مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢ مايو ٢٠١٧
سيادة الرئيس: اخرس

على أي عرشٍ مهترئ كان يجلس طاغية الشام، وهو يتحدّث عن "اكتشافه" العبقري الجديد، بشأن الأردن؟

لست مجروح الشهادة، إذا وقفت مدافعًا عن الأردن في وجه تخرّصات بشار الأسد أخيرا، التي ادّعى فيها أن "قرار عمّان في يد واشنطن"؛ لأنني لم أُحسب على أي نظام عربي يومًا، ولم أكن من أصحاب "الأعطيات" و"الهبات". لكن، لا أدري لماذا أصابُ بهذا الكمّ المهول من الاحتقان إذا هاجم أحدٌ من أمثال الأسد هذا البلد الذي خبرته من أصابع القابضين على جمر الكرامة، وسط صقيع الفقر والفاقة.

على هذا الطاغية الذي كان موشكًا على السقوط قبل عام فقط، لولا حبل الإنقاذ الروسي والإيراني والعراقي، أن يفكّر مليًّا قبل أن يطلق حكمًا واحدًا على الآخرين؛ لأن القرار السوري لم يكن، في أي يوم، غير بضاعةٍ معروضة للبيع، حسب تغير المراحل وتبدل التجار.
منذ الانقلاب الأسدي على رفاق "البعث" الذي جاء تحت شعار "الثورة التصحيحية"، أصبح القرار السوري متاحًا للبيع والإيجار، بعد أن حوّل هذا النظام المرعب سورية كلها إلى جمهورية للخوف، تحت شعارات "التطهير"، فكان أول عمل قام به، هو زجّ رفاق الأمس من المحظوظين في الزنازين التي لم يبرحوها إلا محمولين على النعوش، فيما كان مصير سيئي الحظ، المشانق والتذويب بالأسيد، وعمد الأسد إلى تغليب القيادة القطرية على نظيرتها القومية، وبطش برموز من مؤسسي حزب البعث، كما فعل خصومه في بغداد، فخسر الحزب أنقى وجوهه، من أمثال منيف الرزاز وميشيل عفلق.

وكان أول مشتر للقرار السوري تل أبيب التي اشترت، في الواقع، قرار الانسحاب المفاجئ من الجولان، في حرب 1967، من حافظ الأسد شخصيًّا، حين كان وزيرًا للدفاع آنذاك، وهو الذي أمر القوات السورية المرابطة على مرتفعات الجولان الاستراتيجية، بالانسحاب من دون أي مبرّر أو تهديد حقيقي، فكان أن احتلت إسرائيل الجولان على طبقٍ من ذهب، وحتى اليوم لا يزال قرار الأسد الأب لغزًا لا يعرف المحللون العسكريون تفسيره، أما الضالعون في فن "العمالة" وتجارة الأوطان فيعرفون السبب حتمًا.

ثاني المشترين، كانت طهران، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، وكان البائع الأسد الأب أيضًا، وجاءت مؤازرته إيران، لوجستيًّا وعسكريًّا بالخبراء والمستشارين، تحت شعار "رد العدوان العراقي عن الثورة الإيرانية"، وصدّقه كثيرون آنذاك، وهو يروّج شعاراته الثورية، لتسويغ مناصرة الإيرانيين. لكن سرعان ما اتضح الأمر، حين اكتشف المخدوعون أن هذه المؤازرة تحمل رائحة المذهبية النتنة؛ لأن النظامين، الإيراني والسوري، تجمعهما وحدة المعتقد الطائفي.

والحال أن البعث الأسدي، منذ اغتصابه السلطة، كان يُبطن هذا الشعار الطائفي، بدليل أن الأسد سلم أفراداً من طائفته العلوية مفاصل الدولة، ومحرّكات الاقتصاد، فنهبوا البلاد وأخضعوا العباد بكل وسائل الترهيب و"الترهيب".

أما المشتري الثالث، وهو الأهم، فكان مزيجًا من "الإمبريالية" و"الرجعية" ذاتهما اللتين أتخمنا الأسد وبعثه بمهاجمتهما وجعلهما هدفًا استراتيجيًّا لمعاركه "الخالدة"، وكانت السوق التي عرض فيها الأسد بضاعته، هي "حفر الباطن"، إبّان التحضير للعدوان الثلاثيني على العراق، فجرت مساوماتٌ تمخضت عن موافقة الأسد على الانضمام لهذا الحلف، عسكريًّا، فاصطفت مدرعاته، إلى جانب زميلاتها "الإمبريالية" و"الرجعية"، فيما يُحسب للأردن، الذي كان يتهمه الأسد بـ"الرجعية"، أنه كان من الدول القليلة التي عضّت على كرامتها، فرفض هذا العدوان جملة وتفصيلاً، وتحمّل جراء ذلك، سائر أشكال الضغوط والحصارات البحرية والاقتصادية، ودفع ثمنًا باهظًا، بعودة أبنائه مطرودين من دول الخليج، ولو لم يتخذ الأردن غير هذا الموقف في تاريخه، لكفاه ذلك عنوانًا لحسّه القومي والعروبي، على الرغم من أنه لم يكن صاحب شعارات "ثورجية".

حاصل القول، لم يكن الأردن ينتظر شكرًا من الأسد، على استضافته أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري، ممن شرّدهم الأسد نفسه بفضل استبداده وولعه بالسلطة، والذين يتقاسمون مع الشعب الأردني لقمة الخبز والوظيفة. لكن، أن يتهم "بائع مواقف" مثله الأردن بمثل هذه الاتهامات، فمن حق الشعب الأردني كله أن يصرخ في وجهه: "سيادة الرئيس: اخرس".

اقرأ المزيد
٢ مايو ٢٠١٧
صمت المعارضة السورية وضجيج النظام

ترسم المتغيرات الجديدة على الساحة السورية سيناريوهات عديدة، مع أنها ليست جديدة، بل كانت في حالة ضمور، فقط، بانتظار من يوقظها لا أكثر. وعلى الرغم من ذلك، لم تتحرّك الأطراف السورية صاحبة القضية لفعل شيء يمكّنها من استثمار تلك المتغيرات، أو يدفع باتجاه سيناريو أكثر ملاءمةً لإرادة التغيير السورية.

عند الحديث عن أطراف، فتلك حقيقة قائمة، إذ لم يعد الصراع محصوراً بين المعارضة "كياناً سياسياً" والنظام سلطة قوة حاكمة لسورية، إذ أضحت المعارضة معارضات، وأضحى النظام مبعثراً بين قوتي احتلال لقراره وسيادته (إيران وروسيا)، في حين بات الوضع السوري برمته رهينة المداخلات الخارجية الدولية والإقليمية. فإذا سلمنا بواقع أن النظام لا يمكنه إلا الامتثال لرغبة من يحميه بأساطيله العسكرية، براً وجواً، فليس من مصلحة الثورة أن تسلّم بواقع معارضة تخضع للمعادلات الدولية والإقليمية، ولسياسات تنازع الحصص على سورية، أو أن تتحلّل من مسؤوليتها في السعي إلى إيجاد مقاربة سورية تجمع بين "المعارضات"، وتحقق مصلحة المكونات السورية، على اختلاف مشاربها السياسية والقومية والدينية، فتلك مسؤولية لا تسقط عن عاتق من يدّعي قيادة الثورة، أو المعارضة، حتى مع تواتر الأحاديث عن تبعيات وارتهانات طاولت الكثير أو القليل من كيانات المعارضة الموجودة في صدارة التمثيل أو التفاوض.

في هذا المجال، ربما يجدر بنا أن نتصارح بأسئلة عديدة، فمن هي المعارضة؟ ومن تمثل؟ وما مشروعها كي تشكّل البديل الوطني الذي يفترض أن يلتفّ حوله السوريون، مراهنين على مستقبلٍ أفضل لبناء دولتهم التي دمرتها حرب النظام على المطالبين بالحرية والكرامة وحقوق المواطنة؟

وبأسئلة أكثر تحديداً، ماذا فعلت المعارضة اليوم إزاء الاستحقاقات التي باتت تقف أمامها، وأولها، استحقاق المتغيرات الدولية، وخصوصا التدخل الأميركي مباشرة على خط الصراع السوري، وهو دخول يحمل، في طياته، تغيير معادلات صراعية كثيرة، والمسّ بأدوار أطراف عديدة، منها روسيا وإيران وتركيا، وصولاً إلى مكانة الأكراد، سواء في ما يرغبونه أو في ما يعطيه الواقع، هذا مع تبعات ذلك كله في ما يتعلق بالحرب على الإرهاب، المتمثل بـ "داعش" وجبهة النصرة وأخواتهما.

ترتبط ثاني هذه الاستحقاقات بما ينبغي على المعارضة أن تفعله، لتوسيع قاعدة تمثيلها وتفعيل دورها وتطوير أدائها وملاءمة خطاباتها مع مقاصد الثورة السورية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية. أقصد كياناتها الممثلة في مفاوضات جنيف جميعها، وكيف يمكن التعاطي مع خطاباتها غير المتقاطعة وغير المتفق عليها، وخصوصا ما يتعلق فعلياً بالقضايا الكبرى التي يتم التفاوض عليها عبر ما سميت "السلال الأربع" التي طرحها الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، في مفاوضات جنيف 5، والتي يراد لها أن تكون محور النفاش، أو فاتحة السلة الخامسة والأهم، إعادة إعمار سورية؟

ويشتمل ذلك على ضرورة إيجاد مقاربة وطنية سورية للمسألة الكردية، تركز على حقوق الكرد الفردية والجمعية، وهو ما تهربت منه معظم كيانات المعارضة، سواء تحت عناوين مخاوفها من التقسيم، أو بحجة أن إقامة دولة مواطنين ديمقراطية تكفي، إضافة إلى محاولة بعضهم تأجيل الخوض في هذا الموضوع، خشية الدخول في معارك تفاوضية جانبية، مع إقدام آخرين على صوغ مقاربات سطحية، كان هدفها القفز إلى الأمام، لإيجاد مشهد توافقي، من دون حسابات دقيقة لما يمكن أن ينتجه مثل هذا الهروب من مسائل جوهرية، تقع مسؤولية حلها على هذه الكيانات.

