حذر مدير وكـالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه”، مايك بومبيو، من أن الولايات المتحدة معرضة أكثر من أي وقت مضى “لخطر هجوم صاروخي نووي من كوريا الشمالية التي تقوم بتصعيد الموقف بشكل غير مسبوق وتحاول أن تعطي انطبـاعا بأنها ترغب في مواجهة مع الولايات المتحدة”.
جاء هذا التصريح عقب إجراء كوريا الشمالية عرضا عسكريا كبيرا وتهديدها بحرب نووية مع الولايات المتحدة، وقيامها بتنفيذ تجربة جديدة رغم التحذيرات، تزامنا مع إجلائها 600 ألف من سكان العاصمة بيونغ يانغ، وإعلانها السعي إلى تطوير صاروخ يصل مداه إلى الولايات المتحدة.
إن توقيت التصعيد الكوري الشمالي قد يكون متعمدا بهدف إحراج وإرباك خطط إدارة دونالد ترامب التي تواجه تهديدات عالمية في مناطق عدة بالعالم، وتحاول التركيز على ملفات إيران وتنظيم داعش، الأمر الذي يجعلنا نشك في أن هناك تنسيقا في المواقف بين إيران وكوريا الشمالية والصـين من أجل تخفيف الضغـوط عن إيران.
فمنذ التصعيد الأخير في شبه الجزيرة الكورية قلص دونالد ترامب من حدة تصريحاته الشديدة تجاه إيران، ويبدو أن هذا يروق لموسكو، ففي حال استمرت الولايات المتحدة بتخفيف موقفها تجاه إيران، قد تساعدها روسيا في مواجهتها ضد كوريا الشمالية خاصة في مجال التجارب الصاروخية.
بالرغم مما تقدم، فإن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيرلسون، يحاول استثمار التصعيد الكوري الشمالي وتحويله إلى فرصة للحصول على الدعم والموافقات اللازمة لاستهداف إيـران. حيث قال تيلرسون مؤخـرا بأنه “من دون مراجعـة شاملة للاتفاق النـووي، يمكن لإيران أيضا أن تفاجئ العالم يوما ما بتجارب نووية”، مضيفا أن إيـران “يمكن أن تسلـك نفس مسلك كوريا الشمالية، لذا يجب ردعها”.
ويبدو أن تصريحات الوزير الأميركي أثرت في موقف الرئيس ترامب الذي بدأ بالعودة إلى التركيز على إيران من خلال التأكيد على إمكانية أن تلغي واشنطن الاتفاق النووي مع إيران بعد أيام من تصريح وزير خارجيته.
عند قيامنا بإعادة تقييم التهديدات بالنسبة للولايات المتحدة من قبل إيران وكوريا الشمالية وباستخدام تقنية الفرضيات المتنافسة، لاحظنا أن الدولتين تتقاربان كثيرا في مستوى التهديد للولايات المتحـدة وللسلم العـالمي، ومن الصعوبة إنتاج حكم تحليلي حاسم في هـذه القضية إلا أنه يمكـن لنا التنبؤ بأسبقيـات الاستهداف من قبل الولايات المتحدة لهاتين الدولتين.
رغم تساوي التهديدات من كوريا وإيران، إلا أنه من المرجح أن تلجأ إدارة ترامب إلى التركيز على الملف النووي الإيراني رغم أن الملف الكوري أكثر خطورة، ويعود ذلك إلى أن ترامب بحاجة إلى موقف أميركي حازم وسهل التنفيذ يردع من خلاله الدولتين، كما أن الولايات المتحدة قطعت شوطا كبيرا في التصدي لإيران، لكنها بحاجة إلى وقت أطول لتنال من كوريا الشمالية.
فالولايات المتحدة حذرت من أن الحرب النووية مع إيران تشكل تهديدا أكبر من تهديد كوريا الشمالية. ومدير الاستخبارات الأميركية يقول إن “إيران ستواجه عملا عسكريا أكثر صرامة من قبل أميركا تحت حكم ترامب”.
وقد يكون الملف النووي الإيراني هو الأكثر إلحاحا بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة مع ميل الصـين وروسيا لدعم الطموحات النووية الإيرانية في وقت تبدي فيه الصين استعدادا لحل الأزمة مع كوريا الشمالية.
أما بالنسبة للتهديد القادم من كوريا الشمالية فإنه يبقى تهديدا مرتفعا إلى حين توفر الظروف المناسبة للاستهداف، وذلك بسبب حساسية وتعقيد الموقف الجيوسياسي المترابط مع قضية كوريا الشمالية.
ومن المرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى زيادة التضييق على الصين لدفعها إلى الضغط على كوريا الشمالية، وذلك عبر سياسة التصعيد العسكري، فالمسؤولون الأميركيون أعلنوا أن بلادهم “أقرب من أي وقت مضى من مواجهة كوريا الشمالية”، كما أكدوا أن “سياسة الصبر الاستراتيجي انتهت وجميع الخيارات مطروحة على الطاولة”.
وبالتزامن مع هذه التصريحات الحازمة وصلت مدمرتان تابعتان للبحرية الأميركية إلى مقربة من أحد المواقع النووية لكوريا الشمالية، إضافة إلى قاذفات للقوات الجوية الأميركية في جزيرة غوام.
مضحك مبك أن يطالب وفد المعارضة السورية في مذكرته إلى اجتماعات آستانة، بأن تنسحب قوات النظام السوري إلى حدود 30 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أي تاريخ بدء سريان وقف النار الذي رعته روسيا مع إيران وتركيا، والذي استولد اجتماعات الأربعة في العاصمة الكازاخية.
فور توزيع مذكرة فصائل المعارضة المسلحة بمطالبها إلى الدول الضامنة لوقف النار، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي سخرية، نظراً إلى التشبيه المأسوي بالمطالبة العربية بالانسحاب الإسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
وفيما قصدت الفصائل المعارضة وقف الخرق الواضح من قبل النظام لوقف النار واستعادة المساحات الجغرافية التي احتلها في ظل الوقف الهش للنار، فإن السخرية السوداء حول هذا المطلب، تخفي ما هو أدهى في اجتماعات آستانة التي انعقدت على وقع مسودة المقترحات الروسية التي طرحت قيام 4 مناطق سميت «مناطق تخفيف التصعيد». وهي محافظة إدلب شمال حمص، الغوطة الشرقية، وجنوب سورية. لا يشي الطرح الروسي إلا بأنه يرسم حدوداً لبعض مناطق النفوذ الراهنة في «سورية المفيدة»، بين المعارضة والنظام، تتولى مراكز مراقبة دولية الإشراف على خطوط التماس بينها، مع ما يعنيه ذلك من إمكان استئناف الاشتباك بينها، على رغم أن المقترحات صيغت باسم تثبيت وقف النار.
ومع أن موسكو اكتفت بتسريب «المقترحات» ولم تتبنها إلا الأربعاء، بعد اتصال فلاديمير بوتين بدونالد ترامب، فإن توزيعها المناطق على هذا الشكل، ترك مناطق أخرى لمصيرها، مثل الشمال، حيث يوجد الأتراك والأكراد والأميركيين (شرق الفرات)، و «الجيش السوري الحر» وفصائل إسلامية، و «داعش» و «جبهة النصرة»، والرقة ودير الزور، وحمص وشمالها وحلب وغربها (حيث القصف مستمر)، ودمشق ومحيطها والمناطق المحاذية للبنان (من الزبداني إلى القصير) حيث يوجد «حزب الله» وإيران وسائر ميليشياتها المتعددة الجنسيات. هذا يعني أنها تسلم بالسيطرة عليها للفرقاء الخارجيين والمحليين الآخرين. أما ضم الجنوب إلى المناطق الآمنة فهدفه إبعاد إيران تطمينا لإسرائيل. وبعدما كان التعاون الروسي الأميركي في عهد باراك أوباما لا يتعدى «إدارة الحرب السورية»، بات الآن «إدارة تقاسم النفوذ» في سورية المفيدة، إلى أن يتفق بوتين مع ترامب.
توحي موسكو باستعدادها لملاقاة واشنطن حول طرح دونالد ترامب «المناطق الآمنة» منذ 4 أشهر، وتحوله خياراً بعدما تناوله فلاديمير بوتين في مكالمته مع الرئيس الأميركي الأربعاء، والذي أعقبه الرئيس الروسي بتصريحه أمس أثناء لقائه رجب طيب أردوغان، بأن الفكرة «تحتاج إلى مزيد من العمل». لم يظهر هذه المرة سيرغي لافروف ليستخدم براعته الديبلوماسية في استبعاد المناطق الآمنة، كما جرت العادة حين كرر أردوغان والمعارضة ودول الخليج العربي طرحهم في السنوات الماضية. كان هدفه إبقاء اليد العليا لطائراته كي تقصف وتقتل وتدمر.
استبق بوتين وضوح نيات واشنطن، ونسب «تبلور» مبادرته إلى «مناقشة المشاكل الحساسة للأزمة مع الشركاء في تركيا وإيران وداخل سورية نفسها». تنكّر لصدورها عن ترامب والآخرين، وترك غموضًا عندما ربط نجاحها بحظر جوي، مشترطاً لتحقيقه وقف النار على الأرض، فيما الحظر الجوي هدفه وقف وحشية النظام عبر البراميل المتفجرة واستخدام الكيماوي من الجو. في انتظار اتضاح الألغام التي زرعها الكرملين أمام عملية التطبيق، أنقذت موسكو صيغة آستانة، التي كاد إخراج الأميركي أنيابه في مطار الشعيرات يقضي عليها بصفتها إطاراً يتحكم به الدب الروسي. رمت الطعم لإيران وتركت المناطق التي تقع تحت نفوذها معلقة، محتفظة بالموقف من وضعها العسكري اللاحق في حال جرى تثبيت مناطق النفوذ الأربعة، فطهران ليست مستعدة لتسهيل مشاريع الحلول التي يمكن أن يتفق عليها حليفها الروسي مع خصمها الأميركي الذي يلح على خروجها و «حزب الله» من سورية. وطهران، مثل موسكو، تسابق على طريقتها المناطق الآمنة الأميركية، وتسعى إلى حماية الرقعة التي شاركت بشار الأسد في إحداث تغييرات ديموغرافية فيها. والحزب سعى إلى إعادة نازحين في لبنان إلى بعض مناطقهم المحاذية للحدود، لتصبح مناطق إيرانية آمنة. وكل هذا يفسر إبقاء واشنطن على مقعدها بصفة «المراقب».
الأهم في المبادرة الروسية نصها على نشر وحدات عسكرية تابعة لدول مراقبة، وهو أول إيحاء بالموافقة الروسية على إرسال قوات دولية من دون نشرها يستحيل ولوج الحل السياسي جدياً. وهذا يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن يسبقه اتفاق أميركي لن يصدر إلا بعد أن يتأكد من أن النقاش الحاصل في بعض الدوائر المغلقة بحثاً عن بديل للأسد، بعد نقله إلى «بلد آمن» مع بعض حاشيته، انتهى إلى نتيجة.
خفضٌ للتوتر أو العنف، هو أحدث المصطلحات التي سيكون على الشعب لسوري تجرع الموت من خلالها، بعد تجارب كثيرة مع مصطلحات أخرى كان آخرها هدنة أنقرة، في العام المنصرم، وأولها كان في جنيف 2012.
تتقاسم الدول الثلاث (روسيا-تركيا-ايران)، المناطق التي ستكون مشمولة بهذه الصفة الجديدة، فروسيا تريد أن تكون قاصمة هذه المرة، وتحت جنحها تقبض على الغوطة الشرقية، بعد إنهاء الأحياء الشرقية من دمشق، وأن تكون إدلب تحت مخالبها، بعد السيطرة على محيط جسر الشغور ومركزها، وذات السيناريو في خان شيخون.
أما إيران التي تلهث بلا استراحة، خلف ما تبقى من ريف حماة الشمالي، وريف حلب الجنوبي، مع أجزاء ذات أهمية استراتيجية من ريف حلب الغربي، ضماناً وحماية لنبل والزهراء.
أما تركيا الطامحة لزيادة تحصين حدودها، والحفاظ على عمقها الاستراتيجي القومي في جبل التركمان، ومحيط إدلب القريب، فالثلاثي يحشد، منهم من بدء (روسيا وايران)، ومنهم من هو على شفا البداية.
في ظل ذلك كله، تجلس المعارضة السياسية، بكامل أطيافها وقومياتها، تتباحث حول رئيس الائتلاف الجديد، والفريق المرافق له، مع وجود بعض اللطمات على الخدود نتيجة استغلال الدول الكبرى الفراغ الحاصل بين انتخاب رئيسين.
بين هذين المشهدين يقبع المواطن السوري، ساعياً لفهم ما يحدث، وهل سيكون من ضمن المناطق الداخلة في كذبة خفض التوتر، أم في تلك المناطق الواقعة تحت بند الأشد عنفاً.
إعلان البيت الأبيض أن الرئيس دونالد ترمب سيقوم بزيارته الخارجية الأولى، والسعودية في محطاته الرئيسية، هي رسالة تعبر عن ترتيب اهتمامات وأولويات سياسته الخارجية التي تبدلت كثيراً.
تبدلت العلاقة مع السعودية منذ انتهاء رئاسة باراك أوباما الذي، وحتى آخر زيارة قام بها إلى الرياض في العام الماضي، كانت في أسوأ زمن لها منذ أكثر من نصف قرن. وبقدوم إدارة ترمب نلحظ التصحيح على كل الجبهات، سوريا وإيران واليمن والعلاقات الثنائية.
وقد حدد الحديث التلفزيوني لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، المواقف من هذه القضايا التي يتوقع أن تكون ضمن محادثات الرياض. ففي سوريا، قربت الرياض المواقف من أجل حل سياسي لا يعطي النظام وحلفاءه يداً طليقة هناك، حل يرضي الروس أيضاً. وها نحن نسمع في مفاوضات آستانة تطورين مهمين؛ الموافقة على فرز الفصائل الوطنية عن الإرهابية، والثاني الاستعداد لإقامة مناطق آمنة، وهي من وعود ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وعن حرب اليمن، التي يعاني التحالف من فقر إعلامي في توضيحها وتبريرها، كان الأمير مقنعاً، عندما اعترف بشجاعة بأن الاستعجال في تحرير صنعاء وغيرها قد يوقع ضحايا كثيرة من الجانبين. قال: «الوقت في صالحنا ولسنا مستعجلين، يمكننا تحريرها في يومين بثمن بشري كبير، أو نحررها بتمهل بخسائر أقل».
وإيران هَمّ كبير مشترك، عند الحكومتين السعودية والأميركية، وكثير من حكومات المنطقة. وقد حدد الأمير محمد رؤية الحكومة وسياستها حيالها. قال إن تاريخ العلاقة لا يدع مجالاً للتخمين بأن إيران تستهدف السعودية بلداً ونظاماً، حتى في مراحل التقارب، وأن السعودية ستنخرط في الدفاع عن وجودها، ولن تبقى فقط في حالة دفاع مستمرة. وكان الرئيس ترمب أرسل رسائل واضحة ضد سياسة نظام طهران منذ توليه الرئاسة، في العراق وسوريا واليمن ومياه الخليج.
ترتيب العلاقات الإقليمية، كان يعني العلاقة مع مصر بالدرجة الأولى. وفي حديثه التلفزيوني المثير مر ولي ولي العهد السعودي سريعاً على جماعة الإخوان عندما أشار بأصبع الاتهام إلى الإعلام «الإخوانجي» بأنه خلف تضخيم الخلاف السعودي - المصري. حديثه أنهى التخمينات حول العلاقة مع القاهرة؛ سحابة صيف عابرة.
و«الإخوان» مشكلة عامة وليست خاصة بدولة واحدة في المنطقة. هذه جماعة سياسية تستخدم الدين للوصول إلى الحكم، وهي تشبه الشيوعية في كونها حركة أممية، بما يجعلها على خلاف مع معظم الأنظمة في المنطقة.
و«الإخوان» جماعة متضامنة، من جنسيات خليجية ومصرية وسودانية وتونسية وغيرها، تشن حروباً جماعية، وقد جربت الجماعة محاصرة الحكومة المصرية إعلامياً، وإثارة الشعب المصري عليها، وتحريض شعوب المنطقة ضد أي علاقة معها. ورغم تمكينها من عشرات محطات التلفزيون، والمواقع، و«السوشيل ميديا» فشلت. اليوم، الحكومة المصرية أقوى مما كانت عليه عندما أسقطت حكومة محمد مرسي قبل أكثر من ثلاث سنوات. لقد فشل مشروع «الإخوان» في مصر، وزادهم خسارة أن الرئيس ترمب عكس سياسة بلاده مما كانت عليه سياسة أوباما الذي قاطع حكومة عبد الفتاح السيسي، وحاول التضييق عليها.
خلافة بشار الأسد ليست عقدة، بل مقدمة لحلّ ربما لن يكون واعداً بالقدر المطلوب، أمّا العقدة فهي في عقول المكلّفين بإيجاد هذا الحل. والبداية تكون من الإقرار بأنّ مسألة بقاء الأسد مرتبطة ارتباطاً مباشراً بمسألة الأقليات في البلاد، وهذا بدوره ما يصعّب مهمّة البحث في إقصائه وإقصاء عائلته عن الحكم، نظراً إلى تلاعبه بورقة الأقليات وادّعائه حمايتها، وهكذا، انتشرت فكرة الإبقاء على الأسد في الأوساط الغربية.
بيد أنّ هذا الأمر لا يعدو أن يكون هروباً من مواجهـة التخلص من حكم آل الأسد، وهو هروب يعزّزه الهذر عن فراغ في السلطة وانهيار مؤسسات الدولـــة في حال رحيلهم، إضافة إلى رواج السيناريو التــرهيبـــي القائل بأن الإسلاميين هُم الذين سيحلّون محلـــهم. وما يغيب عن البال هنا هو أنّ على سورية، كياـــناً وجماعات، أن تستأنف ما انقطع من تجربتها السياسية القصيرة إبّان حقبتَي الانتداب الفرنسي والاستقلال، وذلك في سعيها نحو الاستقرار من جديـــد، وهـــذا ما لا يتحقق من دون التخلص من الأسد. وفي هذا كلّه، لا يفيد التأجيل والمراوغة، ذاك أنّ هذه المواجهة هي أمر محتوم، سواء اليوم أو غداً.
هكذا يتبدّى أنّ حلّ مشكلة الأسد يكمن في فكّ ارتباطه بمسألة الأقليات، وهذا أمر ممكن في حال اقتناع الغرب بأنّ الأسد هو خطر على الأقليات، وفي حال نضوج وعي سوري بمسألة الأقليات أيضاً. وفي هذا السياق هناك اقتراحات عدّة تفيد في تحقيق هذا الهدف، يمكن تضمينها في دستور البلاد الجديد، كالتشديد على حقوق الجماعات وتمثيلها السياسي، والتخلي عن الدولة المركزية لمصلحة صيغة أقرب إلى الفيديرالية. لكن في كلّ ذلك يبقى لمنصب الرئاسة حساسيته الخاصة. من هنا، يمكن التفكير باعتماد صيغة توافقــــية تشبه الصيغة اللبنانية التي كان رائدها رياض الصلح، بما يعني أن تعتمد سورية نظام حكم برلماني بدلاً من الرئاسي، وهذا ما يسمح بإنشاء عُرف يُبقي منصب الرئاسة للأقليات في سورية، بعد أن تتم إعادة رسم العلاقة ما بين منصب الرئاسة وبين مؤسسة الجيش، عــــبر الدستور. وهذا ما يفرض بالتالي ضرورة التخلّص من عقدة الأقليات في الجيش، باعتبار أنّ نواة الجيش الوطني قامت على ضباط من الأقليات لعبوا أدواراً وطنية قبل أن تخرج الأمور عن مسارها في مرحلة الانقلابات ومن ثمّ البعث.
والأرجح أنّ أغلب تشكيلات المعارضة لن ترضى بذلك، وهنا عقدة جديدة، فهناك شكل من أشكال الثأرية الطائفية في البحث عن بديل الأسد. بيد أنّ تاريخ سورية القصير ما قبل البعث يفيد بأنّ منصب رئيس الحكومة كان موازياً لمنصب الرئيس، وفي أحيان كثيرة أكثر فاعلية وأهمية، وفي تجارب كلّ من جميل مردم بك وخالد العظم دلالات على ذلك، فعدا عن أنهما كانا منافسين دائمين لرئيس قوي هو شكري القوتلي، لم يتمكن هذا الأخير من تحجيمهما ومن عدم الاتكال على خبرتهما.
أخيراً، يمكن منصب الرئيس – الأقلية أن يساهم في تطوير شخصية البلاد السياسية إذا صحّ التعبير، فانطلاقاً من تاريخها السياسي، يمكن القول إنّ سورية في حاجة إلى صيغة تحدّ من اندفاعها التاريخي نحو عروبة متطرفة، فضلاً عن حاجتها اليوم إلى ما يُوازن علاقتها بالإسلام السياسي.
نافل القول، أنّ عودة سورية لتكون مصنعاً لرجالات دولة، يضمنون استقرارها وعودة الحياة إليها يتوقف على رحيل آل الأسد.
البحث جارٍ عن صيغة يرحل بشار الأسد في نهايتها، لكن متى وكيف. لا بدّ أن يرحل بـ «طريقة منظّمة» كما يقول الأميركيون، لكن من دون أن «يُحدث فوضى» كما ينصح الروس الذين تقع على عاتقهم مهمة ترتيب أو «تنظيم» رحيله. الكل يؤكًد أن لا مستقبل له في سورية، أما الصياغة الأحدث فهي: يبقى النظام لكن ترحل العائلة. وللأسف، ثمة اقتناعات محسومة من زمن، لكن سياسات الدول الفاعلة تبرزها أو تحجبها حسب الظروف: بقاؤه = لا حل. بقاؤه = لا إعادة إعمار بل مزيداً من الدمار، ولا عودة للاجئين بل مزيداً من التهجير. بقاؤه = بقاء روسيا وإيران، والمجتمع الدولي يقبل روسيا على مضض اذا كانت مستعدّة للإنخراط في إنهاء الصراع كما في محاربة الإرهاب، ولا يقبل إيران لأن مصالحها مبنية فقط على التخريب من خلال استمرار الحرب. بقاء الأسد + إيران = استمرار الإرهاب، كونه يتغذّى من وجودهما ويستفيدان منه، لكن حتى أميركا- ترامب لا تبدو مُقبلة بعد على كشف الدور الأسدي- الإيراني في تصنيع الإرهاب.
حتى التداول بـ «بورصة أسماء» لخلافة الأسد، وهي أربعة الى خمسة أسماء لشخصيات علوية، لا يبدو جدّياً بعد، بدليل أن أي عودة الى تفاهمات أميركية- روسية ليست قريبة، ولو أنها متوقّعة، ولن تكون أولاً على «البديل»، فهناك عقبات لا بد من تذليلها، فمن جهة يُفترض حسم التحضير لمعركة الرقّة ودير الزور و «ما بعد داعش» فيهما وكذلك احتواء التوتّر المتصاعد بين تركيا والأكراد، ومن جهة أخرى ينبغي ضبط حركة الصراع الداخلي بفرض وقف لإطلاق النار يلتزمه النظام والإيرانيون. وفي النقطة الأخيرة قد تعمل روسيا على تصويب مسار آستانة بإشراك دول عربية في ضمان لهدنة ومراقبتها، وإذا صدق ذلك فسيكون محاولة أولى جدّية لوقف الأعمال القتالية، أما اذا نجح كما هو مؤمل فسيكون مهمّاً أيضاً أن ينعكس على أداء وفد النظام في المفاوضات السياسية، وإن كان كثيرون يعتبرون أن استمرار بشار الجعفري في رئاسة الوفدين الى آستانة وجنيف يعني حكماً أن النظام لا يزال يناور.
غالبية الأسماء المطروحة من المدنيين، لكن الأرجح أن «البديل» سيكون عسكرياً ليتمكّن من التعامل مع تداعيات «الرحيل» داخل النظام، ومن طمأنة الطائفة العلوية التي راهنت طويلاً على الأسد، قبل أن يتحوّل العديد من أبنائها من الضباط أمراء حرب يقودون ميليشيات موازية للجيش، ولعلها كغيرها من الطوائف تسأل الآن كم سيقتل وكم سيدمّر وكم سيعمل على تعقيد إنهاء الحرب، قبل أن يرحل، وفي أي حال سيتركها حين يرحل. فالميليشيات المنبثقة من الطائفة تتوزّع بين الروس والإيرانيين وفق مصالح قادتها المتنافسين على التربّح من تجارات شتى في مناطق سيطرتهم باسم النظام. والمؤكّد أن الروس الذين تمسكوا طويلاً بالأسد، واعتقدوا أنهم يستطيعون فرض بقائه بالضغط على الأميركيين، فشلوا في مساعدته على التأهل عسكرياً وسياسياً لهذا البقاء. لكن ها هم الآن يشاركون في درس «البدائل» ولو أن أحداً لا يصدّقهم، ويخشون ردود فعل الأسد والإيرانيين في حال اتّضح اعتمادهم معادلة «رحيل الأسد مقابل بقاءالنظام»، خصوصاً أنهم يعرفون تركيبة هذا النظام وارتباطها بعائلة الأسد.
الواقع أن القوى الدولية تبحث منذ بدايات الأزمة عن توازنات مستعصية إنْ لم تكن مستحيلة لإنتاج تسوية. فهي تريد أولاً الحفاظ على الدولة والمؤسسات، ولأجل ذلك منعت انهيار النظام. وهي تريد ثانياً معارضة موحدّة و «علمانية» تكون قيادتها قابلة إما للتفاهم معها أو الضغط عليها. ومع الوقت أصبح الهدف الأول أشبه بكذبة أو خرافة، لأن النظام نفسه استفاد من الدولة الى حدٍّ كبير ولم يبقِ منها سوى الواجهة التي تظهره كواجهة معترف بـ «شرعيتها»، علماً أنه لا يحترمها أصـــلاً واعتبرها دائماً أداةً في خدمة النظــام، وإذا كان يتعامل مع الأطراف الخارجية على أنه «دولة» فإنه لم يتعامل يوماً كـ «دولة» مع الشعب بل «آلة للقمع» صارت لاحقاً «آلة للقتل».
ولم يكن متوقّعاً أن يساهم التدخل الإيراني في إعلاء شأن الدولة بل اخترق الجيش والأمن اللذين يشكّلان أهم «مؤسساته»، أما روسيا التي جعلت من الحفاظ على الدولة حجّة رئيسية لإقناع الأطراف الدولية الأخرى بضرورة الحفاظ على النظام (أي على الأسد) ففرضت مصالحها على ما تبقّى من الدولة، وهي نفسها تتخوّف من انهيار «الدولة» إذا رحل الأسد.
أما بالنسبة الى المعارضة التي كان عليها أن تبدأ من الصفر، ومن دون أي مقوّمات ذاتية سوى صمود شبابها وتعرّضهم لأعتى أنواع العنف من جانب النظام، فإن اعتمادها على دعم القوى الدولية كان اضطرارياً وحتمياً، وكانت هذه القوى وتناقض أهدافها مصدر بلبلة وتشويش للمعارضة أكثر منها عنصراً يحفّزها على توحيد صفوفها. فالتلاعب الخارجي المبكر بمكوّنات المعارضة ومنعها من إسقاط النظام أو تهديده، وكذلك غموض موقف الإدارة الأميركية السابقة من الأسد وتحذيرها من استشراء الإرهاب والطائفية، أدّت جميعاً الى عكس الأهداف المتوخّاة. ففيما كانت واشنطن تبدي خشيتها من «أسلمة الثورة» وتمكين الإرهاب من اختراق صفوفها كان النظام يرتكب أبشع مجازر التهجير الطائفي ويفتح ممرات لدخول «داعش» الى مناطق المعارضة مستغلاً حجب التسليح عن «الجيش السوري الحر».
المفارقة أن القوى الدولية لم تكن هي نفسها موحّدة الرأي والموقف فيما كانت تشكو من أن المعارضة متعدّدة الرؤوس والأصوات الاتجاهات، بل إن التيئيس والخذلان وإطالة الأزمة دفعت ببعض الفصائل (راضية أو مضطرّة) الى أسوأ الخيارات بالتعاون أو التحالف مع «جبهة النصرة». هناك اقتناع متزايد الآن لدى المعارضة والفصائل بفكّ أي ارتباط مع هذه «الجبهة» وأجندتها «القاعدية»، وقد ظهر في اشتباكات الغوطة الشرقية، كما في اتصالات تخوضها جهات إقليمية لسحب «النصرة» من إدلب لتجنيبها مصير حلب. وما أدركه المراقبون المطّلعون على الوضع الميداني أن العبث الخارجي بالصيغة التي بلورها «الجيش السوري الحرّ» في بداياته كان عاملاً حاسماً في بعثرة وحداته وتفكيك تماسكه، ولم تكن صدفة أن الطيران الروسي ركّز، منذ أواخر 2015، على تصفية ما تبقّى من مناطق وجيوب في يد هذا الجيش، فهو ليس إرهابياً ويعتبره النظام والإيرانيون أكثر خطراً عليهم من «داعش» أو أي تنظيم إرهابي آخر سيُقضى عليه في نهاية المطاف.
في أي حال، إذا كانت التوازنات مستحيلة فكيف تكون «الحلول» المستخلصة منها ممكنة؟ وبعدما أصبح النظام و «دولته» مكشوفَين أمام الجميع، وبالأخص الروس والأميركيين، كيف يمكن موسكو مواصلة التفكير في دعوة المعارضة الى القبول بـ «حكومة» مع الأسد، وبصيغة تحجم حتى عن اعتبارها موقّتة؟ فمثل هذه الحكومة تناسب الوجود الروسي لمواصلة إدارتها للأزمة ولا تناسب سورية، وبطبيعة الحال فإن أي حلّ بوجود الأسد ليس حلّاً. في الفترة الأخيرة تأكّد لموسكو، مثلاً، أن مسار آستانة لا قيمة له ما لم تشـــارك فيه فصائل المعارضة، وتأكّد أيضاً أن الدول الداعمة لا تستطيع ولا ترغب في الضغط على الفصائل ما لم تكن هناك صدقية لهذا المسار ووظيفته المعروفة. هناك ملامح تغيير في الموقف الأميركي لن تُعرف حقيقته إلا متى أعلنت واشنطن استراتيجيتها خلال هذا الشهر أو متى بدأت تطبيقها من دون الإعلان عنها، لكنها في الانتظار لا تبدي اهتماماً بمساري آستانة وجنيف، كما لو أنها تراقب أداء روسيا والنظام وإيران قبل عرض أفكارها.
لا يمكن، وفق المعطيات الحالية، التحاور مع إيران، إلا أن الحرب معها ليست حرباً وجودية، لا تنتهي إلا بسحق طرفٍ الطرف الآخر، فهي، وإن كانت عقائدية، في لغتها وأدواتها، إلا أنها حرب جيوسياسية في النهاية، تهدف إلى مد النفوذ والهيمنة.
هناك تناقضاتٌ في بنية النظام الإيراني الحالي، وبنية أنظمة الخليج، يعقّد سبل التحاور والتوافق. فالثورة الإيرانية قامت ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، رجل الولايات المتحدة في المنطقة، لترفع شعارات "الموت للشيطان الأكبر"، بينما كانت معظم دول الخليج تحت الانتداب البريطاني تاريخياً، ودخلت بعد استقلالها في تحالفاتٍ مع الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة.
هذا التناقض البنيوي جعل التواصل بين الطرفين، على أرضية مشتركة، محالا. وما زاد الأمر تعقيدا، أن النظام الإيراني ثوري وطائفي. ثوري بمعنى السعي إلى تغيير الأوضاع القائمة، وطائفي ببنيته، وأدوات تمدّده. ولم تكن طائفية نظام طهران، وعقائديته، لتصبح مشكلةً لجيران إيران، لو جُرّدت من طموحات الهيمنة والتمدّد. ستكون وقتها مشكلةً داخليةً إيرانية، تتعلق بالاستبداد، وحقوق الأقليات الدينية والمذهبية.
في كتابه "الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988: قراءة تحليلية مقارنة"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يذكر الباحث العراقي والعسكري السابق، عبد الوهاب القصّاب، عدة أهداف عراقية لخوض الحرب مع إيران. يذكر منها "إيقاف مد تصدير الثورة" و"إسقاط اتفاقية الجزائر" و"استعادة أراضٍ عراقية اعترفت اتفاقية 1975 بعائديتها إلى العراق"، ولم يُعِدها نظام الشاه إلى بغداد، ورفض الخميني إعادتها بعد الثورة، إضافة إلى "إضعاف حكم الملالي في إيران"، ومحاولة إبعاد "التأثير السلبي لنظام الخميني على شيعة العراق والخليج العربي". تتعلق كل هذه الأسباب بالتمدّد والهيمنة بصورة أو بأخرى.
كان من الممكن، نظرياً، إيجاد تقاربٍ مع إيران، بعد تجرّع الخميني السم، وتدمير قدرات إيران العسكرية في 1988، بعد تحرير العراق أراضيه المحتلة، وتطبيق إيران اتفاقية الجزائر التي لم تطبق سابقاً.
حدث هذا التقارب، وشهدت المنطقة انفتاحاً إيرانياً على الخليج في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الأوضاع السياسية تحوّلت بشدة بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وفرض إيران هيمنتها على العراق، من خلال الأحزاب السياسية الطائفية الشيعية الموالية لها. فعّل هذا التحول من جديد أحلام إيران بتصدير الثورة، التمدّد والهيمنة، والتي ذوت على وقع هزيمتها في 1988.
لم تكن للنظام العراقي آنذاك أوهام حول رغبة الخميني في تثوير الشيعة في العراق. ووجّه الخميني، بحسب القصاب، برقية إلى محمد باقر الصدر، يطلب منه "التهيؤ لقيادة الثورة الإسلامية في العراق". علاوة على تعامل نظام الثورة في إيران بشكل غير لائق مع محاولات القيادة العراقية التواصل مع طهران. ما حدث بعد 2003 يجدّد تأكيد التمسّك الإيراني بـ "تصدير الثورة" تحت لافتة "دعم الشعوب المستضعفة".
تبدو الأوضاع الاستراتيجية مختلفة اليوم، فالدرس الذي تعلّمته إيران من الحرب العراقية يتلخص في نقل معاركها إلى الدول العربية، حتى لا تضطر إلى الدفاع عن أراضيها، فعمدت إلى إيجاد مليشيات موالية لها في العراق ولبنان وسورية، وحاولت مد هذه التجربة إلى اليمن، والذي استخدمته ورقة ضغط على الخليج، أكثر من اعتبار الهيمنة على اليمن أمراً وارداً.
لا يوجد ما يجعل الحوار ممكناً اليوم مع طهران، فالدول العربية في أوج ضعفها، والمنطقة باتت مسرحاً لتنافس أميركي - روسي يشبه التقاسم الفرنسي - البريطاني قبل مائة عام. ويبدو أن مفتاح الحل لإجبار إيران على التراجع، هو شقّ صف الإسلام السياسي الشيعي في العراق، لتصبح الخلافات شيعية - شيعية، بدلا من الدخول في محاور طائفية، وهذا ممكن. إضافة إلى سحب سورية من المعادلة الإيرانية. بهذا فقط، يمكن أن يتحاور العرب مع طهران، وتصبح العلاقات العربية - الإيرانية علاقة تجاور.
بعض المراقبين اعتبر أن موقف ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من إيران الذي عبّر عنه في حواره مع برنامج «الثامنة»، أول من أمس، بمثابة تصعيد، وأشبه بإعلان حرب على طهران. وهو قال: «كيف تتفاهم مع نظام قائم على أيديولوجيا متطرفة منصوص عليها في دستوره، وفي وصية الخميني»، وأنه «يجب أن يسيطر على العالم الإسلامي، ونشر المذهب الجعفري الاثني عشري الخاص بهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتى يظهر المهدي المنتظر، هذا كيف أقنعه»؟ وأضاف الأمير: «لن يغيّر رأيه في يوم وليلة وإلا انتهت شريعته داخل إيران، فما نقاط الالتقاء التي يمكن التفاهم فيها مع هذا النظام، تكاد تكون ليست موجودة». وزاد: «تمّت تجربة هذا النظام في أكثر من مرحلة (...) هذا لن يحدث، هذا انتهى. المؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرتين، لُدغنا مرة، ومرة ثانية لن نلدغ، ونعرف أننا هدف رئيسي للنظام الإيراني، الوصول إلى قبلة المسلمين هدف رئيس للنظام الإيراني، لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية بل سنعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران وليس في السعودية».
الأمير محمد بن سلمان لم يقل أننا في حرب مع إيران. السؤال كان عن إمكان إجراء حوار مباشر مع النظام الإيراني، وهو شَرَحَ تجربة السعودية في حوارات سابقة مع الإيرانيين، وأوضح أن السياسة الإيرانية تستند إلى مفاهيم غيبية، لا مكان لها في عالم السياسة، وعلاقات الدول القائمة على المصالح. وأشار إلى أن طهران، من خلال تجربة السعودية معها، تشتري الوقت، تعلن شيئاً وتبطن نهجاً آخر مختلفاً عمّا يقال في جلسات الحوار. وهو قال بوضوح أن الرياض لن تسمح بأن «تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران».
لا شك في أن إعلان الحرب لا يحتاج إلى مواربة. الأمير محمد بن سلمان خاطب طهران بمنطقها، وقال أن الرياض سعت إلى التفاهم معها، ولم تنجح، والحوار المقبل لن يحدث إلا إذا غيّرت طهران سياستها القائمة على دعم الميليشيات الانفصالية في دول عربية، واعتماد مبدأ التوسُّع في المنطقة.
الأكيد أن الرياض حاولت خلال مرحلة الرئيسين محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني إقامة علاقات حسن جوار مع الجارة إيران، لكن الأيام أثبتت أن النظام الإيراني ينطبق عليه قول الإمام الشافعي: «لا تحاول أن تقنع من لا يريد أن يقتنع». ولهذا عبّر الأمير عن لغة الرياض الجديدة تجاه طهران.
العالم يتغير وأمام أمتنا مهمات عملاقة تؤديها وفق رؤى وخطط وبرامج، الاستفاقة حاضرة لكنها مطلوبة من الجميع، إن كانت قيادات سياسية أو عسكرية مع اقتصاد فاعل وإعلام ينبغي أن يكون حذرا أثناء السير في حقل ألغام المحور الإيراني.
العراق وطن محتلّ من إيران على طريقة تقية الملالي، مرتهن لجمهورية إيران الإسلامية، مختطف من تنظيم الدولة الإسلامية لولي الفقيه المرشد الإيراني خامنئي، يخضع لأوامر الحرس الثوري وقائد فيلق القدس قاسم سليماني بصفته الرسمية مستشاراً لرئيس الوزراء حيدر العبادي لشؤون الأمن الوطني، مستقبله في قبضة السفير الإيراني الجديد إيرج مسجدي وهو المستشار الأعلى لسليماني ومطلوب على لائحة الإرهاب الدولي. بتعبير أدق إنّ العراق عسكريا وأمنيا وسياسيا ودبلوماسيا في مقدمة المجال الحيوي لمشروع الإمبراطورية الإيرانية وأطروحاتها المذهبية التي ملأت المنطقة وشغلت الناس بجرائمها وإباداتها وفِتَنِها حتى استحقت عن جدارة لقب الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم. إذن من الطبيعي أن يكون العراق مصدرا للخطر الإيراني على الأمة العربية.
للميليشيات والعصابات المنتشرة، على اختلاف أعدادها وولائها وأهدافها ومنها تنظيم داعش، أساليب مشتركة وهي جميعاً، ودون استثناء، جزء من إفرازات الانفلات الأمني بعد الاحتلال الأميركي وتغييب الجيش العراقي وأجهزة الأمن الداخلي كمؤسسات وطنية تراكمت خبرتها على مدى عقود من الكفاءات والتجارب التي تستند على ركائز مهمة في التعليم والتدريب.
الميليشيات صناعة إيرانية بامتياز، تم إعدادها وتجهيزها ودعمها لتخوض حربا ضد وطنها الأم وبذات الشعارات الطائفية ومنذ بدايات تصدير ثورة الخميني، لكنها اتسعت لتشمل المعنى الواسع للإرهاب، من السرقات الصغيرة إلى الفساد المستشري وظاهرة نقاط التفتيش التابعة لقوى دينية وسياسية مارست الاغتيالات والاختطافات والمساومات المالية، وتجاوزت كل التقاليد والأعراف التي لم يكن يتجرأ أحد على المساس بها ومنها اختطاف الأطفال والنساء وعمليات إرهابية بدوافع الانتقام الطائفي، أنتجت لنا ردّات الفعل الكبرى التي تم تجاهلها إما بالصمت وإما بالتحريض ضدها لإسكات الأصوات بالعنف المسلح.
السلاح خارج السلطة المركزية في معظم مفاهيم السياسة الدولية يعني سلاحاً للمافيات والميليشيات ويجب مكافحته ومطاردة مجموعاته كمجرمين تطبّق بحقهم العدالة ويخضعون لقوانين العقوبات الجنائية؛ لكننا في العراق بدلاً من محاسبتهم يتم استرضاؤهم كقوى سياسية ووطنية، لأسباب الخوف أو لأنهم فعلا أدوات لترويع المكوّنات الأخرى، أو لحقيقة واقعة وثابتة نتلمسها في حياتنا تتمثل في تذويب العراق داخل الحاضنة المذهبية للمشروع الإيراني وأحزابه وقياداته السياسية والدينية ومرجعياته الفكرية الطائفية على اختلاف انتماءاتها وتضادد توجهاتها.
تخادم خطير بين أهداف داعش وأهداف الحرس الثوري أو الحشد الشعبي، تنظيمات قتلت العراقيين ودمرت مدنهم المطلوبة وبرّرت الجرائم المتبادلة والانتهاكات لغايات أوغلت في سذاجة أساليبها وفنونها. سياسة أثمرت نجاحها في تسطيح عقول كتل بشرية كبيرة بالتجهيل وفرض الطقوس والشعارات والرايات وتحريكها ضمن آليات مكررة لتحقيق مكاسب سياسية تتخذ من الممارسات الديمقراطية واجهة لأبشع حالة اختطاف للنظم الحديثة في الانتخابات؛ ماذا يعني صوت انتخابي بلا انتماء وطني أو قدرة على الاختيار خارج السياق الطائفي؟
تضمحل سيرة الحياة السياسية في العراق وتتقزّم سيادته الوطنية وتتأكد، ليس لنا، لكن للذين يراهنون على تسوية سياسية أو إصلاح قادم ويتخذون من مرحلة ما بعد داعش منصة إطلاق لعراق مختلف وبإرادات سياسية ومجتمعية، وهم على دراية وقناعة بأن العودة لنقطة الصفر أو المربع الأول في العملية السياسية، والتي تثير في نفوسهم الرعب، لم تعد تكفي لتصفير ازدواجيتهم في انتمائهم المطلق لمرجعية ولاية الفقيه الإيراني بصفته المذهبية والسياسية، وأيضا في محاولتهم إيهام الناس بمشروع وطني عابر للطائفية والمحاصصة.
فضيحة اختطاف صيادين عرب وإطلاق سراحهم بعد مدة طويلة، وقبلها اختطاف العمال الأتراك في مدينة الصدر في مساومة لتبادل سكاني مقيت في سوريا بما عُرِفَ باتفاق البلدات الأربع؛ تركت مساحة فراغ لأهمية مراجعة دور الحشد الشعبي كوعاء من 100 ميليشيا بتشخيص رئيس الوزراء “الإصلاحي” حيدر العبادي الذي سعى إلى تقديم وصفة برلمانية لا تقدم عليها أي حكومة في العالم تحترم إرادتها ومستقبل أجيالها، عندما تم تمرير قانون لحماية الميليشيات الإيرانية وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة. رغم ذلك، إيران وحرسها الثوري وفي استباق لصراعها القائم مع أميركا، لا ترى العبادي مؤهلاً لقيادة مرحلتها القادمة في العراق. إيران في الداخل تنتظر إصلاحياً، وفي العراق تنتظر واحداً من حرسها الثوري وتمهد له لتسلم مقاليد السلطة المقبلة بالأغلبية السياسية، الطائفية طبعاً وبمقاسات الولي الفقيه الداعم لكل أنواع الإرهاب ومن مختلف المذاهب لإحداث الفوضى المطلوبة في المنطقة.
الحشد الشعبي وفي بادرة من قيادته أعلن عن بدء عملية تحرير قضاء الحضر التاريخي وأكمل المهمة خلال 48 ساعة. الحشد فرض الأمر الواقع وتجاوز تعهداته العسكرية بأداء مهماته في العزل والتطويق. قضاء الحضر هو ذاته الذي اقتحمته 5 عجلات فقط من داعش وقبل احتلال الموصل بأشهر وتحديدا في فبراير 2014، كانت الذرائع حينها ضعف التنسيق بين القوات الأمنية وتأخر وصول الإمدادات؛ ألم تكن الحضر ناقوس خطر لما حصل بعدها في الموصل؟
الحشد الشعبي في بداية العمليات لتحرير نينوى والتي انطلقت من سن الذبان جنوب الموصل باتجاه مدينة تلعفر، كانت حركته سريعة ودعائية وقواته تجاوزت الحضر وتل عبطة وشهود عيان من المواطنين كانوا يطالبون بتطهير قراهم من داعش وهم بأعداد قليلة ويشيرون إلى أماكن تواجدهم، لكن قطعات الحشد كانت تتسارع إلى تلعفر؛ لماذا تغيّرت المهمات؟ ولماذا أعلن عن تحرير الحضر في سبتمبر الماضي؟ هل عاد داعش إليها؟ وفي هذه الحالة من يضمن عدم عودة داعش إلى أي منطقة يتم تحريرها؟ هل الحضر منطقة رخوة تحقق في توقيتنا الحالي أهدافا إيرانية إعلامية؟ أو لإشعارات مؤقتة تتعلق بالأطماع الإيرانية في الآثار ومراكز النفوذ؟ أو ربما تكون الحضر خطوة ضغط لإطلاق سراح الحشد في مهمة تحرير مدينة تلعفر المؤجلة.
إيران لا تهتم بمصير العرب من طائفة مشروعها المذهبي، إنها تستخدمهم في خدمة حربها القومية الطائفية، هل ننسى تحشيد الآلاف وفتح الطريق إلى جسر الأئمة ببغداد بأوامر زعماء الأحزاب المعروفة والتضحية بهم؟ ومن يرسل أفواج الزوار بالمئات من العراقيين إلى المراقد الدينية في دمشق ويستهدفهم في لعبة مفاوضات دولية لنصرة النظام وفي ظل ظروف أمنية غاية في التعقيد؟ ومن يستهدف قافلة المهجرين من الفوعا وكفريا لتمرير الفتنة وشيطنة الثورة السورية وتبرير الإبقاء على النظام السوري ودعمه دولياً على حساب دماء الأبرياء وتعميم الإرهاب على كل فصائل الثورة؟
اتفاق البلدات الأربع تجسيدٌ صريح لغياب السيادة في سوريا، المفارقة أن روسيا وإيران فقط تتمسكان بسيادة الدولة السورية على أراضيها؛ أما السيادة في العراق فهي مرتبطة تماماً بسيادة قوة الحشد الشعبي على مقدرات العراق الآن وفي مرحلة ما بعد داعش. ما نؤكده أن التغيير الديمغرافي في العراق أو في سوريا تمّ تحت حصار منهجي منظم مورست فيه كل جرائم الإبادة والتجويع والنهب والسلب لترويض الثورة السورية وإشغالها وتحويل مساراتها، وإطفاء جذوة الكرامة والحرية والعروبة في المدن العراقية المختطفة من قبل الإرهاب ودُعاة المشروع الإيراني.
العالم يتغيّر وأمام أمتنا العربية مهمّات عملاقة تؤديها وفق رؤى وخطط وبرامج، الاستفاقة حاضرة، لكنها مطلوبة من الجميع، إن كانت قيادات سياسية أو عسكرية مع اقتصاد فاعل ومتعاون وإعلام ينبغي أن يكون حذراً أثناء السير في حقل ألغام المحور الإيراني، حقل ستتفجر فيه ألغام كثيرة وبإرادة جرّبت تجرّع السُم سابقاً وأكيد لاحقاً؛ أي من صادرات الخميني إلى خامنئي حيث منتجات فرق الموت والإرهاب.
بينما استقبلت ألمانيا منفردة 800 ألف لاجئ سوري، ضاقت الجزائر والمغرب مجتمعَين بـ54. 54 لاجئا تسببوا في أزمة دبلوماسية بين البلدين، وصلت إلى استدعاء السفراء. هذا العنوان العريض لقصة ـ مأساة ـ حقيقية انتهت، ولو إعلاميا ومؤقتا، لكنها تخفي الكثير.
المسألة هنا بوجهين. الأول يخص العلاقة الثنائية بين الجزائر والمغرب، والتي تتأرجح منذ ربع قرن بين سيئة وأسوأ، ولا يبدو أنه بقي في الدنيا شيء يستطيع إصلاحها. والثاني يخص مقاربة الدول «الشقيقة»، وبينها الجزائر والمغرب، لسوريا ومأساة شعبها. وهي مقاربة بائسة، تتأرجح بدورها بين سيئة وأسوأ، من الخليج إلى المحيط.
أولاً لأن حكومتي الجزائر والمغرب، فوق أنهما غير جاهزتين (من كل النواحي والأصعدة) لموضوع اللاجئين السوريين (وغير السوريين)، تترصد إحداهما للأخرى بشكل لا يمكن أن يؤدي إلا إلى أزمة ويزيد الوضع سوءا.
كان بإمكان البلدين استقبال تلك المجموعة من اللاجئين وإيوائهم وترتيب حياتهم إلى نوع من الكرامة والأمان. وهناك فعلا لاجئون سوريون بالمئات يعيشون في البلدين، لكن كلتا الدولتين رفضتا الـ54، لأن الواحدة منهما تسعى للإساءة إلى الأخرى أمام الرأي العام الدولي من خلالهم وبهم.
وما سهّل الأزمة وعجّل بها، تمسكُ اللاجئين ذاتهم بالسفر إلى أوروبا، لأنها أكثر ضمانا لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، وعملهم على تحقيق ذلك من الجزائر أو المغرب بحكم الجغرافيا.
قضية الـ54 هي حلقة أخرى من مسلسل صامت مستمر ضحاياه لاجئون أفارقة يتقاذفهم البَلَدان على خط حدودهما. هناك حرب حقيقية في مناطق الحدود ومساحات التهريب المستباحة بين البلدين، وقودها شبان أفارقة يصلون من دول الساحل إلى الجزائر ومنها إلى شمال المغرب أملا في التسلل نحو أسبانيا.
وإذا كان الوصول إلى الجزائر صعبا ويستغرق جهدا خارقا وزمنا طويلا، فالوصول إلى المغرب أصعب وأكثر تعقيداً بحكم الحدود المغلقة بين البلدين والتأزم المستمر في علاقاتهما، والذي يجعل من أولئك المساكين وقوداً وذريعة.
إذاً، هي حرب صامتة ومفتوحة، المهاجرون إحدى أدواتها الجديدة والمختلفة. فعندما تطرد الجزائر دفعة من المهاجرين أو تسيء معاملتهم، يسارع المغرب إلى استقبالهم أو إعلان استعداده لإيوائهم، ليس حبا فيهم أو رأفة بهم، بل نكاية في الجزائر وبحثا عن إحراجها أمام المنظمات الدولية. والعكس صحيح.
واقع الحال أنه لا أحد أفضل من الآخر. لا الجزائر جنّة للاجئين والمضطَهدين، ولا المغرب أرض الأحلام. ولا يتوقف هذا الحكم على حكومتي البلدين، بل ينسحب على المجتمعين الجزائري والمغربي وتشابههما في مقاربتهما السلبية للاجئين، من حيث معاملتهم وقلة إكرامهم وحتى اللغة البغيضة والمصطلحات السلبية المستعملة في وصفهم. هذا الواقع غير المرحِّب يجعل من البلدين مجرد أرض عبور، للأفارقة والسوريين معا، لن يبقى فيها إلا المكرَهون ممن تقطعت بهم السبل.
الوجه الآخر لهذه الحالة المخزية، هو درس يجب أن نقف عنده جميعا ونتوارثه جيلا عن جيل. إنه يخص معاملتنا كـ»أشقاء» لـ»أشقاء» آخرين دمرت حرب طاحنة حياتهم وحطمت أحلامهم وقضت على مستقبلهم.
عندما احتاج السوريون إلى مَن يسندهم ويخفف عنهم، اختفت فجأة كل مفاهيم الأخوَّة والدين والجوار والعرق والقومية التي صمّت أذاننا، رسميا وشعبيا، طيلة حياتنا. وحلت محلها الأنانية والجحود التي كان من نتائجها أن عدد من استقبلتهم الدول العربية والمسلمة مجتمعة من سوريين، يقل عن عدد من استقبلتهم ولاية ألمانية واحدة. وكان من نتائجها أن ملايين اللاجئين السوريين في أوروبا سبَّبوا لدولها وحكوماتها صداعا أقل بكثير مما سبّبه الـ54 للجزائر والمغرب.
يجب هنا استثناء تجارب الأردن ولبنان وتركيا، لأن هذه الدول استقبلت اللاجئين السوريين مضطرة ومكرهة. لو خُيّرت الدول الثلاث بشأنهم، لرفضت استقبال أي أحد وطاردتهم في الحدود. ولو استطاعت لأقفلت في وجوههم الحدود وأقامت الأسلاك الشائكة المكهربة. أما عندما استقبلت منهم مَن استقبلت بحكم الأمر الواقع، ها هي تسيء معاملتهم وتضيّق عليهم في الداخل، وتتاجر بمآسيهم أمام الخارج، وفيها من يبتز الحكومات الأوروبية بهم.
وما ساهمت به الدول العربية، منفردة أو عن طريق الجامعة العربية، ماليا لصالح اللجوء السوري في الداخل والخارج، لا يساوي شيئا أمام دور ومساهمة الاتحاد الأوروبي الذي تناهز أرقامه التسعة مليارات يورو.
أصلا لا يُعرف عن جهة عربية معلومة تنظم الأعمال الخيرية الموجهة للسوريين، إلا من جمعيات يتيمة مبعثرة هنا وهناك، ترعاها الحكومات في نهاية المطاف. ذلك أن الحكومات تتحكم في «فعل الخير»، أولاً، ولأن ثقافة عمل الخير الجماعي في المجتمعات العربية والمسلمة قليلة، وإن وُجدت فهي عقيمة، ثانيا.
فقط يجب أن يتذكر السوريون أنهم ليسوا وحدهم. الأفغان لم ينتظروا شيئا من «أشقائهم» في الدين عندما احترقت بلادهم. والصوماليون كذلك. والجزائريون توجهوا إلى فرنسا وأوروبا في تسعينيات القرن الماضي.
إنها محنة تتجاوز السوريين وأعمق من الخلاف الجزائري المغربي.
خلصت الأيديولوجيا الإيرانية في مشروعها التمددي في المنطقة العربية عبر الحرس الثوري أو ما يسمى لواء القدس، إلى واقع تدميري، امتد على طول خط هذا النفوذ من العراق إلى سوريا إلى لبنان، فضلاً عن اليمن.
لواء القدس، الذي أنشأته إيران وادعت أنه منذور لتحرير القدس، لم يقم هذا اللواء- الذي أتيح له أن يكون القوة الأولى في العراق وفي سوريا وصولاً إلى لبنان- بأي مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي رغم انخراطه المباشر في حروب دموية في العراق وسوريا.
هذه الحقيقة لم تقتصر على إسرائيل فحسب بل برزت بوضوح أكبر تجاه الولايات المتحدة الأميركية أو الشيطان الأكبر كما سمّته أيديولوجيا ولاية الفقيه. وطالما كان هذا “الشيطان” منذ احتلال العراق في العام 2003 القوة التي فتحت الطريق واسعاً أمام التمدد الإيراني في العراق، وفي أفغانستان، وأتاح للحرس الثوري الإيراني أن يعلن في ظل الاحتلال الأميركي للعراق عن تشكل “هلال الممانعة والمقاومة” الممتد من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا، أو كما سماه العاهل الأردني عبدالله بن الحسين “الهلال الشيعي”.
الأيديولوجيا الإيرانية رفعت لواء القدس وتحرير فلسطين، وروّجت لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، عبر خلق جماعات موالية لإيران بالدرجة الأولى.
جماعات طالما كانت وظيفتها السياسية ضرب الهوية الوطنية لأيّ مشروع مقاوم كما حصل في لبنان عبر حزب الله، وعبر بعض الجماعات الأصولية الفلسطينية في غزة وفي الشتات الفلسطيني، والهدف كان السيطرة على ورقة المقاومة والمساومة عليها في لعبة الأمم لصالح الأيديولوجيا الإيرانية، هذا ما يمكن ملاحظته في فضيحة خطف الرهائن الغربيين بين العام 1983 و1988 في لبنان، حيث تمّ استخدام الرهائن الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين، من أجل ابتزاز الغرب ليس في سبيل الضغط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب من لبنان على سبيل المثال، أي من أجل قضية لبنانية محقة، بل استخدم هؤلاء في عملية ابتزاز إيراني للغرب من أجل صفقات أسلحة لصالح إيران خلال حربها مع العراق.
الجماعات اللبنانية التي أنشأتها إيران في هذا السبيل، نشأت على ولاء مطلق للأيديولوجيا الإيرانية ولقيادتها، بحيث أنّ حزب الله الذي كان في مرحلة التبلور قام وجوده على رفض الكيانية اللبنانية، ورفض أي مشروع مقاوم لبناني، فارضا أيديولوجيته على مشروع المقاومة بقوة السلاح وبقوة الدعم السوري الذي وفره النظام السوري بالكامل في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، عندما تمّ منع أيّ طرف لبناني من حمل السلاح ومقاومة إسرائيل بالقوة، فيما أتيحت لحزب الله كل الإمكانيات، ليؤمن فصل المقاومة ضد الاحتلال عن بعدها الوطني، وتحويلها إلى ورقة إيرانية سورية بالكامل يجري استخدامها لصالح الدولتين ولو على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية.
كانت إيران كما سوريا، تريدان الفصل دائماً بين البنية العسكرية التي مثلها حزب الله في لبنان، وبين السلطة اللبنانية، لذا كان الكثير من اللبنانيين يشعرون بغربة مع مشروع حزب الله لأنّه مشروع منفصل بجوهره وممارسته عن سياق المشروع الوطني اللبناني ومقتضيات حماية الاستقرار وتوفير شروط المناعة الداخلية تجاه أي تدخل خارجي لا يراعي المصلحة الوطنية اللبنانية بالدرجة الأولى.
النموذج اللبناني وتاريخه في العلاقة مع الأيديولوجيا الإيرانية من خلال نموذج حزب الله، كان المثال الذي جرى تطبيقه في العراق واليمن في الحد الأدنى، ذلك أنه في فلسطين المحتلة، لم تذهب إيران ولا مرة إلى دعم مشروع وطني فلسطيني، كل التدخلات الإيرانية من خلال دعمها لجماعات فلسطينية كانت تقوم في جوهرها ليس على مقاومة الاحتلال، بل في استغلال المقاومة لضرب المشروع الوطني وبالتالي لإضعاف الخيارات الوطنية الفلسطينية لحساب مشاريع إقليمية كانت تستغل القضية الفلسطينية لمآرب لا علاقة لها لا بتحرير فلسطين ولا بإنهاء إسرائيل.
هكذا في لبنان تحوّل حزب الله إلى ذراع إيرانية منفصلة بطبيعة تكوينها الأيديولوجي عن لبنان، متصادمة مع نظام المصالح العربية، غير متآلفة مع أيّ مشروع وطني فلسطيني، نابذة لأيّ مكوّن سياسي وطني أو عربي لا يقدّم الولاء والطاعة للسيد الإيراني، لذا ومنـذ نشأة حزب الله، لم يستطع ولم يعمل على أن يكـون حاملاً لهموم وطنية أو عربية تتصل في توفير شروط قيام الدولة المستقلة، أو دافعا باتجاه قيام مشروع عربي صديق لإيران، ولكن من موقع الشـراكة والندية وليس التبعية المطلقة.
المشروع الإيراني في المنطقة العربية الذي توسّل شعار “الوحدة الاسلامية” مع انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979، وتوسّل أيضاً عنوان القضية الفلسطينية وشعار تحرير القدس، وتوسّل قبل ذلك شعار لا شرقية لا غربية في إشارة إلى مشروع مواجهة النموذجين السوفييتي والأميركي، خلص اليوم إلى حقيقة مرة وقاسية على العالم العربي، فإسرائيل ازدادت قوة وهيمنة ونجحت بفضل السياسة الإيرانية في اختراق الدول العربية وتعزيز حضورها وسيطرتها على كامل فلسطين، أما الوحدة الإسلامية فمع المشروع الإيراني باتت مشروعا منفرا ومرفوضا لدى الشعوب العربية قبل حكامها، والمذهبية تفاقمت لتفجر العديد من الكيانات الوطنية فيما مقومات الدول العربية المادية أصبحت نهباً للروس والأميركيين، كل ذلك يمكن أن لا تتحمل إيران مسؤوليته وحدها، لا مئات الآلاف من القتلى ولا تدمير الدول ولا تدمير المجتمعات العربية لا سيما على امتداد هلال الممانعة، لكن الدخول الإيراني إلى المنطقة العربية لم يحمل في طياته إلا التدمير ولم يدخل إلى دولة إلا وزاد من أزماتها، وفكك من عناصر وحدتها، وعزز من شروط الانقسام فيها.
لقد بشّرت الأيديولوجيا الإيرانية بالوحدة، لكنها أتقنت فنون التفتيت والتقسيم، ليس في الجغرافيا فحسب، بل في المشروع الأيديولوجي الذي حملته، فهل يعقل أنّ مشروع إيران الذي يبشّر بولاية الفقيه وطاعته، وهو الذي يتوسّل زاوية مذهبية ضيقة أن يكون عنصر وحدة للمسلمين؟ هذا إذا لم نشر إلى أبعاد أخرى تتمثل في أن المشروع الديني والأيديولوجي الإيراني ما هو إلاّ غطاء لمشروع قومي إيراني، بهدف النفـاذ إلى الدول المحيطـة به وإلى المجتمعات الإسلامية التي تحوّلت مع التمدد الإيراني الأيديولوجي إلى مجتمعات غارقة في صراعات داخلية، وهذا ما يكشف كم ساهم المشروع الإيراني في المنطقة العربية إلى حدّ كبير بما لم تستطع الدول الاستعمارية أن تحققه، فحققه هو أي النفاذ إلى داخل المجتمعات من خلال الشرعية الإسلامية وعنوان تحرير القدس وفلسطين، وهي عناصر قـوة كانت راسخة في المجتمعات الإسلامية نجحت إيران، بوعي أو بجهل، في تقويض عناصر القوة هذه بحجة الدفاع عنها وحمايتها.
الحقيقة الفاضحة اليوم أنّ إيران التي استكملت مهمتها عملياً، من خلال دورها في ضرب الهويات الوطنية ومشاركتها في تدمير العديد من الدول العربية، ومشاركتها الفعالة في ترسيخ الانقسام المذهبي، استنفذت كل طاقتها أو معظمها، لتجد نفسها اليوم أمام الحقيقة، ها هي إسرائيل تضرب أذرعها وتحاصرها في لبنان وسوريا، وهذا الشيطان الأكبر يسرح ويمرح في العراق وداخل سوريا وكل المنطقة، وهذه روسيا تحوّلت إلى المنقذ من الضلال والحامي لإيران، وتحول معظم العرب إلى أعداء لإيران، وهذا هو الشعب الإيراني بقضه وقضيضه يئن من النموذج الأيديولوجي الإسلامي الإيراني ويحلم بنموذج “الشيطان الأكبر”.
هذه النهاية كفيلة بأن تجعل الأيديولوجيا الإيرانية أداة طيّعة بيد روسيا والشيطان الأكبر، وكفيلة بأن نقول أنّ المشروع الأيديولوجي الإيراني في خواتيمه المدمرة حضارياً لمحيطه العربي وللداخل الإيراني وليس أقل من ذلك، فيما من سماتهم الأيديولوجيا أعداء لها يزدادون قوة ونفوذا ويقهقهون.
تؤكد حصيلة نصف قرن من الحكم الوطني في المنطقة العربية أن الأنظمة الوراثية كانت أكثر استقراراً مقارنة بتلك الجمهورية التي رفعت في معظمها شعارات انقلابية ثوروية، تمحورت حول الاشتراكية والديموقراطية الشعبية.
وعلى رغم كل الاتهامات التي وجهت إلى الأنظمة الملكية والأميرية، فقد تمكنت من تحقيق الكثير من الإنجازات في الميادين المعيشية والتربوية والمعرفية والصحية والعمرانية والتنموية العامة، فيما الأنظمة الجمهورية أخفقت في كل الميادين، بل عانت هي نفسها من نزعة تسلطية لدى حكامها، تمثلت في رغبتهم بالاستمرار الأبدي، سواء عبر أشخاصهم، أو من خلال أبنائهم.
وحدها الحالة اللبنانية ربما كانت استثناء، لكن النظام السياسي اللبناني نفسه بُني على آليات ومعادلات محلية وإقليمية ودولية، تسببت بتفاعلها في تعطيله، وجعله مرهوناً بتقلبات الأوضاع الإقليمية والدولية، وانعكاساتها عليه.
ومن الحجج التي تقدم عادة من جانب أنصار النظام الجمهوري العربي، أن وضعية الاستقرار التي تبدو عليها الدول ذات الأنظمة الوراثية سببها إمكانات تلك الدول التي أسهمت في تجاوز الكثير من المشكلات، والتغطية على الكثير من المثالب. وهي حجج واهية، لا تصمد أمام لغة الأرقام، ولا تستقيم مع الإمكانات الهائلة التي وفرتها الثورة التقنية المعلوماتية المعاصرة، واستطاعت بفضلها دول كثيرة، على رغم شحة قدراتها المادية، من تحقيق قفزات هائلة على مختلف المستويات، بينما تراكمت مشكلات الأنظمة الجمهورية العربية، على رغم كل الإمكانات، وأسفرت في النهاية عن صدامات عنيفة، اعتقدنا نتيجة قراءاتنا الخاطئة في بداية موجة الربيع العربي، أنها لن تكون كذلك، لكن تبين في ما بعد أن الأزمة أعمق وأعقد مما كنا نتصور. وهذا في حين أن النظامين الملكيين في المغرب والأردن تمكنا من الاستمرار على رغم ضعف الموارد.
حجة أخرى ربما تساق هنا، وهي تقوم على فكرة قوة الأجهزة الأمنية في الأنظمة الوراثية. وهي الأخرى حجة ضعيفة، لا سيما بعدما تبين للجميع حجم الجرائم التي أقدمت عليها الأنظمة الجمهورية عبر أجهزتها الأمنية الأخطبوطية، لتعزيز سطوتها، واستمرارية حكمها. والأمر ذاته بالنسبة لحجة الدعم الخارجي والإرادات الدولية.
وكل ذلك يدفع بنا إلى طرح تساؤلات مفصلية، تستلزم الإجابة عنها، إذا كانت هناك رغبة جادة في الخروج من دائرة الشر التي أنهكت مجتمعاتنا.
هل العلة تكمن في وضعية التنافر بين قواعد النظام الجمهوري المغلّف بشعارات ديموقراطية والبنية المجتمعية العربية؟
هل الأزمة التي نعيشها تخص مجتمعاتنا وحدها، أم أنها نتيجة التفاعل بين وضعيتنا الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية؟ أو بتعبير آخر، هل تسمح تركيبة مجتمعاتنا بعملية انتقال سلمية للسلطة من المفروض أن تكون حصيلة انتخابات نزيهة ديموقراطية؟ أم أن ما حصل كان من نتائج هيمنة الأيديولوجية القومية التي أغرقت دول الأنظمة الجمهورية بالمزاعم والشعارات المتناقضة مع الطبيعة المجتمعية، على رغم أنها غطت لفترة محدودة على حالات التنافر بين الأجنحة الداخلية للأنظمة المعنية، وباتت في المراحل الأخيرة يافطة للتستر على قباحات الفساد والإفساد التي تجسدت نهباً وبذخاً خرافياً، مقابل فقر وبؤس غير مسبوقين.
أسئلة تستوقف وتستحق التمعّن بعد كل هذه التجارب العربية الفاشلة.
وإذا اعتمدنا الحالة السورية مثالاً، فسنجد أن النظام الجمهوري كان واعداً لسنوات يتيمة بعد استقلال 1946، ولكن سرعان ما شهدت البلاد سلسلة انقلابات عسكرية، كان آخرها انقلاب حزب البعث في 8 آذار (مارس) 1963 الذي أسفر بدوره عن جملة انقلابات ضمن الحزب نفسه، حتى تمكّن حافظ الأسد من السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور عام 1970.
ومنذ ذلك الحين اعتمد حافظ الأسد نهج التأبيد عبر إزاحة الخصوم سجناً وتشريداً واغتيالاً، وعمل على التحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، وذلك من خلال الأجهزة الأمنية المتداخلة التي كانت خيوطها الموجهة تلتقي جميعها عنده، ليكون هو الآمر للكل، والمسيطر على الجميع.
ولم يكتف بذلك، بل زرع تماثيله في شتى أنحاء الجمهورية، لتكون أصناماً يُلزمُ الناس بتقديم فروض الطاعة لها، بموجب سابقة غير معهودة، في تاريخنا الحديث، قوامها إسباغ سمة التأليه على حاكم تجبّر على الناس بفعل استغلاله لواقع المعادلات الإقليمية والدولية.
وأدرك الحاكم المتأله أن الموت الحق قادم، ففكّر في التأبيد عبر التوريث، وكان باسل هو الخليفة المنتظر، لكن موته جعل بشّار من تتوافق عليه إرادات أركان حافظ الأسد، بناء على تعليمات وأوامر الأخير. وتم تسويقه إقليمياً ودولياً، حتى بات أمر تنصيبه حاكماً جمهورياً بالوراثة مسألة تحصيل حاصل. وهذا ما تجسّد في الهرطقة «القدورية» التي بموجبها عُدل الدستور بسرعة الضوء، ليصبح عمر الرئيس المطلوب «دستورياً» مطابقاً بقدرة قادر لعمر بشار.
واستلم الأسد الابن مملكة الأسد الأب الجمهورية. وبدأ يوجه الانتقادات إلى الملوك والرؤساء العرب في مختلف المناسبات بأسلوب إنشائي مفعم بالحشو والتكرار المملين، ولم يقطع مع أسلوبه هذا اعتقاداً منه بأن السماء اختارته ليكون الهادي لشعب أعياه الضياع.
ومع انطلاقة الثورة السورية، صدم وريث الجمهورية بما جرى، فشبه الناس بالجراثيم، وأصرّ على أن ما يواجهه إنما هو بتدبير قوى الشر. وهو لا يزال يحلم باستعادة حكمه التليد بمساعدة الروس والإيرانيين وسائر الميليشيات المذهبية، والفصائل القوموية الثوروية التي وجدت في قتل السوريين وتشريدهم مدخلاً للنهوض بالأمة التي طالما تآمروا للقضاء عليها.
المثال السوري يعيدنا ثانية إلى التساؤل الذي انطلقنا منه، وهو لماذا أخفقت الأنظمة الجمهورية عربياً؟
هل تكمن العلة في النظام السياسي نفسه؟ أم في البنية المجتمعية؟ أم في الاثنين معاً؟
أليس النظام الملكي الدستوري البرلماني أكثر انسجاماً مع واقعنا ما قبل القبلي؟
أسئلة نطرحها ببراءة، ومن دون أية نوايا مضمرة، ونحن نفكر بصوت مرتفع في مواجهة واقع يبدو مسدود الآفاق من مختلف الجهات.
النظام الديموقراطي الذي يحترم سائر الحقوق والخصوصيات يظل هو النظام الذي نحلم به. ولكن الوقائع شيء، والأحلام شيء آخر.