يتميز شهر رمضان المبارك عن غيره من أشهر العام، برمزيته الدينية التي يحتفل فيها المسلمون بالصيام والقيام وصلة الرحم واجتماع العائلة يومياً على مائدة إفطار واحدة، تجتمع فيها القلوب والاجساد، وتمحي معها كل ضغينة أو حقد، وتتصالح فيها القلوب والأنفس مع ربها ومع كل من شاب بينهما خلاف أو أي شقاق.
ولشهر رمضان المبارك طقوس عديدة في مختلف البلدان الإسلامية، ولسوريا طقوسها التي تعود فيه أهلها إحياء هذا الشهر المبارك، تتمثل بالمأكولات الشهية، واجتماع أفراد العائلة، والصلوات والواجبات الدينية التي يؤدونها، يمر بأيامه الثلاثين، ليقبل العيد عيد الفطر المبارك، حيث تجتمع العائلات من كل بلدة وقرية في المساجد، وتخرج دفعات متتالية لتزور المقابر وكل من فقدوه من أهلم، في جو من التسامح والصفاء.
ومع بدء الحراك الثوري ضد الظلم والاستبداد المتمثل بنظام الأسد في سوريا، اختلف الحال على الشعب السوري في رمضان، وتبدلت الفرحة والبهجة، وتعكر الصفاء والتآلف، فتحول الشهر المبارك لمأتم سوري، في كل قلب غصة، وفي كل عائلة يتم وفقد على محب، وفي كل حي وشارع مقبرة للشهداء، وفي كل بلدة مجازر وضحايا تذكرهم بمن فقدوا على يد قوات الإجرام في سوريا ممثلة بـ الأسد وحلفائه.
يمر شهر رمضان طيلة سنوات الثورة الستة على الشعب السوري، ومازال شلال الدم ينزف من جراحه، يتذكر فيها الصائمون من فقدوا خلال العام، ومن كان بينهم وغادر لربه شهيداً، أو من فقدوه وبات معتقلاً في غياهب السجون المظلمة، او من هجر من أرضه وبلده وباتت تفصلهم مئات الكيلوا مترات عن أهله وذويه، يتذكرون حالهم في المخيمات البائسة، وكيف كانت ديارهم عامرة بالأهل والأحباب الذين تفرقوا وضاعت بيهم كل الأفراح.
شهر رمضان الذي حوله الأسد لمأتم سوري، بعد أن فرق شتات الشعب السوري، وفرق العائلة والأهل، فلا تكاد تخلو عائلة اليوم من فقد أو حزن على فقيد أو غائب، يمر عليها شهر رمضان بأوجاع وأوجاع، يغلب الحزن على حالة الفرح، ويغلب الفقد والألم في قلوب المعذبين داخل سوريا وخارجها، تتشارك الغصة، واللوعة، وكل صنوف العذاب النفسي، تتطلع ليوم تعود فيه القلوب لتتآلف ويفتتح الشعب السوري صفحة من الحياة، بزوال من عكر صفو أيامهم، وأفسد عليهم تأدية واجباتهم الدينية وطقوسها المعتبرة.
وعلى الرغم من دخل بعض المناطق في سوريا ضمن اتفاق "خفض التصعيد" وتوقف القصف والدم، إلا ان هناك أبناء من هذا الشعب السوري في الرقة ودير الزور وريفي حماة وحمص يقتلون بشكل يومي وبدم بارد، لن يهنئ شعب واحد بأية حال مالم يعم الأمن ويتوقف القتل عن كامل المناطق السورية، ويتحرر الشعب السوري من الاستبداد المتمثل بـ الأسد وكل من أوقع ظلماً بهذا الشعب.
شكّل المؤتمر الأميركي العربي الإسلامي في الرياض، في 21 مايو/ أيار الجاري، تحولا كبيرا في السياسة الأميركية، بالمقارنة مع السياسة التي صاغتها إدارة الرئيس باراك أوباما السابقة تجاه الشرق الأوسط. وبالنسبة لبلدان المشرق العربي، ولبلدان الخليج بشكل خاص، يشكل هذا المؤتمر حدثا غير مسبوق، نجمت عنه اتفاقات وصفقات سيكون لتنفيذها تأثير كبير على مجرى الصراعات المركّبة في المنطقة، على الرغم من أن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ منذ الآن أو يعرف حدود هذه التأثيرات، أو أن يقدر مدى التزام الأطراف بها. ولعل المهم، أو الأهم، فيها ليست القيمة الكبيرة للصفقات التجارية أو الاقتصادية التي وقعت خلالها، على الرغم من المبالغ المالية اللافتة التي وسمتها، وإنما المعاني والدلالات، أو إذا شئنا، الصفقة السياسية وراءها. وهي تتلخص، في نظري، وكما لاحظها وركز على بعضها معظم محرّري الصحافة الدولية، في ثلاثة أمور.
أولاً، استعادة الولايات المتحدة انخراطها بشكل أكبر في قضايا ومصير الشرق الأوسط والمشرق والخليج خصوصاً، بعد أن حرصت الإدارة السابقة على الانسحاب العسكري، وحتى السياسي، من المنطقة عموماً.
وثانيا، قبول الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وبشكل واضح، إضافة بند جديد إلى بنك الأهداف التي حدّدتها الإدارة السابقة أيضاً، وتمسّكت بها خلال السنوات الماضية، ولم تقبل تجاوزها، مهما كان الحال، وهو وضع حد لطموح إيران للهيمنة على المشرق هدفاً جديداً وثابتاً من أهداف السياسة الأميركية، إلى جانب هدف مكافحة الإرهاب والتطرّف المتمثل بتنظيم داعش وجبهة النصرة، وفي الأهمية نفسها تقريبا. وتنبع أهمية إضافة هذا البند هنا من أنه يضع المليشيات الممولة والموجهة من طهران على قدم المساواة مع المليشيات والمنظمات المتطرّفة "السنية"، ويعيد التذكير بالصفة الإرهابية لتنظيم دولة حزب الله اللبناني.
والأمر الثالث، غير المرئي في نظري، لكنه الأهم، إدخال إسرائيل لأول مرة شريكاً في الصراع على إعادة بناء النظام الإقليمي، بعد أن بقيت تل أبيب مرفوضةً ومعزولة فيه، من خلال الجسر الذي مثله منذ الآن الحضور الأميركي العسكري المؤهل للتنامي، من جهة، وبذريعة مصلحة إسرائيل الأمنية في مواجهة الهدفين المعلنين لهذا الحضور، محاربة الإرهاب ووقف الزحف الإيراني على المنطقة.
ما من شك أيضا في أن الرياض كانت وراء هذه الأحداث السياسية الإقليمية المهمة التي تطمح منها المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج إلى تشكيل حلف أميركي عربي إسلامي، ذكر أنه سيكون على مثال حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يضمن منذ عقود أمن أوروبا الغربية واستقرارها. وأن الرياض هي التي ستموّل، ربما مع بعض دول الخليج، تكاليف تحقيق هذه الخطة، وتمويل الحلف السياسي العسكري الجديد.
ولا شك أيضا في أن إقامة هذا الحلف سوف تشكل رافعةً مهمةً للسياسات الخليجية في المنطقة، وأن دولاً عربية عديدة مهدّدة بالاجتياحين، الإيراني والروسي، سوف تستفيد منها بشكل أو آخر، كما سيكون لها انعكاسات مهمة على مجريات الصراع في سورية التي تحولت أو حولتها الأطراف المنخرطة فيها إلى الموقد الرئيسي لنيران الحرب الإقليمية والدولية.
(2)
لكن، بعد الإشارة إلى ذلك كله هناك عدة ملاحظات، تبدو لي مهمة للعرب، لمعرفة طبيعة المسار الذي يهم معظمهم خوضه، من أجل تأمين استقرار نظمهم وأمنهم الوطني والإقليمي، وكذلك معرفة حدود الرهانات التي يضعونها على مثل هذا التحالف، وقدرته على إيجاد حلول ناجعة وسريعة للنزاعات المدمرة في المنطقة، وتطمين الحكام والشعوب معا على مصائر البلدان ومستقبل الجماعات والأفراد، خصوصا أن تحالفات عديدة سابقة كانت قد أنشئت، منذ عقود، للهدف نفسه، بما فيها مع الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، لكنها، لم تحظ بالقدر نفسه من الجدّية والبذل والإشهار، مع أنها لم تقدم أيضا أي مساعدة تذكر في مواجهة الخليج الأزمة التي يعيشها منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.
أول ما يتبادر إلى الذهن، وهذه هي الملاحظة الأولى، يتعلق بسبر حقيقة الانخراط الأميركي الجديد في المنطقة وجديته وعمقه. يبدو الأمر كما ظهر عبر ما نقلته وسائل الإعلام، وما نعرفه عن رئيس الإدارة الأميركية الجديدة، وكأنه صفقة أكثر منه خيارا سياسيا، أو تعبيرا عن خطط جيوستراتيجية جديدة أو التزاما سياسيا/ قانونيا دوليا، تقدّم من خلاله واشنطن خدماتها في نجدة دول الخليج في مقابل عقود عسكرية واقتصادية، كما لو كانت واشنطن ربّ عمل أو شركة تجارية للخدمات الأمنية عالية الكلفة والمستوى. وهذا ما يضعف من الطابع الاستراتيجي للأمر، ويدرجه في خانة الحسابات التكتيكية الرامية إلى استغلال الوضع الصعب لدول المنطقة، من أجل تحقيق مكاسب إضافية، من دون أي اهتمام حقيقي بمصير المنطقة ككل، وبنتائج الصفقة الراهنة. وهو لا يعكس بالضرورة تغييرا عميقا لحسابات السياسة الأميركية، وجوهرها الانسحاب الجيوستراتيجي من المنطقة، ووضعها في درجة ثانوية أو ثانية في سلم اهتمامات واشنطن الاستراتيجية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بطبيعة الرد العربي، والخليجي خصوصاً، على التحدّي الكبير الذي يمثله ما ينبغي اعتباره، منذ الآن، زلزال الشرق الأوسط أو المشرق، والذي لا يقتصر على تغول النظام الإيراني، وانتهاكه الأعراف الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، وتصميمه على اختراق الدول وتحطيمها من أجل فتح ممر له يطوق فيه الخليج، ويمسك ورقة المشرق العربي بأكمله في مواجهة الضغوط الغربية، ولكنه يشمل أكثر من ذلك، وفي نظري أهم من ذلك وأخطر، انفجار أزمة النظم العربية السلطوية الفاشلة والفاقدة للشرعية، ومن ورائها أزمة الدولة الحديثة التي سميت وطنيةً، وبقيت في المنطقة دولة العصابة أو العشيرة أو الحزب أو النخبة الضيقة التي تحكمها وتتحكم بها، وفقدت مع الوقت، وتفاقم العجز والفشل والفساد المادي والأخلاقي، ذروة في انعدام الشرعية والصدقية وإثارة النقمة والسخط والخذلان، من غير الممكن لها أن تستمر معها.