أما الاستحقاق المتعلّق بالمفاوضات، فإن أطراف المعارضة، فضلاً عن أنها لم ترتّب بيتها بعد، فهي تضعنا إزاء معارضاتٍ، أو مكوّنات، إذ لا توجد رؤية جامعة توحد هذه الأطراف، خصوصا بعد تراجع المكانة التمثيلية المفترضة، أولاً، لـ "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، الذي خاض وحيداً مفاوضات جنيف 2، ولاحقاً لـ "الهيئة العليا للمفاوضات"، التي تابعت التفاوض ممثلة للمعارضة خلال جنيف 3 و4 لتلتحق منصتا القاهرة وموسكو بالتفاوض إلى جانبها، وليس معها في جولة جنيف 5. نحن إذا نفتقد لهيئة تفاوضية تمثيلية جامعة، وفوقها نفتقد لإجابات حول القضايا التفاوضية المطروحة، الأمر الذي بات من الملحّ تجاوزه، أو إيجاد الصيغ التي تتجاوز هذه الجهات التي لم تثبت في صدقيتها كممثل للمعارضة أو للثورة؟

التمثيل السوري كطرف معارض أمام النظام ما زال ضعيفاً، إذ لا يتجاوز دور السوريين حتى اللحظة دور "الكومبارس"، إلا أن ذلك لا يعفي الجهات المسؤولة في المعارضة من العمل الدؤوب للإجابة على التساؤلات المطروحة، أو لتأهيل نفسها لمواجهة الاستحقاقات المستجدّة، لإنتاج المشروع الوطني السوري الجامع، والذي يحقق فعلياً انتقالاً سياسياً إلى دولة مواطنين أحرار متساوين.

وما صمت المعارضة اليوم، أو عجزها، أمام ضجيج النظام الخاوي، والذي ما يزال ينتهج الحل العسكري والتهجير الديمغرافي وسيلةً لإنهاء مطالب السوريين بالحرية، إلا إقرار بالفشل، أو في أحسن الأحوال، بالعجز أمام شعبٍ يدفع دمه ثمناً لحرية طلبها.

اقرأ المزيد
٢ مايو ٢٠١٧
الوعود حيلة حلفاء الأسد

في سنين الحرب والمفاوضات، دأب حلفاء نظام دمشق على تخفيف الضغوط السياسية على أنفسهم ببيع الوعود، «لا تقلقوا، نحن نفكر جدياً في تغيير بشار الأسد من الرئاسة ووقف القتال». وبعد أسابيع يصدر توضيح في مقابلة في صحيفة ما، «لا يهمنا الأسد ونقبل بتغييره، لكن بعد أن تنتهي فترته الرئاسية حتى لا نخرق الدستور». والدستور السوري لا يساوي الحبر الذي كتب به، والذي أصلاً لم يحترم في أي يوم مضى. وينتظر الجميع وتجرى الانتخابات في عام 2014 ويفوز الرئيس بالرئاسة في المسرحية المعتادة. تمر الأيام وتشتد المعارك وتتراجع قواته، فترجع الضغوط وتظهر الوعود، «تحلوا بالصبر، نحن نبحث عن بدائل للنظام، أو على الأقل عن بديل للرئيس نفسه»، ثم بعد طول انتظار ومماطلة، يعلن حلفاء الأسد أنهم موافقون على مشروع حل سياسي يقوم على حكومة مشتركة مع المعارضة. وبعد أشهر من الرحلات يصدر توضيح بأن المعارضة هنا يقصد بها تلك التابعة للنظام، ولا علاقة لها بالمعارضة الحقيقية. تعود الحرب إلى أسوأ من قبلها، وعند الهزائم أو ارتكاب الجرائم تظهر الضغوط من جديد فيعلن حلفاء النظام أنهم يتباحثون في أفكار جديدة لحل سلمي ويوحون بتغيير الرئيس. ولاحقاً يقدمون مشروعاً سياسياً جديداً، «نوافق على أن يقرر الشعب السوري من يريده رئيساً، بالانتخاب». كلام جميل وعقلاني، ثم تأتي التفاصيل، الشعب المعني به الذين في مناطق سيطرة النظام، أما الستة عشر مليون سوري خارج سلطته هم إرهابيون. وهكذا، تنتكس الأمور وتعود الحروب والوعود. المعارضة لا تنتصر، والنظام لا ينتصر حيث لم يبق عنده من جيشه وقواته الأمنية إلا نسبة صغيرة، بسبب الانشقاقات والهروب والقتل. معظم قوات النظام حالياً هي كوكتيل من ميليشيات خارجية بترتيب وإدارة إيرانية.

تعلمنا ألا نصدق شيئاً من المشاريع السياسية الروسية والإيرانية، هي تكتيك تفاوضي يهدف إلى تهدئة الاحتجاجات الدولية، وتمييع المطالب، وامتصاص الحماس، ومع الوقت لا يحصل أحد على شيء.

أتصور أن هذا ما يحدث الآن في مفاوضات آستانة، التي تسربت معلومات منها تبعث على التفاؤل جداً، إلى درجة يشم منها أنها موجهة للاستهلاك الإعلامي. تزعم المصادر أن الروس وافقوا على استبدال الأسد، بل وطرحوا بدائل له! وسواء قالوها أو لا، فإن السنوات الماضية علمتنا أن الوعود أكاذيب وأكبرها أكذبها، هي وسائد للنوم ونسيان المطالب، لتعقبها براميل القصف المتفجرة، والتشريد، وتوسيع دائرة الفوضى في الجوار.

لنتأمل ونتساءل، هل يمكن أن يشعر حلفاء النظام السوري بالحاجة إلى حل سياسي معقول، ويتوقفون عن بيع مسرحيات الحلول السياسية الوهمية؟

هناك حالة واحدة، على الأقل، يمكن أن تضطرهم إلى الدخول في حوار جاد، وإنهاء الحرب. الحل في رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية بالأسلحة النوعية. ستتغير المواقف إذا تحولت سوريا إلى مستنقع كبير للإيرانيين وميليشياتهم، وحينها ستضطر طهران إلى التفاوض الجاد.

الآن، الحرب بالنسبة لهم رخيصة نسبياً، كلما يموت ألف عراقي أو باكستاني أو لبناني يستبدلونهم بألف مقاتل جديد من هناك. لكنهم لا يفقدون طائرات ولا مدرعات، لأن أسلحة المعارضة بسيطة، بنادق وكلاشنيكوف AK47، والمحمول على الكتف من مضاد الدبابات RPG، وأسلحة مطورة محلياً، مثل hell canton «مدفع جهنم». وطالما أن خسائر الإيرانيين في سوريا، غالباً بشرية، ومن جنسيات أخرى، وتكاليفها السياسية عليهم زهيدة، فإنهم يستطيعون الاستمرار في مشروعهم الإقليمي، وستستمر الحرب هكذا إلى سنين.

المتحاربون، عادة، يضطرون إلى الصلح تحت ضغط خسائر المعارك، لكن الخسائر في سوريا في معظمها مقاتلون أجانب مستوردون لنظام الأسد، أو مدنيون على الطرف الآخر، الذين ترمى عليهم البراميل، أو يقذفون بالقنابل والصواريخ، دون أن يملكوا وسيلة للرد عليها.

ولهذا السبب تحديداً نرى في الحرب السورية مشردين أكثر من بقية الحروب، تجاوز عددهم اثني عشر مليوناً، لأن وسيلة الدفاع الوحيدة المتاحة لهم هي الرحيل فقط.

إذا كان الهدف حلاً سياسياً معقولاً، فإن ذلك سيتطلب إعادة النظر في التعامل مع المعارضة، وتسليحها، بهدف إيصال الجميع إلى طاولة المفاوضات.

اقرأ المزيد
١ مايو ٢٠١٧
داعش الأسد و11 أيلول الأميركي

ما يقارب الـ16 عاماً تفصلنا عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي شنها تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة الأميركية، حيث تغيرت السياسات الأميركية من العالم أجمع بعد تلك الكارثة، ومع تغير السياسات تغيرت مفاهيم ومصطلحات سياسية وفكرية، لكن تفكير القاعدة لم يتغير مثله مثل تفكير الطغاة جميعاً.

ومنذ أيلول 2001 وحتى تاريخه شهد العالم الكثير من الهجمات الإرهابية، تبناها تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها لم تكن مروعة كما أحداث أيلول.

شيء ما في الذهن الأيديولوجي عموماً والبعثـــي خصوصاً جعل أصحابه يرون في كل هذا الذي حدث في الغرب مسرحيات مفتعلة، مختلقة، ويبنون مصفوفات من التحليلات منطلقها أن تلك الأحداث الإرهابية اصطنعها الغرب من أجل محاربة أنظمة «الممانعة».

بعد انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار (مارس) 2011 بساعات قليلة جهز نظام الأسد رواية مفادها أن الإرهابيين هم وراء ما يحدث، وقد استمر على الرواية ذاتها طوال فترة التظاهرات السلمية وما زال، إلى أن أقام داعش دولته في الرقة وظهرت جبهة النصرة بكل محاكمها الشرعية.

وإذا تركنا قليلاً وقائع الصلة العضوية بين نظام الأسد واستخباراته وعموم المتطرفين الإسلاميين، فإن واقعة قيام داعش بتأسيس كيان سمته «دولة» ما تزال عند الكثير من الجهات الأيديولوجية أيضاً مسرحية، لعبة. والغريب أن العالم، «القرية»، الذي ينقل الحدث خلال دقائق ما زال فيه أناس يتعاملون مع الكوارث السياسية من موقع أنها «مسرحية أو لعبة».

هنا علينا تماماً أن نعيد تأكيد بدهيات منها مثلاً أن داعش موجود كنظام سياسي على الأرض يطبق شرائعه وطرائقه، يذبح ويشنق ويدمر آثار وهو تهديد حقيقي للعالم أجمع. وكذا الحال مع جبهة النصرة التي غيرت اسمها ولكن لم تغير منهجها.

الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً يرون هذا المشهد بواقعية سياسية وهم منشغلون في الليل والنهار بكيفية مواجهة هذا الإرهاب، والصحافة الغربية تناقش هذا الواقع يومياً، ولا تزال الذاكرة الشعبية السياسية الأميركية ترتعد كلما ذكر اسم القاعدة أو داعش.

من هنا ارتكز نظام الأسد على هذه الجماعات المتطرفة التي حمته من السقوط، لا بل دعمها بكل ما استطاع، وصار يشرح للغرب مدى خطورتها على السلم العالمي، وفي نفس الوقت يذكرها الآن كحقائق مروعة وينسى أنه هو نفسه من كان يقول عن أحداث 11 أيلول أنها لعبة ومسرحية.

ولأن الأمور هكذا، ولأننا لا نراها على حقيقتها، ولا نواجه أسبابها الفكرية والثقافية العميقة، فإن سقوط داعش والأسد -وهو ما سوف يحصل- لا يضمن لنا عدم عودة داعش في مكان آخر أو عودة الأسد في هيئة مستبد جديد!

اقرأ المزيد
١ مايو ٢٠١٧
على مشارف حرب تريدها إسرائيل ولا يريدها «حزب الله»

ليست الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق وحدها المؤشر الى ما يجرى بين إسرائيل و «حزب الله». الأيام القليلة الفائتة شهدت نحو خمس غارات على مواقع في سورية. وردّ فعل «حزب الله» الوحيد حتى الآن الزيارة «الملتبسة» التي نظمها لصحافيين إلى الحدود.

الابتعاد مسافة قصيرة عما يجري يُساعد على تخليص خيوط المواجهة، فلا يُغرق المرء بتفسير انكفاء الحزب عن التصدي للغارات بصفته فقط خطأ أملته خياراته في سورية. هذا تمرين يجب أن نمارسه. ففي سورية تجرى واحدة من أغرب حروب العالم، لكنْ أكثرها وضوحاً أيضاً. الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق جرت فيما كان وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في موسكو!

لم نعتد على هذا النوع من الشفافية في خوض الحروب. فلـ «حزب الله» في هذه المعادلة الحق في خـــوض القتال الســـوري، لكن المعادلة تقضي بألّا يقترب مـــن الحدود مع إسرائيل. له الحق في التزود بالسلاح لخـــوض تلك الحـــرب، على أن لا يفيض السلاح عن هذه المهـــمة. ومـــوسكو الحليف في الداخل السوري، هي في الوقـــت عينه راعية تلك المعادلة، ومثبتة قواعدها.

لكن المواظبة الإسرائيلية على الغارات مؤخراً تُشعر المرء بأن تل أبيب تسعى إلى تعديلٍ ما فيها. والحزب رصد، على ما يبدو، حثّ الإسرائيليين خطاهم نحو الحرب. بهذا المعنى، فالتوقيت اختاره الإسرائيليون. حماسة إدارة دونالد ترامب لخوض حروب تقوض النفوذ الإيراني تُشكل فرصة لن تُعوض لبنيامين نتانياهو. تشتت قوة الحزب على الجبهات السورية فرصة أخرى. عجزه عن تصريف تبعات نتائج الحرب في جنوب لبنان يدفع الإسرائيليين إلى مزيد من الحماسة لها.

«حزب الله» لن ينجرّ إلى حرب وفق هذه الشروط، وفي الوقت عينه هو عاجز عن امتصاص تبعات محاولات الاستدراج الإسرائيلية. ثمة إرباك واضح في أدائه على هذا الصعيد، والإرباك هو ما يُفسر تخبطاً أصابه على الحدود اللبنانية قبل نحو عشرة أيام. نظم الحزب زيارة للصحافيين إلى هذه الحدود وظهر فيها ضابط منه يشرح للصحافيين عن التحصينات الإسرائيلية، في خرق واضح ومتعمد للقرار 1701، وفي اليوم الثاني زار رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري المكان نفسه الذي ظهر فيه ضابط «حزب الله»، وأعلن من هناك رفضه «ما حصل بالأمس»، ثم عاد أدراجه إلى مدينة صور حيث أولم له وزير حركة أمل علي حسن خليل، بمشاركة وزير «حزب الله» محمد فنيش.

لم يعوّدنا الحزب على هذه المرونة. وقائع يوم زيارة الحريري الحدود، ليست امتداداً لما ألفه اللبنانيون في «حزب الله». وما حصل في صور يُشبه في غرابته ما حصل في موسكو عشية الغارة على مطار دمشق. قوى الحرب تتوافق تحت أنظارنا، نحن ضحاياها، على قواعد لعبة هي في طور التغير. «حزب الله» لا يريد حرباً، وإسرائيل تريدها حالاً. منع وقوع الحرب هو الحرب التي يسعى «حزب الله» لربحها في ظل ميزان قوى ليس لمصلحته. لكن تل أبيب تسعى في ظل عدم وجود شريك تُحاربه، إلى تغيير معادلة السلم. فالغارات على مواقع الحزب في سورية تجرى في ظل «نشاط ديبلوماسي» لفتح ثغرة جديدة في التوازن القائم، وفي ظل مواكبة أميركية واضحة لنوايا تل أبيب.

الأرجح أن إسرائيل لن تخوض حرباً مفتوحة على الحزب في سورية من دون غطاء ما روسي. وموسكو التي تنسق معها ميدانياً لم تصل بها الفرقة عن طهران إلى حد منح تل أبيب هذا الغطاء.

وفي مقابل ذلك، فإن لهذه الحرب وجهاً آخر يتمثل في الرغبة الأميركية بمحاصرة نفوذ طهران الإقليمي. وواشنطن معنية بتحديد ساحة المواجهة. الخيارات أمامها تتراوح بين لبنان والعراق وسورية. ستعني الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» في لبنان انهياراً جديداً لن يمثل انتصار تل أبيب ثمناً كافياً له. ومواجهة إيران في العراق أمر أشد تعقيداً من لبنان، وواشنطن تخوض هناك حرباً على «داعش» إلى جانب طهران، في واحدة من لحظات الغرابة التي يشهدها الإقليم. ومن المنطقي في هذه الحال أن تكون سورية هي من وقع عليه اختيار واشنطن.

يجرى إعداد كبير لهذه المواجهة، وفي مقابل ذلك، يُمارس «حزب الله» أقصى درجات الحذر والانكفاء. ليس الوضع نموذجياً لتسطير بطولات. والاختلال بدأ يفرز قواه بالقرب من الحزب. خرج مقتدى الصدر ليطالب الجميع بالانسحاب من سورية. كرر هذا الطلب أحمدي نجاد. هذه أصوات تؤشر إلى بداية صدع لا يُعين الحزب في حال السقوط في المواجهة. وهي أيضاً صادرة عن شعور بأن تدفق طهران على المنطقة وصل إلى مستوى يُهدد أصحابه بالاختناق. فترامب أشهر نواياه، وقصف في سورية من خارج معادلة التوازن مع موسكو.

الوضع عالق عند خطوة روسية تُسهل الحرب وتلبي شهية نتانياهو إليها. لكن العيش في عنق زجاجة ليس بالأمر اليسير، فرئيس الحكومة الإسرائيلية يدفع بكل طاقته نحو توفير شروط حرب على «حزب الله». والمرء اذ يُراقب إعداد المسرح في إسرائيل يشعر بأن مبالغات هائلة بدأت تصيب آلة الترويج الإسرائيلية. فـ «حزب الله» وحده من تتركز عليه الهموم، وله أثر في كل قصة إسرائيلية، بدءاً من مخازن غاز الأمنيون في حيفا وصولاً إلى الزيارة التي نظمها مؤخراً إلى الحدود. لا أثر لمخاوف إسرائيلية أخرى.

في موسكو مطبخ آخر للحرب، ولم تبلغ مصلحة الكرملين الحد من نفوذ طهران في سورية مستوى يدفعه إلى التخلي عن شريكه هناك. مصير بشار الأسد يحضر بكثافة في هذه اللحظة من دون شك. فحرب إسرائيلية بغطاء أميركي لن تبقي عليه. وفي موسكو ثمة غرفة أخرى لا تبعد كثيراً عن الغرفة التي التقى فيها ليبرمان مع بوتين ولافروف، أي تلك التي التقى فيها وزراء دفاع روسيا وإيران وسورية قبل نحو أسبوعين.
الحرب اقتربت إلى حد يجلس فيه المتحاربون في غرف متجاورة في أروقة الكرملين. طهران لا تريد حرباً، وتل أبيب وواشنطن تريدانها. فكيف ستلعب موسكو ورقة مصير الأسد، وأي تغيير في الوضع القائم ستقبل به تل أبيب؟

اقرأ المزيد
١ مايو ٢٠١٧
حتى لا نغفل عن التهديدات الإيرانية

الاجتماع الخليجي الثلاثي الذي عقد في الرياض يوم الخميس الماضي والذي حضره وزراء الداخلية والدفاع والخارجية في دول مجلس التعاون، هذا الإجتماع يأتي بعد أن تصاعدت التهديدات والتدخلات الإيرانية في دول المجلس مما يشكل خطورة على استقرار الأوضاع في المنطقة.

ولا شك أن مثل هذه الاجتماعات تأتي لتدارس الموقف من هذه التهديدات وبلورة موقف خليجي موحد وقوي لإيصال رسالة لإيران من أن دول مجلس التعاون لن تقبل بزعزعة الاستقرار والأمن في دول المجلس.

وكما أكد وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة أكثر من مرة من أن إيران تحتل المركز الأول في تهديد أمن دول المجلس.. ولذلك فإنه من الضرورة بمكان أن تفعل اللجنة الدائمة التي تم تشكيلها مؤخرا بالجامعة العربية تحت مسمى «التدخلات الإيرانية في الدول العربية» والتي تضم في عضويتها البحرين ومصر والإمارات والسعودية، وأنه إذا لم تبد إيران حسن النية وواصلت تدخلاتها السافرة في الشأن المحلى للبحرين ودول مجلس التعاون فإن البحرين تأمل في تطبيق الآلية المقترحة من المجلس لمواجهة التدخلات الإيرانية بالتعاون مع الدول الصديقة والمجتمع الدولي لزيادة عزلة إيران إقليميا ودوليا.

إن الرسالة القوية التي يجب أن تصل إلى إيران من دول مجلس التعاون أن مصالحها وعلاقاتها التجارية والاقتصادية والدبلوماسية والسياسية سوف تتأثر بشكل كبير إذا لم تكف عن تدخلاتها في الشؤون الخليجية.

وإذا كانت جمهورية الملالي في إيران تريد إن تجعل من منطقة الخليج منطقة فارسية تأتمر بأوامر الولي الفقيه، فإننا نقول لإيران ولأتباعها الخونة في المنطقة أن دول الخليج دول عربية منذ أقدم العصور، وأن عمقها الجغرافي وامتدادها التاريخي يصل إلى أعماق شبه الجزيرة العربية.

إن على الدول الخليجية والعربية من ورائها أن لا تكتفي بعبارات الشجب والاستنكار ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، وهذا يستلزم تفعيل مبادرة المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود في الإتجاه نحو الإتحاد الخليجي، لأنه الرد العملي والناجع للتصدي للمحاولات الإيرانية «لتفريس» الخليج العربي.

إن على دول مجلس التعاون كذلك أن تستغل الخلافات التي ظهرت بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الملالي في إيران بعد مجيء ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستطيع لجم تطلعات إيران التوسعية في المنطقة، ولو من أجل المحافظة على العلاقات الاقتصادية والتجارية والنفطية بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربية، وهي علاقات متجذرة ومتشعبة.

