يكفيني من سنواتي الخمس الأخيرة "الحرية" التي عشتها في ظل الحصار فرغم مرارته وظلم من تاجر فيه اكتشفت نفسي، اكتشفتُ نفسي هُنا، في مساحةٍ لا تتجاوز ثلاثة آلاف متر.
قادني للوعر القدر وسرقني منها آخر ،وما بعد القدرين تاهت هويتي
ما قبل الرحيل
الشوارعُ التي اعتدتُ السير بها فارغةٌ تماماً لم يعُد هُناك أحد فجميعهُم رحلو، لم يبقى سوى بضع عائلات، ومقاتلي الجبهات اللذين آثروا على جراحهم بصمودهم رُغم مرارة الجُرح الأخير الذي أصابنا جميعاً، أسيرُ وحيداً في الشوارع كتائهٍ في صحراء الربع الخالي، أسيرُ وحيداً باحثاً عن ملامح الحياة ، أسيرُ وحيداً أصارع ذكرياتي فكلُّ شارعٍ أخطوا به لي فيه مئات الذكريات وآلاف الضحكات وبضعٌ من دموع القهر والخذلان،لقد أضحى ألمي كبيراً فقد تم ضبطُ أوتاره مع لحن الإنتظار ما هي إلا ساعاتٍ قليلة تفصلني عن مغادرتها مجبراً (مهزوماً) نعم لقد تمت هزيمتنا من قبل من يدعون أنهم أنصاراً للثورة ، من قبل من يدعون أنهم اخوتنا، لم يستطع النظامُ هزمنا لكن من هزمنا تشرذُم قواتنا ونزاعاتهم، هُزمنا من قبل حبُّ الذات والسُلطة قامت ثورتُنا على طاغية فظهر معهُ مئات الطواغيت.
على قارعة الطريق
أربع عشر ساعة ولا زلتُ أنتظر أن يكتمل نقل المهجرين نحو ممكان التجمع وهو "تحويلة حمص /مصياف"، انتثر المهجزين في العراء وافترشوا الرمال فمنهم من لهُ 23 ساعة ولا زال ينتطر.
لا شيء أمامي سوى تلك الحافلات التي رست مناقصتها لصالح الوسيط الروسي في مؤتمر أستانا بدورتهُ الثالثة حيث تم البدء بإخلاء أهالي حي الوعر في تاريخ اليوم ذاته الذي انطلقَ فيهِ الربيعُ السوري، فيما وقعت اتفاقيةٌ جديدة في استانا بدورته الرابعة نصت على دخول حافلات التهجير الخضراء لبرزة والقابون، هذه الحافلات باتت شبحاً يجول في جميع المناطق المحاصرة ففي النهاية لا يوجد طاقة كافية لتحمل آلة التدمير الوحشية وسياسة الجوع القذرة،
لا بُدّ أن تُحكى
عدة مواقف يستحق الوقوف عندها استوقفتني عدة مواقف تختصر في تفاصيلها قصة التهجير
سألت أحد رفاقي المغادرين إلى إدلب "وين صافن" فذهلني باجابته التي كانت مزيجاً من كلمات القهرّ والظلم والتي كانت
سَامَحَكَ اللَّهُ يا صاحِ
هلْ كانَ لِزاماً تَسأَلُني وَتقولُ أينَ بيَ الدُنيا
فَمُقَدَّسُ حِمصَ يُدَنِّسهُ ،،، جنسٌ قَد أُنْتِجَ بِسِفَاحِ
دعني للدَمعِ يُرافِقْني ،،، صُورٌ يا حمصُ وَلا لُقْيا !!
هلْ كانَ لِزاماً تسألُني ،،،
أَنا عَاشِقُ زَهرَ مَدينَتِهِ أَصبَحتُ اليَومَ أُطَالِعُهَا بِكُتَيِّبِ قَومٍ سُيَّاحِ
كما استوقفني منظرُ امرأةٍ سبعينية تحضن ابنها الشاب باكيةً وتطلق صرخاتٍ من الألم بطريقة "العتابا" الشعبية
استطعت فهم البعض منها
وان راحو شمالي يحشون الحشيش
والباص الاخضر من لون الحشيش
قلي يا مطرود وين رايح تعيش
على درب الباب وتنساني أنا
لم ينتهي المشهدُ هنا فكان ردُّ الشاب لأمه صاعقاً في مشهد كانت الدموع البطل فيهِ فقال الشاب
سرينا جبال ما ندحج ورانا
حكم بشار والدولة ورانا
أمي الحنونة لا تبكي ورانا
ترانا سباع بديار الأجناب
بيتان من العتابا الشعبية اختصرت فيهم قصةُ وطنٍ تَشرد
كنت أفتقد اﻷشخاص الذين يغيبون عن الوعر ، فيبقى لي منهم أرواحهم وقطعةُ رخامٍ حُفرت عليها أسمائهم عاثت فيها شظايا الحقد خراباً ،اليوم أنا أفتقد (الوعر) وأهل (الوعر)، اليوم أنا أفتقد (حمص) وأهل (حمص).
تعتبر روسيا من أشهر بلاد العالم في ألعاب السيرك، إن لم تكن أشهرها على الإطلاق، نظراً لما تتميز به عروضها التي تطوف الشرق والغرب، من فقراتٍ ترفيهيةٍ منوعةٍ، ومهرّجين وسحرة وحيوانات ضارية مدربة، وما إلى ذلك من مشاهد بصرية تخطف ألباب الصغار، وتنتزع إعجاب الكبار، وغير ذلك من ألعاب قوامها السحر والإبهار، والإثارة والتشويق، بما في ذلك المشي بخفّة ورشاقة على الحبال.
وأحسب أن مسمّى "المناطق منخفضة التوتر"، تلك الصيغة التي أملتها روسيا في اجتماع أستانة الرابع، ووقعت عليها كل من تركيا وإيران، وبمعزل عن ممثلي نظام الأسد ووفد الفصائل المعارضة، فيه شيء كثير من أوجه التشابه مع استعراضات ألعاب السيرك الروسية التقليدية، وذلك لما تنطوي عليه هذه اللعبة السياسية المطوّرة من خصائص وسمات، مستلهمة من فنون السيرك، لا سيما التهريج والمشي على الحبال، ناهيك عن البهلوانيات المثيرة للضحك في بعض الأحيان. إذ بعد نحو ثمانية عشر شهراً من التكتيكات الوحشية الروسية في الأجواء السورية المستباحة، ووصول هذا التدخل الذي أخلّ بالتوازنات على الأرض، إلى نقطة استعصاء سياسية حادة، تنذر بفشلٍ قد لا يطول أوان حصاده، عمدت موسكو إلى إعادة تقديم بضاعتها البائرة بغلافٍ جديد، يحمل اسماً آخر أكثر جاذبية، لعل هذه المناورة التكتيكية تنجح في حمل المستهلكين السذّج على شراء المنتج المغلّف بعبوةٍ جميلةٍ، تلفت أنظار المتسوّقين للوهلة الأولى.
بكلام آخر، الرياح التي ظلت، طوال الوقت، تهب في صالح أشرعة السفينة الروسية المبحرة في أعالي المياه الدافئة، توقفت فجأة هكذا، بعد الغارة الكيميائية على بلدة خان شيخون، ثم عكست اتجاهها بشدة، إثر الغارة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات السورية المحمّلة بغاز السارين، الأمر الذي وجدت معه موسكو نفسها متورطةً، داخل مجلس الأمن وخارجه، في الدفاع عن نظامٍ يواصل مقارفة استخدام السلاح المحرّم دولياً، ولا يعبأ كثيراً بإثارة حفيظة المجتمع الدولي.
على الرغم من محدودية ضربة صواريخ التوماهوك البالستية، وهي الضربة الأميركية الأولى من نوعها ضد النظام السوري، عن نيةٍ علنيةٍ وقصدٍ مسبق، إلا أن الدويّ الهائل لتلك الصواريخ المجنحة سمع في موسكو على نحوٍ جيد جداً، وقرأها الجنرالات الروس على أنها ضربة لكبرياء "القوات الجوية الفضائية" الروسية التي أبلت بلاءً حسناً ضد المستشفيات ومراكز الدفاع المدني، وغيرها من الأهداف المدنية، في عموم المناطق السورية المحرّرة من قبضة الأسد والمليشيات الإيرانية.
ومن وحي ألعاب السيرك الكلاسيكية، ومفاهيمه القائمة على خفة اليد المبهرة، والمشي على الحبال ببراعةٍ، ناهيك عن التهريج، وما إلى ذلك من ألعاب واستعراضات أخرى شهيرة، تفتقت الذهنية المافياوية القابعة في الكرملين، عن حيلةٍ جديدة، قوامها إعادة تقديم البضاعة التي لم يُقبل عليها سوى الذباب، بحلة جديدة قشيبة، وأرفقتها بحملةٍ ترويجيةٍ واسعةٍ، لعل أرباب القوة الشرائية الكبيرة في واشنطن، يقبلون على التهام هذا الطعم، كسمكة جائعة.
لإقناع الزبائن المحتملين في العاصمة الأميركية بهذا العرض المفخّخ، شد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من عهد الحرب الباردة، رحاله إلى البيت الأبيض، بعد غياب دام نحو أربع سنوات متواصلة، حاملاً في حقيبته ملف "المناطق منخفضة التوتر"، فبدا بذلك كرجل علاقات عامة، أخذ على عاتقه تسويق منتجٍ لم يشتره سوى الإيرانيين، فيما طلب المستهلكون المحتملون في الإقليم، ومنهم الأتراك خصوصا، تقديم خصوماتٍ مجزيةٍ، لعل ذلك يساعدهم على قبول العرض، ومن ثمّة الانخراط في اللعبة.
وبغض النظر عن الشياطين الكامنة في قلب التفاصيل غير المكتوبة بعد، وشدّة الالتباسات المحيطة بماهية المناطق الأربع المقترحة، فإن جوهر ما انطوى عليه هذا العرض غير القابل للتطبيق، حتى وإن توفر عنصر حسن النية، يتركّز في نقطتين أساسيتين: الأولى انتزاع إقرار دولي باعتبار مسار أستانة مرجعية بديلة، أو أقله موازية لمسار جنيف، الأمر الذي يمكّن موسكو من الإمساك بكل خيوط اللعبة بموافقة أممية. والثانية الحفاظ على نظام بشار الأسد في السلطة، كون المسار الذي استحدثته روسيا في العاصمة الكاخستانية لا يتطرّق إلى مسألة الحكم الانتقالي المنصوص عليه في قرارات مجلس الأمن المعنية، الجاري تداولها في مسار جنيف البطيء والمتعثر.
