كان ضمن الإجراءات التي اتخذها الرئيس دونالد ترمب عند بداية توليه مهام منصبه رئيسا للولايات المتحدة، رفع القيود التي وضعها سلفه الرئيس باراك أوباما على إعداد وتنفيذ وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الاستراتيجيات الخاصة بالعراق وسوريا في إطار الحرب على الإرهاب. جاء الترحيب برفع القيود جزئيا لأن وزير الدفاع الأميركي الجديد جيمس ماتيس يملك معرفة عميقة بحقيقة الأوضاع في العراق وبالوضع الجيوسياسي للمنطقة بصفة عامة. ومنذ رفع القيود، تمكن الجيش الأميركي، وبتحفيز من الجنرال ماتيس، من مساعدة الجيش العراقي الوطني على تعزيز حملة إزاحة تنظيم داعش عن الموصل. ربما تستغرق هذه الحملة عدة أسابيع مقبلة لتحقق الانتصار، وإن كانت قد نجحت بالفعل في أن تنفي زعم أن «داعش» كيان محصن ولا يهزم. ودائما ما ينظر «داعش» إلى مدينة الرقة السورية التي سيطر عليها لسنوات، على أنها الملاذ الآمن الذي يمكن التقهقر إليه في حال تراجع عن الموصل العراقية في مواجهة أعدائه الكثيرين في المنطقة.
ربما هذا هو السبب في أن الجيش الأميركي قرر تقديم الموعد الذي حدده لبداية عملية تحرير الرقة من تنظيم داعش.
وفي هذا السياق، يجب أن ننظر إلى عمليات الأسبوع الماضي التي جرت شرق الرقة والتي خاضتها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، بوصفها وابلا من قذائف الحملة الأخيرة لطرد «داعش» من المعقل الذي اتخذه عاصمة لـ«دولة خلافته». وتهدف تلك العمليات الاستكشافية إلى تحقيق هدفين: الأول، تمهيد الطريق لهجوم كاسح على مدينة الرقة ربما بحلول شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. الثاني هو إجبار «الخليفة» على استدعاء أفضل وحداته القتالية التي تقاتل في الموصل لكي تدافع عن عاصمته، وهو تطور من شأنه التسريع بنهاية المعركة في ثالثة كبرى المدن العراقية من حيث عدد السكان.
عسكريا، تبدو الأمور على ما يرام في الرقة والموصل، فتنظيم داعش لم يعد قادرا على اجتذاب المتطرفين بالوتيرة نفسها التي كنا نراها العام الماضي، بالإضافة إلى أنه فقد كثيرا من مصادر الدخل، خصوصا منذ أن قررت تركيا عدم غض الطرف عن السوق السوداء الخاصة بتجارة النفط والسلاح التي يديرها «الخليفة». وفي هذا السياق، فإن أعداء «داعش»، خصوصا الموجودين على أرض المعركة، قد تعافوا من الصدمة النفسية الناتجة عن مواجهة خصم لا يعرف حدودا في وحشيته. وفي جميع أنحاء المنطقة واستنادا إلى حالة الإجماع التي تكونت، فتنظيم داعش ليس بمنظمة إرهابية بمعناها التقليدي، ولا هو ذلك الكيان الانتهازي القادر على كتابة تاريخ المنطقة على مدى ألفي عام مقبلة، بل هو عدو للجنس البشري، عدو يقف وحيدا متفردا بوحشية من طراز خاص. الأهم هو أن «داعش» فقد قدرا كبيرا من التأييد الشعبي الذي تمتع به في البداية بين الساخطين والمذعورين من السنّة العرب في المناطق السورية - العراقية التي كانت تعرف باسم «الجزيرة». بمعنى آخر، هناك أسباب موضوعية لتتمنى أن يقترب كابوس «داعش» من نهايته. ولذلك ورغم أن هذا قد يبدو سابقا لأوانه، فعلينا الآن أن نواجه السؤال الصعب المتعلق بمرحلة ما بعد «داعش» في سوريا والعراق، وهذا الأمر لا نستطيع أن نتركه للوزير ماتيس أو للجيش بصفة عامة... فالقتال كان دوما جزءا صغيرا وإن كان مصيريا في أي حرب، لكن ما من حرب يمكن الانتصار فيها باعتلاء القمة في العمليات العسكرية فقط. فالقول المأثور الذي قاله كلاوتزفيتر عن أن الحرب استكمال للسياسة، هو حقيقة واضحة اليوم كما كانت منذ فجر التاريخ عندما اكتشف الإنسان رعب الحرب، أو الذي ربما يسميه البعض «جمال الحرب». فمهمة السياسة هي ترجمة ما أسفرت عنه الحرب إلى حقيقة على الأرض، لكن الولايات المتحدة تجاهلت هذه الحقيقة في ظل حكم الرئيس جورج بوش الذي أصيب بدوار نتيجة الانتصار السريع والسهل الذي حققه على أرض المعركة أمام صدام حسين في العراق، وهو ما أدى إلى مرحلة الجهود السياسية لما بعد الحرب التي يحتاجها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
فكثير من المشكلات التي واجهها العراق في مرحلة ما بعد التحرير ربما يكون بسبب ذلك الخطأ الذي حدث في البداية. واليوم، فإن الانتصار في الحرب في الموصل والرقة لم يعد حلما بعيد المنال، فربما تصبح حقيقة أسرع مما نتخيل. لكن إن لم يكن هناك فهم صحيح لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في المستقبل في العراق وسوريا، رغم اختلاف الحال في الدولتين، فإن البلدين يشتركان في كثير من النقاط، ونخشى تكرار ما فعله الرئيس بوش عام 2003. وفي هذا السياق، فالدول الراغبة في المنطقة لاعتبارات أمنها القومي أو لطموحات، عليها الإجابة عن بعض الأسئلة: هل نريد الاحتفاظ بسوريا والعراق متماسكين كدولتين ذواتي شعوب بالحدود نفسها التي رسمت لهما عقب الحرب العالمية الأولى؟ كيف لنا أن نتماشى مع الشهية الكردية ورغبتها في الاستقلال، وهي الشهية التي أثارتها الولايات المتحدة مقابل تضحيات عظيمة يقدمها الأكراد في الحرب على «داعش»؟
وماذا عن طموح تركيا في عمل انهيارات جليدية داخل العراق وسوريا بزعم حماية نفسها من هجمات «الإرهاب» الكردي؟ دعونا لا ننس خطة روسيا الواضحة لضمان وجود عسكري دائم على سواحل سوريا على البحر المتوسط؟
ولكل هذه الأسباب، علينا أن نضيف تصميم إيران على حماية «ممرها» إلى لبنان والبحر المتوسط، وهو الهدف الذي أنفقت من أجله ملايين الدولارات وقدمت آلاف الضحايا.
الأهم هو نمط مشاركة السلطة الذي من الممكن أن يساعد الأغلبية السورية السنية على بناء دولة المستقبل، وفي الوقت نفسه تفسح فيه المجال للأقليات، ومنهم العلويون؟ وفي العراق، ما الترتيبات التي يمكنها أن تساعد الدولة التي يسطر عليها الشيعة على تعزيز الانتماء للسنة العرب وأيضا للأقليات الكردية؟
لن يستطيع الجنرال ماتيس ولا أي من الغرباء على المنطقة الإجابة عن هذه الأسئلة وحدهم رغم الدور الكبير الذي تلعبه الدول الكبرى. يجب أن تأتي الإجابة من القيادة السياسية بجميع مستوياتها، سواء في الحكومة أو المعارضة، في سوريا والعراق.
والآن، لا أرى ما يدل على أن قادة سوريا والعراق يتطلعون أو يملكون القدرة على الإجابة عن تلك الأسئلة.
مما لا شك فيه أن الشعب هو منبع كل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان ، و أن الشعب هو أساس كل تحرك يهدف الى تغيير نظام حكم اضطهده و سلب حقوقه و حاربه بلقمة عيشه ، و لا ريب أن الشعب هو المحرك و المولِّد لكل انتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب استبدادي تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير.
و من هنا من هذا الشعب تولد الثورات، تبدأ بحدثٍ صغير يكون تلك “القشة التي تقصم ظهر البعير” و لا يلبث أن يتحول الحدث الى شرارة يشتعل بها أتون الغضب و الحقد على من استبد و ظلم و تحكم ، و لا تلبث هذه النيران المتقدة بالقلوب و العقول ، المتولدة من جحيم المعاناة و التعب و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة .. يحوطها الشعب و يرعاها ..يؤيدها و يكلؤها بعين رعايته ، يأمن لها أسباب العيش و الاستمرار و يوفر لها الحضن الدافئ و الحامي ..
هي الثورة السورية كما كل الثورات على مر التاريخ ، ولدت من رحم الشعب، و خرجت من خاصرته بما رافق هذا الخروج من الم و مكابدة و صبر، لتنتفض ضد نظام استبد بوطن ما يزيد على خمسة عقود ، نظام استبد و قتل و أجرم و سرق و نهب، هي ثورة فطرية عفوية بدأت بكتابات أطفال على جدران مدارسهم لتستعر كما النار بالهشيم و تنتقل من جدران مدرسة لتغدو على مساحة كل شبر بأرض الوطن، ثورة بدأت سلمية و استمرت كذلك ما وسعها الأمر.