إن على دول مجلس التعاون أيضا أن تدرس بعمق التصريحات التي تصدر بين حين وآخر من المسئولين الإيرانيين حول التدخل في البحرين، ومنها تصريح عضو مجلس الشورى الإيراني الدكتور ناصر سوداني الذي اجتمع مع بعض قوى المعارضة البحرينية البائسة في الخارج والتي دعا فيها إلى الاستعداد للكفاح المسلح في البحرين لاسترداد حريتها على حد زعمه.

حفظ الله البحرين ونظامها الخليفي الشرعي وحفظ شعبها من مطامع إيران الصفوية.

اقرأ المزيد
٣٠ أبريل ٢٠١٧
الهدية الروسية الوحيدة لسوريا

لم تعد هناك أسرار. ردّت روسيا على الغارات الإسرائيلية الخمس التي استهدفت مواقع في محيط مطار دمشق بالدعوة إلى “التهدئة” وبغارة على مستشفى في إدلب أوقع ضحايا مدنيين وعطّل المستشفى!

جاء التحدي الإسرائيلي لروسيا واضحا كلّ الوضوح، ذلك أن إسرائيل قصفت أهدافا في محيط مطار دمشق بعد ساعات من إعلان مسؤول عسكري روسي إقامة شبكة روسية تحمي كلّ الأراضي السورية. كان على المسؤول العسكري الروسي أن يوضح أنّ شبكة حماية الأجواء السورية لا علاقة لها بإسرائيل ولا تستهدفها لا من قريب ولا من بعيد.

الحقيقة أنّه لم يكن هناك في الأصل أيّ تحدّ من أيّ نوع. ليست روسيا في وارد الدخول في أيّ مواجهة مع إسرائيل بسبب سوريا. على العكس من ذلك، هناك تنسيق تام بين الجانبين في وقت صارت روسيا في حاجة أكبر إلى إسرائيل بعد التغيّر الذي طرأ على الموقف الأميركي في عهد دونالد ترامب.

دفعت الغارة الأميركية بصواريخ توماهوك على قاعدة الشعيرات، التابعة للنظام السوري، في الرابع من الشهر الجاري موسكو إلى مزيد من التقارب مع إسرائيل في غياب القدرة على لعب دور إيجابي في سوريا، على أيّ صعيد كان… أو غياب الرغبة في ذلك. بالنسبة إلى روسيا، تظلّ إسرائيل عنصر توازن تستعين به في لعبة شد الحبل وإرخائه بين موسكو وواشنطن في مرحلة ما بعد عهد باراك أوباما.

المفارقة أن الغارات الإسرائيلية الجديدة تأتي في سياق أجندة تقوم على رفض إسرائيل أي تهديد لها بواسطة صواريخ “حزب الله” الآتية من إيران عبر مطار دمشق. هناك هدف إسرائيلي محدّد. يتمثّل الهدف في رفض تحوّل الأراضي السورية، خصوصا مناطق الجنوب، قاعدة لـ”حزب الله” تستخدمها إيران في تهديد إسرائيل أو ابتزازها.

الأكيد أن روسيا لا تعترض على ذلك. كانت المرّة الوحيدة التي احتجت فيها موسكو على عمل إسرائيلي عندما قصف الإسرائيليون قواعد صواريخ تابعة للنظام في منطقة قريبة من تدمر. اكتفت موسكو، وقتذاك، باستدعاء السفير الإسرائيلي. ربّما كان ذلك من أجل الاستفسار عن الهدف الحقيقي لمثل هذه العملية وهل تندرج في سياق التنسيق العميق ذي الطابع الاستراتيجي القائم بين الجانبين.
هذا ما فعله السلاح الروسي بحلب

تطرح الغارات الإسرائيلية الخمس على محيط مطار دمشق مسألة عمرها نصف قرن. هذه المسألة هي ما الذي تريده موسكو من الشرق الأوسط ولماذا الإصرار على دعم أنظمة لا تمتلك أيّ شرعية من أيّ نوع، أنظمة كانت دائما في خدمة إسرائيل؟

في مثل هذه الأيّام من العام 1967، كانت المنطقة العربيّة كلّها تغلي. كانت في الواقع تتهيّأ لحرب الأيّام الستّة التي اندلعت يوم الخامس من حزيران ـ يونيو من تلك السنة والتي انتهت باحتلال إسرائيل للجولان وسيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

معروف من سلّم الجولان إلى إسرائيل وظروف عملية التسليم. معروف جيّدا أن مصر لم تكن مستعدة للحرب وأن الهزيمة التي لحقت بها كانت مدوّية. كشفت تلك الهزيمة سذاجة جمال عبدالناصر الذي جرّه حزب البعث الحاكم في سوريا إلى خوض الحرب. تبيّن كم كان عبدالناصر جاهلا في السياسة الدولية وكم هو مسؤول عن حال الانهيار التي يعاني منها العرب عموما.

معروف أكثر من اللزوم أن الملك حسين تعرّض لمزايدات جعلته يصدّق، وإن غصبا عنه، أن مصر قادرة على إقامة توازن استراتيجي مع إسرائيل. خسر الأردن الضفة الغربية والقدس. لا تزال الضفّة محتلة إلى اليوم، كذلك القدس.

من يتابع المواقف السوفييتية ثمّ الروسية، منذ ما قبل العام 1967، يكتشف أن شيئا لم يتغيّر إن في أيّام الاتحاد السوفييتي، السعيد الذكر، أو في أيّام روسيا الاتحادية.

هناك سؤال واحد يمكن طرحه: ما المساهمة الايجابية التي قدمتها موسكو السوفييتية أو الروسية للمنطقة؟ هناك بالطبع من سيجيب أن الاتحاد السوفييتي بنى السدّ العالي لمصر. يمكن الدخول في جدل لا نهاية له في شأن السدّ العالي وفوائده وما إذا كان من الأفضل ترك الدول الغربية تبنيه في سياق خطة متكاملة بعيدا عن النظريات الاشتراكية التي لم تعد على مصر والمنطقة سوى بالخراب والتخلّف.

لم يستعد العرب من الأراضي التي خسروها في 1967 سوى سيناء. كان ذلك بفضل أنور السادات الذي ابتعد إلى أبعد حدود عن الاتحاد السوفييتي واتكل على الولايات المتحدة. أمّا قطاع غزّة، الذي كانت تديره مصر في العام 1967، فقد عاد إلى الفلسطينيين بفضل اتفاق أوسلو أوّلا ولأنّ إسرائيل لا تريد البقاء فيه ثانيا وأخيرا.

لم تبع موسكو السوفييتية والروسية العرب سوى الأوهام. باعتهم السلاح الذي قمع به الحكّام شعوبهم. لم تدعم غير أسوأ الأنظمة العربية، على رأسها النظام السوري الذي سلّم الجولان قبل نصف قرن والذي يعمل حاليا على الانتهاء من سوريا. ماذا فعل السلاح السوفييتي والروسي غير تمكين الأنظمة الديكتاتورية من قهر الشعوب وتدمير نسيج المجتمعات في هذه الدولة العربية أو تلك.

لعلّ ليبيا أفضل مثال على ذلك. لم يصدر عن موسكو في أيّ يوم ما يدين ممارسات معمّر القذافي الذي رفض الرحيل قبل تأكّده من أنّه لن تقوم لليبيا أيّ قيامة في يوم من الأيّام.

ما نشهده حاليا هو موقف روسي بائس من سوريا وثورة شعبها أسوأ بكثير من الموقف الذي اتخذته موسكو من “جماهيرية” القذّافي. هناك إصرار على الذهاب إلى النهاية في دعم بشّار الأسد ومراعاة إسرائيل إلى أبعد حدود في الوقت ذاته. يحصل ذلك في ظلّ استحسان إيراني لمواقف موسكو.

ليست شبكة الدفاع الجوّي الخدمة التي يمكن لروسيا في السنة 2017 تقديمها إلى سوريا. هناك خدمة وحيدة تصلح للمرحلة. تتمثّل هذه الخدمة بتخليص سوريا من نظام انتهت صلاحيته لم يعد لديه ما يفعله سوى شنّ حرب على شعبه.

نعم، إنّ مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي على حقّ عندما تدعو روسيا إلى الضغط على الأسد الابن من أجل التوقف عن استخدام السلاح الكيميائي في حربه على شعبه والرحيل عن السلطة. هل كثير الطلب من روسيا مثل هذه الخدمة في الذكرى الـ50 لهزيمة العام 1967؟

طوال ما يزيد على نصف قرن، لم تبع موسكو العرب سوى الأوهام ولا شيء غير الأوهام. لم تجد ما تقوله لهم عشية الخامس من حزيران ـ يونيو 1967 عن أنّهم يخوضون حربا خاسرة سلفا لأنّ موازين القوى في غير مصلحتهم. كيف كان لدولة عظمى في حجم الاتحاد السوفييتي أن تتجاهل قدرة إسرائيل على تدمير الجيوش العربية في أقلّ من ستّة أيّام؟

حسنا، يمكن تفسير الموقف السوفييتي في تلك المرحلة بالرغبة في جعل العرب أسرى الكرملين أكثر من أيّ وقت. ما التفسير الحالي للموقف الروسي الداعم لبشّار الأسد، علما أن أصغر مسؤول في موسكو يعرف أن النظام السوري انتهى؟

لا جواب عن هذا السؤال سوى الرغبة في الانتهاء من سوريا. ما بدأ في 1967 يستكمل في 2017 لا أكثر ولا أقلّ. يظل الردّ الروسي على الغارات الإسرائيلية الخمس أفضل دليل من أجل التأكّد من ذلك.

