تواجه موسكو الارتباك الذي وقعت فيه بسبب خطوات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاجئة لها، بسياسات متناقضة في الميدان السوري. فهي تارة تقصف المستشفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة لإخراجها من الخدمة كما يحصل هذه المرة في ريفي إدلب ودير الزور، لتمهد الطريق لاكتساب النظام مناطق جديدة قبيل معركة الرقة لإخراج «داعش» منها التي ينوي الأميركيون خوضها من دون التعاون مع الروس. وتغض موسكو النظر عن عمليات القصف الإسرائيلي لمستودعات «حزب الله»، كما حصل بالأمس في محيط مطار دمشق ولا يصدر عنها أي تعليق.
فهم الكرملين أن تراخي باراك أوباما السابق معه لم يعد القاعدة للتعامل مع واشنطن، وأنه على رغم الغموض المقصود الذي يعتمده ترامب في بلاد الشام والمنطقة، فإن الثابت لدى القيادة الروسية أن البيت الأبيض يعتمد سياسة القضم برفع عديد قواته على الأرض فيها وفي العراق من دون أن يعلن ذلك. هذا ما يحصل في الشمال السوري عبر توسيع قاعدة الرميلان بحجة تدريب قوات «سورية الديموقراطية» ودعمها، وفي الجنوب عبر التهيؤ لمساندة الجيش الأردني للدخول في عملية واسعة داخل الأراضي السورية وصولاً إلى ما بعد درعا بالتعاون مع وحدات لـ «الجيش السوري الحر». وهو السيناريو الذي بات على كل شفة ولسان منذ 3 أشهر لأن عمّان كانت واضحة في اتفاقها مع واشنطن على عدم سماحها بنشوء قاعدة في جنوب سورية، أي على حدودها، لـ «داعش» من جهة، وللميليشيات الإيرانية من جهة ثانية. تراقب موسكو تواجد المزيد من القوات الأميركية في الأراضي السورية وتستنتج منه أن واشنطن لن تفاوضها على أوضاع المنطقة إلا بعد أن تعزز وجودها أو على الأقل أن تعيد التوازن المفقود، خصوصاً أنه يتزامن مع تعزيز هذا الوجود، إضافة إلى الأردن، في العراق، خصوصاً في المناطق الحدودية مع سورية، انطلاقاً من معركة تحرير الموصل.
ثمة من يعتقد أن الجانب الأميركي يعمل على اكتساب النفوذ في مناطق «سورية الغنية» بالنفط والغاز، مقابل تمكن الجانب الروسي من اكتساب اليد العليا في «سورية المفيدة».
بدا الارتباك الروسي واضحاً قبل يومين أيضاً خلال استقبال سيرغي لافروف نظيره السعودي عادل الجبير، الآتي من توافق مع الولايات المتحدة على مواجهة نفوذ إيران و «رعايتها الإرهاب» في المنطقة. فمع تأكيد الأخير أن لا دور لبشار الأسد في مستقبل سورية، بخلاف الموقف الروسي، اضطر الكرملين لترداد اللازمة الدفاعية عن موقفه المساند للأخير، بأن فلاديمير بوتين «ليس محامياً عن الأسد».
في انتظار جاهزية ترامب للتفاوض، على قاعدة تجنب الجبارين الاصطدام بينهما، يسعى الدب الروسي إلى الاحتفاظ بعلاقاته مع القوى الإقليمية: يساير تركيا في قصفها المناطق الكردية حتى لا تستغني عن العلاقة معه لمصلحة عودة الحرارة إلى صلاتها مع واشنطن بمجيء ترامب خلافاً لما كان الأمر مع أوباما، يتفهم مصالح الأردن، ينسجم مع حاجة إسرائيل إلى منع إيران و «حزب الله» من تثبيت قواعدهما على حدودها، ويعتمد الليونة مع الرياض ويسلّفها عدم معاكسة توجهاتها في اليمن ويقف مع الشرعية فيه ضد إقامة الحوثيين دولة ضمن الدولة، وينسج العلاقة الواعدة بالاستثمارات مع قطر والإمارات، بعدما ساهمت دول الخليج في مراعاة مصالح روسيا بتحديد سقف خفض الإنتاج النفطي...
ومع أن موسكو ليست في وارد مراعاة مطلب ترامب بخروج إيران و «حزب الله» من سورية، بدليل اعتبار لافروف أن وجودهما مثل وجود قواتها، بطلب من الحكومة السورية، قبل أن يحين وقت التفاوض مع الأميركيين، لم يعد المسؤولون الروس يخفون تبرمهم أمام أكثر من زائر، من أن الميليشيات التابعة لإيران (العراقية والأفغانية والباكستانية...) والقوات الأسدية، لا تحسن الدفاع عن مناطق تحظى المعارضة بدعم خارجي لإحداث تقدم فيها، وتفشل في الاحتفاظ بالمناطق التي كان الطيران الروسي ساعد في انتزاعها من المعارضة. هذا على رغم تقويم موسكو أن «حزب الله» هو التشكيل العسكري الأكثر فعالية، وإدراكها أن قواته غير قادرة على الانتشار في مناطق عدة في آن واحد. وهو ما يضطرها إلى القصف الجوي الوحشي، بدل المغامرة بإنزال قوات على الأرض الذي اختبرته بضع مرات وتسبب بخسائر بشرية، ولا يبدو أن وزارة الدفاع الروسية تحبذه. فالتساؤل حول مدى الجدوى من استمرار التدخل العسكري المكلف أخذ يزداد في موسكو، في وقت يسلم الجميع لها بموقعها على المساحة السورية. فهي تضغط على طهران كي تسهل الحل السياسي، وتغريها بموقع تفاوضي في آستانة، لكن الأخيرة تساهم في عرقلته.
تعيد التصريحات الصادرة أخيراً عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تنشيط ذاكرة المجتمع الدولي حول من يرسم السياسات الدولية، من الناحية الفعلية، وخاصة في الشرق الأوسط، وفي المجال الإقليمي المطلوب لحماية أمن إسرائيل، وهو الأمر الذي تجسّد عملياً في القصف الأميركي الصاروخي على مطار الشعيرات السوري، أوائل الشهر الجاري من جهة، والتصريحات الحاسمة لوزير خارجية أميركا ووزير دفاعها، الذي كان أول زائر لإسرائيل من مسؤولي الإدارة الأميركية الجديدة، من الجهة الأخرى.
فقد كشفت هذه التصريحات، مضافة إليها التصريحات القوية واللافتة لنيكي هالي السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، أولويات إدارة ترامب الحالية، وهي مكافحة الإرهاب، وتحجيم نفوذ إيران، ووقف إطلاق النار في سورية، تمهيداً لإحداث التغيير السياسي.
اللافت في تلك التصريحات أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع إيران باعتبارها خطراً يهدّد مصالحها ووجودها في المنطقة، الأمر الذي يتطلب منعها من الوصول إلى القدرة على انتاج سلاح نووي، وتحجيم نفوذها خارج حدودها، أي في العراق وسورية ولبنان واليمن، بما في ذلك ميليشياتها، والنظر إليها باعتبارها أحد مصادر نشوء الجماعات الإرهابية في المنطقة. بل إن هذه إدارة ترامب تتصرف بناء على رؤية ترى أن معالجة مشاكل المنطقة، أي فرض الاستقرار في سورية والعراق ولبنان، ومكافحة الإرهاب، لابد أن يمر من باب تقليم أظافر إيران، وإجبارها على الانكفاء.
إذاً التحجيم سيبدأ من إنهاء دور إيران في الملف السوري مروراً بقصقصة أجنحتها في العراق وصولاً إلى تقويض فاعليتها في الحرب اليمنية، وانتهاء بتدجين ميليشياتها في لبنان، بما يؤدي إلى إعادة توزيع جديد للأدوار في المنطقة. لكن ذلك لا ينسينا أن إيران أدّت مهمّتها على أتمّ وجه في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، من وجهة النظر الأميركية، إذ غيّرت فعلياً أولويات المنطقة، التي كانت تعودت عليها خلال عقود عديدة، وأعادت تصنيف قضاياها وأنعشت تقسيماتها الدينية.
لقد أصبحت مواجهة تنامي الخطر الإيراني أولوية لدى الدول العربية، كما صادرت إيران القضية الفلسطينية ووظفتها لمصلحتها، باحتلالها ما يسمى «محور المقاومة والممانعة»، وصعود أداتها اللبنانية، أي ميليشيا «حزب الله»، في لبنان وسورية.
لقد ظهرت إيران باعتبارها خطراً فعلياً في المشرق والخليج العربيين لأنها أمعنت في العبث بمكونات النسيج الاجتماعي في البلدان العربية، في أكثر من مكان، وبإثارتها الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة، مع فارق أن السنّة لم يتحزبوا معاً كطائفة، ولم يشكّلوا دولتهم الدينية، ومرجعياتهم التراتبية، على غرار ما حصل مع الإسلام السياسي الشيعي برعاية ودعم من إيران.
فقد بنت إيران شبكات خدمية وميليشيات مسلحة في العراق ولبنان وسورية على حامل طائفي مذهبي، وتمددت لتهدد دول الخليج من خلال محاولاتها اللعب على وجود الشيعة كطائفة في مجتمعات هذه الدول، واعتمدت في كل ذلك على التسهيل أو على الصمت الأميركي، حيث كانت مصلحة الولايات المتحدة لا تتعارض مع تمدد المشروع الإيراني، الذي يفضي إلى تقويض البنى المجتمعية في تلك الدول، وصولاً إلى الدول التي لم تكن الولايات المتحدة معنيّة باستقرارها وازدهارها، وهو بالطبع ما كان يخدم إسرائيل، أو يصبّ في مصلحتها، على رغم حالة العداء بين الجانبين.
وما الإعلان عن سياسات أميركية جديدة في المنطقة حالياً إلا بمثابة اعتراف أميركي بانتهاء الدور الموكل لإيران، من دون أن يعني ذلك إزاحتها من المشهد نهائياً، حيث المطلوب فقط تحجيم دورها وتحديد مساحة حركتها إلى حدودها، الأمر الذي يشكل مصلحة للولايات المتحدة (ولإسرائيل). فالولايات المتحدة لا تريد إيران ذات قدرات نووية، ولا إيران التي تستطيع تهديد منابع النفط أو تقويض استقرار دول الخليج العربي، ولا إيران التي تدعم الإرهاب والميليشيات المسلحة، ولا إيران التي يمتد نفوذها من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ولا إيران التي يمكن أن تنافس المكانة الإقليمية لإسرائيل.
ناحية أخرى يجب فهمها، وهي أن الولايات المتحدة اختارت اللحظة المناسبة لتحجيم نفوذ إيران، أي في الوقت الذي غرقت، أو أنهكت في معمعة الصراعات الجارية في العراق وسورية، وفي الوقت الذي ظهر الخلاف أو الافتراق بين إيران وروسيا، بخصوص التنازع على من يملك مفاتيح الوضع السوري، ومن الذي يملك الورقة السورية.
المسألة الآن تتعلق بمعرفة كيفية تعامل إيران مع هذه التطورات الجديدة؟ وهل ستقاومها؟ وإلى أي درجة؟ لأنه بناء على ذلك تمكننا معرفة مدى وطريقة التعامل الدولي مع إيران لوضعها عند حدها. فمن المعروف أن إيران تملك قوة عسكرية لا بأس بها، لكن هذه القوة يمكن أن تؤثر على دول صغيرة أو ضعيفة، ولكن لا قِبَلَ لها بمواجهة مع الولايات المتحدة.
لكن بإمكان إيران أن تعيق أو أن تشاغب على الترتيبات الأميركية في سورية أو العراق أو لبنان، بحكم وجود ميليشيات مسلحة تأتمر بأمرها في البلدان المذكورة، كما لديها قدرة على تحريك الصراعات الطائفية، بحكم التبعية التي ربطت جماعات من الشيعة في بعض البلدان بجمهورية «الولي الفقيه»، من الناحيتين العقائدية والمصلحية، ويمكن ايران أن تعرقل أي محاولة لفرض الاستقرار في سورية. هذا إضافة إلى احتمال ارتكاب قادة إيران حماقات غير محسوبة باستهداف بعض دول الخليج مثلاً، أو بفتح معركة مع إسرائيل من جنوب لبنان.
وعلى العموم، فإن كل واحدة من ردّات الفعل الإيرانية هذه ستلقى الرد المناسب عليها من الأطراف الدوليين والإقليميين، ولا بد أن ردات فعل إيران والرد عليها هي في مركز اهتمامات القوى المعنية. المهم أن كل المؤشرات ترجّح أن العد العكسي لتحجيم إيران ونزع مخالبها قد بدأ. وعندما تتحرك الولايات المتحدة، أو تقرر، فإن روسيا لن تفيد إيران، هذا إن لم تكن عقدت صفقة مع الولايات المتحدة لتوكيلها، أو لإعطائها حصة أكبر من النفوذ في سورية.
رغم مرور أكثر من ست سنوات على بدء الثورة السورية تحوّلت خلالها أخبار القتل الجماعي وقصف المشافي والأسواق والمساجد والآثار ومآسي النزوح إلى أمور لا تثير غير أحاسيس فظيعة بالعجز واليأس والقهر فإن رئيس تلك البلاد المنكوبة، بشار الأسد، يبدو الشخص الوحيد في العالم الذي يستطيع، في ظل هذه التراجيديا الهائلة التي قام بصنعها، أن يظهر على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام سعيداً متضاحكاً ومبتهجاً متسائلاً إن كان الأطفال الذين قتلهم بغاز السارين قد قُتلوا حقّا!
لتحليل هذه الشخصية فلنتوقف عند أخبار الأمس فحسب، والتي شهدت قصف روسيا، التي قام الأسد نفسه بشكرها مرّات عديدة على حفاظها على نظامه، لمستشفيات وحواضن أطفال في إدلب، ولكنّ هذه الدولة الراعية والحامية لعرش الرئيس لم تمنع الطائرات المقاتلة لإسرائيل من قصف مستودع أسلحة لإيران، الدولة الراعية الثانية للنظام، وأين؟ في مطار دمشق نفسه ليس بعيداً عن قصر الرئيس السعيد بـ«سيادته» على البلد وبوثوقه من «الانتصار»!
في أخبار أمس أيضاً أن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، الذي كان يحيّي الأسد عندما كان خارج السلطة، يصرّح بأن بريطانيا ستشارك في أي قصف جديد على النظام السوري إذا طلبت منها حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية ذلك.
الأسد، هو «رئيس» بلد تتحكم فيه قواعد روسيّة وتخزن إيران أسلحتها في مطاراته وثكناته وتنشر حرسها الثوري وميليشياتها الأفغانية والباكستانية والعراقية في ربوعه فيما تستبيح أجواءه وأراضيه طائرات أمريكا وفرنسا وبريطانيا وتتوسع فيه دويلات كرديّة وسلفيّة سنّية تنوس بين تنظيم «الدولة» وحلفاء «القاعدة»، وتسيطر تركيا على شريطه الحدودي الشمالي، والأردن على شريطه الجنوبي، ويندفع جهاديو «حزب الله» اللبناني إلى حلب ودير الزور ودرعا وادلب (لإنقاذ «السيدة زينب» التي رعى السوريون ضريحها لأكثر من ألف وثلاثمئة عام قبل ظهور «حزب الله») وقتل من يقف من المعارضين السوريين في طريقهم، وفوق كل ذلك تختار إسرائيل أي وقت تريد وتقصف ما تراه مناسباً، فيتجاهل الأسد كل ما يحصل ويصبّ جام غضبه على مواطنيه فحسب ثم يخرج على الشاشات ليتضاحك على فكرة أن الأطفال الذين ماتوا خنقا ربما لم يموتوا وأن الغارات السامّة «مفبركة مئة بالمئة».
في أحد الايميلات المسرّبة لزوجته أسماء الأخرس يرسل الأسد مقطعا مفضّلاً لديه من برنامج «أمريكا غوت تالانت» لشخص متعطش للدماء يقوم بقطع مساعده إلى نصفين، وهو أمر تعلّق عليه صحيفة «دايلي ميل» البريطانية بأن هذا يدلّ على شخصية إجرامية مريضة تتلذّذ بآلام الآخرين، ولكن المشكلة هنا أن الموضوعين، فعلاً، على خشبة التعذيب، هم أطفال ونساء ورجال سوريا الذين قوبلت أحلامهم البسيطة ببلد مدنيّ ديمقراطي بإصرار رئيس ساديّ على قمع تلك الأحلام بوحشية مريعة ما أدّى، في النهاية، إلى صيرورته أداة صغيرة بأيدي الدول التي اندفعت لحماية نظامه، وإلى تفسّخ البلد سياسيا وعسكريا واجتماعيا وتحوّله إلى فيضان من الآلام الجماعية التي انداحت على العالم وأسقطت ورقة التين الهشّة عن المجتمع الدولي.
لست متفائلاً بأن تحقق أي مفاوضات في جنيف حلاً سياسياً للقضية السورية، ولكن لابد من أن تبقى العملية السياسية مستمرة، وأن تبقى القضية محط اهتمام دولي، وإن لم تكسب المعارضة من جنيف أكثر من الإضاءة الإعلامية الساطعة وسط أوروبا وأمام تجمع إعلامي عالمي فهذا حسبها في ظروفها القاتلة. لكن كل أطراف الصراع والحل تترقب الجولة القادمة، متوقعة دخول الولايات المتحدة على خط التفاوض الذي تفردت به موسكو طويلاً، عبر تفويض مطلق أتاح لها أن تحتل سوريا عسكرياً وتباشر الحكم، ولاسيما حين رأت إيران تكاد تنفرد في الاستيلاء على كل الشؤون السورية، وتتباهى بأنها تمكنت من احتلال أربع عواصم عربية هي بغداد وبيروت ودمشق ثم صنعاء. وكان لابد لروسيا أن تبحث عن حصتها، وهي التي تزود النظام بالسلاح الأهم والأخطر، وهو الطيران والصواريخ التي مكنته من مواجهة الشعب بوحشية غير مسبوقة.
وعلى الرغم من إعلان إيران ترحيبها بالتدخل الروسي إلا أن مشاعر الضيق بالضرة القادمة بقوة ظهرت سريعاً، ولكن إيران وجدت في الرضا الأميركي عنها فرصة لحل كثير من مشكلاتها النووية في عهد أوباما الذي تفاءل به العرب والمسلمون واستقبلوه بترحيب كبير في أهم عواصمهم (القاهرة، إسطنبول) ثم وجدوا أنه لا يقدم غير الكلام والتصريحات لهم بينما يمنح إيران وموسكو حرية التصرف في امتلاك الشرق الأوسط وتقاسمه! وبالطبع كان الأوروبيون قلقين وحائرين وعاجزين، وقد واجههم أيضاً تهديد بتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه، وبعد خروج بريطانيا صار نقاش الخروج مقبولاً في كثير من الدول الأوروبية، التي باتت مثلنا نحن العرب تترقب ما سيحدث في واشنطن ولا تعرف حقيقته! وكنا سمعنا من كبار قادة أوروبا تعبيرهم عن الاضطراب في رؤية المستقبل بانتظار ما ستفرزه الانتخابات الأميركية وها نحن جميعاً نترقب اليوم ما ستعلنه إدارة ترامب التي أعطت رسائل يمكن اعتبارها واضحة ويمكن الحذر من تقلباتها أيضاً.
وقد شغلت الضربة الأميركية لمطار شعيرات اهتمام العالم بوصفها مؤشراً لتوجه السياسة الأميركية الجديدة، وأفاض المحللون في تفسيرها، وقد أحدثت ارتباكاً كبيراً في معسكر النظام وحلفائه، وكانوا يأملون أن تكون إدارة ترامب صديقة لهم على الرغم من التصريحات المضادة التي اعتبروها مجرد تشويش إعلامي تحتاجه الحملات الانتخابية. وعلى الرغم من أن الضربة لم تكن موجعة، إلا أنها ضربة على الطاولة تقول «نحن هنا»، ومع أنني لا أريد مزيداً من التدخلات العسكرية الأجنبية في بلدنا سوريا، إلا أن تفرد إيران وروسيا بالشعب السوري يهددنا مما جعل الشعب السوري ينتظر تدخلاً دولياً لإنقاذه، ونأمل أن يكون الإنقاذ بدفع العملية السياسية وليس بمزيد من الدماء والدمار.
وقد تساءل كثير من المراقبين «ماذا بعد شعيرات؟»، وكان الرد الإعلامي من النظام هو الإسراع بتشغيل مطار الشعيرات وانطلاق المزيد من الطائرات لقتل السوريين، واستخدام المزيد من العنف في الغوطة، ومتابعة تهجير السكان وتكثيف الحصار وبخاصة على الغوطة، وكان الرد الروسي «فيتو» جديداً في مجلس الأمن يعبر عن استمرار روسيا في سياستها في تحدي العالم وفي الدفاع عن رأس النظام حتى لو قادها الأمر إلى حرب عالمية كبرى!
وحتى اليوم لم تفصح الإدارة الأميركية الجديدة عن رؤيتها للحل، وعن حجم ومستوى التدخل السياسي الذي نترقبه في أي جولة مفاوضات قادمة، ونحن في عامة أطياف المعارضة نريد حلاً سياسياً ونبحث عنه منذ مارس 2011، ولكن النظام مصرٌّ على الحسم العسكري برغم ما يبديه من قبول بالتفاوض، ولكنه عبر كل الجولات السابقة كان يريد مناقشة قضية الإرهاب فقط ليكون شريكاً دولياً في الحرب على الإرهاب، وهو يرى أن كل من خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة إرهابيون، وهذا ما جعل كل الجولات التفاوضية مجرد تظاهرات مسرحية.
ونحن اليوم على أبواب جولة جديدة في جنيف نأمل معها ألا تكون مثل السابقات التي غاب عنها التوازن الدولي، وإن لم يكن هناك موقف عملي يؤكد هذا التوازن فلا فائدة من هذه المفاوضات العبثية التي كرهها كثير من أبناء شعبنا، وبات بعضهم يلوم هيئة التفاوض على استمرارها على الرغم من كون الهيئة ترى فيها مناسبة إعلامية لإيصال صوت الشعب الذي يراد له أن يكتم.
ومرة ثانية أؤكد أنني لا أتفاءل بأن يجيء حل في جنيف، فالحل السياسي يأتي عبر مجلس الأمن، وعبر موافقة الشعب السوري عليه، ورضائه به، لكن مؤتمر جنيف بوسعه أن يرسم آفاق الحلول.
من الممكن أن تستمع لآلاف المهاترات في الفضاء الالكتروني ، حول الاقتتال المندلع حالياً في الغوطة الشرقية بين فصائلها التي قررت أخذ دور المدافع أمام جموع الأعداء المتنوعين ، و دور المهاجم الجسور الذي لا يلين في مواجهة بعضهم الآخر ، معتمدين على مبدأ “التفرد لا يحكمه إلا القتلة ”.
قد نعجز في الوقت الراهن تحديد ما حدث و مسبباته على وجه الدقة ، و قد تخوننا عاطفتنا في توجيه أصابع الاتهام إلى الدافعين لهذا الاقتتال و المشاركين فيه و المتدخلين و الفاعلين ، و لكن في خضم هذه الصراعات الذاتية الداخلية ، يخرج تعليق واحد من احدى نساء الغوطة ، تقول فيه :”الله ياخدهن كلهم .. ولا يصفي ولا واحد فيهن” ، لتتيقن أن هذه هي الخلاصة التي يجب أن يحظى بها كل من اعتلى القيادة العامة عسكرياً أم سياسياً و الأهم شرعياً ، من لوثوا كل شيء و حافظوا على نظافة أثوابهم أمام سيل الدم ، تحت دعوى “تحكيم شرع الله” ، شرع يريدونه على الأموات بخلاف الأصل .
قد يكون هناك تحليلات عديدة لما يحدث مع صبيحة يوم ٢٨-٤-٢٠٧ ، المشؤوم و الأسود في تاريخ الرقعة الجغرافية التي تعد آخر من تبقى للثوار في دمشق و محيطها بشكل كامل ، تحليلات مبنية على حسب انتماء الناطق بها لهذا الفصيل أو ذلك أو ولائه لشخص أو للحية شرعي جهبذ في علم القتل و ليش الشرع حتماً ، منها ما يضع الحق في كفة هذا و آخرين ينقلونه إلى الكفة الأخرى ، في حين يعتزم كثر على النأي بالنفس على مبدأ “الله على الظالم” ، ظالم أعتى و أشد سواد من الليل حتى يبقى مجهولاً.
ومع اليقين بأن الوصول إلى نتيجة تتمثل بتسمية المتسبب ، ضرب من ضروب الخيال ، يجعل الجميع في ذات الميزان فهم ضحية و مجرم في آن معاً، وعلى جميع المستويات ابتداء من رأس الهرم حتى أصغر عنصر مشارك ، لا مكان للتسامح في هذه القوائم ، و ان تدرج حجم الاثم حتى يصل ذروته للشرعي العام ومحيطيه ومعتلي المنابر ، و كذلك قافذي الأنفس بين الدول و أؤلائك ممسكي زمام الخطط .
اليوم لاصوت أهتم به أو حتى أستمع إليه إلا صوت تلك الحرة التي تترتجف خوفاً في منزلها ، ويتملكها الرعب أكثر من اقتحام النظام و مليشياته للغوطة ، فهنا الموت معنى سام يحظى به من أنعم الله عليه ، ولكن الموت على يد المقتتلين هو موت سُمّي يكون من نصيب من فشل في الحصول علي الحظوة .
الطريق إلى الانتخابات الرئاسية في إيران مثل قائمة طعام، فيها أطباق تقليدية لا تتغير، وأطباق جديدة للتذوق ربما قد تشد الزبائن.
أعلن مجلس صيانة الدستور قبول ترشح حسن روحاني، وإبراهيم رئيسي، ومحمد باقر قاليباف، وإسحاق جهانغيري، وهاشمي طبا، ومصطفى مير سليم، وأكد رفض ترشح محمود أحمدي نجاد ومساعده السابق حميد بقائي.
وكان لوحظ رفض ترشح متطرف آخر هو علي رضا زكاني، وكأنه لا مكان لاستفزازيين في الانتخابات المقبلة. اللافت أن أحمدي نجاد لم يعلق شخصياً، بل بدل صورته في حسابه على «فيسبوك» ووضع مكانها صورة أخرى والجماهير تصفق له. ثم أصدر مستشاره الإعلامي البيان التالي: «الدكتور محمود أحمدي نجاد والسيد حميد بقائي شعرا بضرورة القيام بدورهما الثوري والوطني و(الديني) لحل المشكلات المعيشية للشعب الإيراني، لكن قرار مجلس صيانة الدستور (أزاح) عن كاهلهما هذا الدور و(الحمد لله رب العالمين)».
في الطريق إلى الانتخابات نشر رئيس شركة طيران إيران «اسيمان» صورة له وهو يصافح ممثلي شركة «بوينغ» الأميركية. حسين علائي، وهو منذ عقود طويلة مسؤول كبير في الحرس الثوري، كان قال: «وضعنا الخطط بحيث سنستعمل كل قدراتنا العسكرية لندمر الأسطول الأميركي». بعد ذلك جاء الطبق التقليدي الرئيسي والثابت، حيث أكد علي سعيدي ممثل المرشد الأعلى علي خامنئي لموقع «الحرس الثوري الإيراني» أن «الثورة هيأت الظهور للإمام المهدي، وتعد المرحلة الأخيرة قبل ظهوره، لكنْ، هناك طرفان يعملان على منع ذلك، وهما الولايات المتحدة، والليبراليون والعلمانيون في إيران»، وقد لاقاه رد الشيخ مالك وهبة في لبنان من كوادر «حزب الله»؛ حيث قال: «لقد احتاج الأمر إلى ما يزيد على ألف وثلاثمائة عام كي تتهيأ الأمة لمثل هذه الظروف (...). يا سيدي هذا أوان الظهور فمتى يكون (....)؟ إذا لم يتم في هذا العصر، فإنه سيتأخر ألف عام».
ومن الأطباق التقليدية استمرار الإعدامات، حيث تأكد أن أكثرية الذين أعدموا «بتهمة الإرهاب والإفساد في الأرض» في ما بين مارس (آذار) الماضي ومارس من هذا العام، كانوا من الأكراد والعرب. كما تبنت المحكمة العليا الحكم بالسجن 5 سنوات على نزانين زاغاري واتكليف البريطانية - الإيرانية، والدة طفلة منعت أيضاً من السفر، بتهمة محاولة «قلب النظام».
وفي الطريق إلى الانتخابات، كان هناك طبق جديد ولافت؛ إذ وقف طالب جامعي يوم الأحد الماضي خلال اجتماع مع حسن عباسي، من كبار قياديي «الحرس الثوري»، وتحداه وسط تصفيق وتهليل من القاعة حول دور إيران في سوريا، وقال له: «إن نظريتكم هي نظرية نشر الرعب والإرهاب بتصدير السلاح للدفاع عن الديكتاتور بشار الأسد. تقولون الدفاع عن المزارات الشيعية التي لم تكن أبداً موجودة في إدلب أو في حمص. أين هي المزارات هناك؟ إنكم تلعبون بعواطف الشعب».
هذا الطبق، انتشر كالريح في كل مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يشد الزبائن. جرأة هذا الطبق يلاقيها صمت طبق آخر، يحكي عن سقوط أكثر من 53 أفغانياً وباكستانياً شيعياً في سوريا في الأسابيع الأربعة الماضية.
يدرس الرئيس حسن روحاني هذا القائمة، ويتساءل هل ستأخذه مع الاتفاق النووي إلى الرئاسة من جديد في 19 مايو (أيار) من الشهر المقبل؟ من المؤكد أنه سيواجه تحدياً عندما يتوجه الإيرانيون إلى صناديق الاقتراع. هو يتطلع إلى تأمين ولاية ثانية. أحد المنافسين الرئيسيين هو إبراهيم رئيسي، حارس مقام الإمام الشيعي الثامن، ورجل دين محافظ وحليف خامنئي، في السادسة والخمسين، وعمل سابقاً أميناً لإحدى كبرى الجمعيات الخيرية. يرتدي عمامة سوداء، ليشير إلى أنه سيد، ومن سلالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، مما يزيد من سلطته في الأوساط الدينية. والدليل الكبير على أوراق اعتماده المحافظة أن البعض يرشحه ليأتي بعد خامنئي، إلى درجة يبدو معها كأنه من غير المحتمل أن يخسر «نجمهم الصاعد» حتى أعلى المراكز، في أول مسابقة كبيرة له. «رئيسي» هو المرشح المفضل للمؤسسة الدينية، لكن وعلى الرغم من أن دعم المحافظين له ميزات أفضلية، فإنه لا يجعل من انتصاره أمراً مفروغاً منه.
بدأ المحافظون الآن يصورون رئيسي باعتباره الشخص الذي لديه أكبر فرصة للفوز، لكن التقارير أشارت إلى تعيينه أعضاء من «جبهة التحمل» المتشددة في المناصب الرئيسية في حملته، مما دفع إلى تكهنات بأن فرص فوزه آخذة في التناقص، خصوصاً أن الرئيس الروحي لـ«جبهة التحمل» هو آية الله محمد طاغي مصباح يزدي المعروف بوجهات نظره المتشددة، وكان مرشحه في انتخابات عام 2013 سعيد جليلي الرئيس السابق لفريق التفاوض النووي حصل على 4 ملايين صوت ضد روحاني الذي حصل على 19 مليون صوت. ويدعي رئيسي أنه دخل السباق على أنه مستقل.
أما روحاني، فإنه يتطلع إلى فترة رئاسة ثانية، لكنه يجد نفسه بين مطرقة اقتصاد تعب، واتفاق نووي لا يحظى بشعبية.
للوصول إلى الاتفاق، تلقى روحاني دعماً من خامنئي بسبب الظروف الصعبة التي كانت تعيشها إيران في ظل عزلة دولية، وعقوبات ساحقة، واحتمال أن تقوم الولايات المتحدة أو إسرائيل بشن ضربة وقائية ضد منشآتها النووية. الآن تغير الوضع، والرخاء الاقتصادي لم يطل برأسه، والإيرانيون متعبون من محنتهم. وفي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة مقرها تورونتو بكندا، تبين لدى الغالبية أن الاتفاق لم يحسن مستوى معيشة الإيرانيين العاديين، وإن كانوا ما زالوا ينظرون بإيجابية إلى روحاني.
إذا جمعنا العوائد الاقتصادية الهزيلة، والتصريحات القوية الآتية من واشنطن بالنسبة إلى إيران، نجد أمامنا كل المكونات المطلوبة لأزمة انتخابية. الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليس مهتماً بالاتفاق، لم يفككه بعد، تجاوزه بسياسة خارجية مبكرة تجاه المنطقة موجهة لتوطيد التحالف السنّي الأميركي المعارض لإيران، وهذا أبعد ما يكون عن طرح الرئيس السابق باراك أوباما، بأن الاتفاق النووي مع إيران هو لإعادة توازن السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. تجاه هذه المواقف المتطورة، لم تعد القيادة الإيرانية تهدد بتمزيق الاتفاق، فهي إن فعلت، فستجد ترحيباً من واشنطن، ويقول لي مسؤول أميركي إن الإيرانيين لا يريدون العودة إلى العداء المفتوح مع أميركا، بل يبحثون عن نافذة يرون منها يداً أميركية ممدودة نحوهم.
عندما فاوض روحاني على الاتفاق، كان يتوقع نفوذاً اقتصادياً ومالياً مقابل فقدان إيران نفوذها الاستراتيجي عبر منشآتها النووية. الرئيس ترمب لا يعنيه أي اتفاق فاوض عليه الرئيس أوباما. لم يتردد في التمرد على الصين، وحتى على الحليف الياباني. لكن إذا خسر روحاني الانتخابات، فستكون تلك نهاية تجربة مؤسسة الأئمة الحاكمة في إيران بالانفتاح المحدود على العالم الخارجي، كما أنها ستشكل انعطافاً باتجاه المتشددين دينياً في الاستعداد لتأمين خلافة خامنئي.
قد يفوز روحاني بدعم من خامنئي نفسه، لكن يجب ألا يعتبر فوزه تحصيل حاصل. هو الآن من دون شريك على الحلبة الدولية، كما كان في زمن أوباما، والمقلق أكثر أن إدارة ترمب سوف توسع العقوبات على إيران، وتطبق الاتفاق بشكل أكثر صرامة. من الواضح أن هذه الإجراءات تأتي في وقت حساس، وقد تميل الدفة في إيران إلى فوز أحد المرشحين المحافظين، وربما هذا ما تتطلع إليه إدارة ترمب. هي تريد «شريكاً جديداً»، في مرحلة عداء جديدة مع إيران، إنما أميركا تضع شروطها هذه المرة، ولذلك تجب مراجعة ما قاله علي سعيدي عن الإمام المهدي.
بعد الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات السورية، بدأ حلفاء بشار الأسد إعادة حساباتهم، ووضع سيناريوهات بديلة للمستقبل. ففي 15 أبريل/ نيسان الجاري، اجتمعت قيادات مليشيات عراقية مقاتلة في سورية، برعاية إيرانية، لترتيب أوضاعها السياسية والقتالية حال رحيل الأسد. ولم ينعقد الاجتماع لأن رحيل الأسد بات قريباً، ولكن لأن تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير متنبَّأ بها. وقد تداول المجتمعون في دمشق أفكاراً حول "الانفصال عن قوات النظام" و"ضم متطوعين سوريين من مدن الساحل السوري، وتسليمهم مهمة قيادة فصائل المليشيات"، والظهور بمظهر "المقاومة الشعبية"، والتأكيد على شعارات "حماية محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي".
بات قرار القتال في سورية حتى لو غادر الأسد السلطة محسوماً. وكتب الزميل عثمان المختار في "العربي الجديد" عن تفاصيل هذا الاجتماع تحت عنوان "مليشيات عراقية: باقون في سورية ولو رحل الأسد" في 21 أبريل/ نيسان الجاري.
مرت أنباء اجتماع المليشيات العراقية في دمشق مروراً عابراً، لأن بقاء هذه المليشيات في سورية، وقتالها حتى لو رحل الأسد، أمر مسلم به من الأساس، فلم يعد الأسد إلا خيطاً ناظماً لمجموعة مليشيات طائفية، تقاتل تحت رايته أكثر من قتالها تحت إمرته.
لا يختلف مشهد الأسد كثيراً عن مشهد خصومه، إلا أن لمعسكر النظام "رمزاً" يتمركز القتال حوله، الأمر الذي يفتقده معسكر المعارضة الأكثر تشتتاً. وقد نُشرت تقارير كثيرة عن أمراء الحرب، في معسكر النظام، وفقدان الأسد السيطرة. باتت المليشيات تحكم نفسها، وأصبحت تنظم هجماتها، وتحكم السيطرة على خطوط إمداد، وخطوط تهريب. وهذا بعد العام 2013 وليس خبراً جديداً.
ما يتم تجاهله في سورية أن النظام فشل بالاعتماد على نفسه لقمع المعارضة، فجنّد الشبيحة أولاً. ثم استعان بالإيرانيين الذين جلبوا له مليشيات طائفية من أفغانستان والعراق ولبنان لقتال الفصائل المسلحة. وعندما فشل هؤلاء أيضاً، تدخل الروس تدخلاً مباشراً. وهنا، يأتي سؤالٌ ملح: أي معنى تبقَّى للدولة؟
فشل النظام السوري باحتكار العنف، فتحولت الثورة مسلحة، ثم فشل في احتكار العنف حتى في المناطق التي يسيطر عليها، فأصبحت في قبضة مليشيات أجنبية موالية له ومجموعات من الشبيحة.
في الجهة المقابلة، لم يفشل النظام في حماية مواطنيه وحسب، بل قتلهم، وأبادهم في عمليات انتقامية عشوائية، إنْ بالسلاح الكيميائي أو بالبراميل المتفجرة، متبعاً سياسات التنكيل واستهداف المدنيين بصورة مباشرة لعزلهم عن المسلحين. وهنا، لم تخضع "الدولة" في سورية لتعريف مدرسي آخر للدولة: التنازل عن شيء من الحرية في مقابل الحماية، فأصبحت الدولة القاتل الأكبر.
قرار المليشيات العراقية القتال حتى لو رحل الأسد متوقع. وسيقاتل حزب الله على جبهاته حتى لو سقط النظام، ولن يقوم بأكثر من إعادة انتشار لقواته على الأرجح. سيستمر الشبيحة في القتال أيضاً، فهم أمراء حرب في مناطقهم.
بشار الأسد مرتهن لمعسكره. تعامل الروس المهين واستدعاؤه لمقابلة وزير الدفاع سيرغي شويغو على الأراضي السورية في يناير/ كانون الثاني 2016 مثال صغير. تصريحات المليشيات العراقية الموالية لإيران مثال آخر.
لم يعد للأسد "دولة" إلا في خيالات أنصار "محور المقاومة" الذين يريدون أن يبرّروا، باسم فلسفات الدولة، دعم تشكيلات واسعة من المليشيات الطائفية، والقوى الخارجية التي تعبث في البلاد. الأسد طرفٌ في حربٍ أهلية مثل الآخرين، ومدعوم خارجياً مثل الآخرين، وسيطرته على حلب أو ريف دمشق لن تكون عودة للدولة، بل سيطرة لمليشيا على منطقة.
ما يجعل الأسد مختلفاً عن أي طرف مقاتل في سورية أنه الفصيل الأكثر تنكيلاً بالسوريين، الأكثر قتلاً وإبادة لهم، والذي يتحمل المسؤولية كاملةً عن كل ما يجري، لأنه كان "الدولة".
تستثير السياسة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترامب أسئلة حول المآل الذي يمكن أن تصل إليه في سياستها «الهجومية» المستجدة. كيف ترى هذه الإدارة الى مصالح أميركا بوصفها العنصر المحدد لسياستها الخارجية؟ ولماذا تبدو متناقضة مع الوجهة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق؟ ما الخلفية الأيديولوجية الكامنة وراء السياسة الهجومية، وعلى الأخص التوتر «الكلامي» حتى الآن مع إيران؟ أسئلة تحتاج الى أجوبة.
لا بد أولاً من استعادة الخلفية «الأيديولوجية» لسياسة أوباما تجاه المنطقة العربية وتجاه إيران على وجه التحديد. قامت «عقيدة» أوباما على قاعدة أن بلدان الشرق الأوسط منقسمة مذهبياً الى دول غالبيتها تعتمد المذهب السنّي، وأخرى تعتمد المذهب الشيعي. منذ اعتداءات أيلول (سبتمبر) 2011، ساد اقتناع أن بعض الدول ذات المذهب السنّي ترعى الإرهاب الذي ضرب أميركا وأوروبا. اعتمدت إدارة أوباما وجهة احتضان تنظيمات إسلامية تعتبرها معتدلة ومناهضة للإرهاب، فأقامت علاقات مع تنظيم الإخوان المسلمين، وراهنت على وجوده في السلطة. لكن «الإخوان» اخفقوا في تحقيق أمنيات الإدارة الأميركية، حيث ظهر تنظيمهم بصفته الأب والأم لسائر التنظيمات الإرهابية. بعد أن خاب أمل الأميركيين من العالم «السنّي»، جرى التحول نحو إيران بصفتها القطب الآخر المذهبي الذي يمكن الاعتماد عليه والتحالف معه في وجه الإرهاب. هذا القطب تمثله دولة إيران، فبات الاهتمام الأميركي منصباً على إقامة علاقة حسنة مع إيران، وكان المدخل هو البرنامج النووي الإيراني الذي انتهى بتوقيع اتفاق إيجابي مع ايران. شكل ذلك تحولاً استراتيجياً، عبر التراجع عن العلاقة القوية مع بعض الدول العربية لمصلحة الدولة الإيرانية.
على رغم التوافق الأميركي- الإيراني على امتداد أكثر من عقد، خصوصاً منذ احتلال العراق عام 2003، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود تباينات بين المصالح الأميركية ومتطلباتها، وبين المصالح الإيرانية. لكن الثابت في السياسة الأميركية كان المهادنة مع طموحات إيران وتطلعاتها التوسعية في المنطقة، على رغم اعتراضات دول عربية حليفة بالأصل للسياسة الأميركية. استثمرت إيران التفاهمات مع الولايات المتحدة الى أبعد الحدود. فتربعت على قمة السلطة في العراق، بواسطة وكلائها من أمثال نوري المالكي، على ظهر الدبابات الأميركية وبحماية الإحتلال. تعاطت مع العراق بوصفه المدى الحيوي لإيران، فبات تشكيل الحكومات والميليشيات خاضعاً لما تقرره قيادة الحرس الثوري. وبعد الانتفاضة السورية، تدخلت إيران بقوة لحماية نظام الأسد، سواء بجيشها مباشرة، او بواسطة الميليشيات التابعة لها خصوصاً «حزب الله». ومدت أذرعها للتدخل في اليمن عبر دعم حركة الحوثيين، بواسطة السلاح الثقيل والمستشارين، ويقال بوجود قوات من الحرس الثوري. ولم تكف عن التدخلات في البحرين عبر دعم المعارضة فيها.
هذه السياسات الإبرانية كانت أحد الأسباب في تسعير الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة. لم تعر الإدارة الأميركية السابقة أي اهتمام لهذا الدور الإيراني المستفحل، بل أصرت على اعتماد النهج نفسه في إضعاف حلفائها الأصليين لمصلحة إيران. في العودة الى إدارة ترامب، المنطلقة من مصالح اميركا أيضاً، يبدو الفارق هو عدم الانطلاق من التفريق الطائفي والمذهبي في العلاقات والتحالفات، وهو أمر بدا بعيداً من التصنيف «الأيديولوجي» الذي اعتمدته إدارة أوباما. ينطلق ترامب من هدف استعادة موقع أميركا في الشرق الأوسط، وإعادة تحجيم الدول القائمة والذي تجاوز بعضها حدود المسموح له. بقي الثابت الأميركي الوحيد هو الدعم المطلق لإسرائيل، وهو ثابت لدى كل العهود الأميركية، ديموقراطية كانت أم جمهورية.
تصاعدت اللغة الأميركية الهجومية ضد إيران، فجرى توصيفها انها الداعمة للإرهاب في المنطقة، وأنها تهدد الأمن القومي الأميركي، وان البرنامج النووي الذي وقعه أوباما يجب إعادة النظر به بكل ما يعنيه من عدم رفع العقوبات. مما يعني وجوب تقليم أظافر إيران في المنطقة. واستكمل ترامب سياسته تجاه إيران بضربة عسكرية في سورية كانت الرسائل واضحة عبرها سواء الى الروس او الى الإيرانيين.
اذا كان ترامب لم يجد حرجاً في توجيه ضربة عسكرية الى سورية، وهو تصرف يعبر عن ترجمة التهديدات الى أفعال، فهل بإمكانه ان يتصرف مع إيران وفق الأسلوب نفسه؟ ليس الأمر مبسطاً، فإيران دولة تملك ترسانة صاروخية، صحيح انها لا توازي الترسانة الأميركية، ولكنها قادرة على إحداث دمار في القوة العسكرية الأميركية. لذلك تبدو الحسابات مع إيران أكثر تعقيداً من استسهال ضرب قواعد عسكربة في سورية؟ يناقش الطرفان الأميركي والإيراني احتمالات الصراع والحدود التي سيصل اليها، وليس غريباً ان تكون الحسابات دقيقة تجاه أي خطوة تصعيدية. تحتاج هذه العلاقة الى فترة تنقضي فيها الانتخابت الرئاسية في إيران التي ستحدد مسار علاقات إيران الدولية ومنها تلك المتصلة بالإدارة الأميركية.
ما إن أسقطت الثورة الشعبية الإيرانية نظام الشاه الاستبدادي، واستكمل الملالي سيطرتهم عليها، حتى أوكلوا لجمهوريتهم الإسلامية مهمة مزدوجة، هي تحرير فلسطين وتصدير ثورتهم الإسلامية إلى البلدان العربية بدرجة أولى، بحجة توحيد العالم الإسلامي تحت قيادة الخميني: قائد معركة القضاء على إسرائيل.
سوّغت هاتان المهمتان، بترابطهما، تعبئة إيران قطاعات شيعية عربية تبنّت نظرية ولاية الفقيه وتنظيمها وتمويلها وتسليحها، مع إعطاء أولوية خاصة للعراق ولبنان. الأول، بسبب حجم مسلميه الشيعة وتاريخية العلاقة بين النجف وقم. والثاني، بسبب مجاورة شيعته فلسطين. هذه السياسة مزدوجة الاستخدام التي تدمج المهمتين إحداهما في الأخرى، طبقا لحاجات إيران، وما تتطلبه مصالحها، اعتبرت تصدير الثورة، بما تمثله من اختراق للبلدان العربية شرطا لازما لتحرير فلسطين الذي يحتم دمج القوى الشيعية المحلية مع تشكيلات إيران العسكرية المقابلة لها، لقيامها بالمهام التي تكلف بها داخل بلدانها، وكأنها جزء تكويني من الجيش الإيراني، يرابط في البلد العربي المعني. يتخطى دوره الشؤون العسكرية والأمنية إلى دور اجتماعي، يضمن ولاء الكتل الشعبية الشيعية له، لضرورة ربط حاجاتها اليومية وحياتها بمؤسسات إيران الموازية أو المماثلة، الناشطة في أطر محض عسكرية وأمنية.
تلازمت هذه التطورات مع ترسيخ انقلاب حافظ الأسد في سورية الذي كان أول رئيس عربي عقد تحالفا على مستوى الدولتين، السورية والإيرانية، أحدث تبدلا جوهريا في علاقات دول المنطقة العربية ببعضها، وبينها وبين إيران، وغطى مذهبيته برطاناتٍ سياسيةٍ قوميةٍ في دمشق وطهران، جعلت القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين مركز خطابها، ونقلتنا من وعد التحرير العربي المحتجز إلى حال عماءٍ بلا ضفاف، أسموها حلف "المقاومة والممانعة"، الذي سرعان ما ضم حركاتٍ وأحزابا انخرطت في خطط الدولتين، التي قامت على مزيجٍ من رهانات علنية وسرية، غطت تنفيذيا المجالين العربي والإسلامي. وأفادت من نقاط ضعفهما، وحاولت وضع أيدي المتحالفين على قضاياهما ذات التأثير المعنوي الواسع شعبيا، وجعلها ذريعةً لإطلاق خطاب تحريري، أريد به حجب دور الأسد في تضييع الجولان، وامتناع نظامه عن العمل لإقامة شروط تحريرها الوطنية والقومية، وفي الوقت نفسه، لاستغفال العرب واختراق أوطانهم ودولهم.
بعد عام 1982، جسد حزب الله اللبناني التنظيم/ النموذج الذي قيّض له أن يلعب دورا رئيسا لتنفيذ هذا التوجه الاستراتيجي الإيراني/ الأسدي، المزدوج الاستخدام، وليس من قبيل المصادفة أن تأسيس الحزب تم بالتعاون بين مخابرات حافظ الأسد وفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني. لذلك، وضع تحت إشراف أجهزة أمن البلدين، وزود بكل ما احتاج إليه من مالٍ إيراني وسلاح أسدي، بينما مكّنه احتلال لبنان أسديا/ إيرانيا من إنجاح أولى المهام التي كلف بها: القضاء على "حركة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي كانت قد شكلتها أحزاب وطنية وتقدمية لبنانية، مؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية/ مقاتلة للصهيونية، وسقط مئات الشهداء والجرحى والأسرى من مناضليها، لكن "حلف الممانعة" بدأ بإزالتها من الساحة، لتمكين الحزب من الانفراد بساحة الجنوب، وخوض صراع متقطع ضد الاحتلال الإسرائيلي مناطق تعادل 12% من مساحة لبنان، كان قد استولى عليها بالتلازم مع غزو الجيش الأسدي لبنان بذريعة "حمايته أرضا وشعبا" التي برّر بها حربه ضد المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، ونسيها حين غزا العدو الإسرائيلي الجنوب ووصل إلى نهر الأولي، في عمليةٍ أخذت صورة اقتسام للبنان، أيدتها أميركا مقابل تعهد الأسد بقصر حربه على منظمة التحرير باعتبارها عدواً مشتركاً. يفسر هذا شن إسرائيل آلاف الغارات الجوية والبرية والبحرية ضد قوات المنظمة في لبنان، من دون أن تصيب جنديا أسديا واحدا، "مقاوما وممانعا"، وكيف تصيبه إن كان الأسد قد أرسل 35 ألف عسكري إلى لبنان، من دون أن يصل عسكري واحد منهم إلى جنوب الأولي، لـ"حماية لبنان أرضا وشعبا" من إسرائيل. يرجع ذلك إلى اتفاقه مع تل أبيب على غزوه لبنان، واعتبار المنظمة الخطر الوحيد على وحدة لبنان أرضا وشعبا.
بعد تأسيس حزب الله، تطور تعهده إلى تحكم أسدي به، استخدمه أداة استعان بها، ليوهم السوريين بأنه يخوض معركة تحرير الجولان في لبنان، بدعم من دولة شقيقة هي إيران التي تتفانى في تحدي العدو، وتتقدم إلى ميدان المعركة، بينما يختبئ العرب وراء أصابعهم، ويحجمون عن مساعدة النظام على استرداد أرضه المحتلة من العدو الإسرائيلي، ناهيك عن تحرير فلسطين: رهان إيران الأول.
تعزّز تصدير الثورة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتسليمه لإيران وأتباعها، وتخلق محورٌ شيعي مركزه كتلة طهران/ بغداد/ ودمشق، وجناحاه البعيدان في مزار الشريف الأفغانية وجنوب لبنان المتوسطي. بعد العراق، انقلب حضور إيران في سورية إلى حضور دمجي/ احتلالي، خصوصا بعد تنصيب الحرس الجمهوري بشار الأسد رئيسا لدولةٍ، كانت تزداد ارتباطا بطهران، على الصعيدين العقائدي والمذهبي. لذلك، وما أن قامت الثورة ضده، حتى أصدر المرشد أمرا إلى حسن نصر الله بإرسال حزب الله، محرّر فلسطين المزعوم، إلى سورية، لتحريرها من شعبها وحماية "ملا القرداحة" العلماني، مندوبها السامي في دمشق الذي يغطي منصبه هوية نظامه المذهبية/ العقدية، المحمية من خلال ربط سورية ب ـ"المركز الإمامي" في طهران وذراعه الطائفي اللبناني، لربط سيطرته بتمكين إيران من استخدامها تحقيق أي هدفٍ تريده، وللإفادة من قدرته على خططها لإنهاك العالم العربي واختراق بلدانه، وخصوصا الخليجية منها، بينما يعرّضها التصدي لإسرائيل إلى انهيارٍ، يطاول وجودها في عموم المشرق، وربما داخل إيران نفسها. والآن: إذا لم يكن تدمير العالم العربي هدف إيران الاستراتيجي، ما معنى تصريحات كبار مسؤوليها السياسية والأمنيين حول تبعية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء لهم؟ ... وماذا عن تحرير فلسطين أيها السادة؟ هل كانت وظيفته تغطية تصدير الثورة إلى المشرق والخليج وشرق وشمال إفريقيا؟ ألم تستخدمه لشن الحرب على الشعوب العربية، وخصوصا منها الواقعة على محور مزار الشريف/ جنوب لبنان التي اتهمت طهران معظم شعوبها بالأصولية والتكفير، وغزتها بالتعاون مع مرتزقةٍ متنوعي الجنسيات، وبطشت بكتلها الكبرى واستبدلت سكانها بأغراب استجلبتهم من أفغانستان وأوزبكستان وبنغلادش وإيران والعراق ولبنان واليمن و... و... إلخ؟
والآن: هل للقتال من أجل بشار اعتباراتٌ تمليها مصالح سياسية أم أن الشراكة المذهبية/ الطائفية مع إيران هي التي تمليه؟ إذا كان قادة "المركز الإمامي" في طهران يقولون بلا خجل: سورية هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، وإنهم يدافعون فيها عن آل البيت، ويمنعون سبي زينب مرة أخرى، وأن مسلحيهم ينشدون أغاني تعد بتطهير مكة، وقتل أهلها، ماذا يبقى من معنى للسياسة؟ ولماذا لا تعامل إيران دولة تقوّض العالم العربي، كما لم يفعل حتى الاستعماريون والصهاينة؟ وإذا كان عدد قتلى "حرب تحرير فلسطين" التي شنها حزب الله والحرس الثوري والجيش الإيراني وفيلق القدس لم يتعد عشرات قليلة من جنود إسرائيل، طوال خمسة وثلاثين عاما، وكان هؤلاء مجتمعين قد قتلوا مئات آلاف الشهداء، وجرحوا وشوهوا وسجنوا وغيبوا وقتلوا تحت التعذيب وهجّروا ورحلوا وحاصروا وجوعوا ملايين السوريات والسوريين خلال أقل من ستة أعوام ، من أجل حماية "ملا دمشق" من شعبه، فعن أي تحريرٍ لفلسطين والجولان، وأي إخاء إسلامي تتحدث طهران؟
استخدمت إيران "تحرير فلسطين" لتصدير ثورتها المذهبية إلى شعوبٍ ترفضها، وخاضت حربا شاملة تدثرت بالإسلام، أقدس مقدسات العرب، للالتفاف على وعي المؤمنين والغدر بهم، ولربط مصيرهم بها، وتقويض انتمائهم القومي، لإيمانها بأن لفشلها نتائج تمسّ بقدرة عقيدتها على حفظ دولتها، وتفضي إلى نجاة العرب من صراعاتٍ وحروبٍ مذهبيةٍ تريد زجّهم فيها، لا مصلحة لهم في وقوعها، ولم يكونوا يوما طرفا فيه، ويعتقدون أن انبعاثها المتجدّد لن يكون غير كارثةٍ تحل بهم، ما دام تجييش المسلمين بعضهم ضد بعض لا يخدم غير العدو الإسرائيلي وواشنطن، فهل هذا هو دور إيران؟
بانكشاف سياساتهم كفاعلية تغطي سعيهم إلى تدمير جوارهم بالمذهبية المسلحة، يضع الملالي إيران، شقيقة العرب التاريخية، في تناقضٍ قاتل معهم، ويسهمون بتدمير ما لم يدمّر بعد من بلدانهم في الخليج، وخصوصا منه السعودية. واليوم، وقد كادت سياسات طهران تبلغ نهاية شوطها، في زمن تقومنت وتعلمنت سياساته ومصالحه، ويستحيل ردّه إلى ماضٍ زال وانقضى، مهما غطته بألاعيب سياسية المظهر، تدرك دول المنطقة ومعظم دول العالم أن إفشال سعي إيران إلى إحياء رميم المذهبية شرط لازم لإنقاذ الأمة العربية وحضارتها، ومجمل حضارة البشر.
تزداد قوة دوران دوامة الحرب السورية في الآونة الأخيرة، خاصة بعد المجزرة الكيميائية المرتكبة في بلدة “خان شيخون”، وما أعقبها من ضربات عسكرية أمريكية محدودة استهدفت مطار “الشعيرات” كاستعراض لقوة السلاح الأمريكي في حقل تجارب سوري مفتوح.
ما إن أعلنت الخارجية الأمريكية عن انتهاء عمليات القصف على مطار الشعيرات، حتى انهمرت أطناناً من الصواريخ والقذائف فوق المناطق المحررة. رغم أن هذه الأسلحة غير كيميائية لكنها أحدثت العديد من المجازر في عدة بلدات كجسر الشغور وسلقين وأورم الجوز وغيرها، وكان للمشافي ومباني الدفاع المدني النصيب الأكبر من ذلك القصف والتدمير فأُخرج معظمها عن الخدمة في حملة ممنهجة لهدم البنية التحتية في الشمال السوري.
أهم تلك المشافي المدمرة في الآونة الأخيرة:
1 – المشفى الوطني في مدينة معرة النعمان والذي قُصف في 2 نيسان.
2 – مشفى الرحمة في مدينة خان شيخون في 4 و 16 نيسان.
3 – مستوصف حيش في 7 و 8 نيسان.
4 – مشفى الإخلاص في قرية شنان في 17 نيسان.
5 – المشفى المركزي قرب عابدين في 22 نيسان.
6 – مشفى الشهيد وسيم حسينو في مدينة كفر تخاريم 25 نيسان.
تستمر هذه الحملة مع عقد الاجتماعات من قبل الأقطاب المؤثرة للبحث عن حلّ سياسي ترقيعي يرضي كلّ الأطراف المتصارعة والمتناحرة في سوريا، ويوقف تصفية الحسابات فيما بينها على حساب هذا الشعب المنهك مسلوب الهوية والقرار والذي تحوّل لمجرد أرقام في عداد القتلى والجرحى والمفقودين لا أكثر.
فقَدَ السوريون في هذا الصراع الدولي عدة مفاهيم كالمواطنة والهوية، وسلبت منهم ثورتهم، ودمرت منازلهم، وقتل أولادهم في حرب دولية كبيرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل إلاّ تلك الثورة على ذلك الحاكم المستبد الذي استعان بكل الميليشيات الأجنبية للتمسك بالحكم، وإظهار نفسه على أنه متحكم بالقرار السوري المسلوب منه منذ فقد سيطرته على مناطق واسعة من البلاد .
في حين ينتظر الشارع السوري ضربات أمريكية جديدة، على مناطق استراتيجية تلجم الأسد ومليشياته، تعود الولايات المتحدة الأمريكية للحديث عن المناطق الآمنة ولنقطة العقوبات المالية فأدرجت يوم الإثنين الواقع في الــ 24/4 /2017م على تلك القوائم 271 موظفاً في المركز السوري للبحوث العلمية بتهمة العمل على تطوير الأسلحة الكيميائية لأكثر من خمس سنوات؛ تأمر العقوبات البنوك الأمريكية بتجميد الأصول المالية والعقارية لأي موظف قد أُدرج اسمه، وتمنع جميع الشركات الأمريكية من القيام بتعاملات مع مؤسساته، وقد أعلن وزير الخزانة “ستيفن منوتشين” في بيان له أنّ هذه العقوبات الواسعة تستهدف مركز الدعم العلمي للهجوم المروع بالأسلحة الكيماوية للدكتاتور بشار الأسد على رجال ونساء وأطفال مدنيين أبرياء وأنّ السلطات الأمريكية ستلاحق باستمرار الشبكات المالية لجميع الأفراد المشاركين في إنتاج الأسلحة الكيماوية المستخدمة لارتكاب هذه الفظائع وستقوم بغلقها.
لم يكن قرار ترامب على مستوى تطلعات الكثير من السوريين لأنها تذكرهم بحقبة أوباما وتعاطيه مع القضية السورية لأنّ هذه العقوبات كسابقتها لن تؤثّر على مجريات الأحداث ولن تخفف من وطأة الحرب والعنف على المدنيين.
من المؤكد أن هذه المأساة تجاوزت الحدود السورية، وعبرت الحدود التركية، وشملت العراق ولبنان والأردن، وتحوّلت قضية اللجوء لقضية محورية!
إلا أن اختصار الحل ببعض العقوبات المالية التي تدر أرباحها للبنوك الأمريكية، وإقامة مناطق آمنة في جنوب سورية وشمالها لإيقاف الهجرة إلى تلك الدول هو الأنانية بحد ذاتها، ومحاولة حل الصراع التاريخي بهذه الطريقة كتوجيه بعض الضربات الصاروخية المحدودة سيكون أشبه بقطع زيل الأفعى وترك رأسها، كما سيكون تسليط الضوء على إجرام داعش والتغاضي عن الميليشيات الشيعية الأجنبية التّي تجوب المنطقة لتبتلع أكثر عدد ممكن من البلدات وتهجر أهلها، والتغاضي أيضاً على عمليات التهجير التي يقوم بها حزب الــpkk الكردي بعد سيطرته على مناطق في الشمال السوري.
كل ذلك يدل إلى أن المنطقة تسير إلى التقسيم وفق تصنيف طائفي دون أي تدخل من قبل المجتمع الدولي، وهذا ما سيجعل المنطقة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، ولن تقتصر على سوريا فحسب، لأن الطوائف تتوزع على كل البلاد المجاورة، مما سيهددّ المنطقة العربية ومحيطها بالتفتت والتشظي، ويتوعد المحيط كله بزحف الحرب الطائفية إليه، وهذا كله يصب في صالح إسرائيل المستفيد الأكبر من إطالة أمد هذه الحرب.
في غياب المفاجآت، سيكون إيمانويل ماكرون ابن الـ39 عاما الرئيس الجديد لفرنسا، خصوصا بعدما أيده اليمين والوسط وقسم كبير من اليسار. صار لدى ماكرون الذي حل أوّلا في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية ما يكفي من دعم توفّره له القوى السياسية للانتصار على مارين لوبن مرشحة اليمين المتطرّف والمعجبة ببشّار الأسد. لم يحن بعد وقت وصول اليمين المتطرّف إلى الإيليزيه على الرغم من كلّ الجهود التي تبذلها أطراف عدّة تدّعي محاربة الإرهاب من أجل تحقيق هذا الهدف.
المفارقة، أنه للمرة الأولى منذ قيام الجمهورية الخامسة في فرنسا، هناك مرشحان يتنافسان على الرئاسة لا يمتلك أيّ منهما كتلة نيابية تذكر. لدى لوبن نائبان وليس لدى ماكرون الاشتراكي السابق الذي كان ينتمي إلى ما يسمّى تيّار “اليسار الذي يحبّ الكافيار”، أي حياة البذخ على طريقة فرنسوا هولاند، أي نائب. كيف سيفعل الرئيس الفرنسي المفترض من أجل ممارسة سلطته في بلد فيه نظام يجمع بين الرئاسي والبرلماني؟ الأكيد أن ماكرون سيتدبّر أموره، خصوصا أنّه قادر على التكيّف مع كل الظروف، ويعمل تحت شعار الرجل “القادر على أن يكون على تفاهم مع الجميع”، مع الذين على تفاهم معهم فعلا، ومع الذين لا يتفاهم معهم!
في كلّ الأحوال، يظلّ ماكرون ظاهرة فرنسية، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار صعوده السريع إلى موقع المرشّح الأبرز لدخول قصر الإيليزيه بعد الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية المتوقّعة في السابع من أيّار ـ مايو المقبل. لم يعد معروفا هل الرئيس المقبل لفرنسا اشتراكي أو غير اشتراكي. ليس معروفا هل هو رجل أعمال أو مصرفي أو أستاذ جامعي أو مفكّر درس الفلسفة وتأثر بهيغل… أو عازف بيانو. الأكيد أنه رجل استثنائي ولامع يمتلك صفات كثيرة. من أهمّ هذه الصفات أنه وجد من يعلّبه جيّدا ويسوّقه ويوصله إلى عتبة الإيليزيه في خلال بضعة أشهر. استفاد من دون أدنى شكّ من الحملة التي تعرّض لها فرنسوا فيون مرشّح اليمين، الذي كان صادقا عندما وصف تلك الحملة بـ”الوحشية”.
ركّز ماكرون في حملته الانتخابية على استقلاله عن الحزب الاشتراكي الذي كان ينتمي إليه في الماضي والذي أوصله إلى موقع وزير الاقتصاد والصناعة والرقمية في إحدى الحكومات التي تشكّلت في عهد فرنسوا هولاند (حكومة مانويل فالس). أمضى ماكرون عامين وزيرا في حكومة فالس (بين 2014 و2016)، لكنّه اختار الخروج في الوقت المناسب من السفينة الاشتراكية الغارقة وتشكيل حزب خاص به تحت تسمية “إلى الأمام”.
لن يجد ماكرون صعوبة كبيرة في الانتصار على مارين لوبن، تماما كما حصل في العام 2002 عندما سحق جاك شيراك والدها جان ماري لوبن في الدورة الثانية التي كانت فيها المنافسة بين الرجلين. نال شيراك وقتذاك نسبة 82 في المئة من أصوات الناخبين، تاركا الفتات للوبن الأب. لن يكون الفارق في الأصوات كبيرا، إلى هذا الحدّ، بين مارين لوبن وماكرون، لكنّ الثابت، استنادا إلى استطلاعات الرأي أن فرنسا ليست مهيّأة بعد لقبول أفكار لوبن وعنصريتها، على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها الإرهابيون ومن يقف خلفهم من أجل الترويج لها وإيصالها إلى الرئاسة بصفة كونها على علاقة طيبة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن مؤيدي بشّار الأسد، فضلا بالطبع عن أنها معادية لأوروبا والعملة الموحّدة (اليورو). من أهداف لوبن إجراء استفتاء على خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.
لا شكّ أن ليس في الإمكان استبعاد فوز مارين لوبن استبعادا كليا، لكن كل ما يمكن قوله أن فرنسا، على الرغم من كل الإرهاب الذي تتعرّض لـه، لن تسمح لنفسها بالسـقوط في فخ اليمين المتطرّف الذي ليس لديه أي شيء يقدمه باستثناء الشعارات والتخويف من الإسلام. فمن يخاف الإسلام، من دون معـرفة بطبيعة هـذه الـديانة، لا يمكـن أن يذهب إلى تأييد بشّار الأسد من منطلق أن الحرب في سوريا هي حرب بين بشّار و“داعش”. من يعرف، ولو قليلا بالسياسة، يدرك أن الوجه الآخر لـ“داعش” هو رئيس النظام والميليشيات المذهبية الإيرانية التي تشارك في الحرب على شعب سوريا.
ثمة ملاحظات لا بدّ من الإشارة إليها على هامش صعود نجم إيمانويل ماكرون. الأولى مرتبطة بتلك التغطية الإعلامية التي حظي بها، والتي ترافقت مع تدمير ممنهج لفرنسوا فيّون. لم يكن الحزب الاشتراكي الذي أحرز مرشحه الرسمي بنوا هامون، في الدورة الأولى، ستة في المئة من أصوات الناخبين في حاجة إلى من يدمّره. تولّى الأمر فرنسوا هولاند الذي تميّز عهده بتراجع فرنسي على كل المستويات، وبسياسة اقتصادية فاشلة جعلت أصحاب رؤوس الأموال يهربون من فرنسا. لكنّ فيّون، مرشح اليمين، استطاع منذ البداية تكريس نفسه مرشحا جديا لا يقاوم. قضى على آلان جوبيه الذي كان قادرا على إنقاذ فرنسا وإخراجها من محنتها. فجأة حصل الانهيار على جبهة فيّون الذي بات مهددا بملاحقة القضاء له إثر كشف أن زوجته كانت تتقاضى رواتب وهمية من مجلس النواب.
من وراء تلك الحملة المدروسة التي أطاحت بمرشح اليمين الذي عرف كيف يزايد على مارين لوبن والذي ارتبط مثلها بعلاقات جيّدة بموسكو؟ ذلك هو لغز من ألغاز الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
أمّا الملاحظة الأخرى، بين ملاحظات كثيرة، فهي مرتبطة بلغز ماكرون الذي حظي صعوده بتغطية إعلامية فريدة من نوعها. هناك مجموعات إعلامية عدّة تولت هذه المهمة. إحداها تابعة لرجل الأعمال باتريك دراعي المقيم في سويسرا. أحد مساعدي دراعي الذي يسيطر على وسائل إعلامية عدة كان بين المجموعة التي خططت للترويج لماكرون ولحملته الانتخابية. هذا الشخص يدعى برنار مراد وقد لعب دورا مهمّا في انطلاقة الوزير الاشتراكي السابق الذي استطاع وضع نفسه فوق اليمين والوسط واليسار… والأحزاب!
المهمّ أن ماكرون، صاحب التوجّه الأوروبي، سيسعى إلى الاستفادة قدر الإمكان من الغياب البريطاني عن أوروبا. من الواضح أنّه شخص انتهازي وذكي وأنّ هناك قوى تقف خلفه وتدعمه وتلمّع في صورته بشكل يومي. هناك فضائح مالية عدّة كان يمكن استخدامها ضدّه، بينها بعض الصفقات التي مرّرها في أثناء وجوده في وزارة الاقتصاد. لم تأت وسيلة إعلامية على ذكر أي منها. هنـاك على العكـس من ذلك تأليه لمرشح يصلح لكل الفصول يطـرح وصوله إلى الرئاسة من دون أكثرية نيابية أو حزب قوي لديه وجوده في الجمعية الـوطنية، مستقبـل الجمهورية الخامسة. جاء شارل ديغول بهذه الجمهورية في العام 1958 من أجل إخراج فرنسا من حال مزرية ومن التبـديل السريع للحكومات الذي اتسمت به الجمهورية الرابعة التي كادت أن تقضي على البلد. ما هو مطروح اليوم هل يؤسس ماكرون للجمهورية السادسة في وقت تحتاج فرنسا إلى نظام جديد يعيد إليها الاستقرار، تماما كما فعل ديغول قبل تسعة وخمسين عاما؟
كان أمراً مفاجئاً لأطراف عديدة، إقليمية وعالمية، أن تشن الطائرات الحربية التركية أمس عشرات الغارات الجوية المتزامنة على مواقع لتنظيم العمال الكردستاني في مدينة سنجار العراقية وأخرى على مواقع «وحدات الحماية الكردية» (وهي أحد الأسماء العديدة التي تشكّل واجهة يقودها فعليّاً حزب العمال الكردستاني) في شمال شرق سوريا.
كان لا بد لهجوم بهذا الحجم أن ينسّق غاراته مع «التحالف الدولي» الذي ترأسه الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، وكذلك مع روسيا التي تهيمن بمنظومتها الدفاعية الصاروخية وطائراتها المقاتلة على أجواء سوريا؛ والحصول على موافقة هاتين الجهتين، في هذه الأجواء الدولية المعقّدة والخطرة، يحتاج قراءة متأنية لاستيعابه، من جهة، وقراءة أخرى لتحليل النقلات الأخرى التي قد تنتج عنه أو تتلوه، سواء من تركيا نفسها، أو من قبل الأطراف الكبرى والصغرى المعنيّة، بمن فيها حزب العمال الكردستاني نفسه.
الأتراك من جهتهم كانوا قد صرّحوا أكثر من مرّة بأن إنهاء عملية «درع الفرات» في شمال سوريا سيكون فاتحة لعمليات أخرى، وأنه لن ينهي مهمّة الجيش التركيّ التي وضعها على نفسه في فتح بيكار حربه مع حزب العمال الكردستاني داخل تركيّاً إلى مناطق نفوذ الحزب واستطالاته في العراق وسوريا، وخصوصاً في جبل سنجار، الذي اعتبرت سيطرة «بي كا كا» عليه إخلالاً بتوازنات سياسية وديمغرافية، وتهديداً ليس للحكومة التركية فحسب، بل كذلك لقيادة إقليم كردستان العراقي أيضاً التي ردّت على ذلك بتفعيل قوّات قوامها عناصر من الأكراد السوريين الذين لم يجدوا في مشروع واجهات «بي كا كا» السورية (كـ»حزب الاتحاد الديمقراطي» و»سوريا الديمقراطية» و«وحدات الحماية الكردية») مكاناً سياسياً لهم.
عنصر المفاجأة في الغارات يعود طبعاً إلى حقيقة أن سياسة قوات «التحالف» الأمريكية قامت على اعتماد كامل على واجهات «بي كا كا» الافتراضية في سوريا وهو، لو أردنا الحقيقة، أحد مكامن المرارة الكبيرة التركيّة والإحساس الشديد بوجود تآمر أمريكي ضدها، ولعلّ الضربات الجويّة الأخيرة تشكّل نوعاً من بداية مراجعة أمريكية لمنع تحوّل القناعة التركيّة بالتآمر إلى خسارات أكبر.
تساند هذا الاتجاه وقائع مستجدّة منها إمساك الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بأركان السلطة وتراجع إمكانيات التأثير الغربي على القرار التركي سواء فيما يخص الجيش أو أحزاب المعارضة التركية، في وقت تواجه واشنطن فيه تحدّيات جدّية في أكثر من مكان في العالم، وتتعرّض أوروبا إلى مخاطر التفكّك أمام اليمين المتطرّف المدعوم من روسيا.
وقد كان بليغاً، في هذا الصدد، أن الاستفتاء التركيّ الأخير حول التحوّل للنظام الرئاسي وتعزيز صلاحيات إردوغان حظي بتأييد أمريكي وروسي، مع ذلك فمن الصعب معرفة إن كان ما حصل عنواناً لسياسة أمريكية جديدة رغم أن ترامب أكد لإردوغان في اتصال هاتفي قبل أيام دعمه للحرب التركية على تنظيم العمال الكردستاني.
من الصعب أيضاً معرفة كيف ستتقبل القيادة العسكرية للتحالف في سوريا والعراق، وهي التي دافعت دائماً عن سياسة التعاون مع «بي كا كا» في سوريا، هذا التوجه، وإن كانت ستتمكن من اعتراض بوادر السياسة الجديدة للإدارة الأمريكية فيما يخصّ حرب أنقرة على حزب «الكردستاني» وواجهاته السورية، وهو أمر يمكن أن يتضح بعد لقاء الرئيسين ترامب وإردوغان المرتقب منتصف الشهر المقبل.
لا خلاف على أن أولوية إدارة ترامب هي القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن في وجود قرار سياسي وعسكري تركيّ بهذا الصدد يصبح التزام القيادة العسكرية الأمريكية بتعهيد «بي كا كا» مهمة تحرير الرقّة من تنظيم «الدولة»، وهي مدينة عربيّة، إصراراً على استهداف العرب السنّة الذين يجأرون بالشكوى والإحساس بالظلم، وتمكيناً لمخططات التغيير الديمغرافي في المنطقة، وتأسيساً مستمراً لتنظيمات التطرّف، إضافة طبعاً إلى التهديد الذي تستشعره تركيا وتحارب ضده.