و بفطرتها السليمة كذلك و عفويتها بدأت بالتحول للعسكرة لتدافع عن نفسها ضد بطش لم يُشْهد له نظير بالتاريخ، حملت السلاح لتطبق معايير كل الديانات السماوية و الأعراف الإنسانية بحق رد الظلم و حفظ النفس، و بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور ، فظهر الجيش الحر الذي كان ابن ثورة الشعب البكر ، يحمل خصائصه و تفاصيله ، يحوي أطيافه و اثنياته ، و يرفع راية استقلاله عن المستعمر ، لا يتميز فيه ثائر عن ثائر الا بالخلق و الشجاعة و الاقدام و ما يحمله من فكر و حرية ، ليظهر بعده تشكيلات مختلفة و فصائل متعددة و رايات متباينة ، كل منها له هدف و يقوده منهج و يحركه فكر ، منها المعتدل و الإسلامي و المتطرف و المغالي بالتطرف.
تحولت الثورة للعسكرة، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الأهداف و الوجود و الموارد ، و لم تنسَ هذه الفصائل بطبيعة الحال أهم سبب من أسباب قوتها و اهم مصدر من مصادر شرعيتها ، و أقوى محرض على استمراريتها و هو الشعب .. تلك الحاضنة الاجتماعية الأساس و المركز ، فسعت التشكيلات و الفصائل إلى كسب ودها و استقطابها كل منهم على حساب الفصائل و التشكيلات الأخرى، و كما تعددت مشارب و أهداف هذه الفصائل فقد تعددت أساليبهم بجذب هذه الحاضنة الشعبية تجاههم ، فمنهم حاورها و اندمج بها و اعانها قدر استطاعته، و منهم من تكبر عليها و أهملها و منهم من حاول سوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب، و منهم من ظن انه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها ، و مارس أغلبهم البراغماتية المحضة بداية بالتزلف لنيل رضاها و التقرب منها، ثم اظهر وجهه القبيح بأهدافه المناطقية أو الشخصية او الأيدولوجية، فلفظته الحاضنة الشعبية التي عولت عليه و عول عليها .. لينتهي التشكيل او يضمحل او يتقوقع على نفسه برأس جبل او بطن وادي.
ولعل تغير سياسات بعض الفصائل التي ظنت نفسها وصية على لقمة الشعب والأرض التي خرجت عن سيطرت الأسد، جعلتها في مواجهة حتمية مع هذا الشعب المعذب، فكررت سيناريوهات التعدي على الفصائل بتهم تسوقها منها "الفساد والردة والتعامل" فجعلتها حجة للهيمنة والتسلط، وتقوية النفوذ، فمارست ما ليس في صالحها، إذ انها اقتحمت ارضاً محررة بالأرتال، وأطلقت النار على شعب رافض لعملها، واعتقلت كل من صرخ في وجها " لا "، فأنهت وجود الكثير من الفصائل، مدعومة بفتاوى شرعييها الذين أحلوا الدماء والعدوان، فتضاءلت شعبيتها، وظنت نفسها في قوة، إلا أنها تخط طريقها للسقوط، والالتحاق بركب من سبقها، ليبقى الشعب هو السلطة العليا وهو سيد الأرض.
فالثورة السورية ثورة مُمحِصةٌ كاشفة، و الحاضنة الشعبية تحوي بوعيها الجمعي حضارة عمرها آلاف السنين ، و الشعب الذي أطلق هذه الثورة “بمشيئة الله” قادر على أن يميز الخبيث من الطيب، و أن يفرق بين الغث و السمين، و لكنه شعب كَهلْ صقلته التجارب و السنون ، يعطي الفرصة لمن يطلبها ، و يتمهل بالحكم ليرى النتائج ، و لكنه لا يصبر على ضيم ، و لن يستبدل مستبد بمستبد .. فليعي من يتطلع ليلي أمره بالسلاح او بالسياسة .. ان يحقق طموحات هذا الشعب و ان يلامس ألمه و ان يثبت عزمه على تحقيق أمله .. فبهذا يستمر و بهذا يحوز رضاه و بهذا يمتلك قلوب و عقول “الحاضنة الشعبية”
“ألقينا القبض على "محمد خشان - مهند الشحنة" واللذين قاما بقتل "أحمد حسني الترك" وستتم إحالتهم للقضاء، وبذلك نعلن عن توقف عملية ملاحقة الخلايا المفسدة داخل معرة النعمان جنوبي إدلب ……” ، بهذه الجملة أنهت هيئة تحرير الشام ، يومها الدامي في معرة النعمان ، بعد أن سطت على كامل المدينة ، بما فيها من مقرات للفرقة ١٣ ،التي كانت الهدف الحقيقي ، ولكن “فورة دم” القيادي عجلت بالأمر.
من الجيد أن يكون لك ولد ، يتمتع بمكانة عالية في هيئة كـ”هيئة تحرير الشام” ، لتثور ثائرته و يسوق الجحافل باتجاه من قتله ، ويأخذ بالثأر من مدينة بأكملها، لمجرد وجود متهم فيها ، وحتى ولو لم يثبت الدليل ، فأنت قيادي و من النوع الأمني ، في فصيل جهادي يحمل سطوة دينية ، ونصرة “إلهية” لا مرد له إلا مشايخه الموافقين على كل شيء عدا أن يظهروك بأنك مخطئ.
هذا الولد الوفي لأبيه ، رغم خلافه الدائم حول عمل والده في تجارة " ما يضر بالبشر "، نجح في إيجاد وسادة مريحة لينام هانئاً رغيداً ، بعد أن احتل مدينة بأكملها و أرعب أهلها ، و قتل من كانوا من المدافعين عنها ، وأصاب من المدنيين من أصاب ، وأرعب من الأطفال من أرعب ، فلا أهمية لتلك الترهات ، فالولد بحاجة لبر أبيه ، في مرحلة ما بعد الموت.
فورة الغضب استمرت لبضع ساعات ، مع أرتال من السلاح (كان يقال أنه نذير و قليل) ، فالقائم هو مسؤول رفيع المستوى ، يجلس في أعلى هرم الاستبداد الجديد الذي يبنى على ركام استبداد الأسد، و ينشئ ذات الخلايا بمسميات رنانة ترعب و ترهب العباد بسيف “الظالم” ، فهم الممثلون للعدل و القائمين عليه ، وإن شاب عملهم خطأ ، فهنا للاجتهاد نصيب و يكتفي بـ”حسنة” واحدة بدلاً عن الحسنيين.
الفرقة ١٣ التي تعرضت لثالث الضربات من جبهة النصرة فـ”فتح الشام” و حاليا “هيئة تحرير الشام” ، ، يبدو أنها دخلت قائمة الفصائل التي عملت “النصرة” على إنهائها تماماً و السطو على سلاحها و استباحة أبطالها في سجونها أو جعلهم من المطرودين من الرحمة و فضلوا البقاء في بلدتهم.
لا حديث عن انهاء فصيل الآن ، و لكن الأهم هو سؤال ، لطالما العدل و المساواة في ديننا الحنيف هي الأساس ، فللطفل الذي قتل والده على يد “الثائرين” أمس ، حق في الثأر ، فلا تميز بين أمير و عبد ، أم هي حبر في كتب و كلام جاهلي لا يفقهه إلا المرتدين في مواجهة الغر الميامين.
أثمان باهظة، فاقت أي توقع أو تصور، دفعها ولا يزال يدفعها السوري، ونفق مظلم ومرعب دخل فيه الوضع في بلاده منذ سنوات، ولا ضوء يلوح في الأفق يضع حدا للمأساة المروعة، التي لم تزل تزداد فصولها وتتعاظم آثارها.
رغم ذلك ورغم ما يشاع على نطاق واسع من انتفاء السمة الثورية عن الحدث السوري، إلا أن هذا الأخير، المعلن مع ولادة التظاهرات السلمية التي خرج بها السوريون في مارس 2011 إنما يلبي من وجهة نظر هذه السطور كل المعايير النظرية الفلسفية والتاريخية، لاعتباره ثورة وفقا لكل قياس، بل ثورة عظيمة حوت انتصارها وتحققها الجوهري في لحظة اشتعالها الأولى.
لماذا؟
لأن الحدث السوري أصاب بآثاره وهزاته العنيفة كل المنطقة وربما العالم، ووضعهما أمام أسئلة صعبة، وتحديات ورهانات عديدة وجديدة، وقبل ذلك لأنه كان جذريا وكاشفا، عميقا وشاملا، أظهر وجه الاستبداد المركب الذي يخترق الوجود السوري، كشف جذوره الثقافية/المعرفية، وبنيته القروسطية المروعة، صرح عن المكبوت والمسكوت عنه في البنية السوسيولوجية السورية، وعرّى كل ما يجري فرضه قسرا، من مقولات الخطاب الرسمي للنظام السوري، عن المجتمع المتماهي المنسجم والمتفق على دور ورسالة وهوية عربية لذاته ولبلاده، النابذ لكل وعي طائفي أو مذهبي.
لقد غير هذا الحدث الهائل بآثاره وتداعياته، الشخصية السورية بشكل غير قابل للرجعة، وغير معها الحقل الاجتماعي السياسي الذي تتفاعل فيه بشكل عنيف وغير مسبوق. وإذ لم يسقط الأسد سقوطا ماديا بعد، وحيث ألحق ولم يزل بسوريا ومجتمعها، أذى يصل حد الخرافة، إلا أن القول بأن الأسدية وتاريخها قد انتهيا إلى الأبد في سوريا، يبدو أمرا مشروعا وله ما يبرره، فالأسدية بوصفها نظاما لإنتاج الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، يتم بدلالتها وحدها، قد تعطلت تماما. لقد دخلت فواعل عديدة في عملية الإنتاج تلك، فواعل ليست منافسة للأسدية وخصائصها فقط وإنما معادية تماما، فبالإضافة إلى القوى القائمة على تجربة مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي يشكل الكرد والعرب وبقية المكونات السورية نموذجا مجتمعيا جديدا واعدا، في علاقاته البينية، في قيمه ورهاناته، هذي التجربة التي فككت مؤسسات الاسدية التشريعية والتنفيذية والقضائية في مناطقها، وأرست الدعائم لمنظومة قانونية وتعليمية، ذات سقف أيديولوجي، متناقض جذريا مع ما شيدته سلطات الأسد في عموم البلاد خلال العقود الماضية، وبالإضافة إلى الآثار السياسية والاجتماعية والمعرفية التي طالت حقل القيمة والوعي الاجتماعي السياسي السوري، بعد سيطرة الفصائل الإسلامية المتشددة على مساحات شاسعة من سوريا، حازت المواقع المعارضة للنظام نفوذا مهما في إنتاج وعي سياسي وإرساء ثقافة معادية للأسدية، صارت لها سطوتها وحضورها بين ملايين اللاجئين والنازحين السوريين، الذين عاشوا قهرا استثنائيا وخبروا كافة أشكال العذابات التي مارسها النظام ضدهم، أثناء الحرب الشاملة التي شنها بشار الأسد على السوريين طوال الأعوام الست الماضية.
ليس ذلك فقط، بل إن الاسدية التي كانت فاعلة في محيطها الإقليمي، تتصارع على النفوذ والهيمنة خارج حدودها، كما في حالة لبنان، أصبحت الآن هشة وهامشية إلى حد بعيد، بل مخترقة حتى العمق من الخارج، تتسابق على تركتها وسلطتها ومناطق نفوذها مجالات إقليمية ودولية، حتى أنها فقدت هيبتها داخل مساحات نفوذها الاجتماعي بالذات، وبدأت تظهر إلى العلن مليشيات غير منضبطة تعمل لمصالحها الأضيق، كانت حتى وقت قريب محسوبة على بيئة النظام الحاضنة وتابعة له. والأسدية التي لم يخيل لأحد قبل مارس 2011 أن تتحدد بأفق زمني منظور ينهيها وينهي هيمنتها الشاملة على كل أشكال الحياة في سوريا، أمست الآن، تكافح جاهدة كي تكون مشاركة في مستقبل بلادها بشكل ما، فهذا أفضل سيناريو ترجوه وتعمل من اجل تحقيقه. وبعد أن كان مصير البلاد والأسدية فقط بيديها. تغير ذلك تماما الآن، فلا مصير البلاد ولا مصيرها هي ذاتها بيديها.
في المحصلة ألا يعني، فقدان الاسدية لأبرز خصائصها، فقدانها لهيبتها وتغولها وشموليتها المهيمنة على سوريا، وعلى أنظمة إنتاج الوعي وأشكال الدمج الهوياتي والمجتمعي فيها، ثم تلاشي نفوذ سياساتها خارج حدود سوريا، وفقدانها دورها المحوري بتحولها من موقع الفاعل في الصراع على الشرق الوسط إلى موقع هامشي عنوانه التصارع على تركتها وعلى سوريا، مرتهنة لفواعل خارجية تتحكم بمصيرها المادي الذي بات محددا بنهاية لم تعد بعيدة، ألا يعني ذلك كله أنها انتهت؟
تدرك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن عملية تفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة تحتاج لما هو أكثر من التكتيكات العادية التي جرى العمل بها خلال السنوات الماضية، من قبل الحلفاء، والتي اتخذت في الغالب طابعاً دفاعياً في مواجهة الهجوم الإيراني الشامل على كل المحاور.
ولا يمكن حصر محاربة النفوذ الإيراني عبر إغلاق طريق أو طرق إمداد لوجستية برية بين سورية والعراق، على رغم أهمية مثل هذا الأمر، ذلك أن إيران صنعت على مدار السنوات الست السابقة بنية عسكرية وأمنية متكاملة، واختبرت طرقاً وأساليب كثيرة للتعامل مع التطورات الطارئة، بما فيها إيجاد بدائل لنقل الأسلحة من إيران عبر إنشاء مصانع في أجزاء من الأراضي السورية للصواريخ الإيرانية، في حماة والقلمون، كما أنها أغرقت الساحة السورية بميليشيات أجنبية وميليشيات صنعتها محلياً لدرجة لم تعد معها بحاجة إلى تغذية قواتها بمزيد من العناصر في المدى القريب، مع إدراكها أن طريق بغداد- دمشق لن يبقى مغلقاً إلى آجال بعيدة.
التقدير أن هذه المعطيات لم تفت صناع الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران، وبخاصة أن جميعهم تعاطى عن كثب مع الذهنية الإيرانية وأساليب عملها من خلال التجربة العراقية، بالإضافة إلى وجود متغير مهم يتمثل بالعامل الروسي الذي يندمج مع الوجود الإيراني بحكم التنسيق المشترك والضرورة العملانية، وهو ما يستدعي التفكير بطريقة محتلفة وإستراتيجية عملية لتفكيك النفوذ الإيراني وتعطيل مفاعيله في سورية.
وعلى رغم عدم إعلان الإدارة الأميركية عن إستراتيجيتها في هذا الخصوص، إلا أن ملامح هذه الإستراتيجية تكشف احتواءها مكونين أساسيين: الخطوات الصغيرة، وفصل إيران عن روسيا.
وحتى اللحظة، نفذت أميركا العديد من الخطوات الصغيرة، منها قطع الطرق بين العراق وإيران، وضرب ميليشيات إيرانية في البادية السورية، وكان قد سبقهما ضرب إسرائيل مطار دمشق الدولي بصفته خط إمداد لوجستي إضافي، والواضح أن هذه الضربات والإجراءات، بالإضافة إلى مفعولها العسكري، فهي تهدف إلى إدراج الحضور الأميركي في الفضاء السوري، إذ يصبح أحد معطيات المشهد، ومن جهة أخرى يتيح لأميركا استكمال البنية اللازمة لإنفاذ إستراتيجيتها، سواء من خلال بناء المراكز والقواعد، أو تجهيز القوات المحلية الرديفة التي ستلقى على عاتقها مهمات السيطرة على الأرض.
بالإضافة إلى ذلك، تشكّل الخطوات الصغيرة إجراءً واقعياً للطرف الأميركي الغائب سنوات طويلة عن الميدان السوري، وفي الوقت ذاته لا يزال في طور اختبار الأرض والحلفاء المحليين والإقليميين وتفحّص الإمكانات في مواجهة أطراف رسخت وجودها عبر فترة زمنية مديدة.
أما بالنسبة إلى عملية فصل إيران عن روسيا، فالواضح أن الإدارة الأميركية صنعت سياقاً متكاملاً في هذا الاتجاه، من خلال نزع مبررات الوجود الإيراني في سورية عن قضية محاربة الإرهاب، وبخاصة بعد أن تم وضع إيران في الميزان ذاته الذي يتم فيه قياس «داعش» و «النصرة» وحساب نتائج وتداعيات أفعالهما على أمن المنطقة واستقرارها.
والمفارقة أن روسيا، ومن دون قصد، أفسحت المجال للإدارة الأميركية للعبور إلى نقطة المطالبة بإخراج إيران من الساحة السورية، بعد الهدنة التي توصّلت إليها بين قوات الأسد وفصائل المعارضة، ثم اتفاق المناطق الآمنة، وهو ما جعل الوجود الإيراني محل تساؤل وبخاصة أن إيران وميليشياتها لم يسبق لها قتال «داعش» الذي من المفترض، ووفق اتفاقات الهدنة في سورية، أن تتكفل قوات الأسد والمعارضة بقتاله.
أما روسيا فاستنفدت كل مبررات دفاعها عن الوجود الإيراني، وبخاصة أنه يعتمد بدرجة كبيرة على مكونات ميليشياوية يصعب تبرير انخراطها في الحرب السورية في ظل توجّه دولي يدعو إلى استعادة سيادة الدول في الإقليم، بمواجهة الفاعلين الآخرين من ميليشيات وفصائل، بل يعتبر هذه المكونات أحد أهم أسباب استمرار الأزمة، والمنطق ذاته ينطبق على فصائل المعارضة السورية التي سيكون مطلوباً منها التوحّد في إطار هيكلية جديدة لتهيئتها للاندماج ضمن هيكلية أوسع في إطار الحل السياسي المنشود.
لا شك في أن روسيا تواجه تطورات غير محسوبة في سورية، فهي لا تستطيع ولا تريد التخلي عن إيران، لأن ذلك سيرفع أكلاف وجودها في سورية، وهو ما لا تحتمله، على الأقل قبل أن يتم القضاء على كل ممكنات الثورة السورية وإخضاعها وإعادة بناء البنية الأمنية والعسكرية للنظام، وهذا يحتاج لسنوات.
بيد أن أميركا بنت قضية متكاملة لإخراج إيران وعزلها عن سورية وعن المنطقة، وتشتمل عناصر هذه القضية على أمن الحلفاء في الأردن وإسرائيل والخليج، ومستلزمات التوصل إلى حل في سورية، والقضاء على «داعش»، وتقليم أظافر الميليشيات الشيعية، وإنجاز هذه الأهداف لتحقيق حل واقعي لأزمة المنطقة بات يستلزم حكماً إخراج إيران وتوابعها من المنطقة.
يستدعي نجاح الخطة الأميركية توفر عاملين مهمين: الجدية والاستمرارية، ذلك أن روسيا ستحاول قدر استطاعتها إفشال المخطط الأميركي ما لم تظهر إدارة ترامب أنها جادة في قرارها إخراج إيران من اللعبة، كما أن إيران ستراهن على نزق أميركا وتعبها، وهنا يأتي دور حلفاء أميركا في المنطقة الذين عليهم الانخراط ضمن الجهود الأميركية وانتهاز فرصة التخلص من التهديد الإيراني.
في ذكرى مرور خمسين عاماً على «نكسة» العام 1967، ما زال هناك العديد من الأسئلة حول سلسلة «الأخطاء» التي ارتكبها وزير الدفاع السوري حافظ الأسد، خلال حرب الأيام الستة التي انتهت بهزيمة عربية شاملة وخسارة الجولان وسيناء وما تبقى من فلسطين. ويعتقد كثيرون أن تصرفاته لم تكن «عفوية» تسببت بها المباغتة الإسرائيلية، بل حصلت بناء لنوايا مبيتة وقرارات واعية، وكان الهدف منها إعلان فشل النظام العربي «السنّي» في مواجهة إسرائيل، والتمهيد لقيام نظام طائفي جديد في سورية مثلته «الحركة التصحيحية» التي قادها بعد ثلاث سنوات.
ويستند هذا الاتهام ليس فقط الى تبيان ما فعله الأسد خلال الحرب، بل خصوصاً الى السياسة التي تبناها خلال حكمه على مدى ثلاثين عاماً، ثم تواصلت مع وريثه بشار، وقامت على تسيّد طائفة بعينها في سورية وإمساكها بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي، وإقامة ما يشبه «تحالف الأقليات» في مواجهة الغالبية السنية، ومهادنة إسرائيل، ليخلصوا الى أن سلوكه خلال حرب الأيام الستة كان وليد سياسة متعمدة ذات خلفية طائفية عميقة تصرف في هديها.
وقد يرى آخرون في تقاعس حافظ الأسد عن مواجهة الجيش الأردني في 1970، دليلاً مضاداً لادعاء مناوءته للنظام السني العربي، لكن يبدو أن الديكتاتور الراحل رأى في منظمة التحرير الفلسطينية والتأييد الشعبي العربي المتصاعد لها، «خطراً أكبر» على مشروعه، وخشي من أن يؤدي نجاحها في الأردن الى تمددها نحو سورية المهيأة أكثر لاحتضانها. علماً أن تصرفه إزاء المنظمة لم يلغ عداوته لنظام الملك حسين الذي كان بين أوائل من استشرفوا خططه.
اقتنص الأسد بسرعة فرصة عرض السادات عليه فكرة حرب تشرين 1973، على رغم معرفته بأن الجيش السوري الذي أجرى تغييرات واسعة في أركانه بعد انقلابه، ليس مهيأً لخوضها. وعلى أي حال لم تكن نتيجة الحرب هي الأكثر أهمية بالنسبة اليه، بل الأهم أن يكون شارك في حرب بقيادته مع إسرائيل، بما يضمن له صفة «الزعيم الوطني»، ويساعده في إكمال الإجهاز على أي معارضة داخلية، والتفرغ لمهمة إخضاع سورية بالكامل، ولاحقاً لبنان، وابتزاز الدول العربية البعيدة من خط المواجهة.
لا أحد عرف آنذاك كيف نجا بأفعاله، ولماذا كوفئ وزير دفاع مهزوم بدل مساءلته وإقصائه، لكن السر يكمن على ما يبدو في قرار اتخذته «غرفة سوداء» ما، بتشجيع السوريين العلويين على الانضمام بكثافة الى حزب «البعث» والجيش منذ بداية ستينات القرن الماضي، ما ضمن له تأييداً في صفوفهما، أوصله لاحقاً الى السلطة.
وبالطبع، لم يشذ الأسد الابن عن نهج والده وتعليماته في الحفاظ على النظام العلوي بكل ما أوتي من وسائل، فأمعن في عدائه للغالبية العربية، وسارع الى الارتماء في حضن إيران، وانتقم من رموز الطائفة السنية في لبنان الذي سلمه الى «حزب الله»، قبل أن يباشر أطول وأشرس حرب إلغاء للشعب السوري، استعان خلالها على مواطنيه، ولا يزال، بميليشيات من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، واستقدم الجيش الروسي، وأغرى تركيا بالتدخل، وشجع بعنفه اللامحدود على ظهور التطرف وانتشاره.
حافظ الأسد شارك في صنع هزيمة سورية في 1967، قبل أن يحولها ذريعة لإرساء نظام قائم على القهر والاستبداد والتمدد، ونجله بشار تسلم «الأمانة» وتفانى في تنفيذها.
كل الضجة تقوم على محاربة "التطرّف" و"الأصولية"، والنظم هي التي تُعلي من هذا الشعار، حيث تجد أنها التي تواجه "التطرّف"، وهي تقيم حربها على الإرهاب، انطلاقاً من أنه يمثّل تطرّفاً في الدين وأصولية "مقيتة"، وأنه خطر على المجتمع، وهو "الآفة" التي تنتشر مخلِّفة الإرهاب. النظم هي مَنْ يقول ذلك، وتوجّه إعلامها المنضبط لكي يزيد من جرعة الهجوم على الإرهاب وداعميه، وعلى الأصولية والتطرّف، ولكي يدعو إلى "تحديث الإسلام" و"تطوير الدين".
تقوم النظم بذلك كله، في المشرق والمغرب، حيث باتت تعتبر أن الحرب على التطرّف هدفها الأول، وأن المعركة ضد الإرهاب هي "أم المعارك"، المعركة التي يجب حشد كل الشعب من أجلها، ليكون كل طرح مشكلاتٍ أخرى، مثل البطالة والجوع والفقر، تشويشاً من "عملاء"، ومتآمرين.
تُظهر هذه الصورة أن النظم هي في غاية الحداثة، والعلمانية والحرية والديمقراطية، وكل مستحضرات الغرب. وتريد النظم أن تقول ذلك، أو تريد أن تظهر كذلك. لكن، في الواقع، لا شيء من ذلك كله، على العكس، فمن "يحارب التطرّف" يعمّم أيديولوجية متطرّفة، ويؤسس كل الظروف التي تسمح بنشوء التطرف، وتستغل مخابراتها ذلك كله لتوجيه التطرّف والإرهاب، فبعد موجة التحرّر التي انكسرت سنة 1967 إثر هزيمة حزيران، وبعد الفورة النفطية، باتت الأصولية الدينية هي الأيديولوجية التي تعمّمها النظم، بعد أن اشتغلت بجدّ لتدمير التعليم، وأدت سياسة الخصخصة إلى رمي الجزء الأكبر من الشعب في البطالة والفقر، وأغرقته بـ "الوعي التقليدي". باتت مواجهة فكر التحرّر والعدالة تقتضي أن تعمّم النظم أيديولوجيةً أصولية، أيديولوجية تعمّم ما هو رجعي وقروسطي، وما يُغرق في ماضٍ جاهلي. يظهر ذلك في الخطاب العام لهذه النظم، وفي دور "المؤسسات الدينية"، وفي مناهج التعليم، والإعلام. وحتى بالسماح لمجموعات سلفية في ممارسة دورها.
بالتالي، الأيديولوجية الأصولية (المتطرّفة) هي أيديولوجية الدولة أصلاً، وهي أداتها في تشويه الوعي المجتمعي، وتفكيك البنى المجتمعية، وكذلك في تجهيل الشعب، فهي بذلك تستطيع أن تحكم كما تعتقد، وتستطيع أن تتلاعب بالشعوب كما تريد، وتلعب بـ "الإرهاب" كلما أرادت. وإذا كانت ترفض حكماً أصولياً إسلامياً نجدها تطبّق مثله، وربما أسوأ. حيث تحكم "بما ينافي الحياء العام"، و بـ "إهانة الذات الإلهية"، وبالفطور في رمضان، وتسمح للمجموعات السلفية بأن تفرض هيمنتها، وتطبّق شريعتها. إنها ترفض النظم الأصولية، لكنها تطبّق نظاماً أصولياً، ليبدو أن الخلاف مع الأصولية ليس على الأيديولوجية، حيث يظهر التوافق كبيراً هنا، بل على المصالح والامتيازات، فكلها أصولية، النظم والمجموعات، لكنها تختلف في المصالح والأدوار فقط، وهي مع التخلف وفرض قيم قروسطية، لكن كلاً منها يريد الهيمنة.
ليست الشعوب هي المتخلفة والمتطرّفة، بل النظم ومفرزاتها من مجموعات أصولية. ولا شك في أن النظم تريد الهيمنة الأيديولوجية عبر إسلام أصولي، كي تمنع تمرّد الشعوب التي تعاني من البطالة والفقر والتهميش، وهي تستغلّ وضع بعض هذه الشعوب، لممارسة القتل والتدمير، ومن ثم تقول إنها تحارب الإرهاب، لكي تغطي على المشكلات الحقيقية تلك.
إذن، التطرّف والإرهاب صناعة، وهي صناعةٌ تخدم هيمنة النظم، وتهدف إلى تحقيق استمراريتها لكي تمارس النهب والإفقار والتهميش. وبالتالي، لمواجهة أيديولوجية التطرّف التي تتمظهر في مجموعات مصنَّعة، لا بدّ من مواجهة النظم نفسها، وكشف لعبها بالدين، وميلها إلى تعميم الأصولية تحت مسمى "وعي الشعب"، هذا الشعب الذي يريد التحرّر والتطور، ويريد أصلاً القدرة على العيش، وهي المسائل التي تحرمه النظم منها، لكي تراكم الطبقة المسيطرة الثروة.
يقتضي ذلك كله تغيير نظام التعليم جذرياً، وتحييد المؤسسات الدينية، ومنع استخدام الدين في السياسة. ما يعني تغيير النظم نفسها لهذا السبب أيضاً، فالنظم ليست حديثة ولا علمانية كما تدّعي، ونحتاج إلى نظم علمانية ومدنية وديمقراطية.
لم تنته معركة الموصل، فما زال تنظيم داعش يتحصن في جزء مهم من المدينة، لكن القوات التي تهاجمه مصممةٌ على اقتلاعه من كامل التربة الموصلية، هكذا يصرّح قادة الجيش العراقي المهاجم وزعماء المليشيا المتحالفة معه.
لم تنته المعركة بعد، ولا يُعرف متى ستكون نهايتها، والتنظيم الذي يحتلها يعرف أن عليه أن يتشبث بالأرض حتى الموت، عملية اعتصار المدينة الشمالية بين دفتين صلدتين، هما داعش والقوات المهاجمة، يضيف إلى عداد المهاجرين والمشرّدين رقما كبيراً صار مشتتاً في الجوار الكردي، أو هائماً في الصحراء على طول مجرى النهر، وتحت رحمة كل شيء، فليس ثمّة إمكانية للعودة إلى المدينة المحرّرة التي أصبحت قاعاً صفصفاً بحاجة إلى تأهيل قد يستلزم عقوداً، سيُجبَر المشردون على انتظار انقضائها.
يبدو أن النسخة الأخرى من الحرب الضارية المنتجة لللاجئين ستكون مدينة الرقة بسيناريو متطابق، وبخرّافية مماثلة وبقوات متحاربة شبه واحدة. وقد أعلن ناطق بلسان قوات سوريا الديمقراطية إن المعركة بدأت. مع إعلانٍ من هذا النوع، على جمعيات حقوق الإنسان والإغاثة أن تستنفر وتهيئ كل إمكاناتها، فالإحصاءات تقول إن في الرقة حوالي ثلاثمائة ألف نسمة على قيد الحياة.
يقول الجيش العراقي إنه أحكم السيطرة على الحدود السورية العراقية، وعلى الجانب الآخر تقاتل قوات مختلطة من النظام ومليشيات متنوعة محاولةً السيطرة على معبر التنف، الشكل العسكري لهذا التموضع يقول إن الجانبين، السوري والعراقي، يرغبان يإحكام الطوْق على عناصر تنيظم الدولة الإسلامية. وفي الميدان المنتظر للمعركة الأخيرة، تتحكم قوات سورية الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة في الجانبين، الشرقي والشمالي، للمدينة، وسيطرت أخيراً على سد البعث والقرى المجاورة له، وهي تستمر بالتقدم بإيقاع بطيء ولكن مضطرد، ما يعني أن تنظيم الدولة الإسلامية سيجبر على القتال في الشوارع ووسط المدنيين، وظهره إلى الحائط، وهي الوضعية نفسها التي واجهها التنظيم في الموصل، حين كان وسط آلاف المدنيين الذين تحولوا إلى ضحايا جثثاً هامدة أو مشرّدين في الصحراء.
تمتلك القوات المهاجمة الرغبة والإصرار والإرادة لدخول مدينة الرقة، وتملك الدعم الكافي من أكبر دولة في العالم، وغطاء جوياً كثيفاً وغطاء إعلامياً أيضاً، وتمتلك ما ترغب به من الوقت لإنجاز مهمتها. ولكن ليس لديها خطة للتعامل مع مدنيين كثيرين محاصرين في الداخل، ولا تبدي هذه القوات، مع داعميها، اهتماماً كبيراً بهم، فالهجوم الجوي الذي بدأ مبكراً حصد عددا كبيرا من الضحايا المدنيين الذين وثقت المنظمات الإنسانية أسماءهم الكاملة، أما الأحياء داخل المدينة فمعاناتهم مستمرة، منذ احتل التنظيم المدينة، وهم على مشارف دخول طوْرٍ جديد وقاسٍ، فالحملة لن تنتهي، قبل أن تأتي على كل شيء.
تحمل المعركة المنتظرة في الرقة مجموعةً من التعقيدات السياسية، يخصّ الجانب الأكبر منها طبيعة القوات المهاجمة المكونة أساساً من عناصر كردية، ستقاتل تحت لواء قوات سورية الديمقراطية، وستتحرّك وفق رافعة أميركية واضحة، والتهديد الذي يحسّ به الجانب التركي، وقد أعلن، بوضوح، موقفه المناوئ لهذه التشكيلة العسكرية، فضلاً عن برامج التقسيم التي يعمل بموجبها هذا الفصيل، وإن كان لا يفصح عنها. هذه التعقيدات فائض سياسي عن الحمولة الإنسانية الكبيرة التي سنتشأ مع بدء المعارك، فتنظيم الدولة الإسلامية، وإنْ كان يعلن أنه دولة، يتعامل مع "رعاياه" باعتبارهم مختطفين، وهو يتوقع عوائد من استمرار احتجازهم. أما الجانب الآخر المتعطش للأرض، فهو يستميت للحصول على أكبر مساحة منها، وإن كانت خاليةً من سكانها، فهي نقطة إضافية. لذلك، من المتوقع أن تنتهي المعارك، وينفرج الدخان عن بقعة محروقة من الأرض، وأكداس جديدة من فاقدي الاتجاه والذاكرة والحاضر والمستقبل الذين تعرِّفهم الأمم المتحدة لاجئين.
من يتابع مجريات الأمور في سورية اليوم، يشعر في كل مرة بأن الكارثة السورية وصلت إلى أقصى القاع، لكنه يكتشف أن القاع ذاته لم يعد له قاع، وأن حقائق جديدة باتت تتشكل على الأرض، ففي عام 2011 لم يتصور أي سوري أن النظام السوري سيستخدم الطائرات المقاتلة كما فعل القذافي في أوائل عام 2011 لقتل شعبه. قلنا لأنفسنا في ذلك الوقت إننا «أكثر تحضراً»، وأن «إجرام» النظام مهما علا فإن «مهنية» الجيش والمؤسسات ربما تمنع ذلك، كما أن ما يسمى «المجتمع الدولي» لن يسمح بذلك. ونسمح لأنفسنا بالتذكر دوماً كيف تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا بعد التهديد باستخدام القوة الجوية ضد المدنيين في بنغازي! في عام 2013 وبعد ذلك بدأت البراميل المتفجرة تمطر وأصبحت السلاح الأكثر استخداماً وانتشاراً، كما باتت السلاح الأكثر شعبية لدى الأسد ضد المدنيين السوريين كل يوم وفي كل مدينة في المناطق التي أصبحت خارج سيطرة حكومة الأسد، فقد قتل أكثر من 120 ألفاً بسبب استخدام هذه البراميل المتفجرة، لكن استجابة المجتمع الدولي لهذه المأساة كانت تغض الطرف عن هذا الانتهاك المستمر للقانون الدولي الإنساني.
بعد ذلك، ما زلت أتذكر مناقشتنا في ورش العمل ومؤتمرات المعارضة السورية حول استخدام الأسلحة الكيماوية. كل واحد منا في عام 2012 قال بوضوح أن حكومة الأسد لا تستطيع عبور الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس أوباما، ولكن فوق ذلك كله ليس لدى النظام حاجة لاستخدام مثل هذا النوع من الغاز مثل السارين وغيره لا سيما أنه يستمر في سياسة قتل الناس بالأسلحة التقليدية، لكن، وللأسف كنا مخطئين هنا مرة أخرى، استخدمت حكومة الأسد غاز السارين في آب (أغسطس) 2013، وقتل أكثر من 1400 بينهم 400 من الأطفال، ومرة أخرى أخبرتنا الحكومة السورية والعالم بأنها تخلت عن كل ترسانتها من الأسلحة الكيماوية بعد الاتفاق بين الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما وروسيا في عام 2013، ولكن مرة أخرى استخدمت الحكومة السورية غاز السارين في نيسان (أبريل) 2017 وأسفر ذلك عن مقتل ما لا يقل عن 83 شخصاً في خان شيخون في إدلب، وبين هذين الحادثين استخدمت الحكومة السورية غاز الكلور 50 مرة على الأقل وفي شكل رئيسي وعلى نطاق واسع في معركة حلب حيث نجحت في إجبار المعارضة على مغادرة الأراضي التي تسيطر عليها منذ عام 2012 في منطقة شرق حلب.
الآن، ما هو القاع الجديد؟ كل واحد منا ينكر حقيقة أن سورية تمر بمرحلة من التقسيم، فليس واضحاً كيف سيبدو أو سيكون هذا التقسيم؟ وما هي القوى الدافعة وراء ذلك، ولكن منذ عام 2015 بدأت لعبة التغيير الديموغرافي وعلى نطاق ضيق اتسع نطاقه باطراد عبر ما سمته الحكومة السورية «المصالحة المحلية»، أما المعارضة فأطلقت عليها سياسة «التطهير العرقي» لغالبية السكان السنّة بمنح الجنسية لمزيد من الشيعة العراقيين والإيرانيين والأفغان ليحلوا محلهم في بلداتهم وقراهم التي تم إجبارهم على تركها.
لكن ما جرى الشهر الماضي كان لافتاً للغاية، وهي الصفقة التي أصبح يطلق عليها «المدن الأربع» التي تعني مبادلة بين المدنيين والمسلحين في الفوعة وكفريا (وهما بلدتان شيعيتان) اللتان كانتا تحت الحصار من قبل المعارضة السورية المسلحة، مع المدنيين والمقاتلين من الزبداني ومضايا (وهما مدينتان سنيتان) وكلتاهما كانتا تحت الحصار من قبل الحكومة السورية بشكل يمنع الغذاء أو المياه لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وغطت وسائل الإعلام الدولية صور الأطفال من مضايا الذين ماتوا بسبب الجوع في عام 2014.
جاءت هذه الصفقة بعد خمس صفقات مختلفة قبلها شملت المدن الرئيسية التي شاركت في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2011 ثم انضمت إلى المعارضة المسلحة بهدف منع قوات الحكومة السورية من الغزو أو الاحتلال بغية قتل المدنيين، كما جرى في مدينة حمص، حيث نظم النظام اتفاقاً مع مقاتلي «الجيش السوري الحر» لطرد المقاتلين البالغ عددهم 2250 مقاتلاً، فضلاً عن المدنيين المحاصرين معهم في المدينة إلى الريف الشمالي. وأدى هذا الاتفاق إلى إفراغ المدينة القديمة تماماً من سكانها الأصليين، لجذب المزيد من الموالين للحكومة بدلاً منهم، حيث انخفض عدد سكان حمص من مليون ونصف المليون في عام 2011 إلى ما يقرب من 400 ألف شخص الآن، و65 في المئة من سكان المدينة الأصليين غادروا إلى محافظة إدلب.
تبعتها مدينة داريا التي وضعتها حكومة الأسد تحت الحصار الشديد واعتمد المدنيون تماماً على الأنفاق تحت الأرض لمدة 4 سنوات من أجل استمرار الحياة كما تعرضت لقصف استثنائي عبر إسقاط البراميل المتفجرة في شكل يومي، حتى أن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق شؤون الإغاثة في حالات الطوارئ، ستيفن أوبراين، وصف داريا في إحاطة له لمجلس الأمن بأنها «عاصمة البراميل المتفجرة»، ولكن وفي نهاية عام 2016 قرر المدنيون والمسلحون الانسحاب من المدينة بعد تهديدات من الحكومة بأنهم سيحرقون ما تبقى منها. غادر المدنيون إلى إدلب التي أصبحت عاصمة المعارضة. هذه هي الصفقة الثانية التي فتحت الباب للسياسة الجديدة التي اعتمدها النظام السوري والقائمة على «التهجير القسري». كان عدد سكان المدينة 250 ألفاً قبل عام 2011 واليوم تحولت إلى مدينة فارغة بالمطلق. وعندما أتم النظام السوري عملية التهجير زار الأسد المدينة الخاوية على عروشها وأجاب عن مسألة التغير السكاني في داريا وغيرها بالقول إن «التغير الديموغرافي هو تغير يتم عبر الأجيال».
ما جرى في داريا في كانون الأول (ديسمبر) 2016، تكرر في مدينة حلب في أوائل عام 2017، حيث بدأت قوات النظام السوري مع الميليشيات العراقية والإيرانية المدعومة من القوات الجوية الروسية باستخدام التكتيكات نفسها التي استخدمتها وتم توثيقها في شكل جيد من قبل تقرير مجلس الأطلسي بعنوان «كسر حلب» عبر استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الثقيلة الأخرى واستهدفت جميعها المستشفيات والمراكز الطبية، ثم استخدام غاز الكلور عبر رسالة واضحة للمدنيين والمسلحين أنه لا يوجد رحمة وليس هناك خيار آخر بدلاً من قبول الصفقة التي تعني إخلاء المنازل والأحياء. نفس النمط تكرر في مضايا والزبداني.
ينص القانون الدولي الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف التي وقعتها سورية والتزمت بها في المادة 129 بوضوح على أنه «لا يجوز لكل الأطراف في أي نزاع مسلح غير دولي أن تأمر بتهجير السكان المدنيين كلياً أو جزئياً لأسباب تتعلق بالنزاع»، كما أن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية نص بوضوح على أن «تهجير السكان المدنيين لأسباب تتعلق بالنزاع، يشكل جريمة حرب».
إن منع التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي الذي يحدث في سورية اليوم يتطلب موقفاً صريحاً وواضحاً من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أنه لا معنى لاستمرار مفاوضات عبثية في جنيف إذا استمر التغيير السكاني لسورية بهدف تحقيق مخططات مسبقة لدى النظام السوري، كما أن ذلك يتطلب أيضاً قيادة جديدة من قبل الولايات المتحدة في الضغط على روسيا لوقف هذه السياسة المنهجية، وإلا فإننا سنستمر في رؤية سورية التي نعرفها وهي تختفي أمام أعيننا وإلى الأبد.
في أعوام الثورة السورية، تحولت المسألة الكردية السورية إلى قضية دولية بامتياز، لكن ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ومعظم المعنيين بالشؤون السورية، لم يغيروا رؤيتهم للعلاقة بين عرب وكرد سورية التي قامت خلال حكم "البعث" على علاقة مركزٍ بطرف، وتعينت بتبعية الطرف الكردي للمركز العربي، والحجة أن العرب يمثلون أغلبية سورية ساحقة، بينما الكرد إثنية قليلة العدد محدودة الوزن، لا يجوز أن يختلف وضعها عمّا تقرّره الأغلبية لها، حتى في حال قامت دولة ديمقراطية، لن يعبر قيامها، في هذه الرؤية، إلا عن حكم أغلبي هو الجهة الوحيدة التي يجب أن تخوّل ديمقراطيا بتحديد هوية وآليات اشتغال وسياسات الدولة وعلاقاتها بمكوناتها، وعلاقات هذه مع بعضها. لذلك، على الأقلية قبول ما تقرّره الأغلبية، وإلا غدت مواقفها ضربا من تهديد داخلي، يضمر مخاطر تمزّق المجتمع وتقوّض الدولة، الأمر الذي يلزم الأغلبية بالامتناع عن الاستجابة لمطالبها، مهما غلفتها بمفاهيم تخفي ما تضمره من تحدٍّ للجماعة الوطنية، يطاول وحدة مكوناتها وعيشها المشترك. في هذا الفهم، يصير من الطبيعي والمقبول إنكار حق الأقلية في الاختلاف مع الأغلبية، بحجة أنها حامل الخيار الديمقراطي والمجتمعي الشرعي، الجامع والمقبول وطنيا. وهناك ملاحظتان تطرحهما هذه الرؤية:
أولا: للديمقراطية نمط واحد لا يجوز أن تحيد عنه في ما يتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية، وعلاقات مكونات المجتمع بعضها ببعض، هو النمط الأغلبي/ المركزي، بسلطته التي لا بد أن تتمتع بصلاحياتٍ مفتوحة تغطي كل مجالات الحياة العامة ومؤسسات الدولة ومفاصلهما، بما في ذلك اللامركزية منها. ومع أن الخروج على هذا التصور قد يكون صعبا في بلادٍ تعرّضت لتدميرٍ واسع، يتطلب إخراجُها منه سلطةً قويةً تمسك قضاياه بيد قويةٍ واسعة الصلاحيات والقدرات، فإن من الضروري طرحه لحوار وطني، يتوافق على حقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية وعلاقاتها في ظل الدولة الديمقراطية، يمنع تمترس أي منها وراء مطالب قومية أو إثنية ضيقة، يمليها نزوع غير ديمقراطي نحو خصوصيةٍ ذات ميولٍ انقسامية مجتمعيا تفكيكية دولويا، تواجهها "الأغلبية" بممارساتٍ تستبعد أكثر فأكثر فرص الحوار والتفاهم، وآليات توازن المصالح والتوافق العامة.
ثانيا: ليست الديمقراطية نظام أغلبية تحدّد حقوق بقية مكونات مجتمعها، وتوزع نعمتها أو نقمتها عليها من دون أن يكون لها حق الاعتراض، أو إبداء الرأي بما يقرّر لها. الديمقراطية نظام تشاركي، يشتغل بآليات حوارية مغطاة قانونيا تحمي حقوقا عامة، بغض النظر عن أصحابها، وتنجح بقدر ما يكون بلوغها متاحا لجميع أطراف العقد الوطني بالطرق السلمية/ الحوارية، وبالحسابات التوازنية/ التوافقية.. إلخ.
لا تؤيد أغلبية كرد سورية مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا) الإقليمي، القائم على وجود أرض وطنية كردية، يقطنها شعب خاص، استعمره عرب سورية، فمن حقه تحريرها وإقامة دولته القومية عليها. يؤمن أغلبية الكرد بمشروعٍ مقابل، يعبّرون من خلاله عن انتمائهم إلى سورية دولةً ومجتمعا، في إطار إعادة تنظيم علاقاتهم معهما على أسس ديمقراطيةٍ، تقر بما لهم من حقوق. ويعلن معظم كرد سورية خوفهم من مشروع "البايادا"، بحمولته الانفصالية التي تخيف غيرهم من السوريين أيضا، لاعتقادهم أنها تهدّد بإطلاق صراع جديد، يتخطى عرب سورية وكردها، يرجّح أن يدمر ما أبقته حرب الأسد من حياةٍ وعمرانٍ لديهما، وأن يحول دون تسوية مشكلاتهم، بما بينهم من أخوة تاريخية، وانتماء مشترك.
هناك مشروع كردي سوري لا بد من حوار مع حملته يحدّد نمط الدولة الذي يلبي حاجة العرب والكرد إلى علاقاتٍ تنهض على حقوق ثابتة، ومعرّفة بدقة لجميع مكونات الجماعة الوطنية السورية من جهة، وقبول نهائي بوحدة دولة ومجتمع سورية من جهة أخرى. وهناك مشروع إقليمي الطابع، يتبناه حزب إقليمي الطابع بدوره، ليس معظم من ينتمون إليه كردا سوريين، يجب إفشاله استباقيا بالتفاهم مع كرد سورية الذين تحظى مطالبهم اليوم بتفهم معظم أطراف العمل الوطني، في ظل تخليها المتزايد عن نموذج مركز/ طرف ومسبقاته، والمغالطات التي تساوي الديمقراطية بحكم أغلبية تقرّر حقوق غيرها، من دون مشاركته أو موافقته.
تتحوّل المسألة الكردية إلى عقدة تشابكاتٍ داخليةٍ وإقليميةٍ ودولية، لا بد أن نبادر إلى تسويتها سوريّاً، وإلا حملت إلينا مخاطر إقليمية ودولية، لن تبقى بلادنا معها ما نريد لها أن تكون عليه حرّة وموحّدة. السؤال: هل نبادر أم ننتظر كالعادة وصول الفأس إلى الرأس؟
بعد قمم الرياض التي وضعت إيران في مكانها الحقيقي دولة راعية للإرهاب بات واضحا بالنسبة للإيرانيين أن الأوضاع الإقليمية والدولية لا تشجع على ظهورهم العلني قوة إقليمية منافسة لقوتي الردع الأميركية والروسية.
وهو ما دفعهم إلى إعادة النظر في خططهم للحفاظ على مصالحهم السياسية التي لا تخفي طابعها الطائفي، بل تظهره أكثر مما يتحمل الواقع.
ذلك لأن ما حققته إيران من اختراقات في المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية انتهى إلى قيام ميليشيات خارجة على القـانون بسلاحها مـثل حزب الله اللبناني من غير أن يؤدي إلى بناء كيانات سياسية يمكن التعويل عليها مستقلا.
لا تزال تلك الميليشيات تعتاشُ على ما توفره لها طهران من أسباب حياة وقوة، وهو ما يعني أنها ستواجه مصيرها مفلسة وخاوية إذا ما انقطعت عنها سبل التمويل الإيراني المبـاشر.
وكمـا يبدو فإن نظام الملالي في طهران لم يخطط في المراحل السابقة إلا لإنشاء قوى تابعة له، تكون بمثابة أدواته لنشر الفوضى في العالم العربي، يلجأ إلى تحريكها حين يضيق بأزماته الداخلية أو حين يتعرض لضغوط خارجية.
وكما عبر مسؤولون في النظام الإيراني فإن تلك الجماعات الملحقة بالحرس الثوري هي الأذرع التي تقاتل إيران بها الآخرين.
الأمر الذي يقود إلى حقيقة أن الإمبراطورية الفارسية التي تدين بالولاء للولي الفقيه هي أشبه بالأخطبوط. إيران هي الجسد أما الجماعات الموالية فما هي إلا أذرع ميتة لا تدبُّ الحياة فيها إلا حين يحتاج ذلك الجسد للدفاع عن نفسه.
وهكذا يكون النظام الإيراني قد نجح في مرحلة سابقة في إقامة منظومته الدفاعية على حساب إمكانية أن تقوم حياة طبيعية في جزء مهم من العالم العربي، وهو الجزء الذي صار موضع اشتباك دولي، حاولت إيران أن تجد لها موقعا فيه من غير أن تحقق نتائج مؤكدة.
اليوم تشعر إيران جديا بأن أذرعها مهددة بالقطع. وهو ما يجعلها تستعد للبدء في تنفيذ خطة تتيح لها الاستمرار قوة إقليمية، لكن من خلال وصل ما يمكن أن ينقطع من خطوط بين جماعاتها المسلحة في المنطقة، بعضها بالبعض الآخر وهو ما يمكن أن نفهمه من تصريح أحد مسؤولي الحرس الثوري من أنهم يستعدون لاستعمال ميليشيات الحشد الشعبي العراقية في مهمات قتالية خارج العراق.
ما هو ملحّ ومصيري في هذه المرحلة أن يتم تأمين طريق بغداد – دمشق، أما طريق دمشق – بيروت فقد تم تأمينها عبر سنوات الحرب الماضية من خلال إطلاق يد حزب الله للإمساك بالأرض بعد معارك اتسم بعضها بسياسة الأرض المحروقة.
تقضي الخطة الإيرانية أن يكمل الحشد الشعبي اليوم ما بدأ به حزب الله بالأمس. وهي خطة ولدت ميتة كما يُقال. ذلك لأن أي قوة محلية مهما أوتيت من قدرات لا يمكنها أن تضع يدها على الطريق التي تصل الحدود العراقية بالعاصمة السورية.
فكيف إذا كانت تلك القوة ميليشيا كان قد جرى تلفيقها لأسباب طائفية انهارت فيه مقومات الوعي الوطني.
هذا من جهة ومـن جهة أخـرى فإن المنطقة التي تخترقها تلك الطريق تشهد سباقا محموما بين قوى كبرى، صارت تستشعر الخطر الذي يمثله استمرار الميليشيات التابعة لإيران في تلقي الدعم المادي من إيران، فمن خلال تلك الميليشيات لا يمكن الحديث عن مسألة تحجيم إيران واحتـوائها وإنهـاء دورهـا الضار في المنطقة.
بناء على تلك المعطيات فإن الطريق إلى دمشق لن تكون سالكة أمام أي قوة تدفع بها إيران في مغامرة خاسرة. فالحرب هنـاك ليست نـزهة، كما أن الحشد الشعبي الذي يعرف العسكريون الإيرانيون مدى هزاله أكثر من غيرهم، إنما يتألف من عاطلين عن العمل أجبرتهم ظروفهـم المعيشيـة على الالتحـاق بالميليشيات الطائفية فهم ليسوا سوى جنود شطرنج.
قد يقاوم حزب الله نهايته بعض الوقت إذا ما أغلقت أمامه أبواب التمويل الإيراني. في تلك الأثناء سيكون كل شيء في طهران قد عاد إلى الصفر.
فنهاية حزب الله تعني انطفاء الحلم الإيراني في إخضاع المنطقة لمزاج الولي الفقيه.
الصراع على الحدود الشرقية والشمالية لسورية اختبار صعب لجميع المتصارعين في هذا البلد. إنه امتحان أول لسياسة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط. وامتحان أيضاً لقدرة الرئيس فلاديمير بوتين على تسويق مشروعه للتسوية أو التهدئة أقله في الظروف الحالية. ويشكل مفترق طرق لسياسات اللاعبين الآخرين. من إيران وتركيا إلى إسرائيل والأردن وقوى عربية أخرى قريبة وبعيدة، فضلاً عن الكرد عموماً. الدينامية التي رفعت وتيرة هذه الحرب انطلاقُ السباق المحموم لوراثة تركة «داعش»، مع اقتراب هزيمته في الموصل وبعدها في الرقة. وكذلك قرار أطراف لقاءات آستانة إقامة «مناطق خفض التوتر»، أو «مناطق آمنة». فقد فتح القرار شهية جميع المتصارعين على تقاسم خريطة بلاد الشام، في غياب أي تفاهم بين الكبار. وهناك أيضاً قرار قمم الرياض الثلاث بمواجهة التمدد الإيراني في الأقليم. وهو قرار يسير بالتوازي مع الحرب على الإرهاب، بعدما ساوت واشنطن بين الجمهورية الإسلامية والتنظيمات «الجهادية». وكلها تطورات لا تبشر بقرب تسوية سياسية بقدر ما تضيف مزيداً من الزيت والتعقيدات إلى الحروب المستعرة والمستنقع المفتوح. وتوسع دائرة الترابط بين أزمات المشرق، من حدود العراق الشرقية إلى شاطىء المتوسط. وقد تكرس تقسيماً غير معلن لبلاد الشام لا يقف عند حدودها وحدها. وهو ما تخوف منه سيد الكرملين.
كرست قمم الرياض الثلاث رغبة واشنطن وحلفائها التقليديين في جمع خصوم دمشق وطهران في حلف واحد جديد لاجتثاث الإرهاب ومصادر تمويله، ومواجهة الهلال الإيراني وكسره. ولا أحد يجهل أن السيطرة على المنطقة الشرقية لسورية تحقق جملة أهداف استراتيجية، على رأسها قطع خطوط التواصل البري لإيران عبر الحدود مع العراق حتى شاطىء المتوسط، وإكمال الطوق حول إسرائيل من جنوب لبنان إلى الجولان. كما أن المنطقة غنية بالنفط تعزز موقع الممسكين بها في مواجهة الآخرين، اقتصادياً وعسكرياً. وواضح من التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة في التنف ومحيطها، وتعزيز القدرات التسليحية لـ «قوات سورية الديموقراطية» وفصائل عربية أخرى في الجزيرة السورية، أن واشنطن تجهد لمنع قوات النظام في دمشق والميليشيات التي يرعاها «الحرس الثوري» من الاقتراب من هذه المنطقة. وهو هدف لا يريح موسكو التي تحرص على إعادة تأهيل الجيش السوري وتقديمه القوة الوحيدة القادرة على ضمان أي اتفاقات. فضلاً عن أن الهدفين، الأميركي والروسي،لا يلتقيان أبداً مع أهداف طهران الراغبة في المرابطة على حدود الجولان، وبقاء ممراتها البرية مفتوحة حتى بيروت مروراً بدمشق. ويضيرها تفاهم الدولتين الكبريين على تكريس مناطق خالية من الميليشيات.
لن يكون سهلاً على إدارة ترامب أن تحكم إقفال الحدود العراقية - السورية. اعتمادها على «وحدات حماية الشعب» قد لا يكون كافياً ومضموناً، ولن ينتهي بلا ثمن يتقاضاه الكرد. لقد حذر هؤلاء «الحشد الشعبي» العراقي من تجاوز الحدود عبر أراضيهم. لكنهم هم القريبون من «حزب العمال الكردستاني» سيجدون أنفسهم أمام امتحان صعب إذا اندلعت مواجهة واسعة بين قوات الحزب و»البيشمركة» في منطقة سنجار. علماً أن قوات الحزب تقيم تنسيقاً متيناً مع إيران وميليشيات «الحشد». فيما يرتبط إقليم كردستان بمعاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة، وستجد قيادته نفسها أمام امتحان صعب على شفير مواجهة لا مفر منها. وقد حذرت أخيراً من أنها لن تتساهل في أمن المناطق التي تحررت من الإرهابيين. كما أن تركيا يقلقها تمدد «حزب العمال» من شرقها إلى شمال العراق فشمال شرق سورية. وتخشى أن يحكم هذا الطوق على حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية. لذلك لا تكف عن الاحتجاج على انخراط البنتاغون في تسليح «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من الكرد. وإذا كانت واشنطن ستستخدم الكرد في حربها على «داعش» من دون دعم تطلعاتهم إلى إقامة منطقة حكم ذاتي كما هي حال كرد العراق، فإنهم لن يترددوا في التعاون مع قوى أخرى. علماً أنهم أخلوا في السابق مواقع لهم للقوات النظامية السورية. بل هم يتحدثون عن رغبتهم في فتح ممر يربط مناطقهم بساحل المتوسط. فهل يمكن الإدارة الأميركية أن تتجاهل كلفة الاعتماد عليهم وإدارة الظهر لأنقرة، وهي حليف تعتمد عليه في خطة كسر الهلال الإيراني؟
أبعد من ذلك، تركيا التي تتعمد الابتعاد عن حلفائها التاريخين في الغرب، لم تتورع عن التهديد بقصف القوات الأميركية إذا واصلت دعمها للكرد شمال سورية. ولم تبد حتى الآن رغبة حقيقية في اللجوء إلى مجموعات تركمانية أو «حشود سنية» في العراق لمقارعة الميليشيات التي ترعاها إيران سواء في سورية أو العراق. تعلي الصوت في وجه التمدد الفارسي لكنها تترجم ذلك في الجلوس إلى طاولة واحدة مع ممثلي هذا التمدد في آستانة لتقرير مصير بلاد الشام. إنها ركن آخر في استراتيجية الرئيس ترامب قد لا يؤدي دوره المنتظر... لكنه سيجد نفسه بلا دور فاعل إذا سارت استراتيجيات الآخرين قدماً. كذلك لا يمكن واشنطن أن تعول كثيراً على نتائج الصراعات السياسية في العراق. يبدو شبه مستحيل أنخراط القوى والأحزاب الشيعية المستاءة من جارها الشرقي في جبهة تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية. حتى حكومة الرئيس حيدر العبادي لا يمكنها الذهاب بعيداً في ملاقاة واشنطن وسياساتها على حساب طهران. ولعل خير دليل على حدود قدرة بغداد على مقاومة نفوذ جارتها الشرقية، أن الأجواء والأراضي العراقية مفتوحة عملياً أمام طائرات الشحن والقوافل لنقل السلاح والعتاد من إيران إلى سورية ولبنان والعراق طبعاً. أضف إلى كل ذلك أن أي تفاهم بين واشنطن وموسكو لن يتيح للأخيرة المجازفة بخسارة حليفها في سورية. فهي تحتاج إلى ميليشياته على الأرض ما دام أنها لا ترغب في توسيع انخراط قواتها البرية. من هنا يبدو صعباً أن تتجاهل الحضور العميق لإيران في بلاد المشرق العربي. بل ستظل تفيد من هذا الحضور حتى دفع أميركا إلى الاعتراف بها قطباً دولياً له ما لها. ولا يغيب عن بال سيد الكرملين أن نجاح الأميركيين في ترسيخ سياستهم في بلاد الشام يقلل من قدرته على التقدم ببلاده نحو ترسيخ أقدامها قوة كبرى تنطلق من دمشق إلى الإقليم كله. لذلك يجهد إلى إرضاء تركيا من أجل إبعادها عن أحضان «الناتو». مثلما يجهد لتمتين علاقاته بمصر لحاجته إليها في ليبيا وشمال أفريقيا عموماً. وينتابه قلق عميق من صورة الود القائم بين الرئيسين ترامب وعبد الفتاح السيسي! يراوده طموح التفاهم مع الرئيس ترامب في المنطقة كلها، كما هي حال الأخير مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في شبه الجزيرة الكورية.
خوف روسيا من انزلاق اللعبة عن قواعدها المرسومة حتم عليها الزج بطائراتها إلى حدود المنطقة الشرقية في سورية. وقصفها فصائل تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج. وتقدم آلياتها وقواتها نحو جبهة الجنوب، على رغم المحادثات الديبلوماسية والعسكرية مع الأردنيين والأميركيين في عمان لتعريف «المنطقة الآمنة» جنوب سورية ورسم حدودها التي يفترض أن تشمل القنيطرة في الجولان حتى درعا وريفها. وتتهم موسكو «التحالف الدولي» والكرد بأنهم يسهلون لعناصر «داعش» الخروج من الرقة نحو دير الزور وتدمر. وكانت سابقاً عارضت وطهران ترك باب مفتوح لهم للخروج من غرب الموصل إلى الأراضي السورية عندما بدأت المعركة في اكتوبر الماضي. وهو ما دفعها أخيراً إلى التلويح باستخدام قوتها الجوية الضاربة لمنع وصول المجاهدين إلى ريف حمص وباديتها. ما تخشاه أن تكون المعركة الأكثر كلفة مع التنظيم الإرهابي في دير الزور. لذلك تسابق الأميركيين في مناطق شمال شرقي البادية، لئلا تكون المواجهة الحاسمة مع مقاتلي «دولة الخلافة» من مسؤوليتها وحلفائها بعد خروجهم من عاصمة الخلافة. وهي بذلك تجازف ربما بأخر أمل للتفاهم مع إدارة ترامب.
إضافة إلى هذا الهم، يجد الرئيس بوتين نفسه أمام خيارات صعبة على جبهة الجنوب. سيظل حريصاً على تفاهماته مع القيادة الأردنية خصوصاً في مجال التعاون الأمني والاستخباري الخاص بالمجموعات الإرهابية. كما أنه يحتاج إلى عمان باباً ومنطلقاً مساعداً إلى عواصم عربية أخرى، خليجية خصوصاً، لعلها تنحاز إلى مشروعه للتسوية في بلاد الشام. ومراعاة هذا الموقف للمملكة لا يروق بالتأكيد لحليفه الإيراني الساعي إلى الاقتراب من حدود الجولان والساعي إلى السيطرة على معابر سورية شرقاً وجنوباً. أما الأردنيون فلا يكتمون مخاوفهم من تسرب عناصر «داعش» جنوباً إذا أقفلت بوجههم سبل الفرار من شرق سورية. وهم يتذكرون اندساس مئات منهم في صفوف اللاجئين الذين أُوقفوا في مخيم الركبان السوري القريب من حدود المملكة، على رغم المناشدات الدولية بفتح الأبواب أمامهم. وقد أكد الملك عبد الله الثاني ورئيس الأركان أن القوات الأردنية لن تدخل الأراضي السورية. لكنها لن تسمح بتمركز إرهابيين أو عناصر تابعة للميليشيات الحليفة لإيران على حدودها الشمالية. قد لا تعارض في النهاية مرابطة قوات نظامية، ولكن ماذا لو أصرت واشنطن على رفض أي دور لهذه القوات؟ وإسرائيل بدورها ترفض اقتراب الميليشيات الإيرانية من منطقة الجولان المحتل. وهي تنتظر ترجمة ميدانية لمضمون اتصال هاتفي بين وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان ونظيره الروسي سيرغي شويغو، قالت إنه تناول امكان قيام المنطقة الآمنة جنوب سورية، «ترابط فيها قوات للنظام من دون الميليشيات». هذا الاصرار على استبعاد الميليشيات يقلق طهران مثلما تخشى موسكو أن يؤدي انصياعها إلى رغبات الجارين الجنوبيين لسورية إلى هز تحالفها مع الجمهورية الإسلامية.
حرب الحدود مستنقع يسعر الحرب في سورية، ويرسم خريطة جديدة على أنقاض ما بقي من خريطة «سايكس- بيكو». مثلما يطرح خيارات وسياسات مختلفة على جميع المتصارعين. والسؤال من سيخرج منهم منتصراً من هذا المستنقع؟