ويبدو لي هنا أيضا أن الأخذ بخيار تأمين الحمايات الخارجية أو التحالفات الدولية والإقليمية، وتعزيز القوات العسكرية الدفاعية ومشاركة الأميركيين فيها، وهو ليس خيارا جديدا، ولكنه الخيار القديم المستمر منذ عقود، قد جاء تجنبا للتفكير في خيارات إبداعية، كان من الممكن أن يكون في صلبها وجوهرها العمل على وضع أسس وشروط بناء القوة الذاتية، وتقديم الاعتماد على الذات، والتعاون بين الدول العربية، بدل استمرار المراهنة على الاعتماد على الخارج، وأن يتركز قسم منها على إصلاح النظم السياسية، وتأهيل الشعوب لمزيد من المشاركة والشعور بالمسؤولية تجاه مصير الدولة والبلاد، ومن ضمنها أيضا خيار مراجعة سياسات التنمية الفاشلة التي وضعت شعوب المشرق في حالةٍ من البؤس والبطالة والعطالة المتفاقمة، تهدّد إن لم تكن قد فعلت بعد، بتحويل المنطقة إلى قنبلة موقوتة، بصرف النظر عن نوعية المستغلين والمستثمرين للوضع، وهم اليوم إيران وروسيا بالدرجة الأولى. لكن يمكن أن تدخل في السباق على اقتسام كعكة المشرق المنهار، سياسيا واقتصاديا، نخب وعصائب وقوى ودول أخرى من داخل الإقليم، أو من خارجه، وللهدف نفسه، حتى لو اختلفت الوسيلة.
بالتأكيد، يبقى المسعى العربي الراهن الذي تمثل في العمل على تجميع العالم العربي والإسلامي من حول المشرق، والخليج خصوصا، مهماً وإيجابياً من دون أدنى شك، لأنه يعبر عن الإحساس العميق بالخطر والأزمة المستفحلة، ويعمل على احتوائها وإيقاف مسار التدهور والانهيار، لكن مشكلته تكمن في تجنب الحلول والخيارات الجديدة، والعودة إلى الخيارات السابقة، مع مضاعفة الرهانات على حل الحمايات الخارجية، في وقتٍ يشكل فيه فشل هذه الخيارات السبب الرئيسي للأزمة الملتهبة الراهنة. يبدو لي كما لو أن العرب اعتقدوا أن ما لم تحققه الاستثمارات القديمة في تأسيس تعاون وتحالف منتج مع واشنطن يمكن أن تحققه استثماراتٌ أكبر ومجزية أكثر، وهذا ليس أمراً مؤكداً أبدا، ما دمنا لم نخرج من المنطق القديم نفسه.
بالتأكيد، سيضمن هذا الخيار فرصة أكبر لالتقاط الانفاس عند العرب والخليج، لكنه لن يشكّل أي حلٍّ بالنسبة للمستقبل. وأخشى بالعكس أن يحصل تسكين ألم المريض على حساب البحث عن دواءٍ شاف للمرض، ويعمل بالعكس على تأجيل العلاج الناجع. وبالتالي، على تفاقمه، فمما لا شك فيه أن إيران هي السبب الرئيسي في تقويض أسس استقرار المنطقة، وتهديد أمنها وتفكيك دولها، بسبب طمعها في أن تتحول إلى أمبرطورية، أي إمبريالية إقليمية مهيمنة تستفيد من عوائد الهيمنة وريعها، لتحسين موقفها وموقعها الدوليين، لكن إيران ليست السبب في إحداث المشكلة. وما كان في وسع طهران، ولا غيرها، أن تعبث بالأمن والاستقرار والتماسك الوطني لشعوب المنطقة العربية، لو لم تجد في هذه الشعوب والبلدان عوامل التفسخ والفساد والضعف وعجز النخب عن إدارة شؤون مجتمعاتها وحكمها وقيادتها بطريقة ناجعة. وإزاحة إيران من ساحة المسابقة على اقتسام جسد المشرق العربي لا يعني شفاء هذا الجسد، ولا ضمان أن يعود أمره إليه وحده، وإنما ربما حلول من هو أقوى منها محلها في تقويض المشرق العربي من الداخل، واستخدام نقاط ضعفه وانقساماته وفساد نظمه ونخبه من أجل ابتلاعه وتحويله إلى قطع غيار في مشاريع تتجاوزه، وتقوم على حساب مصالح شعوبه، وقدرته على إقامة أي شكل من أشكال الدولة أو المجتمع المتفاهم والمنظم والفعال.
هنا بيت القصيد.
بدأت عدة فصائل مطلع العام الجاري معارك متفرقة ضد تنظيم الدولة” ISIS” بدعم من التحالف الدولي بهدف تقطيع أوصال مناطق التنظيم في الشمال والشرق السوري، وفصلها عن المناطق الأخرى في الجنوب، والوصول إلى مدينة دير الزور انطلاقاً من بعض المناطق الحدودية السورية- الأردنية- العراقية.
وقد سيطرت هذه الفصائل سابقا عقب معركة “سرجنا الجياد لتطهير الحماد” التي أطلقتها في شهر آذار الماضي، بهدف فتح الطريق إلى منطقة القلمون الشرقي المحاصر من قِبل قوات النظام السوري، وتنظيم الدولة (Isis) معًا، على مساحات واسعة من البادية السورية الممتدة على ريفي دمشق والسويداء، ومنطقة القلمون الشرقي في ريف دمشق.
تعتبر البادية السورية جسرا يُمكّن من يسيطر عليه أن يبسط نفوذه على عقدة الطرق الرئيسة باتجاه خمس محافظات هي ريف دمشق ” القلمون الشرقي” ريف حمص الشرقي ،ريف حماة الشرقي ،ريف الرقة الجنوبي وريف دير الزور الجنوبي، بالإضافة إلى الحدود العراقية السورية، كما تؤثر بشكل كبير على تموضع التنظيم وتشل حركته وتقطع أوصاله بين العراق وسوريا، وتضرب عقدة تحركات النظام في الجغرافية السورية.
بدأت ملامح ظهور استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة إثر استهداف مطار الشعيرات صاروخيا، والذي اتخذته إيران قاعدة مهمة لها لإدارة عملياتها في سوريا والعراق أيضا، وفق ما ذكرت وكالة “آكي” الإيطالية، كما يحتوي على قسم مخصص للقوات الروسية لم يتعرض للقصف بالصواريخ الأميركية وفق ما صرحت به وزارة الدفاع الأميركية، وما تحركها العسكري المكثف في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة عبر المشاركة في هجوم قوات سوريا الديمقراطية في محافظة الرقة، والقيام بغارات وتنفيذ عمليات إنزال قوات ضد مواقع لـتنظيم الدولة (Isis) في محافظة دير الزور، ونشر قوات على الحدود السورية التركية في محافظة الحسكة، مع الاستعداد لإرسال تعزيزات عسكرية وفق ما قاله روبرت فورد السفير الأميركي السابق في سوريا إلا تأكيدا على السير قدما في هذه الاستراتيجية.
وأعطى الإعلان عن اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي تم إنجازه في أستانة وبدأ سريانه في السادس من شهر أيار 2017م بمبادرة روسية – تركية وإيرانية أريحية لقوات النظام (الفيلق الخامس) وأعوانها من الميليشيات الإيرانية (حزب الله، حركة النجباء، الفاطميون الأفغان، الزينبيون، الباكستانيون … الخ) حيث بدأت بالتوغل إلى عمق البادية السورية للمرة الأولى منذ بداية الثورة السورية، تزامنا مع تطورات ميدانية متسارعة في منطقة المثلث الاستراتيجي المشرف على طريق دمشق بغداد، وتسارع تحركات فصائل المعارضة السورية المدعومة من القوات الخاصة الأميركية والنرويجية من قاعدتهم في بلدة التنف الحدودية لبسط السيطرة على البادية والتوجه إلى محافظة دير الزور ، ويهدف النظام وحلفاؤه لتحقيق ما يلي:
1 – قطع الطريق على أي توجه أميركي تنفذه فصائل المعارضة السورية (أحرار الشرقية، جيش أسود الشرقية، جيش مغاوير الثورة. لواء شهداء القريتين) لبسط السيطرة على البادية وانطلاقها نحو محافظة دير الزور.
