ترددت في الآونة الأخيرة الدعوات لضم ممثلين عن تشكيلات المعارضة السورية المسلحة إلى الائتلاف الوطني السوري. بل إن جهوداً عملية بدأت في هذا الاتجاه من جانب رياض سيف، رئيس الائتلاف الجديد، الذي تم انتخابه أخيراً من أجل ضم ممثلين عن التشكيلات المسلحة إلى الائتلاف.
الفكرة في أساسها تبدو صحيحة. ذلك أن الفصل بين السياسي والعسكري في وضع المعارضة السورية، ترك آثاراً سياسية وميدانية كارثية، كما تدلل تجربة السنوات الست الماضية، بل إنه خلق رأسين - إن لم نقل رؤوساً للمعارضة - تتنافس وتتصارع بمستوى، قد يفوق مستوى صراعها مع معسكر خصومها من نظام الأسد وحلفائه، وهذا كان أمراً واضحاً في الأشهر الأخيرة بعدما اشتغل الروس علناً وبكثافة في آستانة على التشكيلات المسلحة، ولم تخفف الجهود التركية من التباينات والصراعات بين طرفي المعارضة السياسية والمسلحة رغم علاقاتها الوثيقة بالاثنين.
وباستثناء التنافس والصراع القائم بين طرفي المعارضة حول من يمثل السوريين، ومن يمكن أن يتكلم باسمهم، فإن أمر توحيد الطرفين تحت قيادة الائتلاف، يبدو أمراً غير عملي في ضوء التجربة المرة التي كرستها السنوات السابقة بين الطرفين، عندما اختار الائتلاف بين صفوفه ممثلين لهيئة أركان الجيش الحر، التي كانت شبه هامشية وشكلية في أغلب أوقاتها، وترك التشكيلات الفاعلة خارج اهتمامه أو في الهامش من الاهتمام، فيما كانت الثانية تعزز توجهاتها في التشكيك بشرعيته، وتأكيد هامشية تأثيره، وتسعى في آن معاً لتكون بديلاً عنه من الناحية السياسية، فيما هي قوة مباشرة على الأرض.
والأمر الثالث في القضية، سؤال يتصل بمحتوى ضم التشكيلات المسلحة للائتلاف، فلا الائتلاف بدل شيئاً من توجهاته ولا التشكيلات المسلحة فعلت، مما يعني أنه لا برنامج جديداً، يتطلب إعادة رسم علاقة جديدة بين الطرفين، تقوم على دمج التشكيلات في الائتلاف، وإذا كان الأمر يتصل بموضوع المفاوضات، فإن الطرفين موجودان في الهيئة العليا للمفاوضات، وبإمكانهما من خلالها - إذا رغبا - تطوير أدائهما المشترك فيها، أما إذا كان الأمر يتصل بموضوع تسيير الأوضاع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، التي تتراجع أهميتها الميدانية، وتنحسر مساحاتها بصورة خطيرة، فهذه المناطق خارج التأثير السياسي للائتلاف بشكل عام، وإن كانت تخضع من الناحيتين السياسية والميدانية بشكل عام للقوة المسلحة، التي يتداخل فيها نفوذ جبهة النصرة المصنفة في دائرة التطرف والإرهاب وتشكيلات المعارضة المسلحة الموصوفة بالمعتدلة، وثمة صراعات وصدامات بين الطرفين فيها، ودخول الائتلاف على خط الواقعين السياسي والميداني فيها لن يبدل الأوضاع القائمة إلى الأحسن، إن لم يفاقمها.
وكما يبدو، فإن ثمة انسدادات سياسية وعملية في قضية ضم تشكيلات المعارضة المسلحة إلى الائتلاف، أو تمثيلها فيه، ولأن الأمر على هذا النحو، فمن الصعب تحقيق هذا الهدف في الواقع الحالي.
غير أنه، وإذا كانت ثمة رغبة مشتركة وصادقة، وتتوفر لها إرادة سياسية وعملية لدى الائتلاف الوطني والتشكيلات المسلحة، ودعم إقليمي ودولي، فإنه يمكن تشكيل مجلس سياسي مشترك، لا يقتصر على مشتركات الطرفين بما فيها من توافقات ومهمات، بل يكون نواة لمجلس أوسع، يضم غالبية قوى المعارضة السورية، ويكون له برنامج سياسي وطني شامل، يعالج المهمات الرئيسية في الوضع السوري.
إن الأهم في محتويات البرنامج السياسي المأمول، هو أن وحدة المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، وخضوع الشق العسكري للقيادة السياسية، التي تتضمن تمثيلاً للطرفين، وتأكيد أن مكافحة التطرف والإرهاب بكل أشكاله وتعبيراته مهمة مركزية للمعارضة السورية، لا يمكن الحيدان عنها أو التهاون فيها، إضافة لمهمة العمل على تحقيق الانتقال السياسي في سوريا، وفق قرارات الشرعية الدولية انطلاقاً من بيان جنيف1، وتلبية حاجات الشعب السوري وإنهاء معاناته في إطلاق المعتقلين والمخطوفين، ورفع الحصار وعودة النازحين واللاجئين، وإعادة تطبيع حياة السوريين.
ورغم أهمية وضع برنامج سياسي موحد للمعارضة، فإنه لا بد من خلق قيادة قادرة على التعامل مع المهمات المطروحة وسط المعطيات القائمة والتطورات السياسية والميدانية الحالية، وتجييرها لصالح المهمات الرئيسية، التي دون التركيز عليها، والعمل على تحقيقها، سيظل السوريون ومعارضتهم كلها، يدورون في محيط مغلق بلا حل لقضيتهم، وسيظلون يدفعون فواتير حرب عبثية، لا تولد إلا الخسائر ومزيداً من المعاناة.
لا شيء يشي بما سيحدث في معركة الرقة، وقد وصلت طلائع "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، مشفوعةً بالدعم الأميركي الكبير، إلى منطقة الكيلومتر صفر، وعبر ثلاثة محاور، شرق المدينة وغربها وشمالها، لكن المكشوف عن هذه المعركة أنها مصيريّة على صعدٍ عدة ومهمة للأطراف المتصارعة، وهي محطُّ اهتمام قوى عديدة، مؤتلفة كانت أو مختلفة.
الجانب الظاهر من معركة الرقة أنها درّة تاج معارك "قسد" التي خاضتها في مواجهة التنظيم، وأنها تعني لهذه القوات، من بين ما تعنيه، البقاء شريكاً أوحدَ للأميركان وحليفاً راسخاً في مواجهة التنظيمات الإسلامية الراديكالية. وبالتالي، لا خيار أمام القوات المتقدّمة إلى مشارف المدينة سوى الاستمرار والخوض في هذه المعركة حتى آخرها، وتحقيق الفوز في المرحلة الخامسة من مراحل عملية "غضب الفرات" التي أعلنتها "قسد" في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، والرامية إلى "تحرير" مدينة الرقة، كما لا خيار أمام "داعش" غير المواجهة وتحديد مصيره الذي بات ينوس بين الاندثار والهزيمة أو إطالة أمد بقائه على الأراضي السورية، فالمعركة الحاصلة وتلك القادمة ليستا معارك ضغطٍ أو محاولاتٍ تهدف إلى ثني "داعش" عن أمرٍ ما، بقدر ما هي معارك ترمي إلى إنهاء التنظيم بشكلٍ مبرم.
في مراحل سابقة، نجح الأميركان إلى جوار "قسد" بمراكمة العناصر العربية داخل جسم "قسد" وإيلاء الاهتمام بالحضور العربي داخل هذه القوات، إلى حدٍ بلغت معادلة حجم العناصر العربية، حجمَ تلك العناصر الكردية المشاركة في عملية غضب الفرات، كما نجح الأميركان في التملّص من الضغوط التي مارستها تركيا بخصوص تسليح "قسد" بأسلحة ثقيلة وفتّاكة، ما يجعل الإستراتيجية الهجومية لهذه القوات أشبه بحرب الجيوش النظاميّة المشفوعة بالطيران والوسائل اللوجستية والعسكرية المتطوّرة، في مواجهة تنظيم متمرسٍ في حروب المدن.
ثمّة مفاجآتٌ ستحملها معركة الرقة، لا يمكن استجلاؤها بسهولة، إذ لا يخفي التنظيم تكتيكاته وخططه العسكرية، وقد يضمر أمراً جللاً عبر تكتمه المديد، فمعركته هذه لن تشبه معركة الموصل التي خاضها، وأمامه خيار الانسحاب تكتيكاً إلى الجانب السوري، في حين أن انسحابه من الرقة إلى بقاعٍ أخرى يعني أنه سيبقى مكشوفاً وقابلاً للهزائم السهلة، وإذا كانت معركة الموصل معركة إشغالٍ وإطالة أمد المواجهات، فإن معركة الرقة هي معركة مصير، أو لنقل إنها من الممكن أن تحدّد وجهة التنظيم نحو الانكفاء والتقلص، وبالتالي القابلية للفناء.
سهّلت أميركا على حلفائها المحليين في "قسد" أعباء كثيرة، كتحييد تركيا وعدم إشغالها "قسد" في معارك حدودية، كما حدث في وقت قريب، حين استهدف سلاح الجو التركي مقرّاتٍ تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية، كما أن تلويح قوات "قسد" بشأن التصدّي ومواجهة المليشيات الشيعية "الحشد الشعبي"، حال قيامها بالتقدّم نحو مناطق سيطرة "قسد"، بحسب ما قاله الناطق باسم قوات سورية الديمقراطية، العميد طلال سلو، يفيد بجدية أميركا بألا تتحول مناطق سيطرة حلفائها في "قسد" إلى مناطق توتر تسببت به قوات الحشد الشعبي، وهذا يزيد من طمأنينة حلفاء أميركا بأن لا مشاغل ستثنيهم عن المعركة الأم، يضاف إلى ذلك وصول جرعات وافرة من الأسلحة الثقيلة إلى يد مقاتلي "قسد" وانتهاء اللغط الحاصل بين أميركا وتركيا التي رغبت في الحؤول دون وصول هذه الأسلحة إلى يد غريمها في الجانب الجنوبي من حدودها، على ما تخفيه أهمية تلك الأسلحة التي قد تدفع "قسد" إلى التمكّن من تصدّر الموقع الأول في ترتيب القوى المسلحة في سورية.
تبقى مسألة المدنيين، وما سيحيق بهم من أخطار، جراء القصف المتبادل وكمية الذخائر والقذائف والألغام التي ستستخدم في المدينة، ولعل الظاهر في باطن كف التنظيم أنه يتمترس بالمدنيين، ويبقي عليهم دروعاً بشرية، تؤخر سير المعارك، وتحجّم من فاعلية القوى المهاجمة، ذلك أن التنظيم يدرك أهمية ورقة "التمترس" خلف (وبين) ظهراني المدنيين، الأمر الذي يؤثر على مجرى المعارك وسرعتها، بيد أن الأميركان يعون خطورة هذه الورقة التي في متناول التنظيم، وإنها من الأوراق المعطّلة للتقدّم واكتساح التنظيم على الأرض. لذا، لم تشهد معارك الموصل مقداراً من التعاطف الغربي إزاء الضحايا المدنيين، بقدر ما طغت صور التقدّم وهزائم التنظيم على سفح الأحداث، ما يعني أن نزع هذه الورقة متوّقع الحدوث مجدّداً.
يبقى قول إن تفكير الأميركان و"قسد" في شكل إدارة الرقة وطبيعة النقاشات الدائرة حول هذا الأمر على قلتها، تبطن أمراً واحداً مفاده بأن التنظيم سيندحر في الرقة، وأن القوات المرابطة على مشارف الرقة ستنفّذ المهمة الموكلة إليها، طالت المدّة أم قصرت، وسواء كلّفت المعركة أكلافاً باهظة على صعد أرواح المقاتلين والمدنيين، أو الأضرار البليغة التي ستلحق بالعمران والبنية التحتية للمدينة. والحال أن معركة الرقة، في لقطتها شبه الأخيرة هذه، ليست المعركة المصيرية لتنظيم داعش فحسب، بل هي مصيرية كذلك لقوات سورية الديمقراطية وسمعتها ومستقبلها، وكذا هي مُهمة للإدارة الأميركية وسمعتها في ما خص شكل إستراتيجيتها الرامية إلى هزيمة "داعش".
تشكل الأزمة الخليجية الراهنة فرصة أخرى لإيران لتعزيز نفوذها في المنطقة، أمام إفلاس النظام الإقليمي العربي، وعجزه عن تطويق تداعيات هذه الأزمة، والحفاظ على الحد الأدنى من التوافق بين دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي سيفتح المجال أمام خلط الأوراق أكثر في المنطقة.
ففي وقت أبان فيه صانع القرار الإيراني عن قدرةٍ لافتةٍ على المناورة وقراءة الاصطفافات وإدارة الضغوط التي تتعرّض لها طهران، جاءت هذه الأزمة لتعكس طورا جديدا في عجز بلدان الخليج عن تدبير المتغيرات التي تعرفها المنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل ستة أعوام، سواء على صعيد السيرورات التي أفرزتها هذه الثورات، لا سيما منذ 2013، أو على صعيد التعاطي مع القوى الكبرى والإقليمية الساعية إلى التحكم في هذه الأحداث وتوجيهها بما يخدم أجنداتها.
تدل معظم المؤشرات على أن هذه الأزمة تصب في مصلحة إيران أولا وأخيرا، خصوصا في ضوء ميزان القوى الحالي الذي يميل لصالح المحور الروسي الإيراني في المنطقة، وفشل القوى العربية الكبرى (تحديدا السعودية) في تعديل هذا الميزان لصالحها في سورية والعراق واليمن، على الرغم من الدعم العسكري واللوجستي الكبير الذي قدمته لحلفائها في هذه البلدان.
تنبئنا أبجديات الفكر الاستراتيجي أن ما لا تحصل عليه الدول بالحرب يمكن أن تحصل على كله أو بعضه بالسياسة والدبلوماسية والمناورة، وهو ما لا تدركه، على ما يبدو، البلدان العربية المتخوفة من تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، فمنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، جرّبت هذه البلدان كل الوصفات من أجل وقف الامتدادات المذهبية والطائفية والاستراتيجية لهذه الثورة، لكن من دون جدوى، فعوض أن يعرف تراجعا، ازداد نفوذ طهران تمدّدا، وازدادت معه النخب الإيرانية إصرارا على اللعب بأكثر من ورقة، في مواجهة جيرانها العرب، من خلال إنهاكهم في أكثر من بؤرة توتر، في وقتٍ يضيق فيه هامش الحركة أمامهم، بسبب غياب استراتيجية متكاملة وفاعلة لديهم، تأخذ بالاعتبار تبدلات القوة والنفوذ في المنطقة والعالم.
مؤسفٌ أن تتحول مشكلة الإرهاب إلى مصدر تَستخلص منه القوى الإقليمية عوائد سياسية توظفها لخدمة أجنداتها المتباينة، فالإصرار على الزج ببعض التنظيمات والحركات في خانة الإرهاب تصريفٌ لموقفٍ سياسي غير مدروس، فكيف نجيز اعتبار حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، على الرغم من الاختلاف الفكري والإيديولوجي معها، حركة إرهابية، وهي التي لم تتعدَّ، في كل ما قامت به من عمليات عسكرية ضد الكيان الصهيوني، حدودَ فلسطين المحتلة (التاريخية). وكيف نتجاهل أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر بقدر ما هي جزء من المشكلة المصرية بقدر ما هي أيضا جزء من حلها، على الرغم من إصرار نظام السيسي على إنكار هذه الحقيقة. ثم ماذا تعني هذه الصعوبة البالغة التي واجهت القوات العراقية في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل، ألا يعني ذلك بوضوح أن قوى عربية مركزية تعمل جاهدةً للحيلولة دون القضاء نهائيا على التنظيم، حتى يظل ورقةً تناوش بها إيران المتغلغلة في مفاصل الدولة العراقية.
من ناحية أخرى، يمثل الموقف الأميركي مؤشرا على المآلات المحتملة لهذه الأزمة، وهو موقفٌ ينزع، على ما يبدو، إلى التوازن، فقبل صدور بيان وزارة الدفاع الأميركية الذي أكدت فيه امتنانها لقطر لدعمها الوجود العسكري الأميركي بها، خمن كثيرون أن إقدام السعودية والإمارات والبحرين على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، جاء بعد تلقيها ضوءا أخضر من إدارة دونالد ترامب، على اعتبار أن السعودية، ربما، كانت تنتظر عوائد سياسية سريعة لمليارات الدولارات التي ضختها في الخزانة الأميركية بعد زيارة ترامب للمنطقة أخيرا. لكن هذا البيان كان بمثابة رسالة لكل أطراف الأزمة، لأنه تضمن تحذيرا مضمرا للبلدان الثلاثة بعدم الانجرار وراء ردود أفعال غير محسوبة، ومكلفة إقليميا، ثم جاء إعلان البيت الأبيض أن الولايات المتحدة ترغب في تسوية الأزمة وفق المبادئ التي أعلنها الرئيس ترامب فيما يخص القضاء على تمويل الإرهاب؛ إعلان فيه نوع من التوازن الذي يترجم مخاوفَ الإدارة الأميركية من أن يؤدي توتر العلاقات بين بلدان الخليج إلى خدمة أجندة إيران التي من مصلحتها تحويلُ اهتمام الولايات المتحدة والنظام الدولي عن سياساتها التوسعية في اتجاه أزمة دولية جديدة، ربما تتطلب وقتا لحلها، وهو وقتٌ سيستثمره، بالتأكيد، نظام الملالي لترتيب أولوياته في العراق وسورية واليمن ولبنان.
تعي طهران جيدا أن زيارة ترامب للشرق الأوسط أخيرا حملت رسائل كثيرة موجهة إليها. لذلك، تعمل على توظيف هذا التصدع المفاجئ في البيت الخليجي واستخلاص عوائده السياسية. فمن مصلحتها أن يستمر هذا التصدع ويفرز تفاعلاته على المدى البعيد، لا سيما مع هرولةٍ غير مبررةٍ من دول عربية لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، ما سيؤثر، بالطبع، على المنطقة برمتها.
بدأت، أخيراً، المعركة النهائية للسيطرة على مدينة الرقة، عاصمة «دولة الخلافة» في سوريا. ويبدو من أحدث الأخبار، أنها مسألة أيام أو أسابيع قليلة قبل إعلان انتهاء الاحتلال الداعشي لها. فهناك أخبار تتحدث عن حصول اتفاق لانسحاب قوات داعش بلا قتال باتجاه البادية السورية جنوباً، بينها وبين «قوات سوريا الديمقراطية» التي تقود الهجوم على المدينة. وهذا ليس بالأمر المستبعد بالنظر إلى سوابق أخرى أخلت فيها داعش مواقعها حين تيقنت من الهزيمة المحتومة.
وعلى رغم ذلك يواصل طيران «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة قصفه التدميري للمدينة وجوارها المباشر مخلفاً مئات القتلى من المدنيين، منهم من كانوا في طريقهم إلى النزوح. سواء تعلق الأمر بالإدارة الأمريكية، أو بالقوات البرية المهاجمة، فكلاهما يسعى إلى «كسب معركة شرسة» حتى لو كان داعش في طريقه إلى الانسحاب بلا قتال. فكلما كبرت المعركة إعلامياً، ارتفع مردودها السياسي الذي هو بيت القصيد لدى كل الأطراف المتحاربة.
ويسعى النظام الكيماوي، أي إيران، إلى الحصول على حصته من «وليمة» الرقة الدموية، من خلال اندفاع ميليشياته لاستلام مدينة مسكنة من داعش على الطريق إلى مدينة الرقة. من المستبعد، في الشروط المنظورة، أن تسمح واشنطن بتقدم هذه القوات عميقاً باتجاه الرقة، وهي التي لم تتردد في ضربها، مرتين، في معركة أخرى، بعيدة جغرافياً، قرب معبر التنف الحدودي. فالواضح أن الأمريكيين قد رسموا حدود منطقة نفوذهم التي لن يسمحوا للإيرانيين وتابعه الكيماوي بالاقتراب منها. أما النظام ومشغِّلوه فما زالوا يحاولون اختبار الأمريكيين هنا وعينهم على دير الزور أكثر مما على الرقة نفسها. فما زال النظام يحتل قسماً من مدينة دير الزور، ويبدو أنه سيتمسك بوجوده هناك طمعاً في شراكة مع الأمريكيين في تحريرها من داعش، ما دام الغموض الأمريكي سارياً بصدد خططها بشأن تلك المدينة.
غير أن الوجه السياسي لمعركة الرقة يكاد يطغى على وجهها العسكري، ويتمحور حول السؤال الحارق: من سيسيطر على المدينة ويدير شؤونها بعد طرد داعش منها؟
المؤسف، من زاوية النظر السورية، أن تشتعل هذه المعركة بأدوات التنافر القومي ـ العرقي، في الوقت الذي لا تحسب فيه القوى المقررة أي حساب للسوريين أو لأهالي الرقة تحديداً. ففي الوقت الذي تسعى فيه قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» (الكردي) إلى توسيع رقعة سيطرتها الميدانية والقيام بالدور المطلوب منها أمريكياً في «محاربة الإرهاب» على أفضل وجه، طمعاً في تحالف استراتيجي مع الدولة العظمى الوحيدة، يتذمر رأي عام عربي معارض للنظام من هذا الدور الكردي، معترضاً على «احتلال كردي» محتمل للمدينة «العربية» إذا وافق الأمريكيون على ذلك. اعتراضاً أكثر حدة من معارضته لاحتلال داعش طوال السنوات السابقة، مع كل الفظائع التي ارتكبها هذا الأخير بحق الأهالي، فقط لأن «المحتل» الجديد المحتمل كردي لا عربي.
والحال أن الأمريكيين أكثر براغماتية من أن يتركوا إدارة المدينة ذات الغالبية العربية لقوات كردية، مهما بلغ اعتمادهم الميداني عليها، وبصرف النظر عن رؤاهم بعيدة المدى بشأن مستقبل الكيان السوري أو مستقبل علاقتهم مع المكون الكردي. ففي حسابات الأمريكيين بشأن الحروب الدائرة في سوريا، يحسب حساب للحساسيات التركية أكثر مما للحساسيات الأهلية في الرقة وغيرها من المناطق الشمالية القريبة من الحدود التركية.
ومن هذا المنظور يتوقع أن يعتمد الأمريكيون على إدارة مختلطة لمدينة الرقة بعد تحريرها من داعش، يغلب عليها المكون الأهلي العربي. فهذا مطلب تركي أيضاً إضافة إلى أن من شأنه نزع فتيل نزاعات محتملة بين العرب والكرد لا يريدها الأمريكيون. وتلوح في أفق الرقة فرصة حقيقية لتكون منطقة محررة ومحمية معاً من هجمات الطيران الأسدي أو الروسي، بخلاف ما كانت عليه الحال إبان تحريرها من النظام وقبل احتلالها من داعش. ومن المحتمل أن يتعمم نموذج الرقة هذا في المناطق الخاضعة للنفوذ الأمريكي بصورة عامة. هذا يعني نصف مساحة سوريا تقريباً. هل هذا جيد؟
يتوقف التقييم على زاوية النظر. فمن زاوية النظر الوطنية يبدو هذا تقسيماً فعلياً للأرض، وليس على أساس عرقي كما قد يعتبر البعض، بين مناطق نفوذ إحداها أمريكية. في حين تتوزع المناطق الأخرى بين الروس والأتراك والإيرانيين (ما لم تقرر أمريكا طرد هؤلاء الأخيرين من كل سوريا). ولن تكون الرقة ضمن منطقة النفوذ التركية التي قد تشمل، في مرحلة لاحقة، محافظة إدلب كما يتردد، بما في ذلك منطقة عفرين الكردية.
أما من زاوية نظر تعذر الوصول إلى حل سياسي مقبول ـ وهو ما يبدو حالياً وفي الأمد المنظور ـ واستمرار النزيف السوري بشراً وعمراناً، فقد يبدو تحرير الرقة تطوراً إيجابياً بوصفه تخفيفاً لآلام جزء من السوريين وتمكينهم من استعادة شيء من شروط الحياة الطبيعية.
ومن زاوية نظر موازين القوى في الصراع الدائر في سوريا، سيكون لتحرير الرقة أثر إيجابي على تعديل التوازنات القائمة لغير مصلحة الإيرانيين والروس وتابعهم السوري، من غير أن يصب بالمقابل في مصلحة تركيا. وميدانياً سيكون الرابح الأكبر هو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وإذا تخلى الحزب المذكور عن ممارساته المشينة حيثما سيطرت قواته، سواء بحق الكرد أو العرب من السكان، فسيكون الفوز بمعركة الرقة لمصلحة القضية الكردية أيضاً. وإن كانت صفحة سوابقه لا تبشر بتحول مماثل.
تناثرت أخبار عن خلافات وانقسامات حادة داخل جسم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» السورية إثر اتخاذ «الهيئة السياسية» فيه قرارها بإنهاء عضوية كتلة «الأركان» (15 عضواً)، من الهيئة العامة للائتلاف، باعتبار أن هذه الكتلة لا تمثل الكيانات العسكرية الفاعلة، أو لا توجد كيانات عسكرية حقيقية تمثلها، مقرنة ذلك بمطالبتها الفصائل المسلحة الفاعلة في الميدان بانتداب أسماء شخصيات بديلة لتمثيلها في الهيئة العامة.
هذه الخطوة الضرورية، والتي أتت متأخّرة، كشفت عشوائية بنية الائتلاف، وضعف تمثيل الأطراف المكوّنه له، وتثير التساؤل عن أسباب وجود هكذا مكوّن، والأطراف التي دفعت لاحتلاله عضوية الائتلاف، بل وعضوية هيئته السياسية، في المراحل الماضية، على حساب مكونات سياسية أو عسكرية أو مدنية فاعلة. كما يطرح ذلك السؤال عن أسباب تأخر إصدار مثل هذه القرار الصائب، لمدة عامين، وعن الآثار السلبية التي أحاطت وجود هكذا مكونات في الائتلاف، إن على خطاباته، أو على بنيته، أو علاقاته بشعبه وارتهاناته لهذا الطرف الخارجي أو ذاك، فضلاً عن تكلفة ذلك من الأموال التي هدرت، بسبب وجود أعضاء خارج اطار الشرعية الموجبة لوجودهم أو لتفرغهم داخل الائتلاف، بل وتسلمهم مناصب ومهمات غاية في الأهمية.
من تجربتي، كنائب لرئيس الائتلاف، أعتقد أن هذا الكيان تأثّر سلباً بوجود مثل هذه الكتل التي لا تمثل إلا نفسها، ومصالح الأشخاص الذين تتمحور حولهم، بحيث بات الائتلاف بوجودهم مجرد كيان مغلق ومعزول، بدل أن يكون كياناً سياسياً جامعاً، ومفتوحاً لكل السوريين. أيضاً، هذا الوضع يدفع إلى طرح التساؤل عن طبيعة بقية الكتل، ومدى أهليتها التمثيلية والكفاحية، ولا سيما كتلة «المجالس المحلية»، التي تبين أن لا صلة لها بالمجالس المحلية في المناطق السورية، لا سيما مع مطالبة هذه المجالس بتغيير مندوبيها إلى الائتلاف، عبر أكثر من كتاب، في حين تم تجاهل هذه الطلبات لخمسة أعوام متتالية، لحسابات انتخابية ضيقة، وبحكم هيمنة أصحاب هذا المكون على مكونات أخرى في الائتلاف.
هكذا لقي قرار الهيئة السياسية المذكور ارتياحاً مشوباً بالحذر، باعتباره خطوة غير مكتملة، يفترض أن تتبعها إجراءات أخرى تعيد من جديد آلية تركيب بنية الائتلاف على أساس تمثيلي وحقيقي، إذ يأتي معبّراً عن إرادة السوريين أنفسهم. وقد عبرت قطاعات واسعة من المعارضة عن رأيها في عمل الائتلاف وإعادة هيكلته، وبضرورة أن تقترن خطوة انتخاب رياض سيف، المعارض السوري المعروف لرئاسته، بخطوات إصلاحية جادة. وكانت مجموعة «العمل الوطني الديموقراطي» التي أسسها عدد من المعارضين السوريين، ومنهم من كان انسحب من عضوية الائتلاف وقيادته بسبب تردي أحواله وهيمنة فئة معينة عليه، بعثت رسالة عبرت فيها عن تأييدها للخطوات الإصلاحية وطالبت القيادة الجديدة بالاستمرار في هذا المسار لإنقاذ الائتلاف من كبواته العديدة واستعادته المشروع الوطني ليكون حاملاً له كإطار جامع لكل السوريين، يقودهم لتحقيق التغيير السياسي في سورية لاقامة الدولة الديموقراطية المنشودة.
وما ذهبت إليه مجموعة «العمل الوطني الديموقراطي» في رسالتها: «أن ازمة العمل الوطني السوري بلغت حداً يتطلّب تدخلاً واسعاً، وفعالاً، من مختلف الأوساط السورية، التي استبعدت منذ تأسيس المجلس الوطني، ثم الائتلاف، عن أية مشاركة وطنية منظمة وفاعلة، في رسم سياساتهما وممارسة أعمالهما، داخل وطننا وخارجه». وحددت المجموعة عدداً من المطالب لتطوير عمل الائتلاف «قبل أن يواجه مصيراً يشبه مصير ما سبقه من كيانات كالمجلس الوطني» الذي أصبح مجرد اسم غائب عن أي فعل سياسي أو حضور ثوري، ويمكن تلخيصها في الآتي:
أولاً: إعطاء الاولوية في أي عمل لسياسات مركزها وحاملها بناء وضع ذاتي يمكن الثورة من استعادة زمام المبادرة، وإلزام المتصارعين الخارجيين بأهداف وحقوق السوريين. وبديهي أن ذلك يتطلب إعادة هيكلة الائتلاف وتوسيعه وتفعيل دوره، واستعادة خطاباته الأساسية الملتزمة التزاماً مطلقاً ثورة الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ليكون حقاً ممثلاً لمعظم السوريين، ولتطلعاتهم، وقيادة لهم، علماً بأن فترة البناء ليست مفتوحة، ومن الضروري أن تفيد من الصراعات والتناقضات، التي حالت دون انفراد أي طرف خارجي أو أكثر بوطننا، أو بحل يستطيع فرضه علينا.
ثانياً: بينت السنوات الماضية أن سياسات وعلاقات وقيادات الائتلاف حالت دون بناء أوضاع تخدم الثورة وتفيد من زخمها الهائل لأن مسار الأعوام الماضية أكد أن الامتناع، لأي سبب، عن تصحيح مسارات العمل الوطني وأولوياته لم ينتج غير نكسات متعاقبة، فلا أقل من اغتنام الفرصة والتعاون بصورة منهجية ودائمة مع جميع الأوساط السورية المؤمنة بثورة الحرية، وبناء وضع ثوري ذاتي يستطيع حشد قدرات الشعب والإفادة منها، ويبلور أطراً ومؤسسات تنظيمية قادرة على تصحيح مسارات العمل الوطني.
ثالثاً: نؤكد ضرورة إخراج أية جماعات أو كيانات لا صفة تمثيلية ولا دور نضالياً لها، وفتح عضوية الائتلاف أمام جميع الشخصيات والكيانات الوطنية والفاعلة، التي تضم كفاءات تتمتع بالتجربة والخبرة، وجرى استبعادها في الفترة الماضية. وندعو أيضاً إلى القضاء على النزعات الشللية والتكتلية، وإعادة النظر في آليات عمل الائتلاف، غير المهنية والتي عفا عليها الزمن، ليشتغل كجسم متكامل الوظائف، وليس كتجمعات أو جماعات مغلقة لا هم لها غير الانتخابات والألاعيب التي تضمن فوزها فيها.
رابعاً: نطالب قيادة الائتلاف ببناء دوائر متخصصة تشرف على أعماله ومؤسساته، بما فيها الحكومة المؤقتة وهيئات الإغاثة والإعلام، والصلات مع الجاليات، وغيرها، وتكليف شخصيات كفوءة ومجربة ونزيهة داخل وخارج سورية بإدارتها، سواء كانت من الائتلاف أم من خارجه.
وختمت المجموعة مطالبها بضرورة دعوة قيادة الائتلاف إلى ترتيب ندوات ولقاءات تمهد لعقد مؤتمر أو لقاء وطني يراجع التجربة الماضية، ويحدد ثغراتها، ويحاسب المسؤولين عنها، وذلك ليتمكن هذا الكيان من استعادة فاعليته ودوره الوطني الذي كاد أن يغيب وسط أخبار الفساد وتخبط خطاباته السياسية وارتهاناته للقوى الخارجية. فهل ينهض الائتلاف بوجود رياض سيف من كبوته الأخيرة لينهض المشروع الوطني؟! هذا هو السؤال الذي تتطلع أوساط المعارضة، والسوريون عموماً، لمعرفة الإجابة عليه.
تراجع الاهتمام بالتطورات الميدانية السورية في الأيام الماضية، على رغم أنها تشهد ذروة جديدة في التصعيد، وفي الصراع على بلاد الشام، وتنافساً مفصلياً على تموضع قوى خارجية فيها.
من الطبيعي أن تغطي أنباء الزلزال الديبلوماسي السياسي الناجم عن الأزمة غير المسبوقة بين دول الخليج ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، وبين قطر نتيجة تغريدها خارج السرب الخليجي في أزمات الإقليم، ومنها سورية، بل إن الخلاف العربي مع قطر يشمل سلوكها في ساحات تلك الأزمات. والسعودية في سردها وقائع الخلاف مع القيادة القطرية، تناولت «احتضان جماعات إرهابية وطائفية متعددة تستهدف ضرب الاستقرار في المنطقة، ومنها جماعة الإخوان المسلمين و «داعش» و «القاعدة» والترويج لأدبياتها... ودعم نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران في محافظة القطيف ومملكة البحرين...».
ما لم يذكره المصدر المسؤول في الرياض، في لائحة «نكث السلطات في الدوحة بتعهداتها» منذ عام 1995، هو امتداد الخلاف إلى الميدان السوري، فقطر اختطت لنفسها سلوكاً منفصلاً عن الرياض ودولة الإمارات في أحيان كثيرة في الميدان السوري، على رغم أن الجامع المشترك هو دعم المعارضة منذ اندلاع الأزمة السورية. وحين أخذت الأزمة منحاها العسكري بفعل جموح نظام بشار الأسد نحو قمع الاحتجاجات السلمية بالتنكيل والقتل والتدمير، ترجمت الدوحة طريقتها بالتمدد، عبر خيوطها مع قوى مصنفة إرهابية، منها «جبهة النصرة» التي تحولت «فتح الشام» (وقيل في حينها إن الدوحة كانت وراء تغيير الاسم لتجنيب الفرع السوري لـ «القاعدة» العقوبات) وباتت ميليشيات سورية أخرى قريبة من «النصرة»، والخيط الرابط تمويلها القطري.
لكن هذه التشكيلات العسكرية خاضت جولات من التقاتل في ما بينها، وسقط من مقاتليها بمقدار ما سقط لها ضد القوات الأسدية والميليشيات الحليفة، من إيرانية وعراقية وأفغانية... في سياق التنافس على الإمساك بالمناطق الخارجة عن النظام، ما ساهم في إضعافها.
مرّ الانخراط القطري في الأزمة السورية بفترات شهدت تنسيقاً مع الدول الخليجية الداعمة للمعارضة، لكنه مرّ أيضاً بفترات شهدت تباعداً وتناقضاً مع الحلفاء الخليجيين المفترضين، فبدا أحياناً أن التقاتل بين القوى العسكرية المعارضة للنظام هو انعكاس للخلاف بين «الحلفاء». والنتيجة الموضوعية كانت إضعاف قوى المعارضة، وتعميق إخضاع الدعم الذي تتلقاه للأجندات الخارجية التي أدخلتها في متاهات سهلت بعض هزائمها، فبات تشتتها حجة لدول غربية كي تحجب عنها الدعم، ما سهل صعود «داعش» والمتطرفين.
بصرف النظر عن تفاصيل انعكاسات ذلك، فإن آخر فصول التفرد القطري في سورية كان صفقة الإفراج عن الـ 26 قطرياً الذين اختطفوا في العراق على يد «حزب الله» العراقي، وبعضهم من الأسرة الحاكمة، مقابل الإفراج عن مقاتلين لـ «حزب الله» وعراقيين وإيرانيين، وإخلاء بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين مقابل إجلاء بلدتي الزبداني ومضايا اللتين حاصرهما «حزب الله» والنظام. التفاوض الأساس في الصفقة كان مع «حزب الله» اللبناني ثم تشعب، فانتهت الصفقة بدفع مئات ملايين الدولارات مولت الأخير وميليشيات عراقية وأخرى مدعومة إيرانياً، و «النصرة» و «أحرار الشام» على السواء.
للدور القطري انعكاس آخر في سورية: أنتج اتصالات بين «حزب الله» وبعض التشكيلات الإسلامية السنّية، لبعضها أصول «إخوانية» متصلة بالدوحة، بحجة صوغ اتفاقات جديدة لإخلاء قرى في منطقة القلمون، بهدف تحييد مناطق عن القتال، لأن هم الحزب التفرغ لانتزاع السيطرة على معابر من العراق إلى سورية (التنف والبوكمال)، حيث يدعم الأميركيون سيطرة قوات قاموا بتدريبها. والهدف مواجهة السياسة الأميركية الجديدة بقطع طريق التواصل بين طهران وسورية عبر العراق، تطبيقاً لمطلب دونالد ترامب انسحاب إيران والحزب من سورية. وهو ما يطرحه قادة الخليج. وهدف إيران والحزب أيضاً مواجهة المعارضة في درعا، للحؤول دون تمددها بدعم أميركي وأردني.
رفعَ ذلك احتمالات الاحتكاك بين واشنطن وموسكو التي تدعم محاولات النظام و «حزب الله» طرد المعارضة من درعا، بقصف مدمر وكثيف من الطيران الروسي. ويتلمس بعض السوريين المتابعين للتواصل بين «حزب الله» وإيران وتنظيمات سورية على صلة بقطر، مشروعاً لقيام تعاون إيراني- قطري- تنضم إليه تركيا، بحكم خلافها مع الإدارة الأميركية على إعطاء الأكراد دوراً رئيساً في معركة الرقة، وبفعل تقاربها مع الدوحة وتوافقها مع طهران في وجه الدور الكردي. فهل يتعزز هذا الاحتمال بموازاة تعاون الدول الثلاث لمساعدة الدوحة على مواجهة أزمة الحصار الخليجي؟ وهل تستفيد موسكو من هذا التلاقي لمواصلة الحرب بالواسطة مع واشنطن، في الجنوب السوري؟
كل هذا قد يطرح على بعض المعارضة السورية تحدي الاختيار.
كان ضمن الإجراءات التي اتخذها الرئيس دونالد ترمب عند بداية توليه مهام منصبه رئيسا للولايات المتحدة، رفع القيود التي وضعها سلفه الرئيس باراك أوباما على إعداد وتنفيذ وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الاستراتيجيات الخاصة بالعراق وسوريا في إطار الحرب على الإرهاب. جاء الترحيب برفع القيود جزئيا لأن وزير الدفاع الأميركي الجديد جيمس ماتيس يملك معرفة عميقة بحقيقة الأوضاع في العراق وبالوضع الجيوسياسي للمنطقة بصفة عامة. ومنذ رفع القيود، تمكن الجيش الأميركي، وبتحفيز من الجنرال ماتيس، من مساعدة الجيش العراقي الوطني على تعزيز حملة إزاحة تنظيم داعش عن الموصل. ربما تستغرق هذه الحملة عدة أسابيع مقبلة لتحقق الانتصار، وإن كانت قد نجحت بالفعل في أن تنفي زعم أن «داعش» كيان محصن ولا يهزم. ودائما ما ينظر «داعش» إلى مدينة الرقة السورية التي سيطر عليها لسنوات، على أنها الملاذ الآمن الذي يمكن التقهقر إليه في حال تراجع عن الموصل العراقية في مواجهة أعدائه الكثيرين في المنطقة.
ربما هذا هو السبب في أن الجيش الأميركي قرر تقديم الموعد الذي حدده لبداية عملية تحرير الرقة من تنظيم داعش.
وفي هذا السياق، يجب أن ننظر إلى عمليات الأسبوع الماضي التي جرت شرق الرقة والتي خاضتها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، بوصفها وابلا من قذائف الحملة الأخيرة لطرد «داعش» من المعقل الذي اتخذه عاصمة لـ«دولة خلافته». وتهدف تلك العمليات الاستكشافية إلى تحقيق هدفين: الأول، تمهيد الطريق لهجوم كاسح على مدينة الرقة ربما بحلول شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. الثاني هو إجبار «الخليفة» على استدعاء أفضل وحداته القتالية التي تقاتل في الموصل لكي تدافع عن عاصمته، وهو تطور من شأنه التسريع بنهاية المعركة في ثالثة كبرى المدن العراقية من حيث عدد السكان.
عسكريا، تبدو الأمور على ما يرام في الرقة والموصل، فتنظيم داعش لم يعد قادرا على اجتذاب المتطرفين بالوتيرة نفسها التي كنا نراها العام الماضي، بالإضافة إلى أنه فقد كثيرا من مصادر الدخل، خصوصا منذ أن قررت تركيا عدم غض الطرف عن السوق السوداء الخاصة بتجارة النفط والسلاح التي يديرها «الخليفة». وفي هذا السياق، فإن أعداء «داعش»، خصوصا الموجودين على أرض المعركة، قد تعافوا من الصدمة النفسية الناتجة عن مواجهة خصم لا يعرف حدودا في وحشيته. وفي جميع أنحاء المنطقة واستنادا إلى حالة الإجماع التي تكونت، فتنظيم داعش ليس بمنظمة إرهابية بمعناها التقليدي، ولا هو ذلك الكيان الانتهازي القادر على كتابة تاريخ المنطقة على مدى ألفي عام مقبلة، بل هو عدو للجنس البشري، عدو يقف وحيدا متفردا بوحشية من طراز خاص. الأهم هو أن «داعش» فقد قدرا كبيرا من التأييد الشعبي الذي تمتع به في البداية بين الساخطين والمذعورين من السنّة العرب في المناطق السورية - العراقية التي كانت تعرف باسم «الجزيرة». بمعنى آخر، هناك أسباب موضوعية لتتمنى أن يقترب كابوس «داعش» من نهايته. ولذلك ورغم أن هذا قد يبدو سابقا لأوانه، فعلينا الآن أن نواجه السؤال الصعب المتعلق بمرحلة ما بعد «داعش» في سوريا والعراق، وهذا الأمر لا نستطيع أن نتركه للوزير ماتيس أو للجيش بصفة عامة... فالقتال كان دوما جزءا صغيرا وإن كان مصيريا في أي حرب، لكن ما من حرب يمكن الانتصار فيها باعتلاء القمة في العمليات العسكرية فقط. فالقول المأثور الذي قاله كلاوتزفيتر عن أن الحرب استكمال للسياسة، هو حقيقة واضحة اليوم كما كانت منذ فجر التاريخ عندما اكتشف الإنسان رعب الحرب، أو الذي ربما يسميه البعض «جمال الحرب». فمهمة السياسة هي ترجمة ما أسفرت عنه الحرب إلى حقيقة على الأرض، لكن الولايات المتحدة تجاهلت هذه الحقيقة في ظل حكم الرئيس جورج بوش الذي أصيب بدوار نتيجة الانتصار السريع والسهل الذي حققه على أرض المعركة أمام صدام حسين في العراق، وهو ما أدى إلى مرحلة الجهود السياسية لما بعد الحرب التي يحتاجها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
فكثير من المشكلات التي واجهها العراق في مرحلة ما بعد التحرير ربما يكون بسبب ذلك الخطأ الذي حدث في البداية. واليوم، فإن الانتصار في الحرب في الموصل والرقة لم يعد حلما بعيد المنال، فربما تصبح حقيقة أسرع مما نتخيل. لكن إن لم يكن هناك فهم صحيح لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في المستقبل في العراق وسوريا، رغم اختلاف الحال في الدولتين، فإن البلدين يشتركان في كثير من النقاط، ونخشى تكرار ما فعله الرئيس بوش عام 2003. وفي هذا السياق، فالدول الراغبة في المنطقة لاعتبارات أمنها القومي أو لطموحات، عليها الإجابة عن بعض الأسئلة: هل نريد الاحتفاظ بسوريا والعراق متماسكين كدولتين ذواتي شعوب بالحدود نفسها التي رسمت لهما عقب الحرب العالمية الأولى؟ كيف لنا أن نتماشى مع الشهية الكردية ورغبتها في الاستقلال، وهي الشهية التي أثارتها الولايات المتحدة مقابل تضحيات عظيمة يقدمها الأكراد في الحرب على «داعش»؟
وماذا عن طموح تركيا في عمل انهيارات جليدية داخل العراق وسوريا بزعم حماية نفسها من هجمات «الإرهاب» الكردي؟ دعونا لا ننس خطة روسيا الواضحة لضمان وجود عسكري دائم على سواحل سوريا على البحر المتوسط؟
ولكل هذه الأسباب، علينا أن نضيف تصميم إيران على حماية «ممرها» إلى لبنان والبحر المتوسط، وهو الهدف الذي أنفقت من أجله ملايين الدولارات وقدمت آلاف الضحايا.
الأهم هو نمط مشاركة السلطة الذي من الممكن أن يساعد الأغلبية السورية السنية على بناء دولة المستقبل، وفي الوقت نفسه تفسح فيه المجال للأقليات، ومنهم العلويون؟ وفي العراق، ما الترتيبات التي يمكنها أن تساعد الدولة التي يسطر عليها الشيعة على تعزيز الانتماء للسنة العرب وأيضا للأقليات الكردية؟
لن يستطيع الجنرال ماتيس ولا أي من الغرباء على المنطقة الإجابة عن هذه الأسئلة وحدهم رغم الدور الكبير الذي تلعبه الدول الكبرى. يجب أن تأتي الإجابة من القيادة السياسية بجميع مستوياتها، سواء في الحكومة أو المعارضة، في سوريا والعراق.
والآن، لا أرى ما يدل على أن قادة سوريا والعراق يتطلعون أو يملكون القدرة على الإجابة عن تلك الأسئلة.
مما لا شك فيه أن الشعب هو منبع كل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان ، و أن الشعب هو أساس كل تحرك يهدف الى تغيير نظام حكم اضطهده و سلب حقوقه و حاربه بلقمة عيشه ، و لا ريب أن الشعب هو المحرك و المولِّد لكل انتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب استبدادي تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير.
و من هنا من هذا الشعب تولد الثورات، تبدأ بحدثٍ صغير يكون تلك “القشة التي تقصم ظهر البعير” و لا يلبث أن يتحول الحدث الى شرارة يشتعل بها أتون الغضب و الحقد على من استبد و ظلم و تحكم ، و لا تلبث هذه النيران المتقدة بالقلوب و العقول ، المتولدة من جحيم المعاناة و التعب و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة .. يحوطها الشعب و يرعاها ..يؤيدها و يكلؤها بعين رعايته ، يأمن لها أسباب العيش و الاستمرار و يوفر لها الحضن الدافئ و الحامي ..
هي الثورة السورية كما كل الثورات على مر التاريخ ، ولدت من رحم الشعب، و خرجت من خاصرته بما رافق هذا الخروج من الم و مكابدة و صبر، لتنتفض ضد نظام استبد بوطن ما يزيد على خمسة عقود ، نظام استبد و قتل و أجرم و سرق و نهب، هي ثورة فطرية عفوية بدأت بكتابات أطفال على جدران مدارسهم لتستعر كما النار بالهشيم و تنتقل من جدران مدرسة لتغدو على مساحة كل شبر بأرض الوطن، ثورة بدأت سلمية و استمرت كذلك ما وسعها الأمر.
و بفطرتها السليمة كذلك و عفويتها بدأت بالتحول للعسكرة لتدافع عن نفسها ضد بطش لم يُشْهد له نظير بالتاريخ، حملت السلاح لتطبق معايير كل الديانات السماوية و الأعراف الإنسانية بحق رد الظلم و حفظ النفس، و بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور ، فظهر الجيش الحر الذي كان ابن ثورة الشعب البكر ، يحمل خصائصه و تفاصيله ، يحوي أطيافه و اثنياته ، و يرفع راية استقلاله عن المستعمر ، لا يتميز فيه ثائر عن ثائر الا بالخلق و الشجاعة و الاقدام و ما يحمله من فكر و حرية ، ليظهر بعده تشكيلات مختلفة و فصائل متعددة و رايات متباينة ، كل منها له هدف و يقوده منهج و يحركه فكر ، منها المعتدل و الإسلامي و المتطرف و المغالي بالتطرف.
تحولت الثورة للعسكرة، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الأهداف و الوجود و الموارد ، و لم تنسَ هذه الفصائل بطبيعة الحال أهم سبب من أسباب قوتها و اهم مصدر من مصادر شرعيتها ، و أقوى محرض على استمراريتها و هو الشعب .. تلك الحاضنة الاجتماعية الأساس و المركز ، فسعت التشكيلات و الفصائل إلى كسب ودها و استقطابها كل منهم على حساب الفصائل و التشكيلات الأخرى، و كما تعددت مشارب و أهداف هذه الفصائل فقد تعددت أساليبهم بجذب هذه الحاضنة الشعبية تجاههم ، فمنهم حاورها و اندمج بها و اعانها قدر استطاعته، و منهم من تكبر عليها و أهملها و منهم من حاول سوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب، و منهم من ظن انه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها ، و مارس أغلبهم البراغماتية المحضة بداية بالتزلف لنيل رضاها و التقرب منها، ثم اظهر وجهه القبيح بأهدافه المناطقية أو الشخصية او الأيدولوجية، فلفظته الحاضنة الشعبية التي عولت عليه و عول عليها .. لينتهي التشكيل او يضمحل او يتقوقع على نفسه برأس جبل او بطن وادي.
ولعل تغير سياسات بعض الفصائل التي ظنت نفسها وصية على لقمة الشعب والأرض التي خرجت عن سيطرت الأسد، جعلتها في مواجهة حتمية مع هذا الشعب المعذب، فكررت سيناريوهات التعدي على الفصائل بتهم تسوقها منها "الفساد والردة والتعامل" فجعلتها حجة للهيمنة والتسلط، وتقوية النفوذ، فمارست ما ليس في صالحها، إذ انها اقتحمت ارضاً محررة بالأرتال، وأطلقت النار على شعب رافض لعملها، واعتقلت كل من صرخ في وجها " لا "، فأنهت وجود الكثير من الفصائل، مدعومة بفتاوى شرعييها الذين أحلوا الدماء والعدوان، فتضاءلت شعبيتها، وظنت نفسها في قوة، إلا أنها تخط طريقها للسقوط، والالتحاق بركب من سبقها، ليبقى الشعب هو السلطة العليا وهو سيد الأرض.
فالثورة السورية ثورة مُمحِصةٌ كاشفة، و الحاضنة الشعبية تحوي بوعيها الجمعي حضارة عمرها آلاف السنين ، و الشعب الذي أطلق هذه الثورة “بمشيئة الله” قادر على أن يميز الخبيث من الطيب، و أن يفرق بين الغث و السمين، و لكنه شعب كَهلْ صقلته التجارب و السنون ، يعطي الفرصة لمن يطلبها ، و يتمهل بالحكم ليرى النتائج ، و لكنه لا يصبر على ضيم ، و لن يستبدل مستبد بمستبد .. فليعي من يتطلع ليلي أمره بالسلاح او بالسياسة .. ان يحقق طموحات هذا الشعب و ان يلامس ألمه و ان يثبت عزمه على تحقيق أمله .. فبهذا يستمر و بهذا يحوز رضاه و بهذا يمتلك قلوب و عقول “الحاضنة الشعبية”
“ألقينا القبض على "محمد خشان - مهند الشحنة" واللذين قاما بقتل "أحمد حسني الترك" وستتم إحالتهم للقضاء، وبذلك نعلن عن توقف عملية ملاحقة الخلايا المفسدة داخل معرة النعمان جنوبي إدلب ……” ، بهذه الجملة أنهت هيئة تحرير الشام ، يومها الدامي في معرة النعمان ، بعد أن سطت على كامل المدينة ، بما فيها من مقرات للفرقة ١٣ ،التي كانت الهدف الحقيقي ، ولكن “فورة دم” القيادي عجلت بالأمر.
من الجيد أن يكون لك ولد ، يتمتع بمكانة عالية في هيئة كـ”هيئة تحرير الشام” ، لتثور ثائرته و يسوق الجحافل باتجاه من قتله ، ويأخذ بالثأر من مدينة بأكملها، لمجرد وجود متهم فيها ، وحتى ولو لم يثبت الدليل ، فأنت قيادي و من النوع الأمني ، في فصيل جهادي يحمل سطوة دينية ، ونصرة “إلهية” لا مرد له إلا مشايخه الموافقين على كل شيء عدا أن يظهروك بأنك مخطئ.
هذا الولد الوفي لأبيه ، رغم خلافه الدائم حول عمل والده في تجارة " ما يضر بالبشر "، نجح في إيجاد وسادة مريحة لينام هانئاً رغيداً ، بعد أن احتل مدينة بأكملها و أرعب أهلها ، و قتل من كانوا من المدافعين عنها ، وأصاب من المدنيين من أصاب ، وأرعب من الأطفال من أرعب ، فلا أهمية لتلك الترهات ، فالولد بحاجة لبر أبيه ، في مرحلة ما بعد الموت.
فورة الغضب استمرت لبضع ساعات ، مع أرتال من السلاح (كان يقال أنه نذير و قليل) ، فالقائم هو مسؤول رفيع المستوى ، يجلس في أعلى هرم الاستبداد الجديد الذي يبنى على ركام استبداد الأسد، و ينشئ ذات الخلايا بمسميات رنانة ترعب و ترهب العباد بسيف “الظالم” ، فهم الممثلون للعدل و القائمين عليه ، وإن شاب عملهم خطأ ، فهنا للاجتهاد نصيب و يكتفي بـ”حسنة” واحدة بدلاً عن الحسنيين.
الفرقة ١٣ التي تعرضت لثالث الضربات من جبهة النصرة فـ”فتح الشام” و حاليا “هيئة تحرير الشام” ، ، يبدو أنها دخلت قائمة الفصائل التي عملت “النصرة” على إنهائها تماماً و السطو على سلاحها و استباحة أبطالها في سجونها أو جعلهم من المطرودين من الرحمة و فضلوا البقاء في بلدتهم.
لا حديث عن انهاء فصيل الآن ، و لكن الأهم هو سؤال ، لطالما العدل و المساواة في ديننا الحنيف هي الأساس ، فللطفل الذي قتل والده على يد “الثائرين” أمس ، حق في الثأر ، فلا تميز بين أمير و عبد ، أم هي حبر في كتب و كلام جاهلي لا يفقهه إلا المرتدين في مواجهة الغر الميامين.
أثمان باهظة، فاقت أي توقع أو تصور، دفعها ولا يزال يدفعها السوري، ونفق مظلم ومرعب دخل فيه الوضع في بلاده منذ سنوات، ولا ضوء يلوح في الأفق يضع حدا للمأساة المروعة، التي لم تزل تزداد فصولها وتتعاظم آثارها.
رغم ذلك ورغم ما يشاع على نطاق واسع من انتفاء السمة الثورية عن الحدث السوري، إلا أن هذا الأخير، المعلن مع ولادة التظاهرات السلمية التي خرج بها السوريون في مارس 2011 إنما يلبي من وجهة نظر هذه السطور كل المعايير النظرية الفلسفية والتاريخية، لاعتباره ثورة وفقا لكل قياس، بل ثورة عظيمة حوت انتصارها وتحققها الجوهري في لحظة اشتعالها الأولى.
لماذا؟
لأن الحدث السوري أصاب بآثاره وهزاته العنيفة كل المنطقة وربما العالم، ووضعهما أمام أسئلة صعبة، وتحديات ورهانات عديدة وجديدة، وقبل ذلك لأنه كان جذريا وكاشفا، عميقا وشاملا، أظهر وجه الاستبداد المركب الذي يخترق الوجود السوري، كشف جذوره الثقافية/المعرفية، وبنيته القروسطية المروعة، صرح عن المكبوت والمسكوت عنه في البنية السوسيولوجية السورية، وعرّى كل ما يجري فرضه قسرا، من مقولات الخطاب الرسمي للنظام السوري، عن المجتمع المتماهي المنسجم والمتفق على دور ورسالة وهوية عربية لذاته ولبلاده، النابذ لكل وعي طائفي أو مذهبي.
لقد غير هذا الحدث الهائل بآثاره وتداعياته، الشخصية السورية بشكل غير قابل للرجعة، وغير معها الحقل الاجتماعي السياسي الذي تتفاعل فيه بشكل عنيف وغير مسبوق. وإذ لم يسقط الأسد سقوطا ماديا بعد، وحيث ألحق ولم يزل بسوريا ومجتمعها، أذى يصل حد الخرافة، إلا أن القول بأن الأسدية وتاريخها قد انتهيا إلى الأبد في سوريا، يبدو أمرا مشروعا وله ما يبرره، فالأسدية بوصفها نظاما لإنتاج الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، يتم بدلالتها وحدها، قد تعطلت تماما. لقد دخلت فواعل عديدة في عملية الإنتاج تلك، فواعل ليست منافسة للأسدية وخصائصها فقط وإنما معادية تماما، فبالإضافة إلى القوى القائمة على تجربة مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي يشكل الكرد والعرب وبقية المكونات السورية نموذجا مجتمعيا جديدا واعدا، في علاقاته البينية، في قيمه ورهاناته، هذي التجربة التي فككت مؤسسات الاسدية التشريعية والتنفيذية والقضائية في مناطقها، وأرست الدعائم لمنظومة قانونية وتعليمية، ذات سقف أيديولوجي، متناقض جذريا مع ما شيدته سلطات الأسد في عموم البلاد خلال العقود الماضية، وبالإضافة إلى الآثار السياسية والاجتماعية والمعرفية التي طالت حقل القيمة والوعي الاجتماعي السياسي السوري، بعد سيطرة الفصائل الإسلامية المتشددة على مساحات شاسعة من سوريا، حازت المواقع المعارضة للنظام نفوذا مهما في إنتاج وعي سياسي وإرساء ثقافة معادية للأسدية، صارت لها سطوتها وحضورها بين ملايين اللاجئين والنازحين السوريين، الذين عاشوا قهرا استثنائيا وخبروا كافة أشكال العذابات التي مارسها النظام ضدهم، أثناء الحرب الشاملة التي شنها بشار الأسد على السوريين طوال الأعوام الست الماضية.
ليس ذلك فقط، بل إن الاسدية التي كانت فاعلة في محيطها الإقليمي، تتصارع على النفوذ والهيمنة خارج حدودها، كما في حالة لبنان، أصبحت الآن هشة وهامشية إلى حد بعيد، بل مخترقة حتى العمق من الخارج، تتسابق على تركتها وسلطتها ومناطق نفوذها مجالات إقليمية ودولية، حتى أنها فقدت هيبتها داخل مساحات نفوذها الاجتماعي بالذات، وبدأت تظهر إلى العلن مليشيات غير منضبطة تعمل لمصالحها الأضيق، كانت حتى وقت قريب محسوبة على بيئة النظام الحاضنة وتابعة له. والأسدية التي لم يخيل لأحد قبل مارس 2011 أن تتحدد بأفق زمني منظور ينهيها وينهي هيمنتها الشاملة على كل أشكال الحياة في سوريا، أمست الآن، تكافح جاهدة كي تكون مشاركة في مستقبل بلادها بشكل ما، فهذا أفضل سيناريو ترجوه وتعمل من اجل تحقيقه. وبعد أن كان مصير البلاد والأسدية فقط بيديها. تغير ذلك تماما الآن، فلا مصير البلاد ولا مصيرها هي ذاتها بيديها.
في المحصلة ألا يعني، فقدان الاسدية لأبرز خصائصها، فقدانها لهيبتها وتغولها وشموليتها المهيمنة على سوريا، وعلى أنظمة إنتاج الوعي وأشكال الدمج الهوياتي والمجتمعي فيها، ثم تلاشي نفوذ سياساتها خارج حدود سوريا، وفقدانها دورها المحوري بتحولها من موقع الفاعل في الصراع على الشرق الوسط إلى موقع هامشي عنوانه التصارع على تركتها وعلى سوريا، مرتهنة لفواعل خارجية تتحكم بمصيرها المادي الذي بات محددا بنهاية لم تعد بعيدة، ألا يعني ذلك كله أنها انتهت؟
تدرك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن عملية تفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة تحتاج لما هو أكثر من التكتيكات العادية التي جرى العمل بها خلال السنوات الماضية، من قبل الحلفاء، والتي اتخذت في الغالب طابعاً دفاعياً في مواجهة الهجوم الإيراني الشامل على كل المحاور.
ولا يمكن حصر محاربة النفوذ الإيراني عبر إغلاق طريق أو طرق إمداد لوجستية برية بين سورية والعراق، على رغم أهمية مثل هذا الأمر، ذلك أن إيران صنعت على مدار السنوات الست السابقة بنية عسكرية وأمنية متكاملة، واختبرت طرقاً وأساليب كثيرة للتعامل مع التطورات الطارئة، بما فيها إيجاد بدائل لنقل الأسلحة من إيران عبر إنشاء مصانع في أجزاء من الأراضي السورية للصواريخ الإيرانية، في حماة والقلمون، كما أنها أغرقت الساحة السورية بميليشيات أجنبية وميليشيات صنعتها محلياً لدرجة لم تعد معها بحاجة إلى تغذية قواتها بمزيد من العناصر في المدى القريب، مع إدراكها أن طريق بغداد- دمشق لن يبقى مغلقاً إلى آجال بعيدة.
التقدير أن هذه المعطيات لم تفت صناع الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران، وبخاصة أن جميعهم تعاطى عن كثب مع الذهنية الإيرانية وأساليب عملها من خلال التجربة العراقية، بالإضافة إلى وجود متغير مهم يتمثل بالعامل الروسي الذي يندمج مع الوجود الإيراني بحكم التنسيق المشترك والضرورة العملانية، وهو ما يستدعي التفكير بطريقة محتلفة وإستراتيجية عملية لتفكيك النفوذ الإيراني وتعطيل مفاعيله في سورية.
وعلى رغم عدم إعلان الإدارة الأميركية عن إستراتيجيتها في هذا الخصوص، إلا أن ملامح هذه الإستراتيجية تكشف احتواءها مكونين أساسيين: الخطوات الصغيرة، وفصل إيران عن روسيا.
وحتى اللحظة، نفذت أميركا العديد من الخطوات الصغيرة، منها قطع الطرق بين العراق وإيران، وضرب ميليشيات إيرانية في البادية السورية، وكان قد سبقهما ضرب إسرائيل مطار دمشق الدولي بصفته خط إمداد لوجستي إضافي، والواضح أن هذه الضربات والإجراءات، بالإضافة إلى مفعولها العسكري، فهي تهدف إلى إدراج الحضور الأميركي في الفضاء السوري، إذ يصبح أحد معطيات المشهد، ومن جهة أخرى يتيح لأميركا استكمال البنية اللازمة لإنفاذ إستراتيجيتها، سواء من خلال بناء المراكز والقواعد، أو تجهيز القوات المحلية الرديفة التي ستلقى على عاتقها مهمات السيطرة على الأرض.
بالإضافة إلى ذلك، تشكّل الخطوات الصغيرة إجراءً واقعياً للطرف الأميركي الغائب سنوات طويلة عن الميدان السوري، وفي الوقت ذاته لا يزال في طور اختبار الأرض والحلفاء المحليين والإقليميين وتفحّص الإمكانات في مواجهة أطراف رسخت وجودها عبر فترة زمنية مديدة.
أما بالنسبة إلى عملية فصل إيران عن روسيا، فالواضح أن الإدارة الأميركية صنعت سياقاً متكاملاً في هذا الاتجاه، من خلال نزع مبررات الوجود الإيراني في سورية عن قضية محاربة الإرهاب، وبخاصة بعد أن تم وضع إيران في الميزان ذاته الذي يتم فيه قياس «داعش» و «النصرة» وحساب نتائج وتداعيات أفعالهما على أمن المنطقة واستقرارها.
والمفارقة أن روسيا، ومن دون قصد، أفسحت المجال للإدارة الأميركية للعبور إلى نقطة المطالبة بإخراج إيران من الساحة السورية، بعد الهدنة التي توصّلت إليها بين قوات الأسد وفصائل المعارضة، ثم اتفاق المناطق الآمنة، وهو ما جعل الوجود الإيراني محل تساؤل وبخاصة أن إيران وميليشياتها لم يسبق لها قتال «داعش» الذي من المفترض، ووفق اتفاقات الهدنة في سورية، أن تتكفل قوات الأسد والمعارضة بقتاله.
أما روسيا فاستنفدت كل مبررات دفاعها عن الوجود الإيراني، وبخاصة أنه يعتمد بدرجة كبيرة على مكونات ميليشياوية يصعب تبرير انخراطها في الحرب السورية في ظل توجّه دولي يدعو إلى استعادة سيادة الدول في الإقليم، بمواجهة الفاعلين الآخرين من ميليشيات وفصائل، بل يعتبر هذه المكونات أحد أهم أسباب استمرار الأزمة، والمنطق ذاته ينطبق على فصائل المعارضة السورية التي سيكون مطلوباً منها التوحّد في إطار هيكلية جديدة لتهيئتها للاندماج ضمن هيكلية أوسع في إطار الحل السياسي المنشود.
لا شك في أن روسيا تواجه تطورات غير محسوبة في سورية، فهي لا تستطيع ولا تريد التخلي عن إيران، لأن ذلك سيرفع أكلاف وجودها في سورية، وهو ما لا تحتمله، على الأقل قبل أن يتم القضاء على كل ممكنات الثورة السورية وإخضاعها وإعادة بناء البنية الأمنية والعسكرية للنظام، وهذا يحتاج لسنوات.
بيد أن أميركا بنت قضية متكاملة لإخراج إيران وعزلها عن سورية وعن المنطقة، وتشتمل عناصر هذه القضية على أمن الحلفاء في الأردن وإسرائيل والخليج، ومستلزمات التوصل إلى حل في سورية، والقضاء على «داعش»، وتقليم أظافر الميليشيات الشيعية، وإنجاز هذه الأهداف لتحقيق حل واقعي لأزمة المنطقة بات يستلزم حكماً إخراج إيران وتوابعها من المنطقة.
يستدعي نجاح الخطة الأميركية توفر عاملين مهمين: الجدية والاستمرارية، ذلك أن روسيا ستحاول قدر استطاعتها إفشال المخطط الأميركي ما لم تظهر إدارة ترامب أنها جادة في قرارها إخراج إيران من اللعبة، كما أن إيران ستراهن على نزق أميركا وتعبها، وهنا يأتي دور حلفاء أميركا في المنطقة الذين عليهم الانخراط ضمن الجهود الأميركية وانتهاز فرصة التخلص من التهديد الإيراني.
في ذكرى مرور خمسين عاماً على «نكسة» العام 1967، ما زال هناك العديد من الأسئلة حول سلسلة «الأخطاء» التي ارتكبها وزير الدفاع السوري حافظ الأسد، خلال حرب الأيام الستة التي انتهت بهزيمة عربية شاملة وخسارة الجولان وسيناء وما تبقى من فلسطين. ويعتقد كثيرون أن تصرفاته لم تكن «عفوية» تسببت بها المباغتة الإسرائيلية، بل حصلت بناء لنوايا مبيتة وقرارات واعية، وكان الهدف منها إعلان فشل النظام العربي «السنّي» في مواجهة إسرائيل، والتمهيد لقيام نظام طائفي جديد في سورية مثلته «الحركة التصحيحية» التي قادها بعد ثلاث سنوات.
ويستند هذا الاتهام ليس فقط الى تبيان ما فعله الأسد خلال الحرب، بل خصوصاً الى السياسة التي تبناها خلال حكمه على مدى ثلاثين عاماً، ثم تواصلت مع وريثه بشار، وقامت على تسيّد طائفة بعينها في سورية وإمساكها بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي، وإقامة ما يشبه «تحالف الأقليات» في مواجهة الغالبية السنية، ومهادنة إسرائيل، ليخلصوا الى أن سلوكه خلال حرب الأيام الستة كان وليد سياسة متعمدة ذات خلفية طائفية عميقة تصرف في هديها.
وقد يرى آخرون في تقاعس حافظ الأسد عن مواجهة الجيش الأردني في 1970، دليلاً مضاداً لادعاء مناوءته للنظام السني العربي، لكن يبدو أن الديكتاتور الراحل رأى في منظمة التحرير الفلسطينية والتأييد الشعبي العربي المتصاعد لها، «خطراً أكبر» على مشروعه، وخشي من أن يؤدي نجاحها في الأردن الى تمددها نحو سورية المهيأة أكثر لاحتضانها. علماً أن تصرفه إزاء المنظمة لم يلغ عداوته لنظام الملك حسين الذي كان بين أوائل من استشرفوا خططه.
اقتنص الأسد بسرعة فرصة عرض السادات عليه فكرة حرب تشرين 1973، على رغم معرفته بأن الجيش السوري الذي أجرى تغييرات واسعة في أركانه بعد انقلابه، ليس مهيأً لخوضها. وعلى أي حال لم تكن نتيجة الحرب هي الأكثر أهمية بالنسبة اليه، بل الأهم أن يكون شارك في حرب بقيادته مع إسرائيل، بما يضمن له صفة «الزعيم الوطني»، ويساعده في إكمال الإجهاز على أي معارضة داخلية، والتفرغ لمهمة إخضاع سورية بالكامل، ولاحقاً لبنان، وابتزاز الدول العربية البعيدة من خط المواجهة.
لا أحد عرف آنذاك كيف نجا بأفعاله، ولماذا كوفئ وزير دفاع مهزوم بدل مساءلته وإقصائه، لكن السر يكمن على ما يبدو في قرار اتخذته «غرفة سوداء» ما، بتشجيع السوريين العلويين على الانضمام بكثافة الى حزب «البعث» والجيش منذ بداية ستينات القرن الماضي، ما ضمن له تأييداً في صفوفهما، أوصله لاحقاً الى السلطة.
وبالطبع، لم يشذ الأسد الابن عن نهج والده وتعليماته في الحفاظ على النظام العلوي بكل ما أوتي من وسائل، فأمعن في عدائه للغالبية العربية، وسارع الى الارتماء في حضن إيران، وانتقم من رموز الطائفة السنية في لبنان الذي سلمه الى «حزب الله»، قبل أن يباشر أطول وأشرس حرب إلغاء للشعب السوري، استعان خلالها على مواطنيه، ولا يزال، بميليشيات من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، واستقدم الجيش الروسي، وأغرى تركيا بالتدخل، وشجع بعنفه اللامحدود على ظهور التطرف وانتشاره.
حافظ الأسد شارك في صنع هزيمة سورية في 1967، قبل أن يحولها ذريعة لإرساء نظام قائم على القهر والاستبداد والتمدد، ونجله بشار تسلم «الأمانة» وتفانى في تنفيذها.