ومع أن مسار أستانة لم يُجابه باعتراضاتٍ جديةٍ من جانب الدول والأطراف المخاطبة به، كونه يسعى إلى الحد من لهيب الكارثة السورية، وذلك مما لا يصح الاعتراض عليه بتاتاً، إلا أن هذا المسار الذي "صنع في روسيا" لم يلق الترحيب، المأمول به من الولايات المتحدة، وهي الغائب الحاضر عن مجريات المأساة السورية حتى الأمس القريب، حتى لا نقول اعتراضها من حيث المبدأ على تأهيل إيران وإعادة اعتمادها طرفاً إقليمياً مشاركاً في صنع الحرب والسلام، وهذه نقطة ضعف تكوينية في العرض الروسي، قد تشكل، في مبتدئها وخبرها، ضربةً مميتةً لكل هذه البهلوانيات الروسية المكشوفة.
إزاء ذلك كله، من المرجّح، بصورة قوية، أن تتحول لعبة أستانة المغشوشة، إن لم نقل الملفقة من ألفها إلى يائها، إلى مأزقٍ روسيٍّ مستحكم، إذا كفّت فصائل المعارضة السورية، أولاً، عن الانسياق في هذه اللعبة الماجنة، وأوقفت انخراطها في هذا المسار مسدود النهاية، وإذا نأت الولايات المتحدة، ثانياً، بنفسها عن ابتلاع طُعم السنّارة الروسية المسموم، ومضت نحو خياراتها البديلة، ونعني بذلك خيار المناطق الآمنة، معادلاً موضوعياً أكثر راجحةً من منطق "المناطق قليلة التوتر".
سبق لكاتب هذه السطور أن توقع، بعد الجولة الثانية من مفاوضات محطة أستانة، ومن على هذا المنبر، باحتمالية تحوّل مسار هذه المحطة إلى "كعب آخيل" فلاديمير بوتين، ولسياساته الانكشارية في سورية، وإن هذا التحوّل قد يحدث في أي لحظة، بعد أن انتهى عهد الرخاوة الأميركية، وعادت قرون الاستشعار شديدة الحساسية تعمل لدى "المؤسسة" في واشنطن، تجاه طموحات موسكو المبالغ بها، الساعية إلى وراثة الأمجاد السوفياتية، بما في ذلك استرداد مكانة الدولة العظمى قبالة الدولة الأعظم.
كشفت وزارة الخارجية الأميركية، أخيراً، عن سر جديد اكتشفته أجهزتها الاستخباراتية في سورية، فأعلنت أن "الأسد يحرق جثث المعتقلين، ويقتل 50 معتقلاً يومياً في سجن صيدنايا. وروسيا وإيران تتحملان المسؤولية"، وكأن العالم لا يعرف شيئاً عن هذا، أو كأن روسيا وإيران ستُصدمان بوصول الحقيقة إلى البيت الأبيض.
يدرك السوريون، كل السوريين، منذ عقود، أن أميركا ترصد حركة النمل في العالم، ولا تزال منذ عشرات السنين تحرّك خيوط الدمى على خارطته، وتعبث بكل بلدانه، لتشرف، بشكل مباشر أو غير مباشر، على توزيع ما في جوفه.
وكيلا نقع في مغالطات نظرية المؤامرة، يمكننا، على الأقل، أن نقول بمسلمةٍ لا تقبل التشكيك، إن الأجهزة الاستخباراتية الأميركية تعرف، على الأقل، كل ما يدور في الدول التي تشكّل مناطق استراتيجية للسياسات الأميركية، ومنها سورية بلا شك. وبهذا، لا يمكن اعتبار الإعلان الأميركي عن "محارق" الجثث في صيدنايا وغيرها من معتقلات الأسد، إلا ورقة سياسية جديدة تلوح بها الإدارة الأميركية الجديدة، لأهدافٍ يمكن تخمينها من دون القدرة على البت بحقيقتها.
فعلى المدى القريب، تظهر زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأولى للمنطقة العربية، وفيها سيجتمع مع عدد من القادة العرب في قمم سعودية وخليجية وإسلامية، وسيطرح، في هذه اللقاءات، بلا شك الوضع في سورية، وسير العملية الأميركية في "مكافحة الإرهاب" وإحلال السلام في المنطقة، وهو ما يتعلق بشكل مباشر بمخطط أميركا في التعامل مع النظام السوري، والذي بدأته بشكل علني منذ استهداف مطار الشعيرات، بعيْد الهجوم الكيميائي على خان شيخون. وبالتالي، فإن التصعيد الإعلامي ضد الأسد يتوافق مع السياسة الأميركية المعلنة أخيرا، والتي ستقبض أميركا ثمنها من صفقات السلاح المبرمة، ومن الصفقات السياسية التي ستبرم مع دول الجوار أو العالم العربي المتورّط بالحرب في سورية.
وعلى صعيد آخر، يعتبر الإعلان الأميركي الأخير رسالة سياسية جديدة لكل من روسيا وإيران، وهي تلويحٌ بأوراقٍ وملفاتٍ يمكن استخدامها ضد كل منهما، وذلك لا ينبع من أسباب إنسانية أو صحوة ضمير، لا سمح الله، بل إنه لا يتعدّى كونه أوراق ضغط للتحكّم بخريطة النفوذ على الأرض السورية، وبالتالي التحكّم بخريطة توزيع ثروات الغاز والنفط وأسواق السلاح وغيرها.
ثمّة ما حيك في الخفاء، ويتم الآن وضع الرتوش النهائية عليه، وربما لن يتأخر الإعلان عنه طويلاً. وربما يكون الإعلان الأميركي، أخيرا، عن محارق صيدنايا مجرد حلقة أخرى، بعد عدة تغيرات قد تبدو اعتيادية أو مجرد إشارات (منها تسلم رياض سيف رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وهو اقتصادي بتاريخ نضالي نظيف يُجمع معظم السوريين على احترامه، مع فقدانهم شبه التام للثقة بالائتلاف ممثلاً سياسياً دولياً وحيداً للمعارضة). لكن المؤكد حتى الآن أن الإدارة الأميركية الجديدة، كما القديمة، وما يتبعها في ردود الأفعال من حكوماتٍ غربية وعربية، لم يستطيعوا أن يُقدموا للشعب السوري أكثر من حبالٍ واهية من الأمل الذي لا يلبث أن يتحول كابوساً، بمجرّد تمسّكهم به، وانجرارهم اللاشعوري تجاهه، في ظل يأسٍ بات مطبقاً وخانقاً على كل مكوناتهم.
أيام ثقيلة على السوريين في كل مكان لما تحمله من تغيراتٍ سريعةٍ على الأرض بامتداد واسع من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها، وهي في معظمها مفاجئة ومخيفة أكثر مما تكون مطمئنة. وبموازاتها، يتابع نظام الأسد وحلفاؤه استراتيجياتهم المكشوفة في القتل والتهجير القسري والاعتقال، لرسم سورية المفيدة، إضافة إلى إطلاق المراسيم والقرارات الداخلية وكأن شيئاً لا يحدث في العالم، أو كأنهم لا يزالون ينعمون بالضوء الأخضر الدولي للقيام بكل ما يريدون القيام به.
تستحيل المراهنة على أن تخطو روسيا في سورية أي خطوة في الاتجاه الصحيح، إمّا لانعدام الإرادة في إنهاء الحرب، أو لأن العقل المخطّط يجهل أي وجهة أخرى غير الحرب. ينطبق ذلك على الاتفاق الأخير في آستانة كما على مجمل المقاربة ثم الانخراط الروسيين في الأزمة السورية منذ بدايتها حتى الآن. ولا شك أن آستانة 1 (وقف شامل لإطلاق النار) كان أفضل من آستانة 4 (أربع مناطق لـ «خفض التصعيد»، والمصطلح نفسه يترك الأبواب مفتوحة للتصعيد). كان الأول يعتمد على قدرة روسيا على الالتزام وعلى إلزام حلفائها لكنها تركت نفسها تفشل، أما الثاني فقصد سيرغي لافروف واشنطن لترويجه، أي أن نجاحه يعتمد على الولايات المتحدة. في أفضل الأحوال لا تمانع واشنطن نجاح اتفاق لم تشارك في إعداده، أمّا أن تتبنّاه وتضمنه فمسألة أخرى. وإذا توافرت لدى الأميركيين دوافع «إنسانية» لقبول الاتفاق، وحسابات خاصة لمراعاة الروس، فهل أن لديهم دوافع من أي نوع لـ «شرعنة» الدور الإيراني في سورية أو للمساهمة في عملية تهدف إلى تثبيت أقدام بشار الأسد ونظامه، فقط لأن وجوده في السلطة مريح لروسيا وإيران ولا يحقّق أي مصلحة أميركية؟
تريد موسكو، أو تتوقّع، أن تكون لمواقفها صدقية دولية، إذ تقدمها دائماً باعتبارها مراعية تماماً للقوانين الدولية طالما أنها تتعامل مع «حكومة سورية» لا تزال متمتعة بـ «الشرعية»، أما الدول الأخرى فهي في نظرها مخطئة لأنها مسكونة بهاجس «إطاحة بشار الأسد» أو تغيير النظام، وربما تضيف الآن أن تلك الدول مخطئة أيضاً بعدم اعترافها بـ «فضائل» دور إيران وميليشياتها في سورية. إذاً فكل الصواب عند روسيا، حتى عندما تدعو الفصائل المناوئة لنظام الأسد إلى آستانة فيما تشن طائراتها غارات كثيفة على مواقعها، بل إنها غضبت لأن وفد الفصائل جمّد مشاركته في الاجتماعات حتى يتوقف القصف، ولم توقفه إلا بعدما قدّمت الفصائل صوراً ووثائق تؤكد أن الطائرات المغيرة روسية. ومع أنها تبحث، كما يُقال، عن «بناء الثقة» بين الطرفَين، النظام والمعارضة، إلا أنها تساند قوات النظام وميليشيات إيران في قضمها مناطق في دمشق وحماة حرصت على إبقائها خارج اتفاق المناطق الأربع.