2 – محاولة قوات النظام الوصول إلى معبر التنف الحدودي مع العراق لفتح “طريق دمشق – بغداد”، ولاحقاً خط “طهران – دمشق”. حيث تستخدم طهران طريق يمر من إيران باتجاه الأراضي العراقية ثم يدخل الأراضي السورية باتجاه حلب إلى اللاذقية، إلا أن زيادة الوجود الأمريكي شمال سورية دفعها على تعديل المسار القديم ونقل الممر 220 كم جنوبا بهدف احتلال مدينة الميادين في دير الزور ثم وصلها بمدينة البعاج العراقية، وذلك ما يفسر تحرّك ميليشيا الحشد الشعبي نحو الحدود السورية العراقية، للسيطرة عليها من الجهة الأخرى، واقترابه من مدينة البعاج العراقية، وهو _ أي الحشد _ يخوض المعركة بالتعاون مع الأميركيين في العراق ضد تنظيم الدولة، بينما يتحرّك حالياً لحماية النفوذ الإيراني على الحدود السورية، ومن ثم وصل منطقة البعاج العراقية بمدينة دير الزور ومنها إلى دمشق ومنها إلى الساحل بوابة المتوسط حيث يضمن هذا الممر طريق إمداد لإيران بديلا عن مياه الخليج التي تخضع للمراقبة المشددة[1].
3 – باتت إيران وميليشياتها وفي مقدمتها حزب الله اللبناني تعتمد على مخططات استراتيجية تمكنها من تقديم نفسها وأذرعها العسكرية على أنها شريك قوي وخيار صحيح في مواجهة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة (Isis) وتقف إلى جانب الدول العظمى في مواجهته في سوريا من خلال التماهي مع التركيز السياسي والإعلامي الدولي على تلك المنطقة المهمة وضرورة تحريرها من التنظيم (Isis) من جانب، وتكرار التصريحات الصادرة في الآونة الأخيرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأركان إدارته، من وزير الخارجية تيلرسون ووزير الدفاع ماتيس ومستشار الأمن القومي ما كماستر وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي، التي تحدثت عن تركيز الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على ثلاث محاور، أولها، محاربة جماعات الإرهاب، وخاصة تنظيم الدولة في سورية والعراق.
من جانب آخر أعلن الطيران الأمريكي في 18 أيار 2017م عن قصفه لقوات حليفة للجيش السوري لدى تقدمها نحو التنف، نقطة الحدود الثلاثية السورية-الأردنية-العراقية – في منطقة «الشحمة» شمال معبر التنف في خطوة تُظهر أن التحرك العسكري الأميركي في تلك المناطق، والمناطق المرتبطة بمعركة الرقة شمالا، يجري وفق تفاهمات عسكرية بين واشنطن وموسكو، وأن إدانة روسيا لغارات التحالف قرب التنف لا يعدو كونه تمرينا دبلوماسيا روتينيا لا يخرق هذه التفاهمات، خاصة أن مصادر أمريكية صرحت أن محاولات وقف القافلة شملت اتصالا مع الروس تلاه استعراض للقوة فوق تجمع الآليات، قبل توجيه النيران باتجاهها. ولم تلجأ إلى ضرب القافلة “إلا بعد أن باءت محاولات روسيا لثنيها عن التحرك جنوبا باتجاه التنف بالفشل”، وهو على غرار ما جرى أثناء الاستهداف الصاروخي لقاعدة الشعيرات الجوية في السابع من نيسان 2017م، ما يدل على أن نقاط الخلاف الاستراتيجية بين روسيا وإيران عادت تطفو على السطح من جديد، فروسيا ترى إيران على أنها حليفٌ سياسيٌ وأمنيٌ مضاد لنفوذ القطب الغربي، وتقيم معها تحالفًا عسكريًا وسياسيًا في سوريا، وتسعيان معًا لتحويله إلى “عمودٍ” ترتكزان عليه في مواجهتهما للغرب، إلا أن الخلاف الجيو ـ اقتصادي يمثل نقطة اشتباك رئيسية تحتاج لحل وسط بينهما، ويتمثل الخلاف باتفاق عقدته إيران في تموز 2010م مع كل من العراق وسوريا لتنفيذ مشروع خط الغاز الإسلامي الذي يمثل أحد أكبر مشاريعها الاستراتيجية لتصدير غازها الطبيعي إلى العراق ومنها إلى سوريا ولبنان و أوروبا مستقبلا، وتمت الموافقة على المشروع في آذار 2013م رغم الحرب التي تعصف بسوريا، ومن هنا يمكن استيعاب الإصرار الإيراني بمشاركة عراقية مباشرة، على وأد الثورة السورية والإبقاء على النظام السوري قائمًا، عبر التمعن في الميزة الجيو سياسية والاقتصادية التي تمثلها الجغرافيا السورية بالنسبة لهما، إلا أن احتلال روسيا للقرم وفرض الاتحاد الأوربي عقوبات اقتصادية عليها وتوصل إيران إلى اتفاق نهائي مع النظام السوري بشأن مد الخط الإسلامي” الفارسي” هو ما دفعها للتدخل عسكريا في سوريا ومحاولة تقليص دور إيران وميليشياتها، وبناء على ذلك يبدو أن الطرفين سيواصلان تنافسهما السياسي والميداني البارز على الجغرافيا السورية.
رسا السجال المشرقي، أخيراً، على معادلة سلبية، إثر إضرابٍ عن الطعام خاضه السجناء الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. وقوام هذه المعادلة بسيط جداً: الداعمون لمحور "الممانعة" متحمِّسون لهذا الإضراب، ينظمون الفعاليات المختلفة إحياءً له، وينشِّطون ماكينتهم الدعائية... فيما داعمو الثورة السورية لا يعارضون الإضراب بالضرورة، ولكنهم يلحّون على التذكير بأن هناك سجناء سوريين في أقبية بشار الأسد، ظروفهم أقلّ شفافية من السجناء الفلسطينيين، وهم يتعرّضون لدرجاتٍ من الوحشية تتجاوز وحشية الإسرائيلي، كان آخر وجوهها المحرقة التي اكتشفت، أخيراً، في سجن صيدنايا المرعب.
والخلاصة أن الذين يقفون مع بشار الأسد، من حزب الله وغيره من المليشيات، يرفعون قضية السجناء الفلسطينيين؛ فيما الذين وقفوا ضد بشار، وضد هذه المليشيات، يضعون الأولوية للسجناء السوريين. وكأن المشهد ينطق بأن: الذين يرفعون الآن قضية الفلسطينيين يهمّشون قضية السوريين، والذين يحتجون عليهم، وعلى كل محورهم، يهمّشون قضية الفلسطينيين.
مع أن نضال الفلسطينيين ونضال السوريين يلتقيان حول أهداف متشابهة: الأولون، أي الفلسطينيون، يواجهون من احتل أرضهم بطريقة رسمية، واضحة، مدعومة بالحرب والقرارات الدولية. فيما الآخرون، أي السوريون، يتعرّضون لأوسع عملية سرقة لأراضيهم؛ سرقة غير معترف بها، غير رسمية، غير مصاغة بقوانين أقرّتها المجالس. ويكفي للدلالة عليها، رقم الأحد عشر مليون مهجَّر سوري خارج سورية وداخلها، فضلاً عن عمليات "المصالحة" القسرية المفْضية إلى فرزٍ ديموغرافي مذهبي، بوسع الجميع تخيّل مآلاته. والفرق بين الاحتلال البواح والسرقة المستورة لا يلغي أمراً جوهرياً: أن للاثنين، أي الفلسطيني والسوري، قضية واحدة، هي قضية الحرية. أما المفاضلة بين القضيتين، والتكلم عن أولوية واحدةٍ على الأخرى، أو الخيار بين الشرّين، فهما يلغيان قضية الحرية نفسها. ربما بطريقةٍ لا واعية.
فالمشرق العربي كله لديه قضايا حرية يطرحها على نفسه. ولكنه متنبِّه الآن إلى قضيتين، أكثر اشتعالا من غيرهما من القضايا: الفلسطينية والسورية. والذي يشوِّش على هاتين القضيتين هو المحور الممانع الآن، الذي صادر القضية الفلسطينية، وأخذ منذ زمن يستنزفها بمعارك لم تفضِ، ولا واحدة منها، إلى انتزاع مطلب فلسطيني واحد. إعلامياً، يبدو هذا المحور "فلسطينياً" أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. وعلى الأرض، لا يخدم هذا التلاعب سوى توسيع المجال الحيوي الإيراني. لذلك، فهم، بتضامنهم مع الفلسطينيين، يظهرون في حالة واقعية عبثية جداً: يقاتلون على الأرض ضد حرية السوريين، ولكنهم "يتعاطفون" مع الفلسطينيين في سعيهم إلى الحرية. فيما الآخرون، أي الذين ضربتهم اللوعة على ضياع بلادهم، على تشرّدهم، فهم مثل الفلسطينيين، لا يجدون قضيةً تستحق العطاء غير قضيتهم. وهم بجانب من جوانب تفكيرهم ينطقون بحق، ولكنه حقٌّ لن يكتمل إلا إذا وقفوا مع الفلسطينيين؛ الاثنان يحتاجان إلى بعضهما بعضاً.
والمعادلات السلبية لا تخلق حالة تغييرية: لا تغيير في فلسطين، ولا في سورية. قضايا العالم كلها متشابكة متداخلة، لكن قضايا شعوب المشرق منصهرة بالنار والتعقيدات؛ لا تنفصل الواحدة عن الأخرى إلا بالفروقات الطائفية - المذهبية، القادرة وحدها على حجب واقعها، على النظر إليه بعيون أيديولوجية صرفة. القضيتان السورية والفلسطينية حليفتان موضوعيتان. الاثنتان تبتغيان الحرية، لا العبودية، والعيش الكريم لأبنائهما على أرضهم.
وإذ لم ترسُ القضية السورية على برّ، حتى هذه اللحظة، إلا أن المحتلين لسورية أصبحوا الآن واضحين: روس، أميركيون، أتراك، إيرانيون بحرسهم ومليشياتهم، يراقبهم الإسرائيليون من عُلو. والمعارضة السورية تحتاج إلى توسيع أفق نضالها المقبل، لكي لا تبقى وحيدة، أسيرة مأساتها الرهيبة. كذلك تحتاج القضية الفلسطينية إلى التحرّر من قبضة المشتغلين عليها، المتصيّدين لها ولخطابها، الواقفين على رأسها... فتنظر إلى القضية السورية، بصفتها شقيقة نضالها. وهذا أمرٌ ليس هيّناً. فإيران بَنَتْ صروحاً إعلامية وتنظيمية وعسكرية، لتمرير كذبتها القائلة بتحرير فلسطين، ومعها النظام السوري. ولكي تخرج القضيتان من الأسر، على أشكاله، عليهما التذكّر بأن النظام الأسدي لم يكن له ليدوم لولا إنشاء إسرائيل. ولولا إسرائيل أيضاً، ما كان للتمدّد الإيراني أن يحصل، وتدخل قواته المسلحة في حرب الأسد ضد شعبه، باسم فلسطين، أيضاً. نظام الأسد ازدهر بفضل إسرائيل، بفضل احتلالها فلسطين والجولان السورية. والنتيجة أن لإيران والأسد مصلحة ببقاء إسرائيل، لكي يستمرا بالضحك علينا.
ضد معادلة "إما سجناء فلسطينيون أو سجناء سوريون"، ثمّة شعار يفرض نفسه: مع السجناء الفلسطينيين والسوريين ضد أعدائهم الكُثُر المتنافِسين. والمروحة الواسعة من الأعداء تقتضي توسيع بيكار التفكير، وقبل ذلك الخروج من متلازمات: إما سورية أو فلسطين، إما سورية أو البحرين، إما صلاح الدين الأيوبي قائد عظيم أو أنه مجرم حقير.
الافتراض القائل أن العرب مستعدون للتنازل في خصوص التسوية مع إسرائيل لأنهم منشغلون بمواجهة التدخلات الإيرانية في شؤونهم، ثبت خطأه خلال قمم الرياض الأخيرة التي شهدت تأكيد التمسك العربي بمبادرتها للعام 2002، أي صيغة الأرض في مقابل السلام وحلّ الدولتين.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رأى خلال زيارته إسرائيل «فرصة نادرة لتحقيق الأمن والاستقرار وإحلال السلام، عبر هزيمة الإرهاب»، ومن خلال «إدراك العرب والإسرائيليين أن لديهم قضية مشتركة في التهديد الذي تمثله إيران». ومع أنه وعد بتقديم «مبادرة سلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل في غضون أسابيع، إلا أن ما تسرب عن مقاربته، على ندرته، يشير الى أنها حلّ «بالتجزئة» يمهد تدريجاً لإبرام تسوية «بالجملة».
من الواضح أن مفهوم ترامب للتسوية يقوم على «معالجة الأخطار الأكثر تهديداً» بما يتيح الوصول الى تلك «الأقل خطراً». وهو هنا يقدم تقييماً مختلفاً لأزمات الشرق الأوسط عمن سبقوه الى البيت الأبيض، بدءاً من النزاع العربي – الإسرائيلي، مروراً بالتهديد الإرهابي والتطرف، ووصولاً الى التدخلات الخارجية، وخصوصاً الإيرانية، في شؤون دول المنطقة العربية، ويعيد كذلك ترتيب الأولويات للوصول الى ما يصفه بـ «الصفقة الكبرى».
وهو يختلف في ذلك تماماً عن باراك أوباما الذي بدأ عهده بتأكيده للعالم الإسلامي أن قضية فلسطين هي لب مشكلة الشرق الأوسط وأن إيجاد حل لها أو وضعها على سكة الحل سيسهل التعامل مع الملفات الأخرى في المنطقة وبينها إيران والتطرف، قبل أن يعلن يأسه من القدرة على إيجاد حل بين تل أبيب ورام الله، ويتوقف عن أي جهد في هذا الخصوص منذ العام 2014.
لكن أوباما حاول في المقابل أن يعوض فشله في الملف الفلسطيني بـ «نجاح» في الملف الإيراني، ولهذا قدم كل التنازلات الممكنة لطهران من أجل إبرام اتفاق معها حول ملفها النووي، ما شكل دفعاً قوياً لسياسة النظام الإيراني القائمة على تحصيل ما أمكن من أميركا والغرب، والتدخل ما أمكن في الجوار الاقليمي. و «اضطُر» أوباما الى مسايرة هذه المعادلة الإيرانية لأن هاجسه كان أيضاً تحقيق ما يمكن تحقيقه قبل انتهاء ولايته الثانية، ولو على حساب المصالح الأميركية البعيدة المدى وحلفاء الولايات المتحدة.
وعلى رغم أن وصول ترامب الى الرئاسة عنى البدء في عكس هذا التوجه، إلا أن الثابت حتى الآن، بالنسبة الى العالم العربي، هو وجود مسارين منفصلين: مواجهة إيران والسعي الى تحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لأن الخلط بين الأمرين أو الربط بينهما قد يخلق أوهاماً غير مبررة، ويفتح الباب أمام مناورات لا تسهل تحقيق تقدم في أي منهما.
ويجب أن لا ننسى أن إسرائيل استغلت الى أقصى الحدود الخطاب الدعائي الإيراني الذي يتحدث عن «إزالة الكيان الصهيوني»، والحرب التي شنها «حزب الله» في 2006 لأغراض لا علاقة لها بفلسطين، كي تتنصل من أي تسوية مع الفلسطينيين، وتتهرب من ملاقاة المبادرة العربية.
ولا بد من التذكير أيضاً بأن عداء إيران المفترض لإسرائيل يتخذ من حقوق الفلسطينيين حجة لمواصلة تغلغلها في المنطقة، وأن إسرائيل أعطت بعدوانيتها ورفضها الاعتراف بالحقوق الفلسطينية الذرائع لإيران لاستمرار التخريب على السياسة الجماعية العربية. ولذا من الضروري الفصل بين الملفين والمسارين، لأن تداخلهما يصبّ في مصلحة إيران وإسرائيل كلتيهما.
حملت زيارة الرئيس دونالد ترامب الأخيرة للمملكة العربية السعودية وإسرائيل والمناطق الفلسطينية معها تصريحات متعددة حول دور إيران في رعاية الميليشيات في الشرق الأوسط، ما دفع طهران الى الرد من خلال الإشارة الى تدخلات في دول أخرى في المنطقة ولكن من دون دحض ما قاله ترامب حول رعاية إيران للميليشيات. وانتشرت هذه الرعاية على مدى السنوات الست الماضية بعد العراق ولبنان إلى اليمن وسورية، من بين أماكن أخرى.
يبقى أن نرى ما إذا كانت الولايات المتحدة ستبني على كلمات ترامب القوية ضد إيران فعلاً عملياً ضد ميليشياتها في سورية، ولكن إيران بدأت بالفعل في إعداد نفسها لمواجهة أي جهود من قبل الغرب لاحتوائها في هذا البلد. والطريقة التي تستخدمها إيران في سورية ليست جديدة. فهي تتطابق في شكل عام مع ما نفذته إيران في لبنان والعراق. إن استراتيجية إيران للسيطرة في كل من تلك الأماكن تدور حول زراعة النفوذ من الأسفل إلى الأعلى. وهذا ينطوي على احتمال استمرار عدم الاستقرار على المدى الطويل في سورية حتى لو تم التوصل إلى تسوية للصراع، وبالتالي يجب أن تشكل معالجة هذه الطريقة للسيطرة جزءاً من أي استراتيجية من قبل الولايات المتحدة تهدف إلى احتواء إيران.
كما هو الحال، فإن تركيز الولايات المتحدة في سورية لا يزال عسكرياً ويركز على المعركة ضد تنظيم «داعش». وبعد فترة من النشاط العسكري المتراجع في الجنوب، تجري الولايات المتحدة محادثات مع الأردن حول احتمال استخدام المناطق الجنوبية من سورية، حيث لا يزال وجود «داعش» محدوداً بالمقارنة مع مناطق أخرى بخاصة في شمال شرقي البلاد، كمنطلق لإطلاق حملة عسكرية تتحرك باتجاه الشمال لتحرير الرقة ودير الزور من سيطرة «داعش». وشهد جنوب سورية في الأسابيع الأخيرة نجاحاً لقوات «الجيش السوري الحر» المدعومة من الولايات المتحدة والأردن في وقف تقدم «داعش» بعد هجوم هذا التنظيم على قاعدة التنف حيث تقوم الولايات المتحدة بتدريب جماعات «الجيش الحر» استعداداً لمعركة دير الزور.
إن إعادة تفعيل عمليات «الجيش السوري الحر» في الجنوب هي أحد الأسباب الرئيسية للقلق بالنسبة إلى إيران، حيث أن التنف نقطة عبور حدودية سورية إلى العراق، حيث ترعى إيران ميليشيات من بينها قوات «الحشد الشعبي» التي تقاتل «داعش» حالياً في الموصل. وقد تقدمت الميليشيات المدعومة من إيران، بالتعاون مع الجيش السوري، نحو التنف في منتصف هذا الشهر، ما تسبب في ضرب طائرات أميركية من التحالف الدولي ضد «داعش» قافلة للدبابات الموالية للنظام. ومن المرجح أن يكون الدافع وراء تقدم القوات المؤيدة للنظام هو ربط المناطق التي يسيطر عليها بشار الأسد وحلفاؤه في سورية مع المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الموالية لإيران في العراق.
جاء هذا التقدم العسكري في وقت أعلن فيه بعض قادة «الحشد الشعبي» استعدادهم لدخول سورية من العراق بحجة تحرير الرقة من «داعش» بعد تحرير الموصل من التنظيم. ولكن ربط المناطق السورية والعراقية تحت مظلة إيرانية يعني إنشاء قوس من الوجود العسكري لإيران من شأنه أن يسمح لقواتها أن تغلق على الجماعات المسلحة المعارضة السورية من الشمال الشرقي وكذلك من الغرب، والذي هو في معظمه تحت سيطرة النظام. وهذا من شأنه أن يزيد من دفع المعارضين السوريين نحو التمركز في محافظة إدلب على الحدود التركية.
ولم تردع الضربة الأميركية القوات المؤيدة للنظام والتي تتألف من السوريين والإيرانيين ومقاتلي «حزب الله» الذين واصلوا تحريك صواريخ أرض- جو نحو الخطوط الأمامية مع «الجيش السوري الحر» في الشرق. وجاءت هذه الخطوة بعد وقت قصير من موافقة روسيا وإيران وكذلك تركيا ضمن محادثات آستانة على السماح لإيران بإنشاء مراكز مراقبة في ما يسمى «مناطق التصعيد» في سورية، بما في ذلك في إدلب والجنوب، تحت ذريعة تخليص هذه المناطق من «داعش» وغيره من الجماعات المتطرفة. وبعد عمليات نقل السكان التي طردت السكان السنّة من بلداتهم الأصلية بالقرب من الحدود اللبنانية إلى إدلب، ليحل محلهم السكان الشيعة الذين غادروا بلداتهم في إدلب للانتقال إلى المنطقة الحدودية، قام «حزب الله» أيضاً بسحب 3 آلاف مقاتل من المناطق السورية المتاخمة للبنان من أجل إعادة نشرهم في شرق سورية.
كل هذه التحركات التكتيكية التي تقوم بها إيران والجماعات التي ترعاها تقلق الولايات المتحدة وحلفاءها في شأن جدوى إنشاء أي نوع من المناطق الآمنة في جنوب سورية، حيث من الممكن أن إيران والنظام السوري لن يسمحا بتكوين هذه المناطق وتنفيذها، اذ يريان فيها تهديداً لمصالحهما الحيوية.
لكن هذه الديناميكية العسكرية ليست سوى جزء واحد من القصة. فالدينامية المهمة الأخرى تخص أعمال إيران داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام. في وقت مبكر من الصراع السوري، استدعت إيران «حزب الله» لدعم نظام الأسد الذي كان بدأ يفقد قدرته في مواجهة ضغط «الجيش السوري الحر». وفي وقت لاحق، لم ترعَ إيران إنشاء ميليشيات موالية للنظام فحسب، لا سيما قوات الدفاع الوطني، لمواصلة القتال جنباً إلى جنب مع النظام، ولكنها استوردت أيضاً مرتزقة من أفغانستان ودول أخرى للمشاركة في الصراع، إضافة إلى إرسال قوات خاصة إلى سورية.
في حين أن معظم المقاتلين الأجانب قد يجبرون في نهاية المطاف على مغادرة سورية في حالة تسوية النزاع، فإن إيران لا تستطيع تحمل فقدان النفوذ في سورية لأن ذلك يعني قطع خط الإمداد لـ «حزب الله». فإيران، التي تزعم أن ميليشياتها تقوم بمكافحة «داعش» وجماعات التطرف، تهدف إلى أن يواصل «حزب الله» القيام بدور في سورية بصفة استشارية على المدى الطويل. كما أن الميليشيات التي تمولها إيران في سورية تستعد أيضاً للوجود على المدى الطويل. وقد أنشأ العديد منها منظمات غير حكومية كوسيلة لجذب السكان المقيمين في مناطق النظام التي يعملون فيها وللحصول على التمويل من خلال الحكومة السورية، بما في ذلك التمويل الأجنبي المخصص للمساعدات الإنسانية.
وتردد هذه الميليشيات والمنظمات المرتبطة بها النموذج الذي استخدمه «حزب الله» في لبنان الذي شهد تحول الجماعة من مجموعة عسكرية إلى حزب سياسي مع أجنحة اجتماعية واقتصادية وعسكرية. كما بدأت إيران شراء الأراضي في سورية وإجراء صفقات تجارية واستثمارية مع الدولة السورية بهدف إقامة وجود اقتصادي طويل الأجل في البلاد. ولكن كما هو الحال في لبنان، حيث انه في مصلحة «حزب الله» أن تبقى مؤسسات الدولة ضعيفة من أجل تبرير استمرار وجود مؤسسات الحزب الموازية، من المرجح أن تصبح الجماعات المدعومة من إيران في سورية سبباً لهشاشة الدولة على المدى البعيد.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في احتواء إيران في سورية، فإن التركيز على التكتيكات العسكرية الإيرانية وحدها في المعركة ضد «داعش» ليس كافياً. ما يثير قلقاً أوسع هو محاولة إيران التغلغل في سورية من أسفل إلى أعلى، الأمر الذي من شأنه أن يمكّن إيران من الحفاظ على النفوذ بغض النظر عن الشكل الذي قد تتخذه تسوية الصراع. وهذا يتطلب استراتيجية تتجاوز المسائل العسكرية وتراعي التغيرات المؤسسية والاجتماعية المهمة التي ترعاها إيران في مناطق النظام وليس التغيرات في مناطق المعارضة فقط.
إدلب لم تعد المدينة المنسية بعد اليوم، كما أراد لها الأسد وعصابته، بل حاضرة وبقوة في أكثر الاتفاقات المتعلقة بالثورة السورية، وما تتمخض عنها من قرارات.
عقود من التهميش والتجاهل لم يكسرها الأسد، بل بقيت شامخة بزيتونها و برجالها وثوارها ومنشقيها الذين خلدتهم الثورة السورية، فمن ينسى المقدم أحمد إبراهيم العلي قائد ثورة الجبل الوسطاني؟ إلى أن استشهد في ريف اللاذقية، ومن ينسى المقدم حسين الهرموش؟ قائد ومؤسس الجيش الحر؛ الذي وقع في فخ المؤامرة ليسلّم إلى النظام.
بل من ينسى قادة الأحرار؟ الذين قضوا في رام حمدان بتفجير أدى لاستشهادهم، ومن ينسى وكل بلدة أو حي أو بيت قد أتاه ما يشغله؟ فإما شهيد أو معتقل أو مصاب، فجلست الأمهات خلف الأبواب تنحني، وتتكئ على سبحتها الطويلة؛ لتعبر الأيام منتظرة عودة الغائب السجين أو اللحاق بالشهيد الراحل.
وتختنق الزوجات بغصة أمام مشهد الوداع الأخير، فعين على ذكرى الحبيب، وعين تائهة في تيه المستقبل، وتدور أعين الأيتام باحثة عن ظلّ الأبّ الذي تستظل به من حر الحرب الطويلة.
آلاف الشهداء طويت أسماؤهم؛ لأنها أكبر من أن تسعها جدران صفحاتنا؛ فكيف ستدون بطولاتهم؟ ومن سيقدر الثمن الذي دفعوه من دمائهم؟ لنجلس في مأمن مع عائلاتنا، ونقلّب صورهم على صفحاتنا، نخاف أن ننساهم؛ فيداهمونا في أحلامنا ويقضوا عتبات مضاجعنا.
توزع من تبقى من شبابها على الجبهات، وانقسموا بين مرابط في ريف حلب أو اللاذقية أو حماة، وبين من انصرف عن الدنيا وزينتها، وزهدوا بمتطلبات الشباب الكثيرة، وذهبوا ليسدّوا ثغرة قد يتسلل العدو من خلالها.
دفعت البلدات ثمنا غاليا من الدماء والأرواح؛ لتبعد الأسد وميليشياته عن ترابها، ويحاولون مع أبناء الثورة من باقي المحافظات الاتساع في هذه البقعة، بكل الاتجاهات كلما سنحت لهم الفرصة المواتية.
وفي المقابل ومع اتفاق ” المناطق الهادئة” لا يترك النظام فرصة تفوته إلا ليتقدم أكثر في أراضيها، وعندما يعجز يقوم بقصف البلدات المجاورة لخطوط التماس بالمدفعية والهاون، ليهدم بيوتها، ويحرق محاصيلها، ويهجّر أهلها.
يبقى المقاتلون في حالة تأهب واستنفار، رغم كل الهدن والاتفاقيات، واضعين أصابعهم على الزناد، لا يفكرون بالعودة حتى إسقاط هذا النظام المجرم مهما كان الثمن.
أضافت غارة التوماهوك على قاعدة الشعيرات للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب قبولاً في الشارع، فقد أنذر، تحت عنوان "عدم التغاضي"، روسيا وحليفها السوري من أي هجومٍ قد يحصل بالسلاح الكيماوي، وردَّ على ما تم تناقله إعلامياً عن محادثاتٍ وصداقةٍ له مع بوتين والنظام الروسي، الإنذار الثاني والأهم وجّهه ترامب لإيران، وأكّدته الغارة الأميركية التي حصلت، أخيرا، في الجنوب الشرقي السوري على قافلةٍ عسكريةٍ تحوي مكوناً إيرانياً وجد تحت شعار القوى المتحالفة مع الجيش السوري. وكانت إسرائيل قد شنت عدة هجماتٍ على ضواحي دمشق ومناطق القلمون ضد أهدافٍ قالت إنها مستودعاتٌ تخص حزب الله، أو منقولات عسكرية له، متحركة عبر الحدود. تظهر هذه الهجمات حجم التورط الإيراني في سورية، ومدى تمدّده العسكري على الجغرافيا السورية، وقد وصل إلى قلب حلب شمالاً، وإلى الحدود الجنوبية الشرقية التي قصفتها الطائرات الأميركية.
أطلق ترامب، خلال حملته الانتخابية، صيحاتٍ كثيرة ضد السعودية وإيران وكوريا الشمالية وحتى المكسيك، ولكنه بعد أن تبوأ الرئاسة، بدا رجلاً عملياً أكثر، وتعامل مع الموقف بواقعية، وأنزل عن كاهله بضع حمولاتٍ، مبقياً على أكثرها تأثيراً وخطراً، وهي إيران. لم يلغ ترامب الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما وحلفاؤه في أوروبا مع إيران، فهو أمرٌ يتعلق بآخرين، يبدو أنهم متمسّكون به، ولكنه أحاط نفسه بمستشارين لا يكنّون لإيران أي ود، وبعضهم مستعد للذهاب أبعد من مواجهتها إعلامياً، واختار أن يذهب، في أولى جولاته العالمية، لزيارة المملكة العربية السعودية التي تكن لها إيران عداوةً خاصة، وهذه الزيارة خُصصت لتوقيع اتفاقيات عسكرية ضخمة بمئات المليارات، وتمتد صلاحيتُها إلى أكثر من عشر سنوات، وهي مدة تتجاوز فترة ترامب الرئاسية الحالية والمقبلة، فيما لو أعيد انتخابُه، ما يعني أن الحلف القوي بين السعودية والولايات المتحدة مرشّح ليعمر فترة طويلة مقبلة.
حاولت إيران أن تفتعل تصعيداً مقابلاً في مواجهة الموقف الحاد الذي أظهره ترامب، فأخرج خامنئي من جرابه السحري أحمدي نجاد، وهو أحد عناوين إيران المتطرّفة، ثم طواه لصالح وجه جديد هو المرشح إبراهيم رئيسي، ونشر على نطاق واسع بأنه مرشّح المرشد الأعلى، والتطرّف إحدى صفاته الرئيسية، ولكنْ بشكل واقعيٍّ يبدو أن إيران تسير في طريق المهادنة وكسب الوقت، فأكثرت من الحديث عن الاتفاق النووي وتمسّكها به، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بإظهار فوز كبير للرئيس "الإصلاحي"، حسن روحاني، الذي يعتبر في إيران عرّاب هذا الاتفاق. هذا لا يعني أن إيران ستخفّف من طموحها، أو تقلص من محاولة وجودها، فقد كانت قافلتها العسكرية تبعد بأقل من ثلاثين كيلومتراً عن الأردن عندما تعرّضت للقصف، وقد لا يكون هذا الوجه "الإصلاحي" الذي اختارت أن تُظهره للسنوات الأربع المقبلة كافياً لتغيير خطط ترامب، وهو يستعد ليلتقي بزعماء محليين يحيطون بإيران، وسيحاضر فيهم عن الإسلام، بغياب إيران قبل أن يتوجه إلى إسرائيل.
الوجود الإيراني في سورية واسع وكثيف، وهو من عوامل استمرار الحرب، والضربة الإنذارية قرب الحدود الأردنية هي أحد الخطوط التي ترسمها الولايات المتحدة، ومن الممنوع تجاوزها، ولكن ذلك غير كافٍ لإلغاء الوجود الإيراني أو تخفيفه في سورية، وتأثيره المر على مسار الحرب. قد تمنع نشاطات ترامب الحالية، مع شركائه، إيران من التحرّك لكسب المزيد، ولكن من غير المعروف كيف ستؤثر على ما تستولي عليه إيران أساساً، خصوصا بوجود الحليف الروسي.
تعيد زيارة ترامب السعودية إلى الميدان لاعباً رئيسياً ومؤثراً، وبمساندة أميركية وإقليمية، ولكن الحسم بوصفه كلمة سحرية وخياراً نهائياً قد لا يكون حاضراً، بحسب مفردات الاتفاق الموقع بين الطرفين، خصوصا أن فترته طويلة نسبياً، ومن غير المعروف أيضاً ما إذا كانت طبيعة السلاح أو العلاقة الجديدة هي للردع فقط، أم لكسب المعارك أيضاً.
نحن اليوم أمام نهج جديد؛ حزم أكيد، لمواجهة كل جماعات الفوضى والتخريب والعسكرة المتأسلمة، من سنة وشيعة.
قمة الرياض الأميركية - الإسلامية، قطعت الشك باليقين، وتمّ العزم على مواجهة السياسات الخمينية الشريرة، وطبعا «القاعدة» و«داعش» وكل حركات الإرهاب المتأسلم، بالنسخة السنيّة.
من ثمرات الزيارة الأميركية التاريخية للرياض، بمباركة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وخادم الحرمين الملك سلمان، إصدار قائمة أمنية موحدة للممنوعين. ومن هؤلاء هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي لـ«حزب الله» الخميني في لبنان.
طبعاً غضب الأخير، وهو المتهم بتسهيل وتخطيط أعمال الشر والفتن في سوريا وغير سوريا، وقال: «الوعد في جبهات القتال وليس في المؤتمرات»!
وزير الخارجية والمهجرين اللبناني، جبران باسيل، وهو رئيس التيار العوني وصهر الرئيس، قال بعد أن عاد من الرياض، وصدور البيان الختامي الذي تضمن، فيما تضمن، إدانة «حزب الله» وغيره من المنظمات المحظورة، قال إن الوفد لم يكن على علم بمحتوى البيان، وإن لبنان مستمر بالنأي عن الصراع، حسبما يتوهم طبعا! محاولة لإرضاء هذا الحزب، لكن أنصار الثنائية الشيعية؛ «أمل» و«حزب الله»، لم يرق لهم الكلام، فأين جبران من الكلمات الكثيرة على منصة القمة المضادة للحزب؟
تصنيف «حزب الله»؛ سعوديا وأميركيا، وخليجيا وبعض الدول العربية والأوروبية، لم ينته عند هذا الحال، فهناك مشروع عقوبات مالية ضد الحزب، وربما معاقبة النظام المصرفي المالي بلبنان، ما لم يتم عزل الحزب وأمواله.
النقطة الأخيرة هذه موضع جدل لدى بعض الساسة والمصرفيين اللبنانيين، بدعوى أن «المواطن البريء» لا علاقة له بالحزب.
وهذا صحيح، فنحن نعلم أن هناك كثيرا من اللبنانيين ضد الحزب ومغامراته، ورهنه للبلد، لكن الحزب عضو بالحكومة والبرلمان، والدولة اللبنانية عضو في النظام الدولي بما فيه من اتفاقيات قانونية عالمية. هناك وفود لبنانية بأميركا، لترويج المقولة التالية: «حزب الله» يجب ألا يكون أولوية للمواجهة، والأهم الانتهاء من مواجهة «داعش» بسوريا (متى؟)، وإن لبنان لا علاقة له بسياسات «حزب الله» وسلاحه (طيب الحزب أين يوجد؟ في كوكب آخر؟).
الأعجب هو ترديد هذه المقولة المكررة، وهي أن العقوبات المزمع تطبيقها على الحزب وإيران هي: «عقوبات كتبتها إسرائيل، وطلب من ممثليها في الكونغرس السعي لإقرارها»، حسبما قال الكاتب جهاد الخازن مؤخرا.
الحزب معاقب من دول الخليج ودول عربية وأوروبية أخرى... فهل كل هؤلاء فعلوا ذلك لإرضاء الصهاينة؟
على كل حال... الوقت وقت المواجهة، وليس التسويف، ولبنان في نهاية الأمر، دولة عريقة محترمة.
كلما أوغلت الحرب السورية في العنف والوحشية، وكلما تقدمت في العمر، زاد استنزاف الموارد حد القحط الكامل. والموارد البشرية من أهم الموارد وأخطرها على مستقبل أي أمة أو حضارة، هذا فيما لو أبقت هذه الحرب على سورية بالحد الأدنى لمفهوم الوطن.
من يعيش في الداخل السوري، في أي منطقة، يرى ويشهد ويشعر بالواقع المرير الذي آلت إليه فئة الشباب من السكان الباقين تحت رحمة العيش في ظروف الحرب التي تعتبر الأخطر في التاريخ الحديث.
شبح السَّوْق إلى الخدمة العسكرية في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام يلاحق الشباب، ويشكل كابوسا يقضّ مضاجعهم، يحرمهم السكينة ويسلبهم القدرة، ليس على الأحلام فقط، بل القدرة على التفكير والتخطيط لمستقبٍل بات متخفيا وراء أفقٍ داكن تفوح منه رائحة البارود والموت.
منذ بداية الزلزال الذي يعصف بسورية، والشباب السوري يبحث عن سبل الهروب من مواجهة الموت، فقد كان العنوان صريحًا وحازمًا منذ البدايات: على من هو قادر على حمل السلاح أن يحمله تحت رايةٍ من الرايات التي تعدّدت فوق أرضنا، ومواجهة الموت في سبيل الوطن أو الله أو أية غاية أخرى تحمل ما تحمل من معاني القدسية القاتلة، قانعين بالشهادة التي يفصّلها كل طرف وفق أجنداته، ويقدمها بديلاً عن حياةٍ صارت، بحد ذاتها، معاناة وبلاء لا علاج لهما.
صار الشباب يلعبون مع القوانين والأنظمة لعبة القط والفأر، يحاولون استثمار المدد الزمنية التي توفرها بعض اللوائح الناظمة لأوضاع الطلاب، خصوصا الجامعيين، وفي مراحل الوساطات أو دفع الرشاوى كي يلحقوه بوحداتٍ تعمل في أماكن أقل خطورةً واحتداما للمعارك، في حال سدت جميع السبل أمامه، لكن القائمين على الأمور، والحريصين على الوطن وحمايته من المؤامرة الكونية، باتوا يقظين أكثر، وعازمين على تعديل القوانين والأنظمة الضابطة لأوضاع الطلاب، بطريقة يضيقون الخناق ويقلصون الفرص أمامهم، فيصير الوصول إلى المصير حتميًا.
هذه حال الشباب السوري، من بقي منهم في الداخل، وقد سدّت أمامهم جميع سبل الهروب من الموت. يناورون الدوريات التي لم تعد وقفًا على حواجز التفتيش، بل صار كثير منها يدور في شوارع المدن والأحياء، يلتقطون الشبان المارّين، يقيدونهم ويزجونهم في السيارات الملحقة، ويأخذونهم إلى الواجب الوطني "الإجباري"، ليعود القسم الأكبر منهم على شكل توابيت تحمل الموت رمزيا في الغالب، توابيت مغلقة ممنوع على الأهل فتحها لإلقاء النظرة الأخيرة، النظرة التي يجب أن توفّر للشاشات كي يُهدوا موت فلذات أكبادهم إلى الوطن وقائده. ولا تكتفي الدوريات باصطياد الشبان من الشوارع، بل تنقضّ عليهم في لحظات حياة مسروقة من شبح الموت المتغلغل في الهواء، عندما يجتمعون في المقاهي، ومعظمهم يفترشون الأرصفة أمام المقاهي، لأنهم لا يمتلكون ثمن كأس من الشاي أو فنجان قهوة ليتابعوا بطولة أو دوري كرة قدم.
يقول إدواردو غاليانو: "كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام، وكثيرا ما يضارب السياسيون والديكتاتوريون بهذه الروابط". ويقول: "لم يكن البروليتاريون بحاجة إلى إنهاك أجسادهم، لأن المصانع والورش كانت قد وجدت لتحقيق ذلك، ولكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، هوى الجماهير، توفر تسلية للفقراء وعزاء لهم، وتبعدهم عن الإضرابات، وعن الأفكار الخبيثة الأخرى". طبعا ليست الرأسمالية الصناعية وحدها، بل صارت وسيلة كل الأنظمة الاستبدادية في إلهاء شعوبها، وإقصائها عن التفكير بمشكلاتها وواقعها، خصوصًا لما تتمتع به هذه الرياضة من شعبيةٍ لدى الشرائح الفقيرة، فهي على رأي إدواردو غاليانو: "مثل التانغو، نمت انطلاقا من الأحياء الهامشية، فهي رياضةٌ لا تتطلب نقودا، وتمكن ممارستها من دون أي شيء آخر سوى الرغبة في اللعب".
ولأن كرة القدم، بحسب الباحث سعيد بنكراد، تحمل استراتيجية حربية، كما جاء في كتابه "مسالك المعنى": ربما تكون مباراة من هذا النوع من اللحظات المميزة التي تتيح لنا التعبير عن مواقفنا الحقيقية تجاه مجموعةٍ من القضايا الخاصة بالـ "القوة" و"العنف" و"الضعف" و ""الحرب" و"السلم". بل قد يصل الأمر إلى الكشف عن أحاسيس عدوانية متأصلة فينا، لم يفلح التهذيب الحضاري المتواصل في محوها والتخلص منها نهائيا. وانطلاقًا من هذا التحليل المفهومي، تمكن إضافة رمز آخر يندرج في سياق المعنى، السياق الذي يبقى مفتوحًا على التشكل والصياغة، من دون أن ينغلق على ذاته، طالما الشعوب تنتج ثقافتها وفق حركة التاريخ. لهذه الإضافة علاقة بالحروب من نمط الحرب السورية، فبعد لقاء كروي في الكلاسيكو الإسباني، لقاء يجعل الصمت مدويا وقت المباراة في الواقع، كما على صفحات التواصل الاجتماعي، لأن الجميع يكونون مسمّرين أمام الشاشات، كتب أحدهم على صفحة عامة: حدث في يوم الكلاسيكو أن شابًا "ريالّي" بلّغ عن أربعة من رفاقه "البرشلونيين" بأنهم متخلفون عن الالتحاق بالجيش، واستقدم الدورية "فشحططتهم".
فإذا كان اللعب، بحسب سعيد بنكراد أيضًا، يعدّ تشكلا ثقافيا قبْليًا لحياة رجولة متوقعة. أي هو من حالات التعلم الثقافي، وبعبارة أخرى، هو ليس سوى واحدةٍ من الوسائل المتعدّدة التي يتعلم من خلالها الطفل، كيف ينتمي إلى محيط ثقافي، له خصوصية في التقطيع المفهومي، وتمثل الوقائع الخارجية واستيعابها من خلال حالات الترميز المتعدّدة. إذا كان اللعب كذلك، فكم ينتظر هذا الجيل السوري المتشظي الذي، بأبسط البديهيات، توكل إليه مهمة البناء والنهوض، فالشريحة الشبابية هي خزّان الإبداع والابتكار، كم ينتظرهم من حياة متوقعة مبنية على ثقافةٍ قبْليةٍ تولد من رحم واقع تخلقه الحرب التي دمرت منظومة القيم والمعارف، وأخطر دمارها كان في استهدافها الموارد البشرية، رصيد سورية للمستقبل.
زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، ستشكّل معلما أساسيا في قراءة التطورات الاستراتيجية على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط على وجه الخصوص، فالقمم الثلاث التي نظمتها الرياض؛ الثنائية مع واشنطن، والقمة الخليجية الأميركية، والقمة الإسلامية العربية الأميركية، سوف تؤسس لمرحلة جديدة عنوانها إعادة استنهاض الحلف الأميركي التقليدي في المنطقة الذي بدا أنه اهتز وتراجع منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وزاد في التصدّع مع السياسة الأميركية التي قادها باراك أوباما والتي كان من أبرز سماتها التقارب مع إيران على حساب الحلفاء التقليديين في المنطقة العربية.
نتائج القمم الثلاث التي شهدتها السعودية والتي يتقدمها توقيع عقود بمئات المليارات من الدولارات بين واشنطن والرياض، ترجمت إلى حد بعيد نوعا من الشراكة الاستراتيجية التي ضمنت للرياض دورا محوريا في السياسة الأميركية على مستوى المنطقة العربية والإسلامية يحظى بدعم واشنطن، ووفرت للإدارة الأميركية الجديدة مكسبا سياسيا واقتصاديا سيساعد الرئيس الأميركي في مواجهة خصومه داخل الولايات المتحدة الذين لا يزالون يشكّكون بأهليته في السلطة.
إلى هذين المستويين من الفوائد بين الرياض وواشنطن، يُمكن التركيز على جانب محوري يهمُّ المنطقة والعالم المتمثل في محاربة الإرهاب، فقد نجحت الرياض في بلورة رؤية مشتركة مع واشنطن حول محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، وفي التقدم خطوات مهمة لبلورة رؤية مشتركة تجاه النفوذ الإيراني وضرورة الحد من هذا النفوذ وامتداداته في المنطقة العربية.
صحيح أنّ ترامب تحدث بوضوح عن خطر هذا النفوذ وطالب الرئيس الجديد المنتخب في إيران بتفكيك المنظمات العسكرية والأمنية لإيران في الدول العربية، لكنه في المقابل دعا حلفاءه وفي مقدمتهم السعودية إلى أن يكونوا في مقدمة المواجهة، وألا يراهنوا على عودة أميركا عسكريا إلى المنطقة، لكنه شدد على التأكيد أنّنا معكم وسندعمكم.
الملفات المتعددة التي جرى بحثها في القمم الثلاث، تجعل المراقب أمام ما يشبه التأسيس لمرحلة جديدة على مستوى المنطقة العربية، إيران عنصر محوري فيه، فالإدارة الأميركية ومن خلال الاتفاقيات التي عقدتها، تُضيّق الخناق على إيران، فهي من جهة فتحت نافذة للتفاهم من خلال إتاحة الفرصة مجددا لها لأن تكون عنصرا من عناصر استعادة الاستقرار بشرط العودة عن سياساتها الأيديولوجية في المنطقة، ومن جهة أخرى لوّحت بصفقات التسلح ودعم خصوم إيران بقوة في حال استمرت طهران على نهجها في ما يسمى تصدير الثورة.
لذا كان ترامب حاسما تجاه تصنيف حزب الله في خانة الإرهاب وساوى بينه وبين تنظيمي القاعدة وداعش كما صنّف حركة حماس في نفس الخانة، وهذا مؤشر على أن ترامب يميز بين إيران وأذرعها ولا سيما حزب الله، فالرئيس الأميركي لم يذهب كما ذهب سلفه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى وضع إيران في خانة محور الشر، لكنه في المقابل لم يراعِ السياسات الإيرانية في المنطقة كما فعل سلفه باراك أوباما، الذي في عهده جرت أكثر من عشرة لقاءات بين وزيري خارجية إيران وأميركا خلال أقل من سنتين وهذا ما لم يجرِ في تاريخ العلاقة بين الدولتين، بل وصل الأمر إلى أن اعتبر وزير خارجية أميركا جون كيري أن وجود حزب الله في سوريا لا يضر بالمصالح الأميركية.
القرار بضرب أذرع إيران في المنطقة العربية بالتوازي مع القضاء على “الإرهاب السني” هو الأكثر وضوحا في نتائج القمم في الرياض وفي خطاب ترامب الذي لم يميّز بينهما هذه المرة، وبالتالي فإن أهمية توقيت إعلان الرياض الأميركي السعودي، أنه رسم معالم طريق تجاه تطويق أذرع إيران بالتوازي مع ضرب الإرهاب، بحيث لم يجرِ التمييز بين الأمرين ولم يكن هناك أي محاولة لتحديد أولويات، بل يمكن توقع مجريات عسكرية على الأرض مختلفة عما سبق وستبدو هذه المرة أكثر تشددا ضد حزب الله.
أمّا لماذا حزب الله؟ فلأن الحزب كما كان خلال العقود السابقة يد القوة لإيران في المنطقة، هو اليوم الحلقة الأضعف والخاصرة الرخوة لإيران في المنطقة، فمبررات ضرب حزب الله في سوريا هو أنه أقل كلفة استراتيجية بالنسبة للأميركيين وحلفائهم سواء في المحيط العربي أو لدى الكيان الإسرائيلي، ذلك أنّ تورط حزب الله في الدم السوري، جعله بمثابة العدو الأول لمعارضي الأسد، فيما إيران التي أوصلت الرئيس حسن روحاني إلى سدّة الرئاسة مجددا، تقول من خلال هذه النتيجة أنّها تقدم خيار التسوية مع الشيطان الأكبر على خيار المجابهة معه، وبالتالي فإنّ حزب الله سيكون أقرب إلى أن يكون ورقة من الأوراق التي يمكن لطهران أن تساوم عليها وعلى طبيعة دورها ونفوذها لكي تخفف من الخسائر التي يمكن أن تطالها مباشرة.
الصورة تتضح أكثر والأرجح أن إيران وصلت إلى مرحلة حاسمة لجهة عسكرة نفوذها في المنطقة، فهي أمام خيار الإصرار على عسكرة نفوذها وبالتالي الاستعداد للمزيد من الإجراءات العدائية من محيطها ومن واشنطن، أو الذهاب نحو المساومة على هذا النفوذ عبر التضحية بأذرعها العسكرية لصالح مساحة من النفوذ السياسي وهذا قد لا يكون متوفرا على طول الخط إذا ما ضيعت إيران الفرصة المتاحة، ولم ينجح الرئيس الجديد في بلورة صفقة سياسية مع واشنطن بسبب تعنت جهات محافظة داخل النظام.
حزب الله الحلقة الأضعف في هذه المواجهة، والأرجح أن إيران اليوم هي بين خيار الاستمرار في دعم نظام الأسد وبالتالي تحمل تداعيات هذا الخيار على وجود حزب الله ليس في سوريا فحسب بل في لبنان أيضا، أو امتصاص الهجمة الأميركية السعودية بالمزيد من الانضواء تحت السقف الروسي والالتزام بشروطه، وتلقي المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية التي لا مناص منها على ما تشير الإجراءات الأميركية المستمرة ضده وكان آخرها إدراج الشخصية الثانية في حزب الله هاشم صفي الدين على لوائح الإرهاب الأميركية والسعودية عشية زيارة ترامب إلى الرياض.
الفخ السوري يُطبق على حزب الله وليس في وسع الحزب تحمل أي تهديد جدي إقليمي أو دولي في سوريا، ولن يجد هذه المرة أي دولة عربية مستعدة للتضامن معه في ما لو تم استهداف قواته في هذا البلد حتى لو كانت إسرائيل هي الطرف الذي يستهدفه، علما أن الضربات الإسرائيلية المحدودة له لم تتوقف في سوريا من دون أن يقابل ذلك أيّ رد فعل مستنكر من قبل أيّ جهة عربية يعتد بها ولا حتى جهة إسلامية كما كان الحال في عقود سابقة عندما كان يتعرض لضربات عسكرية إسرائيلية على الأراضي اللبنانية.
حزب الله سيعلن قريبا سحب قواته من سوريا بطلب من الحكومة السورية أو بذريعة أخرى، لكن هذا الإعلان سيكون مرتبطا بنوع من الضمانات التي لا تجعله عرضة لضربة عسكرية في لبنان قد تقوم بها إسرائيل، وتضمن حماية الحدود مع سوريا ولو بقوات دولية وهذا ما مهد له قبل أسبوعين حينما أعلن تسليم نقاط تمركزه على هذه الحدود للجيش اللبناني، في المقابل ثمة خيار آخر هو الانتحار عبر فتح المجابهة مع إسرائيل. الانتحار الذي بات يؤذي إيران هذه المرة ولا يفيدها، علما أنّ حزب الله الذي بات محاصرا بالأعداء الذين برع في صناعتهم سواء في الداخل اللبناني أو المجتمع السوري أو العرب على وجه العموم صار بحكم الوقائع الاستراتيجية رهينة إسرائيل بعدما كان ذراعا إيرانية تزعج إسرائيل قبل سنوات.
تشاركت وسائل إعلام أجنبية وعربية في بث تحقيقات ونشر استطلاعات تتلخّص بأن العالم العربي يعلّق آمالاً كبيرة على زيارة الرئيس دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية بما تعنيه من إحياء لعلاقة تاريخية ومن تقارب وتفاهم واستعداد للتعاون في مواجهة مخاطر وتهديدات يستشعرها أهل المنطقة خليجاً وشرقَ أوسط ومغرباً. وقد ساهم البرنامج المبتكر للزيارة في صنع حدث غير مسبوق، مُظهراً الأبعاد السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية و«التويترية/ التغريدية» التي تفيد بنيّة مشتركة لتأسيس تحوّل عميق، ليس فقط في المفاهيم التي قامت عليها العلاقة الثنائية، الأميركية - السعودية، بل أيضاً في علاقة الولايات المتحدة والمنطقة العربية. فلا أحدَ يجهل أهمية المصالح ودورها لكن كل أحدٍ كان ولا يزال يسأل لماذا تتحوّل علاقة المصالح بين أميركا والكثير من الدول إلى تحالفات وصداقات راسخة فيما تبقى مجرّد روابط هشّة مع العرب رغم اعتدالهم الذي تمثّل بقبول وجود إسرائيل والتخلّي الرسمي عن خيار محاربتها منذ عهد جورج الأب، وكذلك بعدم التشويش على المفاوضات النووية والاتفاق الذي أفضت إليه في عهد باراك أوباما.
كان التطلّع إلى سياسة أميركية إيجابية رهاناً عربياً دائماً، لكنه لم يحقّق سوى نجاحات ثنائية ومحدودة، غالباً ما كانت واشنطن توظّفها في استراتيجيتها من دون أن تعمّم نجاحها عربياً وإقليمياً. الجديد هذه المرّة أن الجانبين يبديان إرادةً لبناء رؤية استراتيجية شاملة. كان أوباما وجد في بداية عهده أن ثمة ضرورة لمخاطبة المسلمين والعرب فقصد تركيا ثم مصر، ورغم أنه لم يأتِ من خلفية معادية إلا أن التطبيق العملي لأفكاره أدّى إلى نتائج عكسية إسرائيلياً وإيرانياً، وتعرّض العرب لأضرار فادحة من سياساته داخلياً وإقليمياً. والأهم أنه ارتكب أخطاء كثيرة وتركها بلا معالجة فيما كان يشق الطريق لانسحابٍ أميركي من المنطقة. لذلك كانت مسّت الحاجة إلى فتح صفحة جديدة مع أي إدارة أيّاً يكن رئيسها.
لم تكن خلفية ترامب ومواقفه مشجّعة، إلا أن وجود شخصيات خبيرة بالمنطقة في إدارته وشروعها في العمل سرعان ما أوضحا الصورة: لا يمكن أن تتعاطى أميركا مع مخاطر الإرهاب أو مع التهديدات الإيرانية كما لو أنها تعني العرب وحدهم، أميركا معنية بمواجهتها أيضاً وبشكل مباشر، ولا بدّ لها من شركاء، وهم موجودون، السعودية ومصر والإمارات والأردن، موثوقون، ويمكن التعويل عليهم، ولأجل ذلك لا بدّ من إشعارهم بأنهم يمكنهم بدورهم أن يعوّلوا على أميركا. لكن وجبت أيضاً إعادة بناء الثقة مع هؤلاء الشركاء، فلكلٍّ منهم ما يمكن أن يساهم به. وهكذا تحوّلت زيارات العاهل الأردني وولي ولي العهد السعودي والرئيس المصري وولي عهد أبوظبي إلى ورشة عمل أميركية - عربية في العمق. وكان واضحاً منذ محادثات ترامب مع الأمير محمد بن سلمان أن تقدّماً مهماً قد أحرز، فالرياض التي صمّمت على إحداث اختراق مهما كانت المتطلّبات والأكلاف التقت مع واشنطن التي كانت تبحث عن سلّة متكاملة لتحسم أولوياتها وخياراتها.
تلك الورشة هي التي مهّدت للقمم التي شهدتها الرياض وكرّست وضعاً جديداً يرقى إلى شراكة استراتيجية تجسّدها الاتفاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية وتكون الدول العربية والإسلامية شاهدة على ولادتها. وإذ حرص الرئيس الأميركي في مختلف اللقاءات على إبداء موقف عقلاني ومعتدل حيال الإسلام والمسلمين فقد اقترح عليه وليّ وليّ العهد السعودي أن يزور الرياض ويخاطب قمة تدعو إليها السعودية زعماء العرب والمسلمين، في ما يشبه التنقيح لما حاوله أوباما (يونيو 2009) حين وجّه خطابه من جامعة القاهرة. وهكذا شُقّ الطريق إلى الحدث التاريخي في الرياض، ليس بهدف «العلاقات العامة» وإنما لتدشين تحوّل سياسي - دفاعي مهمّ على الصعيدَين الدولي والإقليمي.
تزامنت لحظة بدء القمة الأميركية - السعودية مع إعلان طهران فوز حسن روحاني بالرئاسة، ورغم الإدراك العام بأن شخصية الرئيس الإيراني المنتخب لا ترجّح وحدها احتمال التغيير في السياسة، إلا أن طهران توجد اليوم أمام حقيقتَين لا يمكن إنكارهما: الأولى داخلية، وهي أن الناخبين الإيرانيين ذهبوا عكس ما فضّله المرشد و«الحرس الثوري»، والثانية خارجية، وهي أن تحالفاً ولد لتوّه في الرياض وأحد أهدافه وضع حدٍّ للتمادي الإيراني في المنطقة. ولعل الحقيقتَين متداخلتان في مؤدّييهما، فشعب إايران مثل جميع شعوب المنطقة، يريد الخلاص من سياسة تنتج الإرهاب والميليشيات. إذاً، مرحلة جديدة، ولا جدوى فيها من شعارات التحدّي والممانعة.