مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٢ مايو ٢٠١٧
محرقة في «المسلخ البشري»

بعدما وصفت منظمة «العفو الدولية» سجن صيدنايا بـ «المسلخ البشري» في تقريرها الأخير، تأتي اليوم تقارير جديدة لتضيف نجمة إلى خدمات القتل والإبادة التي يقدمها النظام السوري لنزلائه في تلك البؤرة المظلمة، فتكشف عن وجود محرقة يتم فيها التخلص من جثث المعتقلين في شكل شبه يومي. لا تزيد الصدمة والفجيعة على الواقع شيئاً. فقد باتت عبارة «الهولوكوست السوري» ملازمة للوقائع الدائرة على الأرض في السنوات الأخيرة، وإن لم ترق التسمية الى مستوى الدليل الجنائي القاطع في حالات كثيرة. وإذ انشغلنا وانشغل كثيرون بالبحث في دقة مصطلحات كـ «الإبادة الجماعية» و «الهولوكوست» وما إذا كان بشار الأسد يشابه هتلر أو يفوقه إجراماً، مضت آلة القتل السورية في اجتراح الحلول لنفسها، والاستفادة من الوقت الضائع والهوامش الكثيرة المتاحة لها للإفلات من العقاب ومن أي محاسبة محتملة.

أما الآن، فقد بات هناك دليل دامغ للمشككين والباحثين عن الدقة العلمية: ثمة محرقة في سجن صيدنايا. ماذا بعد؟

قد تبدو للوهلة الأولى تلك الطريقة في التخلص من آثار الجرائم المرتكبة في السجون السورية تسلسلاً طبيعياً لمسار الأمور. حتى أن البعض تساءل لمَ المفاجأة والاستغراب على اعتبار أن الموت، أياً كانت طرقه يبقى أهون على الضحايا من مرّ العذاب الذي يكابدونه في الأقبية الأسدية. وإنه إذّاك لا فرق بين من يموت قصفاً، أو قنصاً أو جوعاً أو تعذيباً... أو أخيراً حرقاً، إلا بدرجة العذاب التي تسبق رصاصة الرحمة تلك، أياً كان شكلها. وذلك لا شك مفهوم بعد الإحباط واليأس من عجز المجتمع الدولي وتلكؤه عن القيام بأدنى واجبات حماية المدنيين وإحالة المجرمين أقله الى التقاعد السياسي، إن لم يكن محاسبتهم أمام قضاء نزيه وعادل.

لكن لا. ثمة جديد هذه المرة، وهو وجود محرقة. ذلك ليس بالتفصيل العابر ولا هو مجرد شكل آخر من أشكال الموت. لقد باتت لنا محرقتنا. أول محرقة عربية (مثبتة) تعمل بفاعلية عالية وبوتيرة شبه يومية، في وضح النهار وبمحاذاة مناطق مأهولة وسياحية. تنفث أبخرة الجثث المتفحمة في ذلك الفضاء الأهلي، معتمدة على احتمال أن تختلط الروائح المريبة بعطن مزارع الدجاج القريبة. هكذا، تعيش محرقة بموازاة حياة شبه طبيعية، كما عاشت على هذه الشاكلة مقابر جماعية ومعتقلات منذ حكم الأسد الأب وحتى اليوم. إنها صورة إضافية لذلك «الشر العادي» المرافق للفظاعات التي توصف في كل مرة بأنها «غير مسبوقة». سوى أن الوسيلة هذه المرة لا تقل أهمية عن الغاية نفسها.

والحال أن المحرقة بذاتها ليست أداة القتل. ووفق التقارير التي تسربت أخيراً من ذلك المسلخ، وقبلها تقارير «سيزر»، فإن قتل المعتقلين سابق على التخلص من جثثهم بوقت قد لا يكون وجيزاً، ولعله جاء حلاً سريعاً ومتسرعاً في آن، بعدما باتت المقابر الجماعية خطراً محدقاً بالنظام، ودليلاً قابلاً للوصول اليه. وكذلك هي تقارير الوفاة الصادرة من المعتقلات والمستشفيات والتي توثق آلاف الحالات من الموت بـ «الجلطات الدماغية» في أيام متقاربة جداً، والتي شكلت في مرحلة ما إجراء إدارياً داخلياً للتأكد من «تنفيذ المهمات».

أما إحالة الأجساد الى رماد، فوسيلة مضمونة لإخفاء أدلة الجريمة، ومحو علامات التعذيب وإغلاق الملفات مرة وإلى الأبد. وهي الى ذلك، تلغي إمكان إقامة قبور للضحايا، وشواهد تحمل أسماءهم وقد تتحول مزارات لذويهم ولأجيال قادمة. إنها تخنق الأسئلة الملحة حول ظروف القتل، ومكانه، ومرتكبه، والأهم من ذلك التهمة التي دفعت اليه. فالمحاكمات الصورية التي كشفتها التقارير أيضاً، والتي لا تستمر لأكثر من ثلاث دقائق، تؤشر الى نفاد صبر حيال حياة الأشخاص. هناك من يتهافت على إرسال المزيد من الناس للقاء حتفهم بطريقة بيروقراطية باردة. ثم جاء من قرر أن يمعن أكثر في التخلص منهم عبر حرق جثثهم، في وقت لا يزال غير معروف متى اعتمدت تلك الطريقة وإن كانت شائعة في المعتقلات السورية أو هي استثناء في صيدنايا.

وإذا كانت المحارق ارتبطت حتى اللحظة بالحقبة النازية ومعسكرات الموت في أوشفيتز وغيرها، واعتبرت الى حد بعيد ثمرة الثورة الصناعية ومكملتها في آن، فقد ذهبت محرقتنا خطوة أبعد. فمعلوم إن قطارات الموت النازية حملت الضحايا في رحلة الخنق بالغاز على أمل الإنقاذ. هكذا، «غرر» بالمعتقلين اليهود وتمّ إيهامهم بأن تلك هي رحلة الخلاص والانعتاق ليأتي الحرق لاحقاً.

وكان النازيون يدركون أن وتيرة القتل تعتمد على قدراتهم في التخلص من الجثث بكفاءة وفاعلية بحيث يحدد عدد الجثث التي يمكن حرقها في غضون 24 ساعة، عدد الأشخاص الذين ينبغي قتلهم بالوتيرة نفسها. وذلك ما سمي بـ «القتل الصناعي».

أما في الحالة السورية، وعدا عن أن أحداً لم يكترث بمنح ذرة أمل للمعتقلين قبل تصفيتهم أو تركهم يموتون من تلقائهم تحت التعذيب، فإن القتل بذاته لم يكن وحده المرتجى، وإنما هو الإفناء بعد الإماتة. وذلك واقع جديد لا مناص منه. وهو الى حد بعيد، ما يجعل المحرقة السورية ممعنة في الرغبة بتسفيه ضحاياها فوق جعلهم ضحايا أصلاً. وهو دأب النظام في معاملة السوريين علناً وبلا مواربة منذ أن انتفضوا عليه انتفاضتهم الأخيرة في 2011. فإذا كانت العبارة الشائعة تقول إن فلاناً ثمنه رصاصة، للدلالة على بخس حياته، فقد جاء النظام الأسدي ليقول لا، بل ثمنكم عندي أقل من ذلك بكثير. يكفي أن أحشو براميل وخزانات بفضلات لأقتلكم. والمحرقة المكتشفة أخيراً في صيدنايا، تأتي بهذا المعنى تتمة لبراءة اختراع البراميل، ودليلاً إضافياً على الإبادة البدائية في وحشيتها والتي يحرم السوريون كل يوم من حق مقاومتها.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
سياسات إيران إلى الواجهة

مع انعقاد القمة الأميركية - العربية - الإسلامية خلال الساعات المقبلة في الرياض، تبرز مواجهة السياسة الإيرانية في المنطقة كإحدى النقاط الأساسية على جدول الأعمال، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول العربية التي عانت الأمرّين خلال السنوات الماضية من التمدّد الإيراني في المنطقة، في ظل غض طرفٍ من الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس باراك أوباما، والذي كان يعوّل على إبرام اتفاق نووي مع طهران، بغض النظر عن نتائجه على دول المنطقة. وهي نتائج بدأت تظهر، منذ الأيام الأولى للحديث عن اختراقات على صعيد المفاوضات، على الرغم من الإصرار الأميركي، في ذلك الحين، على نفي أي ارتباطٍ بين المفاوضات وسائر الملفات في المنطقة.

لكن، مع ذلك، كان الربط حاضراً بقوة، وخصوصاً في اليمن، والذي شهد انقلاباً عسكرياً صريحاً على الحكومة الشرعية، برعاية إيرانية، ممثلةً بالحوثيين الذين تحولوا، خلال سنوات قليلة، إلى جيش مدرب ومسلح تسليحاً ثقيلاً. جيش قادر على احتلال مساحات واسعة من الأراضي اليمنية من دون أن يلاقي أي مقاومة تذكر، وذلك بفضل التدريب الإيراني المكثف الذي خضع له أفراد هذا التنظيم الذين كانوا يحجّون بالمئات إلى طهران، حيث كانت تنظم الدورات العسكرية لتخريج الكوادر المقاتلة، والتي كان مطلوباً منها نقل خبراتها إلى الداخل اليمني. خلال سنوات قليلة، نجحت طهران في هذا المجال، وخلقت قوة عسكرية موالية بالكامل لها في الداخل اليمني، والذي لم يكن، في السابق، ضمن حسابات التمدّد الإيراني المقتصر في فترة من الفترات على العراق ولبنان.

غير أن غضّ الطرف الأميركي، والبراغماتية التي كانت تتعاطى فيها الإدارة الأميركية السابقة مع السياسة الإيرانية، سمحا لطهران بمزيدٍ من التوغل في دول المنطقة، وإحكام القبضة على العراق بشكل شبه كامل عبر مليشيات الحشد الشعبي التي أصبحت تضاهي الجيش العراقي قوة وعدة وعديداً، وهو ما أصبح مثار امتعاضٍ حتى من السياسيين المحسوبين على إيران في العراق، وخصوصاً مع دخول "الحشد" طرفاً في تحديد سياسات البلاد وتحكّمها بجغرافية بسط الدولة لسيادتها.

سورية أيضاً باتت ساحة للتمدّد الإيراني، بعدما دخلت طهران والمليشيات الموالية لها بقوة في مواجهة الثورة، ومارست صنوفاً عدة من التنكيل بالمعارضين، وساهمت في عمليات التطهير الديمغرافي الذي تشهده سورية، سواء عبر الاجتياحات العسكرية أو اتفاقات التهجير. لم يعد الدخول الإيراني في سورية مجرد مساعدة الحليف بشار الأسد، إذ باتت طهران، مع موسكو، صاحبة الكلمة النهائية في تحديد السياسة السورية، وما ترضى به دمشق وما ترفضه، بعدما بات بشار الأسد مجرد هيكل لحكم بلا قرار.

كل ما سبق، ويضاف إليه الدور الإيراني القديم المتعاظم في لبنان عبر حزب الله المتحكّم بمفاصل السياسة اللبنانية وقرارات الدولة، أدى إلى ما هو أخطر على المديين، القريب والبعيد. فإذا كان النفوذ الإيراني، العسكري أو السياسي، غير دائم، فإن النعرات الطائفية التي أسس لها، وأخرجها حتى من حدودها الجغرافية الضيقة، لن تكون عملية إزالتها سهلةً على الإطلاق. فاللافت أن هذه النعرات ما عادت حكراً على المناطق التي تشهد على النفوذ الإيراني، بل تمدّدت إلى مساحات أوسع بكثير، وصلت حتى المغرب العربي الذي لم يكن في السابق معنياً بمثل هذه الخلافات، حتى أنها انتشرت في المهجر العربي والإسلامي الذي بات يشهد خلافات على خلفيات طائفية.

هذا المسار من السياسات الإيرانية على مدى العقد الأخير فقط أدى إلى تحولاتٍ كثيرة في المنطقة، والتي لن يكون الحد من آثارها سهلاً في المدى المنظور.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
تحولات كبيرة شمال الأردن

الحدود الأردنية السورية التي بدت، خلال العام الماضي، الأكثر هدوءاً، تواجه حالياً مرحلةً جديدة قد تكون مغايرةً للمرحلة المقبلة، لن يكون ذلك على الأغلب في محافظة درعا (الحدود الشمالية الغربية)، بل الحدود الشمالية الشرقية، من منطقة الركبان (حيث مخيم الركبان) إلى معبر التنف وبلدته على الحدود العراقية السورية المجاورة للحدود الأردنية.

انشغل الإعلام السوري، قبل أسابيع، بقصة القوات الأميركية والغربية التي تتمركز في قاعدة عسكرية قريبة من الحدود الشمالية الشرقية الأردنية، وتمّ عرض صورةٍ لتجمّع لهذه القوات، ونسج لرواية (أي سورية إيرانية) بعملية برية متوقعة منها نحو الأراضي السورية.

ويشكل هذا التطوّر، لو حدث، "نقطة تحوّل" في المقاربة الأردنية تجاه سورية، لكنّه غير محتمل في المرحلة المقبلة، وليس واقعياً، إذ أنّنا نتحدّث عن مناطق صحراوية شاسعة، غير مأهولة، وإذا كان هنالك ما يقلق بالقرب منها، فالأقمار الصناعية الأميركية والطائرات كفيلة برصده والتعامل معه.

لكن ذلك لا ينفي أنّ تحوّلاً استراتيجياً حدث بالفعل، مرتبطا بأكثر من متغيّر مهم ورئيس حدث في الفترة الماضية، ما رفع من القيمة الاستراتيجية لبادية الشام والمناطق الحدودية العراقية والسورية المجاورة للشمال الشرقي الأردني بصورة فريدة، فأصبحت منطقة تنافسٍ عسكري استراتيجي، ليس بين القوى المحلية السورية الداخلية فقط، بل أيضا القوى الدولية والإقليمية التي تخوض من ورائها حرباً بالوكالة.


يتمثل المتغير الأول في قرب انتهاء معركة الموصل وبداية معركة الرقّة، وعدم حسم الجهة المخولة بمعركة دير الزور، أي الصراع على تركة "دولة داعش"، فبادية الشام مهمة للأطراف المختلفة، لأنّها مدخل رئيس لمحافظة دير الزور، بعد أن دخلتها "قوات سوريا الديمقراطية" (الأقرب إلى الولايات المتحدة) من جهة الشمال والطبقة، وتحاول القوات السورية والمليشيات المرتبطة بها الوصول إليها جنوباً، خصوصا أنه ما يزال هنالك وجود للقوات السورية في المدينة.

المتغير الثاني انقلاب المقاربة الأميركية تجاه سورية، مع الإدارة الجديدة للرئيس ترامب، وإعادة تفعيل محور المواجهة مع إيران، وتحجيم نفوذها في المنطقة، ما يجعل من قطع المجال الحيوي الإيراني الاستراتيجي من طهران إلى البحر المتوسط هدفاً أميركياً، ويعطي الحدود العراقية السورية أهمية جديدة واستراتيجية.

أحدث هذان المتغيران، مع متغيرات أخرى فرعية، ديناميكية جديدة وسريعة مفاجئة في المناطق الحدودية العراقية السورية وبادية الشام، والمناطق الشمالية الشرقية المحاذية للأردن، بعد أن كانت تلك المنطقة مهملة وغير مفيدة في نظر أغلبية القوى الدولية والإقليمية والمحلية.

الطريف أنّ الإيرانيين دفعوا بالمليشيات والجيش السوري إلى شرق تدمر، وللسيطرة على بلدات في ريف حمص الشرقي، ومثلث بادية الشام، للمرة الأولى منذ بداية الثورة السورية، بينما أصبح معبر التنف بمثابة "نقطة استراتيجية" على درجةٍ كبيرة من الأهمية للولايات المتحدة والأردن والدول الغربية، وليس مستبعداً أن يتم التفكير في توسيعها وتحويلها قاعدة عسكرية كبيرة، ونقطة انطلاق وتدريب ومراقبة، لإدارة المعركة في تلك المنطقة المهمة.

الأكثر طرافةً أنّ التنافس لم يقتصر على الجانب السوري، بل امتد إلى الجانب العراقي، إذ تحرّك الحشد الشعبي نحو الحدود السورية العراقية، للسيطرة عليها من الجهة الأخرى، من الرطبة والقائم، الموازية للتنف والبوكمال، بينما يتنافس الجيش السوري مع فصائل الجيش الحرّ، مثل أسود الشرقية والمغاوير وجيش العشائر على مناطق البادية السورية.

المفارقة أنّ توجه الحشد الشعبي إلى تلك المنطقة هو بالضرورة بتوجيهٍ إيراني ولحماية مصالح إيران، وليس لحماية ظهر القوات الأميركية في التنف، كما تذهب تحليلات عسكرية. ووجه المفارقة أنّ الحشد يخوض المعركة بالتعاون مع الأميركيين في العراق ضد تنظيم داعش، بينما يتحرّك حالياً لحماية النفوذ الإيراني على الحدود السورية، وإنْ كانت الذريعة مطاردة "داعش"، ومنعه من عبور الحدود باتجاه بادية الشام.

بدأت الكفّة العسكرية تتغير وتتحول لصالح القوات السورية النظامية والمليشيات معها، في تلك المنطقة، مع سيطرتها على مناطق استراتيجية في بادية الشام، وما تزال المخططات الأميركية العسكرية غير واضحة، وقوات المعارضة المدعومة من "الموك" في تلك المنطقة غير مستعدة للمواجهة الكبيرة، ما قد يفسّر التفكير في بناء قاعدة عسكرية استراتيجية في منطقة التنف.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
سجن صيدنايا: أوشفيتز النظام الأسدي ومحرقته

المفاجئ في تصريحات ستيوارت جونز مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، ليس كشفه محرقة في سجن صيدنايا، يقوم النظام الأسدي الكيماوي بحرق جثث القتلى تحت التعذيب الوحشي كي يمحي أثرهم من الوجود، فإن فضائح المخابرات والجلادين في السجون والأقبية المخابراتية المعتمة في سوريا لم تعد تخفى على أحد.

فبالوثائق والأدلة باتت المنظمات الدولية تمتلك ملفات كاملة عن جرائم ضد الانسانية يرتكبها نظام الأسد، من ملف قيصر الذي يحوي على عشرات الالاف من صور القتلى تحت التعذيب، إلى تقرير منظمة العفو الدولية عن شنق ما لا يقل عن ثلاثة عشر ألف معتقل بعد التعذيب في هذا السجن الرهيب، والأدلة الدامغة والاثباتات بارتكابه جرائم حرب باستخدام الأسلحة الكيماوية.. لكن اللافت في المسألة عدة مؤشرات تواترت في الفترة الأخيرة صادرة عن الإدارة الأمريكية وإسرائيل، ودول أوروبية، ومعطيات جديدة في الشرق الأوسط، تؤكد توجهات جديدة في إدارة الأزمة السورية لدى واشنطن وتل أبيب، وتغيرات جوهرية منتظرة على المدى المنظور.

ـ المؤشر الأول، أن وزير البناء والاسكان الاسرائيلي يوآف جلنت صرح بأنه آن الأوان لاغتيال بشار الأسد والتخلص من ذيل الأفعى ـ ويقصد أنه ذيل ايران، ثم التخلص من رأسها أي إيران، وأن ما يفعله بشار الأسد في سجن صيدنايا لم يسمع العالم بمثله منذ سبعين عاما، مشيرا بذلك إلى المحرقة النازية في اوشفيتز، وهذا التذكير بالجريمة النازية الكبيرة في الحرب العالمية الثانية له دلالة نفسية كبيرة في المجتمع الدولي.

ـ المؤشر الثاني، تواتر التصريحات الامريكية حول انتهاكات النظام الأسدي في سورية، إلى ضرب مطار الشعيرات، وتصويت مجلس النواب على قانون سيزر (أقر الكونغرس الامريكي بالاجماع قانون حماية المدنيين في سوريا، الذي يضمن معاقبة داعمي النظام السوري، ويهدف الى إيقاف المذابح في سورية) ووصف بشار الاسد بالحيوان من قبل الرئيس ترامب، ثم الكشف عن محرقة صيدنايا، وهذا ما لم نعهده في إدارة الرئيس السابق اوباما، ما ينم عن التحول الجذري في السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري.

ـ المؤشر الثالث، استماتة الروس والايرانيين في دعم النظام بشتى الوسائل، خاصة في ما يسمى بمحادثات أستانة، التي دعيت إليها إيران كضامن ثالث لمناطق «تخفيض التوتر» في سورية، الى جانب تركيا وروسيا ـ منذ هذا الاتفاق لم تتوقف عمليات القصف الروسية الاسدية وهجوم الميليشيات الشيعية على مناطق المعارضة ـ ففي قراءة متأنية يمكننا القول إن إدارة ترامب ترغب في توصيل رسالة إلى موسكو، بأن عليها التخلص من حليفها في دمشق، وعودة ميليشيات طهران إلى قواعدها في ايران والعراق، والدخول في مفاوضات سياسية جدية، لانتقال السلطة بعد القضاء على «داعش» واخواته. في حين ان موسكو تصر على إظهار نظام الأسد بأنه مازال شرعيا بجلوسه إلى طاولة المفاوضات، ودعمه في استعادة مناطق كانت بحوزة المعارضة تحت القصف الوحشي المتواصل لهذه المناطق، خاصة في محيط دمشق. ويبدو أيضا أن إسرائيل، لم تعد ترى بشار قادرا على الاستمرارية في ضماناته التي قدمها والده منذ بداية انقلابه العسكري في سبعينيات القرن الماضي، مقابل ضمان استمرارية حكمه وحكم وريثه، فالتصريحات بضرورة الخلاص منه بمثابة فك عقد تبادل الضمانات ـ خاصة أن الطائرات الاسرائيلية تصول وتجول في الأجواء السورية، وكأنها في عرض عسكري، ولا تتوانى عن قصف مستودعات اسلحة وذخائر في مطار دمشق الدولي ومناطق أخرى.

ـ المؤشر الرابع، أن عدة دول أوروبية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، أكدت أن نظام الأسد هو المسؤول عن هجمات خان شيخون الكيماوية، وبالتالي بالنسبة للمجتمع الدولي من الصعوبة إعادة تأهيل نظام يضرب شعبه بأسحلة كيماوية، إضافة إلى كل الملفات الثقيلة للانتهاكات التي قام بها منذ اندلاع الثورة السورية من قتل، ودمار، وتهجير، وترانسفير، وتغيير ديمغرافي، وتبقى محادثات جنيف المكوكية تراوح مكانها، بدون أي تقدم في أي ملف من الملفات الكفيلة بانتقال السلطة، في ظل تصعيد النظام والروس والايرانيين تغيير المعادلة العسكرية على الأرض، باستمرار القصف الهمجي لمناطق المعارضة رغم اتفاق «مناطق تخفيض التوتر».

ـ المؤشر الخامس، مناورات «الأسد المتأهب» في الأردن، والتوتر في العلاقات الأردنية السورية، والأردنية الايرانية، بعد أن كان الاردن يقف موقفا شبه محايد من الأزمة السورية.

ـ المؤشر السادس، الذي سيكون له أكبر الأثر في المنطقة الشرق أوسطية هو القمة الأمريكية العربية الاسلاميةـ التي لم تدع ايران، أو النظام السوري إليها ـ والتي ستبدأ معها حقبة جديدة من السياسة الأمريكية في المنطقة، وإعادة رسم خريطة التحالفات.

هذه المؤشرات مجتمعة لا تطمئن النظام السوري، وحليفيه الايراني والروسي، فقواعد اللعبة تغيرت مع الادارة الأمريكية الجديدة في شرق أوسط يتأهب لدخول مرحلة صعبة من صراع القوى في المنطقة برمتها، يستحيل معها بقاء نظام مرفوض دوليا، وبات عبئا ثقيلا حتى على حلفائه.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
إدْلِبِيُّون قابضون على الجمر (1)

بدأت الثورة السورية في إدلب ضد نظام حافظ الأسد، فور تسلمه الحكم عام ١٩٧٠م، لدى زيارته الأولى لها في جولته على كافة المحافظات السورية؛ لحصد التأييد الشعبي وإدخالهم بيت الطاعة الأسدي.

كان رد الإِدْلِبِيُّون قاسياً وسريعاً، لم يقف استنكارهم لانقلابه على أصحابه عند حد اللسان والهتاف بـ “لا” أو “نريد إصلاحات”، بل تجاوز ذلك فوراً إلى اليد والرجم، حيث أمطروه بوابل من (البيض) و( البندورة) و(الأحذية البالية) تلك الحادثة الأعنف في بداية حكم حافظ الأسد، وما زال شاهدوها أحياء إلى الآن يقصونها على أحفادهم، ويؤكدون أن أحد الأحذية كاد يصيب رأس حافظ الأسد؛ لولا تدخل حارس مرماه عبد الله الأحمر محافظ إدلب حينها، واستطاع بخفة صد الحذاء، وحرمه شرف الوصول لرأس الأسد.

دخلت بعدها محافظة إدلب عالم النسيان في الذاكرة السورية؛ انتقاماً رد به الأسد الأب بعد استقرار حكمه وإحكام سيطرته؛ وعانت من التهميش الإداري رغم موقعها الجغرافي المتاخم للحدود التركية، وعمقها التاريخي وما تحتويه من مواقع ومعالم أثرية، إضاقة لكونها عاصمة الزيتون السوري لخصوبة التربة وروعة الطبيعة فهي الشهيرة بإدلب الخضراء.

إلا أن سياسة الإقصاء والتهميش التي اتخذت ضدها أضعفتها، وشتت شبابها بحثاً عن العمل في دول الجوار وأوربا، واضطروا للعمل في ظروف قاسية رغم مؤهلاتهم الدراسية والإبداعية، لتساهم تلك العوامل في بلورة شخصيات أبناء هذه المحافظة القاسية، الصفات التي احتاجوها في مراحل لاحقة مع اندلاع الثورة.

أتت أحداث الثمانينات فركبوا سريعاً في مركب “الثورة الثانية”، إلا أن الانتقام الأسدي كان شديداً وفظيعاً، ارتكب فيها عدة مجازر أخمد من خلالها الانتفاضة الشعبية الثانية ضده، تبعها بحملات أمنية لم يسلم منها إلا القليل من عائلاتها، وهجّر الفئة المثقفة والنخب السياسية، ليستقر له الحكم من جديد.

سُحقت الطيبة والمحبة التي يمتاز بها أهل هذه المنطقة بجحافل الأسد من جديد؛ ليزداد رجالها عنفواً وقسوةً وكبرياءً، كذلك هم الطيبون غالباً يستأسدون إن أراد أحدهم المساس بكرامتهم، وتأهبوا كثيراً منتظرين الثورة الثالثة، حرمت خلال هذه الفترة محافظة إدلب من أكثر الخدمات، فلا استثمار فيها ولا تنمية إلا في حدود متدنية، كما مورس بحق أبنائها التهميش والاستخفاف الاجتماعي من باقي المحافظات؛ الأمر الذي لم يكسرهم بل زادهم صلابة وإصراراً وعناداً.

استطاع الأسد وابنه الدكتاتور الأصغر صنع أشد الأعداء لهما بيديهما؛ وأعطاهم كل مؤهلات التمرد وبذر في نفوسهم التوق إلى الثورة من قبل أن تبدأ على الأرض، وانتظروا جميعا الجولة الأخيرة ليجتاح الربيع العربي عدداً من البلاد، فوجدوا فيه الفرصة الأخيرة لتوجيه الضربة القاضية، فأسرع ضباطهم للانشقاق، على رأسهم المقدم “حسين الهرموش” ابن جبل الزاوية الأشم ومؤسس الجيش الحر، وسلّحوا شبابها، وتصدّوا للجيش والأمن أثناء اقتحامهم لعدة بلدات أهمها:  أورم الجوز، وخان شيخون، وجسر الشغور، ثم اشتعلت الثورة المسلحة في كل المحافظات السورية.

كان شباب إدلب شجعاناً في قرارهم يأبون الذل والهوان، أقوياء بعنفوانهم، أعزة كرماء، غير صاغرين؛ لأنهم رضعوا الشجاعة صغاراً، واستطاعوا طرد نظام الأسد من إدلب، ثم طردوا “داعش” بعدها من أرضهم، ولن يستطيع طاغية كما يبدو إحكام سيطرته عليهم وإخضاعهم، بعدما نالهم من قتل وتدمير وتشريد فذاكرتهم ملئت بالمجازر، ونفوسهم شحنت بالقهر، ولم يعد للموت رهبة في قلوبهم.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
الأسد بطل المحرقة

يبدو أنه ليس هناك حدود لجرائم نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، وقد برهن، منذ بداية الثورة الشعبية في ربيع 2011، أنه فنان جريمة بامتياز، استطاع أن يتجاوز كل المجرمين والأشرار في التاريخ. حين بدأ باستخدام براميل الديناميت التي يلقيها من طائراتٍ مروحيةٍ، ظن الناس أن هذا الاختراع سيكون أقصى ما يمكن أن تصل إليه صناعة الجريمة، ولكنه فاجأ العالم بعد زمن وجيز بسلاح جديد، هو ضرب التجمعات البشرية بالألغام التي تنفجر ما أن تلامس الأرض، وهي ألغام مصممةٌ ضد السفن والآليات الحربية، وكان هدفه من ذلك إلحاق أكبر قدر من الضحايا البشرية والدمار في العمران والبنى التحتية، الأمر الذي يفسر فظاعة الصور الفوتوغرافية لمدينة حلب التي انتهى القسط الأكبر منها كأنه تعرّض لزلزال.

لم يوفر النظام السوري معارضاً له، وطاول أذاه حتى الذين يعتبرهم من المعتدلين. بدأ سياسة التصفيات الجسدية منذ الشهر الأول للثورة، وقبل أن يدخل السلاح إلى مسرح الأحداث، وكان أن باشر حملة اعتقالاتٍ ضد النشطاء السلميين من التنسيقيات التي كانت تنظم مظاهراتٍ، وتم قتل الناشط الشاب غياث مطر ابن داريا وهو يوزّع الورد والماء والخبز على حواجز المخابرات. جرى اعتقاله يوم 6 سبتمبر/ أيلول 2011، وتم تسليم جثمانه بعد أربعة أيام، وآثار التعذيب بادية عليه. وفي هذه الفترة، على ما يبدو، لم يكن قد بدأ النظام ما أسماه تقرير منظمة العفو الدولية، أخيراً، المسالخ التي يتم فيها ذبح المعتقلين، وهو ما وثقه "قيصر" في الصور التي هرّبها من داخل سجن صيدنايا.

وفي الوقت الذي لازلنا تحت صدمة تقرير وزعته الأمم المتحدة قبل أيام عن العنف الجنسي ضد السوريات، وهو ما لم يرد في أي تقرير أمميٍّ من قبل، حتى بتنا اليوم أمام محرقةٍ تحيل مباشرة إلى جرائم النازية ضد اليهود في معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية، ومنها أوشفيتز السيئ الصيت. ونحن نتأمل ذلك، لا نمتلك الجرأة للقول إن هذا هو منتهى الجريمة، فربما فاجأنا عباقرة الجريمة الأسدية بفن جديد للقتل.

حديث المحرقة جاء في تقريرٍ للخارجية الأميركية، يعبر عن صحوة أميركية متأخرة، ولكن حصولها متأخرةً أفضل من عدم حصولها، وحتى يكون لها تأثير يجب أن تترجم إلى ضغطٍ على النظام وروسيا من أجل وقف الجرائم على الأقل، والإفراج عن قرابة 200 ألف معتقل، منهم حوالى 20 ألف امرأة وطفل، وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تذهب أبعد من ذلك، لن يوقفها أحد، وهي ليست بحاجةٍ لمن يوجهها نحو الطريق المناسب، فهي تعرف أن القانون الدولي والعدالة هما الحل المناسب، وحتى يتم إنصاف الضحايا يتوجب إنشاء محكمةٍ دوليةٍ خاصةٍ لمحاكمة الضالعين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وعلى رأس هؤلاء الأسد وأركان نظامه ومن دعمه في حربه ضد الشعب السوري، وخصوصاً المليشيات الطائفية، وفي مقدمها قيادات الحرس الثوري الإيراني.

أحسن وفد الهيئة العليا للمفاوضات بطرح قضية المعتقلين على اجتماعات جنيف، وهو عن هذا الطريق يرفعها إلى مستوى القضايا الأخرى التي يتم التفاوض حولها مع وفد النظام، ولابد أن يذهب الأمر إلى تحقيق دولي يتم من خلاله الضغط على روسيا ونظام الأسد من أجل فتح أبواب سجن صيدنايا أمام لجنة تحقيق دولية للكشف عن وضع السجن والانتهاكات التي جرت داخله.

إذا لم تجرِ محاكمة علنية لهؤلاء المجرمين، فإن الإنسانية سوف تصاب بجرح عميق، لن تشفى منه على مر التاريخ، ولن يقف الأمر عند لعنة التاريخ للذين لم يتحركوا من أجل نجدة البشر العزل، بل سيتجاوزها إلى خلل في الضمير الإنساني، وسقوط الأخلاق والعدالة والقيم وحقوق الإنسان.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
هل انتهى الدور الإيراني في المنطقة؟

كل الدول حتى العظمى منها هي دول وظيفية بالنسبة لأمريكا. وإذا كان الأمريكيون يوظفون دولة كبرى كروسيا كشرطي جديد في الشرق الأوسط، فمن الطبيعي أن كل الأدوار التي أدتها إيران على مدى العقدين الماضيين في المنطقة كانت بضوء أخضر أمريكي. من السخف الاعتقاد أن إيران نافست أمريكا على النفوذ في العراق، فلولا المباركة الأمريكية للتدخل الإيراني في بلاد الرافدين لما حلمت إيران بالهيمنة على بغداد.

وكذلك الأمر في سوريا ولبنان. من هو المغفل الذي سيصدق أن إيران وصلت إلى الجولان على حدود إسرائيل مع سوريا بدون ضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي؟ هل كان قاسم سليماني وشركاه ليتجولوا في القنيطرة وبعض مناطق حوران على مرمى حجر من إسرائيل لو لم يحصلوا على إيماءة إسرائيلية؟ هل كانت الميليشيات الإيرانية العراقية واللبنانية تحلم بدخول الأراضي السورية لولا الموافقة الإسرائيلية والأمريكية ثانياً؟ بالطبع لا. وكذلك في اليمن المحاذي للقواعد الأمريكية في الخليج.

لقد تحركت إيران في عموم المنطقة بناء على التوجيهات الأمريكية وليس بناء على المشروع الإيراني المزعوم. وحتى لو كان هناك مشروع إيراني في المنطقة فعلاً، فهو مستمر بمباركة أمريكية أولاً وأخيراً، ولا شك أنه سينتهي عندما ترى أمريكا أنه استنفد مهامه الموكلة إليه. باختصار، فإن كل ما فعلته إيران في المنطقة على مدى السنوات الماضية كان دوراً وظيفياً أسندته لها أمريكا لفترة محدودة تخدم المشاريع الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، ويبدو الآن أن المهمة الأمريكية في الشرق الأوسط أوشكت على الانتهاء بدليل أن الرئيس الأمريكي الجديد بدأ ولايته الرئاسية بالتحريض على إيران وتقليم أظافرها في المنطقة واعتبارها أكبر خطر إرهابي يهدد العالم. هكذا يتصرف الأمريكيون عادة مع أدواتهم يتركونها تتحرك طالما هي تخدم المشروع الأمريكي، لكن عندما يرون أنها استنفدت دورها ينقلبون عليها كما فعلوا مع الجماعات الجهادية من قبل في أفغانستان، حيث كان الأمريكيون يعتبرون المجاهدين مقاتلين من أجل الحرية عندما كانوا يواجهون الخطر الشيوعي، لكن عندما زال الخطر الشيوعي تحول المجاهدون في نظر أمريكا إلى إرهابيين لا بد من ملاحقتهم وسحقهم في كل أنحاء العالم.

ويجادل الكاتب ماجد كيالي أنه «لا يمكن إحالة صعود نفوذ إيران في المشرق العربي إلى قوتها العسكرية، إذ إنها أخفقت في حربها مع العراق (1980ـ1988)؛ ولا إلى قوتها الاقتصادية، إذ ثمة دول إسلامية -مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا- أكفأ منها وأفضل اقتصادياً؛ ولا إلى نموذجها في الحكم، إذ هي دولة دينية طائفية ومذهبية منذ قيامها (1979) وفق وصفة الولي الفقيه.. ولا شك أن العامل الرئيسي الذي مكن إيران من التغلغل في المنطقة هو قيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق واحتلاله عام 2003، والذي تم بالتوافق مع حكام طهران مثلما حصل في الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001.» بعبارة أخرى، كان ثمة عوائد أمريكية -وتالياً إسرائيلية من السماح لإيران بالتدخل في المنطقة – أهم وأكبر وأعمق تأثيراً من ضرر تلك الادعاءات أو تلك المقاومة. ويضيف كيالي.: «لقد ثبت في ميدان التجربة -وليس فقط بالتحليل السياسي- أن ذلك السماح الأمريكي والإسرائيلي كانت غايته تحديداً استدراج إيران للتورط والاستنزاف في البلدان المذكورة، وتالياً توظيف هذا التورط في تقويض بنية الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة لإسرائيل، ففي المحصلة؛ أدت السياسات التي انتهجتها إيران في المنطقة إلى إثارة النعرة الطائفية المذهبية، وشق وحدة مجتمعات المشرق العربي بين «شيعة «و»سنة»، وإضعافها وزعزعة استقرار دولها، وهو الأمر الذي لم تستطعه إسرائيل منذ قيامها…..والأهم من ذلك أنها استطاعت -عبر تلك الإستراتيجية- إفقاد إيران نقاط قوتها بكشـف تغطيها بالقضية الفلسطينية، وفضح مكانتها كدولة دينية ومذهبية وطائفية في المنطقة، بعد أن استنفدت دورها في تقويض وحدة مجتمعات المشرق العربي، وإثـارة النـزعة الطائفية المـذهبية بين السنّة والشيعة، إذ لم يعد أحد ينظر لإيران باعتبارها دولة مناهضة لإسرائيل، أو كدولة يجدر الاحتذاء بها. وفوق ذلك؛ نجحت الولايات المتحدة في تأمين بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل عقودا من الزمن، بعد تفكّك الدولة والمجتمع وخـرابهما في أهـم دولتين في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق».

لاحظوا كيف انقلب الرئيس الأمريكي الجديد على سياسة أوباما تجاه إيران، وفي واقع الأمر هو ليس انقلاباً بقدر ما هو مرحلة أمريكية جديدة للتعامل مع إيران بعد أن أدت مهمتها. وتأتي زيارة ترامب إلى السعودية واجتماعه مع ستة عشر زعيماً عربياً وإسلامياً في إطار الخطة الأمريكية الجديدة للتعامل مع إيران وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.

هل نجح الأمريكيون في توريط إيران في المستنقعات العربية كما نجحوا من قبل في توريطها في الحرب مع صدام حسين؟ لو فعلاً بدأ الأمريكيون والإسرائيليون العمل على قص أجنحة إيران في المنطقة، فهذا يعني حتماً أن الإيرانيين بلعوا الطعم الأمريكي مرتين، الأولى عندما خاضوا حرباً ضد العراق لثمان سنوات، والثانية عندما تغلغلوا في سوريا ولبنان واليمن وتبجحوا باحتلال أربع عواصم عربية. وعلى ما يبدو؛ فإن تحجيم إيران ليس مطلبا أمريكيا وإسرائيليا فقط، بل بات مطلباً دوليا وإقليمياً حسب كيالي؛ فهو يتوافق مع رغبة روسية وتركية أيضاً، لا سيما أن روسيا تعتبر سوريا ورقة في يدها، لا في يد إيران التي تنافسها على ذلك.

باختصار ليس هناك دول مقدسة في المفهوم الأمريكي، فالجميع بما فيهم إيران مجرد أدوات وظيفية تؤدي دورها حسب المصلحة الأمريكية ثم تتنحى جانباً. فهل انتهى الدور الإيراني في المنطقة يا ترى، أم أن الأمريكيين مازالوا قادرين على استغلال البعبع الإيراني لتحقيق مزيد من الأهــــداف قبل أن يقصوا أجنحته تماماً؟

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
محارق للجثث... جثث للمحارق

قبل بناء المحارق للجثث، بنى النظام السوريّ جثثاً للمحارق. سياسته المديدة هذه شاءت تحويل البشر الأحرار مشاريع جثث، أي بشراً يُحرمون حرّيّاتهم. يُحرمون كراماتهم ورفاههم وتعليمهم. لأيّ شيء يُرشَّح أمثال هؤلاء؟ للحرق فحسب، للحرق كرمى لاستمرار ذاك النظام، كرمى لـ «قضاياه».

بناء المحارق، في هذا المعنى، وقبل أن يكون عملاً صناعيّاً «مستورداً»، بدأ عملاً سياسيّاً «أصيلاً»: السوريّ الذي يصنعه الأسدان، الأوّل والثاني، تبقى حياته في يديهما، تستردّانها في أيّة لحظة تشاءان ذلك. تستردّانها بالطريقة التي تختارانها.

هنا، تعمل ديناميّتان: الأولى، ترفض السياسة بوصفها لعباً وخلافاً في وجهات النظر. تُحلّ، في المقابل، نظرة توحيش إلى السياسة: وطنيّ وخائن، شريف وعميل، قاتل ومقتول. الحيّز السياسيّ ينبغي أن يبقى ساخناً لا يبرد، معبّأً لا يسترخي. القداسة التي تُسبغ على «القضايا» أكثر ما ينقل السياسة من كونها لعباً إلى صيرورتها توحّشاً: هل يُعقَل أن نتحمّل وجهة النظر الأخرى وهناك إسرائيل؟ وهناك أميركا؟ وهناك المؤامرة التي تنوي اجتثاثنا؟ هل يُعقَل أن نؤنسن «العدوّ»؟ هل يُعقل أن نتنازل عمّا هو مقدّس؟

الردّ باجتثاث السياسة يفضي إلى تجثيث البشر: إنّهم «مقاومون» «شرفاء» «وطنيّون» «بواسل»، وقد ينقلبون في ظروف أخرى إلى «عملاء» «جواسيس» «خونة». لكنّهم، في مطلق الحالات، ليسوا أفراداً ذوي آراء ومواطنين ذوي حقوق. «المجد» لهم، لا الحرّيّة والخبز والتعليم، أو الموت لهم.

«داعش» أحد ثمار هذا النهج الذي اتّبعه نظاما الأسدين في سوريّة وصدّام في العراق. في عقارب الصافية، قرب السلميّة، كان آخر استعراضاته للسياسة بوصفها مذبحة.

الديناميّة الثانية تنجرّ عن الأولى وتكمّلها: «الشعب» الذي يصنعه الأسدان «واحد». لا تعدّد فيه ولا اختلاف ولا تمايز. البعد الآحاديّ والتصحّر السياسيّ وإرجاع البشر إلى خامهم الأوّل: هذه بداية المحرقة قبل إشعال النار. إنّه الجوهر القوميّ المزعوم، سلباً وإيجاباً.

لقد ذكّرنا مؤخّراً تعريب كتاب الباحث الفرنسيّ الراحل ميشيل سورا «سوريّة الدولة المتوحّشة» (الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر) بكلمات ووقائع تدلّ إلى النزعة هذه، نزعة إنقاص الإنسانيّ في الإنسان، والفرديّ في الفرد، وصولاً إلى الإنسان – الجثّة. حافظ الأسد لم يقتصد في التعبير مبكراً عن ذلك: مثلاً، في رغبته إعفاء طلاّب موالين من الامتحانات الدراسيّة واستخدامهم بما يفيد النظام، رأى أنّهم «يتصدّون لمؤامرات الإمبرياليّة والرجعيّة، وليس لديهم الوقت الكافي للدراسة». إذاً لا للمدرسة، نعم للقضيّة والمقدّس. شقيقه رفعت، وكان لا يزال الرجل الثاني في النظام، كتب في افتتاحيّة ليوميّة «تشرين»، في 1 تمّوز (يوليو) 1980، مبدياً استعداده للتضحية بمليون مواطن في سبيل إنقاذ الثورة.

بالمناسبة: ميشيل سورا، موثّق تلك الوقائع والأقوال، ومحلّل الطبيعة «المتوحّشة» لنظام الأسد، اختطفه في بيروت، أواسط 1985، الحلفاء اللبنانيّون الخلّص للنظامين السوريّ والإيرانيّ. مات بين أيديهم فاحتفلوا بتحوّله إلى جثّة. رموا الجثّة فلم تُكتشف إلاّ بعد سنوات.

لكنْ متى بدأ الانتقال من معادلة «الجثث للمحارق» إلى معادلة «المحارق للجثث»؟ فقط حين توقّفت قدرة النظام السوريّ على صنع الإنسان – الجثّة، حين ثار السوريّون رفضاً لتجثيثهم، بدأ الطور الصناعيّ. في البدء كان الكيماويّ. بعد ذاك أقيمت المحارق.

العقل الساخن في طوره الأوّل، والبارد في طوره الثاني، أنجز ما سمّاه هوركهايمر «تحويل المجتمع إلى طبيعة ثانية أقسى من الأولى». لكنّه إذ يمارس قسوته هذه فإنّه لا يفعل إلاّ الخير والضرورة. أليسوا جثثاً أولئك الذين يُحرقون؟ أوليس حرق الجثّة تكريماً للإنسانيّة، إن لم يكن تكريماً للجثّة نفسها أصلاً؟

إنّ الهراء «الوطنيّ والقوميّ والتقدّميّ» الذي كتبه وقاله مناصرو الأسد، سنة بعد سنة، لا يعلن إلاّ هذا: أنّ السوريّين، وقد أحيلوا جثثاً، يستحقّون موتهم. أنّ قتلهم قتل للشيطان الذين هم أنساله. يقيم فيهم. يقيم في هويّتهم. في ثقافتهم. في وجوههم. في ملابسهم. في تخلّفهم... إلى المحارق دُر!

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
لكنْ ما الذي تريده موسكو من مناطق خفض التوتر؟

وافتتحت المشروع بتأهيل كامل لساعة المدينة وساحتها، وتأهيل هيكل الساعة وشوارعها وأرصفتها والساحة الخلفية لها بعد أن تعرضت للقصف عدة مرات حيث تعتبر هذه الساعة رمزاً للمدينة وتعتبر ساحتها مركز إشعاع الحياة فيها.حين ترعى موسكو عملية تهجير مقاتلي حي برزة الدمشقي وعائلاتهم بعد هدنة ومساكنة مع النظام دامت سنوات، وشكلت بشروطها المنصفة نموذجاً يحتذى، وتستتبعها بمقاتلي حيي تشرين والقابون المجاورين، وحين يتكشف المشهد الراهن عن توازن قوى، بات يميل في غير مكان، لمصلحة النظام وحلفائه معززاً خيار الحسم العسكري، يبدو محط استغراب توقيت اتفاق الآستانة الذي أبرمته روسيا وتركيا وإيران، كدول ضامنة للتنفيذ، والقاضي بإقامة أربع مناطق لتخفيف التوتر أو خفض التصعيد في سورية، تشمل مدن وقرى محافظة إدلب وعدداً من البلدات في أرياف اللاذقية وحلب وحماة ومواقع محدودة في الريف الشمالي لمحافظة حمص، إلى جانب الغوطة الشرقية وبلدات في محافظتي درعا والقنيطرة.

لا يخطئ من يرى في الجديد الروسي خطوة استباقية تتحسب من سياسة أميركية نشطة في سورية، وكمحاولة للالتفاف على فكرة المناطق الآمنة التي بدأت تأخذ زخماً جدياً بعد ترحيب إدارة البيت الأبيض الجديدة بها، وبعد الضربة التي وجهتها واشنطن لمطار الشعيرات وتعزيز مساندتها لقوات سورية الديموقراطية، ثم تطوير حضورها في دير الزور والجنوب السوري ومناوراتها العسكرية الأخيرة عند الحدود الأردنية، في رهان من جانب الكرملين على إغراء الغرب بأن تخمد مناطق خفض التوتر موجات النزوح، وتشكل ملاذاً للاجئين يلجم اندفاعهم نحو البلدان الأوروبية، ما يؤخر اللجوء إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بتشكيل مناطق آمنة وحظر جوي، بخاصة أن مناطق خفض التوتر لا تقتضي موافقة أممية، ولا تستدعي تعطيل فاعلية سلاح الجو الروسي، ويمكن الاستناد إليها لتحسين صورة موسكو عالمياً ومحاصرة تنامي دور المعارضة الروسية الرافضة لسياسة بوتين الخارجية وما استدعته من عقوبات اقتصادية مؤلمة.

ويصيب من ينظر إلى الأمر كفرصة لتمكين الكرملين من احتواء الطرفين الإقليميين الأكثر تأثيراً في الصراع السوري، وهما تركيا وإيران، حيث يلبي الاتفاق رغبة أنقرة في المشاركة بالحل السياسي وتوسيع نفوذها عربياً، والأهم حاجتها الأمنية لعزل الأكراد السوريين عسكرياً، ما يفسر مسارعة قيادة pyd لرفضه على أنه يمهد لتقسيم سورية، كذا، وزاد حماس أنقرة لتبني الاتفاق استمرار تحفظ واشنطن على مشاركتها في معارك الرقة، وما أشيع عن تسليحها لقوات سورية الديموقراطية، بينما تبدو طهران مكرهة على الاحتماء بالحليف الروسي وتنفيذ أجندته السورية في ظل تصاعد هجوم البيت الأبيض على دورها في المنطقة، فكيف الحال إن ساهم الاتفاق بتبييض صفحتها الدموية وجعلها جزءاً من الحل، وغض النظر عن حضور الميليشيا التابعة لها في ميادين القتال.

وأيضاً لا يجانب الصواب من يدرج الاتفاق في سياق مراعاة هواجس إسرائيل الأمنية، كونه يتضمن خفض التوتر في مناطق تهمها على الشريط الحدودي مع مدينتي درعا والقنيطرة، ويفسح في المجال لتفاهمات مع موسكو، تضمن أمن تل أبيب وسلامة حدودها، وتجهض احتمال شن حرب تكتيكية ضدها من الجولان المحتل من دون إغلاق الأجواء السورية أمام طائراتها كي تقوم بما تراه مناسباً ضد قوات النظام و «حزب الله».

وأخيراً لا يخطئ من ينظر إلى الأمر من قناة حذر موسكو من الغرق في المستنقع السوري، متوسلة تخفيف حضورها العسكري إلى أدنى درجاته والالتفات نحو تعزيز فرص هيمنتها السياسية البعيدة المدى، يحدوها استثمار الاتفاق لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.

أولاً، الإفادة من أجواء التهدئة والأمان النسبيين اللذين يرافقا تنفيذه لتثبيت الوقائع العسكرية التي أنجزت، ووضع الرؤية الروسية لمعالجة الصراع على نار حامية، والعمل، بحجة الحفاظ على الدولة، ليس فقط لتشجيع التعاطي مع سلطة عزلها عنفها الدموي المفرط، وإنما لتمكينها أيضاً، بدليل حرص روسيا على استثناء المواقع التي تهدد النظام أمنياً في محيط العاصمة والمدن الحيوية، تحسباً من فرص انتعاش العمل العسكري فيها إن حصلت تطورات غير محمودة، من دون أن تعبأ إن أفضى ذلك إلى تثبيت مشهد تقسيم البلاد أو تقاسمها بين السلطة والمعارضة، حتى لو ادعت أنه عابر وموقت وثمن يتوجب دفعه لنجاح وقف إطلاق نار مستدام.

ثانياً، الرهان على أن يسهم اشتراط الاتفاق أولوية مكافحة الإرهاب ومواجهة «داعش» وهيئة تحرير الشام، في زرع البلبلة بمناطق المعارضة، وخلق شروخ سياسية أكثر حدة في أوساطها مؤججاً بين فصائلها المزيد من المعارك البينية، من دون أن نغفل دور التهدئة وعودة الحياة الطبيعية في كشف الحالة البائسة التي يعيشها البشر في مناطق سيطرة معارضة عجزت، وطيلة سنوات، عن إدارتها سلمياً، ما يفتح الباب موضوعياً لربط الخيارات التنموية والإدارية لتلك المناطق بعجلة النظام المتحكم بحاجاتها وخدماتها، ويزيد الطين بلة، ويثقل حجم التحديات في مدينة إدلب وأريافها، استمرار اختيارها كملاذ رئيس لترحيل المقاتلين وتهجير أسرهم.

ثالثاً، الإفادة من الاتفاق كغطاء لتمرير بعض الأعمال العسكرية التي تساعد الكرملين لإعادة تشكيل المشهد، وهو أمر هين ومجدٍ الاستقواء بذريعة مواجهة «داعش»، أو محاربة هيئة تحرير الشام التي تتداخل مواقعها مع مواقع مختلف فصائل المعارضة المسلحة، كي تسوغ موسكو وحليفاها، النظام السوري وإيران، خروقاتهم للاتفاق، ويمدوا سيطرتهم على قطاعات من مناطق شملها الاتفاق.

وبين نظام خانع لا يمكنه تخطي مشيئة الكرملين، ومعارضة لا بد أن تنصاع لتصريح أردوغان بأن الاتفاق فرصة تاريخية لإنهاء الحرب، يحضر السؤال: هل تتمكن موسكو عبر مناطق خفض التوتر من تعزيز تحكمها بالملف السوري، أم قد تخترق المشهد معطيات جديدة، أهمها نهج لواشنطن يسعى إلى تغيير قواعد التعاطي مع الصراع السوري، متوسلاً الضغط الجدي والحازم لوقف العنف ودفع مسار الحل السياسي، وربما تطوير نوع من المشاركة الأميركية الفعالة فيه، ممهداً لرعاية أممية جدية لمعالجة هذه المحنة المؤلمة، تلغي التفرد الروسي في تقرير مصير البلاد!

اقرأ المزيد
٢٠ مايو ٢٠١٧
تهديد الأردن بعد تخريب سوريا والعراق

رضوان السيد-قبل أسبوعين فاجأ بشار الأسد المشهد الإقليمي بالهجوم الصاعق على الأردن، بحجة أنه يسير في مخططات أميركية ضد سلطة بشار الأسد. ورَّد الأردنيون بأنهم وخلال خمس سنوات من تفاقم الأزمة والحرب في سوريا، واقتراب المسَّلحين من حدودهم، ما دخل إلى الأرض السورية جندي أردني واحد. بل كان هّمهم حراسة الحدود من المسلحين، واستقبال اللاجئين الذين طرد معظمهم بشار الأسد حتى صاروا ملايين لجهات الأردن ولبنان وتركيا. لكْن منذ أسبوع وأكثر بدأت طلائع من الجيش الأسدي والحرس الثوري الإيراني وكتائب «حزب الله» تقترب من الحدود الأردنية وسط قصف مدفعي وغطاء جوي كثيف. وقد رَّد الأردن بأنه لن يسمح بأن تهدد حدوده وأمنه الميليشيات الطائفية إلى جانب الإرهابيين!

وقد حصلت تطوراٌت أُخرى لجهتي لبنان والعراق. فقد أعلن حسن نصر الله أنه سحب قواته عن الحدود مع سوريا من داخل لبنان وسّلمها للجيش اللبناني، مع بقاء قواته بداخل سوريا. وقد احتار المراقبون في تفسير تصرف «حزب الله» هذا؛ فهل كان تصرفه شكليًا أو إعلاميًا باعتبار أن قوافل سلاحه الآتية من سوريا عبر العراق أو عبر إيران مباشرة تتعرض للضربات الإسرائيلية، وقد يتردد الإسرائيليون في ضرب قوافل السلاح خلال خطوط الجيش، وبخاصة أّن الجيش اللبناني أعلن عن تسلم عشرات المراكز من الحزب بالفعل؟! أم إّن الحزب احتاج إلى مسلحيه في «الجبهة الجنوبية» باتجاه الأردن، ولذلك أحَّل الجيش اللبناني محَّله، وقد كان الجيش اللبناني طوال السنوات الماضية يعمل بمثابة رديف للحزب في منطقة عرسال وما حولها، بل وفي جنوب لبنان؟

وما طال الأمر على هذا التساؤل، فقد أعلن «الحشد الشعبي» الذي صار جزءًا من الجيش العراقي عن اقتراب عسكره من الحدود السورية والأردنية بحجة طرد «داعش» وإحكام الحصار على تلعفر البعيدة نسبيًا عن حدود الأردن وسوريا.

وهكذا فقد اتضح الأمر، وهو اتجاه الإيرانيين وميليشياتهم لتهديد الأردن من جهتي سوريا والعراق، مستعيضين بذلك عن الاقتراب من الحدود مع إسرائيل في الجولان والقنيطرة وجبل الشيخ، لأّن الرَّد الإسرائيلي كان دائمًا سريعًا لهذه الجهة، وبالمدفعية والصواريخ والطائرات. وقد عّبر الطرفان السوري والإسرائيلي في كل مرة عن سخطهما وقلقهما للجانب الروسي، لكّن روسيا ما حمت الأرض السورية والميليشيات الإيرانية من الغارات الإسرائيلية. ولذا، فإّن هذا «التقرب» الإيراني الأسدي من الحدود الأردنية، ومن المثلث الحدودي العراقي – الأردني – السوري، المقصود به تهديد الأردن بعد أن تعذر عليهم تهديد الإسرائيليين فيما بين جنوب لبنان وجنوب سوريا. ولماذا الآن؟ ربما للحذر من متغيرات السياسة الأميركية، وإمكانية تهديد النظام السوري وميليشياته الإيرانية من جهة الأردن، أو لأّن خرائط مناطق النفوذ الخارجي في سوريا قد بدأت بالظهور والتحدد.

في المفاوضات الأميركية – الروسية المتجددة، قال الروس إنهم يريدون تعاونًا مع الولايات المتحدة في عهد ترمب في حّل الأزمة السورية، إنما بما يحفظ «مصالحهم» في سوريا وأوكرانيا. في أوكرانيا قالوا: إنهم يريدون أمرين اثنين: وضع خاص لشرق أوكرانيا الذي فيه أقلية روسية كبيرة، ونسيان مسألة جزيرة القرم التي ضموها إلى روسيا وأنشأوا جسرًا يربطها بالأرض الروسية.

ماذا يريد الروس في سوريا؟ العجيب أنهم سّلموا للولايات المتحدة بسوريا الشمالية من شرق حلب وإلى الحدود التركية، وهي المناطق التي فيها البترول وفيها المياه والزراعة القائمة على سّد الفرات ومن حوله.

ويخوض الأميركيون الآن صراعاٍت ومفاوضات للتوفيق بين مصالح حلفائهم الأكراد، وحلفائهم الأتراك. بيد أّن الطرفين محتاجان إلى رضا الولايات المتحدة التي اختارت حتى الآن «قوات سوريا الديمقراطية» للاستيلاء على الرقة بعد سقوط مدينة الطبقة وسّد الفرات بأيديهم. ولا يزال إردوغان يراهن على إقناع ترمب في زيارته للولايات المتحدة، بأّن الحلف مع تركيا الأطلسية، أجدى من الرهان على الميليشيات الكردية التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا تنظيمًا إرهابيًا وخطرًا على أمنها الداخلي.

ومرة أُخرى: ماذا يريد الروس في سوريا، أو أين مصالحهم فيها التي ينبغي احترامها؟ الظاهر حتى الآن أنهم يعتبرون مصالحهم متركزة من قاعدة حميميم وإلى حماة وحمص والساحل باتجاه اللاذقية وطرطوس.

وبالطبع، فإّن هذه المناطق الشاسعة ينبغي أن تبقى تحت سيطرة النظام الموالي لروسيا، وهو حتى الآن نظام الأسد. وفي هذه المناطق وجوارها تقع معظم مساحات المناطق الأربع التي تسميها روسيا مناطق خفض التوتر. ومع أّن المعلن أّن هذه المناطق سيتوقف فيها القتال، لكّن المنتظر أن يجري قضمها من جانب النظام السوري والروس بحيث تخضع بالكامل لسيطرة النظام الظاهرة بالمصالحات أو بالتهجير أو بهما معًا.

وسط هذه الخرائط المتبلورة لتقسيم سوريا مناطق نفوذ، ماذا يبقى لإيران التي استثمرت استثماراٍت بالغة الهول بالمال والأرواح في النزاع السوري؟! تتحدد منطقة النفوذ الإيرانية أو ما يتوقعه الإيرانيون: من جوار حمص وإلى القلمون ودمشق باتجاه الحدود الأردنية، وهي المناطق التي صارتُتعرف بالجبهة الجنوبية. وفي هذه المنطقة الممتدة على مساحة أكثر من مائتي كيلومتر تقع ضواحي دمشق الغربية التيُتخلى الآن من سكانها كما حصل ويحصل بالزبداني ومضايا والقابون ووادي بردى الذيُيزّود دمشق بالمياه. ولذا، فإّن الإيرانيين يتمددون الآن باتجاه الجنوب إلى الحدود الأردنية، ويلاقيهم حلفاؤهم في العراق بالاتجاه إلى الحدود السورية والأردنية، التي يقصفها الطيران العراقي بحجة إخلائها من «داعش».

ويساعدهم في ذلك ثلاثة أو أربعة آلاف من مقاتلي «حزب الله» الذين تركوا دواخل لبنان الحدودية لرديفهم وحليفهم الجيش اللبناني العظيم المنهمك من رأسه إلى أخمصقدميه في مكافحة الإرهاب!

كل المشاركين في الحرب السورية، يحاولون الآن تحويل مناطق قتالهم أو نفوذهم أو طموحهم إلى خرائط على الأرض. وقد تحددت بعض الخرائط، وهناك خرائط أُخرى تتجه إلى التحُّدد. وما عادت للمسلحين السوريين قوى معتبرة تستطيع المقاومة أو حتى انتزاع منطقة والاستقلال بها مثلاً. وهذا إذا استثنينا منطقة إدلب وجوارها حيثُيرَّجح أن تتآكل بسبب وجود «جبهة فتح الشام» فيها. أّما مناطق العلوشيين («جيش الإسلام») بشرق دمشق وبعد أن تهادنوا مع النظام لسنوات، فهم يشتبكون الآن مع «فيلق الرحمن» حليف المتطرفين؛ كما يقال، ربما لتسهيل دخول قوات النظام السوري وميليشياته إليها!

جنوب سوريا إذن فيما بعد دمشق ودرعا وبجوارها، يراد له أن يكون حصة إيران. في حين يبقى الجولان منطقة حماية إسرائيلية، وفيه خليط من الداعشيين والنصرويين وقوات النظام السوري يعيش بعضهم بجوار بعض بسلام، باستثناء مناوشات تضبطها إسرائيل. وقد نجح النظام حتى الآن في إبقاء سيطرته على ما وراء الجولان من جبل الدروز أو جبل العرب. فيا لسوريا، ويا للعرب!

اقرأ المزيد
٢٠ مايو ٢٠١٧
صالح القلاب: الحدود الأردنية ـ السورية.. هل الحرب أولها كلام بالفعل؟

و معنى لم يتعال دوي طبول الحرب على الحدود الأردنية – السورية منذ عام 1980، عندما حشد حافظ الأسد جيشه على الجانب السوري في هذه الحدود، بحجج تشبه الحجج التي يرددها ويتذرع بها «ولده» الآن، كما أصبحت عليه الأوضاع منذ ما بعد الضربة «التأديبية» التي وجهتها الولايات المتحدة إلى مطار «الشعيرات» العسكري، رداً على جريمة استخدام هذا النظام، بدعم إيراني وتأييد روسي، الأسلحة المحرمة دولياً ضد خان شيخون، وحيث تحول التركيز من الجبهة الشمالية إلى الجبهة الجنوبية، والدفع بمزيد من مجموعات «حزب الله» اللبناني وفيلق القدس الإيراني، وكثير من الميليشيات الطائفية والمذهبية والإرهابية ومن بينها «داعش»، في اتجاه حدود الأردن، وبخاصة في المنطقة الملامسة لمنطقة درعا في سوريا.

والأخطر أن الأمور قد تطورت في اتجاه مزيد من احتمالات الصدام العسكري، عندما بادرت وحدات «مجوْقلة» ترافقها أرتال من «المشاة» من جيش نظام بشار الأسد ومجموعات من «الميليشيات» الطائفية الإيرانية ومن «الحشد الشعبي» العراقي، كما تقول بعض المعلومات، إلى ملء الفراغ الذي ترتب على انسحاب «داعش» من المناطق الواسعة المتقابلة على الحدود الأردنية – العراقية، المتاخمة للحدود السورية الأمر الذي اعتبره الأردن، ومعه بعض «الأشقاء» العرب وبعض «الأصدقاء» المعنيين بكل ما يجري في هذه المنطقة، تهديداً مباشرا وفعلياً له، وبخاصة أنه جاء في هذه المناطق الحدودية الحساسة.

وخلافاً لما يراه الذين يقولون إن سبب هذه الاندفاعة العسكرية السورية – الإيرانية، التي من المستبعد جداً أن تكون جاءت من دون علم وموافقة روسيا الاتحادية، هو ملء الفراغ بعد انسحاب «داعش» من هذه المنطقة، خوفاً من أن تملأه المعارضة السورية، فإن هناك من يعتقد جازماً أن الهدف الرئيسي لهذا التحول غير المفاجئ هو السيطرة على هذا الممر «الاستراتيجي» الذي بقي يشكل «كاريدوراً» برياً لتمرير الأسلحة والذخائر من إيران، بعد توقف في بغداد وفي محطات أخرى في وسط الأراضي العراقية، إلى جيش نظام بشار الأسد وإلى فيلق القدس الإيراني والميليشيات المذهبية التابعة له، وإلى «الحشد الشعبي» العراقي بقيادة هادي العامري.

إنه لا شك في أن هذا التقدير وهذا الاحتمال وارد، وفيه كثير من الحقيقة والصحة، لكن هناك من يرى أن الأمور لا تقتصر على مجرد «تأمين» وصول الإمدادات العسكرية الإيرانية إلى جيش نظام بشار الأسد و«حزب الله» والميليشيات المذهبية التابعة للولي الفقيه وللحرس الثوري الإيراني، بل إن الهدف الرئيسي هو تهديد الأردن والضغط عليه وعلى حلفائه من قبيل تشتيت الجهد والحؤول دون أن يكون التركيز على جبهة درعا – الرمثا الحدودية التي تعتبر المنطقة الحساسة الأولى والأكثر خطورة، إنْ بالنسبة للنظام السوري وحلفائه وإنْ بالنسبة للدولة الأردنية التي لا تعتبر أن هذه المنطقة هي خاصرتها الرقيقة وفقط، وإنما الأكثر خطورة لأنها تشكل واجهة عدد من مدنها الرئيسية وأهمها مدينة إربد التاريخية.

في كل الأحوال تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ النظام السوري إنْ في عهد «الوالد» وإنْ في عهد الابن بقي يستخدم هذه المنطقة، منطقة درعا السورية والرمثا الأردنية الحساسة جداً، لـ«التحرش» بالأردن ولاستفزازه ولـ«ابتزاز» بعض الدول العربية التي تعتبر أن أمن المملكة الأردنية الهاشمية من أمنها، وهذا هو ما حصل في عام 1980، عندما أرسل حافظ الأسد جيشه إلى الحدود الجنوبية، حيث أكثر النقاط حساسية بين الدولتين الشقيقتين، التي يجب أن تكون العلاقات بينهما علاقات أخوة وحسن جوار.

وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يفتعل فيها هذا النظام مثل هذه الإشكالات التي يفتعلها الآن في اتجاه الحدود الأردنية الشمالية، بالانطلاق من الحدود السورية الجنوبية، فهذا هو ما بقي يحدث باستمرار، والمفترض أنه معروف أنَّ الجيش السوري كان قد عبر حدود الأردن غازياً أكثر من مرة أخطرها في عام 1970 عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وحيث لولا بسالة القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، وصمود الأردنيين في الدفاع عن بلدهم ووقفة الأشقاء والأصدقاء الشجاعة، لربما تغيرت معطيات كثيرة في هذه المنطقة من الوطن العربي الكبير.

وبالمقابل فإن الجيش الأردني لم يدخل الأراضي السورية «غازياً» ولا لمرة واحدة، فالمرة الوحيدة التي دخل فيها أراضي هذه الدولة المجاورة الشقيقة كان في عام 1973 عندما اهتزت معادلة القتال مع القوات الإسرائيلية في حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وكان لا بد من إرسال خيرة التشكيلات العسكرية الأردنية للدفاع عن دمشق التي غدت مهددة، والتي يعتبرها الأردنيون واحدة من أهم العواصم العربية، وأنَّ الدفاع عنها واجب ملزم، كواجب الدفاع عن عاصمتهم عمان.

إن هذا ليس من قبيل نكْء الجراح وصب الزيت على نار مشتعلة، لا سمح الله، ولكن من قبيل أن هذا النظام إنْ في عهد «الوالد» وإنْ في عهد الابن بقي يتحرش بالأردن، وبقي يرسل، وبخاصة في السنوات الأخيرة، الإرهابيين والمرتزقة الطائفيين والمذهبيين في اتجاه حدوده الشمالية، والمفترض أن الكل يذكر أن بشار الأسد قد أطلق في بدايات انفجار الأزمة السورية تهديداً قصد به المملكة الأردنية الهاشمية، قال فيه: «إن العنف وعدم الاستقرار اللذين باتت تعاني منهما سوريا سوف ينتقلان إلى بعض الدول العربية المجاورة».

وهكذا فإن الفترة الأخيرة قد شهدت دفعاً مستمراً لكثير من التنظيمات الإرهابية والطائفية في اتجاه نقاط التماس على الحدود الأردنية – السورية، وهذا هو ما جعل الأردن «يحذِّر» روسيا، لمسؤوليتها المباشرة في الصراع السوري، بما في ذلك هذه المستجدات الحدودية، من أنه لا يقبل بوجود كل هذه التنظيمات التي من بينها «حزب الله» اللبناني وكثير من التشكيلات المذهبية، العراقية والإيرانية، بالقرب من حدوده، وإنْ من داخل أراضي سوريا. والأخطر أن هذا التحذير قد تضمن تهديداً مبطناً، لا بل مباشر، بأنه – أي الأردن – قد يضطر، إن لن يُبْعد هذا التهديد عن حدوده، إلى التدخل العسكري في العمق السوري، دفاعاً عن شعبه وعن مدنه وقراه الحدودية.

السؤال هنا هو: هل من الممكن يا ترى، أن يضطر الأردن إلى إرسال قواته إلى داخل الأراضي السورية، وعندها فإن الدولتين ستنخرطان في مواجهة عسكرية مباشرة لا محالة، وذلك إنْ نفذ نظام بشار الأسد تهديده بالتعامل مع هذه القوات على أنها قوات «معادية»؟!

إن كل شيء ممكن وجائز، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الأردن قد لا يكون مضطراً إلى إرسال قواته إلى عمق الأراضي السورية، ما لم تتطور الأمور وتندلع حرب مواجهة مباشرة على الحدود العراقية – الأردنية – السورية، إذْ إن المعروف أن عمان لديها تنسيق يصل حدود التكامل مع تشكيلات فاعلة من الجيش السوري الحر الموجود داخل سوريا، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار ودائماً وأبداً أن مستجدات الأزمة في هذا البلد العربي، وبخاصة بعدما حسمت الولايات المتحدة أمورها، وأعلن رئيسها دونالد ترمب أنه مصمم على «قطع رأس رئيس هذا النظام»، قد تدفع كل هذه الأوضاع المتوترة إلى مواجهة عسكرية بين نظام الأسد والإيرانيين ومعهم روسيا من جهة، وبين الأردن ومعه المعارضة السورية وبعض أشقائه وأصدقائه من جهة ثانية. والحقيقة أن هذا غير مستبعد على الإطلاق، وبالإمكان حدوثه في أي لحظة.

اقرأ المزيد
٢٠ مايو ٢٠١٧
من الهلال الشيعي إلى البدر الشيعي: حروب متواصلة

ارتفعت وتيرة الكلام من قبل ميليشيات شيعية في العراق عن أن هدفها الأساسي ومعها إيران ليس إقامة الهلال الشيعي بل البدر الشيعي، الذي يشمل هذه المرة المنطقة العربية بمعظمها من بلاد الشام الى الجزيرة العربية. يترافق الكلام مع تكرار قادة إيرانيين، عسكريين ومدنيين، الحديث عن احتلال إيران لأربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، مما يعني امتداد النفوذ الإيراني الى شواطئ المتوسط وباب المندب. بصرف النظر عن صحة ودقة الكلام المنسوب الى إيران وميليشياتها، فصدوره لا وظيفة له سوى تسعير الحرب المذهبية بين الشيعة والسنة، والإعلان صراحة عن تواصلها الى أمد غير منظور.

 يعود الصراع المذهبي المندلع حالياً الى زمن يمتد الى خمسة عشر قرناً سبقت، وهو لم يكن قائماً على خلاف في العقيدة وعن أي طرف يمثل الإسلام الصحيح، بل كان على السلطة والنفوذ واقتسام الموارد. هذا الصراع السياسي– الاجتماعي ألبسته قوى الصراع طابعاً أيديولوجياً ودينياً بما يكسبه زخماً في التعبئة ويجعله متوهجاً في شكل دائم. دفعت الشعوب الإسلامية والعربية غالياً من الضحايا ثمناً لهذه الصراعات. وظلت تدفعه في كل محطة من محطات تجدد الخلافات بين المذاهب. لذا لا ينبع التحريض المذهبي الذي تشهده المنطقة العربية من فراغ، بل هو متجذر في الوجدان الإسلامي وقابل بسرعة لنفخ النار فيه. وهو تحريض تتلاقى فيه التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تدعي انتساباً الى المذاهب السنية، بنفس المقدار الذي تحمله تنظيمات وميليشيات تنتسب الى المذهب الشيعي. المسؤولية عن تسعير الصراع المذهبي مشتركة بين هذه الأطراف.

 في العودة الى حديث الهلال والبدر، لا بد من استحضار السياسة الإيرانية ومسؤوليتها في تصاعد الحرب المذهبية، سواء عبر قياداتها المباشرة او عبر ميليشياتها. لم تكن السياسة الإيرانية التدخلية في المنطقة العربية قائمة بالزخم نفسه قبل اندلاع الانتفاضات العربية. شكلت هذه الانتفاضات المدخل الذي أتاح لإيران أن تمد أذرعها الى مناطق النزاع. لا يمكن إنكار ما هو كامن في الأهداف الإيرانية تجاه المنطقة التي تعتبرها بمثابة المدى الحيوي للأمبراطورية الفارسية، حيث ترى إيران حقوقاً لها في هذه المنطقة، تعود الى زمن الشاه الذي احتل جزراً في الخليج، وكرست الجمهورية الإسلامية هذا الاحتلال، بل طالبت أكثر من مرة بمملكة البحرين واعتبرتها جزءاً من الإمبراطورية الفارسية.

 في سياستها تجاه المنطقة العربية، توسلت إيران التحريض المذهبي مستعيدة ذلك الصراع القديم بين المذهبين السني والشيعي. هذه الاستعادة ألهبت نفوساً شحنت بمنطق الانتقام عما حصل في سياق الخلافة قبل خمسة عشر قرناً، بحيث اعتبرت إيران أن الوقت حان للثأر، وهو لا يتحقق إلا باستبدال هيمنة سنية بهيمنة شيعية. لذا تدخلت إيران في معظم بلدان الانتفاضات خصوصاً في العراق وسورية واليمن، فشكلت فيها الميليشيات ودعمتها بالمال والسلاح، وأججت نيران الحرب المذهبية فيها، ونجحت في تحويل الحروب الدائرة الى حروب طائفية. ولم تخف تصريحات قادتها طبيعة الأهداف الحقيقية، ليس أقلها تلك التصريحات الفجة من مسؤولين إيرانيين عن أن «بغداد أصبحت مركز الأمبراطورية الإيرانية الجديدة». ولعل هذا التصريح لأحد قادة الحرس الثوري قاسم سليماني أبلغ دليل على التوجهات الإيرانية، حيث يقول: «منذ العام 40 هجري عندما قتل الإمام علي، حكم بنو أمية لمدة 80 عاماً، وبنو العباس 600 عام، والعثمانيون 400 عام، ولم يكن لدى الشيعة الجرأة بإظهار وجودهم وعقائدهم، وإن إحياء المذهب الشيعي بقيادة إيران يعطي لإيران القوة في الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية».

 لم يكن يحتاج التسعير المذهبي المندلع في كل مكان الى إدخال قضية «المهدي المنتظر» في هذا الصراع، بما يعطيه بعداً عقائدياً، ويدخله في صلب الصراع السياسي القائم. فمسألة المهدي المنتظر ليست قضية إسلامية، بل هي موجودة لدى جميع الأديان منذ أن وجدت البشرية، سواء أكانت هذه الأديان توحيدية أم غير توحيدية. وقضية المهدي قضية إيمانية وليست سياسية. وتتفق جميع الأديان على مجيء هذا المنقذ لتحقيق العدالة بين البشر ومنع استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ورفع الظلم عن المظلومين... لا يفيد المسلمين، لأي طائفة او مذهب انتموا، استحضار المهدي المنتظر واقحامه في السياسة، والتشديد على طابعه المذهبي عبر انتمائه الى فئة محددة، ثم الإعلان عن خروجه من مكة المكرمة، بما يوحي بهيمنة مذهب على آخر. وهذا ما ينبئ بتواصل هذه الحروب عشرات السنين، إن لم يكن مئاتها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)