قال مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند، إن لدى المنظمة «مليون سؤال» في شأن ذلك الاتفاق، الذي ينبغي أن تبلور الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، ملايين التفاصيل فيه «بالتوافق». وعلى رغم أن العنوان الرئيسي «وقف الأعمال العدائية» بين «الحكومة» و «المجموعات المسلّحة التي تنضمّ إلى وقف إطلاق النار»، فإن السؤال البديهي المطروح: هل أن «الحكومة» انضمّت فعلاً، وبالتالي كيف تصنّف موسكو الهجمات التي استمرّت وشاركت فيها بعد إقرار الاتفاق؟ وإذا كانت البنود المتعلّقة بمساعدات إنسانية «سريعة»، ومساعدات طبّية وحاجات أساسية «مؤمّنة» للمدنيين، و «إيجاد ظروف مناسبة لعودة آمنة وطوعية للنازحين والمهجّرين»، تُعتبر مناسبة جدّاً لإغاثيي الأمم المتحدة إلا أن سوابق النظام و «حزب الله» وسائر الميليشيات وحتى الروس أنفسهم لا تجعلها مشجّعة على الإطلاق. ويعرف يان إيغلاند عمّا يتكلّم، بعدما اضطر مراراً للتفاوض على كل رغيف خبز وحبة دواء وجرعة ماء، ومع أنه غير معني بالملف السياسي إلا أنه يختلف عن ستيفان دي ميستورا الذي تسلّم مهمته منحازاً تماماً ضد الشعب السوري، ولا يزال يؤكّد هذا الانحياز، وكل شخص في فريقه يتبنّى أجندته.
في مختلف المراحل اتخذ دي ميستورا منحىً تبريرياً لتوليف خطط الروس أو الأسد أو الإيرانيين والإيحاء بأنها مطابقة لقرارات الأمم المتحدة وأهدافها، وهذا ما يحاوله في تسويق الاتفاق الأخير في آستانة. لكنه، حتى اللحظة، لن يجد خبيراً عسكرياً أو أمنياً قادراً على تصوّر تطبيق ميداني سليم لـ «خفض التصعيد»، إلا إذا كان خبيراً في التلفيق، بل إن الدول الثلاث نفسها ليست لديها الطريقة بعد. فخرائط المناطق المعنية بـ «وقف النار» ستُوضع بـ «التوافق» (ولا معايير واضحة) كذلك «المناطق الأمنية» المحيطة بها والحواجز ونقاط الفصل والمراقبة. فكيف تصلح قوات إيرانية (عراقية أو أفغانية أو من «حزب الله»)، مثلاً، لمهمات من هذا النوع لم تُستقدم أصلاً للقيام بها. وإذ ذُكر أنه يمكن الاعتماد على قوات شرطة روسية فهذا يفترض أن موسكو مستعدة لنشر آلاف منها على الأرض مع إدراكها للأخطار في مناطق يعتبرها أهلها قوة احتلال. لكن المطّلعين على متغيّرات التخطيط في روسيا يعتقدون أنها باتت تفكّر بذهنية التدخّل/ الاحتلال طويل الأمد، ولا شك أن هذا يحتاج إلى أكثر من مجرّد قوات شرطة بل يتطلّب تقاسماً للنفوذ مع «شريك الوصاية» الإيراني وثقةً وطيدةً بإمكان التعايش معه.
يفتح الاتفاق نافذة للاستعانة بـ «أطراف ثالثة» لنشر قوات لها حيثما تقتضي الضرورة، لكن إشراكها يجب أن يحظى بموافقتها أولاً وموافقة الدول الثلاث عليها تالياً، و «بالتوافق» أيضاً، لكن الصعوبات ارتسمت على الجانبَين فور طرح فكرة مبدئية لإشراك مصر وقطر، ثم أن إيران أثارت استهجاناً كبيراً حين اقترحت إشراك العراق. ولا بدّ أن أي دولة تُعتبر «مقبولة» سيكون لديها أيضاً أكثر من «مليون سؤال» قبل أن تضع جنودها في موضع استهداف، إذ إن «مناطق خفض التصعيد» مدعوة في الوقت نفسه إلى الفصل (والاقتتال) في داخلها بين المعتدلين والمتشدّدين، وهي غير مستثناة من محاربة الإرهابيين، لذلك يصحّ عمَّن سيتولّى محاربتهم؟ الجواب الواقعي أنها الميليشيات التابعة لإيران تحت غطاء جوّي روسي، أما الجواب «الرسمي» فهو أنها «قوات النظام»، أي أن «الأطراف الثالثة» ستكون مدعوّة لحماية ظهر تلك الميليشيات.
كان الهدف المباشر لـ «مناطق خفض التصعيد» الروسية قطع الطريق على «المناطق الآمنة» الأميركية، طالما أن إدارة دونالد ترامب تأخرت في بلورة أفكارها وخياراتها. لا شك أن اتفاق آستانة وضع واشنطن أمام أمر واقع، فهي لا تريد الاستمرار في التأزيم مع موسكو، ولا مزيداً من التشنّج في العلاقة مع تركيا على رغم حسم أمرها بتسليح الأكراد والاعتماد عليهم في محاربة «داعش». أما الهدف الروسي الآخر للاتفاق فكان تخيير أميركا بين الانضمام إليه أو البقاء في موقع «المراقب»، وكلاهما مرفوض على الأرجح، خصوصاً أن موسكو تهندس مسار آستانة ليطغى على مسار جنيف أو يتحكّم به أو يصبح «بديلاً» منه، وهكذا فمَن يبقى خارج الحل العسكري يفقد مكانه في الحل السياسي. لن تقبل واشنطن هذه اللعبة، ولا تستطيع روسيا الاستفراد بتحديد شروطها بل تجدّد محاولة استدراج أميركا للبحث في صفقة كبرى.
في كل الأحوال ترغب روسيا في تمرير اتفاق آستانة عبر مجلس الأمن، لكن المسألة لن تكون سهلة، فواشنطن لم تتأخر في معارضة وجود إيران كـ «دولة ضامنة»، ليس فقط لأن أحداً لا يصدّق ضماناً كهذا بل لأن قبوله دولياً سيقونن بمفعول رجعي مجمل دور إيران وميليشياتها ولكل الجرائم وأعمال التخريب وحملات التهجير القسري والتطهير المذهبي التي ارتكبتها. وبمعزل عن تركيا، التي تكثر مؤشّرات انغلابها على أمرها، فإن روسيا وإيران لا تتعاملان مع نظام الأسد على أنه طرف مثله مثل فصائل المعارضة بل كأنه «الدولة الرابعة الضامنة» والمطلوب أيضاً قوننة كل جرائمه. فما كانت روسيا وإيران لتستطيعا ادعاء أي «شرعية» لوجودهما في سورية لولا النظام، وبالتالي فإن اعتراف مجلس الأمن بـ «الدول الضامنة» - إذا حصل - سيكون امتداداً لاعترافه بـ «شرعية» النظام. بطبيعة الحال هذا لا يتطابق مع عزم معلن لإدارة ترامب على تحجيم النفوذ الإيراني وإنهاء «حكم آل الأسد»، إلا إذا كان وهماً وليس عزماً.
بعد أن تم التوصل إلى اتفاق جزئي في الشمال السوري ، وتقاسم النفوذ (جزئياً) بين الدول الفاعلة في الملف السوري ، باتت الخريطة في قلب البادية السورية (و تحديداً في دير الزور و محطيها) أكثر تعقيداً مع التركيز عليها في مرحلة التقاسم ، تركيزاً يحكمه القوة العسكرية أكثر من كونه سياسي ، اذ تأتي الأخيرة بعد أن يتمكن أحد الأطراف من فرض نفوذه لينصاع بعدها الجميع له.
تغير الخرائط و الخطط جعل من مدينة دير الزور ، هي المركز الأكثر جذباً للمتصارعين في سوريا ، إذ بدأ كل طرف بحشد ما أمكنه من قوة و سلاح و عناصر للدخول في النزال الذي سيفضي حتماً ، لإعادة رسم الخارطة في المنطقة ككل ، وسط وجود تعارضات جمّة ، بين الأعداء هنا ، و المتفقين في مكان آخر .
أيام طويلة من التحضير و التحشيد سبقت النزال الأول بين روسيا و حلفائها (إيران ومليشياتها - بقايا قوات الأسد) و أمريكا و حلفائها (التحالف الدولي و قوات الجيش الحر المدعومة من قبلها ) ، في البادية السورية و بات الاشتباك أمراً لابد منه ، وليست الغاية الصراع على أرض فحسب و إنما قتال على الهيبة التي يتمتع بها كل طرف .
رغم اليقين التام أن الفاعلين الاثنين الرئيسين في العالم ( أمريكا - روسيا ) قد اتفقا على أن إيران يجب أن تحفر قبرها بيدها في سوريا و العراق ، و لكنهما اختلفا في كيفية الحفر و من المستفيد من عملها ، إذ أن روسيا باتت واضحة القرار أن إيران ستلعب دوراً بارزاً في التأسيس لسيطرة جديدة لروسيا على منابع الطاقة في المنطقة الشرقية من جهة ، وإقامة سدٍ بين الشمال الذي بات خاضعاً لأمريكا عبر ذراعها قوات سوريا الديمقراطية ، و الجنوب عبر فصائل تدعمها عبر غرفة عمليات الموك .
في حين تضع أمريكا في حسبانها أن لا فائدة مرجوة من السيطرة الجزئية على الشمال و الجنوب مالم تكونا متواصلتان ضمن طرق آمنة ، تفصل من خلالها التمدد الايراني البغيض و المرفوض من جميع دول المنطقة وعلى رأسها “اسرائيل” التي أكدت في كل مرة أن ايران لن يكون لها موطئ قدم في سوريا سواء أكان برياً أم بحرياً أو جوياً بطبيعة الحال.
إيران التي وجدت نفسها خارج اللعبة بعد تحييدها عن منطقة “تلعفر” العراقية انصياعاً للرفض التركي المشدد ، باتت تبحث عن طريق آخر لاكمال “الهلال” أو “البدر” الشيعي ، لذا حوّلت خارطة الطريق من الشمال الشرقي إلى الجنوب الشرقي ، ليكون هناك مساحات أوسع تسيطر عليها من جهة ، و تضمن اتصالاً مضموناً بين طهران و البحر المتوسط و هو الحلم الذي يدغدها من دهور طويلة ، و لكن وفقاً للخارطة الجديدة لن تكون السواحل السورية هي الهدف ، و إنما لبنان ، وفق أحدث الخرائط التي تنتشر حالياً في دوائر القرار الإيرانية.
اختلاط الخرائط و المصالح ، يجعل الحرب أكثر انفتاحاً للتوسع في منطقة باتت مَكْسر عظام لجميع القوى ، و محرقة لجميع اللاعبين الميدانيين ، سيما أن أياً من البيادق على الأرض لاتملك صكوكاً دامغة بأي حق من الدول الكبرى.
أثار سيل العنف الذي أطلقه الرئيس السوري بشار الأسد وعملاؤه ضد شعبه منذ عام 2011 ـ من أعمال خطف على نطاق واسع وتعذيب وهجمات بالقنابل المتفجرة والأسلحة الكيماوية ـ مناقشات لا تحمل في طياتها كثيراً من الأمل حول ضرورة مثول الأسد أمام العدالة لمعاقبته عن المذابح التي اقترفها. بيد أن الحقيقة، أن الولايات المتحدة وموقفها إزاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ساعد في خلق الكثير من المعوقات أمام محاكمة الأسد.
