة نظرياً ولا تحتاج منا لأن ننشغل في الصراعات الفكرية والإيديولوجية التي لطالما انشغل بها غيرنا من الأمم، فالإسلام نموذج حياة متكامل لا نقص فيه.
ولكن لب القضية يكمن في إشكالية تطبيق هذه النظرية وإسقاطها على أرض الواقع، هذه الإشكالية التي كانت سبباً في نشوء هذه الحركات والجماعات المتناحرة المتخاصمة التي لا يعترف بعضها بالآخر مع أن لديها الهدف ذاته (إقامة شرع الله على أرض الله) ومصالحها في ذلك مشتركة ولاشي بينها سوى أن كل طرف ارتأى في نفسه الحق وحصر في ذاته الصواب فلا يريد أن يري الغير إلا ما يرى، فطريقته هي المثلى وسبيله سبيل الرشاد وطريقة وسبل غيره ضلال.
فنجد بناء على ذلك أن مثل أولئك ساهموا من حيث يدرون أو لا يدرون بتعطيل التطبيق عملياً على أرض الواقع.
فهناك من عطل تطبيق أحكام الشرع من حيث يدري (لدنيا يصيبها أو لاتباع هوى)، وهناك من فعل ذلك من حيث لا يدري عندما تعصب لرأي آخر رأى فيه بوابة لمدينة العلم، أما البعض الآخر عطلها بفهمه وتصوره الخاطئ لطبيعة المجتمع المسلم الذي رأى فيه مجتمع السيوف المشرعة والسكاكين القاطعة فجهل بذلك مراد الشرع أصلاً.
تنوعت الأسباب لكن النتيجة واحدة حيث أصبحنا اليوم أشبه ما نكون بأمس غابر من تاريخنا كان اسمه عصر ملوك الطوائف، يومها كان لكل أمير دولته ورجاله ومناصروه ممن يحتمي ويلوذ بهم ضد أخيه، والذين ما فتئوا ينفخون على جمر الفتنة لتستعر نارها أكثر فأكثر حتى تأتي على كل شيء.
لا شك أن ما نجده اليوم من نتائج قائمة وحاضرة على الأرض من تشرذم وتشتت وتصادم ومناوشات تصل لإعلان الحروب وسفك الدماء بين أخوة المنهج ماهي في حقيقتها إلا انعكاس لفقدان الفهم الصحيح لآلية التطبيق.
ذلك الفهم الذي ينظر لتطبيق أحكام الإسلام ككل لا يتجزأ ويرى فيها منظومة حياة كاملة، فلا يجتزئ منها ما يريد ويترك مالا يهوى، فيرى بذلك العدل والمساواة والفضيلة وتحريم الاحتكار والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي و... كما يرى إقامة الحدود من قطع يد السارق ورجم الزاني و…
إذاً فلا بد من بناء التصور الصحيح عن آلية التطبيق وفهم الواقع المراد تقويمه فهماً دقيقاً، فكم من ساعٍ لتطبيق شرع الله بفهمٍ معوجٍ لم يكن في حقيقته إلا محارباً لهذا الشرع، وعاكساً الصورة المشوهة عن أحد نماذج مدعي تطبيق الشريعة.
يكثر هذه الأيام وبعد مرور كل هذه السنوات على الأزمة السورية، الاستخدام المكثف لمفردتي «التسوية» و»الإنهاء» دون كلمة الحل. في اعتقادي أن الأمر هنا ليس من قبيل العبث أو المصادفة أو تنويع المترادفات، فهناك فارق كبير بين الحل الذي يرد الكرامة والحقوق ويأخذ على يد الظالم والمعتدي، ومجرد إنهاء الأزمة، حيث أن هذه «النهاية» قد تأتي عبر قضاء أحد الأطراف، الأقوى غالباً، على الآخر وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يكون حلاً.
كذلك هو الحال فيما يتعلق بالتسوية، فهي مفردة تعبر عن ضيق ما يسمى بالمجتمع الدولي بمشكلة إقليمية معينة، وتعكس رغبته في إنهائها، خاصة إنهاء الجانب المزعج منها، كمسألة اللاجئين وانتشار الفوضى والهشاشة السياسية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مصالح ذلك المجتمع الدولي.
الوصول إلى تسوية مقنعة هو أمر مهم بالنسبة لدول الإقليم، كما هو مهم بالنسبة للدول الكبرى، التي تحب أن تظهر أمام نفسها وشعبها، على الأقل، بمظهر المهتم بالأزمات الإنسانية والقلق على مستقبل الشعوب.
كل ما سبق ينطبق بشكل تام على الأزمة السورية التي يمكن أن تعد، خاصة في جانبها الإنساني، من أكبر المآسي التي مرت على البشرية بعد الحروب العالمية الكبيرة، وهو ما فرض على أطراف دولية كثيرة التدخل من أجل لعب دور في إنهاء ما بدا وكأنه صداع حاد لا يستطيع أحد تجاهله. للحل الشامل والحقيقي خطوات معروفة، أهمها تقديم المسؤولين عن هذه المعاناة إلى محاكمة عادلة، والعمل على إغلاق الثغرات التي قد تساعدهم على الفرار بجرائمهم. مثل هذا الحل، ولسبب أو لآخر، صعب أو غير مرغوب فيه، ولذلك فقد اكتفت القوى الإقليمية بالحديث عن التسوية وإنهاء الأزمة بأي ثمن، ولو كان عبر إجراءات للقضاء على ما تبقى من الشعب الثائر، أو الذي قد يثور مستقبلاً.
إذا كان هذا يمثل حال معظم اللاعبين الإقليميين، فلماذا التركيز على الرؤية الروسية دون غيرها؟ في الواقع فإن السبب يعود لأهمية الدور الروسي الذي أصبح رئيساً، فيما يتعلق بحاضر ومستقبل الدولة السورية، بعد تراجع الأطراف الأخرى، خاصة التي تملك رؤى بديلة ومناقضة لوجهة نظر موسكو وطريقتها في إدارة الأمور. هنا يجب الاعتراف بأن الرؤية الروسية، ظلت إلى حد كبير متسقة مع نفسها وثابتة، مقارنة بالتحركات المنافسة التي كانت على شكل خطوات مرتبكة ومتراوحة بين الأمام والخلف. على سبيل المثال فإننا نذكر كيف كانت الولايات المتحدة جادة في عزمها مساعدة الثوار وتنحية بشار الأسد خلال العام الأول للأحداث، بل إن الأنباء نقلت أن عام 2012 قد شهد مقترحاً من مجلس الأمن القومي الأمريكي بتسليح المعارضة، وآخر من المخابرات الأمريكية متعلقاً بوضع تصور لكيفية تنحية الأسد. إلا أن هذا العزم سرعان ما تبدل بعد وضوح سيطرة «الإسلاميين» على المشهد، وهناك قال السيناتور ريتشارد بلاك، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرجينيا، مقولة شهيرة، مفادها أن سوريا هي مركز الثقل الذي إن سقط بيد الإسلاميين فإن ذلك سيعني سقوط أوروبا الحتمي، ونهاية الحضارة الغربية على يد المسلمين.
لم تكن خشية بلاك والتيار المتطرف الذي يمثله، تنبع من قلقه بشأن انتشار الإرهاب والفوضى، بقدر ما كانت تنبع من الكابوس الذي تمثله الرايات الإسلامية، والدعوات لإحياء المجد التاريخي، واستعادة الدور الحضاري للإسلام، عبر الانتقال من دول الخضوع لنظام عالمي ظالم، إلى دول تبحث عن مصالح شعوبها وتطلعاتها، التي من أهمها حق الغالبية في حكم نفسها وممارسة دينها وعقيدتها.
أما تنظيم «الدولة» الفوضوي فقد قدم خدمة كبيرة لتيار الخوف من الإسلام ذاك، ففي حين كان ذلك الاتجاه يبحث عن وسيلة لتشويه الدين الإسلامي والتشكيك في دوره الحضاري واتهام ممثليه، فإذا به يفاجأ بجماعة تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية» وتمعن في احتراف القتل وأعمال الترويع مما شكّل هدية مجانية، خاصة أن أولئك الأدعياء استخدموا الكثير من المال والدعاية لإظهار أنفسهم كممثل شرعي ووحيد لحقيقة الإسلام. هكذا لم يعد مطلوباً من «الاسلاموفوبيين» نشر الأكاذيب أو محاولات التشويه الكاذبة أو المفضوحة، فما عليهم سوى الترويج لما ينشره ويكتبه ممثلو «الدولة الإسلامية» الذين لم يسلم من شرهم حتى أبناء جلدتهم من المسلمين.
تم توظيف هذا التنظيم بشكل جيد، وسواء كان أفراده من الواعين بذلك أو المخدوعين، فإنهم إنما كانوا تروساً في ماكينة كبرى، كان من أهدافها الوصول إلى هذه الحالة الرمادية، التي أصبح أقصى طموحها تسوية المسألة السورية عبر تبديل الأولويات وإظهار دحر الإرهاب كهدف رئيس.
أما ما ميّز الرؤية الروسية فهو تجاهلها لكل هذه التعقيدات، وثباتها على منطق واحد يتم تكراره بشكل أو بآخر على مدى السنوات الماضية، وهو المبني أولاً على أن الأحداث في سوريا ليست ثورة، وإنما محاولة غربية امبريالية من أجل تغيير نظام صديق لروسيا لمجرد أنه لا يعجبهم. هذا يعني أن القائمين على هذه «الأحداث» هم مجرد عملاء، أو على تقدير آخر مجرد مخربين ومغرر بهم.
من هنا يأتي ربط موسكو محاولات التدخل الغربية في الشأن السوري بتدخلاته سيئة الصيت في العراق وليبيا، التي أفضت إلى حالة مركبة من الفوضى. يأتي هذا مع التحذير، خاصة في إطار العالم الثالث، من مغبة تمرير النوايا الأمريكية في تغيير الأنظمة التي لا تروقها. هذا المنطق خلق انقساماً لدى المتعاطفين مع المسألة السورية، فهم من ناحية يريدون إنهاء معاناة الشعب الأعزل، الذي يرونه يعاني القتل والحصار والتجويع، ومن ناحية أخرى لا يريدون دعم خيار التدخل والإطاحة بالنظام، حتى لا يتم تثبيت ذلك كسابقة قانونية قد ترتد على دولهم لاحقاً.
ثانياً، يشدد المنطق الروسي على إثبات شرعية النظام السوري، واعتباره ممثلاً لسوريا، وبهذا فإن كل من خرج على الدولة هو مجرم أو إرهابي يستحق العقاب وكذلك فإن كل الأطراف التي تدعم المعارضة المسلحة هي أطراف داعمة بشكل أو بآخر للإرهاب. وأخيراً، يرى الروس في تبسيط، هم أعلم من غيرهم بعبثيته، أنه إذا كانت المسألة مسألة حرية وديمقراطية فإنه يجب العودة إلى طاولة المفاوضات، ثم الدعوة لانتخابات حرة ونزيهة واحترام نتائجها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة المقبولة لتغيير النظام.
بين ذلك كله كانت المسألة بالنسبة للروس هي مسألة تحدٍ وإثبات وجود خاصة في الفترة الأولى، التي بدا الغربيون فيها، خاصة الأمريكيين، داعمين للثورة فقد أرادت موسكو إثبات أنها ليست من دول الهامش وأن بإمكانها أن تغيّر مسار الخطط الغربية. هذا طبعاً قبل أن يتغير ذلك المسار بشكل تلقائي، وتصبح الولايات المتحدة غير جادة أساساً في حسم المسألة السورية بشكل عادل.
تعيش روسيا اليوم نشوة الانتصار، بعد أن استطاعت فرض رؤيتها للتسوية في سوريا، لكنه في الواقع انتصار زائف، فالولايات المتحدة لم تتراجع عن محاولات إسقاط النظام السوري، بسبب صموده وبسالته، أو بسبب الخوف من ردود الأفعال الروسية، كما يروّج إعلام «المقاومة» الذي يدعي الانتصار على الامبريالية والصهيونية، ولكنها تراجعت بسبب إعادة تفكيرها في مصالحها وعلاقاتها في تلك المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، خاصة بعد أن اتضح للعيان أن الكيان الصهيوني ليس قلقاً من استمرار النظام الأسدي كجار، بقدر خشيته من مستقبل مجهول على يد قادة جدد قد لا يصبرون على احتلال أراضيهم وعلى مجاورة مغتصبها.
ذات مرّة كتب الشاعر اللبنانيّ الراحل محمّد العبدالله: «ونظرت من الشبّاك فإذا هي حرب أهليّة». فهل سننظر من الشبّاك هذه المرّة لنجد «عشرات، بل مئات الآلاف من المجاهدين» اليمنيّين والعراقيّين والإيرانيّين والأفغان والباكستانيّين يتدفّقون على لبنان، وفقاً لخطاب حسن نصر الله، الأمين العامّ لـ «حزب الله» في «يوم القدس»؟
هذه الفقرة في الخطاب قد تكون تهويلاً محضاً من النوع المعتاد، وقد تكون مسايرة للوجهة التي افتتحها «حزب الله» في سوريّة، حيث حضرت جيوش وميليشيات لا تُعدّ لقهر الشعب السوريّ، وقد تكون رفعاً لمعنويّات ليست في أحسن أحوالها.
لكنْ تبقى مسألتان يثيرهما خطاب الأمين العامّ، بل يثيرهما كلّ خطاب يلقيه علينا: ما موقف الدولة اللبنانيّة، وحكومتها التي يشارك فيها الحزب، من كلام كهذا؟ ثمّ إذا كان مئات الآلاف من هؤلاء سيأتون لإنجادنا، فإلى من تعود هذه الـ «نا»؟ هل تشعر أكثريّة اللبنانيّين بأنّها عشيّة حرب تستدعي استقبال «مجاهدين» بمئات الآلاف، أم أنّ هذه الأكثريّة ستتساءل، وهي تسمع خطاب الأمين العامّ: خير إن شاء الله؟
أكثريّة اللبنانيّين الكبرى مهتمّة اليوم بإنجاح مواسم السياحة والاصطياف. يوم الأحد الماضي أقيم مهرجان لإحياء شارع الحمرا في بيروت (ولو أنّ عنوانه كان سمجاً ولا يمتّ بصلة إلى كوزموبوليتيّة الحمرا التي يراد إحياؤها: «لبنانيّ قحّ»). شوارع أخرى في العاصمة وبلدات ومدن في لبنان سبق أن أحيت مهرجانات مماثلة. اللبنانيّون، عن خطأ أو عن صواب، يريدون استقبال آلاف السيّاح والمصطافين، «بل مئات آلافهم» إن أمكن ذلك. الأمين العامّ يريد لهم أن يستقبلوا مئات آلاف «المجاهدين».
مرّة أخرى يتّضح أنّ حروب «حزب الله» هي، بالضرورة والتعريف، من نوع تآمريّ: تُفرض على المجتمع من وراء ظهره وضدّاً على إرادته. إنّها حروب الوظيفة الإقليميّة غير المعنيّة بهذا البلد لا من قريب ولا من بعيد. لهذا تبدو تلك الحروب شبيهة بأفلام الكوارث والرعب: زلزال أو طوفان غير متوقّعين بتاتاً يضربان الحياة اليوميّة والعاديّة للسكّان.
فوق ذلك فإنّ تلك الحروب ذات طابع ملحميّ، إن لم يكن في الواقع الفعليّ، ففي الصورة المخيفة التي تُرسم لها: تخيّلوا مئات آلاف «المجاهدين» وهم يتدفّقون على البلد «للدفاع عنه»!
إنّ الحروب التآمريّة مضطرّة، كي تُكسب نفسها بعض الواقعيّة وبعض التبرير، إن لم يكن بعض الشعبيّة أيضاً، إلى استعارة هذه المبالغات الملحميّة. ضعف التمثيل، في أمر يعادل الحياة والموت، يستدعي نفخ كلّ شيء آخر: نفخ الخطر. نفخ العداوة. نفخ الأعداد التي ستقاتل. نفخ معنى الانتصار...
لكنْ إذا كانت مأساة «حزب الله» أنّ عليه تغيير المجتمع نفسه من أجل أن يضفي الشرعيّة على حروبه، فإنّ مأساة هذا المجتمع هي أنّه، في آخر المطاف وفي ما هو أساسي، محكوم بـ «حزب الله»!