يؤكد أحد القادة السابقين للمعارضة السورية، وهو فوق ذلك مفكر وأكاديمي معروف، في مواقفه المختلفة، على عَرض مرضي، أصيب به كثيرون من "قادة" المعارضة، إذا افترضنا وجود قادةٍ لها، يتمثل بذاكرةٍ مثقوبة، أو انتقائية، أو استعلائية، وبعقدة إلقاء اللوم على الغير، وادّعاء طهرانية في غير محلها، وإنكار أدوارٍ لا تتمحور حول شخصه.
فهذا القيادي، أو المفكر، لم يعثر "على مساهماتٍ حاولت فيها النخب السورية أن تطرح سؤالا عن مسؤولياتها، ولم تقم أيٌّ منها بمراجعة للسياسات التي طبقتها خلال سنوات طويلة ماضية"، بحسب مقال مطول نشره برهان غليون: "في الثقافة السورية والمراجعة وثقافة المسؤولية" ("العربي الجديد"، 29/7).
ومع التأكيد على أهمية المراجعة النقدية والمسؤولة والموضوعية وضرورتها، إلا أن المقال المذكور مليء بالتعميمات، ويدير ظهره لمراجعات مهمةٍ كثيرة، حصلت في الفترة الماضية.
أي متابع منصف، من أي درجة، للشأن السوري يمكن أن يلاحظ أن الكاتب أصيب بداء الاستعلاء، وتجاهل ما تطرحه شخصيات عديدة في المعارضة، وبادعائه أن خيار الاعتراف بالأخطاء لم تنتهجه أي مجموعة عمل أو شخصية من تلك "النخب" التي لا نعرف كيف يصنفها.
في هذا الموقف، يكون الكاتب قد تعمد تجاهل جملة اعترافاتٍ ومراجعاتٍ ونداءاتٍ تجاوزت الاعتراف بالأوهام الخطيرة والخاطئة التي كانت المعارضة السورية قد راهنت عليها، منذ اللحظة التي تولى هو نفسه قيادتها، (رئيسا للمجلس الوطني الذي لبس عباءة "أخوّة المنهج" ومايزال)، على الرغم من خروجه من تلك القيادة، فيما بعد، واعتبار أن كل من جاؤوا، ومن أتوا بعده، مسؤولين عن انهيارات واقع المعارضة الذي لم يتجرأ هو نفسه على اتخاذ موقف جاد وعلني ممن يمثلها، أو يديرها، أو يحدّد خطاباتها، إذ بقي حتى اللحظة أحد أعضاء مجلس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أي واحدا من المسؤولين عن واقع هذا الكيان الممثل للمعارضة. فوق ذلك، يرمي الكاتب من فعل ما يريده، أي المراجعة، قبل سنة أو سنتين أو أكثر، بأن هذا الفعل لم يأت من باب المراجعة، وإنما في أغلب الحالات للتهرّب من المسؤولية (بحسب رأيه)، وإلقائها على الطرف الآخر، من دون أن يحدّد من هو الطرف الآخر الذي يحاول الدفاع عنه!
السؤال هنا: هل المقصود الجماعات الإسلامية التي انحرفت بخطاب الثورة، وأخذته بعيداً عن مقاصدها في طلب الحرية والكرامة وحق المواطنة في دولة ديمقراطية، أم جبهة النصرة بكل تسمياتها، التي حاول، مرّة، أن يدينها على صفحته في "فيسبوك"، بعد اعلانها تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، قائلاً "لا تختلف توبة جبهة النصرة عن توبة الثعلب عن أكل الدجاج"، إلا أنه سرعان ما حذف منشوره، ليكتب أن ما حصل "خطوة في الطريق الصحيح، على شرط أن تستمر بنبذ فكرة بناء إمارةٍ على الطريقة الداعشية، والانضمام إلى ثورة الشعب". وكلنا يعرف أن بيان أمير النصرة لم يتضمن أي إشارة إلى هذه النيّةّ، بل أكد على تواصله مع أمير "القاعدة" الذي سمح له بهذا التغيير في الاسم، والإعلان عن فك الارتباط، فقط، وليس تغيير (أو مراجعة) الهدف الذي تسعى إليه "النصرة"، وهو إقامة الإمارة الإسلامية على "أرض الشام".
هكذا، فمن يطلب من المعارضة مراجعة الأخطاء يريدها في الآن نفسه أن تحذر من "التهرّب من المسؤولية في تحويل بعض الأشخاص، أو التيارات، إلى كبش فداء، ترمى عليه جميع الأخطاء، ويمكن من خلال شيطنته التخلص السهل من الشعور المؤلم بالفشل، وربما الذنب"، فعن من يدافع هنا الكاتب، ومن هو الذي خرّب الثورة السورية حقاً؟ ومن أخذها إلى مساراتٍ فوق قدرتها، وقدرة شعبها على التحمل؟ ومن هو الذي حرف خطاباتها نحو الخطابات الطائفية والمذهبية والدينية؟ ومن هو الذي تحكّم بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية؟ ولماذا لا يسمي الكاتب الكبير الأمور بأسمائها، وهو الذي يعرف الكثير.
من تجربتي الشخصية، وقد شغلت منصب نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، عاما، كانت نقطة الخلاف الرئيسية بيني وبين الهيئة السياسية والرئاسية اعترافاتي وكتاباتي عن الأخطاء التي ارتكبت بحق السوريين، طوال فترة تمثيل كيانات المعارضة الثورة السورية، الأمر الذي اضطرّني لاحقاً للاستقالة، أسوة بنخبة من أعضاء الائتلاف الذين يمثلون "التيار الديمقراطي" داخله، وتعبيراً عن ضرورة قرع ناقوس الخطر الذي يحيط بعمل المعارضة السورية، وتراخي "الائتلاف" عن دوره في الوقوف بوجه التيارات المتشددة، ومنها جبهة النصرة.
وقد كانت النخبة في "الائتلاف"، من ميشيل كيلو وأنور بدر ونغم الغادري وفايز سارة، وتيار مواطنة الذي كان يمثله موفق نيربية وآخرون، قد عملت بكل جهد لأخذ "الائتلاف" نحو المشروع الوطني الديمقراطي الذي ينبذ التطرّف، ورفعت أصواتها في كل المنابر الإعلامية، بضرورة ترك الرهانات الخاطئة، والالتفات إلى صوت المشروع الوطني الجامع الذي يبحث عنه كل السوريين، ليكون البديل الواقعي للنظام الاستبدادي، ولمعارضةٍ غرقت في فساد خياراتها السياسية، وحتى العسكرية. ولكن، يبدو أن الباحث الأكاديمي والقيادي الأول في المعارضة كان في واد آخر، لا يسمح له بالاطلاع على ما يكتب وينشر ويعلن ويقرر.
من يقرأ ما كتبه المعارض الأكاديمي، برهان غليون، من الخارج، والذي لم يتكبّد ما تكبّده غيره من السوريين، من تضحياتٍ وعذاباتٍ وأثمان باهظة، يوقن أنه (أي الكاتب) يعرف كيف يعزف على وجع الناس وآلامهم، كأن السوريين "الذين فقدوا الآلاف من أبنائهم، ودمّرت بلادهم وضاعت ممتلكاتهم" لم يعد لديهم مشكلة سوى البحث في دوافع المنشقين عن النظام، وعددهم بضعة آلاف لا أكثر، بينما "تصفح" المعارضة عن كل من بقي داخل صفوف النظام عسكراً يقتلون، أو سياسيين يمرّرون سياساته، أو مسؤولين يتمتعون بعطايا المناصب والفساد. مع العلم أن هؤلاء هم أنفسهم الذين يجلسون إلى طاولة التفاوض مع المعارضة، ليتقاسموا معها السلطة ولاحقاً المزايا، وليسوا المنشقين الذين يتوعدّهم الأكاديمي المرموق بأن لا يأملوا بأي دور لهم، لأنهم لو كان انشقاقهم بدافع البحث عن دور ومزايا لكان الأولى بهم البقاء في الجهة المقابلة الآن للمعارضة، في جنيف وأستانة، وما بينهما من اتفاقات.
وعليه، الانشقاق سواء أدى الوظيفة التي يطلبها المقال المكتوب، ربما بهدف تعطيل أو استباق المشروع الفرنسي، الذي تتوارد أخباره عن مجلسٍ مشترك، قد يكون لأحد المنشقين الذي لم تتلوث يده بالدماء منذ انطلاقة الثورة السورية في عام 2011، أو كان ردة فعل على تولي بعض المنشقين مهام في التفاوض، فإن المقال الاستعلائي يريد من المنشقين أن يحصلوا على صكّ "الوطنية" من كاتبه، غير مدركٍ هذا الكاتب، أستاذ العلوم السياسية، أن فعل الانشقاق بحد ذاته فعل سياسي، وحالة وطنية، وبديهية، تؤكد انتماء هؤلاء لشعبهم الذي قرّر أن ينال حريته، وساروا معه في خياراته بإرادتهم، على الرغم من الأثمان الباهظة، في وقت لم يكلف فيه الكاتب نفسه حتى أخذ إجازة من وظيفته، حينما تسنّم موقع القيادة رئيسا للمجلس الوطني، في أنبل وأصعب ثورة شهدها العالم.
في النهاية، هؤلاء المنشقون، على اختلاف مواقعهم، هم جزء من الشعب، لا يحتاجون صك براءة من أحد، بقدر ما يحتاجون إلى قيادة معارضة تستوعب قدراتهم، وتعمل معهم على مأسسة الكيان المعارض الذي ترأسه الكاتب، من دون أن يأخذه إلى حيث تأمل به الشارع السوري خيراً، فتركه، أي الكيان، مرتهناً لإرادة من يموّله. بل ثمّة تصرفاتٌ يخجل المرء من ذكرها حول هذا الأمر، هذا في وقت كان المنشقون فيه يتعثّرون في إيجاد لقمة عيشهم، أو فرصة عمل تحفظ كرامتهم، بعد انحيازهم الأخلاقي والسياسي لثورة الحرية والكرامة التي آمنوا بها ولايزالون، على الرغم من أخطاء لا تغتفر لقياداتٍ معارضة، رضخت للتلاعبات والتوظيفات الخارجية للثورة، وسلمتها لمشاريع وهمية تتغطّى بالإسلام، وهي التي طالما تشدّقت بالوطنية وبالعلمانية والديمقراطية.
ومع كل الاحترام للأستاذ في العلوم السياسية، فإنه لم يذهب في النقد إلى آخره، نقدٍ مسؤول ونزيه وموضوعي، إذ انتقد اتجاها معيناً، وليس له أي تأثير عملي، في حين أنه، عن قصد أو من دونه، يغطي على الاتجاه الذي خرّب الثورة السورية وحرفها ورهنها في أجندة الأخرين. وفوق ذلك، غاب عن باله أن أحد أهداف الثورة، أو تجلياتها، هو حدوث تصدّع أو تفكيكات أو تناقضات في جبهة النظام، وأن هذا ما ينبغي للثورة أن تشتغل عليه، لاستقطاب مزيد من الفئات، الأمر الذي لم تنجح فيه المعارضة السورية، بسبب هذا النمط من التفكير الضيق، والساذج. ثمّة أشياء كثيرة في المقال المذكور، لكن أكثر ما افتقده هو المراجعة النقدية وثقافة المسؤولية الأخلاقية والسياسية.
طمأننا وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الى أنه على تفاهم مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موضوع سورية، فيما كانت وزارة الدفاع الأميركية تنتهج استراتيجية استعادة الأسلحة من «الجيش السوري الحر» بعدما رفضت فصائل منه الشروط الأميركية لمواصلة الدعم، وفي طليعتها عدم قتال القوات النظامية السورية والتركيز حصراً على محاربة «داعش». حروب العقوبات والانتقامات الديبلوماسية المتأججة بين واشنطن وبين موسكو وإيران لن تثني تيلرسون ولافروف عن الاجتماع الأسبوع المقبل في مانيلا على هامش اجتماعات رابطة جنوب شرق آسيا حيث ستكون الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» أولوية قاطعة تُملي السياسات كافة. روسيا ثابتة على سياساتها، بقليل من التأقلم، كي لا تخسر شراكتها مع الولايات المتحدة في المسألة السورية إنما دون أن تتخلى عن أسس ومبادئ تحكَّمت بعلاقاتها مع كل من إيران والنظام السوري. الولايات المتحدة متقلبة، لا تقلقها سمعة الاستغناء عن الأصدقاء والشركاء حين تقتضي ذلك المصالح الأميركية، وإدارة دونالد ترامب تتخبط في تناقضاتها وتأقلمها مع البراغماتية الروسية.
بكثير من الاعتباطية كلاهما يزعم ان التفاهمات على مواجهة الإرهاب وعلى مناطق «خفض التوتر» سيليها إحياء عملية سياسية لمستقبل سورية بدستور وانتخابات ومشاركة المعارضة في الحكم بدلاً من استفراد النظام بالسلطة. وكلاهما يدرك تماماً أن لا تعايش بين حكم حزب «البعث» الذي لا يطيق ولا يتحمل تقاسم السلطة وبين عملية ديموقراطية فعلية تُنتج بديلاً من فكر «البعث» ونهجه. المعارضة السورية المعتدلة المسلحة خضعت الآن لواقع الحال بعدما خانت نفسها تارة وخانها الحلفاء والأصدقاء تارة أخرى. فهي أساساً لم تكن مهيّأة أو قادرة على محاربة محور عسكري يضم روسيا وإيران و «حزب الله» وميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني والنظام في دمشق. وهي وقعت ضحية استغناء أميركا عنها تارة وتضليلها تارة إلى جانب تجيير قوى عربية خليجية الحرب السورية لخدمة مشاريعها الإقليمية. وارتكبت المعارضة المعتدلة عدة أخطاء مصيرية، من بينها الاعتقاد أن في وسعها محاربة العدوين، النظام في دمشق و «داعش» و «النصرة» وأخواتها، فوجدت نفسها كما هي اليوم، مُطالبة بأن تحارب حصراً من كان يحارب النظام بموازاتها وان كان لغايات وأجندة لا علاقة لها بالمعارضة المعتدلة. وها هي المعارضة المسلحة، بالذات «الجيش السوري الحر»، تخضع لإملاءات أميركية وروسية وإيرانية فيما تصوغ واشنطن تراتب التكتيك تلو الآخر وبينما يحاول المخضرم نفطياً، ريكس تيلرسون، الإمساك بخيوط اللعبة الاستراتيجية التي يتقنها لافروف بحنكة، فيهرول وراءه سورياً، ويتصرف بسذاجة سهواً أو عمداً عراقياً، ويتأخر بالمبادرة خليجياً على صعيد الأزمة القطرية، ويعارك أشباح إدارة أميركية بدائية.
فوضوية إدارة ترامب لا تعني بالضرورة أنها وحدها المسؤولة عن السياسات الأميركية، لأن تلك السياسات بمعظمها تتخذها الولايات المتحدة على المدى البعيد وعلى أساس المصلحة القومية، لذلك هناك خيوط استمرارية بين ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش عبر حربه على الإرهاب في العراق، وما ترتب على ذلك من استدعاء الإرهابيين الدوليين إلى المشرق العربي، ومن تقديم العراق على طبق من فضة إلى إيران، ومن حذف العراق كلياً من المعادلة العسكرية الاستراتيجية مع إسرائيل، وبين ما لم يفعله الرئيس باراك أوباما إزاء المجازر في سورية متشبثاً بايران وبدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وغيرها لخلق الفوضى.
ريكس تيلرسون هو الواجهة الديبلوماسية لإدارة رئيس غير عادي أتى في فترة مؤرقة للدول الخليجية في أعقاب العقيدة الأوبامية التي قزّمت عمداً العلاقة الأميركية معها لصالح إحداث نقلة نوعية في العلاقة الأميركية– الإيرانية. ما حمله ترامب قبل بضعة أشهر إلى قمة الرياض من طمأنة بقلب الصفحة الأوبامية لتحل مكانها العقيدة الترامبية ما لبث أن اهتز بسبب مواقف أميركية ميدانية ازاء المشاريع الإيرانية الممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان اتسمت بالتهادنية والصمت والقبول بالأمر الواقع. اهتز أيضاً بسبب غموض الأدوار والمواقف الأميركية من الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر من جهة أخرى.
تلكأ تيلرسون في ما كان يجب أن يفعله عند اندلاع الأزمة القطرية. كان يجب أن يتحرك فوراً على صعيدين متوازيين: بتدخله شخصياً، وبتعيينه مبعوثاً رفيع المستوى. لم يفعل. عندئذ كان في الإمكان ضبط الأمور على أسس واضحة. الآن، وبعد مضي شهرين على الأزمة، باتت المهمة أصعب حتى مع تكليف تيلرسون هذا الأسبوع موفدين للقيام بها. فقد بعثت الإدارة الأميركية مؤشرات إلى كل من طرفي الأزمة جعلت كلاً منهما يفسرها لمصلحته على رغم تناقضاتها. وهذا بالتأكيد يساهم في سلبية التطورات في الخليج بمساهمات أميركية خطيرة، مقصودة كانت أو غير مقصودة.
جزء مما آلت إليه الأزمة فعلياً هو انعكاسها على مستقبل مجلس التعاون الخليجي الذي لمَّ شمل الدول الخليجية الست أمنياً واقتصادياً وسياسياً بالرغم من التباين أحياناً.
قد يقال ان تحوّل مجلس التعاون من عضوية سداسية إلى عضوية خماسية من دون قطر لن يؤدي إلى تفكيك المجلس أو حلِّه، بل قد يقال ان محور السعودية– الإمارات بحد ذاته هو بذلك الوزن الضخم إلى درجة لا يتأثر معها بتصدع أو تفكيك مجلس التعاون. واقع الأمر هو ان تفكيك مجلس التعاون الخليجي يخدم ايران ومشروعها الأمني في المنطقة القائم على تولي طهران مهمة القيادة الأمنية الخليجية، فهي التي تقرر ان كانت الشراكة الأساسية أميركية أو روسية. وهي التي تتحكم بالمنطقة الخليجية لأنها تمتلك الأدوات الأمنية في هذه الحال.
فليس صدفة ولا هو قرار إدارة عابرة أن يتم طي العداء والقطيعة بين واشنطن وطهران طبقاً لعقيدة أوباما وعلى أساس إقراره بشرعية النظام الحاكم في طهران وهو حكم ثيوقراطي يفرض الدين على الدولة ونظام يؤمن بولاية الفقيه وبحقه في تصدير ثورته. وليس مطمئناً ما تشهده المنطقة الخليجية من تلكؤ وتردد أميركي في احتواء الأزمة مع قطر كما يجب –وأميركا قادرة لو شاءت الاحتواء– بما يؤدي إلى تفريق الدول الخليجية وتفكيك عقد التكامل الأمني والاقتصادي والسياسي بينها. وليس منطقياً غض نظر أركان إدارة ترامب عمداً عن الإنجازات الإيرانية الميدانية الأساسية في مشروع «الهلال الفارسي» الذي يترسّخ في الأراضي العراقية والسورية واللبنانية.
فليس كافياً أن يصرح ريكس تيلرسون ان استمرار تواجد العسكريين الإيرانيين في سورية «أمر غير مقبول»، ذلك ان مطالبة الدول العظمى في العالم بإنهاء الوجود الإيراني العسكري في سورية يجب أن تكون لها آلياتها وبرامجها التنفيذية ضمن اطار زمني. ما نشهده الآن هو طأطأة الرأس الأميركي أمام قيام «الحرس الثوري» و «حزب الله» بفرض الأمر الواقع عسكرياً ميدانياً في الخريطة السورية، بلا أي جهد لإيقاف مشروع «الهلال الفارسي» الذي تزعم إدارة ترامب أنها تقف ضده وستمنع قيامه. أركان هذه الإدارة تعهدوا بمنع استيلاء إيران المباشر أو غير المباشر على الأراضي التي يتم تحريرها من «داعش» و «النصرة» في العراق وسورية، إنما ما يحدث ميدانياً يفيد بأنهم تراجعوا عن التعهدات باسم الأولوية الأميركية المعنية بـ «داعش».
يطمئننا ريكس تيلرسون إلى أن هذا الأمر الفائق الأهمية سيكون ضمن التفاهمات مع روسيا التي أوضحت تكراراً ومراراً أنها لن تتخلى عن حلفائها وأصدقائها في سورية. فهي تفتخر بأنها نجحت في كسب سمعة الاتكال عليها وصدق تعهداتها مقابل السمعة الأميركية بسرعة الاستغناء عن الأصدقاء والحلفاء العابرين ما عدا الحليف الإسرائيلي الذي هو حليف عضوي للولايات المتحدة وجزء من التركيبة الداخلية. ثم ان الغايات الروسية في سورية ثابتة بينما الأميركية متقلبة.
بالرغم من كل ذلك، ليس أمراً هامشياً أن يعلن وزير الخارجية الأميركي ان انسحاب القوات الإيرانية من سورية يمثل شرطاً ضرورياً لتسوية النزاع. عسى أن تكون مواقف تيلرسون جدية وان تمثّل مواقف السياسة الأميركية البعيدة المدى الدائمة وليس مجرد سياسة الاستهلاك اللفظي العابر. كذلك الأمر في ما يتعلق بوعود التسوية السياسية في سورية بعد الانتهاء من معركة الرقة ضد «داعش» ومن عملية مناطق «خفض التوتر» التي تقودها روسيا. لا يكفي ان يقول تيلرسون إن لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سورية وهو يدرك تماماً أن روسيا تختلف معه في الأمر جذرياً. فإذا أرادت واشنطن أن تؤخذ بجدية عليها إثبات الجدية فعلاً.
الوزير المخضرم سياسياً، سيرغي لافروف، لن يفرّط بعلاقة يريد ترسيخها مع الوزير المخضرم نفطياً ريكس تيلرسون، ولذلك ستكون السياسة الروسية أكثر حذراً ودقة بالذات مع بشار الأسد. موقع «بلومبرغ» الاخباري نقل عن الروس ان موسكو تريد أن يقبل بشار الأسد بـ «تقاسم رمزي للسلطة» مع المعارضة. هذا ليس أبداً ما نص عليه «بيان جنيف» وما تلاه من بيانات سياسية في آستانة أو غيرها. موسكو دعمت الأسد منذ البداية ورسخته في السلطة وكسرت شوكة المعارضة السورية وهي لن تتخلى عنه ما لم تكن هناك صفقة أميركية– روسية ضخمة تتطلب مثل هذا الثمن. هذه الصفقة بعيدة جداً الآن فيما بشار الأسد يزداد تصلباً في رفضه التنازلات وتقاسم السلطة بعدما أحرز الإنجازات العسكرية الميدانية بشراكة إيرانية وبغطاء عسكري جوي روسي، فهو يعتبر أنه انتصر، وعليه سيمسك حزب «البعث» زمام الأمور بكل حدة واستفراد وعزم على تلقين الدروس للذين تجرأوا عليه بكل أدوات الانتقام.
نُقِل عن رئيس «مجلس الشؤون الدولية» الروسي، اندريه كورتونوف، المقرب من الكرملين، قوله ان تعمّد الأسد تعطيل العملية السياسية خلق «توتراً» في العلاقة بينه وبين روسيا. وزاد: «روسيا ليست مستعدة لخوض الحرب حتى تحقيق الأسد النصر». هذا أيضاً كلام مهم، إنما ليس واضحاً ان كان جدياً أو لمجرد الاستهلاك.
الواضح ان روسيا تملك أدوات الضغط والتأثير على كل من بشار الأسد ونظامه وإيران وميليشياتها من الغطاء الجوي الذي ما زال ضرورياً للعمليات العسكرية لكليهما إلى العلاقات الثنائية مع كل منهما. موسكو لن تستعمل هذه الأدوات ما دامت السياسة الأميركية تتسم بالضعف والتردد والاستلقاء.
الغامض هو ما إذا كانت السياسة الأميركية البعيدة المدى على تلك الدرجة من الدهاء الذي يحرِّك عمداً ذلك الانطباع بأنها في المقعد الخلفي لروسيا، بينما هي واقعياً مُشبعة بالبراغماتية ضماناً للمصالح الاستراتيجية الأميركية على حساب الأعداء والأصدقاء على السواء.
يرى الكاتب السوري راتب شعبو، في مقاله "هل من سبيل لمعارضة علمانية في سورية" ("العربي الجديد" 31/7/2017) أنه "ضاعت دائماً تضحيات المعارضين العلمانيين في الهوة القاتلة بين قمع النظام والخيار الإسلامي المتربّص". ويخلص إلى أن نضالهم "لم يحقّق أي تراكم مؤثر في سياق مسعى المجتمع السوري إلى الخروج من وهدة الاستبداد والانحطاط السياسي". وفي هذه الخلاصة، لم يجانب شعبو الحقيقة التي أظهرتها سنوات الزلزال السوري، لكن ليس واقع الاستبداد وبطش النظام بمعارضيه اليساريين والعلمانيين وحدهما ما أوديا بتضحياتهم إلى الهوة القاتلة تلك، ولا إلى عجزهم عن ترك بصماتهم التي تؤدي إلى تراكم مؤثر في الوعي العام، ودفع الحراك الشعبي في المسارات التي انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية فيها إلى الوصول إلى الأهداف المرجوّة، لتحقيق شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة، والوصول إلى دولة القانون والمؤسسات.
في التاريخ الحديث لسورية، خصوصاً في العقود الخمسة الأخيرة، كانت جماعة الإخوان المسلمين أكثر تعرضًا لملاحقة النظام، بل دخلت في مواجهة عسكرية في أوائل الثمانينات، وكان رد النظام عنيفًا شرسًا، ولوحق المنتسبون إلى الجماعة، أو من يشتبه بهم، مع أقربائهم وعائلاتهم وبيئتهم الضيقة، ومن لحقته شبهة صداقة مع أيٍّ من أعضاء الجماعة، وغصّت السجون بهم، ومنهم من تمت تصفيتهم في السجون، أو غُيّبوا بطرق مجهولة. ومع هذا، بقي للتنظيم الإسلامي هذا من الفاعلية ما جعله يؤسس لمستقبلٍ ما في المجتمع السوري. نجح التنظيم في التأصيل للإسلام السياسي في المجتمع، ونجح في إعداد كوادره، كما إعداد خاماتٍ تكون بمثابة بيئات حاضنة له في صراعه ضد النظام السوري، بأي طريقةٍ تفرضها الوقائع على الأرض، ونجح أيضًا في تمكين مفهوم للدين ينبثق من رحم الإسلام السياسي، وإحلاله محل العقيدة الدينية الشعبية التي عاش المجتمع السوري بروحها منذ عقود طويلة.
باستحضار هذه القرينة، ووضعها على الطاولة مع الراهن الذي آلت إليه الحالة السورية، وسياقاتها خلال السنوات الست الماضية، منذ انطلاقة الانتفاضة، أخمن أن الأوان قد آن للنقد الذاتي الشفاف، والصارم في الوقت ذاته، فإذا كانت التكهنات تفيد أن صوت السلاح بدأ يخبو في الميادين السورية، وأن هناك إرهاصات اتفاقات أو تسويات للدول صاحبة المصالح والتأثير والفاعلية في الصراعات الدائرة، يصبح من الضروري والملح جدًّا التفكير في المرحلة المقبلة، بغض النظر عن شكل سورية المقترحة، أو التي سيفاجئنا بها أصحاب الشأن، باعتبار أن شأننا لم يعد بيدنا منذ مدة ليست قصيرة، حتى لو عادت سورية إلى حدودها الجغرافية التي سبقت الانتفاضة، أو لو صارت فدرالية أو غيرها. هناك استحقاقاتٌ على القوى المجتمعية والنخب الثقافية والسياسية المنتمية إلى اليسار أو العلمانية أو دعاة الديمقراطية الالتفات إليها والتفكير ببرامج يمكن الشروع بها من أجل حماية الشعب المنهك. ما تداولته صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية من خبر مصوّر عن اتفاقات منتظرة قريبًا، وعن وقف الحرب في نهاية العام الجاري (2017)، وإعلان دستور وتشكيل حكومة جديدة بأسماء وزرائها، قائمة على المحاصصة الطائفية، لهو أمر ينذر بكارثةٍ أخرى، حتى لو كان أداة للتضليل الإعلامي فقط، بما يضمر في بنيته من طائف جديد.
على من كانوا معارضين يساريين، أو علمانيين وديمقراطيين سابقًا، و"ضاعت تضحياتهم"، على الرغم من صدقها وحقيقتها، أن يفيدوا من تلك التجربة القاسية، أن يتلمسّوا مكامن الضعف أو الخلل التي أقصتهم عن القاعدة الشعبية، أو جعلت نشاطاتهم وحراكهم السياسي مثل الحفر على الرمال، لم تترك أثرًا في الوعي الشعبي، وإلا لماذا كان التحول الباكر في عمر الثورة إلى الأسلمة؟ ابتداءً من أسماء الجمعات أيام التظاهرات الشعبية، مرورًا بأسماء الكتائب التي ظهرت باكرًا بعد التحوّل إلى العسكرة، ثم إلى ما آلت إليه الأوضاع بسيطرة عسكرية وسياسية على الصراع؟ هذا لا يعني إغفال الأسباب الأخرى، والتي في مقدمتها الرد الباكر للنظام بالعنف على التظاهرات السلمية، ودخول أطرافٍ مساندة له، وأخرى داعمة للفصائل المعارضة، كلها سعت إلى تحويل الحراك الشعبي الطامح إلى الديمقراطية إلى عنف مسلح بدوافع طائفية، كذلك السعي الخارجي إلى أسلمة الثورة.
العنف غير المسبوق، والشراسة التي أديرت بها الحرب السورية، والأثمان الباهظة على الصعيد الإنساني التي دفعها الشعب السوري، لا بد أنها تركت براكين في الصدور على أهبة الانفجار، وهذه النيران التي تحرق الصدور، من الصعب أن تترك الوعي سليمًا من لسعتها.
كيف يمكن الإمساك بيد الشعب لإرشاده إلى طريق الدين الشعبي الإيماني، بطقوسه التي مارسها عقوداً، تشاركت فيها كل مكونات الشعب الدينية والمذهبية، كيف يمكن استئصال الشكل الإسلاموي الذي فرضته الحرب على الشعب السوري، المرتبط بالإسلام السياسي، بأطيافه المتدرّجة من العنيف إلى الأكثر عنفًا؟
ليس فقط الإسلام السياسي، بمفهومه الخاص المرتبط بالتنظيمات الإسلامية، بل الدين السياسي الذي خلّفته الحرب، صارت غالبية المكونات السورية المنتمية إلى طوائف ومذاهب متنوعة ومختلفة تمارس الدين بطريقة متعصبةٍ إقصائية، وصار التديّن أبعد ما يكون عن الإيمان، ارتبط بالصراع الوجودي المسيّس، وصار اللوثة الأخطر في وعي الغالبية. لا يمكن لوم البشر المكلومين المنكوبين المهجّرين المطرودين المشرّدين المهدّدين بوجودهم على تردّي وعيهم الوطني، فالوطن هو الأمان، أمان الحياة، هو الملجأ هروبًا من الموت، والزلزال السوري أسّس للموت الجبان المتغوّل الذي هان ورخص على الضمير العالمي.
مثلما كان هناك افتراق بالإكراه والعنف والبطش من جهة، وبعثرات التجربة من جهة أخرى في نضالات العلمانيين والديمقراطيين واليساريين قبل الحراك، كان افتراق بين المعارضة ومتطلبات الشعب الثائر. انفصال القوى العلمانية والديمقراطية عن القاعدة الشعبية، في لحظات معاناتها من الظلم والقمع، وبعدها العنف والقتل، ترك الشارع للتنظيمات الإسلامية، فأحلّت الدين السياسي محل الدين الشعبي، وصارت المهمة أصعب. إنها المهمة الأكثر احتياجًا لها، إذا أرادت القوى المنوط بها الأخذ بيد الشعب إلى بداية الدرب الذي يؤدي إلى بناء صحيح لوطنٍ دفع الشعب السوري أثمانه باهظة، ليست مسؤولية النخب العلمانية المعارضة فقط، بل النخب المصنّفة موالية، أو التي صمتت تحت ظل خيبتها. إنه استحقاق الوطن والمواطنة.
يظهر مقاتلو حزب الله في عملية عرسال في زي عسكري شبه نظامي، قد يشتبه البعض بهم فيظنهم جنودا في قوات نظامية في لبنان، تقود عملية عسكرية لإخراج مسلحين من مناطق حدودية، ولكن الجيش النظامي في لبنان لم يكن مؤهلا لا فنيا ولا عسكريا، ولا حتى عقائديا للقيام بعملية كهذه ضد مقاتلين جهاديين محترفين، متحصنين في الجبال.
فالجيش اللبناني اقتصر دوره، في السنوات الاخيرة، على القيام بدور قوات الفصل بين المتحاربين، كما حصل عند احتلال «جيش حزب الله» لبيروت، أو كما يحصل دائما بين المقاتلين العلويين والسنة، في منطقة التبانة وجبل محسن في طرابلس، وإذا تصدى بنفسه لعملية عسكرية، فإنها غالبا ما تكون عملية محدودة من مهام قوات شرطية، أو أمن داخلي، وغالبا ما يخفق بدون مؤازرة من الميليشيات الطائفية الحزبية، كما حصل في الهجوم على مقر الشيخ الأسير في صيدا، عندما قاد مقاتلو حزب الله الهجوم، ولعلنا نذكر أن آخر عملية عسكرية حقيقية تصدى لها الجيش اللبناني، كانت في مخيم نهر البارد الفلسطيني، وقد كللت بفشل باهر، إذ أخفق الجيش اللبناني في السيطرة على المخيم القديم، بعد ثلاثة أشهر من المعارك والقصف، واكتفى بحصاره بعد أن عجز عن دخوله، هذا الحصار الذي تمكن مقاتلو فتح الاسلام بسهولة من اختراقه، عندما قرروا مغادرة المخيم في عملية فجائية، ليخرجوا ويختبئوا بعدة مواقع من جبال الضنية حتى عين الحلوة، عدا من اعتقل منهم بالصدفة وقتل كالقيادي المكنى «أبو هريرة».
كما باقي الأجهزة الأمنية في لبنان الخاضعة للمحاصصة، فإن الجيش ومحكمته العسكرية وجهاز مخابراته، خاضعة لنفوذ الضباط الموارنة والشيعة، وقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات من نصيب القوى السياسية السنية، مقابل هيمنة أخرى للقوى الشيعية على الأمن العام، الذي يتحكم بالمنافذ الحدودية وشؤون الاجانب، لذلك فالجيش في لبنان يمكن اعتباره «صيغة توفيقية»، أمكن من خلاله لحزب الله وحلفائه من التيار العوني، ان يسطوا على أكبر تشكيل عسكري رسمي في البلاد، واستخدامه للهيمنة تحت شعاره ومسماه «الوطني». ليس هذا جديدا في بلد معروف بانقسامه الطائفي الحاد كلبنان، لكن الجديد ربما، هو القبول بل التأييد الحاصل من ممثلي السنة في العملية السياسية في لبنان، فالحريري وباقي الشخصيات السنية التي تتولى مواقع رسمية، تعلن تأييدها ومباركتها لكل عملية يقوم بها الجيش والقوى الامنية في مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال، رغم كل الدلائل الواضحة على ان هذه التحركات حولت الجيش إلى فصيل عسكري تابع لحزب الله، ينفذ اجندته، يقاتل حسب اولوياته، بل يعذب المعتقلين ويشتمهم طائفيا، نيابة عن حزب الله! ورغم ظهور أصوات حقوقية سنية، أو شخصيات قيادية ترفض هذه الهيمنة لحزب الله على مؤسسات الدولة اللبنانية، كاللواء أشرف ريفي، فإن القوى السنية الاخرى تبدو مستكينة تماما، أو أنها غادرت الاستكانة لمرحلة التأييد والتضامن مع الأجندة المؤيدة لحزب الله والاسد في لبنان، ليتحول وجود هذه القوى السنية في لبنان لديكور في حكومة توافقية شكلا، تجعل حزب الله وحلفاءه قادرين على حكم كل لبنان باسم هذه «المؤسسات الوطنية»، فالطائفة لكي تسود في بلادها، تحتاج دوما لمن يمنحها عباءة الشرعية الوطنية، تماما مثل حالة الجيش والقوى الامنية في لبنان، وكما العراق وسوريا أيضا.
ترتسم في الميدان السوري تحالفات موضعية أو تفاهمات، بين دول، تؤسس لمرحلة جديدة في الصراع الدائر على بلاد الشام. وقد تختزل هذه التحالفات والتفاهمات في جانب منها معادلات جديدة، تتولى واشنطن وموسكو توزيع أدوار اللاعبين الإقليميين فيها، وتشكل مؤشراً إلى تموضع جديد في التنافس على النفوذ.
آخر مظاهر التفاهمات الجديدة هو دخول روسيا على خط الاتفاق لإقامة منطقة ثالثة لخفض التصعيد في شمال حمص، بعد اتفاق منطقة الجنوب الغربي الذي كان أنجزه الجانبان الروسي والأميركي بالتفاهم مع الأردن وشاركت فيه إسرائيل عن قرب، وبعد اتفاق خفض التوتر في الغوطة الشرقية. الجديد في الموقف الروسي إصراره على أن تكون مصر، بدلاً من تركيا، ضامنة للاتفاق في شمال حمص التي بدأ سريان وقف النار فيها. الحديث جار نتيجة ذلك على إدخال قوات مصرية تساهم في إقامة نقاط تفتيش ومراقبة كما يقضي اتفاق مناطق خفض التوتر. المفاجئ أن مصر لم تكن طرفاً في اتفاق روسيا وإيران وتركيا على مناطق خفض التصعيد في آستانة مطلع أيار (مايو) الماضي.
لدخول مصر دلالات. فهي على تعاون مع النظام السوري، وعلى تحالف وثيق مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، في موقف الدول الأربع من قطر ومطالبة الدوحة بوقف دعمها المنظمات الإرهابية. ولعل الدور المصري يعطي القاهرة موقعاً في البحث عن الحلول في سورية، عندما يحين وقتها، ويتيح لها إدخال قوات سيحتاج إليها المجتمع الدولي لتثبيت هذه الحلول. ويضاف إلى خصومة مصر مع قطر الخصومة الشديدة مع تركيا، التي تستمر بدعم «الإخوان المسلمين» في مصر. قد يسأل سائل عن سبب تفضيل موسكو القاهرة على أنقرة لرعاية اتفاق شمال حمص على رغم أن خلاف الرئيس رجب طيب أردوغان مع واشنطن يتصاعد ما جعله يطلب صفقة صواريخ «أس 400» من موسكو. إلا أن الجانب الروسي يسعى إلى التوازن في علاقاته الإقليمية، ويفضل حضور دولة مثل مصر سياسياً وعسكرياً، لأن نشره الشرطة العسكرية الروسية في الجنوب وفي دمشق وفي حلب على رمزيته، بات يحمل أخطاراً بقدر تعبيره عن النفوذ لأن انفلاش مراقبيه يعرضه للانتقام. والاستعانة بقوات تركية مرفوض من النظام، خصوصاً أن لأنقرة قوات في الشمال متنازع على دورها... أما سياسياً فإن القاهرة تطمح إلى نقل الحريق السوري من أروقة الديبلوماسية الدولية إلى الجامعة العربية. وقد يروق هذا التوجه لموسكو لأنه يؤدي إلى وضع قرار مجلس الأمن الرقم 2254، لا سيما مبدأ الحكم الانتقالي، جانباً.
ومن مظاهر التفاهمات الجديدة، ما آلت إليه المعارك في منطقة القلمون الشرقي (جرود عرسال)، التي خاضها «حزب الله» ضد مسلحي «جبهة النصرة» التي لكل من تركيا وقطر حصة كبرى فيها. وهي معارك سبقها تفاوض وأنهاها التفاوض نفسه، الذي رعته كل من إيران وقطر وتركيا، وفق الاتفاق الذي شهدنا أمس آخر فصول تنفيذه، بانتقال مسلحي «النصرة» إلى إدلب، ومعهم نازحون، والإفراج عن أسرى الحزب. فمنذ أشهر ترتسم في الميدان السوري معالم التحالف الثلاثي الإيراني التركي القطري. تقاطعت مصالح الدول الثلاث على رغم اختلاف مواقفها الأصلية في سورية، لأسباب تتعلق بمواقعها وخصوماتها في الميدان الإقليمي الأوسع. تركيا وإيران تقاربتا على تزايد عوامل الخصومة مع أميركا، ولدعم الأخيرة الأكراد. وطهران والدوحة تجمعهما الخصومة الشديدة مع دول الخليج والسعودية. فرض كل ذلك تعاوناً وثيقاً في سورية، ولعبت طهران ومعها «حزب الله»، والدوحة بدالتها (مع تركيا) على «النصرة» وفصائل سورية أخرى تتحلق حولها، دوراً رئيساً في اتفاقات عدة لتبادل أسرى وجثث وانتقال سكاني (الزبداني وكفريا والفوعة) والإفراج عن قطريين خطفوا في العراق، ما سهل التواصل على الأرض بين بعض هذه الفصائل و «حزب الله» (سرايا أهل الشام والنصرة عبر بعض القنوات) بدأ منذ أكثر من سنة. فشل التفاوض في تجنيب الميليشيات المتصارعة، والحليفة لكل من هذه الدول، القتال، ولم تجد الأخيرة حرجاً في تركها تتقاتل، لتتلقف النتائج وتغلب الاتفاق. فالتعبئة الأيديولوجية لدى «النصرة» حالت دون إدراكها تفهم أنقرة والدوحة لحاجة طهران إلى تنظيف القلمون الشرقي، في سياق تقاسم النفوذ في الملعب السوري. ومع أن بعض اللبنانيين رأى في ما حصل مسرحية، فإن مصالح الدول لا تقيم وزناً لخسائر الأرواح. انتهى الأمر بتكريس تعاون الدول الثلاث، واستفاد لبنان بالتخلص من كابوس على حدوده.
يبقى انتظار كيفية تعامل التحالف الثلاثي مع الاعتراض الأميركي على تكريس إدلب منطقة نفوذ لـ «النصرة».
تتشابه أجندة كل من ميليشيات «حزب الله» و «هيئة تحرير الشام»، أو «جبهة النصرة» سابقاً، في سورية، وإن اختلفت التبعية والتوظيفات، إلا أن النتائج المأمولة من كليهما تقضي بتفشيل الحراك السوري الذي قام من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق المواطنة، وإقامة ما يسعى إليه كل طرف منهما. الجمهورية الإسلامية في إيران أولهما، تحت ما يسمى دولة «ولاية الفقيه»، والآخر «الإمارة الإسلامية»، التي تتبع «القاعدة»، أي أن كليهما يشتغل لأجندة لا علاقة لها بجغرافية سورية المعروفة، ولا بأجندة السوريين، أو بالمقاصد الأساسية التي اندلعت من أجلها ثورتهم، في أواسط آذار (مارس) 2011.
وفقاً لذلك سعى الطرفان، منذ بداية انخراطهما في الصراع السوري، إلى تغليب الصراع العسكري على السياسي، بل تحويل الصراع كلياً إلى صراع عسكري برداء طائفي، أو صراع طائفي بأدوات عسكرية، ما كان من شأنه صياغة مشهد الحرب في سورية على انها حرب سنية- شيعية، الأمر الذي منح النظام فرصة التلاعب بالصراع السياسي، وزعزعة صدقية الثورة، علماً أن تدخل «حزب الله» كان منذ الأسابيع الأولى لانطلاقة احتجاجات السوريين، بينما بدأت مفاعيل ظهور «النصرة» في سورية في نهاية عام 2011.
فمن جهته، فإن «حزب الله» الذي لا يرى في لبنان دولة مستقلة، وإنما جزءاً من الدولة الإسلامية الكبرى التي يحكمها «الولي الفقيه»، الذي تمتد ولايته بامتداد المسلمين، يعمل ضمن هذه العقائدية أيضاً في سورية، وهو لا يختلف في عقائديته تلك عن «جبهة النصرة»، التي لا تعترف أيضاً بحدود الدولة السورية، ولا بأهداف ثورتها، وهو ما أعلنه أمير «جبهة النصرة» ابو محمد الجولاني (في تموز/يوليو 2014) عند إعلان إقامة إمارة إسلامية على أرض الشام، مؤكداً أن جبهته «لن تسمح للمشاريع العلمانية والانبطاحية والخارجية» بأن تقطف ثمار الجهاد في سورية.
لا يجتهد الطرفان (الحزب و «النصرة») في اختراع مبررات لاستمرار الصراع في سورية للإطاحة بأي بارقة أمل قادمة، سواء عبر المفاوضات في جنيف أو آستانة، أو عبر اتفاقات الولايات المتحدة - روسيا فوق التفاوضية، كما حدث في اتفاق جنوب غربي سورية، بل يتابعان معاركهما المفتعلة، كما حدث في جرود عرسال، لتثبيت وجودهما، أو وجود الأطراف التي تقف خلفهما، في المفاوضات الدولية من جهة، ومتابعة مخططاتهما في عملية التغيير الديموغرافي، التي بدأت من حمص، واستمرت في ريف دمشق وإدلب وحلب، والآن في جرود عرسال، وفي جميعها كان لـ «حزب الله» و«النصرة» يد واضحة قبل عقدها، بصناعة مسببات الاقتتال، وأثناء العمليات القتالية الوحشية، ثم عبر الحصار، وصولاً إلى إجراء المفاوضات وتالياً التهجير والتغيير الديموغرافي المنشود لكليهما.
ولعل قراءة في اتفاق وقف إطلاق النار في عرسال، وما يترتب عليه من نتائج على كلا الطرفين، تبين مدى التفاهمات التي تجمع بينهما، في التوظيف والأجندة وإلحاق الأذى بثورة السوريين وشعب سورية عموماً.
على ذلك يبدو أن «حزب الله» يريد إعادة الاعتبار لوجهه اللبناني، بعد أن فقده كلياً من خلال تبنيه الصريح لمشروع «ولاية الفقيه» في سورية، وهو الذي أجّج مخاوف اللبنانيين الذين يدركون أن مشروع «ولاية الفقيه» لن يتوقف عند المهمة العسكرية للحزب في سورية. بل يعتقد بأن لزاماً عليه أن يصنع انتصاراً للحاكم وصاحب الزمان «الوليّ الفقيه» في مكان اقامته لبنان، ومن أجل تخفيف حدة تلك المخاوف أراد الحزب أن يصور نفسه كـ «المخلص» للبنانيين، المتأزمين من وجود «النصرة» على حدودهم وداخلها، وكذلك أن يتجاوب مع تلك الأصوات المنزعجة من تزايد عدد اللاجئين السوريين في لبنان، فكانت المعركة مع «النصرة»، ثم المشهد العنيف، لينتهي باتفاق وقف النار وخروج المقاتلين ومعهم بضعة آلاف من اللاجئين، الذين اشتدت عليهم الحياة وتساوت مع الموت المنتظر في إدلب، حيث «النصرة» وما ينتظرها أو في القلمون حيث النظام وعقوباته التي لا تتوقف.
على الجهة المقابلة كان لا بد من طرف آخر في الاتفاق وهو «النصرة» التي تحتاج هي الأخرى لفك الحصار عن مقاتليها، وزيادة أعدادهم في إدلب، إضافة إلى سعيها الى ايجاد حاضنة شعبية، كي تؤكد للمجتمع السوري قبل الدولي: أن مناطق «النصرة» قابلة للحياة، وأن الدرع البشرية كبيرة جداً، متوهمة بذلك أنها ستحصن سواد المنطقة من الضربة القادمة تحت مسمى الحرب على الإرهاب.
هكذا يعمل كل من «حزب الله» و «النصرة»، وفق مقتضيات الجهة الداعمة، أو الموظفة، أو الممولة، التي تبدو على ما يظهر متضررة من التوسع الحاصل في الاتفاقات فوق التفاوضية، في جنيف وآستانة، والتي تعقدها موسكو، تارة مع الإدارة الأميركية، وأخرى برعاية مصرية، وقادمة تخطو باتجاه تركيا، وكلها بعيدة من المحور الإيراني، الذي يرى نفسه أكثر وضوحاً في مرآة متعاكسة، ما بين «حزب الله» و «النصرة»، رغم اختلاف الوجهة الوظيفية، وتناغم الهدف في هدم أي مشروع لدولة ديموقراطية، تهدد المشاريع الإسلاموية السنّية منها والشيعية، التي تخدم أجندات خارجية، ولا تمت بصلة الى ثورة السوريين، وتطلعاتهم الى الحرية والمواطنة والديموقراطية.
يردد أهالي القوقاز، جنوب روسيا الاتحادية، مثلاً شعبياً ينطبق على المرء الذي يغضب نتيجة عجزه، فيقولون: «لا تلعن المرآة لأنها تريك وجهك الحقيقي»، وهو ما ينطبق الآن على غضب الروس، العاجزين على ما يبدو عن الرد بالمثل على العقوبات الأخيرة التي فرضها الكونغرس الأميركي بأغلبية ساحقة، فقد تحولت العقوبات إلى مرآة جعلت موسكو تتلمس من جديد ضعفها، بعدما حاولت في السنوات الأخيرة التصرف بمظهر القوي، وقامت بالالتفاف على أزمتها الداخلية وتصديرها إلى الخارج من خلال توترات إقليمية ودولية أمنت لها دوراً على الصعيد الدولي، لم يكن ليستمر لولا سياسات الانكفاء التي تبناها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فقد أدت العقوبات الأميركية الأخيرة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية إلى توتر روسي واضح في التعامل مع تداعياتها، وقطعت الشك باليقين بأن فرص التوافق مع واشنطن بدأت فعلياً بالتلاشي، خصوصاً بعد إعلان البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب سيوقع على مشروع العقوبات التي أقرها الكونغرس.
فبالنسبة للروس، كشفت العقوبات عن موقف المؤسسة الأميركية الفعلي الرافض لتحسين العلاقات معهم، وقطعت الطريق على رهانات الكرملين في قدرة البيت الأبيض على إمكانية التوصل إلى تفاهمات استراتيجية مع موسكو، فقد تلقت محاولات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استثمار علاقته الخاصة مع الرئيس الأميركي ضربة موجعة قضت على الأهداف التي سعى لتحقيقها من خلال هذه العلاقة، والتي راهن من خلالها على إمكانية اعتراف واشنطن بدور لبلاده في القضايا الدولية، ما يتيح أمامها العودة إلى توازن القطبين، أو إلى عالم متعدد الأقطاب. ولكن العقوبات التي وصفها بوتين بالوقحة كانت الرسالة الأميركية الأكثر صرامة لموسكو لكي تغير سلوكها، إذ تعاملت معها كما تم التعامل مع دول مارقة، مثل إيران وكوريا الشمالية، الأمر الذي لم تستسغه القيادة الروسية، ولا النخب السياسية والفكرية والإعلامية، التي عكفت منذ فترة على تعزيز التطلعات القومية الشوفانية داخل مجتمع الروس، ونجحت في إعادة الترويج لفكرة الغرب المعادي للأمة الروسية، حيث يمكن وضع تصريح وزارة الخارجية الروسية في هذا السياق، بعد أن اعتبرت «أن الأحداث الأخيرة تشهد على أن العداء لروسيا، والسعي إلى المواجهة، متجذران بشكل راسخ في بعض الأوساط المعروفة في الولايات المتحدة».
بدوره، لم يستطع قيصر الكرملين فلاديمير بوتين ضبط ردة فعله، وعلى الرغم من حرصه الدائم على الحفاظ على صورة القائد القادر على استيعاب الصدمات، فإنه في أول تعليق له على العقوبات، بدا منفعلاً، وقال: «نتصرف بشكل متحفظ جداً، وفي منتهى الصبر، لكن في مرحلة ما يجب أن نرد، لأنه من المستحيل التسامح إلى أجل غير مسمى مع الوقاحة التي يتعرض لها بلدنا». ولم يتأخر بوتين بالطلب من وزارة خارجيته إنهاء خدمات 755 دبلوماسياً أميركياً وموظفاً محلياً يعملون ضمن البعثة الدبلوماسية الأميركية، ما يعني خفض حجم التمثيل الأميركي في روسيا إلى 455 فرداً.
ولم يعد مستبعداً أن تشعل العقوبات الأميركية فتيل مواجهة أميركية - روسية غير مباشرة في عدة أماكن من العالم، فالرد الروسي الاستراتيجي على واشنطن سوف يتبلور سريعاً، وفي عدة اتجاهات، حيث من الممكن أن تلجأ موسكو إلى التصعيد في أوكرانيا، للضغط على الأوروبيين العالقين بين معضلتين؛ الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني في القارة الأوروبية من جهة، ومن جهة ثانية حماية إمدادات الطاقة من روسيا. في المقابل، ستحاول طهران استثمار الغضب الروسي، من خلال تعزيز الشراكة معها في نزاعات الشرق الأوسط، وقد بدت ملامح هذا التوافق بعدما قامت موسكو باستقبال رجل إيران الأول في العراق، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وتعاملت معه من موقع الحليف المؤثر في القرار السياسي العراقي، الذي دعاها إلى تعزيز وجودها السياسي والاقتصادي والعسكري في العراق. أما في سوريا، حيث تبرز التناقضات الروسية، فعلى الرغم من تدهور العلاقات مع واشنطن، فإن بوتين أكد أمس على تمسكه باتفاق الجنوب السوري لحماية أمن إسرائيل، لكن من المرجح أن تعيد موسكو النظر ببعض تفاهماتها مع واشنطن، وتسمح لطهران ونظام الأسد بالتصعيد العسكري للقضاء على ما تبقى من فرص لحل سلمي.
ترتفع في موسكو الأصوات المطالبة بالرد الحازم على واشنطن، وهي أقرب في لغتها إلى مفردات الحرب الباردة. ومع انتظار القادم من بلاد القياصرة، يبدو أن المنطقة مقبلة على مواجهات طويلة، تفرض على النظام العربي إعادة صياغة استراتيجياته في سوريا والعراق ولبنان، والتقليل من الرهان على موسكو، المستنزفة التي باتت شريكاً موضوعياً لطهران.
سنظل نقول إن العالم العربي بحاجة إلى ألف ثورة حتى نموت. وهذه حقيقة يجب أن نؤكدها في كل مرة نعود فيها إلى قضية الربيع العربي كي لا يعتقد البعض أننا فقدنا الأمل بالثورات. لكن، وعلى ضوء ما آل إليه وضع الثورات في سوريا واليمن وليبيا تحديداً، أليس من حقنا أن نتساءل: هل ثارت الشعوب في تلك البلدان من أجل التخلص من الطواغيت، أم إن هناك قوى إقليمية ودولية استغلت الثورات وعذابات الشعوب تمهيداً لإعادة استعمار المنطقة؟ قد يبدو هذا السؤال ضرباً من نظرية المؤامرة المتجذرة في اللاوعي العربي، لكن السؤال وجيه جداً بعد أن أصبحت تلك البلدان تحت الوصاية الإقليمية أو الدولية بشكل مفضوح.
لو بدأنا بسوريا: ماذا جنى السوريون من ثورتهم غير الظروف المأساوية التي أدت في نهاية المطاف إلى تدخل قوى إقليمية كإيران وإسرائيل ودولية كروسيا وأمريكا وفرنسا وغيرها لإعادة تقاسم النفوذ في سوريا ووضعها تحت الانتداب الدولي؟ هل يستطيع أحد أن ينكر تلك الحقيقة الصادمة الآن؟ ألم تصبح سوريا مستعمرة أو لنقل مستعمرات روسية وإيرانية وأمريكية وغيرها؟ ماذا نسمي عشرات القواعد الأمريكية والفرنسية والبريطانية والإيرانية والروسية والمحميات الإسرائيلية في سوريا الآن؟ ألا تمتلك أمريكا الآن مطارات عسكرية داخل سوريا؟ ألا تمتلك دول أوروبية كفرنسا وغيرها أيضاً قواعد عسكرية في سوريا؟ أليست المنطقة العازلة التي يتم الحديث عنها الآن في جنوب سوريا منطقة نفوذ إسرائيلية بالدرجة الأولى؟ وحدث ولا حرج عن الاستعمار الروسي الصارخ في سوريا بقيادة قاعدة حميميم في الساحل السوري التي أصبحت رمزاً فاقعاً للاحتلال الروسي لسوريا. وقد رأينا كيف أن وزير الدفاع الروسي يستقبل الرئيس السوري في القاعدة الروسية في سوريا كزائر. وقد عبر الرئيس السوري نفسه على الشاشات عن دهشته من وجود الوزير الروسي في سوريا من دون علم الرئيس السوري. وكي يخفي حرجه، خاطب الأسد وزير الدفاع الروسي قائلاً: «يا لها من مفاجأة سارة». كما شاهدنا الرئيس السوري قبل أسابيع أيضاً يزور قاعدة حميميم كما لو أنها أرض أجنبية. وكيف ننسى أن روسيا حصلت على امتيازات التنقيب عن النفط والغاز في سوريا لربع قرن قادم؟ وقبل أيام فقط وافق مجلس الدوما (البرلمان الروسي) على بقاء القوات الروسية في سوريا لنصف قرن قادم. ماذا نسمي ذلك غير احتلال واستعمار؟ هل يكفي أن يوافق النظام على الاحتلال الروسي لسوريا كي تزول عنه صفة الاحتلال؟
لقد غدت سوريا بلداً متعدد الاحتلالات، فبالإضافة إلى النفوذ الروسي الصارخ على الأرض السورية، أصبحت إيران بدورها تسيطر على مناطقها الخاصة في سوريا بعد أن ربطتها برياً بالعراق ولبنان. وفي بعض المناطق السورية صرت ترى الإيرانيين أكثر مما ترى السوريين، فهو ليس فقط احتلالاً عسكرياً، بل صار إحتلالاً إحلالياً بحيث باتت بعض المناطق في ريف دمشق وكأنها قطعة من طهران.
أما اليمن فقد صار منطقة نفوذ إمارتية وسعودية وإيرانية وأمريكية بامتياز. هناك أيضاً تقاسم للنفوذ بين قوى كثيرة متداخلة ومتصادمة. اليمنيون أنفسهم يتهمون دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها باتت تسيطر على مناطق كثيرة في اليمن بما فيها الموانئ والمطارات، لا بل إنها منعت ذات مرة طائرة الرئيس اليمني من الهبوط في مطار عدن. وهي ماضية في تحويل اليمن إلى مستعمرة إمارتية حتى في محمية سقطرى البعيدة عن مناطق الحرب في البلاد. ولا ننسى المحاولات الجارية الآن لتقسيم اليمن إلى شمال وجنوب مبدئياً وربما إلى عدة مستعمرات لاحقاً. هل تسعى السعودية بدورها إلى استقرار اليمن وإعادة الشرعية كما يزعمون، أم إن الهدف هو السيطرة على اليمن ووضعه تحت العباءة السعودية بالاشتراك مع جهات أخرى؟ باختصار شديد، لم يعد أحد يتحدث عن ثورة في اليمن، بل عن تقاسم نفوذ وتقسيم واستعمار مفضوح.
أما ليبيا فقد صارت ميداناً للصراع بين جهات كثيرة تسعى للهيمنة عليها وتقاسم ثرواتها. وقد غدا الليبيون المتصارعون على السلطة مجرد مخالب قط بأيدي جهات خارجية تستخدمهم للسيطرة على البلاد ووضعها تحت عباءتها. هل ستترك القوى الخارجية المتورطة في الصراع الليبي ليبيا لليبيين، أم إنها تدخلت أصلاً لوضع ليبيا تحت الانتداب والوصاية؟ ألم يقم الكثير من البلدان قواعده العسكرية على الأرض الليبية بمن فيهم الروس؟ هل جاء هؤلاء إلى ليبيا للسياحة، أم للبقاء فيها لوقت طويل كقوى استعمارية في إطار لعبة تقاسم النفوذ المفضوحة؟
ثارت الشعوب للتخلص من الطاغية المحلي، فجاءها طغاة أجانب. ثارت للتخلص من الاستعمار الداخلي، فعاد الاستعمار الخارجي. ثارت على الوكيل، فاصطدمت بالكفيل. هل تمتلك سوريا وليبيا واليمن سيادتها الوطنية الآن، أم صارت عملياً تحت الانتداب، إن لم نقل تحت الاستعمار؟ ماذا بقي من الثورات غير الاستعمار الجديد؟
هل هناك (سيناريو واحد) في كيف تنتهي الحروب الأهلية؟ أم أن هناك عدداً من السيناريوهات، يتدخل في حسم نتائجها عدد آخر من العوامل المتغيرة؟ وهل تاريخ الحروب الأهلية يسعفنا في رسم، ولو خطوط عريضة وإشارات، نستطيع معها التكهن بنتائج محددة لتلك الحروب الأهلية التي تخاض اليوم في فضائنا العربي؟ تلك أسئلة اجتهد كثيرون لمحاولة الإجابة عنها في السابق. فالحروب الأهلية في العصر الحديث كثيرة، ونتائجها مختلفة، وخضعت لدراسات علمية مكثفة، من الحرب الأهلية في اليونان كمثال، إلى الحرب الأهلية الإسبانية، إلى الحرب الأهلية في لبنان، إلى رواندا وباكستان وإندونيسيا، بل وحتى الصين وعدد آخر من حروب (الأهل) في القرن العشرين، وأخيراً في سوريا واليمن وليبيا والعراق في القرن الحادي والعشرين، وما ذكرت ليست الوحيدة في التاريخ الإنساني، هناك الكثير منها منذ فجر التاريخ، وحتى على الأقل الحرب الأهلية الأميركية. إنما السؤال ما هي العناصر الأشمل والمشتركة والجوهرية لتلك الحروب، خصوصاً في العصر الحديث؟ إنها في الغالب تشمل عدداً من العناصر المشتركة، منها خمسة عوامل رئيسية، تشكل قاعدة عامة لظاهرة الحروب الأهلية، من بين عوامل أخرى ثانوية.
أولاً: أن الحروب الأهلية تبدأ شرراً صغيراً في النطاق المحلي، وما أن تطول نسبياً في الزمن، وهو أمر لا مفر منه، حتى تصبح دولية، أو على الأقل إقليمية، في الحرب الأهلية الإسبانية، كانت إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية بجانب فرنسيسكو فرنكو (القومي المنشق على الحكومة اليسارية المنتخبة) إلى درجة أن الإيطاليين نقلوا بطائراتهم خمسين ألف جندي مغربي إلى إسبانيا دعماً لفرنكو، كما دعمه الكثير من الحكومات القمعية في أوروبا وقتها، على مقلب آخر دعم جوزيف ستالين (الاتحاد السوفياتي) وغيره من الحكومات، تحالف اليسار الإسباني (الديمقراطيين) باطناً وظاهراً، من المعدات الحربية، وخبراء عسكريين، إلى الاشتراك في المعارك، وكذلك حصل التدخل غير المباشر من عدد من الشعوب، إلى درجة أن ثمانمائة أميركي قتلوا في الصراع على الساحة الإسبانية، من جملة ثلاثة آلاف متطوع (القتلى أكثر من عدد قتلى الجيش الأميركي في حملة عام 2003 في العراق) رغم حياد الولايات المتحدة وقتها، وهكذا انتصر لفريق يوناني في الحرب الأهلية مباشرة بعد انتهاء الحرب العظمى الثانية مجموعة من الحكومات والأحزاب، وهو الجيش اليوناني المدعوم من الغرب، كما انتصر آخرون للفريق المضاد، الجيش اليوناني الديمقراطي الذي ناصرته عدد من دول أوروبا الشرقية، في حرب أهلية يونانية ضروس، أما في لبنان، فنجد أن التدخل الخارجي بدا واضحاً، فقد ساعدت إسرائيل فريقاً، وساعد بعض العرب فرقاء آخرين، بل انقسم العرب، فقد أمد نظام صدام حسين فريقاً بالمال والسلاح، كما أمد خصمه السياسي والآيديولوجي، حافظ الأسد فريقاً آخر بالمال والسلاح والرجال، وليس الصراع في اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا اليوم خارجاً عن ذلك السياق العام (التدخل الإقليمي والدولي) فحرب (الأجانب) في كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا ليس جديداً عن طبيعة الحروب الأهلية.
ثانياً: الحرب الأهلية تخلف دماراً هائلاً في المدن والقرى والأرياف، وتتسم بالضراوة والعنف والنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، كما تُخلف مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمختفين قسراً، والقبور الجماعية، حصل ذلك في إسبانيا واليونان ولبنان، ويحصل اليوم في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، فهناك عشرات المدن التي هدمت على رؤوس سكانها، وهناك ملايين من المُهجرين والمشردين، والكثير من مظاهر المرض والجوع، وعشرات من القبور الجماعية التي سوف تبقى مختفية لعشرات من السنوات المقبلة، وتُكتشف على مر العقود. ويظهر أيضاً عدد من الجماعات (المنفلتة) القابلة للتأجير لمناصرة فريق أو آخر، كما يقوم «حزب الله» اليوم في كل من سوريا واليمن، وجماعات عراقية مسلحة ومبتزة.
ثالثاً: الحروب الأهلية تترك ندوباً غائرة على وجه المجتمع الذي تحدث فيه، وتبقى هذه الندوب لأجيال مقبلة، تحمل الكراهية والعداء والحقد والعنصرية بين مكونات المجتمع، وما أن تسقط الآليات الإكراهية للدولة بسبب تفسخها نتيجة الحرب الأهلية حتى يُخرج الناس أسوأ ما في النفس البشرية، فيصبح القتل على الهوية، ويحتل آخرون منازل الغير، وينهب آخرون المخازن، وتضعف أو تختفي القيم الإيجابية والإنسانية، وتتفتت العلاقات الأسرية، وتسود قيم الغابة والحيوانية لدى شرائح واسعة من المجتمع، وتستشري الثارات بين المواطنين، بل وتبقى لفترة طويلة من الزمن قابعة في نفسية الأفراد والجماعات، وحتى تُورث، سواء كانت ثارات من المنتصر ضد المهزوم، أو من المهزوم ضد المنتصر، أو ثارات بين القوى الاجتماعية المختلفة المتصارعة، يصبح بعدها النسيج الاجتماعي هشاً قابلاً للعطب في أي وقت وعلى أهون سبب.
رابعاً: يلعب (الدين) و(الطائفة) و(الحزب) أدواراً مهمة في الصراع، ففريق يتحزم بالدين، وأنه المدافع عنه ضد الفريق الآخر الذي يُتهم في الغالب بأنه (لا ديني)، رغم أن معظم الصراعات من المفاهيم الدينية (المذهب)، وآخر يتحزم بالطائفة، وثالث بالحزب في وقت من الأوقات يلعب الثلاثة دوراً مشتركاً، هكذا كان فرنكو مثلاً يرى أنه يدافع عن (الكاثوليكية) ويحمل لواء المسيحية المهددة، كما حمل «حزب الله» في لبنان أول شعارات تدخله في سوريا على أساس الدفاع (عن المراقد)، أما إيران فتتدخل لأن الحرب في سوريا من أهم مقدمات (ظهور الإمام الغائب)!، وهذا ما يحدث في اليمن، فالحوثي يغطي طموحه السياسي في الهيمنة على اليمن بأنهم (أنصار الله)، بالطبع يعني أن الفريق الآخر من (أنصار الشيطان)!
خامساً: تفقد الدولة كل عناصر استقلالها، فقد اضطر فرنكو مثلاً أن يرسل مئات المتطوعين من الإسبان للحرب بجانب قوات أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية، وقبول الكثير من (الخبراء) في مؤسساتها المختلفة، بل والاعتماد عليهم، ويفقد كل من العراق اليوم وسوريا واليمن وليبيا، قدراً من (السيادة) التي كانت تتمتع بها تلك البلدان قبل اندلاع الحروب الأهلية. كما أن هذه السيادة قد ترشح للزوال، فبقاء الحكم السوري مرهون برضا موسكو، كما أن بقاء الحكم في العراق مرهون برضا طهران، ويفقد لبنان مخبر الدولة، وإن بقي مظهرها، فقرار الحرب والسلام مع الآخرين مرهون بنائب الفقيه في الضاحية!
هذه العوامل الخمسة هي ما يجمع تشخيص الحروب الأهلية، ولكن ما هي النتائج المحتملة على المدى المتوسط؟ هنا ما يجب أن نتوقع، فأخذاً بتجارب كثيرة سابقة، وما تفرضه المستجدات التي تعمل آلياتها على إفراز نتائج محتملة في المستقبل، فإنه من الواضح أنه مهما طال الوقت، فإن التيارات المضادة لتحرر الشعوب واستقلالها سوف تفقد قدرتها على البقاء. لقد حكم فرنكو أربعين عاماً، ثم عادت إسبانيا لتعظيم آليات الديمقراطية وتعددية الأحزاب والمنافسة المفتوحة بين المختلفين السياسيين سلمياً، وهكذا حصل في اليونان في وقت أقصر، وذابت الطبقة السياسية القديمة في لبنان، وأصبح رؤساء الميليشيات في الغالب هم الحكام الجدد! الذين يعظمون الدستور وصناديق الانتخاب علناً، ويمارسون الطائفية وتعطيل الدولة عملياً، بسبب الظروف الطائفية في ذلك البلد. الدروس الأكيدة في نتاج الحروب الأهلية تؤكد حقيقتين؛ الأولى بمجرد نشوب الحرب الأهلية، فإن الأمور لا تعود أدراجها من جديد، وتفقد الدولة، حتى لو عادت استقلالها الحقيقي، والثاني أن أياً من الدول الخارجية التي تشارك في حرب أهلية بعيدة عنها تخرج بخفي حنين، أي خاسرة لا محالة. قد يطول الوقت لإنهاء الحروب الأهلية في منطقتنا، ولكن النتيجة (للعقلاء فقط) هي الدرسان السابقان!
آخر الكلام:
هناك على الإنترنت موضوع بعنوان (كيف تشعل حرباً أهلية في تسع خطوات) أقتطف منها: (مهما كانت الخلافات السياسية، فعليك بإضافة العامل الديني! وتحدث عن وحشية الأعداء، وقم بأفظع مما يفعلونه، ولا تصارح الشعب بحقيقة أهدافك، وعليك أن تطلق شرارة الحرب، والآخرون سوف يكملون المشوار... إلى آخره من التوصيات الشيطانية)!
«حزب الله» تنظيم ديني مذهبي لبناني، يلتزم عقيدة ولاية الفقيه. تأسس في 1982. أما «حزب العمال الكردستاني» فهو تنظيم كردي- تركي، أصوله ماركسية- لينينية وتشكّل في أواخر 1978. أعلن في بداياته أن هدفه بناء جمهوريات سوفياتية شرق أوسطية، ثم رفع شعار تحرير وتوحيد كردستان.
الأول ديني التوجه، يصر على التسويغ الشرعي لممارساته وتوجهاته، فيما الثاني علماني، كان يشدد على ضرورة محاربة الإمبريالية والصهيونية، ويرى فيهما أصل بلاء كل شيء. لكن على رغم هذا التباين الأيديولوجي بين الحزبين، فإن ما يجمع بينهما هو الكثير من الخصائص والتحالفات المشتركة، ما مكّنهما من أداء أدوار متكاملة من مواقع مختلفة، ضمن الاستراتيجية ذاتها.
ما يميّز الحزبين هو التنظيم الصارم، وعدم التساهل مع أي تباين داخلي، واعتماد التقية في حالات الضعف، واستثمار القوة بغطرسة متناهية بمجرد امتلاكها، هذا إلى جانب أسلوب إلغاء الآخر المختلف بكل الأساليب الممكنة، خصوصاً داخل المجال الحيوي نفسه، الشيعي بالنسبة إلى «حزب الله»، والكردي بالنسبة إلى حزب العمال.
كما يتشارك الحزبان في تجييش الأنصار بصورة مستمرة، والقدرة على التنظيم المجتمعي تحت مسميات كثيرة تتغيّر باستمرار، والتركيز على العناصر الهامشية، أو الأخرى التي تعاني ثقل ماضيها الإشكالي، لسهولة انقيادها.
هذا إلى جانب الديماغوجيا الإعلامية، والشعارات الهلامية، والحرص الدائم على الظهور بمظهر القوة التي لا تقهر.
إضافة إلى ما تقدم، يتقاسم الحزبان التوجه البراغماتي الذي يمكّنهما من تغيير المواقف بالسرعة المطلوبة، والتنصل من الالتزامات التكتيكية، وبناء التحالفات مع أي كان، طالما أن ذلك يعطي دوراً، ويتكامل مع أهداف الإستراتيجية العامة.
أما إذا انتقلنا إلى مستوى التحالفات السياسية، فسنلاحظ أن الحزبين كانا على علاقة وثيقة مع النظام السوري في إطار مشروع إقليمي بعيد المدى، قائم على التعاون والتنسيق إلى درجة توحيد المواقف بين هذا الأخير والنظام الإيراني منذ بداية المرحلة الخمينية.
فقد تمكّن حافظ الأسد «العلماني» من الدخول في حلف إقليمي غير مسبوق مع النظام الإسلاموي في إيران. وتمكّن بالتفاهم مع حليفه الجديد من استخدام الحزبين «حزب الله» و«حزب العمال» في مشروعه للهيمنة على لبنان، وإزعاج تركيا ضمن حدود المستطاع، مستغلاً المظلوميتين الشيعية والكردية، مع العمل في حالة «حزب العمال» على توجيه أنظار الكرد السوريين نحو ما وراء الحدود، وإخراجهم من معادلة المعارضة السورية. أما في حالة «حزب الله»، فكان العمل على سحب مشروع المقاومة من القوى اللبنانية الأخرى، وذلك تحسباً لاحتمالات مستقبلية كانت تعتبر بالنسبة إليه غير مطمئنة.
ومع الضغط الذي تعرض له حافظ الأسد من تركيا، اضطر إلى إبعاد عبدالله أوجلان في نهاية 1998 عن البلاد، لكنه لم يتخل تماماً عن ملف «حزب العمال»، فنسّق مع الحليف الإيراني، ليتابع الأخير الملف، استعداداً لما ستسفر عنه الأيام.
ومع مجـــيء بشار الأسد، فقد النظام السوري القدرة على التحكّم بالتحالفات والموازين، فأصبح منقاداً لما يراه الحليف والراعي الإيراني، حتى أصبحت صور حسن نصرالله تنافس صور بشار نفسه في قلب دمشق.
ومع سقوط النظام البعثي في العراق، سارع النظام البعثي «العلماني» في سورية إلى التنسيق الكامل مع نظام ولي الفقيه الإيراني في سبيل دفع العراق نحو الفوضى العارمة، تحت شعار مقاومة الاحتلال الأميركي. وكانت عمليات التفجير الكبرى التي كان هدفها الأول خلخلة النسيج الوطني العراقي مذهبياً وقومياً ومناطقياً. وانسحبت الولايات المتحدة من العراق، وهذا كان مؤداه تسليمه للإيرانيين.
وفي لبنان كانت الاغتيالات المتواصلة التي بلغت ذروتها باغتيال الحريري، واعتقد الجميع أن الأمور ستحسم في لبنان لمصلحة أهله، الأمر الذي لم يحصل، بل تصدر «حزب الله» المشهد السلطوي بعد خروج القوات السورية.
ومع بداية الثورة السورية، عاد النظام السوري إلى دفاتره القديمة مع «حزب العمال»، وتم التوافق على دخول قواته إلى المناطق الكردية، والهيمنة عليها، لمنعها من الانضمام إلى الثورة في مرحلتها السلمية التي شملت سائر المناطق السورية. أما «حزب الله» فدخل، بناء على الأوامر، الأراضي السورية بذريعة حماية المقامات المقدسة. هذا في حين أن «حزب الاتحاد الديموقراطي»، الفرع السوري لحزب العمال، رفع شعار العلمانية، ومقارعة الجماعات المتطرفة الإرهابية التي لم تكن قد ظهرت بعد (أواخر 2011).
لكن مع تطور الأحداث، وتزاحم الفاعلين الإقليميين والدوليين، ومن ثم دخول اللاعبين الأساسيين، روسيا والولايات المتحدة، بصورة مباشرة إلى الميدان، حدث بينهما نوع من تقاسم النفوذ على الأرض بما عليها من ميليشيات وقوى مسلحة.
«حزب الله» ما زال على تحالفه الاستراتيجي مع الولي الفقيه. ولكن يبقى السؤال بالنسبة إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي». هل سيمكّنه الدعم الأميركي اللافت راهناً من فك الارتباط مع النظام الإيراني، والتحول إلى حالة كردية سورية، بل حالة سورية عامة، أم أن الأمور لا تخرج عن نطاق زواج مصلحة معلوم الهدف والأمد؟
عندما لاحت مؤشرات هزيمة تنظيم «داعش» في الموصل وقرب هزيمته في الرقة، ثار السؤال في شأن مستقبل المنطقة التي سينسحب منها، وعن مصيره هو كتنظيم هدَّد المنطقة والعالم، وهل ستكون هزيمته العسكرية نهاية له، أم أنه سيظل معنا لفترة قد تطول. عن القضية الأولى كانت إعادة إعمار المدن والمناطق التي انسحب منها «داعش» في مقدم الاهتمامات، ما دفع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، الى أن يخاطب مبكراً المجتمع الدولي ليتحمل مسؤولياته السياسية والأخلاقية في هذا الشأن، باعتبار أن أعباء هذا الإعمار تفوق قدرات الحكومات المحلية، كما أنها تتصل مباشرة بإعادة الحياة الطبيعية والاستقرار السياسي والاجتماعي. وفي مسؤوليات المجتمع الدولي، علينا تذكر تجارب مماثلة حين عقدت مؤتمرات دولية لإعادة إعمار بعض المناطق، مثل غزة، إذ قدمت وعود بالبلايين لم يتحقق منها إلا النذر اليسير.
إعادة الإعمار، في العراق وسورية، وكذلك دور ليبيا، ينبغي التخطيط لهما في شكل جاد ووفقاً لالتزامات وتوقيتات محددة وآليات متابعة وتنفيذ ذلك من خلال الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
في ما يخص مصير «داعش»، يتوقع مراقبون، ومنهم هيلاري كلينتون، أن التنظيم سوف «يتأقلم» مع تراجعه العسكري وانسحابه من المناطق التي انطلق منها وتوسع فيها، وسيحاول أن يثبت وجوده بالانتشار في مناطق أخرى بخاصة العواصم والمدن الكبرى، وهو التحول الذي بدأ بعمليات إرهابية في باريس وبروكسل ولندن وموسكو والقاهرة، ما سينقل التهديد الذي يمثله هذا التنظيم إلى مرحلة جديدة تتطلب أقصى درجات التنسيق بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية العالمية، ويتصل بذلك العناصر التي حاربت في صفوف التنظيم وإلى أين ستتجه، وهو ما شكَّل هاجساً للدول الأوروبية باعتبار أن الآلاف انضموا إلى «داعش»، وقد يعودون إلى بلدانهم وهم يحملون فكر ذلك التنظيم.
في هذا، من المهم أن نستعيد تجربة «العائدون من أفغانستان» بعد الانسحاب السوفياتي، وكيف عادوا بتجربتهم وأفكارهم الجهادية، وانضم بعضهم، كما حدث في مصر، إلى الجماعات الجهادية.
أما القضية الثالثة، فتتعلق بالمصدر الرئيسي الذي غذى جماعات التطرف ثم الإرهاب ونشر به الأفكار والأيديولوجيات ويتصور الكثير من المحللين، أن من يعتقدون أن «داعش» سوف يظل معنا، ومنهم ممثل الولايات المتحدة في التحالف ضد «داعش»، يقصدون أنه سيظل بأفكاره وأيديولوجيته التي استطاع من خلالها أن يجذب آلاف الشباب ويقنعهم بأن يفجروا أنفسهم ويقتلون وهم يرفعون راية الإسلام. والحقيقة أن ما سميناه «حرب الأفكار» في مقال سابق ستظل هي الجبهة الرئيسية التي ستحسم مصير هذا التنظيم من حيث تجفيف منابعه الفكرية، وعلى رغم الجهود التي بذلتها وتبذلها المؤسسات الدينية والثقافية إلا أن العالم العربي ما زال يعاني من ثغرات في نظمه التعليمية ومناهجه الدينية تمكن الفكر المتطرف من أن يخترق عقول الشباب، وهو ما يتطلب استراتيجية شاملة على المستوى الوطني والقومي لتحصين الشباب حيث البناء والتنوير الثقافي في جوهرها. وهذا ما جعل السيد أحمد أبو الغيط يكتب مقالاً يدعو إلى تجديد الثقافة العربية، ويعتبر أن مأزق الواقع العربي الراهن يرتبط بالثقافة قبل كل شيء.
بات واضحاً بعد ختام جولة محادثات آستانة الأخيرة في شأن الملف السوري، أن وضعاً خاصاً تم الخوض به في شأن الجنوب السوري، وأن أطرافاً إقليمية عدة من داخل الاجتماعات ومن خارجها شاركت في البحث في هذا الوضع قبل وبعد انعقاد جلسات آستانة التي قاطعتها أطراف عدة من المعارضة السورية المسلحة، بسبب استبعاد محافظة إدلب من خريطة خفض التوتر.
الاتفاق الذي توصل إليه الجانبان الأميركي والروسي بعد لقاء الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في مدينة هامبورغ، يؤسس لمسار ثالث في الملف السوري المُعقّد، يضاف إلى مساري جنيف وآستانة.
لقد شَهِدَ ملف الأزمة السورية تطوراً جديداً في اللقاء الأول بين الرئيسين بوتين وترامب، أثناء قمة هامبورغ، حين تم التوافق على خفض التوتر على الجبهة الجنوبية الغربية في سورية، وتحديداً في المنطقة المحصورة بين سورية والأردن وإسرائيل، والقيامِ بترتيباتٍ خاصة في تلك المنطقة بعد تفاهماتٍ أخذت في الإعتبار عوامل عدة، وأهمها العامل الإسرائيلي.
إذاً ما جرى في قمة هامبورغ جاء بعد جهدٍ كبير تم بذله بالمفاوضات التي لم تتوقف. وجاء أيضاً نتيجة محادثات طويلة استضافتها العاصمة الأردنية عمان، وجرت في موازاتها لقاءات بين الأطراف المتحاربة على الأرض في مدينة درعا، بوساطة روسية، وقد اتفق خبراء روس وأميركيون وأردنيون على مذكرة تفاهم لإقامة منطقة خفض تصعيد.
بالتالي يُمكن وصف ما صدر عن قمة الرئيسين ترامب وبوتين في شأن الملف السوري، من تفاهماتٍ أميركية - روسية أنه ليس بعيداً من الموقف والمطالب الإسرائيلية، بل كانت إسرائيل طرفاً فيها رغم غيابها، وعلى رغم تحفظاتها المُعلنة أخيراً عليها. حيث تراقب تل أبيب تلك المنطقة الجغرافية في الجنوب السوري باهتمامٍ بالغ، وتُصِرُّ على استبعادِ وجودِ أي قواتٍ إيرانية أو من قواتِ «حزب الله» اللبناني، وأي قوة عسكرية على شاكلتها، وتقبل وجود قوات الشرطة العسكرية الروسية كمسؤولة عن الأمن في منطقة تخفيف التصعيد في الجنوب، على أن يتم تنسيق العملية مع الولايات المتحدة والأردن. وكانت حكومة نتانياهو رفضت نشر قوات روسية في الجنوب السوري، وطالبت بنشر قوات أميركية على رغم علاقتها الوثيقة مع موسكو، لكن طمأنة واشنطن لها دفعتها للقبول بنشر قواتٍ للشرطة العسكرية الروسية.
هذه التفاهمات هي الأولى من نوعها في عهد إدارة دونالد ترامب، لتطبيق اتفاق الهدنة الذي تم الإعلان عنه في هامبورغ. حيث تَحمِلُ تلك التفاهمات الجديدة في طياتها مُقاربة أميركية مُختلفة للملف السوري وتدل عليها مواقف واشنطن من الأزمة السورية ككل. كما أنها بداية عمل جديد بين موسكو وواشنطن، بعد أن كانت التباينات بينهما قد وصلت في مراتٍ سابقة الى مستوياتٍ عالية في شأن الملف السوري.
ويُمكن في الوقت ذاته قراءة استباق دمشق الإعلان عن الإتفاق وإعلان هدنة من طرفٍ واحد وتمديدها، على أنه بادرة قبول وترحيب بالمحادثات التي أفضت إلى التفاهم الأميركي - الروسي، وذلك على رغم أن مدينة درعا شهدت خلال أيام الهدنة الماضية قصفاً متبادلاً متقطعاً، حتى بعد الإعلان الأميركي - الروسي.
وفي التقدير، إن الإتفاق والتفاهمات في شأن الجنوب السوري، مؤشر مهم جداً يؤكد بأن الولايات المتحدة وروسيا قادرتان على العمل معاً في شأن سورية، واجتراح ما يُمكن من تفاهماتٍ تُساهِمُ في الولوج باتجاه المساعدة على التوصل الى حلول سياسية للأزمة السورية بعد سنواتٍ من الدمار وسفك الدماء، وذلك اذا توافرت الإرادة لدى الطرفين معاً. فالطرفان الأميركي والروسي توصلا الى تفاهماتٍ في منطقة جغرافية لها خصوصياتها، حيث تُشكّل مسرحاً مُعقّداً جداً من ساحات الصراع السوري. لذلك إن نجاح التفاهمات في المنطقة إياها، هو خطوة نحو ترتيب أكبر، قد يفتح الطريق أمام تفاهماتٍ جديدة في شأن مناطق ثانية مشتعلة. فهل بتنا في بداية الطريق التوافقي بين رأسين مقررين في شأن ملف الأزمة السورية؟