جدير بالذكر، أن المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة دائمة للنظر في جرائم الحرب، تأسست عبر مفاوضات جرت بين غالبية أعضاء الأمم المتحدة في ن تفهم بعضها، ربما يكون أكثرها قوة أنه ما من دولة أكثر احتمالاً عن الولايات المتحدة للمشاركة في أدوار حفظ الأواخر تسعينات القرن الماضي، اضطلعت الولايات المتحدة خلالها بدور رائد.
ومنذ محاكمات نورنبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر إجماع عالمي حول أن عقد محاكمات علنية بخصوص الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ومعاقبة المسؤولين عنها، أمر لا غنى عنه لإرساء قواعد سلام دائم داخل أي منطقة صراع؛ وذلك لأن العدالة النزيهة تمكّن الناجين من التحرك قدماً دون الإبقاء على مشاعر سخط ربما تستمر أجيالاً بخصوص فظائع لم يجرِ التعامل معها.
بحلول نهاية عام 2000، وقعت الولايات المتحدة و138 دولة على المعاهدة الدولية، التي أطلق عليها ميثاق روما، والذي قضى بإنشاء المحكمة. لاحقاً في مايو (أيار) 2002، أعلنت إدارة جورج دبليو بوش، أنها «تسحب توقيعها» على المعاهدة، وتنسحب من الالتزامات الأميركية في إطارها.
وقد ظهرت كثير من الحجج الداعمة لرفض الانضمام إلى المعاهدة، يمكسلام بمختلف أرجاء العالم. وعليه، فإن احتمالات إقدامنا على الاضطلاع بهذا الدور ستتراجع إذا ما واجه الجنود الأميركيون مخاطرة التعرض لمحاكمة ذات طابع سياسي أمام محكمة جنائية تبعد آلاف الأميال عن الأرضي الأميركية، وتتبع إجراءات تختلف كلية عن الإجراءات القانونية داخل الولايات المتحدة.
من جانبه، مرر الكونغرس عام 2002 قانون حماية الجنود الأميركيين، الذي خوّل للرئيس سلطة إصدار الأمر بإجراء عمل عسكري لتحرير أي أفراد عسكريين من المنتظر مثولهم أمام المحكمة الجنائية الدولية. وقوبلت هذه الخطوة بانتقادات ساخرة داخل دول أوروبية غربية باعتبارها تشكل «قانون غزو لاهاي». ومع ذلك، مضت الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط دبلوماسية على دول أخرى، بينها العراق، حيث يقاتل جنود أميركيون، للامتناع عن المشاركة في المحكمة.
وساعد هذا التحول بالموقف الأميركي في تقييد المحكمة الجنائية الدولية؛ ذلك أن دولاً مارقة، نجحت في تجنب التعرض لضغوط من المجتمع العالمي من خلال التذرع بالموقف الأميركي. الأهم من ذلك بكثير، أن النموذج الأميركي يسري على دول أخرى وقّعت بالفعل على ميثاق روما، والامتناع نهاية الأمر عن التصديق عليها. والملاحظ أن الكثير من هذه الدول غالباً ما أثارت تصرفاتها اتهامات لها بانتهاك القانون الدولي: إيران وإسرائيل وروسيا، والأهم سوريا.
وعليه، لم يعد للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على سوريا والأسد. ورغم أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يزال قادراً على تحويل القضية إلى المحكمة الدولية، فإن حليفة سوريا، روسيا، تملك حق النقض (الفيتو) ونجحت بالفعل حتى الآن في إحباط جميع الجهود الرامية لمحاسبة الأسد وآخرين. من جهتها، كلفت الأمم المتحدة كيانين مختلفين بجمع أدلة حول المذابح التي ترتكب داخل سوريا، لكن الكيانين يفتقران إلى أي مؤسسة لعرض هذه الأدلة عليها. وسبق أن أعلن الأسد ومسؤولون بإدارته أنهم «لا يهتمون» بجهود الأمم المتحدة على هذا الصعيد.
وإذا كان رفض الولايات المتحدة التصديق على ميثاق روما يخدم المصالح الوطنية الأميركية حقاً، فإنه يمكن التساهل حياله، حتى وإن ترتب عليه توفير ملاذ لشخص مثل الأسد. بيد أنه في واقع الأمر يعتمد تردد واشنطن على هذا الصعيد على مجموعة متنوعة من الافتراضات لا تصمد أمام التفحص الموضوعي. في الواقع، إن المحققين الأجانب لن يزحفوا على الولايات المتحدة من كل حدب وصوب في محاولة لسجن جنودنا؛ ذلك أن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية تكميلية؛ ما يعني أنها لا تنتهك سيادتنا ولا تحل محل نظامنا القضائي. إن المحكمة تتحرك فقط عندما ترفض الدولة المعنية ذلك.
ويتعذر على المرء تخيل أن تمر اتهامات بتورط جنود أميركيين في جرائم حرب خطيرة دونما تحقيق من قبل البنتاغون، بمجرد أن يجري تسليط الضوء عليها. ولنا في الاستجابة القوية للتصرفات التي ارتكبها الجنود الأميركيون داخل سجن أبو غريب ببغداد خير دليل. علاوة على ذلك، فإنه إذا كانت عضوية المحكمة الجنائية الدولية عززت الحاجة إلى إجراء تحقيقات، وإذا دعت الحاجة إلى محاكمة أميركيين بهدف الحيلولة دون تدخل المحكمة، فإن هذا ينبغي النظر إليه بصفته تطوراً إيجابياً يسهم في التغلب على ميل المؤسسة العسكرية، مثلما الحال مع مؤسسات أخرى، للعمل على حماية أفرادها والتمويه على الأمور السلبية.
علاوة على ذلك، فإن الواقع القائم يؤكد أنه حال إجراء المحكمة الجنائية الدولية محاكمة لأميركيين رأينا فيها تحيزاً أو فساداً، فإن بمقدورنا حينذاك الانسحاب من المعاهدة، وبخاصة أنه ليس ثمة دولة على وجه الأرض لديها القوة الكافية لإجبار واشنطن على الاستمرار في عضوية المحكمة. حقيقة الأمر، أن الولايات المتحدة ستتحرك انطلاقاً من موقف أخلاقي قوي إذا ما أعربت عن اعتراضات منطقية تجاه قضية بعينها، بدلاً عن التشبث بموقفنا الراهن الذي يسمح للأميركيين باقتراف جرائم ضد الإنسانية دون إبداء حكومتنا استعدادها للالتزام رسمياً بالاستجابة لذلك.
الواضح أن جهود الولايات المتحدة ودول أخرى تمكنت من إلحاق ضعف بالغ بالمحكمة. وفي خضم محاولاتها الحفاظ على كيان هش، وجدت المحكمة الجنائية الدولية نفسها منغمسة بشدة في إجراءات جنائية مركبة؛ وذلك لأنها رأت أن الدفاع الوحيد في مواجهة الاتهامات الموجهة إليها بالتحرك بناءً على دوافع سياسية يكمن في الالتزام الصارم بقواعدها.
ويعني ذلك أن التحقيقات تستمر سنوات طويلة، بينما تسبب غياب الدعم من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى قوية مثل روسيا والصين، في ترك المحكمة دون قوة حقيقية في مواجهة المقاومة التي تجابهها. على سبيل المثال، تخضع روسيا للتحقيق منذ عام 2008 عن التصرفات التي ارتكبتها أثناء غزوها جورجيا.
وعلى مدار 13 عاماً، لم يجرِ توجيه اتهامات سوى إلى 33 شخصاً فقط، أدين منهم ثمانية فحسب. الأسوأ من ذلك أن المتهمين الـ33 جميعاً ينتمون إلى أفريقيا؛ ما جعل المحكمة مادة للسخرية داخل القارة باعتبارها أداة في يد الإمبريالية الغربية، رغم بشاعة الاتهامات التي تجري حولها التحقيقات والتي لا يمكن أبداً تجاهلها من جانب أي محقق مسؤول.
واليوم، ليس بمقدور الولايات المتحدة انتقاد المحكمة بسبب ما تعانيه من افتقار إلى الفاعلية في وقت بذلنا نحن أقصى جهودنا لنضمن حدوث ذلك. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للشعور بالصدمة حيال الرفض الأميركي للمشاركة في المحكمة أنه يقوض سياساتنا وادعاءاتنا المستمر بأننا القائد الأخلاقي للعالم.
من الواضح أن لدى الولايات المتحدة دوافع عدة لمنح «وحدات حماية الشعب» الكردية الدور الرئيس في الهجوم المزمع، بمشاركتها ورعايتها، على الرقة. لكنّ ثمة غموضاً يتعلق بكيفية التوفيق بين تعاون تنظيم صالح مسلم مع الأميركيين والتزام خططهم، وبين ولائه لنظام بشار الأسد الذي عاودت واشنطن حملتها ضده.
قد يكون أمراً مفروغاً منه أن لأكراد سورية، مثل أبناء قوميتهم في العراق وتركيا وإيران، هدفاً بعيد المدى هو الاستقلال الذي قد يتخذ في مراحل أولى شكل حكم ذاتي على غرار الحالة العراقية. وكانوا يرون منذ البداية أن سلوك هذا الطريق يتطلب بالضرروة رضا دمشق، وتصرفوا على هذا الأساس. وكان أن أخلت القوات النظامية السورية مواقعها بين الرقة وحلب قبل سنوات، وسمحت لـ «وحدات الحماية» بتولي الأمن فيها وإقامة نوع من «الحكم الإداري»، قبل أن تدخل هذه في مواجهات عنيفة مع فصائل «الجيش الحر» رداً للجميل.
وجاء المؤتمر الصحافي الأخير لوزير الخارجية السوري وليد المعلم ليعلن تأييد الدور الكردي المدعوم أميركياً في معركة الرقة، ويصفه بأنه «حرب مشروعة ضد داعش تندرج في إطار حماية وحدة سورية وسيادتها»، في خروج واضح عن مواقف سابقة اتهمت الأميركيين بغزو سورية لأنهم دخلوها من دون التنسيق مع دمشق.
وكان الأكراد تلقوا بارتياح إشارة واضحة إلى قبول روسيا، الداعم الرئيس لنظام الأسد، بخيارهم، عبر مسودة الدستور التي وضعتها موسكو ونشرتها أواخر العام الماضي، والتي لحظت في البند الثاني من مادتها الرابعة أن «أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته تستخدم اللغتين العربية والكردية كلغتين متساويتين».
ومع أن بوتين صرح أخيراً بأنه «لا يرى ضرورة لتسليح أكراد سورية»، إلا أن موقفه كان يهدف إلى مسايرة أردوغان عشية زيارته واشنطن، بعدما وفرت تركيا غطاء سياسياً ضرورياً لاتفاق آستانة.
ومنذ معركة عين العرب (كوباني)، بدأ الأميركيون يتعاملون مع الأكراد السوريين بصفتهم طرفاً مستقلاً وحليفاً موثوقاً به، ووفروا لهم غطاء جوياً. وكان امتناع إدارة أوباما عن إعلان تأييدها حكماً ذاتياً كردياً، يعكس رغبة في إبقاء عبء مثل هذا القرار على دمشق وحدها. لكن ذلك تغير في عهد ترامب الذي منحهم حماية كاملة وعارض قصف أنقرة مواقعهم أخيراً.
هناك إذاً توافق أميركي – روسي – سوري غير معلن على دور الأكراد ومستقبلهم في سورية، حتى أن «وحدات الحماية» قد تكون عنصر تقارب أو يمكنها أن تلعب دور «وسيط» بين إدارة ترامب ونظام الأسد، على رغم التوتر المستجد بينهما، والذي يندرج في إطار التفاوض مع روسيا على التسوية السورية.
ومع أن إيران لا تشارك واشنطن وموسكو ودمشق هذا الموقف، إلا أنها لا تفصح عن عدائها له مثل تركيا التي فشل رئيسها أردوغان في إقناع ترامب، خلال لقائهما قبل يومين، بالتخلي عن التعاون مع الأكراد، لأنه لم يقدم له بديلاً منهم، إذ يستحيل على قوات «درع الفرات» المدعومة من أنقرة أن تصل إلى الرقة من دون معارك مسبقة غير محسومة النتائج، سواء من الجنوب حيث يفترض أن تعبر مناطق الجيش النظامي والميليشيات الإيرانية، أو من الشمال، حيث يجب أن تخترق مناطق الأكراد.
وإذا كان الأميركيون وعدوا أردوغان بأن «وحدات الحماية» ستخلي الرقة بعد طرد «داعش» وتسلمها إلى «مجلس محلي»، فهذا يعني أن النظام السوري سيستعيد نفوذه عليها. وكانت دمشق سربت أنباء عن أن «قوات سورية الديموقراطية» قررت تسليم سد الطبقة الذي انتزعته من مقاتلي «داعش» إلى «الجهات الحكومية السورية المختصة».
ومع أن أردوغان ذهب إلى واشنطن وهو يعرف مسبقاً أن القرار الأميركي بدعم الأكراد نهائي لا عودة عنه، إلا أنه شدد على نقطة الخلاف هذه للحصول على مكاسب في مجالات أخرى، بينها خصوصاً التعاون الاقتصادي، بعدما بدأت أوروبا تغلق أبوابها في وجهه تدريجاً، لابتعاده من معايير حقوق الإنسان.
شكل إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الانسحاب من خط الحدود اللبنانية السورية في منطقة بعلبك الهرمل، إيذانا بتطور جديد في تعامل حزب الله مع التطورات الجارية في سوريا ومحيطها، فتسليم مواقع حزب الله العسكرية على جزء من خط الحدود الشرقية للجيش اللبناني، مهد له حزب الله بمقدمات وصفت ما سيعلنه نصرالله بأنه موقف مهم، وتركز هذا التمهيد في دائرة محازبيه ومناصريه الذين تلقوا في وسائل التواصل المختلفة عشية الخطاب الذي ألقاه في الذكرى السنوية لاغتيال القيادي في حزب الله مصطفى بدرالدين قبل أسبوع، رسالة مفادها ترقبوا القرار المهم الذي سيعلنه الأمين العام.
القرار لم يكن في إنهاء اللغط الذي دار حول عملية اغتيال بدرالدين، عبر تقديم نتائج التحقيقات في ما خفي من عملية الاغتيال التي جرت في محيط مطار دمشق، ولا في طي ملف الشكوك التي تدور حول هذه العملية التي قيل إن بدرالدين ذهب ضحية تصفيات داخلية، تجاوز نصرالله كل هذه الشكوك التي تشغل بال جزء من جمهوره، وذهب مباشرة إلى مخاطبة هذا الجمهور بعبارة “أنجزنا المهمة” وهي العبارة التي صارت تعويضا عن عبارة سابقة واختفت، كان يرددها نصرالله في سنوات سابقة وفي بداية تدخله في سوريا وهي: كما وعدتكم بالنصر دائما أعدكم بالنصر مجددا.
الأخيرة هذه التي غابت عن خطابات نصرالله منذ مدة بعيدة، تعكس إدراك اللبنانيين عموما وجمهور حزب الله على وجه التحديد أن الأزمة السورية لن تجلب نصرا لحزب الله، وقصارى ما يطمح إليه هؤلاء هو التخلص من الرمال السورية بأقل ما يمكن من خسائر وأضرار.
“أنجزنا المهمة” لم تنطوِ على إعلان نصرالله الانسحاب من سوريا، ولكن لا يمكن فصلها عن كونها تمهيدا يستهدف الإشارة إلى عنوان وجوده العسكري في سوريا من دون أن يحدد نصرالله تعريفا لإنجاز المهمة، فهو مفهوم مطاطي وقابل لتفسيرات مختلفة تتيح لحزب الله أن يحدد مضمونه بحسب ما تقتضي الظروف.
هذه المرة ربط نصرالله هذا المفهوم بأن سلم الجيش اللبناني مواقع على الحدود مع سوريا في مساحة محددة، ولكن أبقى على وجوده في سوريا وعلى انتقاله السلس عبر هذه الحدود في الاتجاهين، لقد سلم الدولة اللبنانية مواقع عسكرية له على هذه الحدود، لكنه أبقى على وجوده داخل سوريا وفي المقلب اللبناني من هذه الحدود، بدا الأمر في واقعه الفعلي، تحميل الجيش اللبناني مسؤولية هذه الحدود، من دون أن يلتزم حزب الله بأي شرط من شروط السيادة وقواعدها في لبنان.
إذن هو انسحاب بغاية تحضير نفسي للجمهور القلق من أفق مفتوح لا نهاية له للأزمة السورية ولتورط حزب الله فيها. تحضير مفاده أن طريق العودة إلى لبنان فتحت، والأهم أنه رسالة سياسية إلى من يعنيهم الأمر دوليا وإقليميا، تقول إن حزب الله ليس طرفا معرقلا للتفاهمات الجارية من تحضير لمناطق آمنة، لكنه يشير إلى أنه متخوف من أن يكون كبش فداء لهذه التفاهمات، ويعلن بطريقته الملتبسة احترامه للحدود الدولية.
علما أن هذه الحدود التي انسحب منها حزب الله تخضع إلى مراقبة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية اللتين أخذتا على عاتقهما منذ سنوات توفير شروط مراقبة ميدانية وتقنية عبر اتفاقيات عسكرية عقدتاها مع الجيش اللبناني، أتاحت تأمين محطات مراقبة تشرفان عليها ويديرها الجيش اللبناني مباشرة.
البقاء في سوريا مستمر حتى اليوم، لكن من دون أفق انتصارات يعد حزب الله مناصريه بتحقيقها، وإنجاز المهمة صار رهن الاتفاقيات الإقليمية والدولية، وحزب الله ليس إلا طرفا تابعا لإيران وقد نذر نفسه لأن يكون ورقة في يد قيادتها، وبالتالي فإنه ربط مصيره إلى حدّ بعيد بمستقبل النفوذ الإيراني في سوريا، ومن هنا يصبح قرار العودة أو البقاء شأنا تقرره المصالح الإيرانية، بعدما طويت “أحلام النصر” الإيراني في سوريا، وبات الحلم أن تبقى العلاقة وثيقة بروسيا التي تربعت على عرش حلفاء بشار الأسد، فإيران وكذا حزب الله باتا عنصرين تابعين ومنضبطين بسقف روسيا، ويدركان أن ما تبقى لهما هو الدرع الروسي في مواجهة السياسة الأميركية وهجومها الاستراتيجي في عهد الإدارة الجديدة التي ساوت، إلى حدّ بعيد، بين النفوذ الإيراني ووجود داعش في المنطقة العربية
الأحلام الإيرانية تتهاوى ومعها يتراجع دور ونفوذ حزب الله الذي يبدي إلى حدّ بعيد ليونة تجاه الخطرين اللذين طالما بشر بمواجهتهما منذ نشأته، أي أميركا وإسرائيل، فعلى الرغم من العقوبات الأميركية المتدرجة ضده، ورغم الضربات الإسرائيلية المتكررة لبعض مواقعه في سوريا، فإن لهجة العداء تتركز لدى نصرالله ضد المملكة العربية السعودية، فنبرة الصوت هادئة تجاه أميركا وإسرائيل ولا تنطوي على أي تهديد، بينما تعلو وترتفع حينما يتناول الموقف السعودي.
ففي خطابه في يوم 2 مايو، ذكرى يوم الجريح، قال حسن نصرالله كلاما يمكن أن يندرج في إطار الفضيحة السياسية، إذ أكد أن المجتمع الذي يقوده أو يتحدث عنه لم يكن مقتنعا بقتال الاحتلال الإسرائيلي بين 1982 و2000 كقناعته اليوم، بغرقه في الحرب التي أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها حرب أهلية بسمات مذهبية وطائفية.
وهذا النص الحرفي لما قاله الأمين العام لحزب الله “أود أن أقول أمرا اليوم، إننا خلال 6 إلى 7 سنوات لم أقدّم خطاباً تعبوياً، أنا أقوم بخطاب تحليلي، توصيفي، نحن كنا نقاتل إسرائيل منذ العام 1982 حتى 2000 كان لدينا يومياً خطاب تعبوي، نحن غير محتاجين في سوريا لخطاب تعبوي لأن البصيرة والوعي والقناعة وسلامة وصوابية الخيارات عند مجتمعنا وشبابنا ومقاتلينا وعائلاتهم واضحة إلى حد لا يحتاج إلى خطاب تعبوي”.
لا يمكن أن يكون هذا الخطاب عفويا بل هو مقصود ومدروس ولا سيما أنه خطاب غير صحيح وينطوي على محاولة لإلباس المشروع الإيراني في سوريا والمنطقة عموما شرعية شيعية، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن نصرالله يريد أن يقول للأميركيين والإسرائيليين إن عداء جمهورنا يتركز بالدرجة الأولى على أعدائنا في الداخل الإسلامي والعربي، وأن هذه القناعة تتركز في المجتمع الذي سهل عليه أن يقاتل أعداءه من السوريين أكثر من مشروع قتال إسرائيل وبالتالي الغرب.
ترسيخ الانقسام المذهبي وتعميقه في منطقتنا يبدوان الفرصة الوحيدة المتاحة أمام المشروع الإيراني لكي يجد مبررا لدوره ونفوذه، فالليونة حيال السياسات الأميركية والإسرائيلية التي تقابل بها إيران ما تسميهما بالشيطانين، لا يقابلها إلا إعلاء من وتيرة الصراعات الأهلية في العالم العربي عبر المزيد من الاستثمار الدموي والطائفي فيه من قبل القادة الإيرانيين وأتباعهم في المنطقة.
بانتخاب الأستاذ رياض سيف وفريقه لقيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، تدخل إدارة القضية الوطنية السورية بواسطة الائتلاف في لحظة مفصلية حاسمة، فإما أن تحوله قيادته الجديدة إلى مؤسّسة قادرة على إنتاج عمل وطني وقيادة ثورية/ إنقاذيةٍ لشعبٍ يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو أن يوصله عجزه إلى مثواه الأخير غير مأسوفٍ عليه، تاركا مكانه للفوضى، أو لمبادراتٍ يرجّح أن تفضي إلى مؤسساتٍ متنوعةٍ أو بديلة، إن اتحدت. وهذا مستبعدٌ جدا، انفردت بالساحة، كما كان ينفرد الائتلاف الحالي، من دون أن تنال ثقة الشعب السوري، لأنها ستكون مفروضة عليهم مثله، علما أن مهمته الرئيسة كانت طيلة القسم الأكبر من سنوات وجوده، وخصوصا منها السنوات الثلاث الأخيرة، منع تخلق قيادة ثورية للشعب، تحل محله، بحجة أنه الممثل الشرعي لشعب سورية، على الرغم من أن شرعيته كانت وبقيت خارجية، ولم تغدو يوما شرعية داخلية/ وطنية، تقوم على إدارة القضية السورية بالنجاح المطلوب لانتصارها، بل تآكلت حتى غدا تآكلها تاما على وجه التقريب، في ظل عجز قياداته المتعاقبة عن أداء المهام التي تنجزها عادة قيادة ثورية للشعب والوطن.
ليست مهمة رياض سيف وفريقه سهلة، وليست، في الوقت نفسه، مستحيلة. وليس رفض الشعب الائتلاف حقيقة نهائية، لا يمكن التعامل معها وتغييرها، بل إن الفراغ الذي يسود الساحة السياسية يمكن أن يكون عاملا يساعد قيادة الائتلاف على إخراجه من عنق الزجاجة الحالي، في ظل عدم تخلق بديل له خلال سنوات الثورة الماضية، ودور الفراغ القيادي في تحريض حاجة الثورة إلى قيادة، يرجّح أن يدفع العمل الجدّي والصادق إلى إيجادها بقطاعاتٍ شعبية واسعة للالتفاف حولها، في حال بادرت حقا إلى معالجة الأسباب التي عزلت الائتلاف عن السوريات والسوريين، وأولها تناقض بنيته وآليات عمله وسياساته، مع ما تحتاج إليه ثورة لم تستمر بفضله، بل بقوة ما قدمه الشعب من تضحيات، وعاناه من تنكيلٍ وتهجير وقتل، بينما تصرف الائتلاف خلال سنوات الحسم، كما تتصرّف جهة تستمتع بمشاهد الموت، ولا تكترث لما يجري، لم تستطع يوما تغطية القضايا الرئيسة ومعالجتها، وهي القضايا التي أثارتها الثورة، أو طرحتها على نفسها وعلى الائتلاف الذي بدا كأنه تعمد أن ينأى بنفسه عنها.
أعتقد أن الخطوة الأولى التي لا بد أن تبدأ رئاسة الائتلاف بها وضع خطط وبرامج لا بد أن تكون لها الأولوية على أي شيء عداها، ما دام سيتم في ضوئها تطوير بنية وآليات عمل وسياسات الائتلاف وتغييرها، وتحديد مراكز ثقل العمل الوطني الديمقراطي، والجهة التي سيستند إليها، وسيستمد وجوده وقواه منها، وهل هي الخارج الذي لطالما انتظر المجلس الوطني والائتلاف قيامه بما توهما أنه سينجزه: إسقاط النظام وتسليم السلطة لأحدهما، أم الداخل، الذي لطالما أهملاه واستهانا بدوره، على الرغم من أن الثورة لم تستمر بفضل أعمالهما وخططهما ومؤهلات قياداتهما، بل لسببٍ وحيد، هو التضحيات التي بذلها الشعب، من دون أن تكون لديه قيادة تستحق اسمها، إلا إذا اعتبرنا شطّار (وعيّاري) معظم الفرق السياسية العاجزة والمتصارعة والتنظيمات المسلحة المتقاتلة، المحكومة بعشوائية ومزاجية أمراء حرب وتجار دم، قيادةً ثورية، وتجاهلنا رغبة هؤلاء في ردّنا إلى العصر الحجري باسم الدين، وما أملته نصرته المزعومة من عسكرةٍ لم توفّر أحدا، ألغت السياسة، وأبسط التدابير والأفكار العقلانية، وأبطلت أي دور لحامل الثورة الحقيقي: شعب سورية الذي لم يقصّر أنصارها في البطش به، وفي إطالة عمر نظام الظلم الأسدي.
أما الخطوة الثانية، فلا بد أن تكون إعادة النظر في علاقات الائتلاف مع مختلف فئات الشعب، في كل مكان توجد فيه، وإلا فإنه لن يكون هناك أي معنىً للمطالبة بتطبيق خطط وبرامج عملية على واقع الشعب السوري وثورته في وضعهما الحالي الذي صاغته سنواتٌ من تضحيات الناس، وافتقار من تصدّوا لقيادة العمل السياسي والعسكري إلى عملٍ ثوريٍّ مبرمج ومنظم، ساده الانقسام، وهيمنت عليه خلافاتها ورهاناتها المتناقضة التي أتبعتها بجهاتٍ خارجيةٍ متضاربة الإرادات، ومنحت النظام هوامش عمل واسعة، لعبت دورا مهما في نجاته. أليس من المنطقي أن يطالب الائتلاف مختلف أوساط المعارضة والثورة بالموافقة على برنامجه وخططه، في مقابل منحها دورا وازنا في أعماله وقراراته، تمهيدا لتوحيد النخب والفئات المجتمعية التي تنتمي إليها، ولا بد من الإفادة من علاقاتها ووطنيتها في بناء علاقات وطيدة وفاعلة وتبادلية مع القاع المجتمعي السوري في جميع أماكن وجوده، داخل سورية وخارجها، في إطارٍ يجعل من قيادة الائتلاف قيادةً للشعب وتنظيماته، على أن تتم الاستعانة بعلاقاته مع المجتمع السوري، في الضغط من أجل دمج المجالين، السياسي والعسكري، المعادة هيكلتهما، تحت قيادة وطنية الهوية والدور، تقدم أنموذجا من العمل العام، يتفوق ثوريا وأخلاقيا ومدنيا على أنموذج النظام، الأمر الذي يحتم القضاء التام على ممارسات أي طرفٍ تشبه ممارسات النظام، إنقاذا لأخلاقيات الثورة وقيمها.
هل ستستقيم الأمور من دون علاقات مصارحة شفافة وتفاعلية إلى أبعد حد مع السوريين، إناثا وذكورا، تتبناها قيادة الائتلاف، وتعبر من خلالها عن إيمانها بأن الشعب السوري، أي الداخل، هو مرجعيتها ومصدر شرعيتها، وأنها تلتزم بالعودة إليه في كل أمر، من خلال تقنيات عمل وتواصل سياسية، تتفق والمستجدات التي أنتجها الشعب، بفضل حراكه الثوري/ السلمي، وصموده الأسطوري ضد إرهاب الأسدية والغزو الروسي والإيراني، فلا تعمل بالخفاء عن ممثليه وجماهيره، وتتفاعل بأعلى درجةٍ من الإيجابية مع أنشطته المتباينة، وتتعاون معه في الرد على ما يطرحه الصراع مع الأعداء من أسئلة، ومن تحديات ومخاطر، بحيث يكون الائتلاف حاضرا معه في حله وترحاله، وينخرط عبر مؤسساته في حياته اليومية، ويقيم حوارا دائما ومفتوحا معه، بصفته السلطة البديلة المسؤولة عنه، التي تقود صراعه ضد السلطة الأسدية، وتعبر عن مواقفه ومصالحه، وتعمل بنزاهة لخدمته، مباشرةً أو عبر ممثلين له، يعملون في أماكن وجوده وعيشه، أو أدواته التنفيذية، وخصوصا منها حكومته المؤقتة، ومنظمات المجتمع المدني التي تخدم السوريين. هل من الضروري لفت نظر رئيس الائتلاف إلى أنه لا يمثل من انتخبوه في هيئته العامة، بل يمثل السوريين جميعا، وإن عليه التصرّف، بدلالة دوره هذا ومتطلباته؟
هل ستتمكن قيادة الائتلاف الجديدة من وضع هذا البرنامج وتنفيذه؟ أعتقد أنها تستطيع الإفادة من قدرات السوريين الهائلة، وخبراتهم الكبيرة في شتى المجالات، لوضع خطط وبرامج تنفيذية وطنية الطابع، تعتمد ممارساتٍ يتطلبها تطبيقه بنجاح، فإن دعت إلى لقاء وطني وأدارته كلقاء عمل، وكان تمثيله معبّرا عن القوى السورية الفاعلة التي يدعوها إلى الانخراط في مؤسساتٍ مشتركة، تمثل قطاعات من الشعب، وتعينه على تحقيق مشاريعه، وتوطيد علاقاته مع الشعب، يصير إنجاز هذا البرنامج مرجحا، مهما كانت الصعوبات.
يتركّز دور الائتلاف اليوم على العجز عن قيادة الثورة، ومنع تخلق بديل له، يتولى هذه القيادة. هذا الحال لن يدوم.
أخيرا، كنت قد قدّمت شخصيا أوراقا متعدّدة لإصلاح بنيوي للعمل الوطني وللائتلاف، أنصح قيادته الجديدة بإلقاء نظرة عليها، فربما وجدت فيها ما يفيد مشروعها الذي أعلنه رئيسها رياض سيف، ويتقاطع، في بعض فقراته التقنية، مع ما جاء فيها.
لعل العنوان الراهن في الصراعات الأممية هو: دونالد ترامب يتخبّط في سياسته الداخلية ويتسابق مع بشار الاسد للوصول الى الحدود العراقية.
في أمريكا أقدم ترامب، عشيةَ زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لواشنطن، على إقالة مدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي. هل ثمة علاقة بين إقالة كومي وزيارة لافروف؟ ليس بالضرورة. الأرجح ان السبب الرئيس هو قيام كومي بمطالبة وزارة العدل الأمريكية بتزويده وسائل وتسهيلات أفعل لتوسيع تحقيقاته في اتصالات مشبوهة جرت بين اركان فريق ترامب وروسيا قبل معركة الرئاسة الأمريكية بقصد دعمه في وجه منافسته هيلاري كلينتون.
صحيح ان كومي طلب، قبل 11 يوماً من بدء انتخابات الرئاسة، التوسع في التحقيقات حول استعمال هيلاري كلينتون لموقعها الالكتروني الخاص بعيداً من وزارة الخارجية اثناء توليها مسؤوليتها ما أدّى الى تقليص مؤيديها، لكن كومي لم يتقاعس أيضاً في تحقيقاته الجارية لمعرفة طبيعة الاتصالات التي اجراها اركان حملة ترامب مع روسيا وما اذا كانت اساءت الى الأمن القومي الأمريكي.
بإختصار ، كومي كان متوازناً في عمله. الخوف من تحقيقات كومي واحتمال ان تتوصل الى حقائق من شأنها الإساءة الى ترامب ومكانته وسلطته بعدما اصبح رئيساً هو، على الأرجح، السبب الذي حمل الرئيس الأمريكي على إقالة كومي كونه المشرف الاول على التحقيقات التي تمسّ جماعته وذلك لقطع الطريق على ما يمكن ان تتوصّل اليه من حقائق وتفادياً لكشفها على الملأ. الضجة التي اثارتها إقالة كومي وملابساتها لم تمنع ترامب، رغم تخبّطه المتواصل في قضاياه الداخلية، من محاولة إقناع ضيفه لافروف بأن تقوم روسيا «بكبح جماح ايران وسوريا». اين؟ في سوريا نفسها، كما في العراق وسائر انحاء الاقليم.
كبحُ جماح ايران وسوريا يعني، في الواقع، منع جيش الاسد وحلفائه من استعادة محافظة دير الزور من «داعش»، كما منع الجيش السوري وحلفائه من التوجّه الى الحدود مع العراق لتحريرها من «داعش» وضمان إقامة تواصل جغرافي آمن بين البلدين وتالياً مع ايران.
بكلام آخر، ثمة سباق بين الأسد وترامب على من يصل أولاً الى الحدود مع العراق. ترامب يريد ان يصل اولاً لمنع فتح الحدود بين البلدين تفادياً لترسيخ التعاون بينهما في محاربة «داعش»، ولمحاولة إقامة كيان إسفين بينهما يحول دون تواصلهما الجغرافي مع ايران، بينما يريد الأسد، بدعم سخي من ايران وروسيا، تحرير مناطق الحدود بين البلدين تعزيزاً لأواصر التحالف والتعاون بين القوى التي تشكّل محور المقاومة: سوريا وايران وحزب الله وتنظيمات المقاومة الفلسطينية.
يضاف إلى ذلك، أن ترامب لا يكتفي بمجابهة ايران ومحور المقاومة في بلاد الشام بل يريد ايضاً تعزيز المحور المضاد، «محور المحافظة»، الذي تتزعمه السعودية ويضم الاردن وبعض دول الخليج ويتطلع الى ضم دول إسلامية اخرى في آسيا وافريقيا. في هذا السياق، يعتزم ترامب زيارة السعودية، مفتتحاً نشاطه السياسي الخارجي بزيارة عالم الإسلام، تماماً كما فعل سلفه باراك أوباما الذي افتتح نشاطه الخارجي بزيارة تركيا ثم مصر.
ليس من شك أن عالم الإسلام يضجّ في الحاضر والأرجح في المستقبل المنظور أيضاً، بأكثر قضايا العالم المعاصر حساسيةً واهميةً. ولئن كان ترامب منغمساً وبالتالي منشغلاً بقضاياه ومتاعبه الداخلية، فإنه يجد نفسه مضطراً الى إعطاء قضايا عالم الإسلام اولوية في سياسته الخارجية. مردُّ ذلك إلى أسباب عدة، جيوسياسية واقتصادية.
فروسيا التي نهضت من كبوتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عادت إلى منافسة الولايات المتحدة على مسرح السياسة الدولية وأخذت تنكر عليها وحدانيتها القطبية وتزاحمها على الموارد والأسواق. تجلّى ذلك في تدخلها السافر في أوكرانيا ودورها المحوري في الحرب الدائرة في سوريا وعليها. أما «اسرائيل» التي تعتبرها واشنطن جزءاً من الأمن القومي الأمريكي، فتنشط اقليمياً على نحوٍ يؤثر في مصالح دول الاقليم المتحالفة مع أمريكا ما يستدعي مراعاتها ودعمها في حمأة الصراع مع اعدائها.
ثم ان صعود ايران، سياسياً وعسكرياً، وتأثيرها المباشر في جوارها الجيوسياسي الممتد من شواطئ بحر قزوين شمالاً الى شواطئ البحر المتوسط جنوباً، يحمل الولايات المتحدة على التحرك لدعم حلفائها الإقليميين، ولا سيما «اسرائيل» ودول الخليج، التي ترى في ايران تهديداً لمصالحها ونفوذها وحتى لكياناتها السياسية.
وفي هذا السياق، تتعاطف واشنطن مع قيام «محور المحافظة» بقيادة السعودية للحفاظ على مصالح حلفائها الإقليميين من جهة ولمساعدتها في مجابهة ايران من جهة اخرى. ولذلك تتزامن زيارة ترامب المقبلة للسعودية مع مبادرة الرياض الى تعزيز «محور المحافظة» بالدعوة الى عقد قمة في 21 الشهر الجاري تجمع دولاً عربية وأخرى اسلامية في آسيا وافريقيا هدفها الرئيس تنسيق الجهود مع الولايات المتحدة لمجابهة إيران ونشاطها ونفوذها المتوسع في العراق وسوريا واليمن.
في سعيه لكبح سوريا ومنعها من الوصول قبله الى حدودها مع العراق، قام ترامب بتدبيرين لافتين: الاول تزويد «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية بمزيد من الاسلحة النوعية الثقيلة بدعوى مساعدتها على محاربة «داعش» واقتلاعه من الرقة، والثاني تسليط الاضواء على مناورات «الاسد المتأهب» في الاردن على مقربة من الحدود مع سوريا بقصد الإيحاء باحتمال تدخلها عبر قوات مؤلفة من عناصر وعشائر مناوئة لـِ»داعش» بقصد الاندفاع باتجاه موقع التنف الحدودي العراقي ومن ثم التوجّه الى محافظة دير الزور للالتقاء مع قوات الاكراد السوريين الموالين لها وإحكام السيطرة تالياً على مناطق الحدود بين سوريا والعراق.
موسكو اخذت علماً خلال زيارة لافروف لواشنطن بكل ما ينتوي الأمريكيون فعله وما لا يستطيعون في سوريا، وردّت بأن عززت دعم سوريا سياسياً عسكرياً، ومثلها فعلت طهران ما يؤكد تقدير بعض الخبراء الاستراتيجيين بأن موازين القوى في سوريا أخذت تميل نحو محور المقاومة، وان آخر الأدلة اتصال وزير الخارجية الاردني أيمن الصفدي بلافروف ليؤكد له ان بلاده لا تريد منظمات ارهابية ولا ميليشيات مذهبية على حدودها، وان وقف القتال يجب ان يكون اولوية، وانها «تدعم حلاً يحفظ وحدة تراب سوريا وتماسكها واستقلالية قرارها».
تتموضع خطة روسيا في سورية بشأن البقاء في دائرة الحل، حتى عندما يكون أميركياً، بالقفز إلى الأمام لاستباق أي مبادرةٍ من إدارة الرئيس دونالد ترامب، قد تؤدي إلى تقليم أظافر إيران أو النظام أو حتى أظافرها. ولا تحاول موسكو في ذلك التشبث بكامل وجودها في سورية، بقدر ما تتمسك بدورٍ محوري، ومداور، ينزع عنها صفة الحماية المطلقة للنظام، ويوفر لها غطاءً لخطة تحجيم دور إيران في المنطقة، امتثالاً لرغبتها المضمرة من جهة، والرغبة الدولية التي تتزّعمها إسرائيل صراحةً من جهة ثانية.
وتأتي اتفاقية "مناطق خفض التوتر"، في المناطق السورية المتفق عليها في أستانة 4، ووقعت عليها ما سميت الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا)، تفسيراً روسياً لما أعدّته الإدارة الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2017، استجابة للرئيس الأميركي ترامب الذي طلب من وزارتي الدفاع والخارجية وضع خطةٍ لإنشاء مناطق آمنة داخل سورية، وفي دول الجوار في غضون 90 يوماً. فهذا التوجه الذي جاء لحماية الولايات المتحدة من "إرهاب الأجانب"، كما جاء في تعليل الخبر الأميركي، وقتها، يتوافق بل ينسجم مع كثيرٍ من رغبات الدول الأوروبية التي ضغطت موجات اللجوء السورية على برامجها الخدمية، وأفقدت مرشحين أوروبيين أصواتهم الانتخابية.
ويأتي الحماس الإيراني للخطة، على الرغم من الإعلان الروسي المباشر أنها سوف تؤدي إلى خروج مليشيات إيرانية من سورية، بمثابة خط دفاع إعلامي، يبرّر اضطرار إيران لإعادة انتشارها سورياً وعراقياً أيضاً، تنفيذا لرغبة إسرائيل وأميركا وحلفائها في الخليج العربي، وقد بدت ملامحها جديةً على الأرض، بعد ازدياد الحضور العسكري الأميركي في شمال وشرق سورية والموصل، لقطع أوصال التمدّد الإيراني من جهة، ومحاصرة ما سميت الدولة الإسلامية (داعش) من جهة ثانية.
هكذا يبدو نص الاتفاق الذي أعلن عنه في أستانة 4 مايو/ أيار الجاري، وحاولت روسيا كسب شرعيةٍ له عبر مجلس الأمن، لضمان تنفيذ خطتها، وعرقلة ما يمكن أن ينتج عن تنفيذ المناطق الآمنة التي أرادتها الإدارة الأميركية، والذي انجرت إيران مرغمة إليه، وتقاطعت مصالح تركيا. هدفه ليس عرقلة الحل السياسي، أو الاستعاضة عنه بتقسيم سورية، حسب مناطق نفوذ الدول الضامنة، أو اعتباره بديلا عن مفاوضات جنيف، وإنما هو بمثابة محاولةٍ روسية للعودة إلى طاولة مفاوضات، تفرد عليها موسكو كامل الملفات، من إعادة الإعمار في سورية إلى طريق الغاز وأسعار النفط، إلى التفاوض حول الدرع الصاروخية، والمسألة الأوكرانية، والعقوبات التكنولوجية، ليتم تبادلها مع الملف السوري، لإعادة ترتيب العلاقات الروسية الأميركية، ولاحقا أو ضمناً العلاقات مع أوروبا المستفزة روسياً، والمتجاوزة أزمة "اليمين الحاكم"، بإبعاده عن حكم فرنسا، واستعادة الدور الفرنسي في شد أواصر الوحدة الأوروبية، والتي لن تتنازل عن حصتها في الشرق الأوسط الجديد.
على الضفة الثانية، وبينما لقي الاتفاق ترحيب النظام، لأنه، حسب النداء الخامس لمجموعة العمل الوطني الديمقراطي (تضم شخصيات معارضة سورية وفلسطينية، منهم ميشيل كيلو وأنور بدر وزكريا السقال وماجد كيالي، وآخرون من القوى الشبابية)، والتي سارعت إلى إعلان رأيها في الاتفاق الذي شارك بحضوره الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الصامت عنه، وحذّرت الهيئة العليا للتفاوض، في بيان دبلوماسي، من مضمونه، فإن هذا الاتفاق، حسب النداء، لم يتضمن أي تعهدٍ بتطبيق القرارات الدولية ذات الشأن حول سورية، فالمناطق تبدو كأنها لتقطيع سورية إلى جغرافيات، يحكم مناطقها الأربع ضامنوها، بينما تحكم روسيا وإيران، بالتعاون مع النظام، المناطق الأخرى التي ستعتبر قضاياها في حكم المحلولة، وليست خاضعةً لقرارات دولية واجبة التنفيذ، معتبرين ذلك ترسيخا لحكم النظام وسياساته المستمرة في تهجير السوريين.
واعتبرت مجموعة العمل الوطني الديمقراطي المعارضة أن ما يجب فعله عملياً هو: توقف الدولتين الضامنتين، روسيا وإيران، عن قصف السوريين، بدلاً من تقطيع أوصال سورية وتقاسم النفوذ على أراضيها، معتبرين أن أي حلٍّ سياسيٍّ، ينبغي أن يشمل كل المناطق، وكل الأعمال القتالية، وهو ما يعطي المصداقية لأي دولةٍ راغبةٍ منهما في إيجاد حل للصراع في سورية. ولم يخف بيان المجموعة أن خروج المعارضة من أي دورٍ في هذه الاتفاقيات التي تبحث في حل الصراع سببه واقع المعارضة المشتتة والمرتهنة، بشقيها العسكري والمدني، داعية إلى الإسراع في عقد مؤتمر وطني تأسيسي، لإجراء مراجعةٍ نقديةٍ مسؤولة، والتوافق على بناء كيان وطني جامع للسوريين، وإعادة الاعتبار للأهداف التي قامت من أجلها الثورة السورية.
لا شك أن لكل نظام سياسي شعاراته التي تفصح عن طبيعته، وماهية نظرية حكمه، منها من يلتزم بها، ومنها من يجعل منها سراباً بعيداً يظن الناظر إليها أنها ماء. فالثورة الفرنسية مثلاً حين قامت اتخذت شعار «حرية، مساواة، أخوة » الشعارات الثلاثية ذات جذور فرعونية، إزيزيس، اوزوريس، حورس، ويعتقد أن فرنسا التي وضعت هذا الشعار الثلاثي استندت ايضاً إلى ثلاثي ديني: الأب والابن والروح القدس ـ ووضعت الحرية كأولوية تقوم عليها الجمهورية الوليدة بعد سقوط الملكية، لأنها الركيزة الأساسية في الأنظمة الديمقراطية.
وقد تبنى ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث هذه الثلاثية في الشعار، فوضع شعار الحزب من ثلاثية: «وحدة، حرية، اشتراكية» فأولى الأولية لوحدة الشعب قبل أن ينال حريته، ووضعه على طريق الاشتراكية التي كانت «موضة العصر آنذاك». وقد ألحق هذا الشعار بشعار آخر اكثر عمومية: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» ويعني به أن العرب أمة واحدة من المحيط إلى الخليج، وأنهم حاملون لرسالة الإسلام الخالدة.
وهذا الشعار القومي بامتياز أغفل كل القوميات الأخرى التي تعج بها البلاد العربية، من أكراد وتركمان وشركس وأمازيغ،… ودينياً هناك إغفال ايضاً للديانات الاخرى، المسيحية واليهودية وسواهما.
ومنذ الانقلاب البعثي في سوريا في العام 1963 ولغاية انقلاب حافظ الأسد في العام 1970 لم ينعم الشعب السوري بتطبيق أي من هذين الشعارين، حافظ الأسد الذي ورث الحزب وجد فيه خير مطية لتركيز دعائم حكمه فظل الشعاران سراباً، ففي عهده بدأ تطويف الجيش السوري وكل مرافق الدولة بسياسة طائفية «علوية» تفرز وتستبعد السنة، وتتقرب من بعض المكونات الأخرى للوقوف في وجه اكثرية مسلمة، فتحولت إلى بناء سجون ومعتقلات في كل انحاء سوريا، وارتكاب المجازر بحق المساجين (مجزرة سجن تدمر في العام 1980) وإنشاء اجهزة ومراكز أمنية وجيش من الشبيحة والمخبرين يتتبعون كل شاردة وواردة، حتى بات الأخ يشك في أخيه. وارتكاب مجازر جماعية ترقى الى مستوى جرائم حرب (حماة 1982) السيطرة التامة على وسائل الاعلام والتعبير التي لا تبث سوى خطاب السلطة، وما يخص الاشتراكية فكانت مجرد كلمة تخفي وراءها عمليات فساد لم تشهدها سوريا من قبل (عائدات النفط السوري مثلاً لم تكن تدخل في الميزانية السورية ولا أحد يعلم أين تذهب هذه الأموال ولا يتجرأ ان يسأل حتى وزير الاقتصاد نفسه).
أما فيما يخص الشعار الثاني فإن نظام الأسد الأب جعل من سوريا دولة تعادي معظم الدول العربية، دفع بالجيش السوري إلى لبنان في العام 1976 (بتفويض من الجامعة العربية، وكان هذا خطأ جسيماً من الجامعة التي أدخلت الدب إلى الكرم ثم لم تتمكن من إخراجه حتى تبنت الأمم المتحدة القرار 1559 بعد ثلاثين عاماً وطرد الجيش السوري ذليلاً من لبنان) بحجة طرد الجيش الاسرائيلي من لبنان، وضرب حزب الكتائب، وتطبيع الوجود الفلسطيني، وإنهاء الحرب اللبنانية، فإذا بالجيش السوري يتعامل مع اللبنانيين كمحتل، ويضرب الفلسطينيين في تل الزعتر، ويُتهم باغتيال كمال جنبلاط الى جانب سلسلة طويلة اخرى من الاغتيالات السياسية، ويفقر البلد اقتصادياً بعد استغلالها، ثم يقف في وجه مصر بعد كامب ديفيد في ما سمي بجبهة الصمود والتصدي، والوقوف فيما بعد الى جانب ايران ضد العراق في حرب الثمانينات، والى جانب امريكا ضده في عاصفة الصحراء.
شعار آخر أطلقه الأسد كي يحافظ على قانون الطوارئ المطبق في سوريا منذ العام 1963 هو شعار «التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل» ففي ظاهره أن سوريا تحضر نفسها عسكريًا لتكون موازية في القوة لإسرائيل لتكون قوة رادعة لأي اعتداء، وربما التحضير لهجوم لاستعادة الجولان على أقل تقديرـ وليس تحرير فلسطين من الماء الى الماء كما كان يوهم البعض ـ فإذا بالجبهة السورية تتحول الى الجبهة الأكثر أماناً منذ أكثر من اربعة عقود، واتضح ان اتفاقاً ضمنياً بين الطرفين بالحفاظ على النظام مقابل عدم فتح جبهة الجولان (وهذا ما نوه إليه رامي مخلوف في قوله إن أمن سوريا من أمن إسرائيل في بداية الثورة السورية).
ثم طالعنا الأسد الكبير بشعار آخر: «الأسد إلى الأبد» واعتقد السوريون على خطأ أن ما يعنيه هو حكم الأسد مدى الحياة، ومنوا النفس بأن يتخلصوا خلال أقصر مدة ممكنة من حكم ديكتاتوري طائفي يعد عليهم أنفاسهم، لكنهم اكتشفوا أن الآخر يتعلق بعهد أسدي أي تأسيس جمهورية توارثية على الطريقة الكورية الشمالية، ووجدوا أن «بابا حافظ» يحضر ابنه باسل لخلافته، لكن القدر كانت له حسابات أخرى، وبعد موت حافظ تم اختيار «الدكتور» بشار الذي تفاءل الشعب السوري به خيراً وانطلقت حملات «منحبك» وانبرى «المحبكجية» بترويج هذا الشعار الجديد بالصورة الضاحكة لجزار سوريا المستقبل، مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011 ورغم زج الجيش والشبيحة، والمخابرات، والمأجورين، في حرب همجية ضد المتظاهرين العزل فشل بشار في قمع الثورة، وشعر أن نظامه بدأ يهتز، فخرج في خطاب أمام برلمان المصفقين المنافقين بشعار جديد: «الأرض لمن يدافع عنها وليس لساكنيها» حتى أن أحد النواب الحاضرين قال له ممتناً ومعجباً بهذه الشخصية الفذة التي لم تلدها امرأة: «سيادة الرئيس يجب أن تحكم العالم فسوريا صغيرة عليك» وتبين أن هذا الشعار لم يقل عن عبث بل أن هناك مخططاً لجلب المرتزقة بجميع أصنافهم مع الروس والايرانيين كي يطردوا سكان المدن المنتفضة وإحلال سكان من جاؤوا من وراء الحدود ليحتلوا أراضيهم ومنازلهم ويهجروا ويصبحوا لاجئين في كل انحاء العالم، ورافق هذا الشعار شعار آخر: «الأسد أو نحرق البلد» وهذا القول لم يكن تهديداً بل كان واقعاً فقد أحرق البلد، وشرد أهلها، وخنق أطفالها بالكيميائي، وشنق المعتقلين وقتلهم تحت التعذيب، ولم يُبقِ في سوريا حجراً يستند على حجر، كي يبقى وفياً لشعار بابا حافظ «الأسد إلى الأبد».