مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ يونيو ٢٠١٧
سورية إلى أين؟ السوريون إلى أين؟

لم يعد السؤال الملحّ اليوم سورية إلى أين؟ وفقط، فثمة سؤال آخر: السوريون إلى أين؟ وهو سؤال يطرح نفسه، بعد أن أغلقت في وجه السوريين كل المعابر، ورفعت الأسوار حولهم، حتى في بلاد اللجوء، فهم محاصرون، إما تحت قنابل النظام أو تحت رحمة قوانين جائرة في دولة احتلال (إسرائيل) أو دول الجوار، أو تحديد إجراءات الإقامة والسفر وتقييدها في دول اللجوء.

لا يعني السؤال أين يجب أن يذهب السوريون، تحت عنوان متابعة سياسة النظام في تهجير من تبقى منهم داخل سورية، أو بقاء الذين ينتظرون في المناطق الحدودية الساخنة حيث هم، وإنما المقصود الحديث عن سورية المستقبل، وسيناريوهات الحل المنتظر من المجتمع الدولي الذي صار يخيّرنا بين التقسيم أو التقاسم، بين أن نكون تحت النفوذ الإيراني أو الروسي، بين الإبقاء على روسيا، بمشاركة كل قوى العالم في سورية، مقابل خروج إيران والإبقاء على نظام الأسد، بين استمرار موتنا بيد النظام وفي معتقلاته، وتحت براميله العشوائية والغبية، أو موتنا تحت قصف الطائرات الأكثر تطوراً وتقنية وتصويباً وذكاءً؟

بالفعل، عن أي سوريين نتحدث؟ هل عن الذين يفضلون الموت تحت أنقاض بيوتهم، أو الذين يلوذون في مناطق تحت سيطرة النظام، ويعيشون ظروفاً اقتصادية قاسية، أم عن المشرّدين بين عابر للحدود، أو الذين يحاولون الاندماج بمجتمعاتهم الجديدة التي لن تستطيع أن تتقبلهم بالمرونة نفسها التي تتحدث بها تلك المجتمعات عن حقوق الإنسان وحق اللجوء.

في المختصر، نحن نتحدث عن سوريين تنقصهم حقوق المواطنة في كل شيء، وفي أي مكان، في سورية داخل مناطق النظام، وتحت حكم "المعارضة"، وفي خارج سورية في دول عربية، أو غربية، في ظل قوانين اللجوء، أو الحماية المؤقتة أو الإقامة وقتاً محدّداً.
إذاً، ووفقاً لما سبق، يدخل الحديث عن سورية الواحدة والشعب السوري الواحد اليوم في مأزق، أو في التباسات، عند الاعتراف بالواقع، فالبلد بات مقسماً على أساس جغرافي وديمغرافي، بين سورية النظام وسورية المعارضة، وسورية القوات الديمقراطية "الكردية" وسورية مناطق جبهة النصرة وتنظيم داعش، وهناك سورية التي، على ما يبدو، نسيها السوريون في ظل انقساماتهم، وترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما فيها من سوريين رفضوا الهوية الإسرائيلية، وتشبثوا بسوريتهم التي يرونها تضيع ضمن كل هذه السوريات المنقسمة جغرافياً وديمغرافياً، إذ سورية كل السوريين غائبة حتى الآن.

سورية التي نشأت حسب خريطة سايكس بيكو، والتي انطلقت الثورة فيها عام 2011 ، والتي نادى القوميون العرب بشعاراتهم "التسويقية" بكسر حواجز حدودها مع الدول العربية، حالمين بالوطن العربي الواحد، بينما نادى "المتطرّفون من المتأسلمين" الذين جاءوا ليمتطوا الثورة، لإقامة دولتهم التي لا تعترف بحدود سورية أساساً، ولا بالسوريين شعباً واحداً، ولا بمشروع ثورتهم لإقامة دولة المواطنة، دولة مواطنين أحرار متساوين.

هذا المشروع الوطني وفق الرؤية الديمقراطية، والتي أعادت الأمل لسوريي الجولان بأن تعود قضيتهم إلى الواجهة، وأن تعود سورية إليهم، سورية هذه البديل لسورية الأسد، حيث استمر النظام بحكم سورية بطريقة استبدادية أمنية متغولة على حياة المواطنين المحرومين من أبسط حقوقهم.

هذه سورية التي سأل عنها أهلنا في الجولان في ندوة نظمها صالون الجولان (التابع لمركز حرمون)، في مدينة مجدل شمس، وحضرها نخبة من المثقفين السوريين والشخصيات الوطنية في الجولان، وشارك فيها لأول مرة شخصياتٌ من المعارضة السورية في الخارج، بمناسبة الزيارة الأولى للكاتب ماجد كيالي إلى فلسطين، بلده التي يراها بعد أكثر من ستين عاماً على حلم اللقاء، والتي بدأها من بلد المولد سورية، من أرضها المحتلة الجولان، وأنهاها منها تأكيداً على انتمائه الكامل لكلا البلدين، سورية وفلسطين، حيث قال: "نمت ليلتي الأولى في هذه الرحلة في مجدل شمس في الجولان السورية، وأختم ليلتي الأخيرة منها، أنا الفلسطيني السوري أو السوري ـ الفلسطيني، سيان، فقد تصالحت هويتي الفلسطينية مع هويتي السورية، في الكفاح من أجل الحرية والمساواة، إذ قضية فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة أيضاً".

حظيت بشرف المشاركة في الندوة، إضافة إلى الأصدقاء ميشيل كيلو وحازم نهار وزكريا السقال، من مجموعة العمل الوطني الديمقراطي، وكانت هذه التجربة سابقة فريدة من نوعها، أبدى فيها المشاركون من الجولان ترحيباً وتكريماً عرفوا به دوماً، كما عرفوا بروحهم الوطنية وانتمائهم القومي. طرحت في الندوة، أسئلة عديدة، ضمنها السؤال عن مصير الجولان المحتلة، مؤكدين رفضهم مشاريع التقسيم، سيما أن هذه المشاريع تصب في خانة إسرائيل التي ستكرّس اغتصابها الجولان، كما أنها ستصب في خانة إضعاف سورية وتقسيم شعبها.

طوال الفترة الماضية، تركت المعارضة السورية الجولان، وأهل الجولان، على الرغم من الحاجة إلى التواصل، وللتأكيد على أننا شعب واحد، واقترح أن ندوات كهذه ضرورية ومطلوبة. لذا هذه تحية لمن عمل على إقامة صالون الجولان، وهي ملاحظة للمعارضة لتلافي النقص في هذا الأمر. كما هي تحية لأهلنا الأعزاء في الجولان المحتل، المتمسكين بسوريتهم وهويتها، على الرغم من ظروف الاحتلال القاسية، بينما يعمل النظام بسياسة التهجير التي يتبعها، لسحبها من كل من طالب بالحرية والكرامة ودولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة ديمقراطية مدنية.

اقرأ المزيد
٤ يونيو ٢٠١٧
نحو أبرتايد عالمي (1-2)

كشفت الحرب، بل الحروب، الجارية على الأرض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الأزمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين، أو بالأحرى غربيتين، سمّيتا عالميتين، أنهتا عصر الحروب القاريّة، وكرّستا، في الوقت نفسه، السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الستة، أو السبعة الماضية، تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطوّرت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها، بعد أن لم يكن يُحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي، المجسّد بمنظومة الأمم المتحدة، على نفسه كما كان.

وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.

ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟

قران القومية والرأسمالية
كانت القومية والرأسمالية اللتان ازدهرتا في القرنين التاسع عشر والعشرين أكبر قوتين وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الإنسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم الحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما، لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.

وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.

أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.

والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.

والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات الأنانية القومية، والاستهتار بمصير الدول والأمم الأخرى ومستقبلها، فبمقدار ما عمّقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه أمتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطفٍ أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جرّدتهم من أي إحساسٍ بالمصائب التي تواجهها، أو المساعدة على حلها، وبرّرت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والأخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها.

وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.

أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.

الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات، وفي كل الميادين. ولم يحصل أن وجد قبله عالم عرف مستوىً من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنىً عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزةٌ، واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود، واستمر سعي الأمم كل لإنقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي، ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والأرباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت، منذ قرنين، ولا تزال تقف ضد أي مشروع إنساني جماعي، يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوّض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والرأسمالي الهيمنة الدولية أو تحول القومية والرأسمالية إلى إمبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.

اقرأ المزيد
٤ يونيو ٢٠١٧
إدلبيون قابضون على الجمر (3)

سافر الإدلبيون كثيراً وتغربوا عن بلدهم بحثاً عن رزقهم؛ حاولوا إيجاد فرصاً جديدة تنهي عهد الاستبعاد والتهميش الذي فرضه نظام الأسد على مدى خمسين عاماً. خسر الكثير منهم فرص عمل ثمينة على الرغم من مؤهلاتهم العلمية وإتقانهم المهني وقدرتهم على تحمّل ساعاتٍ طويلةٍ من العمل، ذهب كلّ ذلك أدراج الرياح لتهمةِ بقرابةٍ أو صداقةِ أو علاقةٍ تربطهم بمطلوبين على خلفية ثورة الثمانينات.

مضت عقودٌ وهم على هذه الحالة، ليعود أكثرهم اليوم إلى بيوتهم وديارهم بعد تحريرها من عصابات الأسد، وتحوَلت إدلب لعاصمةٍ ثوريةٍ تجمع في أزقتها وبلداتها ضيوفاً هُجّروا إليها قسرا من المحافظات الأخرى، فترى الحارة الواحدة تجمع الحمصي والشرقي ابن البادية مع الدمشقي والحوراني ابن الجنوب، إضافة للجيران القادمين من حلب وحماة والساحل لتختلط فيها العائلات، وتشكّل بانوراما اجتماعيةً سوريةً ملونةً بكلّ العادات والتقاليد.

جاء إليها أهل حمص الذين كسبوا في بيئتهم طيب المعشر من طيب المناخ، فهم أهل الطيبة والكرم و ملاحة الطباع وجمال الشكل وعذب الحديث وتفوق الدراسة إضافةً للهجة المحببة، حتى أنّ طيب معشرهم جعلهم مضرب المثل لما يتمتّعون به من روح النكتة الطريفة والمرح الخفيف، ومعروفٌ عن أهل حمص نسجهم للطرائف التي تنتشر في عموم سوريا وبلاد الجوار.

كما فتح الإدلبيون بيوتهم وقلوبهم للمهجَرين من أهل الشام؛ الذين وصفهم الحجاج بقوله: “لايغرنّك صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلّا والتَاج على رأسه”.

كذلك هجّرت داعش الثوار من مناطق سيطرتها، ليجتمعوا جميعاً في المحافظة الخضراء، جاؤوا بمهنهم وأعمالهم وأصرّ الكثير منهم على ممارسة أعمالهم وحرفهم على أرض هذه المحافظة، ليشكّلوا مع أهلها مزيجاً متكاملاً، ويرمَموا النقص الّذي تعرضت البلدات له نتيجة القصف والقتل وتدمير البنية التحتية للمحافظة، بينما شعر البعض بالغربة، وفضّلوا الانسحاب للحدود التركية السورية، ومنهم من عبر الحدود تاركاً البلاد وما فيها بعد أن خسر كلّ شيء.

اختلطت المهن في الأسواق، واندمج الأطفال في الأزقة والحارات، كما اندمج المقاتلون على الجبهات، وكذلك النساء في جلساتهن الخاصة وينتج عن ذلك اندماج التجارب والعادات والأعراف، كما يتبادلن صنع الأكلات والمعجنات.

تكاد فرص العمل أن تكون قليلة إلا أنّ حُبّ البقاء جمع كلّ هؤلاء ليشكّلوا درعاً مقاوماً لنظام الأسد والميليشيات الأجنبية المقاتلة معه، ودرعاً منيعاً في وجه الانفصاليين الأكراد في الشمال، فتمنع تمددهم وسيطرتهم على أراض عربية جديدة.

يحرص الجميع على البقاء في إدلب رغم كلّ الدمار والفقر والتهديدات الداخلية والخارجية ورغم سياسة التضييق، وإغلاق الحدود ورغم تجفيف موارد الإغاثة القادمة من الشمال، لأن ضريبة الانسحاب أكبر بكثير من ضريبة البقاء والمحافظة على هذه البقعة الجغرافية من الاحتلال.

اقرأ المزيد
٤ يونيو ٢٠١٧
إيران نحو حدود العراق السورية

حكومة إيران لديها هدف واضح هو خلق واقع يناسبها على الأرض يفرض نفسه عند تقرير مصير سوريا، ويوسع دورها في العراق، لاحقاً. باتجاه هذا الهدف تقود الميليشيات العراقية، وغيرها التي أسستها، وأخرى لها نفوذ عليها في العراق، باتجاه سوريا، لتخوض معارك كبيرة للسيطرة على المعابر والممر البري إلى دمشق والمناطق الحيوية. هذا يعني أن الصراع سيطول لسنين أخرى، حيث ستدفع الدول الإقليمية إلى دعم جماعات مضادة، وسيعيد إنتاج «داعش» من جديد، وإفشال الحرب على الإرهاب.

في إدارة مشروعه يستخدم نظام طهران ذرائع مختلفة لتبرير مشروعه، أبرزها محاربة التنظيمات الإرهابية، وأنه سيقوم بحراسة حدود العراق، في حين أنه يقوم برسم مناطق سيطرته والتحكم في معابر الحدود مع سوريا، ويحاول فرض وجوده على معظم الثلاثمائة كيلومتر، ثم العبور بالميليشيات العراقية إلى أراضي سوريا.

وكان فيلق القدس الإيراني قد دخل سوريا لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار في البداية تحت ذريعة حماية المزارات الدينية الشيعية. والآن يبني وجوده العسكري بحجة محاربة «داعش»، لكن في الحقيقة له مشروع طويل الأمد، وهو الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان.
الحضور العسكري الإيراني على الأرض سيتمدد في حالة التوتر، وزيادة التطرف الطائفي في البلدين، وبالتأكيد إفشال مشروع التحالف بالقضاء على «داعش» الإرهابي، لأن التنظيم بوجود ممارسات الحشد الشعبي الطائفية سيجعل المناطق السنية تؤسس جماعات مضادة.

الاتجاه نحو الحدود يطرح جملة أسئلة حول جدية الحملة الدولية لمحاربة «داعش»، وسيفتح جبهات معارك مع المسلحين الأكراد الذين يمر الحشد بمناطقهم، ويجعل عبور تنظيم مسلح عراقي إلى دولة أخرى هي سوريا محل مساءلة قانونية، كما يحدث للقوات التركية في العراق.

إيران تحاول فرض أمر واقع على القوى الدولية، بما في ذلك حليفتها روسيا، بعد أن اشتمت رائحة تبدل جزئي في موقفها. وقد نسب للجانب الروسي قوله إنه مضطر إلى التعامل في المرحلة الحالية مع إيران وميليشياتها الأجنبية، لأنها موجودة على الأرض، وهذا ما تحاول طهران التأكيد عليه بنقل آلاف من المقاتلين العراقيين وغيرهم إلى شمال العراق والعبور إلى سوريا.

إيران بتحركاتها ستمزق العراق، وتزيد سوريا تمزيقا، وترفع من مخاطر الإرهاب المستفيد من الفوضى وصراع المحاور المتعددة. ولا يعقل أن تسعى الأطراف المعنية بالبحث عن حل سياسي في آستانة أو جنيف وتترك القيادات العسكرية الإيرانية تقوم بتخريب الوضع وإفشال الجهود الدولية. وهذا يتطلب تكثيف الضغط على إيران، ووضعها أمام ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب جميعا.

اقرأ المزيد
٤ يونيو ٢٠١٧
المفتي العربي… صوت الدين أم سوط الحاكم؟

بما أن الأنظمة العربية، وخاصة الجمهوريات أو الجملكيات، أممت كل شيء، وأخضعت كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والحزبية والأهلية والاقتصادية والتربوية والفنية والفكرية للأمن السياسي، فلا عجب أن تقوم بإخضاع المؤسسة الدينية لسلطانها، بحيث تصبح تلك المؤسسة مجرد خادم ذليل لدى الحاكم ونظامه. لطالما سمعنا في الماضي عن وعاظ السلاطين، ولا ضير في ذلك، لكن التغول الأمني داخل المؤسسة الدينية في عصر الديكتاتوريات العربية تجاوز مرحلة وعاظ السلاطين بأشواط طويلة.

لقد غدت مؤسسة الإفتاء في العديد من الدول العربية أشبه بفروع المخابرات، وغدا العاملون فيها مجرد عناصر أمنية آخر ما يهمهم نشر الدين الحنيف وتوعية الناس أخلاقياً وروحياً. لقد أصبحوا بوقاً مفضوحاً للأجهزة الأمنية، وخاصة في بلد كسوريا، حيث يصعب التمييز بين الخطاب الأمني والإعلامي الرديء للنظام وبين خطاب المؤسسة الدينية، لا بل إن خطباء المساجد، وخاصة خطيب الجامع الأموي الشهير في دمشق، يزايد على فضائيات النظام التعبوية في خطبه الرديئة، فقد وصل به الأمر إلى تمجيد الرئيس الروسي بوتين الذي تقتل طائراته السوريين ليل نهار، كما وصفه بأنه أحد الفاتحين، مع العلم أن وزير الدفاع الروسي اعترف بأن الطائرات الروسية شنت أكثر من سبعة وسبعين ألف غارة جوية على المدن والقرى السورية، ناهيك عن أن روسيا اعترفت على الملأ بأنها استخدمت أكثر من مئتي نوع من الأسلحة الجديدة على الأرض السورية، بحيث تلوثت الأجواء والأراضي السورية بالمواد المشعة لمئات السنين، مع ذلك لم يتورع خطيب الجامع الأموي عن الإطناب في تمجيد الروس. حتى وسائل إعلام النظام تخجل من تمجيد الجيش الروسي ورئيسه بنفس الطريقة التي مجده فيها مأمون رحمة.

لماذا أوغلت الديكتاتوريات في تسييس المؤسسة الدينية، وحولت وظيفة المفتي وخطباء الجوامع إلى مجرد أبواق أمنية مفضوحة؟ أليس من المخجل أن قرار تعيين مفتي الجمهورية والخطباء وطبقة رجال الدين المعتمدة من قبل قسم الأمن السياسي في المخابرات السورية؟ أليس من المضحك أن تصل خطبة الجمعة للخطباء من فروع الأمن في سوريا وغير سوريا طبعاً؟ هل يخطب مأمون رحمة وأمثاله من الخطباء العرب من رؤوسهم، أم مما وصله من فرع الأمن السياسي؟ لاحظوا أيضاً أن منصب مفتي الجمهورية يصدر بمرسوم رئاسي… هل رأيتم مدى أهميته التعبوية والدعائية بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية؟ لا عجب إذاً أن المفتي وشلته يلقون علينــا خطبــاً عن عدل سيدنا عمر بن الخطاب ،وفي نهـــاية الخطبة يدعون لحـاكم قاتل مجرم لص يسرق قوت الشـــعوب ويشردها ويقتلها بالملايين.

وبما أن وظيفة المفتي في الديكتاتوريات العسكرية وظيفة أمنية وسياسية بالدرجة الأولى، فإن كل نظام يختار المفتي الذي يعبر عن توجهاته ومنطلقاته السياسية والحزبية والعقائدية، فإذا كان النظام يدّعي العلمانية والانفلات الاجتماعي مثلاً كالنظام السوري، فيقوم بتعيين «مفتن» مستعد أن يمشي في الشارع عارياً بحجة أن لا إكراه في الدين، ومستعد أيضاً أن يحلل الخمر والفاحشة بحجة أن «لكم دينكم ولي دين». وقد شاهدناه ذات مرة وهو يتشدق أمام وفد أمريكي في دمشق بليبراليته الإسلامية الصارخة، حيث قال حرفياً: «لو طلب مني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن أكفر بالمسيحية أو اليهودية لكفرت بمحمد». وهي بلا شك رسائل سياسية من النظام للأمريكيين لا علاقة للمفتي الدجال بها أبداً، بل هو مجرد بوق يوصل رسائل سيده الدينية للغرب كي يرضى عنه ويعتبره متحرراً دينياً. ومعروف أنه كلما انقلب النظام على الدين لاقى تأييداً واحتضاناً غربياً أكثر. لهذا وضع على رأس المؤسسة الدينية مهرجين مستعدين أن يحللوا له كل شيء لإفراغ الدين من مضمونه وتوجيهه لخدمة الأهداف السياسية الدنيئة.

وإذا كان بعض الأنظمة العربية يريد أن يوهم الناس بأنه ملتزم جداً بالدين، وأن كل شيء في البلد يسير حسب التعاليم والقوانين الدينية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الاستماع إلى زقزقة العصافير بحجة أنها حرام. وإذا كان النظام يدّعي التعايش ومحاربة الطائفية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الحديث عن أي طائفة أو مذهب إسلامي آخر بحجة أن ذلك يثير الفتنة بين المذاهب والطوائف، مع العلم أن النظام نفسه يكون غارقاً في الطائفية والمذهبية حتى أذنيه، لهذا يتحجج بضرورة التعايش بين المذاهب والطوائف لا كي يسود الوئام بين الشعب، بل كي يحمي طائفته ونفسه من أتباع المذهب العام الذين يعاديهم في الباطن.
هل إذاً المفتي ورجال الدين في الديكتاتوريات العربية صوت الدين فعلاً، أم سوط المخابرات؟

اقرأ المزيد
٣ يونيو ٢٠١٧
بوتين بين القصر والمفوض

بعد عقود على رأس السياسة الروسية، لا يمكن لفلاديمير بوتين أن يكون شخصية غير معروفة القدرات والإمكانات على الأقل فيما يتعلق باهتمامات المختصين في السياسة الغربية. ومن أهم التساؤلات التي ينبغي عليهم طرحها يدور حول: إلى أي مدى ووفق أي قوة يمكن دفع السيد بوتين للالتزام بحدود السلوك المقبول لديهم.

فتحت زيارة بوتين القصيرة إلى فرنسا خلال هذا الأسبوع، وبالتحديد إلى قصر فرساي، المجال لطرح هذا التساؤل بطريقة أكثر هدوءاً وتعقلاً.

وحقيقة أن السيد بوتين تقبل الدعوة لزيارة موجزة من الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون عكست رغبة الزعيم الروسي المتقدة لمحاولة «إعادة» الدخول إلى ما يعرف بدائرة القوى العظمى العالمية. وبعد استبعاد روسيا من مجموعة دول الثماني، كان السيد بوتين شديد الحرص على التقاط صورة «ما» تعكس ولو «ثُلمة» صغيرة في جدار العزلة الدولية المفروض عليه.

وبعد ذلك، كان من بين المواضيع التي طرحها السيد بوتين في قصر فرساي هو أمله في أن يعتبر المختصون الغربيون روسيا العصر الحاضر كما هي عليه، وليست كمثل ما كان الاتحاد السوفياتي البائد من قبل.

وكانت ذريعة زيارة قصر فرساي هي الذكرى الثلاثمائة لزيارة بطرس الأكبر القيصر الروسي الخامس ومؤسس روسيا الحديثة إلى فرنسا. وكان القيصر بطرس هو مؤسس ما يسمى المدرسة «التغريبية» الفكرية - اعتناق الثقافة الغربية، وهي من مدارس الفكر القومي الروسي والتي يدور طرح مثقفيها حول اعتبار أن روسيا جزء من القارة الأوروبية، وأنه ينبغي عليها تحرير ذاتها من وحشية التراث الآسيوي العقيمة.

رغب القيصر بطرس الأكبر في أن تتبنى بلاده العلوم الحديثة، ونظم التعليم المتقدمة، والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بدعوة «البويار - أفراد النخبة الأرستقراطية الإقطاعية من نبلاء روسيا» إلى حلق لحاهم الكثيفة، ودعوة «الموزيك – الفلاحين والمزارعين الروس» إلى ارتداء الملابس الأوروبية التقليدية. وخلال مدة زيارته إلى فرنسا التي استغرقت 12 أسبوعاً، استأجر القيصر الروسي مجموعة من الفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين، من المعلمين، والمؤرخين، والفنانين، والمهندسين، والمعماريين، والإداريين لمرافقته إلى روسيا ومساعدته في تحويلها إلى أمة حديثة على غرار أوروبا وبلدانها. وكان مطلوباً من هؤلاء الموظفين أن يحولوا مدينة بتروغراد، والتي هي سان بطرسبرغ اليوم، إلى مدنية على الطراز الإيطالي، وإعادة تصميم العاصمة موسكو لتكون كمثل المدن الفرنسية الحديثة في ذلك الوقت.

عارض السلافيون جهود التغريب المحمومة التي كانت يقودها القيصر بطرس الأكبر في البلاد، وكان السلافيون يعتقدون أن لروسيا شخصيتها المميزة وروحها الأصيلة ومن ثم ينبغي عليها الوفاء بمصيرها الواضح من خلال توسيع الإمبراطورية الروسية ونشر نسختها الخاصة من الديانة المسيحية.

حاول السيد بوتين، خلال حياته المهنية في المضمار السياسي، أن يلعب على كلا الوترين، فلقد كان متطلعاً للغرب في بعض الأحيان، وسلافياً محضاً في أحيان أخرى. ولكن في قصر فرساي، كانت الإشادة المضطرمة بالقيصر بطرس الأكبر قولاً والتماهي مع الدور الغربي لسيد الكرملين فعلاً.

وكانت الرسالة الاستثنائية التي أراد بوتين أن يبعث بها تدور حول الفتوحات الروسية الأخيرة في كل من جورجيا وأوكرانيا، وأنه لا ينبغي على الغرب النظر إليها من زاوية محاولة أوسع لإعادة إحياء الإمبراطورية السوفياتية التي عفى عليها الزمن. وخلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي جمعه بالرئيس الفرنسي في قصر فرساي، تخلى السيد بوتين عن روتينه القومي المعتاد ووصف الغرض الأوْلى من مهام السياسة بمحاولة تحسين حياة الشعوب.
وكان غرضه هو طمأنة الفئات الوسطى من المجتمع الروسي والتي تأثرت للغاية جراء العقوبات الاقتصادية الدولية، وانخفاض أسعار النفط العالمية، والتدهور العام في الاقتصاد الروسي منذ عام 2012.

ثم حاول الرئيس الروسي تغيير مسار الحوار من خلال طرح قضايا مثل الأزمة السورية والأوكرانية باعتبارها من بعض البنود المدرجة على جدول الأعمال العالمي المثقل بكثير من المشاكل والأزمات. ولقد دندن حيناً ورقص حيناً حول تيمة مكافحة الإرهاب، وهي من التيمات التي يعلم جيداً أنها تجذب على الدوام المزيد من الانتباه في الغرب، ومن ثم تحدث عنها عارضاً المساعدة والتعاون الروسي الأكيد. ومن الواضح بجلاء حرص السيد بوتين على إظهار «إعادة» ربط روسيا بدوائر الدول العالمية الكبرى حتى ولو بالحد الأدنى من الوسائل على أقل تقدير، ثم تقبل بوتين على الفور اقتراح السيد ماكرون بإقامة مجموعة عمل مشتركة لوضع استراتيجيات مكافحة الإرهاب.

وإجمالاً للقول، كان بوتين الذي رأيناه في قصر فرساي هذا الأسبوع يبدو أقل تحدياً، وأكثر قابلية لخوض غمار اللعبة الدولية وفقاً لبعض قواعدها المتعارف عليها. ومن المؤكد، أن هذا لا يمكن أن يكون سوى موقف مؤقت متخذ في لحظة صعبة.

لقد وضع بوتين بلاده على مسار شديد الاضطراب. ولكن الهدف ينبغي أن يكون العودة بروسيا من هذا المسار المضطرب.
وإن كان السيد بوتين مستعداً لفتح نافذة جديدة من الفرص السانحة فلن يكون من الحكمة بحال أن نُغلق هذه النافذة في وجهه. غير أن هذا لا يعني دعوة الرجل إلى مائدة متنوعة من التنازلات تماماً كما صنع الرئيس باراك أوباما عبر سياسة «إعادة تعيين العلاقات» الطفولية.
كان السيد بوتين محقاً في إشارته إلى أن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفياتي السابق. حيث كان الاتحاد السوفياتي عدواً مباشراً للديمقراطيات الغربية، في حين أن روسيا اليوم في أسوأ حالاتها مع الغرب ليست إلا خصماً من الخصوم.

ووفقا إلى المصادر الفرنسية المطلعة، صدر عن السيد بوتين في قصر فرساي مجموعة من التلميحات المثيرة للحيرة. فعند حديثه عن سوريا عطف على ذكر الرئيس بشار الأسد، الدمية التي تتلاعب بها طهران وموسكو سعياً وراء تحقيق غايات خاصة. بدلا من ذلك، أصر السيد بوتين على أن أي تسوية بشأن الأزمة السورية لا ينبغي أن تكون على حساب الإطاحة بمؤسسات الدولة. وهذا من الأمور التي سوف تجد القوى الغربية، وجموع الشعب السوري، صعوبة ليست بالبالغة في قبوله.

ومع استبعاد بضع مئات من الأشخاص المتورطين بشكل مباشر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فلا يوجد سبب يمنع البقية المتبقية من موظفي الدولة السورية في أن يكون لهم مكان في مستقبل سوريا الحرة.

ويأتي الموقف الجديد للسيد بوتين على خلفية الانخفاض الحاد في النشاط العسكري الروسي في سوريا. ولقد أعلن بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم في الشهر الماضي عن عملية عسكرية على غرار عملية حلب، ولكنها موجهة هذه المرة نحو محافظة إدلب مع القوات الجوية الروسية التي سوف تشن عمليات القصف الضخمة والمروعة. غير أن هذا لم يحدث. كما ابتلعت روسيا، مرغمة، هجومين شنتهما القوات الأميركية على مواقع ووحدات تابعة لقوات بشار الأسد من دون أن تحاول الرد بأي صورة من الصور. وصار السيد بوتين الآن يستخدم مصطلح «عدم التصعيد» حيال كل من الأزمات في سوريا وأوكرانيا.

وربما يحاول السيد بوتين شراء بعض الوقت لغرض ما أو هو يحاول تقسيم خصومه.

ولكنه قد يعكس حقيقة مفادها أنه صار يتعلم من تجاربه وأن السياسات الإمبريالية القديمة قد عادت بالهزيمة على نفسها في نهاية المطاف. ولا ينبغي رفض موقفه المتخذ أخيراً، ولا يجب تعريضه للاختبار كذلك، فإن تحقق أنه يريد العودة إلى المجتمع الدولي مرة أخرى، فلا غرو من مساعدته على القيام بذلك.

اقرأ المزيد
٣ يونيو ٢٠١٧
ترامب (ونيكاراغوا وسوريا) في مواجهة العالم!

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خروج بلاده من اتفاقية باريس للمناخ التي وقعها سلفه باراك أوباما عام 2015. الاتفاقية كانت علامة فارقة على أن البشرية قرّرت (أن تحاول) الخروج من طريق الفناء الذي بدأت بسلوكه منذ دخول أوروبا العصر الصناعيّ وصولاً إلى هذه المرحلة التي شمل التلوّث التربة والبحار والأنهار والهواء، وأدّى تراكم الغازات الصناعية إلى التأثير على الغلاف الجوّي المحيط بالأرض مما ساهم بدوره في احترار متزايد للكرة الأرضية مع كل العناصر المرتبطة بهذا الاحترار من قحط وجفاف وتصحّر وذوبان الثلوج وارتفاع مدّ البحر، وهذه كلها عوامل لا يمكن مقارنتها بما يمكن أن يحصل من مخاطر في العقود المقبلة من غرق بلدان وجزر وانقراض حيوانات ونباتات وارتفاع لدرجة حرارة الأرض ما يجعلها مكانا غير صالح للحياة.

حسب وسائل الإعلام الأمريكية فإن ترامب اتخذ القرار بـ»الغريزة»، بعد أن كان يعلن، منذ حملته الانتخابية للرئاسة، كرهه للاتفاقية ويصفها بأنها «صفقة سيئة» تضرّ العمال الأمريكيين، وبعد أن استمع إلى نقاشات شارك فيها مستشاره للشؤون الاستراتيجية ستيفن بانون (المدافع الشرس عن قرار حظر المسلمين والمعجب بروسيا)، وبدعم من نوّاب للحزب الجمهوري تدعمهم شركات النفط والغاز والفحم.

القرار، حسب ترامب، يستند إلى شعاريه الأثيرين: «أمريكا أولا» و»لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»، غير أن الشعارين مضلّلان بأكثر من طريقة.

الأكيد في شعار «أمريكا أوّلا» أن سحب حصّة أمريكا من دعم الاتفاقية سيضرّ حقّاً بباقي بلدان العالم، وسيؤدي إلى معاناة هائلة للبلدان التي تعيش «على الخط الأمامي للتغير المناخي» حيث سيقلص موارد المياه وهطول الأمطار ويؤثر على الإنتاج الزراعي ومصائد الأسماك ويساهم في سوء التغذية والأمراض المعدية والسيول وأسعار الغذاء، ولكنّه، بالقدر نفسه، سيضرّ البيئة الأمريكية وصناعاتها الأكثر تفوقاً في العالم، في مجالات الإبداع كافّة، التكنولوجية والرقمية والاقتصادية والغذائية، وكان هذا واضحاً من خلال اتصال رئيسي شركتي أبّل للإلكترونيات وتيسلا لصناعة السيارات الكهربائية بترامب ومحاولة إثنائه عن قراره، وفي الغضب العارم الذي اجتاح الكثير من الشركات والقطاعات الاقتصادية في أمريكا نتيجة هذا الانسحاب.

ما قام به ترامب لا يتعلّق بـ»أمريكا أولا» بل بالجزء العنصري والجشع والمتغطرس فيها، بحيث يهتمّ بمصالحه اليوم والآن ولو كان ذلك على حساب أولاده وأحفاده، وهو بالتالي ليس ضد العالم فحسب بل ضد أمريكا ذاتها.

تحليل ردود الفعل الدولية يبيّن وجود تقارب بين كتلتين اقتصاديتين هائلتين، هما الاتحاد الأوروبي والصين، وابتعاد الولايات المتحدة الأمريكية التي صارت، إضافة إلى نظام سوريا الكيميائي، ودولة نيكاراغوا الصغيرة في أمريكا اللاتينية، هي ثالث دول العالم التي لم ترفض اتفاقية باريس.

يلفت النظر هنا، أن روسيا، بلسان رئيسها فلاديمير بوتين، لم تنتقد قرار الرئيس الأمريكي، وهو ما يضيف بعدا «مناخياً» إلى العلاقة السياسية غير المسبوقة بينهما، والتي تبادل فيها الرئيسان الإعجاب أكثر من مرّة، ولا تنفك تزداد كل يوم الأخبار المربكة التي تربط بين بطانة ترامب الخاصة مع سيّد الكرملين، وتتأكد الأنباء أن الروس ساعدوا ترامب في الحصول على منصبه الرئاسي، وهو أمر لا يجد تفسيراً، على ابتعاد المنظومتين السياسيتين للبلدين، غير التقارب الفكري في النظرة إلى شؤون إدارة العالم.

التقارب «المناخي» بين روسيا وأمريكا، وبين الصين وأوروبا، يقدّم مفاتيح جديدة لفهم اتجاهات العالم لكن اللغز الكبير فيه هو: ما هو موقع العالم الإسلامي؟

اقرأ المزيد
٣ يونيو ٢٠١٧
إصلاح «الائتلاف» السوري ... أهو ممكن؟

ثمة دعوة إلى إصلاح «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» تدور في أوساط المعارضة السورية أطلقها أعضاء حاليون أو سابقون فيه على خلفية حالة الترهل التي بلغها والمطالبة بالخروج منها من دون ظهور ضوء في نهاية النفق على رغم مرور مدة زمنية كافية لذلك.

لم وأين المشكلة؟

أولاً، لم تنجح الدعوة في استقطاب قوى اجتماعية وسياسية مؤثرة لاعتبارات كثيرة وخطيرة أولها حالة الشقاق والانقسام داخل صفوف المعارضة وحواضن الثورة التي ترتبت على استبدال «الائتلاف» بـ «المجلس الوطني السوري» ودوافع القوى الإقليمية والدولية التي عملت على تشكيله ورعت ولادته.

ثانياً، حالة انعدام الثقة بـ «الائتلاف» وبالشخصيات التي تسلمت قيادته، ومنها أصحاب دعوة الإصلاح بخاصة، المنتشرة بين أوساط حواضن الثورة والتي ترتبت ليس على الفشل في إدارة الصراع من قبل «الائتلاف» ومؤسساته فقط، بل على الأمراض الذاتية التي عكستها سلوكياتهم من جهة، وانحيازهم خلال ممارستهم أدوارهم للاعتبارات والمصالح الخاصة (هروب معظمهم من ساحة المواجهة عند شعورهم باحتمال تعرضهم للخطر وقبولهم العيش خارج سورية، العمل بشروط مريحة، الترف، البذخ، النجومية، وما تفرضه من تنازلات وخضوع للجهة الممولة والراعية، الارتجال ورد الفعل، العجز عن العمل الجماعي المنظم والمدروس) من جهة ثانية، حيث لم تشاهد حواضن الثورة أياً من تلك الشخصيات، إلا على شاشات التلفاز وفي قاعات الفنادق الفاخرة، لم تلتق بهم لا في مخيمات اللجوء ولا في الأراضي المحررة. إنها هوة واسعة وشرخ عميق بين واقعين: الشعب السوري بعامة وحواضن الثورة بخاصة (حيث مواجهة القتل والدمار والتشرد والجوع والبرد واللجوء والموت غرقاً)، وشخصيات وقوى سياسية، يفترض أنها تقدمت لتمثيلهم وقيادتهم من أجل تحقيق مطالبهم، تعيش في «فقاعة» رفاهية خمسة نجوم خارج البلاد وعلى الضد من معاناة العباد.

ثالثاً، عدم الثقة بأهلية أصحاب دعوة الإصلاح للقيام بهذه المهمة الحيوية والخطيرة والشك في منطقية المراهنة على وعودهم في ضوء التجربة المرة معهم عملاً بالمثل الشعبي «اللي يجرب المجرب عقلو مخرب».

رابعاً، تقدير الحواضن الشعبية لدوافع الدعوة وارتباطها بدواعٍ ذاتية (الهرب من مركب يغرق، تبرئة الذات والهروب من المسؤولية عن الفشل في إدارة الصراع والتسبب بهدر الإمكانيات والتضحيات، الادعاء بالتميز والقدرة على اجتراح المعجزات) وبمستدعيات الصراع على سورية بين دول «أصدقاء» الشعب السوري، إذ ولّد التنافس على الإمساك بالورقة السورية صراعاً على الإمساك بالمعارضة السورية وزجها في سجالات وحروب سياسية وعسكرية بالوكالة.

خامساً، وهو الأخطر، ارتباط نجاح عملية الإصلاح بحالة الثورة في شكل عام وبالتقديرات لطبيعة النهاية المنتظرة للصراع في سورية وعليها بشكل خاص. فالمشهد العام يشي بسلبيات كبيرة (تصدر الصراع على سورية المسرح، تبعية قوى الثورة والمعارضة للدول الداعمة، انخراطها في صراعات وحروب بالوكالة، قتل ودمار، خسائر ميدانية، فوضى، انكسار معنويات الثوار وخضوع لمستدعيات اللحظة بسبب غياب الأمل بنجاح الثورة في تحقيق أبسط مطالبها والذي جسدته حالات انتقال ثوار للقتال في صفوف ميليشيات النظام وحلفائه بعد أن قاتلوه لسنين). والتقديرات السياسية تنذر بكوارث كبيرة وخطيرة قادمة تحت تأثير انفجار الصراعات الدينية والمذهبية من جهة، وانخراط قوى ودول في الصراع على سورية وفرض خططها وأجنداتها على الصراع في سورية الذي أطلقته الثورة ضد نظام مستبد وفاسد من جهة ثانية.

تقتضي عملية إصلاح «الائتلاف»، إن كان ثمة إمكانٌ لإصلاحه، إعادة نظر في منطق التعاطي مع المشكلة والتدقيق في سلم الأولويات، بدءا من التفكير في أسباب انكسار الثورة وتراجع الأمل في تحقيق أهدافها إلى مواجهة الذات وتحدي حالة الرضا الخادعة عنها وتحديد المسؤوليات والاعتذار عن الأخطاء والممارسات السابقة التي قادت إلى كثير من السلبيات والنتائج المدمرة مروراً بوضع تصور منطقي وعملي لإخراج الثورة من عنق الزجاجة كمدخل لإصلاح «الائتلاف» ومؤسسات الثورة الأخرى. فالجدوى مرتبطة، وجوداً وعدماً، بإمكان إحياء الثورة وإطلاق مفاعيلها وتحقيق إجماع على أهدافها ومستدعياتها.

اقرأ المزيد
٢ يونيو ٢٠١٧
الوحدة العراقية السورية تحت الراية الإيرانية!

في هذا الشهر من العام 2014 وبعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على محافظة نينوى العراقية وإعلانها ولاية قام عناصره بإزالة السواتر الترابية على الحدود العراقية ـ السورية ونشر على حساب أخبار ولاية البركة (الحسكة السورية) على موقع «تويتر» صورا لعملية إزالة السواتر وعبور آليات عسكرية تابعة للتنظيم معلنا أنه «ستبقى الشام والعراق ساحة واحدة ولن تفصل بينهما حدود» ومتوعداً بـ»مسح الحدود من الخريطة»، وفي أيار/مايو 2016 قبل خمسة أشهر من الذكرى المئوية للاتفاقية البريطانية ـ الفرنسية الشهيرة باسم وزيري خارجيتي البلدين آنذاك سايكس ـ بيكو تباهى التنظيم المذكور بالقضاء على الاتفاقية المذكورة.

وكما طبع التنظيم حدث كسر الحدود بين البلدين بطابع طائفي بإعلانه حينها بأن «الدولة الإسلامية» أرسلت «مجاهديها إلى الشام لقتال النصيرية (العلويين) لكنها لم تترك قتال الروافض (الشيعة) في العراق» فإن الميليشيات العراقية الموالية لإيران عزفت على الأسطوانة الطائفية نفسها فأعلنت عن تأسيس «جيش المؤمل في العراق والشام» في مثل هذا الشهر من العام الماضي، للقتال في العراق وسوريا «دفاعاً عن المقدسات الشيعية»، وانضافت إليها ميليشيات أخرى كـ»لواء أبو الفضل العباس» و»لواء ذو الفقار» و»كتائب حزب الله ـ العراق»، ومن داخل سوريا شهدنا تقدّم «حزب الله» اللبناني وميليشيات عراقية تقاتل داخل سوريا باتجاه الحدود السورية العراقية بحيث يلتقي الطرفان ويصنعان «وحدة عراقية -سورية» ولكن… تحت راية إيران!

الافتراق الطائفي والمذهبي بين «الدولة الإسلامية» والميليشيات الموالية لإيران لا يمنع رؤية التشابه في «المنطلقات النظرية» الطائفية التي تجمعهما، والتي تجعل كل منهما صورة مقلوبة للآخر، وكونهما ضرورة وجودية ولازمة لكل طرف منهما، وكذلك الأحلام التي يسعى الطرفان إليها.

يتجلى هذا في حلم تنظيم «الدولة» بالخلافة الإسلامية التي بدأها باحتلال أجزاء كبيرة من بلاد دولتي العباسيين والأمويين، ولكنه وصل لنهاياته وانسداد آفاقه تحت ضربات «التحالف الدولي» وهجمات «الحشد الشعبي» وقوّات الجيش والشرطة والقوات الخاصة العراقية، وهو ما فتح الباب لأحلام الميليشيات الشيعية في المنطقة بتأسيس خلافة فاطميّة جديدة تبدأ في طهران وتمر ببغداد ودمشق وتنتهي (أو لا تنتهي) ببيروت.

ووردت أنباء أمس أن «الحشد الشعبي» وصل إلى بعض القرى في ريف محافظة الحسكة السورية (ثم تردّد أن من استولوا على القرى هي قوّات إيزيدية عراقية على علاقة بالحشد)، ويبدو أن مزيداً من هذه الأخبار سيتوالى في الأيام المقبلة كدليل على التوتّر الإقليمي الكبير الناشئ عن خطط الميليشيات العراقية المذكورة.

الإيرانيون، على ما يبدو، متحمّسون لهذا الحلم الكبير وقد حشدوا حشودهم من ضفتي الحدود العراقية ـ السورية، وهو أمر يصبّ الزيت على نار الصراعات الإقليمية والمحلّية المشتعلة، ويثير القلق في الجوار القريب، وخصوصاً في تركيا والأردن، ولدى الأطراف المتصارعة والإثنيات والطوائف والجماعات، كما القوى الكبرى التي تراقب تحوّل الانتصار (وهو انتصار مؤقت لأن عوامل الأزمة ما زالت موجودة) على تنظيم «الدولة» إلى اندياح كبير للميليشيات الموالية لإيران في محاولة لتغيير كبير في معالم المنطقة السياسية.

مفارقة كبيرة أن يكون البلدان اللذان حكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي بشعارات الوحدة العربية والأمة ذات الرسالة الخالدة لم يتمكن من توحيدهما وأن «تبعث» ظلاماته وقهره وخساراته العسكرية ومغامراته حلم الوحدة مرة على يد غلاة السنّة ومرّة على يد غلاة الشيعة وأن يكون الحصاد الأخير لصالح أمّة أخرى!

اقرأ المزيد
٢ يونيو ٢٠١٧
خيارات «داعش» في الرقة

مع اقتراب حملة «غضب الفرات» التي تقودها «قوات سورية الديموقراطية» في محافظة الرقة من نهايتها، تضمحل الخيارات العسكرية لـتنظيم «داعش» بعدما بات شبه محاصر في مدينة الرقة آخر معاقل التنظيم في المحافظة.

المعطيات العسكرية منذ معركة الطبقة وسد الفرات، ثم التقدم السريع لـ «قسد» نحو الشرق باتجاه مدينة الرقة، تدل على أن التنظيم لن يخوض معركته المصيرية في هذه المدينة التي تعتبر ساقطة من الناحية العسكرية وليس من الناحية الزمنية.

والاتفاق الذي أجري بين «قوات سورية الديموقراطية» و «داعش» لترك المدينة والمغادرة نحو البادية ودير الزور، لم يكن ليتم لولا إدراك «قسد» أن التنظيم مستعد لمثل هذه الصفقة بعدما ظهر كثير من المؤشرات، مثل سرعة الانسحاب من بعض المناطق، ونقل قياداته وقواته الرئيسية إلى دير الزور.

ومع أن «قسد» نفت هذا الاتفاق، إلا أن معطيات كثيرة تؤكد وجوده، وأنه بُدئ بتطبيقه على الأرض، ولم يكن بيان «قسد» قبل أيام عبثياً اذ جاء فيه «نظراً للنتائج الإيجابية للبيان الذي أصدرناه بتاريخ 15/5/2017 والذي أعلنا من خلاله حماية حياة من يسلم نفسه وسلاحه من المنتمين إلى المجموعات المسلحة بمن فيهم داعش مهما كانت صفتهم ومهمتهم لقواتنا تمهيداً لتسوية أوضاعهم وحماية لعائلاتهم وذويهم وأهلهم نعلن تمديد هذه الفترة لغاية نهاية هذا الشهر 31/5/2017».

يحقق الاتفاق لـ «قوات سورية الديموقراطية» وتنظيم «داعش» جملة من الأهداف، فبالنسبة الى التنظيم تعتبر معركة الرقة خاسرة، بينما معركة دير الزور مفتوحة على احتمالات كثيرة، في ظل المساحات الجغرافية الواسعة والمفتوحة، وفي ظل الثقل الديموغرافي المتوافر هناك، فضلاً عن أن القوة العسكرية الحقيقية للتنظيم تكمن في دير الزور وليس في الرقة التي أخذت زخماً إعلامياً كبيراً كونها عاصمة التنظيم.

وبالنسبة الى «قسد»، يعني خروج «داعش» من الرقة نصراً عسكرياً سهلاً وبلا ثمن بشري يُدفع، ويعني بالنسبة الى الولايات المتحدة التخفيف من وتيرة قتل المدنيين بعدما ارتفعت حصيلة القتلى منهم إلى أرقام كبيرة خلال الشهر الجاري. كما يسمح الاتفاق للمحور المدعوم أميركياً بسرعة فتح معركة دير الزور التي أصبحت هدفاً واضحاً للنظام السوري وإيران وروسيا.

على أن أهم ما يمكن تحقيقه - وهذا ما جعل موسكو تهدد بضرب الاتفاق – هو أن انتقال التنظيم إلى جنوب محافظة الرقة بعد تجاوزه نهر الفرات وإلى دير الزور، سيجعل التنظيم وجهاً لوجه مع قوات النظام وحلفائه في الصحراء الممتدة بين محافظة الرقة والشمال الشرقي لمحافظة حمص، حيث يسعى النظام هناك إلى السيطرة على مساحات واسعة، وتحديداً السيطرة على بلدة السخنة الواقعة على الطريق الدولي بين تدمر ودير الزور، ليشكل بذلك مثلثاً جغرافياً يمتد من خناصر في الريف الشمالي الشرقي لحماة إلى تدمر فالسخنة، قبيل الانتقال إلى كباجب، أولى بلدات محافظة دير الزور من ناحية حمص.

ولم يكن مفاجئاً أن يعترض الروس على هذا الوضع الذي سينشأ نتيجة الاتفاق بين «قسد» و «داعش». فبالنسبة الى الروس، ستكون معركة الأميركيين وحلفائهم في الرقة سهلة بينما تكون معركة روسيا وحلفائها في شرق حمص ودير الزور صعبة، وسينجم عن ذلك خسائر في الأرواح لدى المحور الروسي وصعوبة في التقدم السريع على عكس ما سيحدث للمحور الأميركي.

ولهذا السبب، ستضرب موسكو أية محاولة من التنظيم للهروب من الرقة نحو الجنوب أو الجنوب الشرقي، ولن تعطي الأميركيين نصراً سهلاً، بل على العكس تبدو روسيا مرتاحة كثيراً من سقوط كثير من المدنيين بطائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

أمام ذلك، تبدو خيارات «داعش» قليلة أو شبه معدومة، ولن يكون أمامه سوى القتال حتى النهاية في المدينة، أو الانتقال نحو دير الزور وليس صحراء حمص باتجاه تدمر، كي لا يتعرض للقصف الروسي كما حدث قبل أيام حين استهدف الطيران الروسي رتلاً عسكرياً للتنظيم كان متوجهاً نحو تدمر عبر صحراء الرقة جنوب نهر الفرات.

لكن التوجه إلى دير الزور لن يكون بلا ثمن، حيث سيتعرض التنظيم لقصف التحالف الذي يحاول إجباره على التوجه نحو تدمر لمقاتلة النظام والقوى التابعة لإيران، فضلاً عن أن التحالف و «قسد» عزلوا الريف الشرقي لمحافظة حمص، ولن يكون أمام التنظيم سوى الطريق نحو تدمر والتعرض للقصف الروسي.

وقد يجد التنظيم طريقاً وسطاً من خلال التوجه نحو الجنوب الشرقي لمحافظة الرقة، فيبتعد عن المناطق المعزولة في الشرق ولا يدخل صحراء حمص نحو تدمر، إلا أن هذا الاحتمال قد يعرضه للقصف من الجانبين الأميركي والروسي معاً.

لقد تحول تنظيم «داعش» إلى هدف مشترك لكل أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي بغية الاستحواذ على تركته، لكن إذا كانت محافظة الرقة قد حسمت للمحور الأميركي، فإن محافظة دير الزور لم تحسم بعد، وتبدو أصعب من أن يستحوذ عليها طرف بعينه.

اقرأ المزيد
٢ يونيو ٢٠١٧
حروب تلد حروباً: إيران ترث «خلافة» البغدادي

هل تقترب الصراعات في سورية والعراق واليمن وليبيا من نهايات قريبة نسبياً؟ على رغم ندرة المبادرات الداخلية فإن التنافس بين الأطراف الخارجية، دولية وإقليمية، فتح فصولاً صراعية جديدة لا تعد بإنهاء بل بإطالة كل صراع. هناك تحالفات جديدة، سباقات تسلّح، اصطفافات متبدّلة وخلط أوراق... هذه مرحلة تحوّلات ربما تمثّل قمم الرياض ذروتها، إذ تحاول إعادة الدور الأميركي قبل أفوله في المنطقة، لكن سبقتها تقلّباتٌ في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، بينها وبين حليف مثل تركيا، وحتى مع حلفاء مزمنين في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. كل ذلك ينعكس على البلدان الأربعة المأزومة وجوارها، وليس مؤكّداً أن التشوّش الراهن سينجلي متى حسمت أميركا خياراتها، إذا حسمتها فعلاً، فهي تركّز على محاربة الإرهاب وتتجاهل الأسباب الداخلية التي أجّجت هذا الإرهاب، أما الأطراف الأخرى كروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا فتتلاعب، خصوصاً في سورية، وكلٌّ على طريقته، بورقتي الإرهاب والأزمة الداخلية معاً.

بعد قمم الرياض أصبحت المعادلة كالآتي: الإرهاب هو إيران. كان ذلك واضحاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة منذ وجودها في السعودية بعد حرب الخليج، ثم عندما أصبحت سلطة احتلال في العراق ولمست مباشرة كيف استفادت إيران من الحرب على أفغانستان بإيواء فلول تنظيم «القاعدة» ومن الحرب على العراق بإدخال مواليها من معارضي صدام حسين الذين أصبحوا لاحقاً نواة الميليشيات التي فرّخت عشرات لتكون «حرساً ثورياً» بديلاً من الجيش الوطني، تماماً كما فعل ملالي طهران بعد إطاحة الشاه. بل اتضحت أكثر للأميركيين علاقة إيران بالإرهاب بعد انسحابهم من العراق ثم دعوتهم إلى العودة للمساعدة في محاربة الإرهاب، تحديداً في ضرب «داعش»- وليد «القاعدة»- الذي تمدّد إلى سورية وأعلن «دولة الخلافة» في مساحة جغرافية واسعة معظم سكانها من السُنّة، وهي المساحة التي أرادت إيران إخضاعها لتحصّن هيمنتها على عموم العراق وتتحكّم بمناطق شرق سورية ووسطها وصولاً إلى لبنان، استكمالاً لـ «هلالها» الفارسي أو الشيعي.

هذا «الهلال» سيطر بميليشياته على الأرض، فلم يتأثّر بالتدخّل الروسي في سورية بل تعايش معه، ولا بعمليات «التحالف الدولي ضد الإرهاب» بل كشف حاجة الأميركيين إليه في العراق، حتى أن الخلافات الأميركية- الروسية تترك له مساحات مريحة لمواصلة عمله، إلى حدٍّ تبدو معه الدولتان الكبريان وكأنهما تخدمان الاستراتيجية الإيرانية. لم تعبّر روسيا، حتى في سعيها إلى تدعيم نفوذها في سورية، عن أي نيّة أو مخطط لتقليص نفوذ إيران، وفضّلت حتى الآن التنسيق معه على رغم تناقضه مع خططها لتطبيع الوضع السوري. أما الولايات المتحدة فأكّدت مراراً أن الحدّ من التمدّد الإيراني أحد أبرز خياراتها الاستراتيجية، بالتزامن مع ضرب الإرهاب وإنشاء مناطق آمنة، أي أنها تقترب من معادلة «الإرهاب هو إيران» وبالتالي فإن المنطقة تترقّب تنفيذ توجّهها هذا ومدى تأثيره في مستقبل الأوضاع، تحديداً في سورية والعراق واليمن، وبات ممكناً أن تُضاف ليبيا إلى السياق ذاته، لماذا؟ لأن كشف واشنطن عن نياتها وتحالفاتها، وتأخّرها في التحرك، دفعا بالمتضرّرين المحتملين إلى «تحالف» تسعى إيران إلى بلورته مستفيدةً من مسار أستانة السوري للتقارب مع تركيا واستمالة تيار الإسلام السياسي «الإخواني» القلق من ربطه أميركياً وعربياً بالإرهاب. ولا تبدو موسكو ممانعة نشوء تحالف كهذا بل تعتبر أنه يمدّها بأوراق إضافية في مساوماتها مع أميركا.

إذا كان الإرهاب هو المعضلة الرئيسية فإن وشوك انتهاء معركة تحرير الموصل بهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في معقله الأهم يرشّح العراق لأن يوفّر النموذج الأول لما ستكون عليه الحال في مرحلة «ما بعد داعش». بعد ذلك، وبالمفهوم نفسه، سيشكّل إطلاق معارك تحرير الرقّة ودير الزور خطوة نحو حسم الأزمة في سورية لتأخذ عندئذ بشيئ مما يكون قد تبلور سياسياً في العراق. في المقابل، لم يكن الإرهاب سوى جزء تفصيلي في اليمن، إذ كان تنظيم «القاعدة» متوطّناً في بعض مناطق الجنوب والوسط قبل أزمة 2011 ويرجّح أنه كان يتلقّى دعماً من قيادته في إيران وقد استخدمه علي عبدالله صالح لابتزاز الخارج، ويرجّح أنه لا يزال على تواصل معه. أمّا في ليبيا فارتبط بفلول «القاعديين» الذين تغلغلوا في نسيج «الثورة» وميليشياتها ثم ظهر «داعش» فجأة وبجهوزية تامة مكّنته بسرعة قياسية من إنشاء إمارة في سرت، إلى أن طُرد منها لكنه لا يزال تهديداً ماثلاً حتى أنه سجل حضوراً في مانشستر البريطانية.

في جميع هذه البلدان تمسّ الحاجة إلى إطلاق حلول سياسية بمقدار ما تمسّ إلى محاربة الإرهاب، أولاً لأن الظروف التي أنضجت «داعش» وظهوره لا تزال قائمة بل إنها قد تزداد تغوّلاً، وثانياً لأنها قد تنتج جيلاً آخر من هذا التنظيم بسرعة قياسية. فعلى سبيل المثال، حضّ النظام الإيراني نظام نوري المالكي على عدم تقديم تنازلات لحل الأزمة السياسية في العراق لكنه شجعه على التنازل لـ «داعش» بعدم مقاومته في الموصل وبسحب أي قوات حكومية قادرة على التصدّي له. كذلك حقّق النظامان السوري والإيراني أكبر المكاسب من تمكين «داعش» في زرع وجوده في الشمال ومن انشقاق «جبهة النصرة» عنه ترجيحاً لوضع فصائل المعارضة في سياق إرهابي يرفضه العالم، ويتذرّع به لقبول نظام بشار الأسد كخيار سيئ أفضل من الآخر الأسوأ. وفي الحالين كانت المشكلة في ممارسات النظام القائم، وفي المشروع الإيراني لنشر الفوضى والاستثمار فيها. هذا ما كان عليه الأمر أيضاً في اليمن، بتوظيف أنانية الرئيس المخلوع وأحقاده واحتكاره بعض القوات المسلّحة واستهتاره بالبلد في خدمة الميليشيات الحوثية للسيطرة على الدولة والجيش والمؤسسات كافة، من دون أي ازعاج للتنظيمات الإرهابية الموجودة.

لن يستعاد أي استقرار في أي من هذه البلدان، ولن يستقيم أي حل سياسي، ما لم تُرفع يد إيران عنها أو يُقلّص نفوذها الى أدنى حدّ. هذا مشروع حرب أخرى وستتجنّب إيران وخصومها تعريض أراضيها، وستحارب إيران وخصومها بالسوريين والعراقيين واليمنيين. يترافق انتهاء معركة الموصل مع تكثيف ميليشيات «الحشد الشعبي» اندفاعاتها إلى الحدود السورية، فوليّ الفقيه الإيراني الذي يتصرف كـ «خليفة» يعتبر أنه الأحقّ في وراثة أرض «خلافة» أبي بكر البغدادي، و «الحشد» يريد أن يحلّ محل «داعش». هذا اختبار مهم لاستراتيجية «احتواء النفوذ الإيراني» الأميركية، وسباق مفتوح بين مَن يملك الأرض ومَن يملك الجو، بين طهران التي تعتبر معابر الحدود شرايين حياة لوجودها في سورية وستواصل ضغوطها للسيطرة عليها، وبين واشنطن التي تسعى إلى تحويل المعابر ومحيطها «مناطق آمنة» لكن تلكؤها قد يخسّرها السباق، فالغارة الجوية على ميليشيات عراقية مندفعة إلى الجانب السوري من معبر التنف لن تثني الإيرانيين، مثلما أن الشروط الأميركية لم تمنع الحكومة العراقية من تشريع «الحشد» وإشراكه في معركة الموصل، ومن بعدها استعادة عربداته في الأنبار في طريقه إلى الحدود.

ثمة تفاهمات أوليّة، محدودة لكن مهمّة، قد تكون أميركا وروسيا توصّلتا إليها من دون إعلانها. بينها مثلاً عدم العرقلة الأميركية لاتفاق مناطق خفض التوتر في سورية مع اشتراط منع الميليشيات التابعة لإيران من عبور الحدود لإقامة خط طهران- بغداد- دمشق- بيروت. وبينها أيضاً اشتراط روسيا عدم التعرّض للجيش النظامي السوري، لكن معظم التحركات المنسوبة إلى النظام قوامها من أتباع إيران مع أنفار نظاميين كأدلّاء، وليس معروفاً إذا كان الأميركيون والروس توافقوا على معايير الفصل أو التمييز بين هذين الطرفين. غير أن المضي في اتفاق أستانة، بتشارك الروس والأتراك والإيرانيين في رسم «الحدود» بين مناطق خفض التوتر، بات يؤسّس لتوافق رباعي يضم الأسد كتحصيل حاصل، ومن شأن ذلك أن يهمّش مفاوضات جنيف أو يتركها عقيمة وشكلية ليلتفّ عليها بترتيبات تعكس ما تتوافق عليه الدول الثلاث مع الأسد.

اقرأ المزيد
٢ يونيو ٢٠١٧
إيران تعيد تسليح الجيش على حساب {الحرس الثوري}

خلال الحملة الانتخابية، أدان الرئيس حسن روحاني كشف الحرس الثوري لمدن الصواريخ الإيرانية الباليستية القائمة تحت الأرض. بعد فوزه بأسبوع تقريباً أعلن قائد قطاع الطيران في الحرس الثوري العميد أمير علي حجي زادة أن إيران شيدت مصنعاً ثالثاً لإنتاج صواريخها. بعده رد روحاني «أن إيران لا تحتاج إذناً من الولايات المتحدة لإجراء تجارب صاروخية، وأنها مستمرة بها عندما يكون ذلك ضرورياً من الناحية الفنية».

يقول محدثي الغربي إن إيران وفي شكل لم يسبق له مثيل، منكبة على توسيع أصولها العسكرية بعد المليارات التي حصلت عليها من الولايات المتحدة إثر التوصل إلى الاتفاق النووي، ويفخر العسكريون الإيرانيون بإجراء تحول في قدراتهم القتالية، مما يعطي إيران خياراً بأن تصبح قوة هجومية في كل أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وهذه الادعاءات كما قال، تشكل قلقاً كبيراً لدى كبار الشخصيات في واشنطن.

وكانت تقارير في أواخر شهر أبريل (نيسان) الماضي خرجت من إيران، أشارت إلى وصف مسؤولين هناك، زيادة ميزانية الدفاع بنسبة 145 في المائة في ظل فترة ما يسمى بالرئيس «المعتدل» روحاني، وأن قوات النظام العسكرية تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية للنظام بحيث تصبح قوة مستعدة دائماً للمبادرة وفي كل الظروف. ومنذ تنفيذ الاتفاق وما تلاه من «مكافآت»، عمد المسؤولون الكبار في إيران إلى استخدامها في شراء معدات عسكرية جديدة وأسلحة إضافية، كما وقعت إيران عقوداً عسكرية مع روسيا بقيمة ملايين الدولارات.

يقول محدثي الغربي، إن كبار المسؤولين الأميركيين وأعضاء الكونغرس تنتابهم الشكوك من أن إيران تستخدم جزءاً كبيراً من النقد - الذي أثار الجدل - 1.7 مليار دولار الذي وفرته لها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لدعم شبكاتها الإرهابية المنتشرة في أنحاء عدة من الشرق الأوسط.

العميد كيومارس حيدري خلال مراسم الاحتفال بيوم الجيش أعلن عن الإضافات من الأسلحة التي توفرت للجيش. هذا الإعلان الذي لم يكتسب أهمية في وسائل الإعلام الغربية، جعل المسؤولين عن الأمن القومي الأميركي يناقشون هذه المسألة خلال الأسابيع الماضية.

إن هدف إيران هو تحويل جيشها إلى قوة ذات قدرات «هجومية» مما يشير إلى تحول لافت عن دورها الداعم للحرس الثوري الذي يعتبر قوة طهران الأساسية.

يقول محدثي: إن تعزيز القدرات اللوجيستية والأسلحة والدعم هي الأهداف التي يعمل عليها النظام لإعادة إحياء دور وقدرات جيشه النظامي. ويرى المراقبون العسكريون أن هذا يعتبر تحولاً كبيراً لسياستها تجاه الجيش النظامي بحيث يوفر لطهران القدرة على التدخل في منطقة الخليج العربي، وهي منطقة حساسة حيث تتمتع القوات الأميركية فعلياً، بنفوذ ووجود جديرين بالملاحظة.

لإيران تاريخ طويل في تحويل المليارات إلى برامجها العسكرية وشبه العسكرية. وكانت استخدمت المكاسب المتراكمة من العملة الأوروبية من الاتحاد الأوروبي خلال الفترة من 1998 حتى 2005 للاستثمار بكثافة في برامجها النووية والصاروخية السرية. ومن المفارقات المثيرة أن الشخص المسؤول عن هذه الجهود لم يكن سوى سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي حسن روحاني، الذي أصبح الغرب، وبالذات الإعلام الأميركي، يطلق عليه لقب «إصلاحي». وعلى الرغم من كل التهديدات الإيرانية ومواقع الصواريخ تحت الأرض والتي كان العميد أمير علي حجي زادة قال في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015 «إنها على عمق 500 متر تحت الأرض وخزنت فيها صواريخ متفاوتة المدى». على الرغم من هذا، كما يقول محدثي: إن إيران تحكي، لكن لن تمشي على أقدامها لإثارة مواجهة عسكرية خطيرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.

إن إعادة انتخاب روحاني لا تشير إطلاقاً إلى تغيير أو اعتدال في إيران، بل إنها تعزز فقط تكتيك المرشد الأعلى في خلق سرد كاذب لإيران معتدلة، كغطاء للحملة المستمرة للنظام للسيطرة على الخليج العربي وشرق البحر المتوسط من خلال التخويف والعدوان. وكما ذكر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأبرز أعضاء إدارته، فإن إعادة النظر بالسياسات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، تبقى أولوية. إذ بسبب بنوده، يمكن لإيران الالتزام تماماً بالاتفاق طوال العقد المقبل، وتستمر في بناء رؤوس حربية نووية في غضون 10 إلى 15 سنة.

يقول محدثي: قد تلتزم إيران على الأقل لسنوات مقبلة، لأنها تطمع إلى رفع ما تبقى من العقوبات عنها، وزيادة تجارتها مع الغرب، فهذه الطريقة تجعل من الصعب إعادة فرض العقوبات لاحقاً إذا ما دعت الحاجة. ويضيف: وللأسف هذا ما يحدث، إذ تم الإفراج عن المليارات المجمدة وحولت إلى طهران فازدادت الصادرات الاستراتيجية الأكثر نفعاً لإيران - النفط - خصوصا إلى أوروبا وآسيا. وبدلاً من استخدام المكاسب الاقتصادية من الصفقة لتحسين حياة الإيرانيين أو تنمية علاقات مع الغرب للدخول في حقبة من الازدهار والإصلاحات، زادت إيران ووسعت بصمتها العسكرية على المنطقة.

في كلمته في المملكة العربية السعودية قبل أسبوعين، أظهر الرئيس ترمب أنه غير مخدوع عندما قال: «من لبنان إلى العراق، إلى اليمن تمول إيران، وتسلح وتدرب الإرهابيين والميليشيات والمجموعات المتطرفة، وهذا ينشر الدمار والفوضى في المنطقة. على مدى عقود غذت إيران حرائق الصراع الطائفي والإرهاب».

يشرح محدثي، أن الحروب بالوكالة التي تخوضها إيران في سوريا واليمن من خلال مجموعاتها مثل «حزب الله» والحوثيين، والتلاعب بالصراع العراقي هو لخدمة أجندة طائفية شيعية.

في زيارته الأخيرة، قبل زيارة ترمب، إلى إسرائيل أكد جيمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي امتثال إيران للاتفاق النووي: «لكن هذا لا يخفف بأي حال من الأحوال أو يعفي سلوكها الإقليمي المؤسف في المنطقة: خراب وفوضى وقتل». بعده ردد ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي مشاعر ماتيس لكنه ذهب أبعد من ذلك عندما قال إن «الصفقة مع إيران تمثل النهج الفاشل نفسه الذي جلب لنا التهديد الحالي الوشيك الذي نواجهه مع كوريا الشمالية».

يقول محدثي: إذا كانت كوريا الشمالية، التي أقدمت هذه السنة على تجربة تسعة صواريخ، مجرد طعم لما يمكن أن تطلقه إيران، فإن هذا بحد ذاته يكفي، لكننا نعرف أن الروابط بين كوريا الشمالية وإيران تذهب إلى أعمق، وللبلدين تاريخ طويل من التعاون العسكري. إضافة إلى ذلك صدرت كوريا الشمالية تكنولوجيا الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط وساعدت بشكل مباشر سوريا على بناء مفاعل قامت إسرائيل بقصفه بشكل استباقي عام 2007.

ويتخوف الخبراء النوويون من أن إيران ستواصل على الأرجح، المضي قدماً في برنامجها النووي بعيداً عن جولات المفتشين الدوليين، من خلال إجراء أنشطتها البحثية في كوريا الشمالية، أو أن كوريا الشمالية قد تنقل يوماً وبطريقة غير شرعية طبعاً، جهازاً نووياً مباشرة إلى إيران.

يقول محدثي: «من أجل منطقتنا وهي تمتد من اوستراليا، حتى اليابان، حتى كوريا الجنوبية والفلبين يجب احتواء التهديد النووي لكوريا الشمالية، لكن من أجل العالم كله، يجب تحييد التهديد النووي الإيراني على المديين القصير والطويل».

بعد القمم العالمية والعربية والإسلامية التي عقدت في المملكة العربية السعودية، صعدت إيران لتخفيف تضييق الخناق، ومساء الاثنين الماضي نشرت صورا لقاسم سليماني قائد فيلق القدس مع أفراد من الميليشيات الشيعية العراقية، وهو يقف على الحدود بين العراق وسوريا.

خلال الحرب العراقية - الإيرانية قالت إيران إن هجماتها الدموية ضد العراق هي للوصول إلى إسرائيل. وتستخدم إيران نفوذها داخل العراق للوصول إلى سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، ويسمح الأسد لإيران بالوصول إلى «حزب الله» لتسليحه للحرب مع إسرائيل. حسب مصادر الحزب (يخزن مائة ألف صاروخ موجه إلى إسرائيل في خرق واضح للقرار الدولي 1701 وتهديد مباشر وقاتل لأي أمل للبنان).

القصد من احتمال التفجير هذا هو وصول إيران إلى البحر الأبيض المتوسط. يقول محدثي: «كان هناك وقت حيث مواجهة إيران في سوريا كانت ممكنة وغير مكلفة، نسف الرئيس أوباما كل ذلك. اليوم التكاليف باهظة والمخاطر هائلة. لكن، يشدد محدثي: لا تزال هناك حاجة لإخراج إيران من سوريا، أو أننا سوف ندفع ثمناً أثقل في المستقبل»!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني