لم ينته اجتماع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نتائج واضحة تتبنى فيها واشنطن الخطة الروسية لإقامة مناطق تخفيف التصعيد الأربع في سورية، والتي اعتمدت في اجتماع آستانة. بدلاً من التبني الأميركي لهذه الخطة التي أقل ما يقال فيها إنها غامضة، طالب ترامب شريكه الروسي بأن "يكبح نظام بشار الأسد وإيران ووكلاءها".
ولم يتحقق لموسكو ما دأبت على القيام به مع الإدارة الأميركية منذ أيام باراك أوباما: اتفاقات لوقف النار منذ نهاية عام 2015 كانت تخرق بأبشع أنواع القصف التدميري من الطيران الروسي وطائرات النظام الذي خلف مجازر وإخراج مستشفيات من الخدمة عن سابق تصور وتصميم، تحت عنوان استهداف "داعش" و "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام)، من أجل القضاء على المعارضة المعتدلة كي لا تشكل بديلاً من رأس النظام الحاكم، وجلبها ضعيفة إلى التفاوض وفق شروطه.
ومنذ بداية عام 2016 نظم الروس أكثر من اتفاق لوقف النار والأعمال القتالية (26 شباط/ فبراير) وجروا وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إلى الموافقة عليه في شكل ثنائي وكي تساهم واشنطن في الضغط على المعارضة لتنفيذه بشتى الوسائل مع تسليم كامل للجيش الروسي بأن يواصل عملياته، ومن دون اشتراط ضبطه إيران على الساحة السورية، في إطار تفاهم غير مكتوب بين إدارة أوباما وبين طهران على عدم معاكسة سياستها في سورية والمنطقة، حرصاً على استمرار حسن تنفيذ الاتفاق على النووي. والمعلومات المسربة عن الخطوات التي تزامنت مع "النووي" أشارت إلى الإفراج عن سجناء إيرانيين دينوا بأعمال إرهابية أو بخرق الحظر على توريد معدات للبرنامج النووي وصرف أموال محتجزة.
أما في شأن اتفاق آستانة الأخير، فإن سعي موسكو إلى نيل غطاء مجلس الأمن لتطبيقه، كما فعلت حين وافقها أوباما على استصدار قرار "وقف النار" المسخرة في شباط 2016، فإنه يواجه تحفظ الدول الغربية في مجلس الأمن نظراً إلى التجارب السابقة. فمنذ صدور القرار 2254 آخر 2015 (والذي أطلق ما يفترض أنه العملية السياسية في جنيف) حتى الآن، اقتصرت القرارات الدولية الصادرة على معالجات أمنية جاءت كلها نتيجة العمليات العسكرية الروسية- الإيرانية- الأسدية، لا أكثر. وآخرها احتلال حلب (القرار 2328)، ففي كل مرة ترعى موسكو ترتيبات أمنية كانت تتبعها هزيمة للمعارضة.
من الطبيعي أن ترتفع علامات الاستفهام بعد اتفاق آستانة الأسبوع الماضي حول المناطق الأربع. بل أن الأدهى هذه المرة أن تكون القيادة الروسية تهدف إلى تحويل إطار آستانة الأمني إلى بديل لإطار جنيف السياسي الذي يستند إلى بيان جنيف الشهير (عام 2012) وصلبه بحث الانتقال السياسي.
لو كان الجانب الروسي جدياً في الحلول للأزمة السورية لما استخدم عناوين ملتبسة للاتفاقات التي يرعاها. فالقادر على التهدئة يمكنه فرض وقف النار الدائم.
التشكيك بالنوايا هنا ليس صعباً. فكيف ترعى روسيا اتفاقاً لتهجير أهالي بلدة برزة في دمشق، غداة مذكرة آستانة التي تنص بين بنودها على "تهيئة ظروف العودة الآمنة والطوعية للاجئين"؟ وكيف يستوي ذلك مع تحضيرات لتهجير أهالي القابون (تقع في إحدى المناطق الأربع)، التي أعلن مسؤولو النظام أنها ستكون الخطوة التالية؟ تحت مظلة آستانة يقضم النظام مناطق التهدئة المفترضة، بتشجيع من إيران، والتهاء تركيا عن ممارسة دورها، بخوض معركة الاحتجاج على تسليح الولايات المتحدة الأكراد في الشمال، على رغم أنها واحد من رعاة الاتفاق الثلاثة. وبشار الأسد يكرر أنه مصمم على بسط سيطرته على سورية وأنه سيعيد النازحين، بعد إعادة الإعمار! وهو ما يعزز الاعتقاد السائد بأن موسكو وأنقرة وطهران تتقاسم مناطق النفوذ عبر المناطق الأربع، ما يؤسس لحروب مفتوحة بين هذه المناطق.
كانت حجة موسكو سابقا أن إدارة أوباما غير جدية في الاتفاق معها على سورية، وأنها تصوغ اتفاقات مرحلية مع جون كيري في انتظار الإدارة الجديدة، وإذ بها تتعاطى مع ترامب بالأسلوب ذاته. أما حجتها الآن، فهي العمل على إقناع ترامب بدورها الوسيط بينه وبين القيادة الإيرانية، فيما الرئيس الأميركي يتهيأ لزيارة المملكة العربية السعودية للتنسيق معها في ضرب الإرهاب و "داعش" ومواجهة تمدد إيران الإقليمي.
محاولة القيصر التوسط بين طهران وخصومها سبق أن فشلت حين تنطح لهذا الدور بالعلاقة مع دول الخليج، التي أبلغته أنها لن تلدغ من الجحر مرة أخرى. هل باتت موسكو عاجزة في سورية، فتبقي أزمتها معلقة، ونزيفها مستمراً، باعتمادها نوعاً من الجمباز السياسي؟
لم يمض شهران على رفض بشار الأسد اقتراح المناطق الآمنة الذي تحدث عنه دونالد ترامب بغموض قبيل تسلمه سلطاته، حتى أعلنت دمشق أنها تؤيد الاقتراح نفسه، بعدما جاء هذه المرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبتأييد من إيران.
ففي العاشر من شباط (فبراير) الماضي رفض الأسد في مقابلة مع «ياهو نيوز» الفكرة واعتبر أنها «غير واقعية، وغير ممكنة قبل تحقيق الأمن والاستقرار في سورية والقضاء على الإرهابيين». وقبل ثلاثة أيام فقط قال وزير خارجيته وليد المعلم إن حكومته تلتزم اتفاق آستانة بإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بضمانة كل من موسكو وأنقرة وطهران، لكنه شدد على أن ذلك «لن يوقف الحرب على المجموعات الإرهابية».
ومع أن حاكم دمشق لا يملك أي قدرة على رفض ما يقبل به رعاته الروس والإيرانيون، إلا أن هؤلاء يحرصون على أن يعلن شكلياً موقفه ليمنحهم ذرائع قد يحتاجونها لاحقاً للتملص.
ليس معروفاً من أين جاء اقتراح ترامب. فهو قال إن الأوروبيين ارتكبوا خطأ فادحاً عندما وافقوا على استقبال ملايين اللاجئين من سورية والشرق الأوسط. ومع أن الولايات المتحدة لم تكن معنية مباشرة بأزمة اللاجئين التي هزت أوروبا، بسبب بعدها الجغرافي.
من الواضح أن بوتين تلقف الفكرة الأميركية أو ربما كان وراءها منذ البداية. غير انه قدم صيغة مختلفة تطالب واشنطن بتعديلها، مبدية تخوفاً من «شيطان التفاصيل».
لكن، إضافة الى الموقف الأميركي الذي قد يتغير بعد لقاءات لافروف في واشنطن، تبدو دوافع روسيا وتركيا وإيران موقتة، ومرشحة لتقلبات تفرضها الحسابات الخاصة بكل منها.
فموسكو تعتقد أن الاتفاق سيمكنها من انتزاع قيادة الحل العسكري- السياسي في سورية، بما يضمن دورها ومصالحها، ومن تعقيد المهمة الأميركية في طرد «داعش» من معقله في الرقة، حيث لا تجني الولايات المتحدة وحدها الفضل في طرده، بعدما منعتها من المشاركة في الحرب على التنظيم في العراق. ولهذا سرّب الروس معلومات عن حظر طيران التحالف الدولي ضد «داعش» ثم تراجعوا بعدما زمجر الأميركيون.
ويرى الروس أن خطتهم تمنح قوات الأسد الفرصة لإعادة ترتيب أوضاعها في مناطق سيطرتها «المفيدة»، بما يكرس التفوق الذي حققته حتى الآن بمساعدتهم، كما تطلق يدها في مواصلة استهداف مناطق بعينها بحجة أن فيها «إرهابيين».
وتعرف موسكو أن مفاوضات الحل السياسي ستطول بما يكفي لتغيير الأدوار وتعديل الأوضاع على الأرض، مع احتمالات نشوب قتال بين المعارضة والمتطرفين. وربما ينشغل الأميركيون بقضايا أكثر أهمية من البحث عن ترتيبات للحكم في سورية.
وبالنسبة الى تركيا التي تدعم بعض فصائل المعارضة، فهي ترى أن تدخلها وتأثيرها سيكونان أسهل بكثير في شمال سورية، لأن لديها حوالى ثلاثة ملايين لاجئ سوري يفترض أن ينتقل معظمهم الى المنطقة الآمنة هناك عبر الشريط الذي يحتله جيشها، ما يعني تشكيل غالبية عربية مستجدة في مناطق الأكراد المحاذية للحدود التركية، تقضي على أي فكرة للحكم الذاتي.
وتقرّبُ أنقرة من موسكو مرده الى استيائها الشديد من دعم واشنطن «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تتهمها بأنها امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني». وزاد هذا الاستياء بعدما وافق ترامب أول من أمس على تسليح «الوحدات» واعتمادها قوة رئيسية في الهجوم المزمع على الرقة.
أما إيران المتخوفة من خطوة أميركية لقطع طريق الإمداد البري من أراضيها الى «حزب الله» عبر العراق وسورية، فهي بحاجة الى تعزيز تحالفها مع الروس لاستيعاب هجمة ترامب وعزمه على تقليص دورها في سورية، وفي حاجة ايضاً الى تهدئة جبهات القتال التي ينخرط فيها الحزب لمنحه فرصة لالتقاط انفاسه، لا سيما في ظل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة والغارات التي تستهدف مخازن سلاحه في الاراضي السورية. ولهذا فهي تقبل موقتاً بالاحتفاظ بما يمكن الحفاظ عليه بانتظار تغير الموازين.
واذا كانت أهداف كل من أطراف اتفاق آستانة مختلفة عن الآخر، فهذا يعني أن نجاح تطبيقه رهن باستمرار خدمته هذه الأهداف المتباينة، وأن تغيرها بالنسبة الى أي منهم سيؤدي الى تقويضه، وهو أمر قد لا يتأخر اذا نجح الأميركيون في «تحييد» أحدهم.
لم تقبل أكثرية السوريين اتفاقية أستانة التي طرحت تحفيف التوتر، لأن السوريين جميعاً ينتظرون وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وهذا ما نصت عليه القرارات الدولية بوصفه أحد بنود بناء الثقة التي ينبغي أن تستند إليها مفاوضات جنيف، ولم تكن ثمة حاجة لاتفاقيات جديدة فهناك اتفاقيات سابقة لم ينفذها الروس إحداها اتفاقية وقف الأعمال العدائية الموقعة مع الولايات المتحدة، وكذلك اتفاقا أستانة 1 و2 اللذان بحثا آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وباءت كل هذه الاتفاقيات بالفشل لأن من وقع عليها سارع إلى اختراقها، وكان من المفارقات أن يسارع النظام إلى خرق اتفاق أستانة الأخير لحظة دخوله حيز التنفيذ في هجوم على ريف حمص وحماة.
ويعلم الروس أن فقدان الثقة هو الذي يجعل السوريين يعيشون حالة الريبة والشك والقلق من أية مبادرة يحملها لهم داعمو النظام، وقد كان مثيراً أن تسمى إيران ضامناً وهي الدولة التي تحتل سوريا وتفتك بالسوريين، كما أن موقف روسيا التي تحلق طائراتها في سماء سوريا لا يقنع السوريين بكونها راعية جادة للسلام ما لم تغير سياستها وتتحول إلى موقف محايد على الأقل.
وقد رأى السوريون في اتفاق أستانة ملامح خطة لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، وإلى خلق واقع جديد تترسخ فيه حدود جغرافية بين المحافظات. وإلى خطة تجعل هذه المناطق التي يضمنها الإيرانيون والروس مناطق يحكمها النظام، حيث تريد روسيا أن تصنع بيئة جديدة تسهل عملية المصالحات التي يعتبرها النظام حلاً وحيداً يستسلم الشعب فيه للاستبداد مذعناً. ويعلن انتهاء الثورة عبر كبح جماح الفصائل المعارضة المعتدلة التي قد يطلب منها لاحقاً مشاركة النظام في محاربة الإرهاب، ومن يرفض يعتبر إرهابياً، ثم يتم تشكيل مجالس حكم محلي يسيطر عليها الموالون للنظام ويمكن أن يعرض لاحقاً إنشاء مجلس عسكري مشترك يضم بعض المعارضات عبر ترهيب أو ترغيب! وهذه الخطة المحتملة (المنسجمة مع رؤية روسيا لدستور سوري مناطقي وطائفي) تحل محل مفاوضات جنيف وتلغي الحاجة إليها، وتحيل الملف كله إلى أستانة برعاية روسية إيرانية، مستغلة الظرف التركي الراهن الذي يواجه خطر قيام دويلة كردية على الحدود الجنوبية لتركيا قابلة للتوسع.
وقد جاء الرفض لاتفاقية أستانة فور توقيعها من الفصائل العسكرية التي دعيت واستنكرت أن تكون إيران ضامناً وهي الدولة المعتدية، وأصدرت قوى الثورة (الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات) بيانات تعبر فيها عن رفضها لهذا الاتفاق المشبوه الذي يستبعد دور الأمم المتحدة، ويستبق رؤية الولايات المتحدة التي يترقب الجميع ظهورها، وقد عبرت الهيئة العليا للمفاوضات عن رفضها لأي مساس بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وحذرت من أي تفسير للاتفاقية حول ما سمي مناطق «خفض التصعيد» يجعلها بداية لتمرير مشروع تقسيم لسوريا، ورأت في هذا الاتفاق غموضاً حتى في المصطلحات التي تم استخدامها.
وقد أكدت المعارضة حرصها على وقف إطلاق النار، وعلى نشر الأمن في كل أرجاء سوريا، مطالبة بما أقره مجلس الأمن في القرار 2254 في مواده الشهيرة التي تعتبر وقف إطلاق النار وفك الحصار وإطلاق سراح المعتقلين ووصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها حقوقاً تسبق التفاوض وتؤسس له.
كما رفضت المعارضة أي دور أو حضور للنظام في المناطق التي يشملها الاتفاق، فلن تمنحه قوى الثورة والمعارضة المسلحة عبر اتفاقيات من طرف واحد ما عجز عن الحصول عليه في الواقع.
ونستغرب أن تخلو مناقشات أستانة من أية إشارة لجرائم النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية مع أن المؤتمر ينعقد فور ظهور تقرير منظمة هيومان «رايتس ووتش» الذي قدم الأدلة على استخدام النظام السلاح الكيماوي، ولا نستبعد إزاء هذا التغاضي أن يقوم النظام مرة أخرى باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري ما دام يرى تهاوناً دولياً في محاسبته.
ونرى دعوة دي مستورا السريعة إلى جولة جديدة من المفاوضات في جنيف تأكيداً على رعاية الأمم المتحدة وأصدقاء سوريا للعملية السياسية، ومع أننا نفهم أن هذه الجولة لن تحقق الأهداف المرجوة، إلا أن استمرار التفاوض هو رد على من يريدون نسف أسس العملية السياسية من أساسها، ومن ألمحوا إلى أن أستانة هي بديل لجنيف.
ونأمل أن نجد في جولة جنيف السادسة دعماً دولياً جاداً لمناقشة موضوع الانتقال السياسي، وهو جوهر الحل السياسي الذي لن يتحقق ما لم يحدث توازن دولي في دعم المفاوضات.
أعطى الظهور الأميركي في اجتماع «آستانة» الأخير، انطباعاً بأنَّ قرار سوريا لا يزال في يد فلاديمير بوتين، وأنَّ ما جرى في هذا الاجتماع هو أن كل شيء لا يزال على ما هو عليه، وأن مصير الشرق الأوسط كله لا تزال تتحكم فيه روسيا الاتحادية، هذا إن لمْ يكن هناك تدارك سريع للأمور بعد زيارة لافروف الأخيرة إلى واشنطن.
كان هذا مفهوماً في زمن إدارة أوباما البائسة، ولكن الروس قد تمادوا كثيراً عندما فرضوا في هذا الاجتماع الأخير كل ما يريدونه.
المفترض حسب ما قاله الرئيس ترمب أنْ تخرج إيران من المعادلة السورية، ومن معادلة هذه المنطقة الشرق أوسطية نهائياً، لكن ها هي دولة الولي الفقيه قد تم تكرسيها مجدداً من قبل روسيا الاتحادية، في اجتماع «آستانة» في هذه المعادلة التي بقي الخصم فيها هو الحكم، وبقي «حاميها حراميها»، وبقي الضامنون حتى بالنسبة لهذه الاتفاقيات الجديدة هم الإيرانيون والروس، «وكأنك يا أبا زيد ما غزيت»!!.
حسب ما قيل وما تردد في الإعلام، وعلى ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين، فإنَّ تنفيذ مذكرة المناطق الأربعة التي تم الاتفاق على أن تكون مناطق عدم تصعيد قليلة التوتر، سيكون بضمانة دول محايدة، لكن ما جرى في اجتماع «آستانة» الأخير أن كل شيء بقي على ما هو عليه، وأنَّ إيران قد تم تكريسها كدولة ضامنة، أي كدولة «محايدة»، وأنَّ روسيا بقيت تمسك بكل أوراق هذه الأزمة التي من المفترض أنها أصبحت أزمة دولية، كل هذا وقد أُعطي لتركيا دور ثانوي «ديكوري»، في حين أن المتوقع أن يفرضها الأميركيون دولة «ضامنة» رئيسية، من حقها أن تتدخل حتى عسكرياً لضبط الأمور في مناطق «تخفيض التوتر» الأربعة إنْ استلزمت مستجدات الأمور ذلك.
والسؤال هنا هو: كيف من الممكن يا ترى أن تلعب إيران دور الخصم والحكم في الوقت نفسه؟ والتي هي سبب المشكلات والإشكالات التي تشهدها سوريا ويشهدها الشرق الأوسط كله؟.
كان يجب إخراج إيران من هذه المعادلة نهائياً، والمفترض أن تكون الدول الضامنة لمناطق «التهدئة» الأربعة دولاً محايدة بالفعل، وذلك لأن الإيرانيين ولأن الروس أيضاً لا يمكن أن يكونوا محايدين، ولأنهم سيبقون يتلاعبون بعامل الوقت لإبعاد استحقاق: «المرحلة الانتقالية»، حسب «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254، ولأنهم سيستغلون «ضمانهم» هذا الذي أقره اجتماع «آستانة» الأخير للإبقاء على بشار الأسد حتى نهاية رئاسته الحالية، بل وإنه غير مستبعد أن يضمنوا له ولاية جديدة وبانتخابات شكلية، ككل الانتخابات الرئاسية التي جرت في سوريا خلال نصف القرن الأخير كله.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أن وزير خارجية نظام بشار الأسد لم يلمّح فقط في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين الماضي، بل أعلن وبكل وضوح أن صيغة المناطق الأربعة الآنفة الذكر لن تكون تحت رقابة الأمم المتحدة، وإنما تحت الرقابة الروسية، وأنها ستكون البديل لـ«حل جنيف والمرحلة الانتقالية»، وهذا يعني، إنْ لم يكن هناك تدخل أميركي ودولي عاجل لتصحيح المسار ووضع الأمور في أنصبتها الصحيحة، أنَّ الروس والإيرانيين قد حققوا انتصاراً كاسحاً، وأنَّ الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه لدى انفجار الأزمة السورية، وكأن كل هذا الدمار لم يكن، وكأن مئات الألوف من الأرواح البريئة لم تزهق، وكأن الملايين من السوريين لم يتحولوا إلى لاجئين ومشردين، سواء داخل وطنهم أو في كثير من دول العالم القريبة والبعيدة.
إنَّ المفترض أن يكون وضع الولايات المتحدة في اجتماع «آستانة» الأخير ليس بصيغة «مراقب»، فهذا كان في عهد الإدارة السابقة التي هي المسؤولة عن وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، أمّا في عهد هذه الإدارة الجديدة فإن المفترض أن تكون الدول الضامنة لـ«المناطق الأربعة» دولاً محايدة بالفعل، وأن تُفْرض على الإيرانيين فرضاً مغادرة سوريا سياسياً وعسكرياً، ووفقاً لجدول زمني محدد قصير المدى، وبكفالة دولية فاعلة، وألا يتم تأجيل المباشرة بالمرحلة الانتقالية وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ولا للحظة واحدة.
ولعل الأخطر في هذا كله أنَّ هناك من يتحدث عن أنَّ ما تم الاتفاق عليه في «آستانة» الأخير سيكون بالنتيجة هو الحل النهائي، وأن فترة تطبيقه لن تقف عند مجرد الشهور الستة المتفق عليها، بل قد تمتد لسنوات طويلة، مما يعني أن عملية التلاعب والتسويف التي سيلجأ إليها الروس حتماً وبكل تأكيد ستسفر عن مستجدات كثيرة، وأن هذا النظام الاستبدادي المتهالك الذي على رأسه بشار الأسد، قد يستمر لسنوات طويلة، وتكون النتيجة أن كل هذه المذابح وكل هذه الدماء التي نزفت، ستكون نتيجتها كنتيجة مذابح حماة الشهيرة التي ارتكبها الأسد الأب وشقيقه رفعت، قائد سرايا الدفاع، في عام 1982.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين يراهنون على فراق روسي – إيراني قريب أو بعيد، يقعون في خطأ فادح، وأنهم لا يعرفون حقائق الأمور، فالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تفرض عليهما تحالفاً طويل المدى وبلا نهاية قريبة، فالروس الذين ذاقوا مرارة العزلة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن أنْ يفرطوا في هذا الحليف الذي لا حليف فعلياً لهم غيره، ذلك بينما الإيرانيون الذين كابدوا ويلات عزلة استدامت لنحو أربعة عقود لا يمكن أن يفكروا حتى مجرد تفكير بإنهاء زواجهم السياسي «الكاثوليكي» مع إمبراطورية فلاديمير بوتين، التي مكنتهم من أن يسيطروا على العراق وعلى سوريا، والتي تساندهم للسيطرة على بعض الدول العربية الأخرى.
إن ما يريده ويسعى إليه بوتين هو أن يكون هناك عالم جديد هو عالمه، كما قالت مارين لوبان، وهو إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على هذا العالم الأحادي القطبية، ولذلك فإنه مضطر للحفاظ على هذا الحليف الإيراني، وكل هذا بينما تخلى الإيرانيون عن كل خلافاتهم التاريخية مع روسيا الاتحادية من أجل ضمان مساندة موسكو لكل تطلعاتهم التمددية في المنطقة العربية. ولذلك فإن على العرب أن يكفوا عن الاستمرار في محاولات دق الأسافين في العلاقات الروسية – الإيرانية؛ لأن هذا غير ممكن في المدى المنظور على الأقل، ولأن «القيصر الروسي» لا يرى أي جدوى من تعزيز علاقات بلاده مع الدول العربية على حساب علاقاتها مع «الإمبراطورية» الخمينية!
شغلت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مختلف أوساط الرأي العام الفرنسي، وحظيت بمتابعةٍ عربيةٍ وعالميةٍ غير مسبوقة، نظراً إلى انحسار التنافس بين مشروعين، الأول ليبرالي شعبي، يركّز على فرنسا الوطنية التعدّدية، وعلى الوحدة الأوروبية والانفتاح العولمي، بزعامة إيمانويل ماكرون، القادم من خارج المنظومة الحزبية التقليدية الفرنسية، والثاني يميني شعبوي متطرّف وعنصري، يركّز على القومية الفرنسية والانغلاق والهوس بالآخر ومعاداته، بزعامة مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنية.
وإن كان فوز ماكرون بمثابة انتصار لتيار شعبي متمرّد على الحزبية الفرنسية، إلا أنه شكل أيضاً هزيمةً للتيار الشعبوي اليميني المتطرّف، والأهم أنه أعاد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي من جديد، إذ تراجع وزن (وتأثير) حركات وتيارات وأحزاب اليمين واليسار على حدّ سواء، مقابل ازدياد وزن اليمين المتطرّف، الممثل بحزب الجبهة الوطنية.
ويبدو أن الناخبين الفرنسيين أرادوا القطع مع المنظومة الحزبية التقليدية، بيسارها ويمينها، ومعاقبة أحزابها على سياساتها التي لم تنقذهم من البطالة، ولم توفر لهم الأمن والأمان، إلى جانب استيائهم من العمليات التي قاموا بها، من أجل حماية أصحاب رؤوس الأموال، وإنقاذهم من أزماتهم، والمحافظة على رواتب المسؤولين التنفيذيين، الأمر الذي أفضى إلى هبوط شعبيتها. وعلى الرغم من التحذيرات الواضحة التي وجهها الفرنسيون إلى أحزاب اليسار واليمين، في أكثر من مناسبة انتخابية سابقة، إلا أن من كان يصل إلى مركز صنع القرار من اليمين واليسار يواصل انتهاج السياسات والتوجهات نفسها، الأمر الذي أفضى إلى إحجام المواطن الفرنسي وتململه من الماراثونات الانتخابية، وفضّل أن ينهي مفارقاتٍ طويلةً من الصراع بإيصال كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان للتنافس على رئاسة الجمهورية الفرنسية.
وجاء فوز ماكرون بعد حملةٍ انتخابية، تميّزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من ماري لوبان، المرأة اليمينية المهووسة برمي كل الشرور على عالم الغير وشيطنة الآخر، والتي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدةٍ تصل إلى قصر الإليزيه، وإيمانويل ماكرون الشاب القادم من عالم الاقتصاد، والبعيد عن مزاولة السياسة بشكلها الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الفرنسية، فيما بدت العملية الانتخابية كأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعلت كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن.
ويجسّد وصول ماري لوبان إلى الجولة الثانية من المنافسة على كرسي الرئاسة الفرنسية، وحصولها على ثلث عدد أصوات الناخبين الفرنسيين، ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات لدى غالبية مكونات الشعب الفرنسي، وسيكون له أثره الواسع على الداخل الفرنسي، بما قد يغير المستقبل السياسي لفرنسا وتوازناتها الاجتماعية، لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ، بنيت على نزعاتٍ عنصريةٍ وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية، إلى جانب لجوء لوبان إلى حركاتٍ بهلوانية، أساسها مبنيٌّ على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والمهاجرين، وتحميلهم مسؤولية فشل السياسات والأزمات، مع أن نموذج لوبان ليس وحيداً في العالم، لكنه الأكثر صفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو منذ مدة، وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي وأميركا، حيث باتت أحزاب اليمين فيها تعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصا العربي والإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها.
وتمثل مارين لوبان، وقبلها والدها جون ماري لوبان، ظاهرة نامية في الغرب الأوروبي والأميركي، تمثل الرجل الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر والاحتجاج على الوضع الراهن. وهي، وإن تلقت هزيمةً في هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أنها تمثل ظاهرةً صاعدة، قد تعود في أي استحقاق مقبل، وعلى حساب تراجع الطبقة السياسية الفرنسية، ما يتطلب إعادة النظر في بنى الجمهورية الفرنسية الدستورية والسياسية والإدارية.
والحاصل أن فوز ماكرون لن يشكل قطيعةً مع اليمين المتطرّف، ولن يوقف حماس هذا اليمين في الوصول إلى حكم فرنسا، ولعل الاستحاق المهم المقبل، المتمثل في الانتخابات التشريعية، التي ستفضي إلى اختيار أعضاء البرلمان، سيلقي أثره على تحرّكات الرئيس الجديد وسياساته، كونه سيؤثر على طبيعة مؤسسات الحكم والسلطات والتشريع وتركيبتها وعملها، وعلى الإصلاحات التي يريد ماكرون القيام بها، من أجل تطوير البنى الاقتصادية والسياسية والإدارية، وبما يدعم الداخل الفرنسي، وجذب الفرنسيين المحبطين واللامبالين إلى المعسكر المناهض لأفكار اليمين المتطرّف الاستئصالية، واستعادة ريادة الدور الفرنسي في الاتحاد الأوروبي، والوقوف أمام محاولات اليمين الشعبوي في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما، الرامية إلى ضرب النادي الأوروبي، إضافة إلى مجابهة عدوانية فلاديمير بوتين حيال أوروبا الموحّدة، وتدخلاته لصالح اليمين الشعبوي، واتجاهاته المتطرّفة.
ولم يكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومعه معسكر إيران والنظام السوري وسائر رصفائه وحلفائه، سعداء بوصول ماكرون إلى كرسي الرئاسة الفرنسية، ولعل ما يهم أبناء الشعب السوري أن ماكرون ينظر إلى الأسد على أنه مجرم حربٍ تجب معاقبته، حيث أعلن أنه في حال انتخابه رئيساً لفرنسا، فإن إدارته ستعمل، مع الشركاء الدوليين، لوضع حد للأزمة السورية، وإنهاء حكم الأسد. وصرح عقب أزمة استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية في خان شيخون "علينا أن نتدخل ضد من يستخدمون الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين في سورية، ووضع حد لجرائم الأسد بحق الأبرياء، بعدما شكل الصمت الدولي عن تلك المجازر مبرراً لقتل مزيدٍ من الأطفال والنساء من دون ذنب، وهو ما لن يستمر"، الأمر الذي يشير إلى أن ماكرون سيؤكد استمرارية السياسة الفرنسية إزاء الملف السوري، المرتبطة بقيم الجمهورية الفرنسية، وفي طليعتها حقوق الإنسان التي لطخها نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، بإمعانهم في قتل السوريين وتحطيم تطلعاتهم في الخلاص من الاستبداد.
حفلت الأزمة السورية، على امتداد السنوات الست ونيف من عمرها، بمفارقات عديدة، وتناقضات شديدة، بلغ بعضها حد الغرابة، وإن كانت مفهومةً تمامًا بلغة المصالح، من ذلك مثلاً أن دولاً "محافظة" دعمت الثورة في سورية، وأنظمة "ثورية" وقفت في وجهها، لا بل سعت إلى وأدها. ومن ذلك تغير مواقف بعض الدول والأحزاب وانقلاب أدوار بعضها الآخر بصورة حادّة، بحيث غدا بعض الحلفاء خصوماً، وأصبح بعض الخصوم حلفاء، ووقف بعض اليسار الثوري في وجه الثورة، ورفع بعض اليمين المحافظ السلاح دفاعاً عنها، هذا من بين أمثلةٍ كثيرة يمكن ذكرها.
المفارقة التي شهدنا بعض فصولها أخيرا، في سلسلة مفارقات الأزمة السورية، تمثلت باتفاق أستانة، الذي توصلت إليه الدول الراعية للحرب في سورية لإنشاء مناطق تهدئة أو خفض للتصعيد (De-escalation Zones). أصل الاتفاق مبادرةٌ روسية، تلقفتها تركيا خلال اجتماع القمة، أخيرا، بين الرئيسين بوتين وأردوغان في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، ومثلت محاولةً جديدة لاستعادة زمام المبادرة على الأرض، وفي السياسة، بعد فشل الاتفاق الروسي-التركي لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
واقع الأمر أن المبادرة الروسية جاءت إشكالية وغير مفهومة، لجهة دوافعها، وانقلاب موقف الكرملين فيها، فمن جهةٍ طرحت روسيا فكرةً تركية ظلت تقاومها منذ بداية الأزمة، وهي إقامة مناطق آمنة (Safe Zones)، دع جانباً مسألة إنشاء مناطق لحظر الطيران (No Fly Zones) أرادتها أنقرة لتأمين إقامة اللاجئين داخل الأراضي السورية، وحماية جيوب المعارضة من القصف الجوي الذي نكّل بالمدنيين والثوار. لا بل استخدمت روسيا، وبشكل متعمد، القصف الجوي استراتيجيةً لاقتلاع أكبر عدد ممكن من المدنيين من أراضيهم ودفعهم في موجات هجرة ولجوء كبيرة باتجاه أوروبا، بهدف تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومعاقبة الأوروبيين، خصوصا الألمان، على مواقفهم من الأزمة الأوكرانية، فكيف تطرح روسيا الآن مبادرة حظر الطيران إذاً؟
وتغدو المفارقة أكبر، إذا لاحظنا أن الطيران الروسي هو الطيران الوحيد (إلى جانب طيران النظام) الذي يحلق ويقصف في المناطق الأربع التي تمت الإشارة إليها في اتفاق أستانة، وكأن روسيا تفرض حظرًا على نفسها، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة لجهة التفسير، إذ كان في وسع روسيا، ببساطة، أن توقف طيرانها عن القصف في هذه المناطق، من دون الحاجة إلى إعلان حظر طيران. فلماذا تفعل ذلك؟
يبدو صعباً فهم المبادرة الروسية خارج سياق العودة الأميركية القوية إلى الساحة السورية، فمبادرة تخفيض التصعيد جاءت بعد استهداف قاعدة الشعيرات، ما عزّز مخاوف روسيا من احتمال حصول تغيرٍ في المقاربة الأميركية تجاه الصراع في سورية، في ضوء توجه إدارة ترامب المعلن نحو "قصقصة" النفوذ الإيراني في المنطقة، ابتداء من سورية. وقد بدا واضحاً، منذ اللحظة الأولى لإعلانه، مدى اهتمام روسيا بالحصول على التزامٍ من واشنطن بدعم اتفاق أستانة والعمل به. إذ صرح المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بأن بلاده تتوقع من الولايات المتحدة احترام مناطق الحظر في الاتفاق، وهذا ما دفع الروس أيضاً إلى الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارٍ يرحب باتفاق أستانة، ما يعني أن المبادرة لم تكن سوى محاولةٍ لتثبيت الوقائع التي حققتها روسيا على الأرض خلال العامين الماضيين، ومنع أي تغيير جذريٍّ عليها، من خلال تقييد حركة واشنطن في الأجواء السورية، وهو أمرٌ ما كان ليمرّ على البنتاغون الذي رفض صراحةً الالتزام بمناطق الحظر الروسية.
يبقى سؤالٌ مهم، متصلٌ بموقف إسرائيل من الاتفاق، وما إذا كانت ستلتزم به في ضوء التفاهم الذي أبرمه نتنياهو مع بوتين، خلال زيارته الأولى إلى موسكو بعد التدخل الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وسمح لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية، بناء على مقتضيات مصلحتها الأمنية. فهل يقبل نتنياهو تقييد حركة الطيران الإسرائيلي في سوريةـ من دون أن يكون جزءاً من اتفاق أستانة؟ هذا السؤال برسم الروس والإيرانيين وكل "محور المقاومة" الملحق بهما للإجابة عليه.
على الرغم من أن ماكينة الدعاية الإسرائيلية تحرق وقوداً كثيراً في سعيها إلى شيطنة تدخلات إيران في دول الإقليم، ولا سيما في سورية؛ إلا أن نظرةً متفحصةً سرعان ما تقود إلى استنتاج أن الحرائق التي أشعلتها إيران في المنطقة قد حسّنت المكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، ووسّعت بيئته الإقليمية، ومنحته هامش مناورة أكبر لتحقيق مصالحه الأمنية، فالتورّط في سورية منح إسرائيل الفرصة لاستنزاف إيران وأدواتها، ولا سيما حزب الله، وضمن تحسين مكانتها في أية مواجهة مستقبلية مع الطرفين، فقد استغلت إسرائيل استنفار حزب الله لصالح نظام الأسد، بناء على توجيهات إيران، وعمدت إلى تقليص قدرة الحزب على تعزيز قوته العسكرية وتعاظمها من خلال الحيلولة دون وصول السلاح إليه، عبر شن الغارات الجوية على مخازن وإرساليات سلاح تعود إليه؛ إلى جانب تبرير تصفية قياداتٍ عسكرية للحزب والحرس الثوري الإيراني في قلب الأراضي السورية، فقد كان حزب الله يحصل على السلاح الإيراني عبر سورية، طوال الفترة التي سبقت الثورة، ولم يحدث أن تم استهدافها إرساليات السلاح على هذا النحو، وبتلك الوتيرة.
ومما فاقم أوضاع إيران سوءاً أن إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران، فحاجة إيران للدور الروسي الحاسم في ضمان استقرار نظام بشار الأسد اضطرّها إلى ابتلاع التنسيق الروسي الإسرائيلي الهادف، بشكل أساس، إلى توفير بيئةٍ مناسبةٍ لمواصلة استنزافها وحزب الله. وقد تذرّعت إسرائيل بـ "المخاوف" من حصول إيران على موطئ قدم بعد انتهاء الصراع في سورية للمطالبة بأخذ مصالحها الاستراتيجية في أية تسوية سياسية لهذا الصراع؛ من خلال ترويج مشاريع تسوية، تهدف إلى تقسيم سورية. ليس هذا فحسب، بل تتذرّع إسرائيل بالوجود الإيراني في شن حملةٍ دبلوماسية ودعائية، تهدف إلى إضفاء شرعية دولية على قرارها فرض سيادتها على هضبة الجولان. ومن المفترض أن يبلغ هذا التحرك أوجه خلال الزيارة المتوقع أن يقوم بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتل أبيب نهاية مايو/ أيار الجاري، حيث يفترض أن تعرض إسرائيل عليه خطةً تفصيليةً بهذا الشأن، أعدها وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس. ومما لا شك فيه أن تجلد إيران وحزب الله وتسليمهما بالغارات التي تشنها إسرائيل في قلب سورية وعدم الرد عليها يمسّ الانطباع الذي يحاولان تكريسه عن دورهما باعتبارهما "قوتي ممانعة" للمشروع الصهيوني.
في الوقت نفسه، سمح التدخل الإيراني في سورية والدول العربية الأخرى لإسرائيل بمحاولة تحقيق جملةٍ من المكاسب، فشلت في تضمينها في الاتفاق النووي مع القوى العظمى، ولا سيما إلزام طهران بالتخلص من ترسانتها الصاروخية، من خلال الادعاء أن تفكيك الصواريخ الباليستية يقلّص من خطورة توسع طهران الإقليمي. وها هم قادة الأغلبية الجمهورية في الكونغرس يتذرّعون بتدخلات إيران في المنطقة وترسانتها الصاروخية، لتبرير تقديم مشاريع قوانين، تنظم فرض عقوباتٍ مالية جديدة على إيران؛ مع العلم أن مشاريع هذه القوانين تحظى بدعم عدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة. وقد أفضى التدخل الإيراني في دول المنطقة إلى تحسين البيئة الإقليمية لإسرائيل، بشكل واضح، من خلال إسهامه في توفير المسوّغات لدى قوى إقليمية كثيرة للتقارب مع تل أبيب، والتعاون معها. وقد تطوّر التعاون بين إسرائيل وتلك القوى إلى درجة أن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، قد تحدث، خلال زيارته إسرائيل أخيرا، صراحة عن "تحالف إقليمي يضم إسرائيل ودولاً عربية بهدف مواجهة إيران والقوى الإسلامية المتطرفة" (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4). ويتحدث الإسرائيليون بوضوح عن توفر الظروف لنشوء "حلف ناتو شرق أوسطي"، بذريعة مواجهة إيران (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4)، فالحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعد الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني مدينةٌ لإيران بتوفير البيئة التي سمحت لرئيسها، بنيامين نتنياهو، عرض تصوّره لحل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من خلال صيغة التسوية الإقليمية التي تهدف عمليا إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، فبنيامين نتنياهو يعرض عمليا على الدول العربية صفقةً تقوم على تعاون إسرائيل مع الدول العربية في مواجهة "الخطر الإيراني" في مقابل مساعدة الدول العربية في حل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من دون أن تتحمل إسرائيل أعباء هذا الحل.
"إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران"
في الوقت نفسه، يحسّن تقاربٌ مع الدول العربية من قدرة إسرائيل على مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية، ويوفّر بيئةً أكثر ملاءمة لاستهدافها، مع العلم أن طهران تدّعي أن هذه القوى محسوبةٌ على المحور الذي تقوده. ومن الأهمية التأكيد، هنا، أن التذرّع بالحاجة إلى مواجهة إيران لا يبرّر تعاون بعض الدول العربية مع إسرائيل، ولا يسوّغ نسج الشراكات معها، فهذا التبرير غير متماسكٍ من ناحية أخلاقية، كما أن الرهانات العربية على عوائد التعاون مع إسرائيل غير موضوعية، وغير واقعية.
في كل الأحوال، يتبين أن الحريق الهائل الذي أشعلته إيران في المنطقة يصب في صالح إسرائيل، ويساعد الأخيرة على تحقيق مصالحها الاستراتيجية والأمنية، من دون أن تكون مطالبةً بتقديم تنازلاتٍ كبيرة، أو بذل كثير من مواردها الذاتية. ناهيك عن أن هذه التدخلات أصبحت مركبا أساسيا من ضمن مركبات البيئة التي تسمح بالمسّ بفلسطين، وقضيتها ومقاومتها.
وسيتبين لإيران، عاجلا أم آجلا، أنها لم تساعد إسرائيل على تحقيق مصالحها فقط، بل أيضا أن أياً من رهاناتها على التدخل في شؤون المنطقة لن يتحقّق.
مع غياب كامل للسوريين، في النظام والمعارضة، تم التوقيع في أستانة يوم 4 مايو/ أيار الجاري، على اتفاق خفض العنف الذي يشمل أربع مناطق، تضم أجزاء من محافظة إدلب واللاذقية وحماة وحلب وحمص ودرعا والقنيطرة. وهي المناطق التي تشكّل خطوط الجبهة الرئيسية المتبقية بين قوى المعارضة ومليشيات النظام السوري المتعدّدة الجنسيات. يهدف الاتفاق الذي تعتبره الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، "إجراءً مؤقتاً مدته ستة أشهر" قابلة للتمديد بموافقة الضامنين، إلى وقف أعمال العنف بين الأطراف المتنازعة، ووقف استخدام أي نوعٍ من السلاح، بما في ذلك طائرات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، وضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية، وتأهيل البنية التحتية، وتأمين الشروط المناسبة لعودة اللاجئين والنازحين الراغبين في العودة. ومن المفترض، حسب الاتفاق، أن تشكل الدول الضامنة قوات خاصة لإقامة الحواجز ومراكز المراقبة وإدارة المناطق الأمنية.
وباستثناء تعبير الخارجية الأميركية عن شكّها في إمكانية نجاح هذا الاتفاق الذي يجعل من طهران، حسب تعبيرها، ضامنة له، وهي أحد المسؤولين الرئيسيين عن استخدام العنف، كما يتجاهل سجل النظام السوري السيئ في تنفيذ الاتفاقات السابقة، لم تظهر ردود فعل ذات مغزى، لا عن الدول العربية الداعمة للمعارضة، ولا عن تجمع أصدقاء الشعب السوري، ولا ممثلي الأمم المتحدة.
لا ينبغي أن يكون لدى أي إنسان وهمٌ حول مغزى الاتفاق الذي وقعته الدول الثلاث التي أعلنت نفسها بشكل ذاتي، صاحبة المبادرة في إيجاد حل للنزاع السوري. وفي ما وراء ذلك، تأكيد وصايتها غير الشرعية على سورية، ورسم مستقبلها بغياب جميع الأطراف السورية والدولية. وليس هناك من يعتقد بين الأطراف، الدولية والسورية جميعا، أن الهدف من هذا الاتفاق كان بالفعل تخفيف مستوى العنف، أو توفير المزيد من المذابح والأرواح البشرية، أو أنه جاء من وحي أي حافز أخلاقي أو إنساني، كما أن من المؤكد تقريبا أنه لن يكون في تطبيقه أفضل من الاتفاقات التي سبقته، وأنه سيستخدم، كما استخدم غيره، من أجل قضم مزيد من المواقع لقوات المعارضة، وتضييق الخناق عليها، بذريعة ضرورات فصلها عن الفصائل "الجهادية" والمتطرّفة، وأنه سوف يعمّق الشرخ القائم في ما بين أطرافها، وإنه لن يُحترم، في النهاية، إلا من جانبٍ واحد، وسيكون بالضرورة اتفاق الزوج المخدوع. فبصرف النظر عن الديباجة التبريرية، يندرج هذا الاتفاق في سياقٍ واضح، لا يزال يترسخ منذ أكثر من ثلاث سنوات، هو سياق تراجع المعارضة وانكفائها على خط الدفاع الذي لا تزال تقف عليه منذ عدة سنوات، وتنتقل فيه من مواقع متقدّمة إلى مواقع أكثر تراجعاً، على المستويين السياسي والعسكري. كما يندرج في سياق خسارة المعسكر الإقليمي والدولي المناصر للمعارضة تفوقه لصالح صعود المحور الروسي الإيراني الذي جعل من الممكن أن تدخل إيران في فريق الدول الراعية للاتفاق، ومن ورائه للحل، وهي الطرف الأكثر انخراطاً في الحرب ضد الثورة والمعارضة، وأن تتحول إلى ضامن لوقف النار والسلام، في وقتٍ تشكل مليشياتها القوة البرية الأولى في حماية معسكر النظام، بينما تبدو الدول العربية وجامعتها كما لو أنها قبلت بتهميشها تماماً، بما في ذلك الدول التي وقفت سنواتٍ طويلة إلى جانب المعارضة.
لكن في ما وراء ذلك، وأهم منه، أن هذا الاتفاق، الذي لا يختلف في جوهره وأهدافه عن الاتفاقات والمصالحات والهدن المحلية التي اعتمدها النظام خطة طويلة المدى لتفتيت المعارضة واحتوائها، جزء من الاستراتيجية الروسية العسكرية والسياسية التي سعت، بجميع الوسائل، وأهمها الطيران الحربي، إلى تغيير خريطة الصراع على الأرض، من خلال العمل على ضرب تواصل قوى المعارضة، وعزلها في مواقع ثابتة، وإنهاء الحقبة التي سيطر عليها الصراع الشامل، بين الثورة والمعارضة من جهة والنظام من جهة ثانية، ومن ثم إلى تحويل الثورة إلى بؤر تمرّد مغلقة، ومحاصرتها سياسيا، بعد أن تمت محاصرتها عسكريا، ومن وراء ذلك استعادة المبادرة وإعطاء التفوق والأسبقية لمليشيات النظام من جديد، بصرف النظر عن تناقضاته وخراب أركانه، وتهافت مرتكزاته وشرعيته.
أخطر ما جاء به هذا الاتفاق أنه أوحى للعالم، وللمجتمع الدولي، أننا لم نعد أمام قضية ثورة ضد نظام جائر ودموي، ولا حتى في مواجهة حرب أهلية شرسة، وإنما أمام دول ثلاث منخرطة في الصراع، تنسّق في ما بينها من أجل تمكين السلطة المركزية للدولة من استعادة سيطرتها على حركة (أو حركات) المعارضة والتمرّد التي وقفت في وجهها وقاومتها سنوات طويلة. وكذلك، أن طهران لم تعد أحد المسؤولين الرئيسيين عن تمويل الحرب، وتمديد أجل النزاع، وإنما جزءٌ من الحل، وأن الأمر قد تحوّل، منذ الآن، من أزمة سياسية مستعصية إلى مسألةٍ تقنية، تتعلق بمراقبة وقف إطلاق النار، وتأمين فرق المراقبة الدولية المؤهلة للقيام بذلك. وبالفعل، بدأت تعليقات صحافية كثيرة تشير إلى هذا الاتفاق كما لو كان يمثل بداية الحل. وهذا ما يتماشى مع الخطة الروسية التي تريد أن تستفرد بالحل، وتفرض الصيغة التي تنسجم بشكل أكبر مع مصالحها ورهاناتها. هكذا ضعف وسيضعف أكثر شعور المجتمع الدولي بالحاجة العاجلة للبحث عن حلٍّ يرضي تطلعات السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد الدموي، ولن يتساءل أحدٌ، بعد الآن، عما إذا كان هذا الاتفاق يقود نحو تسويةٍ سياسيةٍ فعليةٍ تتفق ومضمون قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وإنما عما إذا كان من الممكن إنجاح الاتفاق ووقف إطلاق النار فحسب.
لم تخطئ فصائل المعارضة السورية، إذن، في رفضها التوقيع على الاتفاق إلى جانب الدول الثلاث، احتجاجا على إدخال طهران طرفا ضامنا للحل السياسي والسلام، في حين أنها كانت، ولا تزال، المسؤول الأول عن قرار تمديد أجل الحرب، وخوضها حتى النهاية، والتي لا يخفي مسؤولوها حجم المجهود الحربي الهائل الذي قدّموه في قتال الشعب السوري، والسعي إلى القضاء على ثورته بأي ثمن، سواء على شكل قواتٍ برية مليشياوية، أو مساعدات مالية وسياسية ولوجستية. كما لم تخطئ الهيئة العليا للمفاوضات التي ذهبت إلى أبعد من ذلك، في إدانة الاتفاق، واعتبرته مقدمةً لتقسيم سورية.
يعكس هذا الرفض خوف أطراف المعارضة السورية من نتائج هذه الاتفاق، العسكرية والسياسية، وفي مقدمها تكريس الدول الثلاث راعيةً للحل السياسي في سورية، ومصادرة إرادة الشعب السوري في تقرير مستقبله، كما يعكس قلق السوريين والمعارضة من تطبيع دور إيران في سورية الحاضرة والجديدة، لكنه لا يمكن أن يشكل ردّا على الاتفاق الذي ستضطر الفصائل إلى احترام بنوده، وتطبيقه، مهما كان الأمر، خصوصاً أن تركيا التي "تمثل" الفصائل في هذا الاتفاق، وفي المفاوضات التي تجري في أستانة، هي شريك رئيسي في إعداده وأحد ضامنيه.
يحتاج وقف التدهور المتواصل في الموقف العسكري والسياسي لفصائل المعارضة ردّاً من نوع آخر، أي رداً استراتيجياً، لا يكتفي بردود الأفعال التي درجت على اتباعها في السنوات الطويلة الماضية، وكانت نتائجها ما وصل بها الحال اليوم من تراجعٍ مستمر وتفرّق وخصام. وهذا يعني، في الوضع الراهن، بناء استراتيجية مستقلة وفعالة للمقاومة من المعارضة والفصائل، تختلف عن التي اتبعتها في السنوات الماضية، والتي قامت على ردود الفعل والتسليم للأصدقاء والحلفاء والذهاب فصائل مشتتة إلى المفاوضات، وانتهت بها إلى طريق مسدود. وقد كانت من دون نقاش نموذجا لاستراتيجية الفشل التي لم يكفّ الرأي العام السوري، الثوري والمعارض، عن التنديد بها منذ سنوات، من دون أن يحصل على أي رد إيجابي من فصائل عسكرية، تدّعي التضحية من أجل الثورة وأهدافها، بينما ترفض أي مبادرةٍ لبناء جسم وطني عسكري واحد وقيادة موحدة مشتركة، عسكرية وسياسية، تعكس إرادة السوريين في التحرّر والمقاومة ورفض تأهيل النظام، وتعزّز موقفها الإقليمي والدولي بتأييدهم وثقتهم، فالشرط الأول لمنع الآخرين، من الدول والمؤسسات والتكتلات، من مصادرة قرار السوريين، والتفاوض عنهم والحلول محلهم، وقطع الطريق على تقسيم سورية، أو استخدام الاتفاقات الفنية، مثل اتفاق خفض العنف، أو إقامة المناطق الأمنية، والفصل بين الفصائل والجبهات، ذريعة للتمهيد لهذا التقسيم، هو توحيد قوى المعارضة والثورة السورية، وتحقيق وحدة قيادتها. كل ما دون ذلك من احتجاجات وإدانات وشكاوى يدخل في باب التعبير عن المشاعر والسخط، لكنه لا يشكل استراتيجيةً للمقاومة، وتأكيد التمسك بالقرار الوطني، ولا يغيّر كثيرا في المنحى التراجعي الذي يميّز مسيرة المعارضة اليوم. مع العلم أن هذا الاتفاق يشكل آخر امتحانٍ للمعارضة، وهو الذي سيقرّر مصيرها.
فرضت التطورات الإقليمية والدولية على المرشد الإيراني السيد علي خامنئي التراجع عن عقيدة السياسة الخارجية للثورة الإيرانية التي تبناها سلفه مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني، والتي أراد من خلالها إيجاد مكان آمن لبلاده بعيداً عن الاستقطابات التي كانت سائدة على الساحة الدولية، خلال الحرب الباردة والتي عرفت بصراع القطبين الأميركي والسوفياتي؛ فقد حاول السيد الخميني استثمار الصحوة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، من أجل تقديم مشروعه الثوري نموذجاً بديلاً عن الطروحات الفكرية والثقافية والسياسية لتلك المرحلة، من خلال رفعه شعار «لا شرقية ولا غربية ثورة ثورة إسلامية». إلا أن قرار القيادة الإيرانية الحالية بالسماح للقاذفات الاستراتيجية الروسية باستخدام قاعدة همدان الجوية أثناء قيامها بضرب الشعب السوري، ليس فقط مخالفاً لرؤية الخميني أولاً وللدستور ثانياً، إنما هو في عمقه تطبيق عملاني لموقف صناع القرار الإيراني بالانحياز الاستراتيجي إلى جانب روسيا، ورغم كونه انحيازاً فرضته الظروف الجيو - ستراتيجية التي تتقاطع مع الوقائع الجيوسياسية، التي غالباً ما تفرض شروطها على من يحكم إيران منذ مئات السنين، وتستحوذ على خياراته السياسية وتؤثر على تحالفاته الخارجية، في محصلتها خيارات كانت انعكاساتها السلبية على الواقع الإيراني في الداخل والخارج أكثر من إيجابياتها.
تاريخياً، أسست الانطباعات التي دوّنها الرحالة والتاجر الروسي المقرب من القيصر إيفان الثالث أفاناسي نيكيتين، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر أثناء إقامته لسنتين في إيران، لعلاقات اقتصادية وسياسية بين البلدين، والتي تعززت مع إيفان الرهيب الذي سيطر على الممرات المائية التي تصبّ في بحر قزوين، إلى أن تم تبادل السفراء بين البلدين عام 1594 في عهد القيصر فيودور إيفانوفيتش والشاه عباس صفوي، حيث سعت إيران إلى تعزيز تحالفها مع روسيا في مواجهة تركيا العثمانية، ورغم ذلك كانت إيران من أول الدول التي تصطدم بطموحات روسيا التوسعية؛ فقد أجبرتها حروبها الأربع التي خاضتها وخسرتها مع روسيا منذ وصول بطرس الأكبر للحكم إلى التنازل التدريجي عن الأراضي التي كانت خاضعة لها منذ مئات السنين في القوقاز الروسي ودول ما رواء القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان)، إضافة إلى بعض مناطق حوض بحر قزوين، كما شهد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين صراعاً بريطانياً - روسياً على الجغرافيا الإيرانية، ووصلت ذروة التدخل الروسي في الشؤون الداخلية لإيران ما بين سنة 1907 و1911 فيما عرف بمرحلة الثورة الدستورية، عندما قمع الجيش الروسي الثورة وقصف البرلمان الإيراني 1908، وهي حادثة يقارنها المجتمع الإيراني بالتدخل الأميركي في قمع ثورة مصدق 1953.
حالياً يتعامل الشارع الإيراني ذو الأغلبية المعادية لروسيا بريبة مع علاقة نظامه بروسيا، ويرى أن تدخل موسكو في الشؤون الداخلية والخارجية لبلاده لم يزل مستمراً؛ فقد أثارت زيارة رئيس جمهورية تترستان الروسية رستم منيخانوف الأخيرة لمرشح التيار المحافظ لرئاسة الجمهورية المتشدد إبراهيم رئيسي قلق الإصلاحيين من دور روسي في الانتخابات لصالح رئيسي، الذي تتقاطع مواقفه ومصالح داعميه مع المصالح الروسية في المنطقة، التي من شأنها أن تزيد من عزلة إيران وتعطل عملية انفتاحها على الغرب؛ فلدى الشارع الإيراني قناعة بأن المرشد المتأثر تاريخياً بالثقافة الروسية يولي العلاقة مع موسكو أهمية استراتيجية، ويعزز هذه القناعة محاولات إنتاج مناخ فكري يؤمن بفكرة الربط بين العقيدة والمكان في النموذجين الروسي والإيراني، باعتبار أن روسيا المسيحية تتزعم العالم الأرثوذكسي، وإيران المسلمة تتزعم العالم الشيعي، وهو ربط متصل بمحاولات أدلجة الجغرافيا يتبناها منظر الأورآسياوية الروسية الجديدة المفكر القومي ألكسندر دوغن، الذي اعتبر تحالف بلاده مع إيران الشيعية، ضرورة في مواجهة العالم الإسلامي السني الذي يشكل الأغلبية لما كان يعرف سابقاً بالمجال الحيوي السوفياتي جنوب روسيا، كما أن أصواتاً مؤثرة داخل الطبقة السياسية الإيرانية بدأت تحذر من أن طموحات بوتين التوسعية ورغبته في الوصول إلى سواحل البحر المتوسط لن تتحقق إلا على حساب النفوذ الإيراني في سوريا، حيث تتخوف هذه النخبة من انقلاب في المواقف الروسية يؤدي إلى خسارة طهران نفوذها الإقليمي جراء صفقة روسية مع الدول الكبرى في سوريا والمنطقة على حساب إيران.
يصف القيصر نيكولاي الثاني إيران بأنها الجار الدائم في الجنوب، هذا الموقع يجعلها مرغمة على الإقامة الدائمة في حيز جغرافي صعب، ومجبرة أيضاً على التعامل معه بصفته ثابتاً وحيداً على الرغم من حسناته الكثيرة، فإنه يحرمها من إيجاد مكان آمن لها في عالم متغير تحكمه المصالح وليس العقائد.
تتجمّع معلومات كثيرة حول الوضع في سوريا تبدو في ظاهرها متضاربة ولكنها تفصح عن مسار عميق يحاول أن يصل إلى معنى فوق مدن القتل والتهجير الجماعي ومئات الرايات المتقاتلة على صور الماضي وقصص التاريخ وحصص الجغرافيا، متراشقة بالمظلوميّات المفترضة القومية والدينية والطائفية ومحوّلة إيّاها إلى طائرات وبراميل متفجرة وغازات كيميائية سامة ورغبة بالإبادة النهائية للآخر.
ميدانيّاً تتجمّع غيوم كثيرة لقوى عديدة مكلّفة، من بين المهام الكثيرة، بمهمّة وحيدة: محاصرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحسب الأنباء التي وصلت حتى الآن، والمتوقع إعلان بعضها قريباً، فإن تنظيمات التحالف الإيراني السوري، ممثلة بـ«الحشد الشعبي» من العراق، و«حزب الله» اللبناني من أماكن تحشّده السورية العديدة، وقوّات النظام السوريّ في تدمر تخطّط لعمليّة لإحاطة تنظيم «الدولة» في دير الزور.
الأنباء تقول إن هذه العمليّة قد تجد رافداً لها من «وحدات الحماية الكردية» المجوقلة والآتية عبر الطائرات الأمريكية، ومن قوّات «العشائر السورية» التي تشرف عليها الأردن وأمريكا وبريطانيا.
وإذا تمّ هذا السيناريو العسكري على الشكل الذي وصفناه فسيكون تعبيراً كثيفاً عن مستجدّ دوليّ جديد بعد الضربة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات إثر قصف النظام لبلدة خان شيخون بغاز السارين فهو يعني أن موسكو استعادت المبادرة من جديد وأنها استطاعت «ابتلاع» آثار صدمة القصف الأمريكي، وأن واشنطن، أيضاً، تعتقد أنها أعادت توجيه البوصلة العالمية والإقليمية باتجاه هدفها المفضّل: تنظيم «الدولة الإسلامية».
غير أن الحقيقة أعقد من ذلك، فالواضح أن موسكو وحليفها الإيراني الرابضين على الأرض السورية صارا أدرى بشعاب سوريا المعقدة من الأمريكيين، فتوجيه القوى نحو إنهاء تنظيم «الدولة» لن يكون إلا دائرة صغيرة ضمن دائرة أكبر تشمل ترتيب أوضاع سوريا والإقليم، وهو ما يحول الأمر إلى ورقة كبرى في يد موسكو، التي يسافر وزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى واشنطن اليوم للقاء وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون وللإشراف على تمرير قرار روسيّ هدفه الظاهر هو تشريع اتفاق «أستانة 4» أممياً الذي قام بابتلاع فكرة «المناطق الآمنة» وحوّلها إلى «مناطق تخفيف التصعيد»، وهي مناطق، تتقلّص أو تتمدّد حسب فهم النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين لها.
القرار الذي قدمّته روسيا إلى مجلس الأمن الدولي أمس الأول الأحد حول إنشاء «مناطق لتخفيف التصعيد» ترافق مع رفض وزير الخارجية السوري وليد المعلم في اليوم نفسه «أي دور للأمم المتحدة أو لقوات دولية في مراقبة» هذه المناطق، وأن ذلك سيكون منوطاً بـ… روسيا نفسها التي أشبعت تلك المناطق قصفاً وتدميراً!
ما سيحصل في هذا القرار الأممي لو تم تمريره هو ما حصل للقرار رقم 2254 والذي كان حصيلة لتراجع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام روسيا وأدّى، عمليّاً، إلى إنهاء فكرة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة وتسليم المسار الفعلي للمفاوضات لروسيا وصولاً إلى الوضع الحالي.
في مراجعته لاتفاق «مناطق تخفيف التوتر»، ردد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس المثل الشائع «الشيطان يكمن في التفاصيل»، والحقيقة أن الاتفاق يغفل تماماً عن الشيطان المسؤول عن الحبكة الجهنمية للمسألة السورية وهو النظام السوري الذي استجلب احتلالين ودمّر بلاده وقتل شعبه وهجّر سكانه.
الدعوات إلى خروج حزب الله من سوريا لم تعد من يوميات القوى السياسية اللبنانية التي تصنّف في موقع المختلف أو المعادي لحزب الله، كما أنّ القوى الإقليمية والدولية باتت غير مهتمّة بهذه المسألة ما دام وجود مقاتلي حزب الله لا يشكل أيّ إضرار بقواعد اللعبة التي تدار في جانب النظام السوري بقواعد روسية، علما وأنّ الإدارة الأميركية وإسرائيل كانتا على الدوام تشجعان ضمنا تورط حزب الله في القتال السوري، وإن لم تذهبا إلى حدّ الترحيب الرسمي بوجوده العسكري في العديد من المناطق السورية.
التدخل الروسي المباشر والعسكري قبل نحو عامين في سوريا ساهم إلى حدّ بعيد في تراجع المطالبات السياسية اللبنانية وحتى العربية بخروج حزب الله من سوريا، فيما استمر الموقفان الأميركي والإسرائيلي على حاليهما من دون أي تبدّل، مع استمرار إسرائيل في تصيّد قوافل سلاح حزب الله دون أي رد منه، بل مع مَيل واضح لدى قيادة هذا الحزب إلى اعتماد أسلوب الصمت حتى لجهة الكشف عن الاستهدافات الإسرائيلية له في سوريا، والتي هي دائما تستهدف حصرا ما تعتبره تهديدا لأمنها.
فكما بات معلوما، فإن الجهد العسكري وجحافل المقاتلين من حزب الله الذين يصوبون سلاحهم ضد فصائل المعارضة السورية لا يعتبران هدفا إسرائيليا، فقط الصواريخ التي يحاول حزب الله نقلها عبر الأراضي السورية إلى لبنان وتصنفها إسرائيل سلاحا استراتيجيا تعتبر هدفا إسرائيليا مشروعا بغطاء روسي ورضا إيراني، يفسره امتناع حزب الله عن الرد على العشرات من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قوافل سلاح أو مخازن أسلحة استراتيجية في مناطق قريبة من دمشق.
السمة البارزة في الموقف الإسرائيلي تجاه ما يجري على المقلب الآخر من حدودها الشمالية هي المحافظة على الهدوء على حدودها سواء في الجانب السوري أو اللبناني، وهذا ما يوفره حزب الله في لبنان، أما في سوريا فلا شكّ أنّ المعادلة التي تريدها إسرائيل في الجانب السوري قائمة لجهة الاستقرار الذي لم يهتز فعليا منذ عقود، ولم يتغيّر الحال رغم الحرب الدائرة على امتداد الأراضي السورية، فيما حزب الله وإيران يظهران التزاما بعدم خرق هذا الاستقرار رغم الذرائع التي توفرها إسرائيل لهما للقيام برد على العدوان الإسرائيلي الذي يتكرر بين الفينة والأخرى على مراكز حزب الله كما أشرنا آنفا، علما وأن نظرية تدخل حزب الله في سوريا -كما يكرر قادة حزب الله- تقوم على فكرة ضرب المشروع الإسرائيلي في سوريا، فضلا عن مهمة شق طريق القدس التي قال زعيم حزب الله إنّها تمر من حلب ومن مدن سورية أخرى.
الموقف الإسرائيلي يلتزم الصمت وعدم التدخل العسكري في مواجهة أيّ نشاط إيراني عسكري مباشر أو غير مباشر عبر حزب الله وغيره من الميليشيات، ما دام هذا النشاط يتركز على مواجهة فصائل المعارضة السورية سواء كانت معتدلة أو مصنفة إرهابية، وفي الوقت نفسه بث العديد من التقارير الاستخباراتية عبر وسائل الإعلام التي تشير إلى أنّ حزب الله يكتسب في حربه السورية خبرات عسكرية وقتالية عالية، فيما تتلقف وسائل إعلام “الممانعة” هذه التقارير لتعيد عرضها على جمهورها كوسيلة من وسائل البحث عن مبررات استمرار قتاله في سوريا، وكالنعامة التي تضع رأسها في الرمال تنطلي هذه المقولات الإسرائيلية على بعض الجمهور، الذي تناسى ما فعله تدخل حزب الله في سوريا به.
ذلك أنّ أيّ مراقب يدرك أنّ الحرب مع إسرائيل لم تعد واردة في حسابات حزب الله بعدما صارت إسرائيل عمليا أقل خطرا عليه إذا ما قيس الخطر بالمواجهات التي يخوضها في الميدان السوري والإقليمي، فالشرخ الذي نشأ بالدم بين حزب الله والسوريين بات يشكل مصدر الخطر الأول عليه، بينما الطوائف اللبنانية تتربص به وهو يدرك أن أي حرب مع إسرائيل ستكون فرصة للانقضاض عليه من كل ما هو محيط به. وليس كلام أمين عام حزب الله قبل أشهر سوى تأكيد على ذلك حينما صنف السعودية والجماعات التكفيرية بأنها أخطر عليه من إسرائيل.
من هنا فإن “براعة” حزب الله في صناعة البيئات العدوة له فاقت براعة إسرائيل في ذلك، والصمت اللبناني اليوم حيال تورطه في الحرب السورية يستبطن في جوهره تمنيات بدوام البقاء غارقا في وحولها، بعدما رمى بكل المطالب والتمنيات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية بأن لا يتدخل في دعم النظام السوري عسكريا، في خانة التخوين وفي سلة العداء للمقاومة وصولا إلى اتهام من يطالبه بالعودة إلى لبنان والدولة بأنه إرهابي أو مساند للإرهاب.
التمنّيات بطول القتال في سوريا والغرق في وحولها هما ما يتلقاهما حزب الله اليوم، لا سيما بعدما صار وجوده بلا أفق يمثل انتصارا بل جل ما يتمناه هو الحد من الخسائر، وبعدما صار رهينة الحسابات الدولية والإقليمية والتي تشكل إسرائيل وأمنها ومصالحها، الثابت الأول في هذه الحسابات سواء كانت هذه الحسابات أميركية أو روسية، أو حتى من قبل الأطراف الإقليمية والعربية التي باتت تتعامل مع الخطر الإيراني باعتباره مهددا لاستقرارها الداخلي، كذلك إيران وحزب الله يلتزمان التزاما مطلقا بأولوية حماية الحدود الإسرائيلية من خلال عدم المسّ باستقرارها، ذلك أنّ الطرفين بالمعنى العسكري هما الأكثر قدرة من حيث التسلح على توجيه ضربة موجعة لإسرائيل إذا أرادا ذلك، لكنهما يدركان أنّ تدمير سوريا والتورط في هذه الجريمة هما أقل خطرا عليهما من قيامهما بتوجيه أيّ ضربة عسكرية لإسرائيل.
علما أن إسرائيل هذه “أوهن من بيت العنكبوت” كما يكرّر حسن نصرالله، ويحتاج تدميرها إلى سبع دقائق ونصف كما قال قائد الحرس الثوري الإيراني قبل أشهر. هذا ما يكشف إلى حد بعيد أّن الوجود الإيراني على الحدود الإسرائيلية لا غاية له إلا تأمين مصالح الدولة الإيرانية، فقتال إسرائيل أو خوض مواجهة لتحرير فلسطين لم يكن يوما بالنسبة إلى إيران أمرا يتصل بأولويات الأمن القومي الإيراني بل شعارا غايته التمدد والمساومة عليه في لعبة التفاوض مع الشيطان الأكبر أو لابتزاز بعض الحكومات الإقليمية العربية وغير العربية.
الدعوات لحزب الله بطول البقاء في سوريا لا يشذ عنها إلا السوريون الذين تسبب حزب الله والانخراط الإيراني في الدفاع عن النظام السوري في تهجيرهم وتدمير بيوتهم، أما بقية الأطراف، ولا سيما إسرائيل وغيرها من الدول الكبرى بمن فيها لبنان فتدعو له بطول البقاء على أرض لم تألف وجوده، أرض حوّلها إلى أرض محروقة، لا يتجرأ على أن يدير ظهره لإنسان فيها حتى لو كان من أتباع النظام السوري، أرض استنزفته وتستنزفه رغم أنه حوّل العديد من مناطقها إلى أثر بعد عين. حزب الله غرق في الرمال السورية ولا أحد يريد أن يمد له طوق النجاة لا الأصدقاء ولا الأعداء، فقط إسرائيل تربتُ على كتفيه بالمزيد من الكلام المعسول عن الخبرات القتالية التي اكتسبها وحزب الله الغارق في دمائه والمحاصر بالأعداء يحب أن يصدق ذلك.
إسرائيل تدرك أن حساباتها في الأزمة السورية يتم احترامها، ورغم كل ما يقال عن قيامها بضربة موجعة لحزب الله هو من الإشارات والتحليلات التي تتكرر منذ سنوات، فإنه كلما زادت إسرائيل من وتيرة تهديداتها وحتى ضرباتها لحزب الله، كلما بدا أن حزب الله شديد الالتزام بشروط الأمن على الحدود مع إسرائيل، وكلما استمر حزب الله في تعميق الشروخ داخل البيئة المحيطة بإسرائيل كلما زادت الطمأنينة لدى قيادة الكيان الإسرائيلي، وهذه المعادلة قابلة للاستمرار وكفيلة بأن تحوّل النفوذ الإيراني في سوريا بالمعنى الاستراتيجي إلى عنصر أمان لإسرائيل لن تفرط فيه بسهولة.
بعد فوز إيمانويل ماكرون برئاسة فرنسا كان هناك شبان من أصل عربي في محيط ساحة اللوفر الباريسية يرقصون ويغنون بالفرنسية «سنبقى في فرنسا». ولا شك أن المهاجرين إلى فرنسا من أصول عربية، وعددهم كبير، ارتاحوا لخسارة مارين لوبن زعيمة حزب اليمين العنصري المناهض للهجرة والمؤيد لإغلاق الحدود، وكذلك ارتاحت المنطقة العربية التي تخوفت من أقوال لوبن العنصرية ضد المسلمين وعدد من الدول العربية.
بعد أربعة أيام يتسلم ماكرون مفتاح قصر الإليزيه وأسراره من فرانسوا هولاند. والأمل أن يبقى على نهج سلفه في مواقفه من الصراعات العربية وفي طليعتها سورية. فخبرة ماكرون في السياسة الخارجية محدودة. ولكنه كثيراً ما يستشير كبار المسؤولين السابقين في السياسة الخارجية في بلده ومن بينهم وزيرا الخارجية السابقان هوبير فيدرين ودومينيك دو فيلبان والسفير السابق جان كلود كوسران. ولكن هؤلاء كانوا يرون ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية وأنه كان خطأ أن تغلق فرنسا سفارتها في دمشق. وموقف ماكرون من الصراع السوري كان في البداية حذراً جداً عندما زار لبنان ولكنه سرعان ما غيره في حديث إلى صحيفة «لوريان لوجور» اللبنانية، عندما اعترف أن الحل لن يكون مع بشار الأسد وأنه ينبغي جمع كل الأطراف بما فيهم النظام إلى طاولة الحوار. وعندما قام النظام بهجومه الكيماوي على خان شيخون دانه ماكرون بشدة. ومن المتوقع أن يجري ماكرون لقاء ثنائياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بروكسيل يوم ٢٥ أيار (مايو) الجاري، ومن شبه المؤكد أن يثير معه موضوع سورية.
ومن المعروف في كل الأنظمة الديموقراطية أن كل رئيس منتخب يسعى إلى التغيير لأنه يريد إظهار أنه أكثر نجاحاً من سلفه. ولكن في الصراع السوري يعرف ماكرون تماماً طبيعة هذا النظام الذي يقتل شعبه بالكيماوي. كما يعرف ممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأكاذيب روسيا عندما تظهر أنها تسعى إلى حل للصراع السوري في حين أنها متمسكة ببقاء الأسد وتبتدع أفكاراً لوقف التصعيد في آستانة وكأنها ليست طرفاً في الحرب. فروسيا بطائراتها وقنابلها تشعل المناطق السورية وتصعد ساحة الحرب. وماكرون لن يتمكن من المساهمة في إيجاد حل للصراع السوري أكثر مما حاول هولاند إلا بمساهمة حقيقية واستراتيجية من الجانب الأميركي. فأوباما ووزيره جون كيري خيّبا آمال هولاند، الأول بتراجعه عن ضرب المراكز العسكرية لسلاح الجو التابع للنظام السوري، والثاني بتنازلاته للجانب الروسي من دون أي مقابل. أما اليوم فنرى أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون يتفاوض بقوة وحزم أكثر من سلفه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. وربما يستفيد ماكرون من وجود إدارة أميركية جديدة تسعى لحل يوقف الصراع السوري ويوقف نزوح اللاجئين الذين هجّرهم الأسد. حضر أيضاً وبقوة خلال حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية موضوع علاقة فرنسا بدول الخليج. وكانت لوبن تندد بهذه العلاقة وتلوم ماكرون والنظام الذي يأتي منه على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج. وكان رد ماكرون حذراً دائماً في هذا الموضوع وكان يقول إنه يريد علاقات مع كل دول المنطقة بما فيها إيران. لكنه أكد أمراً لم يلاحظه أحد وهو أنه يريد إلغاء الاتفاق الضريبي الذي يربط فرنسا بدول الخليج. وهذا ليس في مصلحة دول الخليج ولا في مصلحة فرنسا. فالدول الخليجية إذا تم ذلك ستتراجع عن الاستثمار في فرنسا. كما ستضطر إلى دفع أموال طائلة من الضرائب على ممتلكات ضخمة. فهذا الأمر يتطلب درساً معمقاً من قبل فريق ماكرون الاقتصادي قبل تنفيذ ما وعد. وفي رأي ماكرون أن دور فرنسا أن تكون لها سياسة مستقلة ومتوازنة تمكنها من التكلم مع الجميع على أن تضمن بناء السلام. وهذا موقف جيد في المطلق ولكن لا يمكن تبنيه في جميع الحالات وهو خصوصاً موقف غير واقعي في الصراع السوري.