تحرص العديد من الوسائل الإعلامية على تصوير محافظة إدلب بصورة خبيثة، ووصفها بمنطقة “توحش” تغوّلت فيها الفصائل وحوّلتها إلى غابة لا يحكمها قانون، وتفوح من أرجائها رائحة الجثث المتفسخة التي أزكمت أنوف متابعي وسائل التواصل حول العالم، وحوّلت المنطقة في نظر الكثيرين إلى سجن كبير لن ينجوَ منه أحد.
أفلام تعرض، وتقارير تكتب، ومقالات تنتشر في عدة وسائل إعلامية، تُشبّه مدينة إدلب بـ “تورا بورا” أو “بالرقة” وكأنها تحت سيطرة داعش؛ التي تمارس أسوأ الانتهاكات بحق المدنيين والإعلاميين والصحفيين.
تحاول الكثير من القنوات حمل لواء محاربة التطرف بأي ثمن؛ لكسب ثقة الداعم وحصد المزيد من الأموال على حساب الشعب السوري المنهك، فتذهب لاختلاس الصور بكاميراتها على أنها صور مسربة من داخل محافظة إدلب، رغم أن شبكات التغطية التركية تمتد من الشمال على الحدود التركية إلى ريف حماة الشمالي وتتوفر أحدث أجهزة الهواتف بيد الكثيرين من المواطنين، وتنتشر الكاميرات الرقمية بكثرة ويمكن لأي شخص البث مباشرة من أي نقطة في الداخل السوري.
تحاول تقارير تلك القنوات تصوير “جبهة النصرة” أي القاعدة على أنها تحتكر الساحة، وتفرض هيمنتها على جميع الفصائل الثورية، كما حرصت تلك القنوات سابقاً على تصوير القاعدة بأنها تتفرد بقتال نظام بشار الأسد دون سواها كما ظهر ذلك واضحاً في معركتي حلب وحماة الأخيرتين.
تسقط تلك القنوات مرة أخرى في فخ تقمص نظرية النظام وترويج ما يدعيه من بداية الثورة؛ بأنه لا يقاتل شعبه بل يقاتل تنظيمات إرهابية وتكفيرية أجنبية مهاجرة، بينما يتكلف النظام لإثبات تلك النظرية بكل الوسائل المتاحة له، تقدم تلك القنوات المحسوبة على الثورة خدماتها المجانية، وتحاول نقل الصورة أسوأ سيناريو ممكن لتتصدر قوائم الدعم المخصص لمشاريع مكافحة الإرهاب الدسمة.
إن إنكار الأخطاء التي ترتكبها الفصائل في المناطق المحررة ضرب من الجنون وغير منطقي لمن يريد الحياد أو الموضوعية، لكن محاولة شيطنة المنطقة برمتها هي أكبر هدية تقدم لنظام بشار الأسد والمليشيات الشيعية والكردية التي تعزف على هذا الوتر لتتلقى الدعم وتجتاح المنطقة بغطاء جوي روسي أو أمريكي، وتحول إدلب لرقة سورية ثانية وخاصة بعد أن حشر فيها كل المعارضين من المناطق الأخرى.
في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية، صرّح نيرون سورية الثكلى بأنّ الأطفال الذين قضوا نحبهم في فاجعة استخدام الأسلحة الكيميائية في خان شيخون هم "بالفعل أطفال ممثلون يتظاهرون بأنهم موتى"، وذلك في سياق مجادلته بأنّ "كل ما حدث هو من اختلاق الغرب لأجل تبرير قصف قاعدة طيران النظام السوري في الشريعات". وهذا خطابٌ متوقع من طاغيةٍ لا يرى في أبناء شعبه سوى حفنةٍ من الأغيار الذين لا مقام لهم في وطنهم إلا عبيداً وأقناناً من دون أصفاد ظاهرة. وهو، في الوقت نفسه، خطاب مثير للحسرة على ما آل إليه خطاب اليسار، على المستويين، العربي والعالمي، في توصيفه الكارثة السورية عموماً، ومجزرة خان شيخون الكيميائية خصوصاً؛ معبراً عن نفسه عبر الصحف ووسائل الإعلام المحسوبة على ذلك التيار، سواء من خلال ما يقوله ويكتبه المشاركون فيها ضمن سياق ترديدهم الببغائي التبريري قول الطاغية السوري جهاراً أو مواربةً. وقد يكون توصيف الصحافي الطليعي، آلان نيرن، الخارج عن السرب الأكثر دقةً في اختزال أزمة المقاربة اليسارية الغربية، حين قال "من غير المنطقي الدخول في مماحكات ومساجلات بشأن من الذي أباد الأطفال والمدنيين في خان شيخون، وتضييع مسألة الإبادة الجماعية في سورية بتلك السجالات التقنية، فالإبادة الجماعية حاصلة يومياً في سورية بالبراميل المتفجرة، والدبابات، والمدفعية الثقيلة، والتعذيب في سجون النظام؛ وكلها وسائل للإبادة الجماعية لا تختلف عن الأسلحة الكيميائية، إلا بشكل الأداة المستخدمة في عملية الإبادة، من دون أن تختلف في نتائجها عن الأدوات الأخرى شيئاً".
قلما تجد نظيرا لنسق هذا التحليل الثاقب في المنافذ الإعلامية المحسوبة على اليسار في الغرب، والتي حشرت أفق تحليلها ونقاشها الكارثة السورية في إطار "تحديد المسؤول عن مجزرة خان شيخون: هل هو النظام السوري فعلاً أم جهة أخرى"، بالتوازي مع أسئلة مرتبطة بمدى "قانونية استخدام الولايات المتحدة صواريخها لقصف قاعدة الشعيرات، وهل هو مخالفة للقانون الدولي". وعلى المستوى العربي عموماً، والسوري خصوصاً، فإنّ هناك عسر هضم مزمناً لدى التيارات السياسية والفكرية المنخرطة ضمن مظلة طيف اليسار، سواء من ذلك الماركسي بشكله السوفييتي اللينيني، أو الإثني الأقلّوي المتلبس بلبوس ماركسي ستاليني على شاكلة حزب العمال الكردستاني وإصداراته المتعدّدة، أو حتى ذلك القومي، بشقيه الناصري والبعثي المعارض بطبعاتهما المختلفة، لحقيقة إيغال النظام السوري في تزييف صورته في ذهنية أولئك الأخيرين، ممانعاً مناهضاً المشروع الصهيوني، وعلمانياً مقاوماً التطرّف الديني.
وقد يستقيم توصيف المفكر الطليعي، جون سميث، في كتابه الجديد "الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين" ذلك الموشور اليساري، المشروخ بنيوياً عندما يتعلق الموضوع بتحليل الأزمة السورية، انطلاقاً من ثوابت تاريخية مضمرة غير معلنة، متعلقة "برياء كل التيارات اليسارية الغربية" عندما يتعلق الموضوع بأحقية المظلومين في العالم الثالث بالحصول على الحقوق نفسها التي ترى الطبقة العاملة في الغرب أنها من مسلمات حقوقها في المجتمعات المتحضرة، أو حتى من "حقوق الإنسان البديهية" التي أسست لمبادئها الثورة الفرنسية في العالم الغربي؛ من دون أن ننسى أن مبادئ الثورة الأخيرة نفسها هي التي جلبت قائد موجتها الثانية نابليون بونابرت ليحتل أرض مصر، وقادت الفرنسيين أنفسهم إلى إبادة جماعية في الجزائر وبلاد الشام لم تثر مفارقة في وعي اليسار الغربي، بشكل فعلي ملموس، كما تشي مراجعة المؤرخ الموسوعي، جون ماك هوغو، في كتابه "تاريخ مقتضب عن العرب"، ومراجعته لسياسات الاستعمار الغربي في سورية في مطلع القرن العشرين ضمن كتابه الجديد "سورية.. تاريخ معاصر".
وعلى المستوى الداخلي، سورياً وعربياً، لا يستطيع المراقب المتفحص إلا تلمس حالة انفصال شاخص يفقأ العين بين مقولات كل أطياف اليسار العربي وأفعاله، بأشكالها الماركسية والقومية والإثنية الأقلّوية، ومطالب الجماهير العربية في سياق ربيعها الموءود بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما تجلى، بشكل عياني مشخص، في انتظام رهط كبير من لفيف جسم المعارضة الوطنية قبل الثورة السورية في نسق المعارضة البلاغية التنظيرية للنظام، ظاهرياً خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية، والالتحام به عضوياً فيما تلاها من أطوار دموية، والتخلي عن واجبها الحقيقي في توجيه الدفة السياسية للمجتمعات الثائرة، والتي لم يكن لدى كوادرها أي خبرة تنظيمية سياسية في ضوء واقع التصحّر السياسي في سورية، منذ استيلاء البعثيين على سدة الحكم في سورية في 1963، وتركها فريسة لأولئك الخبثاء من ربيبي النظام السوري، وأجهزة مخابراته، وآليات فساده وإفساده الشاملة عمقاً وسطحاً في كل تفاصيل المجتمع السوري، للتصدّر في قيادة الجبهة السياسية للمعارضة السورية بالشكل نفسه الذي تجتاح فيه الجراثيم الخبيثة الجسم المضعف الموهن، عندما تفنى الجراثيم الطبيعية التي تتعايش معه وتدافع عنه ضد تلك الأخيرة، عندما يحل السقم العضال فيه. وهو سلوك نكوصي، يشي بأن كل تلك التشكيلات اليسارية لم تكن ترى في النظام القمعي السوري سوى سبب لوجودها، وأنّ استبداله بنظام آخر ديمقراطي تعدّدي، قد يؤدي بها إلى الاندثار في ضوء معرفتها الحقيقية بضآلة عديد قواعدها التي كان معظمها من الشخصيات الهرمة التي تكونت تاريخياً من دون أن توازيها على مستوى تكوينها الهرمي قواعد حركية فعلية، قادرة على توسيع امتدادها، حينما كانت الفرصة سانحةً لذلك، إبّان الأشهر الأولى من الثورة السورية، فكان الخيار الذرائعي الأكثر سلامةً في ظنها هو الحفاظ على نوعها السياسي، وربط بقائها ببقاء النظام السوري نفسه، وترك عيون الشعب السوري المظلوم لتقاوم المخرز وحدها.
ومن الناحية البنيوية، هناك عطب ذاتي عميق في أُسّ تكوينات طيف اليسار العربي، يتعلق عضوياً بمفهومها الفكري والعقائدي لمبدأي الديمقراطية والحرية، إذ ظلت أدبياتهم تجاهد لتأطير مفهوم الحرية بأنه تحرّر من الاستعمار استقلالاً، ومناهضة (خطابية) للمشروع الصهيوني، واستعارة مكنية لأدلجة النظام السوري وشركاه من الممانعين والمقاومين الخلبيين في تبرير إفناء الكينونة السورية وطناً وشعباً، من دون مقاربة إلا سطحيةً من "باب رفع العتب" عن حرية الإنسان في وطنه من القهر والاستغلال والاستعباد.
كما ظلت مكونات اليسار العربي الهجينة أسيرة عسر نضجها التاريخي الطبيعي الذي يفصح عن نفسه بأن كل عقائدها، بمختلف أشكالها الاشتراكية الشعبوية، أو الماركسية اللينينية، أو القومية العرقية، لم تنم طبيعياً في البيئة الاجتماعية العربية، وإنّما تم استجلابها في مطلع القرن العشرين من منابعها الأوروبية الاشتراكية والفاشية، وتمّ توطينها على عجل بشكل إرادوي قسري قافز فوق شروط التاريخ، فولدت بتكوينات عقائدية عمادها "الهجانة والقصور"، حسب توصيف شيخ المفكرين السوريين، طيب تيزيني، فأصبح القائد الرمز والطليعة الثورية التي تقود الجماهير الكادحة والدولة والمجتمع كيانات تخيلية في واقع هي فيه مافيات حاكمة، ونظم عسكرية أمنية، يرأسها زعيم مخوّل بإدارة شؤون الفساد والإفساد في مجتمعه، وهو ما أدى إلى علاقة حساسية مزمنة بين كل أطياف اليسار العربي المنتظم حزبياً ومبدأ الديمقراطية فكرة ونهجاً سياسياً، ما انعكس في تأبيد قياداتها المترهلة التي ظلت تحاول إخفاء شغفها بأمثولة "الرئيس للأبد"، والتي طالما لم يجد طاغية سورية الممانع ضيراً في إعلانها.
وإلى حين تأصيل فكرتي الديمقراطية والحرية بشكلها الذي يحترم حق الإنسان في الانعتاق من القهر والاستبداد في وطنه، والتعبير عن أحلامه و طموحاته، وتحقيق ذاته من دون قيود مختلقة، بحجة المقاومة الممانعة وتحقيق إرادة الطليعة الثورية، سوف يبقى اليساران، السوري والعربي، أسيري قمقم سرمدي سيد أمره هو بشار الكيماوي، إلى أن يغير أصحاب ذلك الفكر ما بأنفسهم قبل أن يقودهم قطار الفاجعة السورية إلى مزبلة التاريخ.
في أيار (مايو) 2015 عملت الماكينة الإعلامية المعارضة على الترويج لما سمي حينها «جوازات سفر للسوريين يصدرها الائتلاف»، وتنفس السوريون الصعداء، لإعادة الأمل بحل مشكلتهم التي بدت إلى ما قبل إعلان الائتلاف عقيمة ولا حل لها.
وعلى رغم أن استصدار الائتلاف جوازات السفر وتجديدها لم يكن رخيصاً، (230 دولاراً للجواز غير المستعجل، 430 دولاراً للمستعجل، 100 دولار للتجديد) إلا أن الخبر ذاته كان أشبه بسفينة إنقاذ لشعب يغرق.
أسس الائتلاف مكتباً رئيسياً لاستخراج الجوازات وتجديدها في إسطنبول، ومكتباً آخر في الريحانية، وبدأ العمل على تجديد جوازات سفر واستصدارها، وكان بطل الملحمة السابقة هو السيد نذير الحكيم، الأمين العام الحالي للائتلاف.
بالتأكيد لسنا طموحين إلى الدرجة التي نعتقد فيها أن رئيس الائتلاف وقتها، السيد خالد خوجة، والسيد نذير الحكيم، حامل الجنسية الفرنسية، يمكن أن يعرفا شيئاً عن معنى أن تكون سورياً بلا أوراق ثبوتية وبلا جواز سفر، وبالتالي أن تكون ملاحقاً ومعرضاً للاعتقال في أي بلد تسكنه.
وضعف طموحنا ذاك سببه بالطبع أننا كنا قد بدأنا ندرك الواقع الفعلي البعيد من التنظيرات والبروباغندا السياسة، لكننا، وانطلاقاً من الواقع ذاته، لا نفهم كيف تجرأ هذا الائتلاف والسيد الحكيم على تجاهل كل الكوارث الانسانية التي حدثت بعد «الاحتيال» الذي مورس على السوريين، وبعد استخراج كل تلك الجوازات والتي أدت إلى اعتقال 37 ألف سوري بتهمة تزوير جواز السفر، بعدما تشدق الائتلاف بأن هذا الجواز معترف به في 56 دولة حينها.
الآن، تم انتخاب نذير الحكيم أميناً عاماً للائتلاف قبل أيام قليلة، ولم تكد تمضي 24 ساعة على استحواذه على لقب أمين عام، حتى اتجه سوريون إلى المطالبة بمعاقبته «شخصياً» بوصفه مسؤولاً عن فضيحة جوازات السفر، والتهمة التي وجهها إليه المطالبون والموقعون على العريضة على موقع «أفاز» كانت «الاحتيال»، وتم توجيه الرسالة إلى الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، والدول العربية.
ووفق بيان الحملة فإن الجوازات التي أصدرها مكتب الحكيم في إسطنبول، «تسببت بالملاحقة القانونية لـ37 ألف شخص، ممن حصلوا على جواز سفر.
وعلى رغم فضيحة الجوازات، وتوقيف السوري بعد السوري وسجن بعضهم وملاحقة بعضهم الآخر، ووصول رقم الملاحقين إلى 37 ألف شخص، إلا أن الائتلاف «المتصل بالشعب والمندمج معه» لم يحاول الاعتذار، أو الاعتراف بالخطأ الفادح ومحاولة حل تلك المشكلة، وأكثر من ذلك فإن الحكيم بقي في الائتلاف بمنصب سفير في تركيا، واليوم بات أميناً عاماً.
وإن كان السوريون وصفوه بـ «أبو لصاقة»، فمن الواضح أن الائتلاف لم يسمع بتلك الصفة، ولم يوقع أي من أعضائه على رسالة المطالبة بمحاكمته «عدا حاملي ضغينة شخصية ضده وما أكثر الضغائن في الائتلاف». بكل الأحوال ليست هذه أول ولا آخر مرة يتابع الائتلاف مسيرته غير مبال بما يقول السوريون، فكل نقد له هو «تآمر ضد الثورة»، وكل مديح أو صمت هو «مبايعة إلى الأبد»، وهذا الائتلاف منذ أن كان مجلساً لم يعط الشعب السوري ولا حتى كلمات على اليوتيوب، فهو يعتبر نفسه، بقياداته، الممثل الأوحد والأصدق للسوريين، ومن يقترب من حماه بغمزة، إنما يوهن الإرادة والوحدة الوطنية الثورية، أفلا يحق له إهمال تواقيع حتى مليون سوري؟ لربما يذكرنا هذا بشيء نريد نسيانه من تاريخنا الحديث.
شخصياً لم أكن سعيدة بتبوؤ المعارض العتيق رياض سيف منصب رئيس الائتلاف، ليس لأن سيف ليس الشخص المناسب لترؤس كيان يتكلم باسم المعارضة السورية، وإنما لأن نظافة يد سيف لا تتناسب مع ما وصل إليه «الائتلاف» في مستنقع الفساد وتجاهل السوريين، والذي لم يعد يشكل عند غالبية المعارضين للأسد سوى كوميديا سوداء، وربما وجود رياض سيف في رئاسة الائتلاف لم يترك لنا مجالاً لنقاش بقية الأسماء بدءاً من النائب «سلوى كتاو»، التي سمعنا باسمها يوم تسلمها منصب نائب الرئيس «على رغم شهادة النائب السابق سميرة المسالمة بها على صفحة فيسبوكية بأنها أفضل الموجودات»، وإن كانت شهادة المسالمة لا تعنينا كثيراً بعد بقائها في هذا المنصب لسنوات، من دون أن يكون لها أي تأثير واضح، فإن وجود كتاو أو غيرها لن يقدم ولا يؤخر في مكان كالائتلاف، يبدو أن صلاحيته انتهت.
أدى تأزم الصراع السوري بفعل التدخل الخارجي إلى تشظي الجغرافية السورية لمناطق نفوذ تديرها عدة قوى خارجية بامتداداتها المحلية، علاوةً عن تفتت النسيج المجتمعي السوري وتآكل الهوية السورية لصالح انبعاث هويات فرعية على أسس مذهبية أو عرقية. وفي حين يبدو الواقع السوري كارثياً بلغة الأرقام من حيث حجم الخسائر في البنية المادية والرأسمال البشري، فإن بناء المستقبل يتطلب معالجة الملفات الكبرى سواءً تلك المؤجلة منذ تشكيل الدولة السورية فيما يتصل باستحقاقات الحكم والتنمية والهوية الوطنية، أو تلك الناجمة عن الصراع وفي مقدمتها التغير الديمغرافي. وفي هذا الصدد، تتجلى أهمية مشروع المجالس المحلية كحامل وطني قادر على التعامل مع الاستحقاقات الكبرى المطروحة، ومنها ملف التغير الديمغرافي لما تمتلكه من كمون يرتكز على شرعيتها وإمكانياتها.
انخرطت عدة قوى في ممارسات التغير الديمغرافي، ولكن ما يضفي على الممارسات الإيرانية سمة خاصة أنها تعد جزء أساسي من استراتيجية متكاملة للتحكم بسورية من خلال التمكين، حيث تسعى إيران جاهدة ما أمكنها لاستغلال ظروف الصراع لإحداث تغير ديمغرافي في عدد من العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن محيط العاصمة دمشق وداخلها وعلى امتداد الخط الذي يصلها بالساحل، إضافة للمناطق الحدودية المحاذية للبنان، والعمل على رعاية تلك المناطق سياسياً وأمنياً، وتضمين المستوطنين الجدد "الوافدين" ضمن مؤسسات الدولة وبالأخص الأمنية والعسكرية منها، بما يعزز قدرتها على التحكم بالجغرافية السورية راهناً من جهة، والتأثير على معادلات السياسية السورية مستقبلاً من جهة أخرى.
يمكن التأريخ لبدء عمليات التغير الديمغرافي مع حملة القصير "أيار 2013"، ليشهد هذا المسار نمواً مضطرداً مع مطلع 2014، حيث يقدر عدد المناطق المستهدفة بالتغير الديمغرافي بما يزيد عن 127 منطقة، كان لمحافظات حمص ودمشق وريفها النصيب الأكبر منها. أما عدد السكان المهجرين قسرياً فيتجاوز 2 مليون نسمة، ومن أكبر عمليات التهجير التي تمت تلك التي شهدها حي الوعر وأحياء حلب الشرقية إضافة للمناطق المشمولة باتفاقية المدن الأربعة. أما الأدوات المستخدمة لإنفاذ عمليات التغير الديمغرافي فمتنوعة وتشتمل على المجازر والحصار والضغط العسكري كآليات عسكرية، إضافة لاتفاقيات الإخلاء والتسوية كآليات سياسية، علاوةً عن الآليات القانونية كشراء العقارات وإحداث مناطق جديدة للتنظيم العقاري، كما هو قائم في المزة وكفرسوسة في محافظة دمشق (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012)، إضافة لمناطق باب عمرو والسلطانية وجوبر في محافظة حمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص!؟
أما عن مراحل التهجير، فتبدأ بإنزال العقاب الجماعي بحق المناطق المستهدفة، ثم تطهيرها مكانياً من سكانها المحليين لتصبح البيئة جاهزة للمرحلة الأخيرة والأخطر من عملية التغير الديمغرافي وهي الإحلال السكاني، الذي تم جزئياً في مناطق عدة أهمها، القصير والسيدة زينب وداخل أحياء دمشق. ولتمكين المستوطنين الجدد "الوافدين"، يتم العمل على تسخير مؤسسات الدولة لخدمتهم ونقل الملكيات العقارية لهم، واختلاق الأعذار والحجج للحيلولة دون عودة السكان الأصليين من خلال فرض ما يعرف بالموافقة الأمنية.
تتمثل خطورة عمليات التغير الديمغرافي بالآثار الكارثية التي أحدثتها في بنية المجتمع السوري، من حيث ترسيخها لخطوط الانقسام بين السوريين على أسس مذهبية وعرقية، إضافة لعرقلتها إنجاز ملفي عودة النازحين والمهجرين وإعادة الإعمار مستقبلاً.
وفي ظل التعاطي السلبي من قبل المجتمع الدولي، بل وتواطؤه المفضوح في عمليات التغير الديمغرافي، وضعف فعالية المعارضة السياسية في إثارة الملف تفاوضياً، وأمام مثابرة إيران وأذرعها المحلية لنسف ما تبقى من عرى تماسك المجتمع السوري، تبدو المسؤولية كبيرة على عاتق القوى المحلية وفي مقدمتها المجالس المحلية للاعتماد على نفسها، والتعاطي مع ملف التغير الديموغرافي بمسؤولية نابعة من تمثيلها لمجتمعاتها المحلية التي هُجرت والدفاع عن حقوقها. وفي حين تواصل عدة مجالس محلية مهام التوثيق العقاري والمدني من خلال مديريات تُعنى بهذا الأمر، سواءً على مستوى مجالس المحافظات أو المجالس الفرعية كما في دوما، الأتارب، إعزاز، درعا، سراقب والرستن..إلخ، فإن المسؤولية أكبر على عاتق المجالس المهجرة، إذ أنها معنية أكثر من غيرها في حفظ الذاكرة المحلية لمجتمعاتها والاستمرارية بالمطالبة بحقوق سكانها المهجرين، وهو ما يمكن العمل عليه من خلال إعادة تفعيل نفسها من جديد في البيئات التي وفدت إليها، وممارسة دورها في رعاية شؤون سكانها، إضافة لإثارتها لموضوع التهجير القسري في المحافل الدولية الحقوقية والقانونية، علاوةً عن متابعتها لملف الملكيات العقارية في مناطقها.
إضافة لما سبق، يمكن استغلال الاتفاقيات السياسية المؤقتة راهناً "الهدن، مناطق وقف التصعيد" وإدراج بند خاص بالعودة الطوعية للاجئين والنازحين لأماكن إقامتهم الأصلية دون قيد أو شرط وبرعاية أممية تستند لدور محوري للمجالس في عملية التنفيذ، إضافة لمنح المجالس المهجرة الحق بالعمل من جديد ضمن مناطقها الأصلية، كذلك الحد من تسرب السكان المحليين لخارج سورية من خلال العمل على إيجاد مناطق توطين مؤقتة لهم كما في مناطق درع الفرات، علاوةً عن الاستمرار في توثيق جرائم التهجير وجمع القرائن والأدلة اللازمة لتشكيل ملف قانوني متكامل، يتيح إمكانية متابعته دولياً لملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه العمليات باعتبارها جرائم حرب.
لا قيمة لبنانية لما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن انسحاب عناصر حزبه من مواقعهم على الحدود اللبنانية- السورية، ودعوته الجيش اللبناني لتسلمها. فالجميع يعلم أن الفارق بين أن تكون هذه المواقع بيد الحزب وأن تكون بيد السلطات اللبنانية ليس كبيراً. لا بل إن استبدال الحزب بالجيش هناك سيكون مضياً في مثابرة دأب الحزب عليها، وتتمثل في توظيف لبنان في مهمات حزب الله الإقليمية، بعدما شعر الأخير أن لعناصره على هذه الحدود أدواراً يمكن أن يؤديها غيرهم من دون أن ينعكس ذلك على الوضع الميداني هناك.
لكلام نصرالله قيمة أخرى، فما وزعه «الإعلام الحربي» لحزبه من صور عن حشود «أميركية وبريطانية» على الحدود السورية - الأردنية، قبل يوم واحد من خطاب نصرالله الأخير، ينفي ما قاله الأمين العام لجهة أن الحزب غير قلق من ضربة في سورية أو في لبنان. الحزب شديد القلق من هذا الاحتمال، وهو على كل حال محق في قلقه على نفسه وعلى دوره. كلام نصرالله الأخير يوحي بإرباك يتخبط به حزبه في المهام الكثيرة الموكلة إليه من السيد الإيراني. وسبق أن كشفت الزيارة التي نظمها للصحافيين إلى الحدود اللبنانية- الإسرائيلية عن هذا الإرباك وعن هذا القلق.
من الواضح أن جميع الأطراف في الحرب السورية يعيدون النظر في مواقعهم، وفي طموحاتهم. حزب الله يبدو عاجزاً عن ذلك، فهو يؤدي مهمة هناك لا قرار له في تحديد وجهتها، وإذا كان نصرالله جزءاً من وجهة القرار الإيراني، فهذا لا ينسحب على موقع حزبه، ذاك أن بنية الحزب وتركيبته لا يمكن قطعها عن جذرها اللبناني، ووصلها بالمصلحة الإيرانية من دون ارتدادات ستصيب مهمة يؤديها الحزب في لبنان. ويبدو أن نصرالله عالق هنا. أي بين المهمة الإيرانية المطلقة لحزبه في سورية، والارتدادات اللبنانية لهذه المهمة. طُلب منه حرباً في مناطق القلمون، فانتصر هناك وارتدت الحرب على بيئته المذهبية في لبنان، بأن صار الشيعة أقلية في البقاع بعد أن نزح أهل القلمون إليه، بفعل حرب حزب الله في مناطقهم.
يجري اليوم شيء مشابه. انتشر حزب الله في الجنوب السوري من القنيطرة وصولاً إلى درعا. هذه المهمة أوكلت إلى الحزب من قبل الراعي الإيراني. واليوم انعقد تحالف لمواجهة هذا الانتشار. فإسرائيل تنفذ غارات بشكل متواصل هناك، والولايات المتحدة تشعر أن إيران تحجز مقعداً لنفسها في مستقبل سورية عبر هذا الانتشار، والأردن لن يقبل بأن تكون طهران على حدوده. واليوم ثمة فرصة للأطراف كلها لفرض واقع جديد. حزب الله شعر بذلك، وها هو مجدداً يبحث عن مخرج «لبناني» لهذا المأزق غير اللبناني.
دعوة نصرالله الجيش اللبناني لتسلم مواقع الحزب على الحدود اللبنانية - السورية، هي مناسبة جديدة قال فيها نصرالله إن «الأمر لي» في لبنان، وهذا صحيح إلى حد بعيد. فالجميع في لبنان يعلم أن تسلم الجيش هذه المواقع لن يعني أكثر من عملية تبديل روتيني للوحدات. أما تصويره الدعوة بصفتها جزءاً من «تسويات» يشهدها ريف دمشق بين جيش النظام وفصائل معارضة له هناك، فهذا ينفي ما تضمنه خطابه من دعوة لأهل الطفيل للعودة إلى بلدتهم. ما يجري في ريف دمشق هو عملية مبادلة سكانية مذهلة في وضوحها. هو تتويج واضح لحرب تهدف إلى تهجير السكان السنة وإرسالهم إلى إدلب. سقوط نصرالله في هذه المقارنة كاشف لحجم الإرباك الذي يتخبط به في مهمته السورية.
العودة إلى الجنوب السوري مفيدة لمساعي تفسير الخطبة الغامضة للسيد. هو يستعين بـ «لبنان» كي يُنجده في سورية. ولبنان هنا ليس دولة أو مجتمعاً أو شراكة. لبنان هنا رهينة، والرهينة يبدو أنها بيد من لا يعرف اليوم كيف يوظفها. فهو متنازع بين مهمة لا قدرة له على الانسحاب منها، لكن لا قدرة له أيضاً على حماية نفسه من تبعاتها. وهنا، ومرة أخرى، ربما كان المفيد التمييز بين نصرالله كشريك في القرار الإيراني، وحزب الله كأداة لبنانية في يد إيران. فالفارق هنا يصنع مشهد الإرباك، فكيف للسيد أن يُوفق بين مصلحة طهران في «الحضور» في جنوب سورية، والأخطار على جسم الحزب اللبناني جراء هذه المهمة الخطيرة؟
تجرى في بادية الشام، على الحدود المشتركة بين سورية والأردن والعراق، تحضيرات لحرب الأرجح أن تمتد إلى مناطق في جنوب سورية. طرد «داعش» من المدن في سورية والعراق، سيدفع بمقاتليها إلى هذه المنطقة. حزب الله جزء من مشهد القلق الدولي هذا، وانتشاره في جنوب سورية يُعزز الاقتناع الإسرائيلي - الأميركي بأن يكون جزءاً من صفقة الحرب هذه. ومن الواضح أن موسكو لن تقبل بقطع رأس النظام في سورية، لكنها ستكون أكثر ليناً إذا ما حصرت المهمة بالقضاء على النفوذ الإيراني في جنوب سورية، لا سيما إذا ما تم ذلك ضمن صفقة أكبر تشمل حرباً على «داعش» في بادية الشام.
هذا ليس سيناريو أكيداً، إنما محاولة لتفسير خطوات المجهول التي أتى بها حزب الله في الآونة الأخيرة. الأكيد أن ثمة تحضيراً لحرب في جنوب سورية، والأكيد أن ورقة الحدود مع لبنان سُحبت من يد حزب الله، وها هو يحاول تعويضها عبر النفخ في خطاب الحرب المستحيلة هناك، وعبر بحث متعثر عن «تسوية» لبنانية لموقعه الحرج في سورية. دعوة الجيش اللبناني لتسلم الحدود مع سورية، أرفقها نصرالله بحقيقة أن عناصر حزبه سيستمرون في القتال في سورية! والحدود بهذا المعنى ستكون طريق مقاتلي الحزب الذي يحميه الجيش إلى سورية.
ثم ماذا لو شملت الغارات الإسرائيلية مواقع الجيش في هذه المناطق، لا سيما أن إحدى الوظائف الرئيسية لهذه الغارات منع وصول السلاح إلى لبنان؟ فعلى هذا النحو لطالما جرى وصل لبنان بطموحات غيره من الدول، وعلى هذا النحو جرى تدمير التجربة اللبنانية غير مرة، بدءاً من عبدالناصر مروراً بياسر عرفات وصولاً إلى قاسم سليماني.
الإرهاب لا دين له، ولا طائفة ولا مذهب، هو تعبيرٌ عن رغباتٍ مجرمة ترتدي رداءً دينيا لتمارس من خلاله القتل والترويع والوحشية خدمة لأهدافٍ سياسية ما، ومن المؤذي الاضطرار إلى التحدث بلغة تستخدم مفردات طائفية، ولكن المشهد المتقهقر حضاريا في المنطقة يفرض استخدام تلك المفردات لإيصال الأفكار.
شهد الأسبوع الماضي أحداثا مؤسفة في حي المسوّرة في بلدة العوامية التابعة لمحافظة القطيف شرق السعودية التي ينتمي أغلبية سكانها للمذهب الشيعي الكريم، فقد قتل إرهابيون في هذه المنطقة طفلا سعوديا ومقيما باكستانيا وأصابوا عشرة مدنيين وبعض رجال الأمن، وذلك عبر إطلاق نارٍ عشوائي وكثيفٍ على المارة ورمي لقنابل المولوتوف واستهداف مباشر لآليات الهدم والتطوير العاملة في الحيّ.
غريبة قصة هذا الحي مع الإرهابيين، فهو حي قديمٌ متخلفٌ تنمويا، وقد قامت الدولة بالاتفاق مع المواطنين على تطويره بشكلٍ كاملٍ، ولكن الإرهابيين رفضوا ذلك بكل شراسة، لأنهم يجدون في خرائب الحي شبه المهجور ملاذا يختبئون فيه ويديرون خططهم الإرهابية من هناك، وهدم الحي وتنميته وتطويره يحرمهم من ملاذٍ آمنٍ بالنسبة لهم، وبالتالي فهم على الرغم من المطالب التنموية التي يرفعونها شعارا، فإنهم يحاربونها في هذا الحي بالتحديد.
المواطنون السعوديون الذي ينتمون للمذهب الشيعي واقعون تحت نوعين من الإرهاب الذي يستهدفهم، الأول هو إرهاب المتطرفين السنة ممثلين بتنظيم داعش، والثاني هو إرهاب المتطرفين الشيعة ممثلين بهذه المجموعات الشيعية التي تقتلهم لمجرد الاختلاف، وتقتلهم بسبب وطنيتهم الراسخة وحبهم لبلادهم ورغبته في السلام والنجاح.
فلمن تتبع هذه المجموعات الإرهابية الشيعية؟ إنها تتبع بكل وضوحٍ للنظام الإيراني الذي كانت ولم تزل السعودية هي الهدف الأكبر للإرهابيين التابعين له من التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية، على حد سواء.
النظام الإيراني الطائفي بعد ما كان يعرف بـ«الثورة الإسلامية» التي قادها الخميني اعتمد مبدأ «تصدير الثورة»، وكان المقصود به تصدير الفوضى والخراب والإرهاب إلى الدول العربية وتحديدا السعودية ودول الخليج، والفرق بين الخميني وخامنئي هو أن الأول سعى لذلك عبر حرب نظامية مع نظام صدام حسين في العراق التي استمرت لثماني سنوات اعترف بعدها الخميني بتجرعه للسم من أجل إيقاف تلك الحرب.
أما خامنئي فقد اعتمد فكرة أخطر، وهي فكرة دعم الجماعات الأصولية السنية مثل حركة حماس الإخوانية أو الجماعات العنفية مثل تنظيم القاعدة وإنشاء ميليشياتٍ شيعية إرهابية تابعة له في الدول العربية مثل «حزب الله» في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن و«الحشد الشعبي» في العراق والميليشيات الشيعية في سوريا، وخطط بكل جهدٍ لنشر خلايا التجسس والإرهاب في دول الخليج العربي.
تنتمي هؤلاء الإرهابيون في المنطقة الشرقية من السعودية إلى القسم الأخير، ويراد لها أن تتطوّر لتصبح ميليشيا مسلحة، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فهي مجموعاتٌ مكروهة من بيئتها الحاضنة أي من المواطنين الشيعة أنفسهم، لأن هذه المجموعات تستهدفهم بالتهديد والقتل، وتمارس عليهم ديكتاتورية إرهابية مجرمة، وهم يلتجئون للدولة لحمايتهم من هذا الإرهاب الشيعي، كما نجحت من قبل في القضاء على إرهاب القاعدة السني، وقد ذكر بيان الداخلية السعودية الصادر يوم الجمعة الماضي أنها «تشيد بما يقدمه الشرفاء من أهالي العوامية من تعاون مع رجال الأمن».
سبق لولي العهد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف أن زار المنطقة إثر حادث إرهابي وقال كلمة واضحة لأحد المتحمسين بأن «الدولة ستبقى دولة»، وأن «من يحاول القيام بدور الدولة فسوف يحاسب كائنا من كان»، وهو ما تؤكده كل العمليات الأمنية التي تواجه الإرهابيين في تلك المنطقة، فالإرهاب واحدٌ كيفما تسمّى وحيثما كان، والرد عليه واحد يقوم على الحزم والقوة وقطع الشرور وفرض الأمن لجميع المواطنين.
كان بيان الداخلية واضحا بالقول: «لن تعيقنا الأعمال الإرهابية التي لا يراد منها إلا الدمار من قبل أياد ارتضت أن تكون أداة لتنفيذ أجندة خارجية»، والإشارة هنا واضحة كل الوضوح للدور الإيراني التخريبي الذي يستهدف السعودية ودول الخليج والدول العربية.
إن هذه الحادثة هي عملية إرهابية مكتملة الأركان، إرهابيون مسلحون يستهدفون شركة تطوير تنموية ويقتلون الأبرياء عشوائيا، ويهاجمون رجال الأمن بالأسلحة والقنابل لتحقيق أهدافٍ سياسية وخدمة أجندة خارجية، إنها نفس الأدوات وذات المجرمين وعين الأساليب التي يستخدمها تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وكما لم يحم التنظيمين انتماؤهم للأكثرية السنية فلن يحمي هذه المجموعة انتماؤها للأقلية.
يخطئ الطائفيون في التعامل مع مواقف إرهابية مثل هذه الحادثة، فالطائفيون السنة يرفعونها شعارا لاضطهاد المواطنين الشيعة، والطائفيون الشيعة يرفعونها شعارا ضد أي تقصيرٍ تنمويٍ، وهي شعاراتٌ وتبريراتٌ مرفوضة من حيث المبدأ، فالمواطنون سواءٌ في الحقوق والواجبات، والدولة لا تفرق بين مواطنيها، بحسب طوائفهم، بل بحسب ولائهم لأوطانهم وحرصهم على أمن وسلامة مجتمعاتهم.
السعودية دولة كبيرة، وفيها تنوعٌ طائفي ومذهبي ومدارس سلوكية عاشت وتعيش كلها بسلامٍ ومحبة تحت ظلّ دولة تعامل الجميع كمواطنين كاملي المواطنة، وقد شارك كثيرٌ من رجال هذه الطوائف في بناء السعودية الحديثة، وكانت لهم أدوارٌ مهمة ومعروفة منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز إلى عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، مرورا بملوك السعودية السابقين، هذا أمرٌ واضحٌ والشواهد عليه كثيرة ومتنوعة.
الطائفيون لا يبنون الأوطان بل يدمرونها، والطائفية فتنة عمياءٌ، وعلى المستوى السياسي فإن إيران قد تبنّت الطائفية كسلاحٍ سياسي وعجزت عن الانتقال من حالة الثورة إلى حالة الدولة، وهي تجني أكثر ما تجني على البعض ممن يطيعها من أبناء الطائفة الشيعية حين تحوّلهم إلى عملاء وخونة لبلدانهم، وحين تسلّطهم على المواطنين الشيعة الموالين لأوطانهم، حدث هذا في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي اليمن، وأفضل علاجٍ لذلك هو بتعاون المواطنين المخلصين الكامل مع سلطات بلادهم بالتبليغ عن الإرهابيين العملاء ومحاصرتهم اجتماعياً ودفعهم لتسليم أنفسهم.
أخيراً، فقد اختطفت هذه المجموعات الإرهابية من قبل، القاضي محمد الجيراني، وحاولت اغتيال المهندس نبيه الإبراهيم، وعاثت فسادا وشرورا في العوامية والقطيف وغيرها من المدن والبلدات فقتلوا ودمروا، ولكن الأمن سيفرض نفسه رغم أنوف الإرهابيين، فـ"الدولة ستبقى دولة".
لا يمكن إحالة صعود نفوذ إيران في المشرق العربي إلى قوتها العسكرية، إذ إنها أخفقت في حربها مع العراق (1980ـ1988)؛ ولا إلى قوتها الاقتصادية، إذ ثمة دول إسلامية -مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا- أكفأ منها وأفضل اقتصادا؛ ولا إلى نموذجها في الحكم، إذ هي دولة دينية طائفية ومذهبية منذ قيامها (1979) وفق وصفة "الولي الفقيه".
وطبعا، لا يمكن إحالة ذلك إلى تغطّيها بالقضية الفلسطينية، لأن أثر هذه المسألة ظل محدوداً ويغلب عليه التوظيف الدعوي، من دون التقليل من مقاومة "حزب الله" في لبنان لأن هذا البلد صغير بحجمه وتأثيراته، والتأثير فيه لا يتعدى حدوده.
أما تفسير ذلك بوجود طائفة دينية مذهبية تتبع لها أو تتماهى معها في هذه الدولة أو تلك، فهو تفسير قاصر لأن هذه الطائفة لا تستطيع وحدها تغيير المعادلات السياسية القائمة في بلدانها.
تفسير الصعود
إذن، ثمة مجموعة أسباب أسهمت في صعود نفوذ جمهورية إيران الإسلامية في المشرق العربي، منها: أولاً، توفّر إرادة سياسية إيرانية بتصدير الثورة. ثانياً، وجود قاعدة اجتماعية مذهبية في البلدان المجاورة لديها شعور بـ"المظلومية"، لا سيما في العراق ولبنان.
ثالثاً، امتلاك إيران ثروة مالية متأتية من ثروتها النفطية، تمكّنها من الصرف على الجماعات المليشياوية والمدنية والخدمية التي تتبعها في هذا البلد أو ذاك.
رابعاً، التوظيف في القضية الفلسطينية والصراع ضد إسرائيل، في ظل انحسار الاهتمام الرسمي العربي. خامساً، الاستثمار في تيار الإسلام السياسي الصاعد في تلك المرحلة بعد أفول التيارات اليسارية والقومية.
بيد أن كل هذه العوامل إنما مهدت أو سهّلت لإيران التغلغل في البلدان المجاورة، أما العامل الرئيس الذي مكّنها من ذلك فهو قيام الولايات المتحدة الأميركية بغزو العراق واحتلاله عام 2003، والذي تم بالتوافق مع حكام طهران مثلما حصل في الغزو الأميركي لأفغانستان 2001.
أي أن سقوط الدولة العراقية واحتلالها هما اللذان شكّلا المنصّة التي صعّدت نفوذ إيران في المنطقة، والتي مكّنت الميلشيات المذهبية التابعة لها من أخذ السلطة في العراق من ساعتها وحتى الآن؛ هذا أولاً.
ثانياً، وتأسيساً على هيمنتها في العراق؛ عملت إيران على تعزيز نفوذها في لبنان، ثم في سوريا بالاستناد إلى تحالفها مع نظام بشار الأسد (الأب والابن)، إلى الدرجة التي باتت معها تتحكّم في هذين البلدين.
ثالثاً، وبناء على النقطتين السابقتين؛ يمكننا أن ندرك أن إيران تتصرّف من واقع معرفتها بأن خسارتها لأي من المواقع المذكورة -لا سيما في العراق أو سوريا- ستفضي حتماً إلى خسارتها نفوذها في المنطقة، وتالياً إعادتها إلى حجمها الطبيعي أو إلى خلف حدودها.
ولعل ذلك يفسّر محاولاتها فرض سياساتها في العراق وسوريا ولبنان، ومن ضمنها إحداث تغييرات ديموغرافية في هذه البلدان، وإنشاء قوى مليشياوية مذهبية مرتهنة لها وموالية لها، والحفاظ على الأنظمة السائدة في كل منها بكل ثمن وبكل ما أوتيت من قوة؛ ومثال ذلك السياسة التي تنتهجها في سوريا ضد ثورة السوريين ودفاعا عن نظام الأسد.
توظيف إيران
السؤال الآن هو: لماذا سهّلت أو سمحت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل طبعاً) لإيران بتعزيز نفوذها في المنطقة، أي في العراق ولبنان وسوريا؟ أو لماذا سكتت عن ذلك طوال الفترة الماضية؟
طبعاً، لا يمكن تفسير ما جرى بعقلية المؤامرة أي بتوافق أميركي إيراني، ولا بعقلية التبعية أي تبعية طهران لواشنطن، وإنما يمكن تفسيره وفق عقلية التشابكات والتقاطعات والمصالح السياسية الإستراتيجية.
وقد شهدنا أن الولايات المتحدة قدمت العراق لقمة سائغة لإيران وجماعاتها وعلى ظهر دبابة أميركية، وأنها تساهلت مع برنامجها النووي.
ثم هي فوق هذين الأمرين سكتت عن تدخلها المباشر والفج في سوريا بعد اندلاع ثورة السوريين، رغم معرفتها بادعائها مناهضة أميركا ورفعها شعار "الشيطان الأكبر" ومقاومة إسرائيل، مما يستنتج منه أن ثمة عوائد أميركية -وتالياً إسرائيلية- أهم وأكبر وأعمق تأثيراً من ضرر تلك الادعاءات أو تلك المقاومة.
وقد ثبت في ميدان التجربة -وليس فقط بالتحليل السياسي- أن ذلك السماح الأميركي والإسرائيلي كانت غايته تحديداً استدراج إيران للتورط والاستنزاف في البلدان المذكورة، وتاليا توظيف هذا التورط في تقويض بنية الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة لإسرائيل.
ففي المحصلة؛ أدت السياسات التي انتهجتها إيران في المنطقة إلى إثارة النعرة الطائفية المذهبية، وشق وحدة مجتمعات المشرق العربي بين "شيعة "و"سنة"، وإضعافها وزعزعة استقرار دولها، وهو الأمر الذي لم تستطعه إسرائيل منذ قيامها.
وفي المحصلة؛ فإن الولايات المتحدة نجحت -عبر الإستراتيجية التي انتهجتها في عهد باراك أوباما- في تحقيق مكاسب كبيرة لها دون أن تخسر جندياً ولا فلسا واحـدا؛ إذ تمكّنت من استدراج أو توريط القوى المناكفة لها في المنطقة -وتحديدا روسيا وإيران وتركيا- في الصراع السـوري، بل ووضعتهم في مـواجهة بعضهم بعضا.
الأهم من ذلك أنها استطاعت -عبر تلك الإستراتيجية- إفقاد إيران نقاط قوتها بكشـف تغطيها بالقضية الفلسطينية، وفضح مكانتها كدولة دينية ومذهبية وطائفية في المنطقة، بعد أن استنفدت دورها في تقويض وحدة مجتمعات المشرق العربي، وإثـارة النـزعة الطائفية المـذهبية بين السنّة والشيعة، إذ لم يعد أحد ينظر لإيران باعتبارها دولة مناهضة لإسرائيل، أو كدولة يجدر الاحتذاء بها.
وفوق ذلك؛ نجحت الولايات المتحدة في تأمين بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل عقودا من الزمن، بعد تفكّك الدولة والمجتمع وخـرابهما في أهـم دولتين في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق.
انتهاء المهمة
ما يحدث الآن أن المعطيات تغيرت، وتالياً لذلك ثمة تغيّرات في الإستراتيجية الأميركية إزاء سوريا، بحسب ما بات يتكرر في تصريحات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب وأركان إدارته.
أما محاور هذه الإستراتيجية فتتمثل في الآتي: أولاً، مواجهة جماعات الإرهاب، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق؛ علماً بأن ثمة في إدارة ترمب من يربط بين شبكات الإرهاب وإيران.
ثانياً، تحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا. ثالثا، إنهاء القتال في سوريا وتحقيق الاستقرار في هذا البلد على أساس التغيير السياسي الذي يتضمن إنهاء حكم عائلة الأسد، وهو ما سيؤدي إلى تحجيم نفوذ إيران في سويا ولبنان.
هذه الإستراتيجية تفيد بأن مرحلة السماح الأميركي (وضمنه الإسرائيلي) لتمدد إيران في المنطقة قد انتهت، أو حققت أهدافها أميركياً وإسرائيلياً على الأرجح، وهذا ينطبق على أذرعها المليشياوية العراقية واللبنانية، الطائفية والمسلحة.
وهكذا نجد أن ما حصل مع مجيء إدارة ترمب هو أن الإستراتيجية السابقة آتت أكلها من وجهة نظر الإستراتيجيين الأميركيين، وبات يمكن الآن التدخل بشكل أكثر فعالية لاستثمار ما حققته الإستراتيجية السابقة، بعد أن تم إنهاك روسيا وإيران وتركيا.
والمقصود أننا إزاء إدارة أميركية تشتغل على نحو آخر، أي بطريقة التدخل المباشر، وعبر تعزيز دورها إن على مستوى الصراع العسكري على الأرض، وهو ما تمثل في قصفها مطار الشعيرات. أو من خلال إعادة تدوير عجلة الحل السياسي لوضع نظام الأسد أمام حقيقة انتهاء صلاحيته، وانتهاء زمن السماح له بالاستمرار.
وهذا ما وضحته التسريبات لخطة أميركية من أربع مراحل، تقوم أولا على محاربة الإرهاب. وثانيا وقف الصراع المسلح وإيجاد مناطق آمنة. وثالثا إيجاد حل انتقالي يرحل في نهايته بشار الأسد (بالتفاهمات أو بالقوة)، ورابعا تنظيم الأوضاع وبدء إعادة بناء سوريا. ولعل هذا ما حاولت استباقَه -على الأرجح- اتفاقيةُ أستانا 4، المتعلقة بخفض الصراع بأربع مناطق سورية.
الدور الإسرائيلي
هذه الرؤية الأميركية لتوظيف الدور الإيراني في المنطقة تنطبق على إسرائيل أيضاً، أي أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي يريان اليوم أن على إيران أن تعود إلى حجمها الطبيعي خلف حدودها، وأن على مليشياتها أن تنزع سلاحها.
ويُستنتج من ذلك أن التسهيل الأميركي والسكوت الإسرائيلي سابقاً عن تغلغل إيران في المنطقة كان محسوباً؛ أولاً، لجهة عدم السماح بخلخلة أمن إسرائيل، وإبقائه عند حدود خلخلة أمن المنطقة فقط (أي دولها ومجتمعاتها)، وهو ما حصل عملياً.
وثانياً، إبقاء كلفة مقاومة إسرائيل -عبر "حزب الله" وادعاء مناهضة الولايات المتحدة- أقل ضرراً أو كلفة بالقياس مع العوائد التي تنجم عن ذلك سياسيا وعسكريا وأمنيا بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما حصل أيضاً.
وذلك مع علمنا بتوقف مقاومة حزب الله منذ عام 2000، أي منذ 17 عاماً، باستثناء لحظة خطف جنديين إسرائيليين عام 2006 الذي جرّ حرباً على لبنان.
في خضم كل ذلك؛ بديهي أن تبدو إسرائيل في غاية الارتياح، سواء في الإستراتيجية القديمة أو الجديدة للولايات المتحدة، إذ هي في الحالين بمثابة الفائز الأكبر من استمرار الصراع المسلح والمدمِّر في العراق وسوريا، كما من تحجيم النفوذ الإيراني.
ويتجلى ذلك خاصة في موضوع نزع السلاح النووي والكيميائي (في إيران وسوريا)، وهذا ما بدا واضحا من حماسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للسياسة الأميركية، التي عبّر عنها لدى استقباله وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في إسرائيل مؤخراً.
وفي هذا الإطار؛ يمكن اعتبار سلسلة الغارات الإسرائيلية الجوية أو الصاروخية المتكررة على سوريا -والتي استهدفت قوافل إمداد ومستودعات أسلحة وقادة لحزب الله داخل سوريا- مؤشّرا عمليا على سياسة إسرائيلية وأميركية جديدة (مع قصف مطار الشعيرات وزيادة القوات الأميركية في شمال وشرق سوريا)، هدفها تحجيم نفوذ إيران ومليشياتها بسوريا والعراق، وربما في لبنان أيضاً.
واللافت أن الضربة الإسرائيلية في محيط مطار دمشق حدثت ووزير الدفاع الإسرائيلي في زيارة عمل لروسيا، التي تعطي الدعم الأساسي لنظام الأسد.
وبحسب عاموس هريئيل (المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، 28/4) فقد "أكد ليبرمان -في محادثاته بموسكو- على الخط الأحمر الجديد الذي وضعته إسرائيل، وهو أنه لا للوجود العسكري الإيراني أو وجود حزب الله قرب الحدود السورية في هضبة الجولان..، إضافة إلى منع تهريب السلاح".
ويبدو أن هذه الخطوط الحمر هي التي تفسر الزيارات التي قام بها نتنياهو إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتباحث معه بشأن الوضع في سوريا وضمان أمن إسرائيل.
وعلى ما يبدو؛ فإن تحجيم إيران ليس مطلبا أميركيا وإسرائيليا فقط، بل بات مطلباً دوليا وإقليمياً؛ إذ هو يلتقي مع رغبة روسية وتركية أيضاً، لا سيما أن روسيا تعتبر سوريا ورقة في يدها، لا في يد إيران التي تنافسها على ذلك.
قصة تروى وتنطبق على كل من أراد الشهرة وخاصة في عصرنا وبوجه أخص في ثورتنا.
فبعض الاعلاميين من المحسوبين على الثورة وللأسف، يتكلم بسفاهة وطعن ولعن ليس لشيء إلا أن يكون مادة دسمة تتناولها وسائل الاعلام.
ولا يخفى على أحد أن أغلب وسائل الاعلام تبحث عن فانوس سحري من تحت الأنقاض، لتنفض عنه التراب وتلمعه ويخرج منه المارد، الذي يستطيع ان يحقق مالم تستطع كل القوى والجحافل التي تحارب هذا الشعب تحقيقه.
هذا المارد هو إعلامي او شخص يدعي الوعي السياسي، ليطل علينا بمنظر بهي فيشتم هذا ويلعن ذاك ويخون ويطعن ليرسم صورة جديدة للثورة في أذهان الناس عن الثورة.
فالنظام دأب أن يرسم لوحة الثورة بلونين معروفين فإما النظام بشرعيته ولونه الزاهي أو الارهاب بلونه القاتم.
أما مدعي الانتساب للثورة والذين سبق وصفهم، فهم يقومون بمهمة أخرى، وهي أن يرموا بظلال حقدهم ويدلوا بقبيح قولهم على الفضائيات والصفحات، ليكونوا بذلك صبغوا بقايا اللون المشرق للثورة، باللون القاتم نفسه الذي يروج له نظام الإجرام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم سبعين خريف"
وفي حالنا اليوم فالكلمة تخرج من أفواه هؤلاء فإما أن يتلقفها النظام وأعوانه ويطير بها، أو تقع في أذان الناس فتدخل الخور والإحباط إلى قلوبهم أو تقع بين طرفين فتثير خلافا ونارا بينهما.
وعلى صعيد آخر لا يقل خطورة فإن تناقل الأخبار وروايتها في ثورتنا لا يعدو أن يكون من باب ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع))، فلا تثبت من الخبر ولا دليل عليه ولا حتى مصدر موثوق له، بل أن بعضهم ربما يأخذ الأخبار من مصادر العدو ويبني عليها كلامه وتحليلاته.
وإن إحسان الظن بأمثال هؤلاء قد مللنا منه، فإن أفعالهم مدمرة وأقوالهم مهلكة وما يروجونه أخطر مما نتخيل، فكم من دولة وكيان أسقطه مرجفون كهؤلاء سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون فإنا لسنا مطالبين بالحكم على النوايا وإنما حكمنا يكون على الأفعال.
ولا يهمنا شخص المتكلم، بل يهمنا ماذا قال والفارق يكمن فيمن سمع هذا الطرح فراجع أقواله فإن أصر عليها فهو يعلم ماذا يفعل، ويجب علينا وكما كنا صفا واحدا في وجه عدونا فإنه من الأهم أن نكون صفا واحدا في مواجهة هذه الحرب الإعلامية المسيسة التي تختتم بها ثورات الشعوب عادة ويسدل عليها الستار، فالأمر خطير وليس بتنظير ومواجهته ضرورة ثورية بامتياز والله من وراء القصد.
قد يكون الامتناع وسيلة مقاومة أجدى من الفعل، وهو بعد أقل كلفةً، ولا يدفعك إلى الارتهان لممولٍ، أو ضامنٍ، أو مسلحٍ أو غيرهم. لا أحد يمكن أن يمنعك من الامتناع عن شيء. لا حواجز، ولا رقابة، ولا تجسس، ولا أي نوعٍ من الاحتياطات يمكن أن تمنع سجيناً أو أسيراً عن الامتناع عن الأكل. يمكن للسلطات أن تتوقّى الفعل، وأن تحتاط له وتحبطه، لكنها سوف تقف عاجزةً أمام الامتناع، مثل الامتناع الاحتجاجي عن الطعام، كما يفعل الأسرى الفلسطينيون اليوم، ويبرهنون مجدّداً أنه عندما تتوفر إردة المقاومة يصبح أي شيء قابلاً لأن يكون أداةً مناسبة، بما في ذلك الجوع و"الأمعاء الخاوية".
على مدى عشرات السنين، كرّس الفلسطينيون الإضراب عن الطعام وسيلةً فعالة للمقاومة، سواء الإضراب الفردي أو الجماعي، من إضرابات سجن عسقلان في 1976 و1977، إلى إضراب سجن نفحة 1980 وإضراب سجن جنيد 1984. وباتت أسماء شهداء الإضرابات توازي أسماء شهداء العمليات الفدائية. من الواضح للمتابع أن صوت الأسرى المضربين أعلى من صوت الأحزاب والجبهات والحركات، وأدنى إلى ضمير العالم. تماماً كما كان الحجر أشد فتكاً بالدبابة من الآر بي جي. الإرادة تبتكر الوسيلة، والتجربة تصطفي الأنسب، ما يجعل المقاومة الحقيقية عصيةً على الاحتواء.
يمكن تحويل السجون، وهي في الأصل وسيلة لشل فاعلية الحركة الخارجية للمسجونين، إلى مكانٍ للمقاومة والتأثير. السجن يقرّب المسافات السياسية بين المسجونين الذين تفرّقهم سياسات الخارج وتنظيماته، ويفعل السجن ذلك أكثر كلما كان وحشياً أكثر. النضال في الداخل الفلسطيني تفوّق، في مفعوله، على النضال الخارجي، الانتفاضات الفلسطينية سندت نضال الخارج، بما لا يقل عن العكس، وربما أكثر. والنضال في داخل الداخل (في السجون) يفتح باباً فاعلاً للمقاومة، وربما يفتح باباً لوحدةٍ فعليةٍ للنضال الفلسطيني، خصوصا أن ثمة تواصلاً في سلسلة النضال الفلسطيني، ما يجعل لحركة الإضراب في السجون الاسرائيلية ممراتٍ تصل عبرها إلى الشارع الفلسطيني، وتنعكس على سياسة المؤسسات الفلسطينية جميعاً.
يضاف إلى ذلك، إذا ما حاولنا المقارنة مع المأساة السورية، أن للنضال الوطني الفلسطيني، على ما ينطوي عليه من وعورةٍ وظلمٍ وانحيازاتٍ مضادة، قبولاً واعترافاً عالمياً، لا يتوفر للنضال السوري، في عالمٍ لا يزال يرى الاستبداد شأناً داخلياً، لا يقف على درجةٍ واحدةٍ مع الاستعمار، ولا يستوجب رفضاً مماثلاً. في وعي عالمي مكرّسٍ على هذا الفهم، وهذا الحس الأخلاقي الباهت إنسانياً، لا يكون جوع المرء أو موته في سجون بلاده "قضية"، مثل موته في سجون احتلال. هذه المعايير العامة المستقلة عن "حقوق الإنسان"، والمضادة لها في الواقع، تحكم نضالات شعوب العالم، وتحيل الاستبداد إلى شأنٍ داخليٍّ قليل الأهمية، فيما أظهرت لنا الأيام أنه، في حالاتٍ كثيرة، يكون أكثر سوءاً من الاستعمار، على ما يؤكّد نظام الأسد بثبات.
تجعل المعايير العالمية السائدة، ومدونة القيم المستقرّة في المجال السياسي، وفي الوعي العام العالمي أيضاً، من قصف مدينة حلبجة العراقية بالسلاح الكيميائي في مارس/ آذار 1988، (راح ضحية القصف حوالى خمسة آلاف وخمسمائة من المدنيين الكرد) شأناً تافهاً أمام احتلال الكويت، مثلاً. والمعايير نفسها لم تجد حاجةً للتدخل في مجازر راوندا التي راح ضحيتها، حسب الإعلام الغربي (العالمي) حوالى مليون ضحية، في غضون حوالى ثلاثة أشهر بين (أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 1994) وبالسلاح الأبيض الذي جرى تأمينه وتوزيعه على نحو واسع في استعداد علني للمجزرة. والأمثلة التي تذهب في الاتجاه عينه، كثيرة.
لا شك في أن هذه المعايير تُحبط السجين السوري، وأمثاله، وتُقعده عن التفكير باحتجاجٍ مشابهٍ لاحتجاج الأسرى الفلسطينيين. لا يخشى النظام السوري من موت سجنائه، إنه يقتلهم بالأحرى. لا قيمة لموت سجينٍ في بلده. لهذا، لا نستغرب احتجاج أحد الصحافيين الإسرائيليين بالقول إنه لو فعلت إسرائيل ما فعله الأسد لما سكت العالم كما هو الآن. هكذا إذن، كما يطالب المحكومون بشكلٍ من الحماية العالمية ضد قتلهم وسجنهم، يتبارى الحاكمون في مطالبة العالم، من دون خجل، بالسكوت حيال جرائمهم.
حتى لو توفرت الإرادة لدى السجين السوري، سيجد أن الأجدى أن يحافظ على نفسه، إن استطاع، من أن يدخل معركةً، خسارتها شبه مضمونة. الشروط المحيطة بالسجين السوري لا ترجّح أن يعتمد سلاح الإضراب عن الطعام. العزلة التامة للسجناء واستحالة إيجاد قضيةٍ من الإضراب حتى لو حصل، تلغي فاعلية الإضراب الأساسية المتمثلة في أنه وسيلة ضغطٍ مادتها الرأي العام. والعزلة تعني إمكانية ترك المضرب عن الطعام للموت من دون أي تبعات، فضلاً عن الوحشية المتوقعة حيال أي سلوك احتجاجي، ومن دون أي تبعاتٍ أيضاً.
التواصل النضالي الفلسطيني والقدرة على إيجاد قضية من إضراب الأسرى، قضية تترك صدىً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً في الوعي العام العالمي، هو ما يميز النضال داخل السجون الإسرائيلية عنه داخل السجون السورية. هذا الفارق يجعل نضال السجين السوري يتركّز في ابتكار سبل الحفاظ على النفس، هذا الطريق الذي سار عليه السجين السوري طويلاً في سجن تدمر سيىء الذكر، والذي لنا كل الأسباب لنعتقد أن مراكز الاعتقال الخفية الحالية قد أسقطته عن عرشه، باعتباره السجن السوري الأفظع.
أما في ما يخص السجناء السوريين في السجون "العادية"، مثل سجن عدرا في دمشق، فإن شبح السجون الخفية والمعتزلات كافٍ لردع أي فكرة تمرّد سلمية، كالامتناع عن الأكل. لذلك تتخذ التمرّدات في السجون السورية شكلاً عنيفاً، هو في الواقع خيار انتحاري يولده اليأس لا الأمل، فالسجين السوري، يعلم كما يعلم أمثاله في كل مكان من العالم، أنه في أحسن الأحوال مدعاة للأسف، وليس للتضامن.
تمخضت اجتماعات «الائتلاف الوطني السوري» أخيراً عن انتخاب هيئة رئاسية جديدة، يترأسها السيد رياض سيف، وهو شخصية مجربة معروفة بصدقيتها السياسية والأخلاقية في معارضة النظام الاستبدادي.
ومعلوم أن سيف كان أحد الشخصيات التي أدركت قصور الائتلاف عن التحول إلى كيان سياسي جمعي للسوريين، في ظل قياداته السابقة، وتحوله إلى كيان مغلق، يفتقد الفاعلية، كما عرف عنه دعواته الجادة لإصلاح هذا الكيان وتطويره.
ولعل ذلك يحمّل الشخصيات التي دعت طوال الفترة السابقة، من أعضاء الائتلاف، إلى مواجهة مشاريع اختطاف هذا الكيان، واختزاله لمصلحة فئات معينة، وتغييبه عن كثير من نشاطات الثورة، لمصلحة محاصصات أو ارتهانات خارجية، غيبت دوره الوطني، مسؤولية المشاركة في البحث عن حلول واقعية لتطوير هذا الكيان، بعد أن أدرك الجميع عمق الأزمة التي يعاني منها هذا الجسم، بعد ما يقارب خمسة أعوام على تأسيسه.
ولا بد أن ينطلق الجميع بداية من مبدأ الاعتراف بأن هذا الكيان لم ينجح في المهمات التي قام من أجلها، ولم يرسخ تقاليد عمل سياسية تجمعه مع السوريين في الداخل والخارج، ومع المجتمع الدولي، ككيان معترف به ممثل للمعارضة السورية، بشقيها التقليدي، من جانب، والمنضوي في إطار الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية للسوريين، من الجانب الآخر.
لا يأتي التعويل على القيادة الجديدة من تسلم شخصية وطنية كرياض سيف لمنصب الرئاسة فحسب، بل لأن الهيئة العامة الناخبة عندما اختارت مواجهة أخطاء الماضي وسلوكياته، فإن ذلك يعني أنها استجابت لأجراس الإنذار التي أطلقتها الشخصيات والكتل المنسحبة منه، خلال دورته السابقة، والتي كانت حذرت من أن بعض الأشخاص والكتل تأخذ الائتلاف إلى مكان يبعده أو يعزله عن مشروعه الوطني، ويحوله إلى شركة خاصة مستولى عليها.
وهكذا فقد أدركت الهيئة الناخبة مسؤولياتها تجاه المقبل من الأيام، بأن الإصلاح يجب أن يبدأ من خيارات الهيئة العامة، ومواجهتها أخطاء الماضي التي كانت ركنت إليها، عبر أكثر من دورة في لحظات يأس أو تسليم بالواقع، ما يمهد الطريق أمام الهيئة الرئاسية وكذلك الهيئة السياسية، لأداء ليس تحت المحاسبة، فقط، بل وخاضع لها، ولرقابة المجتمع السوري كاملاً، لمعرفتي بأن الكثير من الزملاء المنتخبين يحملون هذا الهم الوطني، بل ويحرصون على استعادة الدور الحقيقي للائتلاف، ما يعيدني إلى التذكير بأن مسؤوليات الائتلاف اليوم كبيرة في ما لو أريد له أن يستعيد اعتباره ككيان وطني يمثل كل السوريين، ولعل هذا يتطلب:
أولاً: تعزيز العمل الجماعي المؤسسي والديموقراطي، ما يؤدي فعلياً إلى تكامل الأدوار داخل الهيئتين الرئاسية والسياسية من جهة، والهيئة العامة من جهة ثانية، الأمر الذي غاب كلياً خلال الدورتين السابقتين، مما سمح بالتلاعب بالأدوار، وإزاحة بعض الشخصيات الوطنية من واجهة العمل.
ثانياً: المطابقة بين الدور المناط بالائتلاف وبنيته، حيث من المفترض أنه يشكل الكيان الرئيس للمعارضة، تجاه السوريين والعالم، مما يوجب إعادة النظر بممثلي الكتل والتيارات داخله، بإلغاء حالة الانغلاق على مكوناته، مع إقرارنا أن بعضها فرضه واقع تأسيس الائتلاف ومرجعياته الدولية والإقليمية، لينفتح على ما أفرزته سنوات الثورة الست من كيانات معارضة، وتيارات شبابية عاملة على الأرض داخل سورية وخارجها، ومن شخصيات وطنية مجربة وذات صدقية من شأنها إغناء الائتلاف وتعزيز صدقيته في مختلف المجالات.
ثالثاً: مراجعة خطابات الائتلاف، أو استعادة الخطابات الأساسية للثورة، المتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مواطنين أحرار متساوين، دولة مدنية ديموقراطية، دولة تعددية قومياً وثقافياً ودينياً ومذهبياً، بحسب ألوان السوريين، والنأي عن الخطابات الطائفية والدينية والإقصائية المتشنجة والمتطرفة.
رابعاً: إعادة الاعتبار للمصلحة الوطنية السورية لتتغلب على أي مصلحة حزبية أو فئوية أخرى، وذلك بتقويم صريح لعلاقاتنا الخارجية، وتوافقاتنا مع الدول «الصديقة»، ذلك أن أي معارضة يفترض أن تنطلق في علاقاتها من مصالح شعبها، وهذه المصالح تتقاطع في كثير أو قليل مع مصالح دول صديقة أو شقيقة، مما يتوجب تنميتها بما لا يخالف مصلحة الشعب السوري التي هي الأساس للكيان الذي يمثل الثورة.
خامساً: بينت نتائج الانتخابات الجديدة للهيئة السياسية في الائتلاف أن المعايير التي تم اعتمادها في اختيار ما سمي «بالتوسعة النسائية»، أي زيادة تمثيل النساء داخل الائتلاف، لم ترقَ إلى مستوى المكانة التي تطمح لها المرأة السورية، من حضور فاعل في كيانات الثورة ومنها الائتلاف، مما يجعله أمام مسؤولية إعادة النظر من جديد بضم سيدات فاعلات في العمل الثوري والمجتمعي، بعيداً عن المحسوبيات، التي أسقطتها «بوعي يحترم» الهيئة العامة خلال تصويتها الأخير, وهذا لا يعني الرضوخ لعدم تمثيل المرأة في هذه الهيئة، مع أهمية تأجيل ذلك لما بعد العمل على زيادة جدية في نسب تمثيل المرأة؛ كما تقول وثائق المعارضة.
ومن هنا ومن واقع الحديث عن المرأة ودورها الفاعل في الثورة السورية، لا يمكن تجاوز تذكير الائتلاف بمسؤوليته تجاه كل المعتقلات في سجون النظام السوري، وفي الوقت ذاته تجاه أيقونتين للثورة: رزان زيتونة وسميرة الخليل، المغيبتين قسراً في مناطق سيطرة المعارضة، والإسراع كما اقترحت سابقاً، وأنا في موقع نائب الرئيس، قبل انسحابي من الائتلاف، بإحالة الملف إلى لجنة قضائية تبحث في القرائن الموجودة لدى المنظمات الحقوقية وفي دفوعات «جيش الإسلام» المتهم باختطافهما.
البدايات الجيدة عادة تبدأ من دراسة النهايات، وتحليل أسبابها، لا بتجاوزها والمرور عليها، كأنها مرت بلقاء عابر، فالسنوات الماضية حملت كثيراً من الانتكاسات وخيبات الأمل، وحتى نتجاوزها على القيادة الجديدة أن تتوجع بوضع إصبعها على الجرح لتشفيه لا كي تخفيه.
هذه العودة للحديث عن الائتلاف غايتها التأكيد دوماً أن الأمل متاح عندما تتوافر الإرادة للعمل، ومن بين الأسماء المنتخبة ما يمكن أن يوفر هذا المقدار الضئيل من الأمل للعمل هذه المرة حقاً من أجل سورية ومن أجل السوريين.
احتمالات نجاح الاتفاق البدعة "مناطق تخفيف التوتر" بين موسكو وأنقرة وطهران فوق جزء من الأراضي السورية كبيرة، لكن أسباب التوقعات بالفشل كثيرة أيضا.
شراكة ثلاثية بين لاعبين من المفترض أن مصالحهم متضاربة متباعدة في الملف السوري تظهر إلى العلن بقدرة قادر على هامش اجتماعات أستانة، لتتحول إلى شركة مساهمة ضامنة محدودة المسؤولية، بغاية غير ربحية، هدفها تقديم خدمات أمنية وسياسية وإنسانية مجانية للشعب السوري، رغما عنه، وبالمعايير والمواصفات التي حدّدتها رؤى الفرقاء الثلاثة، تحت غطاء لا خيار آخر أمامكم، وثقوا بما نقول، وحقل التجارب السوري قادر على استيعاب مزيد من الاختبارات بعد.
فجأة، تعلن روسيا وتركيا وإيران عن قرار تبديل القبعات إلى زرقاء هذه المرة. كان الشريك الأممي ستيفان دي ميستورا حاضرا للترحيب بالخطة الروسية، ووصفها بأنها تحرك في الاتجاه الصحيح لوقف حقيقي للقتال. والخارجية الأميركية، على الرغم من تحفظها وتشكيكها في مشاركة إيران دولة ضامنة فيما هي متهمة بقتل الشعب السوري "تقدّر جهود التهدئة التي بذلتها الدولتان الضامنتان، روسيا وتركيا، باتجاه المساهمة في تخفيف التصعيد، ووقف معاناة الشعب السوري والتمهيد لحل سياسي للنزاع". أوروبا أيضا تريد الخروج بأسرع ما يكون من تهديد موجات اللجوء التي يحرّكها المشهد السوري، ولذلك رجحت التأييد الخجول. كثير من دول المنطقة، وكعادتها، متردّدة أو منقسمة، حيال ما يجري، وهو أكبر ما يمكن أن تقدمه للإخوة السوريين الذين ورّطوا الجميع بثورتهم على النظام قبل ست سنوات.
سؤال: لماذا لم تحمل موسكو مشروعها السوري إلى مجلس الأمن، ليناقش هناك، ويحظى بالدعم والتأييد والإجماع الدولي؟ هل كانت تخاف الفيتو الأميركي الأوروبي، أم هي أرادت عدم إشراك بعضهم في خطتها لتحصن مواقعها الإقليمية، وتثبت أقدامها في المنطقة، عبر تكريس نفوذها في سورية؟
ماذا عن إيران؟ لا مشكلة عندها، هي جاهزة للحوار مع كل من يحمي حصتها، وهي آخر ما فعلته كان قبول اتفاقية التفاهم النووي مع أميركا، والدخول في حلقة من المساومات الإقليمية مع عدوها اللدود في كل مكان.
لماذا قبلت تركيا توقيع اتفاقيةٍ، ليس مع روسيا التي لم يعد لها خلافات معها سوى حول توقيت تصدير سلعة البندورة وتسعيرها، وتحديد نوعها، وجنسها المناسب، للمتذوق الروسي، بل مع إيران التي كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، يتهمها باتباع "سياسة توسعية فارسية في المنطقة ستقود إلى توتر العلاقات وتراجعها، وتتسبب بانفجار أمني وسياسي بين البلدين"؟ هل لأن طهران نجحت، وبسرعة البرق، في إقناع أنقرة بأنها تخلت عن مواقفها التي تقلق الرئيس التركي، أم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو الذي استطاع إقناع أنقرة بفوائد تأسيس هذه الشراكة الثلاثية؟ أم هي البراغماتية اللعينة من حمى عدم انقطاع الخيط الرفيع الجامع بين تركيا وإيران؟
ربما وصلت أنقرة إلى قناعة بأن التفاهم مع إيران هو الحل الوحيد لإضعافها في سورية، وتقليص نفوذها، وتجنب ارتدادات أحلامها التي بدأت تقترب من مناطق الحدود التركية السورية في خط الساحل وإدلب نفسها. وما دفع أنقرة إلى توقيع اتفاقية أستانة أيضا هو اكتشافها نقاط الضعف الروسية في الملف السوري، وحاجة موسكو إلى قفزة سياسية إلى الأمام تقطع الطريق على العودة الأميركية، وتخفف عنها عبء التحالف مع النظام وإيران، وبالتالي، حاجة الكرملين لتركيا لإطلاق خطة تحرّك جديد من هذا النوع في سورية.
تقول الخارجية التركية إن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في كازاخستان سيشمل كل إدلب وأجزاء من حلب واللاذقية وحمص. وسيحظر استخدام جميع الأسلحة في تلك المناطق، ويحظر تحليق الطيران السوري، وسيسمح بإدخال المساعدات. احتمال أن يكون بين ما دفع السفير التركي، سدات أونال، لتوقيع الاتفاق في أستانة قناعته أنه سيوفر لأنقرة فرصة التقاط الأنفاس على جبهة شمال غرب سورية، والتركيز على مناطق شمال شرق البلاد، حيث تستعد واشنطن، مع حليفها الكردي هناك، لإعلان منطقة نفوذها الجديد ومحاصرة تركيا بالجغرافيا الكردية، وكان الحقيقة هي غير ذلك، تماما كما فعلت في شمال العراق.
الاتفاق بالنسبة لتركيا ربما هو أيضا فرصة لتخفيف التوتر على الجبهات السورية – السورية، والالتفات أكثر إلى معركة القضاء على "داعش"، بالتنسيق مع روسيا، هذه المرة، طالما أن واشنطن لا تريد أن تراها إلى جانبها في الرقة، فهل حصل التفاهم التركي الروسي على تحرّك سريع بهذا الاتجاه؟ وهل تكون المفاجأة الروسية المقبلة هي إعلان خطة التنسيق العسكري مع تركيا لمحاربة "داعش"، والقضاء عليه في سورية؟
بدأ الإعلام الكردي، المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، يشن هجماتٍ عنيفةً على تفاهم أستانة، ويصفه بالتآمر الثلاثي على سورية وشعبها. ردة الفعل الكردية هذه لا يمكن أن تكون عن عبث، أو تتم إرضاء لواشنطن. هناك قلق كردي أميركي من احتمالات حدوث تفاهم تركي روسي على المشاركة بالقوة، ورغما عن التحالف الأميركي الكردي في الحرب ضد "داعش"، وربما هذا هو بين الأسباب التي دفعت أنقرة لقبول الجلوس أمام طاولةٍ واحدة مع روسيا وإيران.
كانت رسائل الرئيس التركي من روسيا، قبيل لقائه بوتين، باتجاه واشنطن التي يستعد لزيارتها خلال أيام "أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سورية".
ربما غياب واشنطن، الحليف المفترض لتركيا، عن تحركها الحقيقي أمام الطاولة الثلاثية في لقاءات أستانة هو الذي دفع أنقرة أكثر نحو بوتين وموسكو. قبول الاتفاق الثلاثي بالنسبة لتركيا مرتبط أيضا بإصرار واشنطن على تحالفها المعلن مع "قوات سورية الديمقراطية"، وتمسّكها بلعب الورقة الكردية في سورية ضدها، كما فعلت في شمال العراق .
كان السؤال، قبل أسابيع، بشأن حظوظ وفـرَص اتفـاق أنقرة التركي الروسي لوقف القتال في سورية من دون مشـاركة ودور فاعـل لطهران وواشنطن، فكبرَ حجمه أكثر هذه المرّة إلى محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الأتراك والروس ليس في أستانة، بل في سورية؟ تفهم أنقرة الطرح الروسي حول ضرورة التنبه إلى الموقف الأميركي المرتقب في شمال سورية المتمسك بتكرار ما جرى على حدودها العراقية رافقته ضمانات روسية حول أن نظام الأسد لم يعد شرطا أساسيا في مستقبل سورية الجديدة، طالما أن أنقرة لن تعارض الدور والنفوذ الروسي في سورية.
وقد قبلت أنقرة المغامرة والتحدّي في التوقيع على اتفاقية أمنية عسكرية، نفترض أن الحلقة الأمنية والعسكرية الثانية فيها، وشقها السياسي لم يعلن بعد، وأنها ستطيح الحلم الإيراني السوري، عبر حمل طهران إلى الطاولة والتوقيع، لكنّها تعرف أيضاً أنّها تغامر بخسارة ما تملكه من فرص متبقية لها في سورية، وأهمّها خسارة رهان المعارضة السورية عليها، من دون التوقف مطولا عند احتمال التقارب الأميركي الروسي، في اللحظة الأخيرة حين يبعدها هي عن الطاولة.
آخِر ما ردّدته قوى المعارضة السورية في لقاء أستانة الثالث كان أنّ اللقاء سيبدأ بمادة الالتزام بتنفيذ شروط اتّفاقية أنقرة المخترقة إيرانياً، وبعدها ستتمّ عملية الانتقال إلى جدول الأعمال، وأنّها لن تدخل في أيّ حوار سياسي مباشر من دون ذلك. الصوت السوري الرافض الذي التقطته العدسات في أستانة الرابع لحظة تقدّم رئيس الوفد الإيراني للتوقيع على الاتفاق الثلاثي كان يردّد هذه المرة "مجرمون، قاتلون، أنتم تقتلون الشعب السوري". التهم والإدانة هي لإيران، لكن الرسالة تعني تركيا الضامن باسم المعارضة في الاجتماعات أيضا.
هل بدأ وضع سورية تحت إشراف دولي عليها، بحضور روسي وموافقة أميركية؟ وهل ستنجح موسكو في الحصول على تفويضٍ من مجلس الأمن، أو الأمم المتحدة، يشرعن قيام المناطق الأربع الخاصة بما يسمى "خفض التوتر"؟ أم سيكون هناك اليوم، أو بعد حين، تفاهم بين الدولتين العظميين يمهّد لنجاح التفويض الذي لا توافق واشنطن على مشاركة إيران في تطبيقه، بيد أنها قد تغير موقفها مقابل ثمن عراقي كبير، قد تجد طهران نفسها مجبرةً على دفعه، لأن علاقاتها مع موسكو قد تتحول، في أي تفاهم مع أميركا، إلى عبء على الكرملين، خصوصا إذا أصر ترامب على إخراج الملالي من سورية؟ وهل ستتمسك موسكو بطهران إن تفاهمت واشنطن معها على دور تركي موسع، ستتقاطع عنده سياسات الدولتين، بينما سيعطل خلافهما حول دور إيران وأهدافها تفاهمهما الضروري لحل المعضلة السورية؟ أخيرا، هل ستمهد إدارة المناطق لإنجاح الإشراف الدولي عليها، قبل نقله إلى غيرها؟ وما مصير الجغرافيا الخاضعة لتنظيم داعش، وتبلغ قرابة نصف سورية؟
يبدو أننا أمام خطواتٍ موضوعها إخراج سورية من وضعها الراهن، بمبادرة روسية تكسر الاحتجاز الدولي الذي يغلق منافذ الحل في سورية، ويصعد التعارض بين مصالح طرفيه الروسي والأميركي، ويعزّز التضارب بين تموضعهما في مناطق سورية وتعاملهما معها، ويربط موسكو بقوىً ليس من السهل تهميشها، قبل تسريع الحل، ويوسع أخيرا الهوة بين مشاريع الحلول المختلفة ووثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن، فضلا عن زيادة مخاطر انعكاس الحدث السوري على الأوضاع الداخلية للبلدان المنخرطة فيه، الانعكاس الذي لم يعد شأنا خارجيا بالنسبة لها، وإنما تتشابك آثاره مع صراعات الأجنحة فيها، كما يبدو بوضوح في إيران، حيث تطالب قطاعات شعبية واسعة بوقف انخراطها في حرب بشار الأسد ضد شعبه الأعزل والمسالم.
بتقديم مشروع قرار روسي إلى مجلس الأمن حول المناطق الأربع، تفتح موسكو باب الحوار مع واشنطن على أعلى مستوى، بعد أن تفاهمت مع إيران وتقاربت مع تركيا، ودخلت على خط الكرد، وزادت دعمها الأسد زيادة مفاجئة، وأوصلت جيشه إلى مشارف منطقة الانتشار الأميركي شمال سورية وجنوبها، فهل سينجح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في إقناع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخطة بلاده، أم أن الأخير سيرفض التعاون معه في الظروف الراهنة، بينما يبني عسكره موقعا استراتيجيا وطيدا يطل على الشرق الأوسط بأكمله، يضم شمال سورية والعراق، هو في أحد المعاني تعويضٌ عن فشل جورج بوش في تحويل بلاد الرافدين إلى قاعدةٍ له، يتحكم عبرها بالمجال الأوراسي، وينشط جنده جنوب سورية، قرب إسرائيل، بالتزامن مع خطوة روسيا حيال المناطق الأربع، كأن الدولتين تتسابقان على ترجيح كفة كل منهما على الأخرى في سورية، بدل تهيئة ظروفٍ تمكّنهما من وضع بعض مناطقه اليوم تحت إشراف دولي، لن ينجح الروس في فرضه ميدانيا وإقراره دوليا من دون تفاهم مع واشنطن على مستقبل سورية وعلاقاتهما، فإن فشلا وقع تصعيد غير مسبوقٍ لجميع حروب الشرق الأوسط، وانتشار سريع لنيرانها إلى مختلف دول المنطقة، بالتلازم مع الحرب ضد الإرهاب، والصراع بينهما على إرثه الأرضي.
هل الخطوة الروسية التي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها تدرسها بعناية، لأن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، نهائية، أم أن تنفيذها سيرتبط بنجاح مفاوضات موسكو الحالية مع واشنطن؟ وهل يعقل أن تؤيد أميركا إشراف روسيا وإيران على المناطق الأربع وتلك التي يحتلها جيشها، وحراس إيران، وشبيحة الأسد خارجها، أم أن مفاوضات الدولتين ستفشل، ولن تتوصل إلي صياغة أسس مشتركة للتعامل بينهما ومع المأزق السوري/ الإقليمي، لأن البيت الأبيض ليس راغبا بالضرورة في رفع الضغط عن روسيا، أو متلهفاً على حل سريع للمعضلة السورية، يعطل ترتيباتهم بعيدة المدى التي يصحّحون من خلالها أخطاء غزو العراق، ويستدركون ما عجزت أميركا عن تحقيقه بعده؟
يطلق موضوع المناطق حوارا روسيا/ أميركيا واسعا حول سورية وعلاقاتهما الدولية، ليس واضح النتائج، لكنه يرجح أن يستمر إلى ما بعد طرد "داعش" من الموصل والرقة، وتطبيق خطة الروس الخاصة باحتجاز فصائل كبيرة من الجيش الحر وجبهة النصرة في المناطق الأربع، فهل سيغريهما وضعهما، عندئذٍ، بالتفاهم من موقع متوازن، ينهي خلافاتهما ويشجعهما على إصدار قرار دولي، يضع سورية تحت إشرافهما، أم يفلت صراعهما من أية رقابة، فتكون سورية الموحدة ضحيته الرئيسة؟