اقرأ المزيد
٣٠ أبريل ٢٠١٧
رأب الصدع بين العرب والكرد

يصعب الحديث بسهولة في المسألة الكردية السورية. أولاً، لأن قطاعاتٍ واسعة من الجمهور السوري لا تكاد تميّز بين موقف الاتحاد الديمقراطي الذي يقود اليوم السياسة الكردية السورية وموقف الأحزاب الكردية العديدة الأخرى، وأهمها المنضوية في المجلس الوطني الكردي. وثانياً، لأن هذه النخب والأحزاب الكردية السورية، على الرغم من تنافسها واختلافاتها، تكاد تشترك في سمةٍ واحدةٍ مع بقية النخب والأحزاب السورية التي تربت على ثقافةٍ سياسيةٍ، تلغي وجود الشعب السوري بأكمله، وتتصرّف كما لو كانت الوصية الشرعية عليه، فهي تنزع إلى الحلول محله، وتقرير مصيره مسبقاً، بدل الدفاع عن حقه هو في تقرير مصيره. ويصعب ثالثاً الحديث والتواصل أيضاً بين النخب الكردية والسورية الأخرى، لأن ثقافة التعقيم والإعدام السياسي للسوريين خلال العقود الطويلة الماضية لم تترك أي مجال لبناء لغة مفاهيم واضحة، لا غنى عنها لأي تواصل جدي. لذلك يغلب على النقاش التأويل الذاتوي للألفاظ وتحميلها غير ما تحمله، فلا مفاهيم الأمة والدولة والشعب والإدارة الذاتية والفيدرالية تعني شيئاً واحداً ومحدّداً عند جميع المتكلمين. ويصعب، أخيراً، الحديث في المسألة الكردية السورية، لأن سنوات الصراع الطويل، قبل الثورة وبعدها، قد خلفت إرثاً كبيراً من سوء الفهم وانعدام الثقة ومشاعر العداء التي تعاني منها النخب السورية بكل مكوناتها، بسبب ما عانته من قهرٍ وإحباط وخنق في ظل نظام البعث والأسد الذي تبعه، والحرمان من أي مشاركةٍ أو مجال للتعبير والتفكير المشترك والتفاهم الوطني. والواقع أن منع مثل هذا التفاهم بين أطراف النخب وأطياف المجتمع كان الاستراتيجية الرئيسية لنظام الأسد كي يحول دون ظهور قوةٍ وطنيةٍ منظمةٍ وموحدةٍ، تضع سلطته المطلقة موضع السؤال. لذلك، حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تنظيمه مؤتمراً علمياً حول العلاقات العربية الكردية.

1
ما من شك في أن الثورة الشعبية السورية قد فاقمت من الخلافات بين النخب العربية والكردية، إن لم تكن قد أحدثت صدعاً كبيراً بينها، وعمّقت الهوّة التي نشأت، منذ عقود، بين قوميتين تعاني كلاهما من مشكلاتٍ عويصة، حرمتهما من تحقيق أهدافهما، والانتقال بشعوبهما من حالة الشك والانقسام والغليان القومي إلى حالة الاستقرار والنضح والثقة بالنفس، وفتح خطوط التواصل على قدم المساوة، وبصورة جدية ومثمرة، مع الآخر، فقد شكل انفجار الثورة السورية، وتطورات الأحداث التي حالت دون انتصارها السريع كل الآمال المعلقة عند نخبةٍ قوميةٍ كرديةٍ عانت، خلال عقود طويلة، من الغبن والإحباط، وشعرت قيادتها بأن الثورة قد فتحت نافذة فرص كبيرة، ربما تمكّنها، إذا عرفت كيف تستفيد منها، أن تنتقم لنفسها من تجاهل النخب السورية لها في العقود الماضية، وأن تنتزع لنفسها ولايةً في جزء من الأرض السورية المستباحة من قوى داخلية وخارجية عديدة. وما من شك أيضاً في أن نموذج الحكم الذاتي الذي حصل عليه الأكراد في العراق لم يبرح مخيلتها، وربما ساهم فيه أيضاً دعم إقليم كردستان العراق هذا الخيار، وسعيه إلى نقل تجربته في العراق إلى كرد سورية. وهكذا تفاهمت الأحزاب الكردية، أو أغلبها، على تشكيل مجلس وطني كردي، بعد أقل من 15 يوماً من الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وكان الهدف من ذلك تمييز القضية الكردية القومية عن القضية السورية الديمقراطية العامة، والسعي إلى وضع المجلسين بموازاة بعضهما ندّين في مفاوضاتٍ تفضي إلى الاعتراف بحق الكرد السوريين في تقرير مصيرهم، وإقامة حكم ذاتي يتحول، في ما بعد، إلى إقليم مستقل أو شبه مستقل، كما حصل في كردستان العراق.

وهكذا تبلورت سياسات جديدة في الوسط السياسي والثقافي الكردي، لم تكن معروفة من قبل أو كانت مقصورةً على فئات قليلة من النخبة الكردية السورية. ومن ضمنها وأهمها التركيز على الشعب الكردي في مواجهة الشعب السوري، والسعي إلى فرض أسماء كردية على بعض المدن والقرى، سواء أكانت أسماء جديدة أو بعضاً مما كان قد تم تعريبه في عهد سابق، وتداول الإعلام الكردي السوري، لأول مرة، فكرة كردستان سورية، تشبهاً بكردستان العراق. وبدل أن يتعاون المجلس الوطني الكردي مع المجلس الوطني السوري، لتعيين ممثليه في مكتبه التنفيذي وأمانته العامة، على أساس البيان الوطني الجامع الذي قام عليه، علّق المجلس الكردي انضمامه العملي للمجلس الوطني بشروطٍ عديدةٍ، أهمها اعتراف المجلس بحق الشعب الكردي السوري في تقرير المصير، والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي، وفي ما بعد إقرار اللامركزية السياسية، رداً على اقتراح المجلس الوطني السوري باللامركزية الإدارية الموسعة التي نص عليها بيان إعلان المجلس الوطني، تماشياً مع تطلعات الشعب الكردي. وطالب قادة الكرد أيضاً المجلس بالتخلي عن اسم الجمهورية العربية السورية، واعتماد اسم الجمهورية السورية، كما تم اعتماد علم الاستقلال بديلاً للعلم السوري الراهن. لكن مع تعثر المفاوضات، لم يتردد بعض قادة المجلس الكردي في ربط موقفهم من الثورة بموقف المجلس الوطني من تلبية مطالبهم، على الرغم من أن الشارع الكردي كان من أنشط الشوارع المؤيدة للثورة، والمساهمة في مظاهراتها الشعبية الواسعة وشعاراتها.

2
والواقع أنه لم يكن أحد في المجلس الوطني يعارض الاعتراف بهوية الشعب الكردي الثقافية المستقلة والمتميزة، ولا في تأكيد المساواة التامة في الحقوق بين القوميتين العربية والكردية وبقية القوميات أو الجماعات القومية الأخرى التي تعيش على الأرض السورية، ولا في ضرورة تقليص صلاحيات السلطة المركزية للعاصمة، وإعطاء صلاحيات أوسع للمحافظات، وربما حكماً ذاتياً لمناطق أو لجماعاتٍ تحلم بذلك، في إطار سورية ديمقراطية واحدة ومستقلة. وكان لعدد كبير من قادة المجلس الوطني السوري علاقات متميزة وإيجابية مع الكرد، وعملوا في طليعة القوى التي دافعت عن إنصافهم وتلبية مطالبهم قبل الثورة وبعدها. ما كان يخشاه قادة المجلس هو أن يستخدم بعض غلاة القوميين مفاهيم ليست واضحة، ولا متداولة بشكل واسع في الثقافة السياسية السورية، من أجل أن يخلقوا شرخاً عميقاً بين العرب والكرد، ويهدّدوا وحدة قوى الثورة السورية التي كان التفاهم العفوي بين جمهور السوريين، على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم وأديانهم، أساسها القوي. وكان كثيرون منهم يخشون أن يستغل حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمشكوك بتحالفه مع نظام الأسد، هذه المطالب والشعارات، من أجل ثني الجمهور الكردي عن دعمه الثورة وتأليبه عليها. وهذا ما حصل بعد ذلك بالفعل، فبدل أن يلاقي قادة المجلس الكردي شباب الكرد المتحمسين للثورة، والمنخرطين فيها، على شعارات ومطالب تعزّز مشاركتهم، وتجعل منهم طرفاً أصيلاً وثابتاً في التحالف ضد نظام الطغيان، شكّكوه بوعي أو من دونه في صحة تضامنه مع إخوته السوريين المنخرطين في الثورة، وقرّبوه من مواقف الاتحاد الديمقراطي وشعاراته، وكان المستفيد الوحيد من ذلك هو قادة هذا الحزب الذين كانوا الملاك الحقيقيين والأصلاء لهذه المطالب والشعارات. ما عزل المجلس وأحزابه وأضعفها أمام حزب صالح مسلم الذي تقدّم، بشكل سريع، إلى موقع القيادة السياسية للحركة الكردية، ونجح في استقطاب الدعمين، الأميركي والروسي. وهكذا أمكن لحزب الاتحاد الديمقراطي أن يحول أنظار جمهور الثورة الواسع في المدن والقرى الكردية عن محور نشاطه الأول ضد الأسد، ويوجهه نحو أهدافٍ قوميةٍ خاصة، عزلته تدريجياً عن الثورة، وأحدثت مناخ مواجهة كردية عربية، يكاد يكون من الصعب تفكيكها، محورها الصراع على الأرض، بمفاهيم الملكية التاريخية وتوسيع دائرة السيطرة والنفوذ. وفي هذا السياق، تم تعميد الكانتونات الثلاثة باسم روج آفا، وأعلنت المنطقة منطقة إدارة ذاتية من طرف واحد، وتم تشكيل حكومة خاصة بها. وبالطريقة نفسها، تم التخلي في ما بعد بموازاة تنامي قوة الحزب القتالية عن روج آفا، وأعيد تعميدها باسم فيدرالية الشمال السوري قيد الإنشاء التي تضم، حسب مفهوم الحزب، مناطق عربية وكردية من دون تمييز، وتشكل نواة لسورية الجديدة التي يراها الحزب فيدرالية في كل أقاليمها، ويريد أن يفرضها على السوريين من دون نقاش ولا حوار ولا مشاورات.

منذ ذلك الوقت، لم يكف الشرخ بين النخب السياسية الكردية والنخب السورية العربية وغير العربية عن التفاقم. وعلى العموم، هناك اليوم شبه وحدة في التطلعات والمواقف لطيف واسع من النخب الكردية السورية، وموقف غالب أو مهيمن، يقوم على اعتقاد راسخ بأن أمام الكرد فرصة تاريخية لا تفوّت، لفرض تصورهم لمصالحهم ورؤيتهم لسورية القادمة، بحيث يكرّرون مثال الشمال الكردي في العراق، بينما يخشى العرب من تنامي طموحات القادة الكرد السوريين، وسعيهم إلى توسيع دائرة نفوذهم، على حساب مصالح العرب السوريين في منطقة الجزيرة والفرات، نتيجة الدعم العسكري المتزايد الذي يقدمه لهم الأميركيون والروس، لمساهمتهم في القتال ضد "داعش". وفي موازاة هذا الشرخ بين العرب والكرد، يزداد الانقسام داخل صفوف النخب الكردية ذاتها، كما هو الحال في صفوف النخب العربية التي تزداد توتراً وخوفاً مع انحسار دورها وتراجع سيطرتها على أيٍّ من أدوات الصراع القائم. وكما أن مثل هذا الشرخ يشجع دولاً عديدة كبيرة، منخرطة في الصراع داخل سورية وعليها، على استثماره والتوظيف فيه، من أجل تعزيز سيطرتها على الأطراف السورية جميعاً، وفي سبيل توسيع هامش مناورتها وفرض تصوراتها لسورية المقبلة، وتقسيم مناطق النفوذ فيها، ربما على حساب الكرد والعرب مجتمعين.

لا أخفي أنني كنت دائماً أخشى، قبل الثورة، الصدام بين الأجندة القومية التي لا يزال قسم كبير من النخب الكردية يركّز عليها، وهذه طبيعة أي نخبة حيل بينها وتحقيق مشروعها القومي الخاص بها، والأجندة الديمقراطية التي أصبحت محور اهتمام النخب السورية عموماً بعد فشل النخب والأحزاب القومية العربية، وفي مقدمها البعث، وتجييرها لتخليد السلطة الاستبدادية. وكنت أعتقد، ولا أزال، أن العمل على الأجندة الديمقراطية التي وضعتها الثورة في مقدمة المهام التاريخية لسورية، يقرّب الكرد من تحقيق تطلعاتهم القومية، وأولها الحفاظ على هويتهم الثقافية واكتساب خبرة أساسية في بناء الدولة والممارسة السياسية، والارتقاء بشروط حياة الشعب التي لاتزال بائسة كبقية السوريين، أكثر بكثير من التعلق بأجندة قومية مغالية، تغامر بقطع الكرد عن محيطهم وبيئتهم الوطنية، وتزرع بذور صراعاتٍ ونزاعاتٍ، لا تنتهي، على الأرض المشتركة، أول من يقفز عليها ويستفيد منها الدول الأجنبية الساعية إلى مزيدٍ من النفوذ والسيطرة.

ونحن الذين عشنا إجهاض حلم القومية العربية، ونعيش اليوم الفاجعة السورية، ندرك أن بناء دولةٍ، لا تتحول إلى فخ لأبنائها، ومصدر قهر وترويع وتدمير لحياتهم الإنسانية، يتطلب أكثر من وحدة اللغة والهوية الثقافية، ويحتاج إلى عملٍ من نوع مختلف، أوسع من استعادة التراث أو ترداد الشعارات والأسماء القومية، وأن الهوية الثقافية تنتعش وتزدهر وتتجدّد بشكلٍ أكبر بكثير، عندما تكون في ظل دولة حقيقية، دولة المواطنة والحقوق المتساوية وحكم القانون، أي دولة الأمة بالمعنيين، الدستوري والسياسي، لا الأتني. هذا خيار معظم العرب اليوم، وهو في اعتقادي خيار أغلبية الكرد أيضاً في سورية وخارجها، في ما وراء اختلافات النخب وصراعاتها الفكرية والسياسوية.

ومهما كان الحال، ليس هناك، في نظري، مبدأ صالحٌ لتنظيم العلاقات بين الشعوب والجماعات، سوى حق تقرير المصير، لكن تقرير الشعوب مصيرها، لا تقرير النخب مصير الشعوب، كما هو جار في منطقتنا، والذي راحت ضحيته الدول والشعوب. وفي إطار احترام حقوق الشعوب والجماعات الأخرى، وحقها المماثل في تقرير مصيرها أيضاً لا على حسابها. لذلك، لا يوجد حق تقرير مصير من طرف واحد، ولا مجال لتحقيقه وتطبيقه إلا من خلال الحوار والتشاور والمفاوضات الجماعية. من دون ذلك، لن يعني فرضه بالقوة سوى تعميم الحروب والنزاعات داخل الدول القائمة، وفي ما بينها.

اقرأ المزيد
٣٠ أبريل ٢٠١٧
إعادة إحياء الشرق الأوسط "الجديد"

تحمل التطورات الجارية على المستوى الإقليمي بوادر رياح جديدة، قد تغير تركيبة، النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وربما خصائصه. الملمح الأهم في تلك الرياح الجديدة أنها تُذكِّر برياح سابقة هبّت قبل عقدين، كانت تحمل أطروحاتٍ للتعاون الإقليمي، واكبت تدشين مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في تسعينيات القرن الماضي. والتي جرت محاولاتٌ لتأطيرها في عدة صيغ، منها الشرق الأوسط "الجديد" والشرق الأوسط "الكبير" أو "الموسّع". الفارق الأساس، فيما تشير إليه التحركات الجارية حالياً، أن الصيغ السابقة تستند إلى هدف تحقيق تنمية اقتصادية، من خلال تعاون إقليمي. وتنطلق من ذلك نحو دمج إسرائيل في المنطقة، وإقامة منظومة تعاون إقليمي جماعي، تكون هذه جزءاً منه. بينما تبدأ التحرّكات الجديدة من وجود تحدّياتٍ وتهديداتٍ مشتركة، تجمع دولاً في المنطقة ومن خارجها. أي أن الصيغ السابقة للشرق الأوسط الموسّع أو الكبير كانت فلسفتها تعاونيةً تجميعيةً، ترفع شعار تحقيق الأفضل. بينما ما تشير إليه التحرّكات الراهنة يبدو، في جوهره، استنفاراً دفاعياً لمواجهة السيئ، أو ربما الأسوأ.

يتبدّى ذلك بوضوح في مساعي تسوية بعض الملفات، لحلحلة التأزم الإقليمي، وتهيئة الأجواء لتحالفاتٍ إقليميةٍ، تتجاوز الاختلافات المرتبطة بالأزمات الراهنة. وتواجه تحدياتٍ متنوعةٍ، تشمل انتشار العنف في المنطقة وخارجها، والطموح الإقليمي الإيراني. وتداعيات الاضطرابات الداخلية، مثل تدفق اللاجئين وتهريب السلاح وانتقال المسلحين، وتنازع موارد الطاقة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات تحريك قضية قبرص، وأفكار استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتعدّد منظومات تسوية أو إدارة الملف السوري (جنيف/ أستانة/ أصدقاء سورية) وكذلك الملف الليبي (اتفاق الصخيرات/ دول الجوار/ الرباعية الدولية). وفي المقابل، يجيء التصعيد الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. وتحفز إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد إيران، فضلاً عن الحضور الروسي المتزايد في ملفات المنطقة وقضاياها، سياسياً وعسكرياً.

تشير تلك الحزم المتوازية من المستجدات والتحركات، بوضوح، إلى أن ثمة إعادة تشكيل للنظام الإقليمي، وأن ترتيبات جديدة تنتظر المنطقة في المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.

ويمكن رصد ظواهر وخصائص مصاحبة لذلك الوضع الإقليمي الجديد، الجاري التحضير له، في مقدمتها تغير أولويات المصالح والتهديدات الإقليمية، حيث لم يعد العمل العربي المشترك، أو تطوير العلاقات والروابط العربية- العربية، يمثل أولوية لمعظم، إن لم يكن كل، الدول العربية. كما تراجعت أولوية الصراع العربي الإسرائيلي حتى لدى الدول المعنية به مباشرة، بما فيها التي كان يطلق عليها "دول الطوق". وفي المقابل، تتقدّم أولوية القضايا العابرة للحدود، خصوصاً انتشار ظاهرة العنف المسلح، سواء بواسطة تنظيمات ومجموعات أو بواسطة أفراد.

الظاهرة الثانية الملفتة فيما تشهده المنطقة من مستجدّات هي عودة الاستقطاب المذهبي، القائم فعلياً منذ بدايات الألفية الثالثة، لكنه توارى قليلاً بضعة أعوام. كان يتركز خلالها في التفاعلات الداخلية والعلاقات المجتمعية داخل بعض الدول التي تتسم بالتنوع المذهبي والديمغرافي بشكل عام. وكان لكل منها خصوصية محكومة بطبيعة التركيبة المجتمعية. بمعنى أن البعد الإقليمي أو الخارجي في ذلك الانقسام كان حاضراً، لكن على استحياء وبشكل محدود. وكان الدور الخارجي في الانقسام المذهبي استجابةً لمحركات داخلية بالأساس. بينما، في الوضع الراهن، صار الانقسام إقليمياً أكثر منه داخليا. وتجلت انعكاساته في تدخلاتٍ عسكرية وسياسية مباشرة، يمتزج فيها المذهبي بالسياسي. كما يتضح في تدخل حزب الله وجماعات شيعية مسلحة موالية لإيران في الأزمة السورية، والدور الإيراني في اليمن، والاحتقان المذهبي الكامن في القوس الشمالي المأزوم، الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسورية.

بالتوازي مع تلك التحولات، تجري على قدم وساق عملية تسليم للأدوار ونطاقات النفوذ الإقليمية الخاصة بالقوى الكبرى واستلامها، فقد تصدرت الولايات المتحدة الأميركية القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط ثلاثة عقود متصلة، كانت خلالها تنفرد تقريباً بدور "الراعي الرسمي" لمجمل قضايا المنطقة وتطوراتها. أخذت واشنطن، في الأعوام الثلاثة الماضية، ترفع يدها عن المنطقة تدريجياً، ما أتاح الفرصة أمام روسيا لتملأ ذلك الفراغ بسرعة وديناميكية. وبعد أن صارت الفاعل الرئيس في الملف السوري، بقبول أميركي، فإن موسكو تتجه حالياً إلى ملفات وأزمات أخرى، مثل ليبيا واليمن، لتثبت أنها تقترب كثيراً من الحلول محل الولايات المتحدة في موقع القوة العالمية المهيمنة على الشرق الأوسط.

النتيجة المنطقية المترتبة على ما سبق أن تشهد المنطقة منظومة تحالفات ومحاور إقليمية، تجسد تلك الموجة من التغيرات، إلا أن التحالفات الجاري تشكيلها ليست مختلفة كلياً عن التي كانت سائدةً حتى سنوات قليلة مضت، وتوزعت بشكل أساسي بين جناحين، أطلق أولهما على أعضائه وصف "المقاومة والممانعة"، بينما تبنى الثاني مصطلح "الاعتدال" تعريفاً للدول المنضوية فيه. والمهم في هذا التقسيم أنه تمحور، بالدرجة الأولى، حول الموقف من إسرائيل، سواء لجهة العلاقة المباشرة معها، أو إزاء مجمل طريقة إدارة الصراع معها. وانبثق من هذا الاستقطاب الأساسي محاور انقسام فرعية، شملت الموقف من تنظيمات والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وجماعاتها، خصوصاً ذات المرجعية الإسلامية. وساعد في ذلك رفع شعار الجهاد، واعتبار تحرير القدس غاية إسلامية، بواسطة دول وتنظيمات يجمع بينها اتساق مذهبي. الأمر الذي أوجد ظلالاً مذهبية لحالة الاستقطاب في النظام الإقليمي للشرق الأوسط.

أما في الشرق الأوسط "الجديد" الذي يبدو تبلوره قريباً، فلم يعد خافياً أن ثمّة أولويات مشتركة بين إسرائيل ودول عربية كثيرة. لذا، لن يكون مفاجئاً أن تصبح إسرائيل شريكاً أصيلاً في أحد التحالفات الإقليمية الجديدة، أو بعضها، علناً أو بغير إعلان. وفي ذلك منعطف تاريخي أكثر من خطير بكل المعايير السياسية والأخلاقية، ما يجعله جديراً بالتناول لاحقاً في حديث مستقل.

اقرأ المزيد
٢٩ أبريل ٢٠١٧
عن الإشراف الدولي احتمالاً

من الأسئلة التي تطرحها الضربة الأميركية للشعيرات، والتطورات المرتقبة التي يتوقع أن تنتجها خطة أميركية رباعية المراحل، أعلن أن تطبيقها سيطرد "داعش" من الموصل والرقة، خلال فترة بين ستة أشهر وعام، ارتبط اعتمادها باعتقاد واشنطن على أن القضاء على الإرهاب هو شرط حل المعضلة السورية وإخراجها من تعقيداتها الداخلية والخارجية، وإقامة أربع مناطق استقرار في سورية، إن قبلتها روسيا والنظام غدت مدخل حل سياسي دولي، سيبدأ بوقف إطلاق نار تضمن الدولتان الكبيرتان استمراره.

هذه الخطة، بجداولها الزمنية والتنفيذية للحل المقترح، يفترض أن تقيم، خلال قرابة عام، مناطق استقرار أميركية، إن دعمتها روسيا فُتح الباب أمام وضع كامل سورية تحت إشراف دولي، تتولاه الدولتان الكبيرتان، فإن حجبت روسيا دعمها، لم يبق أمام واشنطن غير فرضها بالقوة، عبر انخراط عسكري واسع في الحرب، وإلا فصرف النظر عنها، وتصعيد الحرب بالواسطة إلى مستوى غير مسبوق، سيضع الدولتين الكبيرتين أمام سياسات حافة الهاوية، أي على مشارف مواجهةٍ مباشرةٍ تزيد خطرها زحمة السلاح والمسلحين، وتناقضات أهدافهم في الساحة السورية، وما وراءها.

ثمّة دلائل تؤكد رغبة واشنطن في طرد "داعش" من الموصل والرقة. إن حدث هذا، وقع تبدل سياسي مفصلي بالنسبة إلى السوريين، من شأنه تعزيز فرص العودة إلى معادلة الثورة الأولى، حين كان الخيار الديمقراطي البديل الوحيد للنظام، قبل أن يحل بديل التيار المذهبي محله، بالتلازم مع صعود الإرهاب وتزايد عنف النظام. سيعيد ضرب الإرهاب طرح السؤال حول قدرة مؤسسات المعارضة على تولي الأمر في دمشق، وبالتالي إصلاح أوضاعها وعلاقاتها في الأشهر القليلة التي تفصلنا عن ضرب البديل المذهبي/ الإرهابي، وإقناع العالم بأنها مؤهلة للقيام بما تتطلبه السانحة المتاحة، ولبناء بديل ديمقراطي، يستطيع نقل سورية من الأسدية إلى نظام الحق والقانون والحريات الذي طالب شعبها به، فضلاً عن بذل الجهود الضرورية لتخطي الموقف الروسي/ الإيراني الداعم للأسد ونظامه، وتحفظات تركيا وبعض الخليج على الحل.

إذا كانت المعارضة غير قادرةٍ على إنجاز هذا العمل، هل ستتخلى واشنطن عن خططها وتنتظرها، ريثما تقرّر إصلاح أحوالها، أم ستعطي الأولوية للتفاهم مع موسكو حول خطةٍ تضمن مصالحهما، تضع سورية بكاملها تحت إشراف دولي، تتوليانه بقرار من مجلس الأمن، تنفذانه بواسطة إدارات ذاتية يقودها أشخاص لا ينتمي معظمهم بالضرورة إلى مؤسسات المعارضة الحالية. أو مجلس عسكري، أو سياسي/ عسكري، يضم ممثلين للطرفين المتصارعين وآخرين. ستعمل هاتان الجهتان تحت إشراف هيئة أميركية/ روسية عليا، ستتولى صلاحيات الأسد، وتعمل لإعداد سورية لحل سياسي تدرجي، انطلاقاً من وقف إطلاق النار، وعودة المهجرين إلى بيوتهم، وبدء الإعمار.

إلى جانب النجاح في إعادة هيكلة المؤسسات المعارضة، السياسية والعسكرية، سيتوقف وضع سورية تحت إشراف دولي على كسر الاستعصاء التفاوضي بين النظام ومعارضيه، وهو الذي يعني استمراره في إحباط فرص الحل السياسي جعلَ الإشراف الدولي احتمالاً مرجحاً، ما لم تعجز الدولتان عن التفاهم عليه، وتقرّرا خوض صراع يمتد سنواتٍ، قد يمزّق سورية ويقضي عليها.

في مواجهة هذا الاحتمال الكارثي، لن يبقى لدى المعارضة غير خيارٍ يبدو مستحيلاً، هو التوصل إلى حل مع النظام، وآخر صعب بدوره، لكنه يستحق المحاولة، يكمن في ترتيب أوضاعها، بحيث تقتنع الدولتان بأن مصالحهما ستكون مضمونةً بقدر ما تساعدان السوريين على نيل حقوقهم.

يرجّح الاستعصاء الإصلاحي والتفاوضي فرص الميل إلى وضع سورية تحت إشراف دولي ترعاه الدولتان، يخرجهما من مخاطر مواجهة حافلة بالأخطار. والآن: هل الإشراف الدولي محتم؟ لا أجزم، لكنني أعتقد أن الوسائل التي استخدمت، خلال الأعوام الماضية، لحل الصراع في سورية وعليها، كانت غير ملائمة، لأنها كانت هي نفسها محل صراع بين المنخرطين في الشأن السوري، وأن ممارسة إشراف دولي أميركي/ روسي سيمد الدولتين بوسائل فاعلة جداً للتنسيق والعمل المشترك الذي يبدو أن واشنطن تفضل اعتماده، كي لا تكون عملية الشعيرات ضربة عصا على ماء، سرعان ما تتلاشى آثارها من دون أن تحدث فارقاً، أو تحد من مخاطر تمسك بخناق جميع أطراف الصراع المحليين والإقليميين والدوليين الذين تعبوا منه، وأمعنوا في الغوص فيه، بقدر ما حاولوا الخروج منه.

اقرأ المزيد
٢٩ أبريل ٢٠١٧
الى الدويلة الطائفية المذهبية العرقية دُر

لا ننكر أبداً أنه كانت هناك محاولات خجولة بعد جلاء الاستعمار عن بلادنا لبناء دول وطنية مستقلة وذات سيادة، لكن تلك المحاولات أو مشاريع الدول ظلت ناقصة لأن الطبقات السياسية التي وصلت إلى السلطة بعد رحيل المستعمر لم تكن نخباً وطنية، بل كانت إما استمراراً لعهد الاستعمار بوجوه أخرى، أو أنها اهتمت بدوائرها الضيقة أكثر من الوطن. فهذا بنى نظامه على أساس عسكري ومخابراتي وليس على أساس وطني، فطغت المؤسستان العسكرية والأمنية على الدولة، وحولتها إلى ملك خاص يعربد فيه وبه كبار ضباط الأمن والجيش وأتباعهم من المستفيدين والطفيليين. وذاك بنى نظام حكمه على الطائفة، فسادت النزعة والتسلط الطائفي على كل مناحي الدولة، لا بل إن بعض القيادات التي تشدقت بالوطنية بنت حكمها على أساس عائلي كما حدث في سوريا، فتحولت الجمهورية المعلنة إلى إقطاعية عائلية وطائفية مفضوحة. وقد شاهدنا كيف سيطرت النزعة العائلية على النظام في ليبيا بحيث ارتبطت الفترة التي حكم فيها القذافي ليبيا بعائلة القذافي وأنصاره وتهميش بقية أطياف الوطن الليبي. دعكم من أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق. ودعكم من شعارات الاتحاد الاشتراكي في مصر الناصرية. ودعكم من خزعبلات اللجان الثورية في ليبيا، فكل تلك الأحزاب والحركات لم تكن سوى غطاء للحكم الفردي والعائلي والطائفي والعسكري والمخابراتي. لقد غطت الأنظمة العربية التي جاءت بعد الاستعمار عوراتها بأوراق توت حزبية وثورية وعقائدية سرعان ما سقطت عند أول امتحان وطني حقيقي.

لقد بنت تلك الأنظمة الساقطة والمتساقطة أشباه دول وطنية، وأبقتها في مراحلها البدائية، ولم تعمل على تحصينها داخلياً، فقمعت الشعوب، وداستها، وحرمتها من أبسط حقوقها بسياساتها العسكرية والمخابراتية الوحشية، فأصبحت الشعوب تنتظر أي فرصة للانقضاض على تلك الأنظمة الدموية التسلطية. وهذا ما حدث فعلاً فيما أصبح يُعرف بالربيع العربي. وبغض النظر عما إذا كانت الثورات مدفوعة من الداخل ضد الظلم والطغيان، أو بتحريض من الخارج لتخريب بلادنا، فإن المسؤول الأول والأخير عما حدث من خراب هي الأنظمة الحاكمة التي أعطت المتآمرين في الخارج كل الأسباب التي تساعد المؤامرات على النجاح. فلو بنت تلك الأنظمة دولاً وطنية حقيقية لكل أبنائها لما حدثت الثورات أصلاً، ولما نجحت المؤامرات إذا كانت الثورات مؤامرات فعلاً.

إن المسؤول عن هذا النكوص التاريخي من مرحلة بناء الدولة الوطنية إلى ظهور الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية القميئة الآن هي الأنظمة نفسها. وبدل أن نقوم بتطوير أشباه الدول الوطنية في بلادنا إلى دول وطنية حقيقية، كان مشروع الفوضى الأمريكي الخلاقة بالمرصاد لنا، فاستغل الثورات ومظالم الشعوب والأخطاء الكارثية للأنظمة الديكتاتورية ليعيدنا الآن إلى دويلات مذهبية وطائفية وعرقية بدائية وعصر ملوك الطوائف. ولولا الاستعداد الداخلي الذي وفرته الأنظمة القمعية في غير بلد عربي لما مرت الفوضى الخلاقة بشكلها المدمر الذي نعيشه ونحياه الآن، فعندما يكون صاحب البيت رجلاً يستطيع أن يحل مشكلاته مع عائلاته بنفسه، فلن تتدخل أمريكا لإذكاء نار الصراع بين الشعوب والأنظمة كما في سوريا مثلاً.

لقد بُني مشروع الفوضى الخلاقة على دراسات دقيقة للأوضاع العربية ولحال الحكام العرب وتفكيرهم وسلوكهم وردة فعلهم، ولم يُبن على عبث. لقد كان أصحاب المشروع يعرفون جيدا عقلية الحكام وضباطهم ومخابراتهم العفنة، وكيف سيتصرفون في حال حدوث معارضات ومظاهرات.

لقد رفع القومجيون العرب شعار الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، لكنهم فشلوا حتى في توحيد دولهم داخلياً، فزرعوا فيها ألف لغم ولغم طائفي وعرقي واجتماعي وثقافي ومذهبي بحيث تحولت إلى ملل ونحل متناحرة عند أول هزة كما حدث في سوريا. لقدر راهن النظام السوري مثلاً على الصراع الداخلي بين الطوائف والمذاهب كي يستخدمه في اللحظة المناسبة عندما ينتفض الشعب عليه.

وهذا ما فعله فعلاً، فراح يذكي نار الطائفية والمذهبية بين أطياف الشعب كي يقضي على الثورة ويحول أنظار السوريين من قضيتهم الرئيسية ضد النظام إلى صراع داخلي وحرب أهلية. وقد نجح في ذلك، لكنه هو وأمثاله عاد بسوريا إلى زمن ملوك الطوائف والدويلات والإقطاعيات. والمضحك أنه ما زال حتى الآن يرفع شعار وحدة حرية اشتراكية.

اقرأ المزيد
٢٩ أبريل ٢٠١٧
السياسات العربية والدولية بعد الشعيرات

حفل الأسبوعان الأخيران بجملة من التطورات، تنصبُّ في مجموعها من حول الملف السوري. أول تلك التطورات بالطبع الردُّ الأميركي على استخدام الكيماوي من جانب النظام السوري ضد خان شيخون بمنطقة إدلب. وقد تبيّن أنّ الغارات السورية والروسية ترمي إلى التهجير والإرعاب، وإعادة الاستيلاء على ريف حماة لمحاصرة إدلب، وتكرار ما حصل في مدينة حلب وريفها. وبالتوازي مع ذلك، يراد الاستيلاء على ريف دمشق بالقصف والتهجير كما حصل في الزبداني ومضايا، ويراد الآن السير في المخطط باتجاه دوما وجوبر ونواحيهما. وإلى ذلك، هناك الزحف باتجاه الجنوب بمنطقة درعا والحدود الأردنية.

وإشعاراً بتغير الاتجاه، انقطعت الولايات المتحدة عن مساري «آستانة» و«جنيف». وتتنافس الآن مع روسيا والنظام على الأكراد. فقد توقف زحف «قوات سوريا الديمقراطية» باتجاه الرقة. وفتح النظام السوري خطا للطيران بين الحسكة ودمشق، والحسكة وحلب، إشارة إلى التواصل بين النظام وقوات حزب العمال المسماة «سوريا الديمقراطية». وفي المقابل، أغارت الطائرات التركية على قواعد حزب العمال بمنطقة سنجار العراقية، وعلى قواعد الحزب على الحدود التركية مع سوريا. وقد علَّل الأتراك هجمات طيرانهم على المناطق التي استولى عليها الأكراد بأنها كانت لمنعهم من توريد السلاح والمقاتلين إلى الداخل التركي.

وقبل أيام، فوجئ المراقبون بالهجوم الكلامي الذي شنَّه بشار الأسد على الأردن، بحجة أنه ينفذ أوامر الأميركيين والإسرائيليين! وما اهتمّ الأردنيون كثيراً، بل ردُّوا بأنه وطوال ست سنوات ما دخل جندي أردني واحد إلى سوريا. ويتركز الهمّ الأردني في حماية حدوده من المتطرفين، من ضمن التحالف الدولي ضد «داعش». ثم إنه قلقٌ من اقتراب الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة من حدوده في الجنوب السوري.

وعلى خطٍ ثالثٍ أو رابعٍ تكثفت المشاورات السعودية مع الأميركيين ومع المصريين. فقد زار وزير الدفاع الأميركي المملكة مرتين. وأجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي محادثات مع الملك سلمان بن عبد العزيز على وقع التحسن الملموس في العلاقات السعودية - المصرية. ولا شكّ في أن المشاورات السعودية مع الأميركيين والمصريين يدور جزءٌ منها حول مسألة اليمن. لكنّ المسألة السورية يظلُّ ملفها حاضراً في أي محادثاتٍ عربية – عربية، أو عربية - أميركية، في ضوء تغير الاتجاه الأميركي في الأزمة السورية، والتغير في العلاقات الأميركية - الإيرانية، والأميركية - الروسية.

لقد كان من اللافت للانتباه أنّ الأميركيين والسعوديين كانوا أولَ من هنّأ الرئيس التركي بنتيجة الاستفتاء الذي حوَّل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.

بعد الانسحاب الأميركي المشهود من العراق وسوريا طوال ثماني سنواتٍ هي عهد أوباما؛ سيطر الإيرانيون في العراق، وسيطر الروس إلى جانب الإيرانيين في سوريا. وقد اضطر الأتراك والعرب، وفي الحالتين، إلى مهادنة روسيا الاتحادية، باعتبار أنّ سيطرتها أهون من سيطرة إيران. إنما على وقْع العودة الأميركية إلى الساحتين، يُنتظرُ أن تتحسن علاقات أميركا بتركيا، وأن يزداد التعاون الأميركي مع العرب؛ سعوديين وأردنيين، في الساحتين، وفي مواجهة الإرهاب، والتدخلات الإيرانية.

ما تغيرت الخطط الروسية والإيرانية في العراق وسوريا، ففي العراق وبعد الموصل، يُنتظر أن يمضي الإيرانيون والمتأيرنون إلى تلعفر، فيصبح الصدام التركي - الإيراني حتمياً، وبخاصة أنّ إيران تتلاعب أيضاً بمسألة استيلاء الأكراد على كركوك، واستقلال كردستان عن العراق، وهما الأمران اللذان تعارضهما تركيا بقوة. وإلى ذلك، فإنّ إيران هي التي سمحت لحزب العمال الكردستاني بإقامة قواعد في سنجار، فصارت ساحة صراعٍ وقتال، وما استطاع معظم سكانها من الإيزيديين العودة إليها.

أما في سوريا؛ فإنّ الإيرانيين كانوا مرتاحين للجهتين: الانسحاب الأميركي مع التواطؤ لصالح الميليشيات الإيرانية، والحرس الثوري، وميليشيات الأسد. ومن الجهة الأُخرى يزعم الإيرانيون (بخاصة سليماني) أنهم هم الذين استقدموا الروس للمساعدة عام 2015. وإلى الروس وطائراتهم يعود الفضل في تخريب حلب والتمكن من الاستيلاء عليها، والتهجير بحمص، وتمتين مواقع «حزب الله» والنجباء العراقيين وميليشيات الأسد بجوار دمشق، والآن باتجاه ريف حماة، وفي الجنوب باتجاه درعا. وكما سبق القول، فإنّ الأتراك أولاً والعرب ثانياً اضطروا لمهادنة روسيا؛ وقد سمح الروس لقوات «درع الفرات» المدعومة تركياً باستعادة مدينة جرابلس ثم مدينة الباب والمساحات بينهما من «داعش». ثم حال الأميركيون والروس معاً دون استعادة منبج بغرب الفرات من «قوات سوريا الديمقراطية» التي كانت قد استولت عليها من «داعش» بمساعدة الأميركيين.

لقد كان الموقف الأميركي قبل فوز ترمب مثالياً بالنسبة لإيران وبالنسبة لروسيا. فقد شكلت الولايات المتحدة التحالف الدولي لمقاتلة «داعش» و«النصرة»، الذي ما شارك فيه الروس والإيرانيون. وبذلك انصرف الإيرانيون والروس والأنظمة المحلية بالعراق وسوريا للاستيلاء على مساحات شاسعة من البلدين، وتهجير سكانها العرب السنة والتركمان منها، تارة بحجة أنهم إرهابيون، وطوراً بأنهم تكفيريون، وطوراً ثالثاً من دون تعليل! ثم إن الروس والسوريين والإيرانيين والذين عطّلوا القرارات الدولية بشأن سوريا واخترعوا مسار «آستانة»، وظلُّوا يشكون بأنّ الأميركيين لا يتعاونون معهم بما فيه الكفاية، استبشروا خيراً بمجيء ترمب، إلى أن كانت ضربة الشعيرات بعد الكيماوي.

لا يبدو أنّ الأميركيين يريدون العودة عسكرياً بما يضاهي التدخل الروسي، لكنهم يعرفون أنّ التأثير السياسي والتدخل لحلّ الأزمات سياسيا ودبلوماسيا، لا بد له من مقدماتٍ عسكرية. وعلى وقع التغير السياسي أو المقاربة الخاصة لترمب في السياسات الشرق أوسطية، تحمس البريطانيون ودعوا إلى التدخل بقوة. وتتغير الآن العلاقات الأميركية الباردة مع تركيا. وقد صارت حارّة وودودة مع السعودية والأردن. ولذلك يُنتظر أن يتقدم ملفا اليمن وسوريا؛ اليمن باتجاه الحسم بالاستيلاء على الحديدة، وتفاوُض الشرعية مع الانقلابيين من موقع قوة. وسوريا بإعطاء الأتراك دوراً أكبر في الشمال السوري، وإعطاء العرب دوراً أكبر في الجنوب السوري. والمقصود من جانب ترمب ليس معادلة الروس وكبحهم فقط؛ بل ومعاقبة «الإرهاب» الإيراني الذي اكتسب قوة وانسياحاً بالمهادنة الأوبامية مع إيران من أجل الملف النووي. وقد استشعر الإيرانيون ذلك فسرّعوا من التبادل السكاني، ومن جمع أسلحتهم بجانب حميميم الروسية للحماية، كما راح حسن نصر الله يهدد إسرائيل، فتجددت قصة الحرب الممكنة بين إسرائيل و«حزب الله».

لن يتراجع الروس والإيرانيون بسهولة بعد استثماراتهم الضخمة والهائلة بالعراق وسوريا. لكنّ حلفاء الولايات المتحدة المخذولين من جانب إدارة أوباما، وهم أتراكٌ وعرب وبلدانهم مهدَّدة بالتخريب والتقسيم، سيتمكّنون من العمل بحرية أكبر من أجل صون وحدة البلدان والعمران. ويا للعرب!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان