مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣٠ مايو ٢٠١٧
إيران تعيد إنتاج أقزامها في العراق

مرة أخرى، يطل علينا رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، بسيناريو جديد حول عملية سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية في يونيو/ حزيران من العام 2014، متهماً الولايات المتحدة، ورئيسها السابق باراك أوباما، أنهما من يقفان وراء مؤامرة سقوط المدينة بيد التنظيم، ومبرئاً نفسه من تلك التهمة، وهو الذي كان رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة العراقية.

يقول المالكي، في مقابلة تلفزيونية، إن أوباما هو من صمّم سقوط الموصل بيد التنظيم، من خلال اجتماعات في إقليم كردستان، حضرها ضباط أميركيون، وإن المتهم بمجزرة سبايكر التي قتل فيها عشرات من الجنود العراقيين هو قائد الفرقة الرابعة في الجيش العراقي، لأنه انسحب تنفيذاً لأوامر جهة سياسية ينتمي إليها.

يناقض هذا الكلام، جملة وتفصيلاً، محافظ نينوى السابق، أثيل النجيفي، في قوله، إن نوري المالكي لا يمتلك أي أدلة حقيقية على هذه المؤامرة التي يدّعيها، وكان يعيش دائماً في وهم المؤامرة، ويبني قراراته بناء على ما يصدّق من أوهام المؤامرات من حوله.
واتهم النجيفي المالكي بالتساهل في تسليم الموصل لتنظيم الدولة الإسلامية، لتصوره أنه لا يستطيع إلا حماية بغداد وكربلاء وسامراء وديالى، وبالتالي عليه أن يضحّي بغيرها من المناطق. وقد رفض دخول البشمركة للمشاركة في الدفاع عن الموصل وتلعفر ومنع سقوطهما، كما أنه لم يتخذ أي إجراءٍ لمنع سقوط المدينة، ولم يتفاوض مثلاً مع أميركا أو مع الأكراد لتفادي ذلك السقوط.

ومثل هذا الكلام أو قريباً منه، صرح به نائب رئيس الجمهورية العراقي، أسامة النجيفي، والذي كان رئيساً للبرلمان العراقي آنذاك، حيث قال إن "إيران خيرتنا بين سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة أو القبول بنوري المالكي رئيساً للوزراء لدورة ثالثة".

لا يبدو أن الأمر بحاجةٍ إلى كثير شرح وكثير اتهامات، فيكفي أن نعلم أن التقرير الذي أصدرته لجنةٌ برلمانيةٌ، للتحقيق بسقوط الموصل وتسمية المتسببين عن ذلك، اختفى بين الأدراج، بعد أن اتهم بعض قادة الجيش العراقي، حيث تمت إحالة بعضهم إلى التحقيق، وبعضهم الآخر أحيل إلى التقاعد من دون أي عواقب، وتم حفظ التحقيق، ولم يعاقب المتهم الأول والمتسبب بسقوط المدينة، نوري المالكي، القائد العام للقوات المسلحة.

اليوم دخلت إيران في مرحلة الدفاع عن نفوذها في العراق، فهي تعلم جيداً أن التاجر ترامب، عفواً الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يريد العراق لحماً وعظماً، وإنه لا يريد معه شريكاً في هذه الغنيمة، وإن على إيران أن تعرف حجمها وحدها، وبالتالي، صار عليها أن تبدأ مرحلة الدفاع عن مكاسبها، ولعل أفضل من يدافع عن إيران في العراق هو نوري المالكي.

تعتبر أميركا اليوم رئيس الحكومة الحالي، حيدر العبادي، رجلها الأول، وقد طالبت حتى الدول العربية والخليجية بالانفتاح عليه ودعمه بمواجهة مرشّح إيران، نوري المالكي الذي يبدو أنه يستعد للعودة إلى الحكم، فهو شخص مرغوب به إيرانياً، وأيضاً بات اليوم يمتلك قوةً دعائيةً كبيرة، تتمثل بالحشد الشعبي الذي دخل، هو الآخر، خط الأزمة، كونه بات يرى تحرّكات العبادي مريبة تستهدفه وتستهدف وجوده.

تعيد إيران اليوم تلميع صورة المالكي، بمحاولة تبرئته من جريمة سقوط الموصل على يد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، كما أنها تسعى إلى أن يكون خط دفاعها الأول في العراق في المرحلة المقبلة، وبالتالي، فإن مرحلة كسر العظم بين العبادي والمالكي بدأت، وقد نشهد أياماً أشد سخونة من صيف بغداد الساخن.

وعلى الرغم من صعوبة أن تعيد إيران البريق لوجه واحدٍ مثل نوري المالكي، متهم ليس بسقوط الموصل وحسب، وإنما بقتل أكثر من 200 ألف عراقي، فإنها ستعوّل على أذرعها المسلحة المختلفة، وأيضاً ماكنتها الإعلامية الضخمة التي تتحكم بكل شيء في العراق، ناهيك عن كياناتها السياسية المختلفة والمنتشرة في عموم العراق، فهل ستنجح في مسعاها، ويكون المالكي على رأس الهرم في عراق 2018؟.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٧
ترامب وتقطيع أذرع إيران

بدا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خطابه في قمة الرياض الإسلامية الأميركية أخيرا، وقد اهتدى، فحصر الإرهاب بإيران، ودعا المجتمعين إلى "العمل معاً لعزلها، ومنْعِها من تمويل الإرهاب"، بعد أن كان هذا الإرهاب هيوليّاً وافتراضياً لا كيان له، صوَّره لنا الأميركيون، بعد اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أنه عابرٌ للقارات، من الواجب عليهم محاربته في كل أصقاع الدنيا، معلنين أن من ليس معهم في تلك الحرب، فهو ضدهم. غير أن تعامل الأميركيين مع الملف النووي الإيراني، أكثر من عقدين، يدّل على أنهم لم يكونوا مرة جدّييّن في مواجهة إيران، بل إنهم أمَّنوا لها عوامل القوة، مدعَّمةً باتفاقٍ بينها وبين المجموعة الدولية، صَبَغَ برنامجها النووي بصِبغةٍ قانونيةٍ، أزاحت فكرة ضربه من التداول.

ولكن، لماذا يريد الرئيس الأميركي التحشيد من أجل مواجهة إيران؟ لا يضيف ترامب شيئاً حين يتكلم عن دور إيران المتعاظم، أو يردَّدَ ما يقوله مسؤولو إدارته عن ضرورة تقطيع أذرعها في المنطقة، كي يقنع مستمعيه، قادة الدول العربية والإسلامية، بضرورة التحضير لمواجهتها، وهم الذين لم يكن يسيطر عليهم، خلال فترة سير أعمال قمتهم، سوى الهاجس الإيراني. لا بد أن ترامب كان في حاجةٍ إلى تأكيد معرفته بهواجسهم حيال إيران، ولا بد أنه اطلعَ على ما بذلوه من جهودٍ لحثِّ الإدارة الأميركية السابقة على الامتناع عن عقد الاتفاق النووي مع إيران، لكنها لم تفعل، فزادت من مخاوفهم من قوة هذا الجار الذي لم يأمنوه، منذ إعلان قادته انتصار ثورتهم الإسلامية سنة 1979.

وإن كان القول إن إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كانت قاصرةً عن مواجهة الأخطار التي تحدق بحلفاء واشنطن، وكانت سبباً في تراجع دور أميركا في المنطقة، وما قابله من تمدّد "داعش" وتعاظم دور إيران، هو قول مسلّم به، تبعاً لسياساتها المتبعة وسجلِّ ممارساتها، فإن هذا الرأي يعد سديداً من الناحية النظرية. لكن النظر إليه من باب التشكيك يمكن أن يفيدنا أن تلك الإدارة ربما كانت تراقب الوضع عن بعد، وتتعمد الابتعاد كي تأخذ الحوادث مجراها الذي أخدته، فأوصلت المنطقة إلى ما وصلت إليه، وأجبرت سكانها على إطلاق صرخة استغاثة، لبَّتها إدارة ترامب من فورها. وهو في مجمله لا يعدو أن يكون سوى سياسةً أميركيةً جديدةً، تفترق، من حيث ترتيب الأولويات والاستجابة إلى التهديدات، عن سياساتها السابقة التي اتبعتها طوال القرن الماضي، إذا أخذنا الثمار التي قطفها ترامب بعد زيارته الرياض، الأسبوع الفائت، بالاعتبار.

ومن هنا، لا يمكن التصديق أن الولايات المتحدة تسعى إلى خفض التوتر، أو حل النزاعات التي تشهدها منطقة ما، فما بالك بمنطقةٍ تُعْتَبَر النزاعات فيها استثماراً أميركياً تؤتى ثماره بأقل التكاليف والجهود. علاوة على أن النزاعات هي سبيل أميركا إلى تجميع الحلفاء حولها، وزيادة ولائهم لها. لذلك، لا بد أن الإدارة الأميركية وجدت أنه لا يكفي الاستثمار في خطر تنظيم داعش، لكي تُثبت الحاجة إليها، فعمد قادتها إلى تناول إيران ووضعها على الطاولة التي نزلت عنها بعد توقيع الاتفاق النووي، بينها وبين مجموعة الدول الست، في يوليو/ تموز 2015، والعمل على تعظيم خطرها الذي لم يكن خافياً، من أجل العودة إلى المنطقة بقوة، وبأعلى نسبة من الفوائد، من باب مواجهة الخطر الإيراني الذي، لو أنهم كانوا فعلاً جديين في مواجهته، لفعلوا حين تبدّى عبر التمدُّد في العراق وسورية واليمن ولبنان، إذ من المعروف أنَّ هذا التمدُّد يعد خطاً أحمرَ في عرف السياسة الأميركية، يُحظَّر على أي كان تجاوزه.

فمن تجربة الولايات المتحدة مع مواجهة الخطر الإيراني الذي يسوِّقونه هذه الأيام، نستطيع تأكيد عدم جدية واشنطن في ما تدّعيه، فبالنسبة لخطر النووي الإيراني، دأبت وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ومنذ سنة 1995، على التنبؤ بأن إيران على وشك امتلاك القدرة على تصنيع سلاح نووي، وردَّدت كثيراً أنه يجب منعها من ذلك بأي طريقة، غير أن الحصول على دليلٍ على هذه الفرضية كان متعذراً على الوكالة، ما جعل واشنطن، وعلى مدى سنوات عديدة، تعمد إلى تكرار التلويح بالعزم على توجيه ضربة عسكرية لبرنامجها في حال توفر الدليل، وتبادلت أدوار التهديد بتوجيه الضربة مع الكيان الإسرائيلي، مُغفلةً واقعة ضرب العراق واحتلاله، بناءً على شبهة امتلاكه برنامجاً كهذا، من دون أن يُطبِّق الأميركيون عليها مقولة وزير دفاعهم الأسبق، دونالد رامسفيلد، المأثورة، عندما تحدّث عن الدليل على حيازة العراق أسلحة نووية، وهي: "غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب".

لم يضع ترامب، في خطابه، خطوطاً عريضةً للكيفية التي سوف يتبعها، هو ومن دعاهم إلى العمل معه، من أجل "عزل إيران"، أو تقطيع أذرعها، لوقف إرهابها وتمويلها الإرهاب. لكنه بكلامه ذاك وضع أجندةً للخطوات التي ستتبعها بلاده للعودة إلى المنطقة بقوة، من أجل إطفاء الحرائق التي يتعذّر إطفاؤها بسهولة، بعد أن استعرت نارها ولم يسلم أحد من لهيبها، إن صدّقنا أن أميركا يمكن أن تعمل فعلاً على إطفاء أي حريق.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٧
"ما بْتَعِرْفو السوريين"!

قبل نحو عشرين عاماً، وكنا في نقاشٍ حادّ مع "دولة رئيسٍ" لبناني يُفاخِر ليل نهار بأن لحم أكتافه السياسية من خير النظام السوري، استمْهَلَنا ليخفّ الجمْع، وقال لنا هامساً: "ما بْتِفْهَمو شو بْتِحْكو، ما بْتَعِرْفو السوريين، والله حافظ الأسد وولاده قدّامهم قمّة التحضُّر والتطوُّر، ما حدا غيره بْيِكْمِشْهُم اذا فَلَتو، واذا صار لهالعيْلة شي رح تندمو على كل كلمة ضدهم".

قصة لا داعي لإكمالها... نعود إليها لاحقاً.

بعيداً من الوقوف عند تفاصيل جريمةٍ ضدّ سوري لاجىء في لبنان أو خصامٍ على الهواء بين لبناني وسوري يتعمّد كلٌّ منهما توثيق أبْشع ما لدى الآخر عبر وسائل التواصل.

وبعيداً من "تَصيُّد" الأخطاء، وهي كثيرة، والمُعايَرة واستحضار تواريخ المساعدة والاحتضان سابقاً.

وبعيداً من كل المعطيات والأرقام الاقتصادية والاجتماعية والاستفادة من المنظّمات الدولية واستفادة المنظّمات الدولية من هذا الملف.

وبعيداً من الفوضى والتشتّت في تنظيم اللجوء قانونياً، والإدراك الاجتماعي الخاص بالتوالد والتكاثر في أصعبِ الظروف من دون أيّ اكتراثٍ لزمنِ الخيام وأكواخ الصفيح، ورفْض تسجيل المولودين وحتى المتوفّين.

وبعيداً من مطالبة اللبنانيين لدولتهم بتنظيمِ سوق عملِ العاملين السوريين أسوةً بما يحصل في مصر والأردن وتركيا.

بعيداً من ذلك كله، يبدو جلياً ان اللجوء السوري الى لبنان والظواهر العنصرية المصاحِبة والفوضى المنظَّمة المترافِقة ... صارتْ أسلحة الأسد لابتزاز لبنان رسمياً وشعبياً بورقةِ "الغدِ الداكن".

مَن يقود الحملة العنصرية ضدّ اللاجئين السوريين في لبنان هم حلفاء بشار الذين يفترض بموجب علاقتهم المميّزة بالممانعة ان يكونوا الأكثر تَسامُحاً بل في الخندق المُدافِع ... واللافت أكثر، أن نظام بشار أَدْلج مسألةَ اللجوء بالشكل الآتي:

"طرفٌ لبناني ضدّ سورية لَعِبَ دوراً في تسليح الإرهابيين استخدم ورقة اللجوء في إطار خطةٍ أمنية تجهيزية خصوصاً في طرابلس والشمال وهذه الخطة ستنقلب على لبنان مستقبلاً.

لا يوجد ما يستدعي اللجوء لأن الحياة في مناطق كثيرة طبيعية وهناك مِن اللاجئين مَن يمضي نهاية الأسبوع في سورية، وهناك مَن عاد وشارك في المواجهة ضد الإرهابيين.

المنظّمات الدولية تتجاوز السلطتيْن اللبنانية والسورية وتعقد صفقاتٍ مباشرة مع اللاجئين وحتى مع محلات السوبرماركت، وهذه المنظّمات جزءٌ من مؤامرة ضدّ النظام في سورية.

لا نعرف عدد اللاجئين ولا عدد مَواليدهم ولا عدد مَن يموتون ويُدفنون في لبنان وهؤلاء سنعتبرهم مفقودين لاحقاً وسيُدرجون في أزمة قانونية مع لبنان.

كلّ عملٍ غير منضبط من اللاجئين، مثل ارتكاب الجرائم على أنواعها او حالات التسوّل والدعارة او عدم تنظيم الوضع الاجتماعي بتوثيقِ حالاتِ الزواج والولادة والوفاة، يخدمنا ويُثْبِت للبنانيين ان الرئيس بشار الأسد الوحيد الذي بإمكانه ضبْط هؤلاء ويؤكد ان اهتزاز النظام في سورية سيَدفع ثمنه لبنان.

كل فعلٍ او ردّ فعلٍ عنصري من اللبنانيين تجاه السوريين مثل التعرّض لهم ومحاصرتهم وتحديد حركتهم والصراخ الدائم مِن سَرِقتهم عمل اللبنانيين او استهلاك الكهرباء ... يَخدمنا ويُثْبت للسوريين ان مَن انتفض طالباً الحرية وبحثاً عن كرامةٍ فَقَدَ كرامَته في بلدٍ حرّ مثل لبنان، وان التعبئة مطلوبة للحظةِ الانتقام من الذين أذلونا.

وأخيراً وليس آخراً، فإن حلّ هذه المسالة لن يتمّ إلا بانفتاحٍ لبناني رسمي على النظام السوري وتأسيسِ لجانٍ مشتركة تتولى بحْث ملف اللاجئين".

انتهتْ وجهة نظر النظام السوري، وخلاصتها في النقطة الأخيرة تسليم جميع المعارضين كالخراف ليتمّ ذبْحهم في المزة وحرْقهم في صيدنايا، وابتزاز النظام اللبناني لاحقاً وسجْنه في هذا الملف، وإبقاء سيف التوتّر فوق رقاب "شعبٍ واحد في دولتين".

هذا ما يريده النظام السوري تحديداً. فكلُّ قضيةٍ ورقة في خدمته. لم تَحصل مجازر، لم تُحاصَر مدن وقرى، لم تُفرض حرب التجويع، لم تُقذف صواريخ ولا براميل، لم يُذبح معارضون ولم تُحرق جثث ولم تصبح السجون مقابر... ما في شي بحمص ولا حلب ولا حماه ولا إدلب ولا ضواحي دمشق ولا درعا ومحيطها. هؤلاء أتوا فقط ليعرف اللبنانيون أهمية بقاء هذا النظام "الحضاري" حاكماً.

لم يكن السوريون مجتمعاً حياً قبل البعث، لم يكن لديهم انفتاحٌ وتسامحٌ وتعدديةٌ وحرية إعلام، لم يكن لديهم أوّل رئيسِ وزراءٍ مسيحي قبل اكثر من 60 عاما. لم تكن لديهم مؤسساتٌ صناعية ساهمتْ في تكوينِ طبقةٍ وسطى. لم يُذلّ السوريون في الداخل مع حكم الأسد، لم تُكمم أفواههم، لم يفتقدوا أبسط مقوّمات الحياة، لم يُحرموا من العدالة في المناصب، ومن الحرية وتَداوُل السلطة، لم يتم إشغالهم بالوضع المعيشي ليل نهار كي ينسوا السياسة ويَعتبروا كل مستشفى او مدرسة او مصرف او سيارة او وظيفة منّة من الأسد، ولم يتم ترييف المدن وتغيير المعادلات الديموغرافية وإعدام التوازن المطلوب بين المناطق. هؤلاء السوريون أتوا فقط ليَشْهَدَ اللبنانيون أنهم ركضوا وراء الدولارات السبعين التي تمنحهم إياها الأمم المتحدة مع علبة حليب وكرتونة جبنة.

عودٌ على بدء. المسؤول اللبناني الذي حَذَّرَنا "ما بْتَعِرْفو السوريين"، يَعرف النظام فقط ويَعرف تماماً كيف يُشخِّص مَصْلًحَتَه. لكن السوري الذي فضّل ان تبتلعه أمواج البحر هرباً من "تَحضُّر" الأسد يعرفه ويعرفك. هذا السوري القابع تحت خيمةٍ في الثلج يعرفه ويعرفك. هذا السوري المُسْتَسْلِم لرحمةِ الطقس والمعونات والعقارب السامة ولدغات "الشبيحة" من أبناء بلده المُنْدَسّين في المخيّم وعملاء النظام اللبنانيين يعرفه ويعرفك. هذا السوري لن يعود الى "سورية الأسد"، لأنه يريد أن يعود الى سورية فقط ... سورية التي لا تريد أن تعرفها.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٧
أسطورة خالد العبود

جاء السوريون إلى سورية، كما تقول إحدى الأساطير، على سفينة نوح، ونزلوا في ميناء طرطوس، ثم انتشروا في البلاد، عمّروها، وكبّروها، وتناسلوا، وملأوها بالسكان. في ذلك الزمان، لم يكن ثمّة حافلات نقل من تلك التي يسمونها "باصات الـ هوب هوب"، ولم تكن شركة الطيران العربي السوري موجودة، وكان عدد الركاب قليلاً، ومن ثمّ فإن السفن المتوفرة كانت تكفي لنقل الناس وتزيد.

الرفيق أبو سليمان، هو الآخر، لم يكن موجوداً، حيث لم يكن ثمّة "ضرورة" لوجوده. ألم يطلق عليه الأمينُ العام لحزب الاتحاد الاشتراكي الأستاذ صفوان قدسي لقبَ "القائد الضرورة"؟ المشكلة أن المؤرخين يصرّون على أن صفوان قدسي كان يحتكر عملية إطلاق الألقاب على القائد، فتارة يسميه "الضرورة"، وتارّة يسميه "الرمز"، وتارّة يَعِدُهُ بإبقائه رئيساً "إلى الأبد"، وهذا، لعمري، خطأ منهجي كبير، فالنائب الحلبي الألمعي، فلان الفلاني، كان جالساً، في زمانٍ يقع بين اجتماعين لمجلس الشعب، في مقهى القصر القريب من سينما أوغاريت في حلب، يحتسي القهوة "الإسبريسو" من يد المعلم نمر، وفجأةً رفع سبابته إلى الأعلى، كمن يريد أن يتشاهد، وقال لجُلاسه: اشهدوا عليّ، أنا أول مَن أطلق على السيد الرئيس حافظ الأسد لقب "سيد هذا الوطن". وأضاف: إنكم تسمعون الآن كُلَّ مَنْ هَبَّ ودَبّ من المذيعين والمحللين الاستراتيجيين يقولون عنه في خطاباتهم "سيد هذا الوطن"، فتضيع الطاسة، ويلحق الغبن بي أنا، وكأنني لستُ قائلَها الأصلي.

وعلى ذكر المحللين الاستراتيجيين، تجدر الإشارة إلى أن النائب خالد العبود لم يكن موجوداً يومها. لا أقصد بـ (يومها)، يوم الطوفان ومجيء السوريين إلى ميناء طرطوس، وإنما يوم تحدّى فلانٌ الفلاني جُلَّاسَ مقهى القصر حول موضوع الريادة.

عاش السوريون في سورية، بعد هذه التغريبة، بضعة آلافٍ من السنوات، وخاضوا حروباً طويلة ضد الاستعمار والصهيونية فقط، إذ لم تكن الإمبريالية والرجعية موجودتين أصلاً، وانتهت حروبُهم باتفاق المرحومين سايكس وبيكو على ترسيم حدود سورية التي قال الأستاذ بو علي، بطلُ قصة الزميل بسام يوسف، إنه يحدّها من الشمال أول قرية تركية، ومن الشرق أول قرية عراقية، ومن الغرب شط اللاذقية وجبلة وطرطوس، ومن الجنوب، آخ من الجنوب، لقد احتله الكيان الصهيوني الغاصب، فاحترق قلب بو علي عليه.

المربع الأول الذي اشتغل عليه "القائدُ الضرورة" كان موجوداً قبل أن يخترعه النائبُ خالد العبود في مقابلته التلفزيونية الشهيرة في إبريل/ نيسان 2011، وهو النضال ضد اتفاقية سايكس بيكو، تلك الاتفاقية الحقيرة التي سعت إلى تمزيق الأمة العربية إلى أقطار صغيرة، ما أوقع القادة العرب في مأزق تاريخي، ملخصُه أن إمكانات الحكم الموجودة لدى كل واحد منهم أكبر بكثير من الدولة التي يحكمها، وهذا ما أدركه أحد النواب البرلمانيين السوريين، في نهاية شهر مارس/ آذار 2011، حينما لاقى (فرخ القائد الضرورة) عند مدخل البرلمان، ومسّد جسده بأصابعه، وحلف له بالطلاق بالثلاثة على أنه، لو كان الوطن العربي موحّداً، وراح العربان يبحثون عن قائدٍ له، لكنت أهلاً لذلك، وتزيد.

ركّز الإخوة المواطنون الذين جاءوا إلى هذه البلاد على ظهر سفينة نوح، قبل خمسة آلاف سنة، أبصارَهم على الكف الأيمن للقائد الطويل، متوقعين أنه سيضرب النائب المذكور كفاً يجعله يقول عن الخبز (خبج)، ويقول له: اسكت، أهذا وقت نفاقك؟ ألا تعرف أن الدماء تجري في شوارع درعا؟ ولكن، خاب فأل السوريين وخسئوا، فالقائد الكبير أعجب بما قاله النائب، وانفلت بالضحك، وراح يقول: الله، سورية، شعبي وبس.

وبعد ست سنوات ونصف السنة من هذه الحادثة، كان القائد التاريخي ونواب مجلسه العظيم يطالبون دول العالم بأن يساعدوهم على عدم تقسيم سورية، والحفاظ على القسم المفيد من سورية التي رسمها المتآمران سايكس وبيكو.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٧
حكام سورية الجدد

يؤشر طرح إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استراتيجية "قطع الرأس"، أي فصل رأس النظام السوري بشار الأسد عن جسد النظام وإخراجه مع عشرين من النظام، إلى أن مسألة تركيبة السلطة في سورية ستتحوّل إلى أحد المداخل، إن لم يكن المدخل الأساس، للحل في سورية، خصوصاً وأن الأمر شرط لأطراف إقليمية ودولية كثيرة، لضمان تفاعلها مع الحل في سورية، وتسهيلها ترتيباته واستحقاقاته، بما فيها استحقاق إعادة الإعمار الذي سيشكل العنوان الرئيسي للموضوع السوري في المرحلة المقبلة.
لا تبدو روسيا بعيدة عن هذا الطرح، وإن كانت تعمل على توضيبه وإدراجه بطرق مختلفة، سواء من خلال الطرح الفيدرالي الذي يوسع بنية السلطة في سورية، أو من خلال الصياغة الدستورية التي تنزل بشار الأسد من مكانة الحاكم المطلق بصلاحيات عريضة إلى شريكٍ في الحكم بصلاحيات منخفضة، وربما ممثل لمكوّن يتساوى مع ممثلي المكونات الأخرى، والفرق بين الطرحين، الأميركي والروسي، أن الأول يبعد بشار الأسد جسدياً من السلطة، في حين أن الثاني يعيد صياغة وضعه بقالب جديد.

غير أن التوجهات العالمية، والمحفزات المطروحة، ترجح الخيار الأميركي، كما أن توجه أميركا إلى بناء شبكة من القوانين والقرارات، آخرها قانون قيصر، تجعل من الاستحالة على روسيا إنجاح مقترحها، وعدم الرضوخ للطلب الأميركي بإزاحة بشار الأسد ومعاونيه عن السلطة، مع ضمان عدم فتح ملفات الحرب والجرائم المرتكبة، والتي ستكشف تورط روسيا وارتباطها ببعض تلك الملفات، سيجعل من إزاحة بشار الأسد أقل الخيارات سوءاً بالنسبة لروسيا، خصوصاً إذا تم تحفيز روسيا بالمحافظة على نفوذها في الساحل، وحصولها على حصةٍ من إعادة الإعمار، ويبدو أن الأمرين مطروحان على طاولة التفاوض الأميركي – الروسي.

ومؤكد أن لدى إدارة ترامب تصوراً ما عن تركيبة النظام السياسي في سورية بدون الأسد، ولم تصل إلى مثل هذا الطرح، لو لم يكن لديها تصوّر، ولو بحدود بسيطة، عن البديل السلطوي، خصوصاً وأن الإدارة الأميركية كانت قد تذرعت في تقاعسها عن إزاحة الأسد بعدم وجود البديل، والمؤكد أنه في حال موافقة روسيا سيتم إدماج تصوراتها وأفكارها عن صناعة البديل مع التصور الأميركي، كما أن نجاح المشروع سيستدعي استمزاج أطراف إقليمية ودولية أخرى، منخرطة في الحدث السوري، بشأن التركيبة السلطوية الجديدة.

لكن، ما هو التشكيل السلطوي الممكن في ظل الواقع السوري الحالي؟ لقد أفرزت سنوات الحرب شكلاً سلطوياً جديداً في المناطق السورية، وهو تحالف بين أمراء الحرب "من الجهتين" ومشايخ دين ووجاهات إجتماعية وزعماء عشائر، بالإضافة إلى تجار الحرب والأثرياء الجدد، وهؤلاء عدا عن أنهم كرّسوا سلطاتهم في البيئات المحلية، من خلال القوة التي امتلكوها عبر مصادر عديدة، فإنهم، بالإضافة إلى ذلك، أصبحوا من ضرورات الحل والجهات القادرة على تأمين الاستقرار ونجاح الحل في المراحل الأولى، وتأمين سيرورة الحياة وإدارتها، فهم الذين يملكون القدرة على إدراج الحلول السياسية، وتطويع القوى المقاتلة، وهم الذين يملكون القدرة على تأمين الخدمات في ظل تحطّم مرتكزات الدولة ومؤسساتها في المساحة الأكبر من سورية.

بالإضافة إلى هؤلاء الذين سيشكلون البنية التحتية للسلطة، سيقف على قمة هرمها شخصيات سياسية وعسكرية وأمنية من نظام الأسد، وشخصيات من المعارضة استلمت مواقع مهمة في أطر المعارضة الخارجية، بالإضافة إلى بعض الوجوه من معارضة الداخل، وأولئك الذين اكتسبوا وكوّنوا خبرات إدارية في مجالات القيادة وصناعة القرار والإعلام، حيث من المتوقع إدماجهم كمستشارين، أو بطانة للحكم.

حكام سورية الجدد، هم خليط طائفي عشائري، ومزيج عسكري ومليشياوي، وكوادر من أحزاب قديمة ومنابر ومنصات جديدة، تركيب سلطوي اصطناعي بدرجة كبيرة لا رائحة ولا طعم له.

وحكام سورية الجدد سيعكسون التوازنات الإقليمية والدولية، وبعكس العراق الذي كان تشكّل حكامه الجدد من حلفاء إيران، ولبنان من أمراء الحرب، فإن تعقيدات الوضع السوري ستظهر تركيبة معقّدة، وسيكون ارتباطها الإقليمي والدولي أوسع بكثير بين إيران وتركيا ورسيا ودول الخليج والأردن وأميركا وفرنسا، وستكون الصورة أكثر تعقيداً في حال استمرار سورية دولة موحّدة، حيث سيظهر الصراع على أشده في كل مشروع قرار، وأي إجراء يتم إقراره، وسيعاد تكرار التجربة اللبنانية في تعطيل المؤسسات وتوقف الخدمات. وفي حال تقسيم سورية إلى كيانات، ستكون الصورة أوضح، حيث ستختار الأطراف الداعمة أو ذات التأثير المباشر النخب الحاكمة.

تدرك الأطراف الخارجية التي ستساهم في صناعة التركيبة السلطوية في سورية، أو توليفها، مسبقاً، حجم الخلافات بين مختلف الأطراف الداخلية، وتدرك استحالة تحقيق توافق بينها على إدارة شؤون الدولة. وللالتفاف على هذه الإشكالية، الأرجح أن تعمد إلى تغيير تركيبة الدولة نفسها، كأن يستقرّ الرأي على تطبيق الفيدرالية. وفي هذه الحالة، ستنتج كل منطقة سلطاتها المحلية بأريحية، مع وجود "كوتا" محدّدة مسبقاً في الهيئات المركزية التي ستكون سلطاتها محصورةً في مجالات محدّدة يسهل التوافق بشأنها.

تشير التوافقات الأميركية الروسية، بعد زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أخيراً، واشنطن، إلى بداية تفكيك عقدة بشار الأسد، والتفكير، وربما بدء العمل، على صياغة البدائل الجديدة، والأسد نفسه لمح في مقابلته أخيراً إلى وجود مثل هذا الطرح، عندما هدّد بأنه لن يغادر سورية إلا شهيداً.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٧
استحالات الحل السياسي في سورية

 الاستحالة الأولى: منذ 30 يونيو/حزيران من عام 2012، حين تم إعلان وثيقة جنيف، وما أفصحت عنه من توافق دولي على حل سياسي في سورية، وقعت مشكلة لم يجد أحد لها حلاً هي تشكيل "الهيئة الحاكمة الانتقالية" التي تقرّر أن تكون أداة تحقيق الانتقال السياسي من النظام الاستبدادي إلى الديمقراطية، لذلك أعطتها الوثيقة صلاحياتٍ تنفيذية كاملة، وشرطت قيامها برضى الطرفين السوريين المتقاتلين، الذي يلزم الأسديين بتجاوز ما تبين أنه محال: إزاحة بشار من جهة، وقبولهم انتقالاً إلى الديمقراطية قتلوا مئات آلاف السوريين، كي يمنعوه من جهة أخرى. وزاد طين الاستحالات بلة استحالة جديدة، هي قصر فترة الانتقال، التي لا تتعدى سنة واحدة، يُراد خلالها تصفية استبداد شمولي نادر المثال، دام أكثر من نصف قرن وإرساء ديمقراطية في مجتمعٍ مزقته الحرب، ودولة مهددة شبه مدمرة.

الاستحالة الثانية: لتجاوز معضلة تشكيل "الهيئة الحاكمة الانتقالية"، اقترح الروس بعد قليل من غزوهم سورية تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، ولمّحوا إلى نيتهم استخدام القوة "لإقناع" الثورة بها خلال فترة ثلاثة إلى ستة أشهر، ستكون كافيةً لاحتواء المعارضة داخل النظام الأسدي، الذي لن يستبدل بنظام ديمقراطي، بينما ستمتد الفترة الانتقالية، فترة ولاية الأسد على الدولة، إلى عام ونصف عام، سيكون من حقه أن يرشح نفسه بعدها لانتخابات رئاسية جديدة، وفق قرار دولي جديد رقمه 2254، أبطلت بعض فقراته وثيقة جنيف، وبعض القرارات الدولية الخاصة بآليات تنفيذها.

بفشل الروس في إرغام المعارضة على قبول "حكومة الوحدة الوطنية" بديلاً "للهيئة الحاكمة الانتقالية"، وبتحول فترة الحسم السياسي/ العسكري إلى زمن مفتوح، وجدت موسكو نفسها أمام استحالة ثالثة، أملتها رغبتهم في تغطية فشلهم، وابتكار حلول لإدارة الصراع بما يخدم مصالحهم. هكذا التقطوا مقترحا تقدمت به مؤسسة راند الأميركية، أقنعتهم بتبنيه دلالات الضربة الأميركية لمطار الشعيرات، ورغبتهم في كسر احتجاز خطتهم السورية، عبر إقناع واشنطن بقراءتهم الخاصة لحل تدرجي أميركي المنشأ، يؤسس خمس "مناطق آمنة" في سورية، تنعم بوقف إطلاق نار شامل، في ظل مرابطة قوات روسية وأميركية وتركية وأردنية فيها، مع الإبقاء على الأسد ونظامه في مناطق سيطرته، وتشكيل كياناتٍ إدارية خارجها، تقودها مجالس مدنية، تعيد السوريين إلى بيوتهم، وتنخرط بعد سنواتٍ من الإعمار في التفاوض حول حل شامل، يفيد من وثيقة جنيف.

بدّل الروس نقاطا مهمة من خطة "راند"، لكنهم احتفظوا بفكرتها عن إطالة الفترة الانتقالية، لأنها ستمكّنهم من تخطي مشكلة الأسد، ووجود عسكري إيراني فاعل في سورية، وستتيح لهم ابتداع "قياداتٍ" مقربة منهم، تفاوض على الحل، عوضا عن المعارضة السياسية المعترف بها، وتنشر نفوذهم في سيطرة الفصائل، وتضع أميركا أمام وقائع أنتجتها خطة مركز معتمد لديها، وتلطف، في الوقت نفسه، علاقات الكرملين معها، بتوسيع العمل المشترك مع جيشها، الذي لا يبدي اليوم كبير اكتراثٍ بخطط موسكو السورية، ويواصل إقامة بيئةٍ استراتيجية، تضم شمال سورية والعراق، تضع "درة العالم الاستراتيجية"، حسب وصف بريجنسكي، تحت يدها، بعدما فشلت في الاستيلاء عليها بين عامي 2003 و2006.

بتموضع واشنطن العسكري في سورية والعراق، وإعلانها أنها ستبقى فيهما ثلاثين عاما، وستحجّم وتخرج إيران من سورية، وتضم وحدات من الجيش السوري الحر إلى الحلف المعادي للارهاب، وستواصل وضع روسيا في مواجهة عجزها عن الانفراد بتحديد نمط الحل السوري ونتائجه، لتذكيرها بأنها لن تنال حقوقها من دون التسليم بأولوية (ومرجعية) الدور الأميركي، القادر وحده على انتشالها من التعقيدات السورية، بعد أن يقطع شوطا كافيا في بناء وجوده العسكري شمال سورية والعراق، وتقويض وجود "داعش" فيهما تحديدا، وقطع طرق إمداد إيران إلى سورية، وتسليم مناطق "داعش" إلى مجالس مدنية متعاونة مع الجيش الحر، ستديرها كمناطق آمنة، وليس كمناطق مخفضة التصعيد، تقيمها موسكو اليوم بالتعاون مع إيران: عدو الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اللدود.

على الرغم من كل شيء، يبدو أن موسكو وواشنطن متفقتان على مسألة خطيرة النتائج هي إطالة الفترة الانتقالية إلى أمد لم يعد محدّدا، وما سينتجه ذلك من إلغاء نهائي لحل جنيف السياسي الذي ترفض موسكو تحقيقه، بينما يواصل جنرالات واشنطن خططهم العسكرية السورية، ويؤجلون أي حلٍّ ريثما يستكمل البنتاغون إخراج "داعش" والنظام من منطقة وجوده الاستراتيجي في سورية والعراق، ويقتنع الروس أن مفاتيح الحل النهائي كانت وستبقى في يده.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٧
هل يلغي ترامب اتفاق إيران النووي؟

عندما قام ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بزيارته واشنطن، أعلن البيت الأبيض في حينه أن الرئيس دونالد ترامب توصل مع ضيفه الى تطوير برنامج أميركي- سعودي ينطوي على استثمارات تتجاوز قيمتها مئتي بليون دولار. وجاء في الإعلان أيضاً أن هذا البرنامج المشترك سيعمل خلال السنوات الأربع المقبلة (أي مدة ولاية الرئيس) على معالجة مشكلات الطاقة والصناعة والبنية التحتية والتكنولوجيا، الأمر الذي ينتهي بإقامة تحالف بين الدولتين.

في القمة العربية- الإسلامية- الأميركية التي عقدت في الرياض بحضور قادة وممثلي 55 دولة، أعلن الرئيس دونالد ترامب عن تجديد اتفاق الشراكة الذي دشنه الملك المؤسس عبدالعزيز والرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت عام 1945. وانتقد ترامب في خطابه المسهب سياسة سلفه باراك أوباما الذي قوّض الشراكة الأميركية- السعودية بعد مرور أكثر من سبعين سنة، ليؤسس شراكة بديلة مع إيران، الدولة التي وصفها ترامب بأنها تغذي الإرهاب في الشرق الأوسط.

والثابت من مراجعة مضمون المداخلات التي ألقاها بعض المشاركين في القمة، أن إيران كانت مستهدفة من قادة الدول الخليجية الذين عبروا عن قلقهم من تدخلها المتواصل في شؤونهم الداخلية.

ورأى أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في كلمته أن الضرورات الأمنية توجب حماية حدود البلدان من الاعتداءات المتكررة، ملمحاً الى ما يقوم به الحوثيون في اليمن. وكان بهذا التلميح يشير الى خطورة الحرب التي اندلعت بواسطة بدر الدين الحوثي الذي أقام سنوات عدة في طهران، وتأثر بالحركة الخمينية التي دعمته وشجعته على الإقتداء بالنموذج الإيراني.

يطلق الحوثيون على أنفسهم تسمية «أنصار الله». ويعتبر المراقبون أن هذه الجماعة تشكل أكبر ميليشيا في اليمن، إذ يقدّر عدد أفرادها بنصف مليون مقاتل. وهم منتشرون في صعدة وجوارها، ولكن تحالفهم مع غريمهم السابق الرئيس علي عبدالله صالح ساعدهم على التمدد باتجاه عمران ثم العاصمة صنعاء.

تتهم الرياض طهران بأنها تستغل اندفاع الحوثيين لإحداث إرباك أمني في السعودية بغرض الالتفاف على منطقة الخليج مثلما حاول أن يفعل جمال عبدالناصر. ففي عام 1962 قامت مصر بتحريض بعض العناصر العسكرية في اليمن الشمالي لإحداث انقلاب ضد نظام الإمام محمد البدر، انتهى باندلاع حرب أهلية لم تهدأ أحداثها إلا في عام 1970. أي عندما قرر اليمنيون اختيار حق تقرير مصيرهم بعيداً من التأثيرات الخارجية.

وبعكس التورط العسكري الذي استنزف قوات عبدالناصر، تدّعي طهران الوقوف على الحياد في حرب شرسة تؤمن لها مختلف وسائل الأسلحة المتطورة. وكان من نتائجها المروعة مقتل أكثر من خمسة آلاف مدني، وتشويه تسعة آلاف آخرين، إضافة الى تفشي مرض الكوليرا الذي حصد عدداً كبيراً من الأطفال.

وأشار آخر تقرير رفعه المبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ أحمد الى ازدياد أزمة التغذية اذ يعاني من نقص الغذاء حوالى ستة ملايين ونصف المليون مواطن من أصل 17 مليون نسمة يشكلون عدد السكان. وإضافة الى ذلك، يتحدث التقرير عن مليوني مشرد داخل اليمن، و180 ألفاً آخرين هربوا الى دول متاخمة.

مع إعادة انتخاب الرئيس حسن روحاني، تفاءل الكثيرون بدوره الإصلاحي السابق الذي استفاد منه النظام لإعلان انفتاحه على الغرب. واعتبر روحاني في أول حديث له بعد إعادة انتخابه أن علاقات بلاده مع واشنطن ظلت تعاني من عدم الثقة طوال أربعين سنة. ورأى «أن موقف الولايات المتحدة كان صحيحاً عندما رضخت للحق الإيراني، وجلست الى طاولة المفاوضات لتوقيع الاتفاق النووي الذي يصب في مصلحة كل الأطراف المعنية».

وفسر المحللون هذا التعليق المتحفظ بأنه مجرد اختبار أولي بغرض اكتشاف ردود فعل المرشد الأعلى علي خامنئي، وما إذا كان في الأفق هامش واسع للمناورة مع التحالف الذي ضمته قمة الرياض، أي القمة التي وصفها حسن روحاني بأنها استعراضية لا تملك أي قيمة سياسية!

ويُستدَل من مجرى الأحداث أن وصف روحاني ليس دقيقاً بدليل أن العسكريين الأميركيين وجهوا قبل فترة قصيرة ضربة قاسية الى «كتائب الإمام علي» التي يدعمها «الحرس الثوري» الإيراني. وعلى أثر ذلك الحادث أعلنت «وكالة فارس» أن إيران سترسل ثلاثة آلاف مقاتل من «حزب الله» الى منطقة التنف لمواجهة المخطط الأميركي.

ويلاحظ قادة المعارضة السورية أن واشنطن بدأت تميل الى مواجهة إيران في سورية... والى إحراج نظام الأسد بهدف إخراجه. ومثل هذا التحول ينطبق على سياسة واشنطن في اليمن أيضاً، الأمر الذي أفقد الحوثيين التعاطف الذي كان يبديه حيالهم وزير الخارجية السابق جون كيري بتوجيه من رئيسه باراك أوباما.

قبل أسبوعين تقريباً، أمر الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» الإيراني، مقاتليه بأن يغيروا الطريق التي يسلكونها للوصول الى سواحل البحر الأبيض المتوسط (نحو 225 كيلومتراً). والسبب هو تحاشي الاصطدام مع القوات الأميركية المتجمعة في شمال شرقي سورية بحجة محاربة «داعش».

والطريق الجديدة تمتد من دير الزور الى بلدة السخنة، ومنها الى تدمر فدمشق، إنطلاقاً الى الحدود اللبنانية حيث تقوم بالحماية قوة تابعة لـ «حزب الله».

من أجل الرد على توسع النفوذ الإيراني، قررت الإدارة الأميركية التصدي لهذا النفوذ، الأمر الذي يفسر الضربة التي سددتها قوات التحالف الى قوات سورية - إيرانية كانت متجمعة قرب قاعدة التنف.

ووفق ما أعلنه قادة عسكريون أميركيون في سورية، فإن الغاية من تلك الضربة تكمن في الحاجة الى إقفال الممر الحيوي الذي يمتد من لبنان وسورية الى العراق وإيران.

وترى واشنطن أن نجاح طهران في مسعاها الاستراتيجي يبدل موازين القوى الأمنية في منطقة حساسة تجمع سورية وإيران والعراق ولبنان والأردن. لهذه الأسباب وسواها، تشعر القيادة الإيرانية بأن وجود القوات الأميركية مع قوات التحالف فوق الأرض السورية، سيعمل على دفع قواتها بعيداً من شواطئ المتوسط. وفي حال استمر الضغط، فإن انفجاراً سيكون متوقعاً في لبنان بواسطة «حزب الله» وفي غزة بواسطة «حماس» و «الجهاد الاسلامي».

تتوقع القيادة الإيرانية تحقيق الانذارات الأميركية بإلغاء الاتفاق الذي وقعته إدارة أوباما في تموز (يوليو) 2015. وهذا يعني حل التزامات إيران السابقة المحددة بعشر سنوات. كما يعني أنها أصبحت حرة في استئناف عملية التخصيب في مفاعل بوشهر وغيره. وأبلغتها كوريا الشمالية أنها على استعداد لمعاونتها في هذا المجال، تماماً مثلما تعاونت مع سورية لبناء مفاعل دير الزور.

والثابت أن الرئيس بشار الأسد كان يخشى من هجوم مفاجئ تشنه ضد بلاده القوات الأميركية التي احتلت العراق. خصوصاً أن طائرات المراقبة كانت مشغولة بتصوير الجهاديين الذين تدربهم دمشق على قتل الأميركيين، ثم ترسلهم الى العراق لتنفيذ المهمة.

ولما أوكلت عملية التنفيذ الى كوريا الشمالية، اختار خبراؤها موقعاً على نهر الفرات لبناء المفاعل، وسرعان ما نقل القمر الإصطناعي الأميركي صوره الى إسرائيل. وفي منتصف أيار (مايو) 2007 سافر رئيس جهاز «الموساد» مئير داغان الى واشنطن لإطلاع مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي على تفاصيل المفاعل الذي كاد يكون نسخة طبق الأصل عن مفاعل «يونغبيون» الكوري الشمالي. وتقرر في ذلك الاجتماع نسفه قبل أن يستكمل ويصبح جاهزاً للعمل. لذلك دمرته الطائرات الإسرائيلية قبل أن تؤدي الضربة الى انتشار المواد المشعة في الهواء وفي نهر الفرات أيضاً. وبعد مضي وقت قصير، قامت سورية بإزالة الموقع بالجرافات من دون أن تسمح لمحققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارته.

عقب إجراء بيونغيانغ تجربة صاروخية ناجحة، سئل الزعيم الشاب كيم جونغ اون عن الغاية من صنع صواريخ عابرة للقارات ومن امتلاك قنابل نووية. وأجاب عن السؤال بعبارة سريعة: لكي أحمي نفسي وبلادي من مصير يهددني كالمصير الذي قضى على معمر القذافي وصدام حسين!

ويرى المراقبون في حال نفذ الرئيس دونالد ترامب تهديده، وقرر إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، فإن طهران مضطرة الى استعجال تنفيذ صنع القنبلة النووية. وهناك مَنْ يدّعي أن القنبلة أصبحت في حوزتها بمساعدة بيونغيانغ.

كتب كينيث والتز، المحاضر في جامعة كولومبيا، مقالة في مجلة «فورين أفيرز» طالب فيها الدول الغربية بإعلان موافقتها على حصول إيران على القنبلة النووية. وقال في تبرير ذلك إن حصول باكستان على القنبلة أنهى أسباب التوتر بينها وبين عدوتها التاريخية الهند. ومثل هذا التوازن يمكن أن ينسحب أيضاً على إسرائيل وإيران، شرط أن تحصل إيران على قوة الردع التي تهدد بها إسرائيل العالم العربي منذ عام 1961. ومثل هذا الأمر يقتضي ولادة تجمع دولي جديد قوامه: إيران وكوريا الشمالية وسورية والعراق.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٧
مناطق «تقاسم النفوذ» في سورية

لم ينتهِ تنظيم «داعش» في سورية بعد. لكن ذلك يبدو اليوم أقرب من أي يوم مضى. فهو يتراجع بسرعة في البادية أمام القوات النظامية وحلفائها (وأمام فصائل المعارضة أيضاً)، وخسر آلاف الكيلومترات المربعة على امتداد الحدود مع الأردن والعراق. أما في الشمال، فيواجه التنظيم خسارة عاصمة «خلافته» بعدما باتت «قوات سورية الديموقراطية» على مشارف مدينة الرقة.

يُفترض أن يساعد انهيار «داعش» في سورية في تظهير صورة الحل في هذا البلد الغارق في الحرب، ولكن هل هذا ما يحصل فعلاً؟

تبدو الصورة أكثر وضوحاً في شمال سورية وشمالها الشرقي مما هي عليه في جنوبها وجنوبها الشرقي. واتضاح الصورة أو غموضها يرتبط إلى حد كبير بتحديد الطرف المسيطر على الأرض.

لا ينشط في شمال شرقي سورية في الحقيقة سوى تحالف «سورية الديموقراطية» الذي يهيمن عليه الأكراد ويخضع لإشراف أميركي مباشر. نجح هذا التحالف، حتى الآن، في فرض سيطرته الكاملة على امتداد محافظة الحسكة عند مثلث الحدود مع العراق وتركيا، وعلى أجزاء واسعة من محافظة الرقة، وصولاً إلى جزء من محافظة حلب (كوباني شرق الفرات ومنبج غربه). ومع اقتراب بدء معركة طرد «داعش» من مدينة الرقة، تبدو «قوات سورية الديموقراطية» على أهبة إطلاق «رصاصة الرحمة» على «خلافة داعش» الميتة سريرياً في سورية والتي تلفظ أنفاسها الأخيرة في العراق أيضاً (مع إنهاء آخر جيوب المقاومة في الموصل).

وعلى رغم أن للحكومة السورية وجوداً رمزياً في محافظة الحسكة (مدينتي الحسكة والقامشلي)، إلا أن السيطرة الفعلية في كل شمال البلاد، من الحسكة شرقاً مروراً بالرقة وريفي حلب الشمالي الشرقي (كوباني ومنبج) والشمالي الغربي (عفرين)، هي في الواقع لفصيل واحد لا منافس له هو «سورية الديموقراطية» وعماده «وحدات حماية الشعب» الكردية. وبما أن قوات أميركية تنتشر إلى جانب الأكراد في أجزاء واسعة من هذه المنطقة، فمن المنطقي الافتراض أن أحداً لن يجرؤ على تهديدها على طول الحدود مع تركيا التي كانت الطرف الوحيد الذي دأب على تهديد الأكراد، ملوحة بتوسيع الجيب الذي تسيطر عليه في ريف حلب الشمالي (يفصل بين منبج وعفرين). لكن نشر الأميركيين قواتهم إلى جانب الأكراد وضع حداً، كما يبدو، لتهديدات أنقرة.

هذه الهيمنة لـ «سورية الديموقراطية» في شمال البلاد تختلف إلى حد ما عن صورة الوضع في جنوبها وجنوبها الشرقي. هنا القوة الأكبر حالياً هي لجماعات شيعية تتدفق بإشراف إيراني لمساعدة القوات النظامية السورية في فتح طريق دمشق - بغداد. فتح هذا الطرف في الأيام الأخيرة جبهات متعددة. فمن ريف السويداء الشرقي، انطلقت قوات عبر مناطق جرداء قرب حدود الأردن، وسيطرت على مناطق كان «داعش» ينتشر فيها سابقاً قبل أن تطرده منها فصائل معارضة. أما في البادية، فتقدمت القوات النظامية وحلفاؤها من ريف دمشق الشرقي وحاصرت المعارضة في القلمون الشرقي الذي كان «داعش» يحاصره سابقاً، قبل أن تحل محله القوات النظامية والموالون لها. والتقت هذه القوات قبل أيام مع قوات أخرى كانت تتقدم في ريف حمص الجنوبي الشرقي، متجهة كما يبدو نحو معبر التنف في إطار خطة فتح الطريق إلى بغداد.

لكن القوات النظامية والميليشيات الشيعية ليست وحدها من يحاول طرد «داعش» من البادية، فهناك أيضاً فصائل مدعومة من دول غربية. وعلى رغم أن الأميركيين ضربوا حلفاء للنظام السوري عندما اقتربوا من الفصائل في التنف، إلا أن ذلك لم يتكرر على رغم مواصلة القوات النظامية وحلفائها تقدمهم في المنطقة ذاتها.

هل سيسمح الأميركيون للحكومة السورية والجماعات الشيعية بمواصلة التقدم نحو حدود العراق؟ ليس واضحاً الجواب حتى الآن، لكن إذا ما حصل ذلك وسبقت القوات النظامية المعارضة إلى دير الزور، فإن ذلك سيعني بلا شك تكريساً أميركياً – روسياً لمناطق النفوذ السورية. سيهيمن الأكراد وحلفاؤهم على الشمال، بحماية أميركية، بينما تهيمن القوات النظامية والجماعات الشيعية على جنوب شرقي البلاد، بحماية روسية. ربما هذا ما دفع بجزء من المعارضة لرفض اتفاق آستانة الخاص بمناطق «تخفيف التصعيد» الأربع خشية أن يؤدي إلى تقسيم سورية. مع انهيار «داعش» وتقاسم إرثه، ستصبح «مناطق تقاسم النفوذ» ست مناطق بدلاً من أربع.

اقرأ المزيد
٢٧ مايو ٢٠١٧
تقاسم نفوذ في سوريا

لم تحقق الجولات الست من المفاوضات في جنيف أي تقدم يذكر، ويمكن القول إن المفاوضات بين المعارضة والنظام لم تبدأ إلى الآن، فالطرفان يفاوضان المبعوث الأممي الذي لا يملك قوة ضاغطة على النظام كي يقبل بالتفاوض المباشر والدخول في صلب الموضوع، وهو الانتقال السياسي المنشود، وبدا واضحاً أن الروس يريدون التخلص من إشراف الأمم المتحدة، وهذا ما دعاهم لإنشاء مسار تفاوضي في آستانة بعيداً عن الهيئة العليا للمفاوضات التي تصر على تنفيذ قرارات مجلس الأمن.

وقد أبدت الهيئة مرونة في التفاعل مع مسار آستانة لكونه اتخذ طابعاً عسكرياً يبحث عن وقف لإطلاق النار، ولكن الروس الذين دعوا الفصائل العسكرية وحدها فاجؤوا العسكريين بحديث عن الدستور، بل إنهم قدموا رؤيتهم لدستور سوري. وبالطبع رفض العسكريون أن تكون مباحثات آستانة سياسية الهدف، ورفضوا بحث الدستور وانتهت محادثات آستانة إلى اتفاقية دولية (لا توقيع للسوريين عليها) حول ما سموه تخفيف التوتر.

وعلى رغم أنه لا يلبي الهدف الذي نسعى إليه من وقف شامل وكامل لإطلاق النار فقد وجدنا فيه خطوة مقبولة لتخفيف معاناة شعبنا من القصف المتصاعد. ولولا أن إيران أحد أطراف الاتفاق لوجدنا فيه منطلقاً لتحقيق خطوات أوسع نحو مرحلة بناء الثقة التي نص عليها القرار الدولي 2254 واعتبرها فوق التفاوض.

ولا يغيب عن روسيا أن الشعب السوري كله يرفض وجود إيران رفضاً مطلقاً ويعتبرها دولة معتدية، ولها مشروع طائفي عقائدي توسعي يهدد مستقبل سوريا والمنطقة. ولكن روسيا مضطرة لبقاء إيران عسكرياً على الأرض لأن روسيا تسيطر على سماء سوريا بينما إيران تسيطر على الأرض في مناطق نفوذ النظام. والعجب أن تتجاهل روسيا الحقائق الناصعة في كون إيران منبع الإرهاب وراعية «داعش»، فقصة تدخلها في الموصل برعاية المالكي لا تغيب عن أحد، فضلاً عن الرعاية التاريخية لـ«القاعدة» في طهران، ومع ذلك تزعم روسيا أن إيران تحارب الإرهاب! ولقد أبدت المعارضة السورية مرونة في الحوار مع روسيا لكونها دولة كبرى لا نريد تصعيداً عسكرياً معها، وندرك أهمية كونها عضواً في مجلس الأمن، وتملك تفويضاً دولياً غير معلن لإيجاد حل سياسي للقضية السورية، إلا أن حوار المعارضة مع روسيا لم يصل إلى أرضية مشتركة ينطلق منها مسار الحل باتجاه النجاح، وهذا ما لمسته شخصياً في لقائنا الأخير مع السيد غاتيلوف في جنيف.

إن ما يطلبه المجتمع الدولي جله، هو أن تبتعد روسيا عن دعمها للمشروع الإيراني التوسعي، وهذا ما أكدت عليه قمم الرياض مع الرئيس ترامب، وإصرارها على التماهي الكامل مع مشروع إيران غير المشروع، سيفقدها صلتها مع الأمتين العربية والإسلامية معاً.

ونعرف أن روسيا تريد أن تستعيد مرحلة الحرب الباردة لتعود قطباً مهماً في الساحة الدولية، ولكنها اختارت الحليف الذي ينظر إليه العالم كله على أنه مصدر الإرهاب ومنبعه.

وقد ألمحت روسيا إلى أنها حققت نجاحاً في آستانة، بينما تخفق المفاوضات في جنيف، ولكنها مسؤولة عن إخفاق جنيف لأنها تصر على أن تضع العربة أمام الحصان، حين تضغط على الوسيط الدولي ألا يناقش الانتقال السياسي، وأن يشغل المفاوضين بالحديث عن الدستور أولاً، وقد قبلنا بذلك كي لا يقال إننا نعطل مسار التفاوض، وقبلنا أن يكون هناك مستشارون وخبراء يدرسون الملف الدستوري والقانوني على ألا يتوقف مسار الملف السياسي المتعلق مباشرة برؤية جادة للانتقال السياسي.

وشعبنا اليوم يرتاب فيما يخطط له الآخرون، ويخشى خطر أن يؤول المسعى الدولي لإنهاء القضية إلى عملية تقاسم نفوذ، تجعل التقسيم واقعاً على الأرض، وهذا ما يرفضه شعبنا، ومحال أن يقبل أحد بأن تكون محصلة الثورة السورية الضخمة بتكلفتها البشرية والإنسانية الدموية ضياع سوريا وتمزقها إلى أجزاء ودويلات.

ومحال كذلك أن يقبل السوريون بكون إيران ضامناً لأمنهم، أو أن يكون لها أي دور في المستقبل، وهي التي قتلت آلاف السوريين، ولن يطمئن شعبنا لأي دور روسي أيضاً ما لم تقف روسيا على الحياد وتقتنع بأن مصالحها الاستراتيجية في سوريا هي مع الشعب وليس مع نظام مجرم دمر سوريا، وقتل شعبها وشرده.

اقرأ المزيد
٢٧ مايو ٢٠١٧
عن ضعف التعاطف مع الثورة السورية

بعد ستة أعوام على أكبر مأساة عرفتها منطقتنا، وعلى رغم معاناة السوريين وتضحياتهم الجمّة، والأهوال التي تعرّضوا لها، ومن ضمنها التشرّد والغرق في البحر، وعلى رغم وحشية النظام الذي يقصفهم بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات والمدفعية، وانتهاجه استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً، والقتل تحت التعذيب، وآخرها اكتشاف محرقة سجن صيدنايا، إلا أن التعاطف مع السوريين لم يصل بعد إلى الدرجة المناسبة، لا في المجتمعات العربية، ولا في المجتمعات الغربية.

لا يتعلق الأمر بضعف التعاطف فحسب، إذ ما يفاقم هذه المأساة هو حالة إنكار هذه المعاناة والأهوال، والتلاعب وتزييف الحقائق، التي يقوم بها النظام وحلفاؤه، بتصوير الأمر حيناً باعتباره حرباً ضد الجماعات الإرهابية، أو التدخلات الخارجية، أو حرباً دينية أو طائفية، هدفها فقط اختطاف الحكم من السلطة القائمة.

هذا الوضع يجعلنا نتساءل بكل جدية ومسؤولية، ماذا فعلت المعارضة إزاء مهمة أساسية لها، وهي التعريف بطبيعة الثورة التي قامت من أجل الحرية، وإقامة دولة ديموقراطية، لا تتغول فيها الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين، ولا تنتهك حقوقهم الإنسانية؟
والحديث عن التعاطف الدولي لا يعني فقط الحكومات الغربية في الدول المحسوبة على «أصدقاء الشعب السوري»، وإنما يتعلق أيضاً بإقناع الرأي العام في هذه المجتمعات بمشروعية وعدالة ثورة السوريين، بدلاً من ترك الأمر للنظام ومن معه، وبدلاً من إفساح المجال لتصدر خطابات الجماعات العسكرية الإسلامية المتطرفة، عوض الخطابات التي تتحدث عن حق الشعب السوري في الحرية والمواطنة والديموقراطية. وتتعلق مسؤولية المعارضة أيضاً بالترويج للخطابات التي تعتبر أن ما يجري هو صراع سياسي بين الشعب والحكم الاستبدادي، في وضع وصل فيه البلد إلى حالة الانغلاق أو الاستعصاء، فلا السلطة قادرة على التغيير والتعاطي مع حقوق المواطنين، ولا عموم المواطنين يستطيعون الاستمرار في وضع الضحية المستسلمة إلى الأبد.

كان ذلك هو مضمون الندوة التي شاركت فيها في بوخارست أخيراً، أمام عشرات الباحثين والدارسين للعلوم السياسية، وبخاصة ما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. فقد فوجئت في هذه الندوة بحجم الجهل بمأساة السوريين، وبحجم التغييب المتعمد لمأساتهم، على رغم كل جهود الجالية السورية في رومانيا، وهي جهة لم يحاول «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» وهو الواجهة السياسية للمعارضة أن يتواصل معها للاستفادة وتنسيق الجهود لخدمة تسويق أهداف الثورة والتعريف بها، وهو ما بدا من صدمة المستمعين، لدى سماعهم حقيقة الترهيب والقتل والتخويف الذي تمارسه السلطة على الشعب. ويبدو من ذلك أن النظام استطاع استثمار آلته الإعلامية وعلاقاته لقلب الحقائق وتغييبها، إلا أن ذلك، في كل الأحوال، لم يحل دون إدراك النخبة التي كانت تناضل ضد استبداد النظام الشيوعي، كوزير الخارجية والثقافة السابق الفيلسوف أندريه بليشو، لحقيقة ما يجري، إذ يعتبر أن التعاطف الشعبي الأوروبي عموماً هو تحت تأثير إرهاب عابر للقارات، وأن مواجهة الإرهاب تتطلب اجتثاث الاستبداد من جذوره لا من نتائجه فحسب.

أما بخصوص تعويم فكرة الحرب الطائفية كبديل للصراع السياسي، فقد شجعت اهتمام الباحثين، ومنهم عميد كلية العلوم السياسية كريستان بيرفيليك، على مناقشة قضية العلويين والسنّة كحالة صراع ديني استخدمت كأداة حرب إعلامية ضد الثورة السورية،
المسألة لا تتعلق إذن بحجم المأساة السورية، وعدد ضحاياها وتنوع ألوان عذاباتهم، أو بالوسائل الإجرامية التي استخدمها النظام في مواجهة السوريين المطالبين بالحرية والانفكاك عن النظام الاستبدادي، الذي تولى حكم سورية، منذ عام 1963، بقدر ما تتعلق بجوانب أخرى، تكمن في العوامل المهمة الآتية:
أولاً: طبيعة النظام الدولي القائم على الاستقطاب وسياسة المحاور والمصالح بعيداً عن المبادئ والمعايير الإنسانية، مما أعاق تحرك مجلس الأمن ثماني مرات بسبب الفيتو الروسي والصيني.

ثانياً: إشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية من جهة، وتفشي فوبيا الإسلام من جهة أخرى، ولا شكّ أن النظامين السوري والإيراني استطاعا التعامل مع هاتين الإشكاليتين ببراعة سواء بتصنيع جماعات إسلامية متطرفة أو تسهيل ذلك مثلاً عبر الإفراج عن قياداتها من معتقلاته، أو بالعمل على تصدير هذه الجماعات كقوة مقابلة له على الأرض لتشويه الثورة السورية ووصمها بالتطرف والطائفية والإرهاب.

ثالثاً، الانقسام الأيديولوجي في العالم حيث تقف الكيانات «اليسارية» مع النظام السوري من مبدأ معاداة الإمبريالية، ومواجهة المشروع الأميركي، وهذا يتجلى في التيارات اليسارية العربية، التي تنتهج معاداة الغرب، في شكل أعمى، وجملة وتفصيلاً. ومثل هذا «اليسار» الذي لم يرَ في النظام السوري واقعه كنظام استبدادي ووراثي، لن يرى مأساة الشعب السوري الذي يُقتل ويُهجّر، عقوبة له على مطالبته بالحرية والكرامة.

رابعاً: خطابات المعارضة، لا سيما العسكرية، التي انتهجت خطاباً إسلامياً، لا علاقة له بواقع الثورة ولا بمطالب السوريين، إذ إن هذه الخطابات أطاحت بصدقية الثورة وبمشروعية وعدالة أهدافها، ما أفاد النظام.

خامساً: قصور كيانات المعارضة واستغراقها في خلافاتها الداخلية مما أثر سلباً في دورها في تسويق قضيتها خارجياً، وحتى داخلياً.

باختصار، لا يقف العالم مع ثورة غير قادرة على التعبير عن نفسها، وخلق مشتركات لدى شعبها، كل شعبها بمختلف تلويناته العرقية والقومية والدينية والمذهبية، أي أن الحقوق وحدها لا تكفي لانتصار ثورة في زمن القوة والمصالح، وإنما يرتبط ذلك أساساً بتصور أهل الثورة أنفسهم عن المستقبل الذي تعد به، وهذا ما يفترض بالمعنيين في الثورة السورية إدراكه، والامتناع عن تصدير مقولات أن الصراع في سورية هو صراع بين مؤمنين وكفار، لأن هذه مقولات في ظاهرها وباطنها ما يسعى إلى هدم الثورة من داخلها.

اقرأ المزيد
٢٧ مايو ٢٠١٧
إيران وإرهابيوها في خندق واحد... ضد تحالف الرياض

لم يسبق أن ارتبط اسم إيران بالإرهاب كما ارتبط في القمة الأميركية- العربية- الإسلامية في الرياض. ولم تكن هناك ملامح استراتيجية واضحة لمحاربة الإرهاب عسكرياً وفكرياً كما ظهرت بوادرها في الفرصة التي وفّرتها السعودية وأظهرت فيها استعداداً غير محدود لبذل كل ما تتطلّبه عودة الولايات المتحدة الى التزام ضمان أمن المنطقة، بدءاً بمحاربة جدّية للإرهاب وكذلك الحدّ من الجموح الإيراني. ولم يكن الفارق واضحاً بين توجّهات ادارتَين أميركيتَين متعاقبتَين كما أبرزته القمم الثلاث في الرياض، فالإدارة السابقة أمّنت تغطية لنهج التخريب الإيراني ودعت العرب وبالأخص دول الخليج الى قبول نتائجه والبناء عليها، أما الإدارة الحالية فلا يبدو، على الأقلّ، أنها في صدد تجاهل ما عملت عليه إيران من تعطيل للدول والحكومات، ومن تفكيك للجيوش والمؤسسات لمصلحة ميليشياتها، ومن تمزيق لنسائج المجتمعات لتغليب فئات مذهبية على فئات أخرى.

يُحسب للحدث السعودي أنه يبلور وعياً جديداً لظاهرة الإرهاب ورؤية شاملة لما يمكن أن تكون عليه أي استراتيجية لمحاربته حاضراً ومستقبلاً. كما أنه استطاع أن يسلّط الضوء على حتمية الشراكة إقليمياً ودولياً في المواجهة مع هذا الوباء الذي هزّ العقول والضمائر، ولم تعد هناك دولة قادرة على الاعتقاد أنها بمنأى عنه. ولعل هذا الحدث شكّل أيضاً إنذاراً أخيراً للدول التي اعتقدت أن تمويل الجماعات الإرهابية أو المتاجرة معها أو تقديم تسهيلات لها يمكن أن تحقّق لها مصلحةً ما في خلافاتها مع دول أخرى. فحكومات العالم الإسلامي تعلّمت الكثير من مراقبتها ومعايشتها ما آلت اليه أفغانستان، لكنها رُوِّعت مما شاهدته في سورية والعراق من التحامٍ وتبادل أدوار بين الاستبداد والإرهاب ومن توظيف للدين الإسلامي في خدمة التطرّف والإجرام.

لا شك في أن «الشراكة» المطروحة ولدت من الخلاصة التي أمكن التوصّل اليها، وهي أن التنظيمات الإرهابية ليست فقط «جماعات لا دول» وإنما دول ترعى جماعات وتحرّكها. لم تنجح المحاولات لحصر هوية تنظيم «داعش» أو لحلّ ألغازه أو لتفسير ظهوره ثم اختفائه المفاجئَين في مناطق متفرّقة من سورية والعراق بعيداً من مواقع تمركزه الرئيسية، إذ لا تعرفه سوى الأجهزة والمراجع التي صنّعته واستثمرت فيه من دون أن تكون معنيّة بمصيره بل بأجنداتها. وتكفي الإشارة الى استحالة إدارة المناطق التي يُطرد منها للدلالة الى أنه يخلف وراءه وضعاً تستطيع مراجعه استغلاله، سواء بالعودة الإيرانية عبر ميليشيات «الحشد الشعبي» الى الموصل أو بمشاريع عبور «الحشد» الحدود من العراق الى سورية، حتى لكأن «داعش» مُكِّن من الانتشار في «الدولة» المزعومة ليصار بعدئذ الى دفع الميليشيات الإيرانية لضربه ثم دحره منها.

ستحمل الشراكة بموجب قمة الرياض اسم «تحالف الشرق الأوسط» ومهمته الإسهام في تحقيق السلم والأمن، أما نواته فأصبح مفهوماً أنها تضم السعودية ومصر والأردن والإمارات، ويُفترض أن تنضم دول أخرى إليه في غضون الشهور المقبلة. سيكون هناك مسار مكمّل أو موازٍ لهذه الشراكة من خلال استعداد عدد من الدول الإسلامية المشاركة في «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» لتوفير «قوة احتياط قوامها 34 ألف جندي لدعم العمليات ضد المنظمات الإرهابية في العراق وسورية عند الحاجة». أما المسار الثالث المكمّل أيضاً فيتمثّل باتفاق التعاون لمكافحة تمويل الإرهاب الذي باتت دول مجلس التعاون الخليجي موقّعة عليه على أن تليها دول أخرى. يبقى المسار الرابع الذي سيتولّاه «المركز العالمي لمواجهة الفكر المتطرّف» (اعتدال) في الرياض وسيشمل عمله رصداً وتحليلاً للمضمون في المواقع ووسائل التواصل والإعلام الرقمي ومن ثَمَّ استخلاص ما تقتضي مواجهته.

كان أكثر ما يستوقف في القمة الأميركية- العربية- الإسلامية ذلك التوافق بين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس دونالد ترامب في توصيف «مرجعية الإرهاب». إذ كانا واضحَين ومباشَرين، فالعاهل السعودي اعتبر النظام الإيراني «رأس حربة الإرهاب العالمي منذ ثورة الخميني حتى اليوم» وأنه رفض مبادرات حسن الجوار «التي قدّمتها دولنا» الى أن قال: «فاض بنا الكيل من ممارساتها العدوانية وتدخلاتها كما شاهدنا في اليمن وغيرها من دول المنطقة». أما الرئيس الأميركي فاتهم إيران بتمويل الإرهابيين والميليشيات وتسليحهم وتدريبهم، واعتبرها «مسؤولة عن زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق واليمن، كما أن تدخلاتها في سورية «واضحة للغاية، فبسبب إيران ارتكب الأسد الجرائم بحق شعبه»... وما لبث البيان الختامي للقمة أن ترجم هذه اللهجة غير المسبوقة بالدعوة الى نبذ الأجندات الطائفية والمذهبية والتصدّي لها و «لتداعياتها الخطيرة على أمن المنطقة والعالم»، وكذلك بالتزام قادة دول القمة «مواجهة أنشطة إيران التخريبية والهدّامة بكل حزم وصرامة داخل دولهم وعبر التنسيق المشترك»... وعلى الهامش كان التعليل الرسمي لعدم دعوة إيران وسورية الى القمة أنهما «راعيتان للإرهاب».

من الواضح أن قطبَي القمة لم يتوقفا عند إعادة انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران، فالمتوقّع هو المزيد من الشيء نفسه سواء كان المنتخَب اصلاحياً أو محافظاً، لذا أطلق الملك سلمان والرئيس ترامب أقوى الرسائل وأكثرها صراحة الى نظام طهران، لكنهما سجّلا التفاتة تجاه الشعب الإيراني. ولا شك في أن هذا الشعب عبّر عن موقفه في الحيّز المتاح له، ومع إدراكه أن المرشد هو مَن يحكم في كل الأحوال إلا أنه يخوض معركته الداخلية الطويلة بتصميمٍ وصبرٍ وعناد. بالنسبة الى كثيرين كانت النتيجة التي حققها روحاني مشابهة إنْ لم تكن حتى أقلّ من تلك التي أحرزها مير حسين موسوي في 2009 عندما تلاعبت السلطة بالنتائج للإبقاء على محمود أحمدي نجاد في الرئاسة باعتباره مرشح المرشد و «الحرس الثوري». قد يكون التلاعب تعذّر هذه المرّة بسبب ازدياد حدّة الانقسام، والأرجح أيضاً لأن المرشد و «الحرس» استنتجا أن روحاني يلعب اللعبة من دون أن يزعجهما، فمنذ انتخابه للمرّة الأولى في 2013 حصلت أسوأ التدخّلات في سورية والعراق واليمن، ودافع عنها، ولم يستطع القيام بأي مبادرة ذات صدقية تجاه الجوار الخليجي. وبناءً على مخرجات قمة الرياض لم يعد ممكناً توقّع أي حوار خليجي- إيراني هادف قبل أن تتغيّر التوازنات على أرض الواقع.

لعل الأضواء التي سلّطتها قمة الرياض على ارتباط الإرهاب بإيران أسقطت عنها آخر الأقنعة، بما في ذلك إسقاط ادّعاءاتها بمواجهة ذلك الإرهاب وترشيحها نفسها شريكاً حتميّاً في الحرب عليه. ومع انكشاف الحقيقة أخيراً، لأن في الولايات المتحدة إدارة غير معنيّة بالتستّر على ما يدين إيران، فإن الأخيرة يمكن أن تشعر بالتحرّر من قيود فرضتها عليها سابقاً ضرورات تمويه الأدوار. إذ كان يُفترض أن تفضي إدارتها للإرهاب الى ربطه بالسعودية وحلفائها وتشويه صورتهم دولياً، ثم الى استمالة أميركا- اوباما للقضاء عليه ولن تجد غير إيران وميليشياتها شريكاً قوياً وجاهزاً على أرض المعركة. وكان محسوباً أيضاً أن دمى إيران في دمشق وبغداد وصنعاء هي التي ستنتصر وأن المساحات التي انتشر فيها «داعش» ستقع في أيدي اتباع إيران لتكمل رسم «الهلال الفارسي».

هذه الخطة مرشحة لأن تنقلب على واضعيها، فعدا إجهاض مشروع إيران في اليمن انكشفت هيمنتها على العراق لتصبح عبئاً عليه، ثم أن حساباتها لدى تسليم الموصل الى «داعش» باتت تصطدم بالحسابات الأميركية لما بعد تحريرها. كما أن استعانتها بروسيا لدعم خططها قنّنت عملياً طموحاتها في سورية. ومع اقتراب معركة تحرير الرقة ودير الزور ارتسم خط أميركي أحمر يمنع على الميليشيات اختراق الحدود العراقية الى سورية، من التنف أو من سواها. وطالما أن سلاح الإرهاب الذي استثمرت فيه إيران لمدّ نفوذها أصبح مكشوفاً، وتريد أميركا ضربه لتقليم أظافرها وفرض التراجع عليها، فقد تجد إيران أن اللحظة حانت لإعادة هيكلة تنظيماتها وميليشياتها وترتيب أنشطتها، إذ أصبحت وإياها في خندق واحد ضد تحالف الرياض.

اقرأ المزيد
٢٧ مايو ٢٠١٧
مشروع ولاية الفقيه من المد إلى الانحسار في إيران

لا نراهن على حسن روحاني ووجهة نظرنا سجلناها هنا مرارا فهو ابن مؤسسة العمامة وربيب مشروع ولاية الفقيه، وهذه نقطة على السطر حاسمة.

لكننا نقرأ شيئا من ملامح انتخابه رئيسا في سياق رفض الشعب الايراني لعمامة رئيسي المنافس الاكثر تشددا وغلوا في الولاء لمؤسسة المرشد الأعلى والولي الفقيه واضعين في عين اعتبارنا ان الخيار الانتخابي كان محصورا بين شخصين أو مترشحين اثنين احلاهما مر «فروحاني» لا يعترض ولا يصطدم بمشروع ولاية الفقيه لكنه بحسب جميع المراقبين أقل تطرفا وتعنتا وتشددا من منافسه رئيسي، وبالتالي فانتخابه هو الخيار الوحيد لشعب يستجير من الرمضاء بالنار.

هذه الاستجارة أو هذا الهروب من رمضاء رئيسي الى نار «روحاني» هو تعبير شعبي معلن أو علني يعكس في احد وجوهه السياسية رفض الشعب الايراني للطبعة المتشددة والمتطرفة من مشروع الولي الفقيه وهي الطبعة التي مثلها او كان رمزا لها ابراهيم رئيسي المترشح المنافس والمدعوم من الولي الفقيه شخصيا حسب تقارير ايرانية موثوقة ومطلعة.

وقد يدفع البعض وله الحق بسؤال «ألم يكن باستطاعة مؤسسة الولي الفقيه وهي الحاكمة والمطلقة ان تزور النتائج فيفوز وينجح ابراهيم رئيسي وهو مرشحها؟؟».

بالتأكيد تستطيع ولها في ذلك سوابق دموية مؤلمة مع الشعب بأسباب من تزويرها لانتخابات 2009، ولكن الأوضاع والمتغيرات والتحولات المحيطة بإيران والضاغطة على مؤسسة الحكم والسلطة هناك والتوازن والمعادلات الاقليمية والعالمية ليست في صالح النظام الايراني بل ضاغطة على النظام الواقع بين مطرقة الداخل وسندان الخارج والمتورط في اكثر من حرب استنزاف عدوانية يرفضها شيعة «سوريا، اليمن، العراق» ناهيك عن الموازنات الضخمة بأرقامها الفلكية التي تستنزفها الميليشيات والجماعات والتيارات التي زرعها النظام الايراني ووزعها على الجهات الأربع لتكون ذراعه الضارب في العديد من الدول والبلدان، وهي تستهلك جزءا كبيرا من الموازنة العامة لشعب يعاني من تراجع خطير في مستوى معيشته ومن فقر وبطالة كبيرة تفشت بين القطاع الأوسع من شبابه.

وبطبيعة الأوضاع ومقتضيات الظروف امتنع النظام الايراني عن القيام بخطوة تزوير نتائج الانتخابات خشية من ردات فعل شعبية ومجتمعية مجهولة النتائج قد ينقلب فيها السحر على الساحر، فآثر النظام القبول بالنتيجة مع قناعته الراسخة بأن رئيسا كائنا من كان لن يستطيع المساس في ظل النظام السائد بمؤسسة وسلطة وسطوة الولي الفقيه.

ومهما كانت هذه السطوة والسلطة فإن الشيخوخة قد دبت في مشروع الولي الفقيه وفقد ذلك الاجماع الشعبي الايراني الذي كان له قبل أربعة عقود مضت كما خفت بريقه واتضحت حقيقته على نحو فاجع في حياة المواطن الايراني العادي المغلوب على أمره.

ولم يعد مشروع الولي الفقيه يحتل تلك «القداسة» التي كانت تحيط به هناك وتحرر المجتمع في سلوكياته اليومية ومنها لباس المرأة وطريقة الحجاب المعروف هناك «الحجاب الزينبي» كما يطلقون عليه الذي كاد أن يختفي من شوارع طهران والمدن الاخرى ولم يعد مشاهدا سوى في الفضائيات والقنوات التي يمولها ويصرف عليها مكتب الولي الفقيه، وهو ظهور من باب المحافظة على لقمة العيش ونفاق المسئول المعني بشكل الظهور على الشاشات كنوع من الدعاية والاعلان عن مشروع الولي الفقيه.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني