مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١ أغسطس ٢٠١٧
سماء دمشق التي تزداد ظلمة

ولدت في مدينة دمشق غريباً، لأبوين غريبين تقاذفتهما نكبة فلسطين ليجدا نفسيهما مع خمسة أطفال في مدينة دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة ويتوقف عن الإنجاب، استمر في الإنجاب، وأضاف أربعة أولاد إلى العائلة، كنت آخرهم في الترتيب. لم أشعر يوماً أن دمشق مدينتي، ولطالما شعرت بجدار يفصلني عنها. كان حسد أصدقائي السوريين يُهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في بلدهم أكثر مني. كانت ذروة الحسد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، حيث يقاد الجميع كقطيع لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد بكل الطرق التي يمكن عقلاً مريضاً أن يخترعها. أما في مسيرات التأييد للرجل «المعجزة» فكنا جزءاً من القطيع.

بعيداً من السياسة، كان أصدقائي السوريون يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلد يدعي أنه يُبقيني غريباً من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظاً على حقي بالعودة إلى بلدي التي يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح كشعار لتوغل في سحق البلد وإخراسه.

«إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم... فأينما حللت ستكون خراباً»... منذ غادرت دمشق قبل خمس سنوات وكلمات الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي تدق في رأسي طوال الوقت. نعم، لقد كانت حياتي خربة من قبل أن أولد. لم أعرف الطبيعي حتى أقيس عليه: كيف يعيش الإنسان العادي والطبيعي في وطنه في ظل شروط عادية وطبيعية؟ هذا ترف لم أعرفه. كنت واهماً عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو العادي والطبيعي. كان الطبيعي في ظل حكم البعث، أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أقسى من غربتي فيه. أنا والسوري الذي يجايلني، ممن ولدنا بعد حكم البعث وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في آذار (مارس) 1963، لم نعرف الطبيعي ولا العادي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، لدرجة لم يعد أحد يذكر ما كان عليه البلد قبل البعث، وقبل الأسد الأب. لا تاريخ لسورية قبله، يبدأ التاريخ وينتهي بالعائلة بعد توريث الابن. وحد القمع الجميع في سورية، «مواطنين» وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسع ووزع النظام قمعه وشمل آلاف اللبنانيين والكثير من العراقيين والأردنيين وغيرهم أيضاً.

في كل مكان في سورية لم يكد أحد ينجو من مساءلة المخابرات، وزج مئات آلاف المعتقلين في السجون زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماة العام 1982، نجح الأسد الأب من خلالها في إخراس البلد وتعميم الخوف على الجميع. أي وطن هذا الذي أولد فيه خائفاً؟! ما معنى أن أكون سورياً في زمن البعث والأسد، سوى أن أكون خائفاً من كل شيء؟! أفكر أحياناً، كم من العائلات ستهدم، إضافة لتلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟! كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والإخوة، الذين أجبرهم النظام على كتابة تقارير بعضهم عن بعض ستدمر مكانتهم عند بعضهم؟! ستبقى آثار النظام المدمرة فعّالة حتى في حال سقوطه، الخيال الإجرامي في أوسع حدوده. هذه الـ«سورية» التي عرفناها وخبرناها، شوهتني وشوهت كل السوريين، وحولتنا إلى معطوبين ومخصيين. هناك الكثير الذي دمر في سورية قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها الأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متمماً مهمة والده. هذه الـ«سورية» لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذكراها تشعرني بالخوف. ولا أحنّ إلى التاريخ التافه للبلد ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى الأصدقاء الذين هناك كانوا أجمل ما في تجربتي السورية، واليوم تكاد سورية تفرغ منهم تماماً، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٧
وظيفة «حزب الله»

قام «حزب الله» بالوظيفة التي كانت مطلوبة منه. مشاركة الحزب في الحرب على السوريين لم تكن في حاجة إلى «انتصاره» في جرود عرسال لتزداد رسوخاً في الأذهان. وظيفة الحزب في سورية نابعة من مصالح متعددة تلتقي: حماية نظام بشار الأسد، والدفاع عن النفوذ الإيراني في عاصمة الأمويين، وتأكيد دور الحزب في لبنان كقوة عسكرية (ميليشياوية) تقوم بما لا يقوم به الجيش اللبناني، أو بما لا يُسمح له القيام به.

في جرود عرسال، ظهرت هذه الأدوار بأبرز صورها، وبأكثر ما يمكن أن تكون عليه من وضوح:

حماية نظام الأسد، من خلال توسيع مناطق نفوذه لتمتد وتشمل الآن كامل الحدود السورية- اللبنانية. ولا يحمي هذا التوسع نظام الأسد فقط، من خلال ربط منطقة القلمون بالجرود اللبنانية، بل يمهّد لمنطقة آمنة لـ «حزب الله» في منطقة الحدود. من هنا، معنى ما تضمنه الاتفاق الذي أوقف المعارك، وقضى بنقل المسلحين وعائلاتهم إلى منطقة إدلب التي أصبحت منطقة «استضافة» للمهجرين السنّة الذين يتم «تنظيفهم» من مختلف المناطق المحاصرة، كما حصل عند تهجير أهالي حلب وحمص وحماة ومضايا والزبداني وداريا ومعضمية الشام وسواها.

يضاف إلى هذه النتيجة أن ترابط مناطق الحدود السورية- اللبنانية، في الشكل الذي يتيح لطرف مسلّح لبناني (حزب الله) أن يدخل للقتال في الأراضي السورية، كما يتيح لطيران النظام السوري ومدفعيته أن يقصفا مواقع من تصنّفهم «إرهابيين» في الأراضي اللبنانية، هذا الترابط يعيد إلى الذاكرة الشعار الشهير «شعب واحد في بلدين»، والذي لا يُستبعد أن يكون شعار المرحلة المقبلة في علاقات البلدين، عندما يطمئن بشار الأسد إلى اشتداد عود نظامه وعودة سطوته الكاملة على الجزء السوري من «الشعب الواحد».

وعند الحديث عن القوة المستجدّة لنظام الأسد، فإن معركة «حزب الله»، بنتائجها المفضية إلى دعم هذا النظام، تأتي في السياق الدولي ذاته الذي يميل إلى اعتبار نظام الأسد أقل خطراً من ذلك الذي يشكله الإرهابيون، عملاً بالمثل: شيطان تعرفه أفضل من شيطان تتعرف إليه.

أما حماية النفوذ الإيراني في دمشق فلا يؤكدها أكثر من «حزب الله» نفسه، وخطب أمينه العام الذي كرر في أكثر من مناسبة، في مجال دفاعه عن تدخل عناصره في الحرب السورية، أن الدافع إلى ذلك كان ضرورة حماية «محور الممانعة» من السقوط. والمقصود به طبعاً ذلك التكتل المذهبي الذي ترعاه إيران وتفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية، بيروت واحدة منها. وعندما اطمأنت طهران إلى حماية هذا المحور، في دمشق وبيروت على الأقل، كان لا بد من غطاء آخر للتدخل في سورية، فظهر الهدف المعلن الآخر، وهو محاربة التنظيمات الإرهابية، باعتبار أن هذا الهدف هو الآن أكثر قابلية للتوظيف في عواصم القرار. هكذا، صارت معارك جرود عرسال ضد «النصرة» معارك «دولية» بامتياز، طالما أن الحرب على الإرهاب هي دولية كذلك. وما دام «حزب الله» في مقدم الصفوف في هذه الحرب، فإنه يعتبر أن من حقه بالتالي أن يوظف هذا الانتصار في خدمة نفوذه ودوره على الساحة اللبنانية، حيث يتم تسويق معركة عرسال بواسطة إعلام الحزب على أنها أنقذت لبنان من أخطار الهجمات الإرهابية التي يقال أنها كانت تنطلق من تلك المنطقة البقاعية إلى معقل الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما إلى مناطق لبنانية أخرى.

وهنا نصل إلى توظيف «حزب الله» معركة عرسال لدعم نفوذه على الساحة اللبنانية، وهو نفوذ لم يكن يحتاج إلى «انتصار» عرسال، إذ لا يوجد أصلاً من هو مستعد أو قادر على مواجهته حالياً. فالحزب الذي قام بالدور الذي كان يؤمل أن يقوم به الجيش اللبناني في حماية حدود بلاده، أو الرد على أي تهديد تتعرض له هذه الحدود من أي جهة كانت، وهي حجة الحزب في مواجهة «جبهة النصرة» في تلك الجرود، يفرض نفسه الآن الجهة المسلحة الأقوى التي تمكنت وحدها من ردّ الإرهاب عن لبنان، مثلما تمكن في السابق من حمايته من إسرائيل. وها هو الحزب الآن يوسع ساحة كَرَمه فيعرض على الجيش اللبناني «تسلّم» المناطق التي سيطر عليها «عندما يطلب الجيش ذلك»!

أمام مقاومة «قوية» كهذه، يصح السؤال عن المكان الباقي لـ «الجيش والشعب» في هذه المعادلة المثلّثة المفروضة على اللبنانيين.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٧
وداعاً للمعارضة المسلحة في سورية

تنتزع روسيا سلاح فصائل المعارضة السورية بهدوء، ووفق برنامج توثيقي، تعيد من خلاله خريطة توزّع نفوذها داخل الأراضي السورية. وفي المناطق منزوعة السلاح المعادية لها، وذلك عبر وسيلتين أساسيتين: اتفاقات الهدن المحلية التي طوّرتها على شكل مناطق خفض التصعيد، وقرارات الإدارة الأميركية بوقف التسليح التي أعلنتها وكالة الاستخبارات "سي آي إيه".

وباتفاق الغوطة الشرقية الذي وقع في 22 يوليو/ تموز الجاري تكون موسكو التي أعلنت تفاصيل الاتفاق، أنهت ما تعتبره تأمين حزام جناح دمشق الجنوبي، لتلتفت إلى منطقة وسط سورية، وذلك قبل الانتقال إلى شمالها، لتعطي مزيدا من الوقت للقوات المدعومة من الإدارة الأميركية، لمتابعة خط سيرها باتجاه إنهاء وجود "داعش" من الرّقة، حيث تشهد المعركة حالة جمود واضحة، بينما يستقر القرار الأميركي، ربما، حول هوية من سيحرّر دير الزور من "داعش"! وفي السياق نفسه، تمارس الفصائل دورها في تنفيذ الرغبة الروسية تلك، عبر الانخراط في معارك بينية طاحنة، تستخدم فيها كامل عتادها من السلاح والبشر، حيث شهدنا أعنف المعارك خلال الأشهر السابقة في الغوطة بين الفصائل، وكان عدد الضحايا فيها من مقاتلي هذه الفصائل، المحسوبة على المعارضة، يتجاوز 400 ضحية، كل طرف منهم اعتبر من لقي حتفه من جهته شهداء لأسباب خاصة به، بعيداً عن المتعارف عليه في ما يتعلق بهذا المفهوم "المقدّس".

كذلك شهدت إدلب معارك طاحنة، أوقعت عشرات الصحايا بين "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) من جهة، و "أحرار الشام" وفصائل مؤيدة لها من جهة أخرى، لتكون النتيجة نهاية عملية إسباغ اللون الأسود على كامل إدلب، ما يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الدولي، لاسيما التركي، من خلال التحالف الذي سيخوض معركته هناك تحت بند محاربة الإرهاب، وبالتالي التخلص من كل سلاح المعارضة، سواء التي تقف بوجه "النصرة" أو المساندة لها، والانتقال إلى المرحلة اللاحقة من صناعة مناطق النفوذ الدولية، تحت مسمّى مناطق منخفضة التوتر. وعليه، ترسم روسيا مسارات عديدة تؤدي إلى حقيقة واحدة، هي على الأغلب إجبار المعارضة، وخصوصا المسلحة، على رفع راية الاستسلام، في مقابل جزء من سلطةٍ في تلك المناطق، بحماية الشرطة الروسية، كما الحال في جنوب غرب سورية والغوطة الشرقية، وفي إدلب، وإن بالشراكة مع الشرطة التركية، أو تلك التي صنعت في تركيا. إذاً، يتمثل ما تسعى إليه روسيا ببسط سيطرتها على كامل مناطق سورية مع مراعاة المصالح الأميركية والإسرائيلية من جهة ومصالح النظام الذي يوفر لها شرعية احتلالها القرار السوري من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا إلى تحويل الكتلة البشرية للمعارضة من عدوٍّ يواجهها إلى أدوات شرطية، تعمل بمبدأ الحماية مقابل السلطة، وهو المبدأ نفسه الذي سلم به النظام مفاتيح سورية لكل من إيران وروسيا، وكل قوى الظلام الطائفية التي تقاتل باسم زينب وفاطمة والحسين. على ذلك، تستنفد قوى المعارضة آخر ما تبقى لها من ذخيرة حية، لتخوض معاركها ضد بعضها، وفي مواجهة من كانت تتحالف معهم ضد النظام، لتعيد انتشارها من جديد، وتصطفّ مع النظام ضد كل من لا يرى الشمس تشرق ما بين موسكو والقاهرة.

وعليه، فإن هكذا مسار سيكشف إلى العلن، بين فترة وأخرى ربما، ما تبقى من قصص انقلابات في العلاقات بين شخوص المعارضة التي كانت على طرفي نقيض، وأصبحت اليوم في معركة واحدة ضد حلفاء سابقين، ومنهم "جبهة النصرة" وما تسمى "أخوة المنهج" جميعاً. بعد "أستانة 6"، وخلال الرتوشات الأخيرة لاتفاقات ما فوق "أستانة" و"جنيف" (الجنوب السوري والغوطة الشرقية ولاحقاً المنطقة الوسطى)، لم يعد هناك تقريبا، كما تتوقع موسكو وكما عملت بجد عليه، ما تسمى معارضة مسلحة، وإنما شرطة معارضة لا تختلف كثيراً عن فروع الأمن التي كانت سبباً مباشراً لثورة 18 مارس/ آذار 2011.

في المحصلة، قد يفضي الواقع الناشئ اليوم إلى مسارات مختلفة في الصراع السوري، من أهم علاماتها ضمور المعارضة العسكرية، وانحسار النفوذ الإيراني، بالإضافة إلى تعزيز الجهد الدولي لإيجاد نوع من تسويةٍ، ربما تمهد لتغيير سياسي في سورية، لكن ليس إلى الحد الذي كان يطمح إليه، أو يأمله، أغلبية السوريين، حينما انطلقوا بثورتهم في 2011، وليس إلى الحد الذي يجعل النظام منتصراً، حتى ولو بفكرة سيطرته على مناطقه التي ستكون تحت الوصاية الروسية في أحسن الأحوال. أيضاً وداع ما تسمى معارضة مسلحة لا يعني أن الثورة انتهت، فهي ربما لم تبدأ بالشكل المطلوب لثورات الشعوب التي تقودها نخبة وطنية، تتشارك فيها مر التجربة، وليس مالها السياسي.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٧
رسائل من جرود عرسال

تحوّلت معركة جرود عرسال، شرقي لبنان، بإفرازاتها السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى محطةٍ فاصلة في الحياة المجتمعية اللبنانية. ما يفسح المجال أمام مستقبلٍ غامض، يبقى عنوانه الأساسي "التعايش بين الدولة اللبنانية وحزب الله"، بشروط حزب الله. ميدانياً، للبنان حق حماية أراضيه، والدفاع عنها في وجه أي محتلّ، سواء في السلسلة الشرقية أو في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. على ألا يكون حقاً مرتبطاً بإرادةٍ غير لبنانية، إقليمية كانت أو دولية.

تفاصيل معركة جرود عرسال، وعدم قيام الجيش بها، سواء منذ ثلاث سنوات أو الآن، بغطاء سياسي أو عدمه، كلها أمور باتت من الماضي. الواقع، أن عليك في لبنان أن تكون صاحب القوة كي تفرض الغطاء السياسي، لا العكس. فلو فرض الجيش غطاءه السياسي في جرود عرسال أو في الداخل، لكان الوضع تغيّر حالياً، لكن حزب الله نفذ من ثغرة "الغطاء السياسي" التي لم يتمكّن الجيش اللبناني من النفاذ منها، فارضاً غطاءه الخاص، والمعركة، في توقيتٍ يلائمه. بتعبير أدق "سأسير وأنتم تلحقونني".

في هذه الوضعية، رسّخ حزب الله ثلاثية "الشعب، الجيش، المقاومة"، والتي يرى فيها بأنه والجيش مدججان بالرجال والعتاد، شركاء أمنيين على أرضٍ واحدة، "لن يتصادما" في مرحلة لاحقة، عكس كل الحتميات العسكرية التي يفرضها وجود قوتين عسكريتين على أرض صغيرة. أساساً أدوار الجيش اللبناني سابقاً، والقيود المفروضة عليه لناحية مزاولة دوره في حفظ الأمن في البلاد، انكسرت مع الرصاصة الأولى في حرب لبنان (1975 ـ 1990)، مع تحوّل الجيش، بفعل ضعضعة القرار السياسي، إلى أجزاء متباعدة وغير متّحدة، قاتلت إلى جانب المليشيات في بعض الأحيان، على حساب فكرة "لبنان أولاً".

أيضاً، حملت معركة الجرود رسالة، عمداً أو عن غير قصد، إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي أجرى مناوراتٍ عسكرية في قبرص، الشهر الماضي. مناورات أراد من خلالها الإسرائيليون، التدرّب على تضاريس مشابهة للجبال والوديان اللبنانية. في معركة الجرود، أظهر حزب الله للإسرائيليين أنه "قادر على خوض معركة هجومية في جرد غير مغطى بغابات". وذلك للإيحاء بأن الغطاء الحرجي الذي كان جزءاً من سلاحه الاستراتيجي، في المواجهات السابقة في جنوبي لبنان، بات غير أساسي في أي معركةٍ مقبلة.

الطبقة السياسية اللبنانية، بأكثريتها الساحقة، وكما فعلت على مدار عشرات السنوات، ستتعايش مع حزب الله، على قاعدة "تأمين الاستمرارية السياسية". بالطبع، لو أن مثل هذه الطبقة غير موجودة، بكل ما فيها من ترسّبات فاسدة وطائفية ومذهبية وفساد، لما كان لا حزب الله، ولا غيره، موجوداً، بدءاً من محاربة حرمان ما قبل عام 1975، وصولاً إلى الدفاع عن حدود لبنان الجنوبية ضد الإسرائيليين. تهدف هذه الطبقة إلى التعايش مع حزب الله، طالما أنها قادرة على حماية فسادها وعدم معالجتها الملفات الحياتية اليومية، من النفايات إلى الكهرباء والمدارس والمستشفيات والنقل العام وغيره.

ومن الأشياء اللافتة أخيراً، كمية الغضب المتفجر على مواقع التواصل الاجتماعي بين اللبنانيين، خصوصاً لدى أنصار من يفترض أنهم انتصروا. السائد هو منطق التخوين والشعور بفائض القوة، المعزّز بنظرية "القدرة على احتلال لبنان بساعتين"، كما قال أحدهم، فضلاً عن الاستنفار لترقّب أي حركةٍ لأي شخص، لرجمه في حال لم يقدّم فيها الطاعة لهم. منطق يصنّف اللبنانيين "مع وضد"، من دون أي اعتبار آخر. بالتأكيد، إن من معظم من يصنّف يضع في ذهنه أنه يهاجم شخصاً أو أشخاصاً محدّدين في بيئته الحقيقية أو الافتراضية لحساباتٍ شخصية، لبناء غضبه. وبالتالي، لا يفكر في أي بعد آخر. لكن للتاريخ، لو كان حزب الله مسيحياً أو سنياً أو درزياً، لكانت الآية انقلبت، ولكانت تلك المجتمعات تقوم بما يقوم به أنصار حزب الله، طالما أن مفهوم "الدولة"، المدنية تحديداً، غائب.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٧
مرة أخرى.. اتفاق الجنوب السوري

هناك جوانب في اتفاق الجنوب السوري بين الدولتين العظميين يعتبر إغفالها خطأ قاتلاً بالنسبة لقضية الشعب السوري ومصالحه وثورته المجيدة.

أول الجوانب أن كل واحدة من الدولتين تتموضع في مناطق خاصة بها من وطننا، عدا الجنوب بمحافظاته الثلاث، حيث سترابط قواتهما معاً، وستقوم بمهام مشتركة أقرتها قياداتهما السياسية والعسكرية. وستنفذها شاء من شاء وأبى من أبى، في إيران ودمشق وبيروت. بذلك، تكون منطقة الجنوب المكان الوحيد في بلادنا الذي أنهى الجانبان صراعهما عليه فيه، وتعهدا بنقله إلى أوضاع تشبه، من بعض الجوانب الحقبة ما بعد الأسدية، سواء بإقرارهما باستقلال الجنوب عن النظام، أم بإبعاده عن حملات روسية/ إيرانية فرضت بالأمس القريب هدناً أعادت مناطق عديدة إلى "حضن الوطن"، بينما ستتدبر شؤون هذه المناطق إدارة ذاتية منتخبة تحت إشراف دولي، ستمثلهم في إطار المعارضة عموماً و"الائتلاف" خصوصاً، فإن دعمت وتوحدت أسست لأول مرة منذ اندلاع الثورة كياناً داخلياً معترفاً به دولياً. يضاف إلى كيان خارجي معترف به دولياً هو "الائتلاف". في هذا السياق، سنتذكّر دوماً أن تفاهم الدولتين كان مطلبنا الدائم، وأننا عزونا عدم تطبيق وثيقة جنيف والقرار 2118 إلى خلافاتهما التي وضع تفاهمهما في الجنوب حداً لها.

ـ أخرج التفاهم الأميركي/ الروسي على الجنوب القوتين الإقليميتين منه: إيران، على الرغم من تبجّح رئيس برلمانها بأنها غدت جزءاً من سيادة الدولة الإيرانية، والمحافظة 35 من محافظاتها. وتركيا التي لم تعد القضية السورية في حساباتها غير ورقةٍ تخدم مصالحها. أخرج العرب بدورهم من الاتفاق الذي يمكن أن يساعدنا على إخراجهم من الصراع على سورية، لما له من إيجابيات بالنسبة إلى قضيتنا، كالحد، ولو جزئياً، من حضورهم الكارثي، في ثورة ادّعوا دعمها، لكنهم أرسوا سياساتهم على التحكّم فيها، وإفشالها، بإفساد المنخرطين فيها، وتحويل كثيرين منهم إلى تجار دم وسرّاق مال سياسي. بالاتفاق، تكوّنت لدينا لأول مرة فرصة لممارسة تأثير في دور الدولتين الإقليميتين والدول العربية، يخدم مصالح شعبنا وقراره المستقل الذي يجب أن نستعيده.

ـ بما أن الاتفاق سياسي، والدور الذي يمنحه لنا سياسي، سيكون علينا أن نستعيد من جديد مكانة السياسة وغلبتها في تحديد مواقفنا وقضيتنا، بعد أن غيبتها حساباتٌ وهميةٌ ارتبطت بعمل عسكري متقطع وعشوائي، وقوّضها العجز عن الفعل، وسط بحر من مزايدات ومناقصات طمست الوطنية السورية، كحاضنة استراتيجية للعمل الثوري والمعارض، واعتمدت بدلاً منها ولاءات دنيا على قدر استثنائي من العداء لوحدة الشعب وحريته، ولقيم الحرية والعدالة والمساواة التي طالبت الثورة بتحقيقها في سورية الجديدة.

في ظل اتفاق سيفضي إلى تراجع دور العمل العسكري، سيتوقف، من الآن، تحقيق أي هدف من أهداف الشعب على تعظيم دور السياسة وترجيحه على ما عداه، وعلى ضبطه، بحيث يتفق مع حرية السوريين ووحدتهم ، ويرد الاعتبار إلى العمل السلمي والعام والعاملين في حقله، بعد سقوط حقبةٍ نشر عبدة السلاح خلالها أجواء هستيرية، جعلت السياسة خيانة موصوفة، لن تنتج ممارستها غير منع انتصارهم الموهوم الذي عطلوا باعتماده مشاركة السوريين في الثورة، وعجزوا عن وقف انهيار فصائلهم خلال المعارك التي خاضتها طوال العام الماضي، باستثناء التي خاضتها بعضها ضد البعض الآخر، وانتهت بحصيلة وافرة جداً من قتل السوريات والسوريين، وتدمير بيوتهم ومناطقهم.

يعظّم الاتفاق فرص السياسة، بدءاً باختيار السوريين الحر ممثليهم، ويفسح المجال لاستعادة دورها فاعلية حاكمة. لذلك، ستمس منذ اليوم حاجة الثورة إلى مراجعةٍ شاملةٍ للممارسات السياسية التي تمت، خلال السنوات الست المنصرمة، وإلى بلورة جوانب كانت غائبة أو مغيبة عنها، وفاعلين لديهم الرغبة في والقدرة على خوض معاركها بصراحة وجرأة، انطلاقاً من التمسّك بوثيقة جنيف والقرارات الدولية التي تخدم مصالح شعبنا، لا بد أن نخوض المعارك التي يتطلبها تطبيقها.

في الماضي، فوّتنا على أنفسنا فرصة تولي الحرب بقوانا الذاتية ضد "داعش"، فهل نفوّت على شعبنا اليوم فرصة اتفاق الدولتين العظميين على بداية حل سياسي، ستزيد إدارتنا الحكيمة له من قدرتنا على إطاحة قاتل شعبنا ونظامه الفاسد والطائفي.

اقرأ المزيد
٣٠ يوليو ٢٠١٧
عن جبهة النصرة للمرة الألف

حققت جبهة النصرة نقلة جديدة في سيطرتها على منطقة إدلب، وهو أهم دور لها في سياق ما تقوم به منذ تأسّست، حيث سيطرت على إدلب ومعظم ريفها حتى باب الهوى. ولا شك في أن كثيرين ممن يعتبرون مع الثورة السورية فوجئوا بما جرى، وما زالت "نخب" كثيرة تدافع عن الجبهة كذلك. لكن ربما تكون الأمور قد اتضحت الآن بشكلٍ لا يسمح بأي دفاع عنها، على الرغم من أن هناك من يغرف في هوس أصولي سلفي، بالتالي يرى في الجبهة قوة معادية للنظام، على الرغم من "أخطائها" كما يظن.

لا شك في أن الهوس الطائفي يغطي على العقل، بما لا يسمح برؤية شيء، ولا بالتفكير المنطقي حتى. وأمام أزمة الثورة، غرق رهط من "النخب" في هذا الهوس. ولهذا، دافع ويدافع عن جبهة النصرة إلى الآن.

منذ البدء، أشرت إلى ضرورة سحق تمظهراتها الأولى، لأنها آتية لكي تفعل بالثورة السورية ما فعل تنظيمها الأصلي (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وهو فرع للقاعدة في العراق) بالمقاومة العراقية، وأشرت إلى أنها أتت للتخريب، وليس لـ "نصرة أهل الشام"، لكن عتاولة المعارضة تصدّت لذلك، وأخذت تلقي قصائد المديح للجبهة، ما هيأ لها "قاعدة شعبية". بات الآن واضحاً أنها قامت بدورها بكل جدارة، وأنها صفَّت كثيرا من كتائب "الجيش الحر"، ومن القادة والشباب الناشط، وكبرت بحيث تستطيع السيطرة، وسحق حتى الكتائب السلفية "أخوة المنهج".

وعلى الرغم من أنها، في منظورها المعلن، ليست مع الثورة، بل مع مسار مضادّ لها، فإن الأمر يتعلق هنا بمنظورها الديني، على الرغم من أصوليته ووحشيته، بل في أنها "صناعة مخابراتية"، على الرغم من انخراط كثير من الشباب السوري، ومن جماعة الإخوان المسلمين فيها. ودورها مخابراتي بامتياز، ولا علاقة له بالدين. هذا هو أساس فهمها وفهم دورها، وغير ذلك تضليلٌ وجنونٌ وأوهام. فقد كان لـ "والدها" (تنظيم قاعدة الجهاد) دور كبير في افتعال الصراع الطائفي خدمةً للمحتل الأميركي للعراق، ولإيران التي كانت تريد تخويف "الشيعة العرب"، لكي تهيمن عليهم، ومن ثم لسحق "السنة" خدمةً للمحتل وإيران معاً. ولقد صُدِّرت لسورية لتكمل المهمة بعد اندلاع الثورة. هذا ما حذَرت منه، منذ إعلان تشكيلها، وما وصلنا إليه الآن، مع الألم الذي ينتج عن ذلك.

جبهة النصرة هي أخت "داعش"، وكان لكل منهما دور محدَّد، كما شرحت، في مقالات سابقة، وكتبت أن مهمة "النصرة" السيطرة على منطقة إدلب، لكي تعود إلى "حضن الوطن"، أي لكي تسلمها لـ "حضن الوطن". لكن في السياسة السذاجة مدمرة، والصراع الغريزي مدمِّر، ولا أشك في أن أطيافا كثيرة في المعارضة كانت تنطلق من صراع غريزي. بالتالي، كانت تقبل كل من تتوهم أنه يقاتل النظام، بغض النظر عن ماهيته. ولهذا، وقعت في سقطاتٍ تفرض عليها أن "تشنق"، فقد سهّلت الوصول إلى هذه الهاوية بغباءٍ لا يبرّر لها. والمأساة أن هؤلاء الذين "احتضنوا" ودافعوا عن "النصرة" ما زالوا يعتبرون ذواتهم قياداتٍ في المعارضة، بدل أن يسحقوا بالأقدام. لن أسمي، فهؤلاء معروفون بالاسم. لكن، لا بد يوماً من المحاسبة، ليس لعصابات النظام فقط، بل كذلك لعصابات المعارضة وجهلتها، فكلاهما أوصل الثورة إلى هذا الحضيض.

أقول من جديد ليست "النصرة" تنظيماً أصولياً، على الرغم من خطابها الأصولي الوهابي، بل هي افتعال مخابراتي، وقادتها هم عناصر مخابرات، ربما من بلدان متعدّدة. لكن، بالتأكيد للمخابرات السورية عدد وازن فيها. هي كما "داعش" شركة أمنية خاصة، تخدم سياسات دول، وباتت تلعب دوراً مهماً في تدمير الثورات، بعد أن باتت النظم ترتعب من الثورة. وأشير الى أن ذلك يعني أن تكفّ الدول التي تدّعي دعم الشعب السوري عن دعم هذا التنظيم، فعديد منها يمدّه بالمال، وتسهيل الوصول في سياق لعبة إقليمية، تتصارع فيها دولٌ لتحقيق مصالحها.

اقرأ المزيد
٣٠ يوليو ٢٠١٧
«قسد» حين تعمل على جمع الضحايا

أثارت صورة نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمقاتلين في «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) يرفعون شارات وأعلاماً لما يعرف بأنه رموز وأعلام «المثليين»، ردود أفعال متباينة بين مؤيّد وشاجب. وبدورها سارعت «قسد» إلى نفي الموضوع واعتبار أن موضوع تشكيل كتيبة للمثليين هو برمته اختلاق، مع التزامها باحترام حقوق الإنسان بمن فيهم «المثليون»، فيما لم تتشكك بصحة الصورة.

تنهل «وحدات حماية الشعب» و «وحدات حماية المرأة»، وبالتالي «قسد»، من معين «حزب العمال الكردستاني» الإيديولوجي من دون تحرّج أو تهرب، فـ «العمال الكردستاني» الذي بدأ حزباً تحررياً كردستانياً، خاض في التحولات العميقة وتنقّل بين الفلسفات بانعطافات غيّرت فيه الكثير. فالحزب الذي بدأ ستالينياً لجهة التنظيم وبول بوتياً لجهة فرض الطقوس الطهرانية في ما يتعلق بمنع التدخين والكحول وتحريم العلاقة الجسدية وما إلى ذلك من حركاتٍ ترميزيّة في الكلام والتحية، تحوّل تدريجياً إلى صورة تحاكي الحركات اليسارية المعاصرة وأحزاب الخضر في الغرب، وتبدّل الحال هذه فرضته انعطافاتٌ جمّة ليس آخرها اعتقال أوجلان وتقديمه مراجعاتٍ فكرية ونصوصاً تدين الكثير من مسالك الحزب القديمة وممارساته، وتعديلاتٍ كبيرة في سياساته وإستراتيجيته. فالحزب كان الحزب الكردي الوحيد في حقبة التسعينات الذي ينادي بتحرير وتوحيد كردستان خلافاً للأحزاب الكردستانية الأخرى التي ترمي إلى انتزاع الحكم الذاتي، لكنه سرعان ما نحا إلى مطالبٍ مشابهةٍ لحركات الحكم الذاتي الكردية فألغى موضوعة التحرير والتوحيد واستبدلها بمشاريع من قبيل تآخي الشعوب، وذم النموذج القومي.

وراهناً تبدي المنظومة الفكرية للحركة الأوجلانية (الآبوجية) اهتماماً كبيراً بمسائل النسوية وتمكين المرأة، وقدراً مهماً من الاكتراث بحقوق الأقليات الاجتماعية كالمثليين والأناركيين واللادينيين وسواهم، فضلاً عن تحالف الأقليات الدينية والقومية.

هذه الصورة وجدت ضالتها خلال الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة عند «حزب الشعوب الديموقراطية» في تركيا، أي الحزب الذي يمثّل «العمال الكردستاني» في الحقل السياسي والانتخابي التركي، والذي نجح في تخطي عتبة العشرة في المئة بفضل تحالفاته تلك.

ففي بداية صعود «حزب العدالة والتنمية»، أبدى رجب طيب أردوغان في لقاءات إعلامية اهتماماً بالحريات العامة ومن ضمنها موضوع المثليين وحقوقهم، وكذا موقفه من دور البغاء وغيره من المواضيع التي قد تتحرّج منها الأحزاب المتدثرة بعباءة الدين. لكن انزياح الحزب نحو الخطاب الديني القارّ وتفضيله الخطاب الشعبوي وإهماله حقوق الأقليات الاجتماعية، دفع غريمه الكردي إلى تلقف المسألة وتبنيها حتى غدا «حزب الشعوب الديموقراطية» الحزب الوحيد في تركيا الذي يتبنى حقوق الأقليات الدينية والقومية والاجتماعية، ومن ضمنه الجماعات الاناركية والنسوية والمثليون.

تدأب «قسد» بما هي متأثرة بمعين الأوجلانية، إلى تقديم نفسها نقيضاً لـ «داعش» والحركات الإسلامية الراديكالية. فهي تقاتل في الرقة لا بقوتها العسكرية فحسب بل بعدةٍ تحاكي خيال الغرب، وهذا أمرٌ على رمزيته كفيلٌ باستحضار الدعم والتضامن اللازمين. فهناك الآن كتيبة الإيزيديات القادمات من سنجار واللواتي تعرّضت قريباتهن وصديقاتهن للاختطاف (السبي)، وهناك المقاتلون من الجنسيات المتعددة (المقاتلون الأمميون)، وعناصر من قوميات مختلفة من كرد وعرب وآشوريين سريان وتركمان. هذا التعدد المهول يقود خيال واحدنا إلى استذكار فكرة الجيوش الملحمية المتعددة الأقوام والعناصر والفئات كجيوش الإسكندر المقدوني أو هاني بعل!

في وقتٍ لاحق تناقل الإعلام الغربي صوراً بثتها مؤسسات داعش الإعلامية لمن قيل عنهم أنهم مثليون تم رميهم من علو شاهق في الموصل والرقة، وقد نعثر على صورة مماثلة في تراث بعث العراق حين أمر صدام حسين برمي بعثيين في البصرة من علٍ إذ قيل عنهم أيضاً أنهم مثليون، وهو سلوك قد يوجد مثيله في كتب العقاب في العصور الإسلامية الغابرة.

في الحالتين استُخدم المثليون مادة إعلامية تكشف مرةً عن غلظة يبديها «داعش» وعن تسامح مبالغ فيه عند «قسد». وفي مطلق الأحوال فإن الحرب في سورية تبيح استحضار تجارب الجوار الخشنة والناعمة وتبيح استخدام القضايا كلها لأجل تحقيق الفوز.

مع ذلك يصح القول إن «قسد» لن تكتفي بهزيمة داعش عسكرياً بل هي ترمي إلى تحقيق نصرٍ معنويٍ يجاري العسكري، عبر استنهاض الضحايا كلهم وتجميعهم ابتداءً بسبايا سنجار والنسوة المكلومات تحت ظلّ الخلافة وصولاً إلى آخر عناقيد الضحايا أي المثليين. ولمَ لا وهي تتكئ الآن على مفاهيم إيديولوجية جديدة تبيح لها ذلك.

اقرأ المزيد
٣٠ يوليو ٢٠١٧
ترامب يتبنى سياسة أوباما في سورية والعراق

لن يكفي إعلان هذا الانتصار أو ذاك ضد «داعش» أو «جبهة النصرة» أو أي من مشتقات «القاعدة» وأخواتها طالما يلفّ الغموض مصير المقاتلين في هذه التنظيمات كما سبق ولفّ ولادتها ونشأتها. هؤلاء الرجال لا يتبخّرون وانما يفرِّخون. سحق «دولة الخلافة» مثلاً، يتطلب إقناع الناس بمصير المقاتلين، جثثاً كانوا أو في إطار إعادة التأهيل أو حتى فارين إلى الكهوف والمدن التي صدّرتهم إلى سورية والعراق، يتطلب نشر صور الاستيلاء على دباباتهم وسياراتهم وآلاتهم الإعلامية التي بهرت العالم. فباسم مكافحة الإرهابيين تم تدمير العراق وتم استدعاء الإرهابيين إليه «كي لا نحاربهم في المدن الأميركية»، كما قال الرئيس الأميركي حينذاك جورج دبليو بوش. وتحت عنوان مكافحة الإرهاب تم تحويل سورية من ساحة عصيان مدني الى ساحة اجتذاب للإرهابيين من كل مكان للقضاء عليهم بعيداً من المدن الروسية والأميركية والإيرانية. الرئيس السوري بشار الأسد كان أول المستثمرين في «الشركة المساهمة» التي طوّرت صناعة الإرهاب العالمي في سورية، لكن المستثمرين والممولين كانوا منذ البداية متعددي الجنسيات والأهداف، منهم ما هو عربي، وشمال أفريقي، وما هو تركي وإيراني، على الصعيد الإقليمي. على الصعيد الدولي، أتى الأميركي والروسي والأوروبي مساهمَين أساسيين في ذلك الكوكتيل الاستخباراتي الغامض والفاعل في تأسيس «الشركة المساهمة» المسماة «داعش» التي تصدّرت الرعب والإرهاب إلى درجة نسيان تنظيم «القاعدة» وخلاياه النائمة قبل الانصباب على «جبهة النصرة» بمختلف أسمائها إنما بوضوح انضمامها إلى شبكة «القاعدة». إلى أين يذهب أولئك المتطوعون، الإرهابي منهم والعقائدي المتطرف وذلك الذي يعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق السُنَّة في وجه الزحف الإيراني باسم الشيعة بالذات في العراق ولبنان. قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني بات بطلاً لدى الإيرانيين لأنه صوّر نفسه ذلك المقاتل الشرس الذي حارب «داعش» في العراق وسورية كي لا تحاربهم إيران في أراضيها، آخذاً بنموذج جورج دبليو بوش. في العراق بالذات، أتت صناعة «الحشد الشعبي» كجيش موازٍ للجيش العراقي موالٍ لطهران أكثر مما هو لبغداد، لتضاعف شعبية سليماني وبطولته في تصدير نموذج الحكم الإيراني إلى العراق. كذلك في لبنان، حيث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ينصّب نفسه أيضاً قائد نموذج الجيش الموازي الموالي لطهران، ثم رفع راية مكافحة الإرهاب ضد «النصرة» و «داعش» أينما كان تلبية للنداء الأميركي وللاستراتيجية الإيرانية في إطار التموضع قبل اقتسام النفوذ في سورية والعراق. هذا مع الاحتفاظ بأدوات السيطرة على لبنان وعلى أوتار الخلاف الشيعي– السنّي في كامل البقعة العربية. هنا بالذات تتداخل الانتصارات الحقيقية والمزعومة في الحرب على الإرهاب. هنا تبرز إما السذاجة الأميركية –كما يراها البعض– وإما الحنكة الاستراتيجية الأميركية التي قررت أن مصالحها ما زالت تقتضي الاستمرار في إشعال النزاع السنّي– الشيعي بشراكة مع روسيا.

تركيا لعبت دورها في إنماء الصراع السنّي– الشيعي بتبنيها وتصديرها مشروع «الإخوان المسلمين» للصعود إلى السلطة بنموذجٍ فرض الدين على الدولة سنّياً، كما يفعل نظام الحكم في إيران شيعياً. طهران نجحت في فرض «الثيوقراطية» على الدولة في نظام ديني يرفع راية قيادة الشيعة أينما كان في البقعة العربية، ليس فقط داخل إيران والبيئة الفارسية. أنقرة فشلت في مصر كما في سورية، مع اختلاف تجارب الفشل، ذلك لأن ما فعلته في سورية انطوى على صناعة الإرهاب بأسهم عالية في تلك «الشركة المساهمة» بشراكات خليجية عربية.

الصراع السني – الشيعي امتد من الخليج إلى العراق وسورية ولبنان واليمن وهو الآن يتخذ بعداً في العلاقات مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب بصورة تختلف عما كانت عليه في زمن الرئيس باراك أوباما. كلاهما عرض نفسه شريكاً جدّياً يمكن الاتكال عليه في مكافحة الإرهاب بدلاً من الآخر. أوباما اقتنع بالشراكة مع إيران وتبنى سياسة أجّجت النزاع السنّي– الشيعي عمداً. إنما هذا ليس جديداً على الاستراتيجية الأميركية البعيدة المدى إزاء المعادلة السنّية– الشيعية الممتدة من أفغانستان وباكستان إلى إيران والسعودية، فالإرهاب في التعريف والتصنيف الأميركي، كان يوماً شيعياً ويوماً آخر سنّياً، والشراكة كانت يوماً مع صدام حسين في حربه مع إيران، ويوماً آخر مع إيران وامتداداتها في العراق وسورية مع الحفاظ على التهادنية مع إسرائيل.

دونالد ترامب يبدو مقتنعاً أكثر بالشراكة مع السُنَّة للقضاء على الإرهاب بجميع مشتقاته، من «القاعدة» إلى «داعش»، لكن سياساته العملية الميدانية ليست مُقنِعَة، لا في العراق ولا في سورية ولا حتى في لبنان واليمن. حصل الرئيس الأميركي في قمة الرياض التي جمعته مع القيادات السنّية، على التزامات وتعهدات مالية وبشرية للقضاء على التنظيمات الإرهابية السنّية، إنما هذا الاستعداد السُنّي للاندفاع إلى الصف الأمامي من المعركة سيفقد الزخم إذا انحسرت الوعود والتعهدات الأميركية باحتواء التجاوزات والطموحات الإقليمية الإيرانية.

تسليم مصير «الحشد الشعبي» في العراق إلى رئيس الحكومة حيدر العبادي إنما هو هروب إلى الأمام، لأن ليس في قدرة العبادي الوقوف في وجه القيادة الإيرانية لـ «الحشد الشعبي». وهذا مثال على الخلل الجذري في مكافحة «داعش» وأمثاله، لأن «داعش» العراق وُلِدَ من رحم تفكيك الجيش العراقي بعد غزو العراق واحتلاله في زمن جورج دبليو بوش، و «داعش» استطاع أن ينمو ويتوسّع لأنه أتى رداً على التجاوزات الإيرانية والمكابرة الشيعية في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي قزّم السُنّة وتعمد إقصاءهم. ما لم تتم المعالجة الجذرية للمعادلة السنّية– الشيعية في العراق بعد تحرير الموصل بما يعالج مستقبل «الحشد الشعبي» والنفوذ الإيراني في العراق، ستترك هزيمة «داعش» بذوراً لولادة بديلة، وربما الأسوأ.

في سورية أيضاً، تبدو إدارة ترامب في تعثر بين شراكاتها حتى مع إيران وميليشياتها من أجل سحق «داعش»، وبين ميدانية الترتيبات لاستيعاب «النصرة» و «داعش» وأخواتهما وتمزيق المعارضة السورية المسلحة المعتدلة. وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي كان بالأمس القريب أكثر المشككين بإيران وميليشياتها والمتوعدين بقطع الطريق على مشروعها الإقليمي، يتحدث الآن بلغة لا توحي بالاعتراض على امتداد «الحرس الثوري» و «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لإيران في الأراضي السورية التي يتم تحريرها من «داعش». مواقفه الحالية تتناقض ليس فقط مع مواقفه السابقة وإنما أيضاً مع المواقف المعلنة للرئيس ترامب.

كذلك الأمر مع مستشار الأمن القومي أتش. آر. ماكماستر الذي طالما هاجم إيران وانتقد سياساتها التي «تشعل حلقة النزاع المذهبي كي يبقى العالم العربي ضعيفاً دائماً»، فهو بدوره أوضح أن الولايات المتحدة لن تتدخل في سورية ولا في العراق لإيقاف إيران ومشروعها، «فسبب وجودنا في سورية هو تدمير داعش»، لا غير.

وفي الأيام القليلة الماضية، وللمزيد من التناقض في مواقف أركان إدارة ترامب، أطل علينا رئيس وكالة الاستخبارات المركزية CIA، مايك بومبيو، من منتدى آسبن Aspen ليقول بلسان إدارة ترامب «عندما نضع استراتيجية (نحو إيران)، أنا على ثقة بأننا سنكون قادرين على صدّ السياسات الإيرانية». مُطمئِنةٌ هذه المواقف! مطمئنة جداً! فليس لدى إدارة ترامب استراتيجية نحو إيران، على عكس التصريحات التي حملها ترامب إلى قمم الرياض وما تلاها من تهديد لإيران ولـ «حزب الله». هناك انحسار وتراجع في مواقف وتعهدات «محور الراشدين» –الذي يضم ماتيس وماكماستر وبومبيو وكذلك وزير الخارجية المسترخي ريكس تيلرسون– في انتظار تلك الاستراتيجية الأميركية الجديدة.

من المفيد للدول العربية توخي الحذر لأن في الاعتماد على الوعود الأميركية مقامرة ومغامرة. قمة الرياض أخذت وعوداً من ترامب وحشدت تعهدات بضمان تنفيذ الوعود. واقع الأمر الميداني يوحي بأن إدارة ترامب تبنّت فعلياً سياسة إدارة أوباما في سورية، وكذلك في العراق.

كلام الرئيس الأميركي يختلف عن سياسات إدارته الميدانية. الكونغرس يعاونه من خلال فرض عقوبات على إيران و «حزب الله»، إنما ما يعكف أركان إدارته على تنفيذه ينطلق من تلك الأولوية القاطعة لدونالد ترامب، وهي: زعم الانتصار في سحق «داعش»، بشراكة مع الشيطان –لو تطلب ذلك– وبسياسة قصيرة النظر عنوانها ذو شقين: أولاً، الاستعجال إلى انتصار ناقص لا يعالج الجذور التي أنتجت تلك التنظيمات المتطرفة السنّية التي سلكت الإرهاب، إما عقائدياً أو رداً على مشروع إيران الإقليمي، وهذا سيؤدي إلى تفريخ تلك التنظيمات، الناشئ منها والقابع في الخلايا النائمة، إلى جانب موجة انتقام من خذلان الأسرة الدولية برمتها المعارضة السورية. العنوان الثاني هو الاستثمار في التعالي الإيراني وتفاقم الثقة بالنفس لدى إيران وحلفائها بسبب انصياع إدارة ترامب لمشروع الهلال الإيراني، ما سيُنتج خريطة للتمدد الإيراني عبر العراق وسورية ولبنان باسم التواصل مع إسرائيل بالتهادنية المعهودة بين اليهود والفرس. هكذا يُنسف أيضاً ذلك الاستعداد الخفي لدى السُنّة للمصالحة مع إسرائيل على أسس جديدة غير تلك الواردة في المبادرة العربية للسلام والتي رفضتها إسرائيل.

أما إذا استعادت إدارة ترامب توازنها وكفَّت عن الإيحاء بشيء وتنفيذ نقيضه، فقد يكون وارداً الاعتماد على استراتيجية بنّاءة تدشن ابتعاد الولايات المتحدة من السياسة التقليدية القائمة على لعب أوتار المعركة المذهبية بين السُنّة والشيعة. عندئذ يمكن الوثوق ببدء العزم على القضاء على إرهاب هذا التنظيم أو ذاك. في غياب ذلك، يبدو أن الشركاء المستثمرين المتعددي الجنسيات في «الشركة المساهمة»، من الصناعات العسكرية إلى الاستراتيجيات النفطية والأمنية والاستخباراتية، ما زالوا متعطشين ولم يشبعوا بعد.

اقرأ المزيد
٢٩ يوليو ٢٠١٧
عرسال نصر الله: ذرّ الرماد الدامي

كما بات معتاداً في كلّ «خطبة نصر» يلقيها حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، طفحت البلاغة اللفظية التي تزعم التجرّد من المذهب الضيّق، وتتوجه إلى «كل المسيحيين بكل طوائفهم ومذاهبهم وكل المسلمين بطوائفهم ومذاهبهم»؛ وتنأى، في اللفظ وحده، عن مصالح الحزب ومَن يمثّل وبمَنْ يأتمر، لكي تغازل «جميع اللبنانيين وكل شعوب المنطقة التي تعاني من الإرهاب التكفيري»، وتهديهم «النصر» الأخير في عرسال. وبالطبع، كما في كلّ خطاب أيضاً، كانت فلسطين حاضرة (لأنها روح الحزب وجوهر نضالاته، غنيّ عن القولّ)، فتوجّه نصر الله بالتحية إلى «المرابطين في القدس». وإلى «أهل الضفة، وكلّ الفلسطينيين».

هذا ما طفا على السطح، أولاً، لكي يُخلي العمق سريعاً لخطاب آخر؛ مذهبيّ صريح، حزبيّ تعبوي ضيّق، لا تأتأة فيه ولا غمغمة: «أوجّه التحية إلى كلّ المضحين، إلى الشهداء والجرحى المجاهدين وعوائلهم، وأقول إنّ فيكم الحسين والعباس وزينب»، هكذا هتف نصر الله، و»غصّ بدموعه» حسب توصيف صحيفة «الأخبار» اللبنانية. كذلك أهدى نصر الله «نصر» حزبه إلى «ورثة أهل البيت، بكم أخرجَنا الله من ذلّ الاحتلال والهوان والضعف والخوف والهزيمة». وليس ذكر الجيش اللبناني، في خانة فريدة حقاً، هي «شريك وعمدة المعادلة الذهبية»؛ إلا من قبيل ذرّ الرماد في العيون، وإشراك جيش خانع أمام سلاح «حزب الله»، ذليل وتابع وذيلي، لم يعد يملك استقواءً إلا على النازح السوري في مخيماته.

والحال أنّ نبرة نصر الله تعيدنا إلى خطاب سابق، قبل ثلاث سنوات، كان أشدّ وضوحاً في تحديد الانتماء المذهبي الإقليمي والعالمي للحزب، وليس هويته المحلية وحدها؛ حين هتف نصر الله: «نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ و»نحن الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري». وبالطبع، كان ذلك الإعلان لا يأتي بجديد لا يعرفه العباد، ولا يعيد تعريف الحزب المعرّف جيداً لتوّه؛ بقدر ما يدخل في خصومة مذهبية علنية مع الآخرين، لجهة التشديد على الركنَيْن، «الإماميّ» و»الإثنا عشري»، تحديداً. وكان القصد، يومها كما في كلّ لجوء إلى هذا التشخيص المذهبي، هو التعبئة العقائدية والتحشيد الشعبي من جهة أولى؛ ثمّ التشديد، أكثر وأوضح، على أنّ الانتماء الإمامي والإثنا عشري لا يقتصر على الدين والمذهب، بل يشمل الدنيا والسياسة، وينتهي إلى طهران، حيث الوليّ الفقيه.

جديرة بالاستعادة، أيضاً، تلك الروحية التي امتاز بها نصر الله الشاب، قبيل صعوده السريع في سلّم قيادة الحزب؛ وحين كان الشحن المذهبي، دائماً وأوّلاً، ركيزة تنظيمة كبرى، قبل أن يكون خياراً في العقيدة. يُسأل الأمين العام عن شكل نظام الحكم الذي يريده الحزب في لبنان، فيقول (وننقل بالحرف): «بالنسبة لنا، ألخّص: في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان. نحن نعتقد بأنّ علينا أن نزيل الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن يُنفّذ مشروع، ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني».

ثمّ يُسأل عن علاقة الحزب بإيران، فيقول: «هذه العلاقة، أيها الأخوة، بالنسبة لنا أنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعملون في مسيرة ‘حزب الله’، وفي أجهزته العاملة، لا أبقى لحظة واحدة في أجهزته لو لم يكن لديّ يقين وقطع في أنّ هذه الأجهزة تتصل، عبر مراتب، إلى الولي الفقيه القائد المبرئ للذمة الملزم قراره. بالنسبة لنا هذا أمر مقطوع ومُطْمَأن به (…) وهذه المسيرة إنما ننتمي إليها ونضحي فيها ونعرّض أنفسنا للخطر لأننا واثقون ومطمئنون بأنّ هذا الدم يجري في مجرى ولاية الفقيه». ورغم أنه يعتب، خلال الجلسة ذاتها، على تصريح آية الله كروبي بأنّ الحزب «هنن جماعتنا في لبنان»؛ فإنّ نصر الله لا يجد عيباً في التصريح إلا من حيث المستوى الإعلامي: «هيدا مش صحيح، إعلامياً مش صحيح»!

ثالثاً، يسألونه مَن أعلم بالحالة السياسية ومتطلباتها في لبنان»، فيجيب نصر الله (نبرة جازمة وعصبية، بعد أن يلقي بورقة السائل على الطاولة أمامه، كما يُظهر الفيديو): «الأعلم هو الإمام الخميني! لماذا؟ لأنني سابقاً ذكرت بأنّ الحالة السياسية في لبنان ليست حالة معزولة عن حالة المنطقة. هي جزء من حالة الصراع في الأمّة، هي جزء من وضع الأمّة، فكما أنّ إمام الأمّة يعرف هذا الجزء، يعرف هذا الجزء (…) الإمام الذي يخطط، هو يخطط للأمّة. المجتهدون تأتي أدوارهم في كلّ بلد، مكمّل [كذا] لخطّ الإمام، ولمشروع الأمّة الإسلامية الواحد. فلا يجوز أن نجزئ صراع الأمّة مع أعدائها، ما دام الأعداء يخوضون صراعاً واحداً مع الأمّة، فيجب أن يكون [كذا] إدارة الأمّة في صراعها واحدة، وهي من خلال الإمام».

الأرجح أنّ أحداً، في أجهزة الحزب ومؤسساته الإعلامية تحديداً، لن يجد جسارة كافية للزعم بأنّ هذه الاطروحات لصيقة بسياقات محددة، وبالتالي لا يجوز إخراجها منها، ولا قراءة مواقف نصر الله وسياسات حزبه على ضوئها. ثمة استمرارية عضوية، أقرب إلى مبادئ كبرى ناظمة، حكمت علاقة الحزب بالمشهد اللبناني الداخلي ثمّ الجوار الفلسطيني والسوري والعراقي، واليمني لاحقاً (للتذكير فقط: في خطبته الأخيرة توجه نصر الله بالتحية إلى «السيد عبد الملك الحوثي، الذي أعلن بوضوح وقوفه مع اليمنيين إلى جانب لبنان في أي معركة مع العدو الإسرائيلي، وهذا تأكيد لمعادلة القوة التي تريد أمتنا أن تكرّسها»؛ رغم أنّ «نصر» نصر الله كان في جرود عرسال وليس في مواجهة أية «إسرائيل»، فعلية كانت أم متخيَّلة). وفي هذا كلّه، ثمة «الإمام الذي يخطط»، وهو الذي «يخطط للأمّة».

وفي كلّ حال، ليس للغطاء المذهبي العقائدي أن يحجب حقائق حروب «حزب الله» في عرسال، هذه وسواها التي سبقتها؛ وأنها، في أوّل المطاف وآخره، امتداد طبيعي لحروب الحزب إلى جانب نظام بشار الأسد، وضدّ الشعب السوري؛ قبل أن تكون ضدّ «النصرة» أو «داعش»… قبلها، وأقدم منها كثيراً في الواقع. ثمة، في البدء، ستراتيجية ركيكة للإيحاء بأنّ حروب الحزب في عرسال (حتى بذرائع أشدّ ركاكة، تتصل بحروب الجيش اللبناني العتيد) تبرر تدخل الحزب العسكري في دمشق ودرعا وحمص وحلب وحماة ودير الزور.

وثمة، بالتوازي التامّ، تعمية خبيثة على جرائم الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية ضدّ النزوح السوري، وعقاب لأهل عرسال اللبنانيين على تعاطفهم المبكر مع الانتفاضة السورية.

وتبقى خلاصة ثالثة، تخصّ التهويل العاطفي الذي تُغطى به مقولة «الالتفاف الوطني» حول الجيش اللبناني، وأنه «خطّ أحمر»… حين يتصل الأمر بالنزوح السوري، حصرياً. أمّا أنّ هذا الجيش منتهَك الكرامة، عسكرياً ومعنوياً، أما سلاح «حزب الله» أوّلاً، والميليشيات كافة ثانياً؛ وأنّ الجوهر الأقصى لوظائفه بات منحصراً في ترقية قائد إلى رتبة رئيس الجمهورية، حيث يسود الوئام الوطني ساعة، وتهيمن الانشطارات الطائفية والمذهبية والطبقية كلّ ساعة… فهذه اعتبارات لا يُسكَت عنها، فحسب؛ بل يُكمّ كلّ فم يتجاسر على تظهير حقائقها الساطعة.
وهكذا فإنّ «نصر» عرسال اليوم، مثل جميع «انتصارات» حزب الله» منذ تدخله العسكري في سوريا: ذرّ لرماد دامٍ في العيون، وهزيمة نكراء لبلد كان يسمى لبنان، وصار محض «جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى»

اقرأ المزيد
٢٩ يوليو ٢٠١٧
لقاء ترامب ـ بوتين الملتبس والمصائر العربية

في استمرار لمسلسل العلاقة الملتبسة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين كشفت وسائل الإعلام العالمية عن لقاء خفي جرى وراء كواليس قمة العشرين التي عقدت في ألمانيا مؤخرا وتكتم عليه الرئيسان إلى أن انفضح؛ وفي حين أصر الكرملين على أن اللقاء لم يحصل، فإن البيت الأبيض اضطر لتقديم تفسيرات متضاربة حوله.

ولو لم يكن ترامب ملاحقاً باللعنة الروسية منذ انتخابه حتى الآن لكان يمكن لهذا اللقاء أن يجد تفسيراً يمكن هضمه، لكن غرابته تزداد عندما نعلم أنه من النادر تاريخيا لرئيس أمريكي أن يلتقي بقادة آخرين، وخصوصا الخصوم منهم، وجها لوجه من دون تحضير مسبق ومن دون وجود دبلوماسي، أو حتى مترجم في الحالة الأخيرة، من الطرف الأمريكي، وبما أن الحال كذلك فمن الطبيعي جدا أن تثور الشبهات التي تزداد حلكة يوما بعد يوم.

صرح ترامب لاحقا أن الاجتماع دام 15 دقيقة لكن تقارير صحافية أكدت أنه استمر مدة ساعة، وكان قد سبقه لقاء معلن حضره وزيرا الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون والروسي سيرغي لافروف ومترجمان من الطرفين، فما الذي جعل ترامب، في الوقت الذي يجري التحقيق مع صهره وابنه وكبار مسؤوليه حول العلاقة مع روسيا، يضع رقبته مجددا تحت تصرف بوتين، الذي يمكن أن يدعي ما يشاء حول هذا اللقاء؟

حسب شون سبايسر، الناطق باسم البيت الأبيض الذي استقال مؤخرا، فإن اللقاء كان «لتبادل المجاملات»، في حين زعم ترامب في لقاء مع صحيفة «التايمز» إنه تحدث مع بوتين حول «تبني الأطفال الروسيين»، وهو ادعاء مضحك على طول الخط ولا يتناسب لا مع «قمة العشرين» ولا مع شخصيتي ترامب وبوتين، ولا مع درجة الاشتباه التي أججها كشف الموضوع.

المنطق يقول إن اللقاء تناول شؤونا تخص الرئيس ترامب شخصيا، من جهة، والشؤون الروسية في العالم، من جهة أخرى.

ما يمكن أن نلاحظه من تطورات بعد قمة العشرين، فيما يتعلق بشؤون عالمنا العربي، يمكن أن يعطينا بعض العلامات التي قد تفيدنا في قراءة كيف يرتسم مصيرنا على خارطة التفاهمات الأمريكية الروسية.

من ذلك، على سبيل المثال، إعلان الولايات المتحدة الأمريكية إيقاف برنامج دعمها لبعض فصائل المعارضة السورية، ثم إعلان روسيا خطة جديدة لما تسميه «مناطق خفض التوتر» تكون فيه موسكو الراعية الكبرى لهذه الخطة من دون ذكر للولايات المتحدة (مع إضافة لافتة للنظر وهي تطويب دخول مصر السيسي على خط الأزمة السورية بإعلان أن الاتفاق السوري تم في القاهرة)، كما شهدنا قيام الجيشين السوري واللبناني و»حزب الله» بمعركة منسقة ضد تنظيمات سورية مسلحة موجودة في لبنان.

على صعيد الأزمة الخليجية أعلنت روسيا أنها جاهزة للتوسط حين يطلب منها، وذلك بعد تراجع فرص التسوية رغم دخول أمريكا وأوروبا وتركيا على خط الوساطة، وهذه، ربما، إشارة أخرى تنتظر أن تتضح.

ما لاحظناه، على الضفة الأوروبية، أن ألمانيا، وهي المرتبطة عضويا بخط الغاز الروسي، طالبت، مؤخرا، بعقوبات جديدة على موسكو، وهو أمر يمكن أن يعكس خط التصدع الأوروبي الأمريكي على خلفية روسيا، لكن، من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الانحناءة الفرنسية التي قدمها رئيسها الجديد ايمانويل ماكرون، باحتفائه الشديد بترامب بعد عزلته الأوروبية المقصودة خلال قمة العشرين، ولقائه قبل ذلك ببوتين وما أثمره، أيضاً، من تسليم فرنسا الملف السوري لروسيا.

أيا كانت الاتجاهات العالمية ستسير فالمؤكد أن الدول العربية الرئيسية، مشغولة حاليا بتركيع شعوبها، وحصار قطر أكثر من اهتمامها برد الاستكبار الإسرائيلي على الأقصى، أو الاجتياح الإيراني للمنطقة، أو حتى، باهتزاز الأرض من تحت أقدامها، وعلى كل الجبهات.

اقرأ المزيد
٢٩ يوليو ٢٠١٧
«الحشد الشعبي»... وتحييد لبنان

ليست صحيفة «واشنطن بوست» وحدها التي أبدت الخشية من أن يفقد لبنان حياديته في الصراع الإقليمي والدولي القائم في المنطقة، فالسؤال عن مدى قدرة بعض الطبقة السياسية اللبنانية على ضمان الحيادية مطروح يومياً.

ومن لا يقرّ من الساسة اللبنانيين بأن البلد في امتحان دائم على هذا الصعيد يكون كمن يضع رأسه في الرمال ويعتقد أن الآخرين جهلة. فهدف تحييد لبنان عن صراعات المنطقة شعار جميل قابل للتطبيق لو أن هناك اتفاقاً فعلياً لا لفظيًا بين المكوّنات الداخلية عليه.

السؤال عن قدرة لبنان على تحييد ذاته عن صراعات المنطقة تحوّل سؤالاً عن مدى احتمال قوى إقليمية رغبة فرقاء محليين باعتماد هذه السياسة في وقت تتوالد الأحداث وتجعله مسرحاً لوقائع خارجية.

والمسألة تتجاوز قدرة لبنان على تحييد نفسه على رغم اعتداد فرقاء كثر بهذا الطموح. أبسط الأمثلة أن «داعش» وحده قادر على إطاحة سياسة التحييد هذه، عبر العمليات الإرهابية التي نفذها سابقا أو سعى إلى تنفيذها، شأن العمليات التي حدثت في غير بلد بعيد أو قريب. وأكثرها وضوحا فتح «حزب الله» الحدود بين لبنان والمسرح الحربي السوري في شكل غير مسبوق للسيطرة على أجزاء منه.

وإذا كان هناك من يشك في التحدي اليومي لقدرة لبنان على تحييد نفسه، يكفي حدثان راهنان للدلالة على إلحاح هذا التحدي.

في المعركة لتحرير جرود عرسال كان صعباً التمييز بين البعد الإقليمي والأهداف اللبنانية الأكيدة لاندلاعها وهي أنها للتخلص من مجموعات إرهابية، مع أن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قال إن قراراً ذاتياً كان وراءها لا دخل لإيران وسورية فيه، بينما تتغنى طهران بالانتصار المحقق. أما الحدث الثاني فكان رسالة الكويت إلى الحكومة اللبنانية مطالبة إياها بأجوبة واضحة وجدية عن إجراءات لبنان لردع الحزب عن تقويض أمنها بعد إدانة الحزب بتمويل خلية العبدلي التي نفذت عمليات إرهابية وتسليحها وتدريبها، وكانت تنوي القيام بعمليات غيرها، فائقة الخطورة، بدعم إيراني.

وللبنان تاريخ من ارتباط المعادلة فيه بمجريات الإقليم، وسوابق لا حصر لها من طموحات قواه الداخلية لفك هذا الارتباط. وكل المحاولات السابقة للفصل بين المسارين اللبناني والإقليمي للحروب الداخلية فيه وفي المنطقة، فشلت على مرّ التاريخ. هكذا حصل في مراحل الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975 على رغم محاولات عربية ودولية لتحقيق هذا الفصل. وهو ما تكرّر عندما جرى ربط لبنان بالسياسات السورية إلى درجة أدخلت المخابرات السورية في حينها في أحشاء المؤسسات اللبنانية السياسية والإدارية والعسكرية وتفاصيل المشهد الداخلي. ومن يعرف تاريخ البلد يدرك أن الأمر لم يكن مختلفاً في الأزمات الداخلية السابقة، بما فيها التي وقعت في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع تقاسم النفوذ الدولي في المنطقة، إذ استخدمته الدول منصة لترتيب هذا التقاسم.

المرة الوحيدة التي أخذت السياسة اللبنانية قدراً معقولاً من الاستقلالية عن الصراع الإقليمي كانت إبان عهد الرئيس جمال عبد الناصر حين اتفق مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب، ما أتاح تجنيب البلد الالتحاق الكامل بتعقيدات هذا الصراع، فأسس الأخير بناء تحديثياً للمؤسسات اللبنانية. ومع ذلك لم تنج تلك المؤسسات من آثار الإجازة الخارجية للحاكم اللبناني أن يتصرف باستقلالية، فنشأ حكم «المكتب الثاني» (المخابرات).

ولا يختلف الأمر في حالة «حزب الله» كقوة إيرانية إقليمية، مهما جرت تغطية دوره بهويته الداخلية كمكوّن لبناني. ومثلما أن دوره الإقليمي في سورية والعراق واليمن والبحرين وسائر دول الخليج، هو بالتعريف إيراني، فإن وزنه في المؤسسات اللبنانية كافة انعكاس حتمي لكل ذلك.

مع صعوبة تكرار تجربة عبد الناصر- شهاب، لأن الرئاسة اللبنانية ترمز حتى إشعار آخر إلى الالتحاق بالمحور الذي ينتمي إليه الحزب، يكرّر رئيس الحكومة سعد الحريري شعار تحييد لبنان تارة، وشعار تحييد الخلافات الداخلية عن العمل الحكومي تارة أخرى، ويحيل إيجاد حل لمسالة «حزب الله» إلى «الإطار الإقليمي». فالتحدي الذي لا يحسد عليه في ظل اختلال ميزان القوى الإقليمي يجعل مهمته أصعب من أسلافه.

وتحييد لبنان مرتبط بقدرة نصرالله على ملاقاة الحريري، وهو امر مستحيل مع اضطرار ايران لمواجهة ضغوط أميركية وعربية جديدة، والحريري غير قادر أن يتقمص شخصية حيدر العبادي في العراق بتشريع دور الحزب، كما شرّع الأخير «الحشد الشعبي» ليفتح الحدود مع سورية. قد يكون الحريري لقي تفهماً في واشنطن، لكن الحزب قد لا يتيح لدول عربية ذلك بعد أن صبرت طويلاً.

اقرأ المزيد
٢٩ يوليو ٢٠١٧
في معاني التحاكي بين التجربتين السورية واللبنانية

تبحث الإرادات الدولية النافذة في الوضع السوري عن صيغ للحل تبتعد، وفقاً لما هو معلن، عن فكرة الدولة المركزية، لمصلحة تصدّر صيغاً من «الفدرلة» أو «اللامركزية الموسعة»، تستلهم، إلى حدود كبيرة، روح تجربة «التحاصّ الطوائفي» اللبناني.

أي أن تجربة «الدولة التسلطية» في سورية التي اعتقلت ممكنات الاندماج الوطني طيلة خمسة عقود، واشتغلت بعد قيام الثورة عام 2011 على تفكيك «الاجتماع الوطني» الرث أصلاً، واستقدام القسم المتأخر من «المجتمع السوري» بتعبيراته الفصائلية، لخنق القسم الأقل تأخراً بالتكامل موضوعياً مع نهجها الأمني الاستبدادي، تسيل حالياً باتجاه قيام نظام ينطوي على شكل من أشكال المحاصّة بين هويّات طائفية وإثنية، مقترباً من حيث المضمون من النموذج اللبناني. هذا فيما يعمد «حزب الله» داخل نظام المحاصّة الطائفي اللبناني إلى استلهام مضامين «الدولة التسلطية» في سورية، على خلفية تغيّر موازين القوى بين الطوائف اللبنانية، واحتكاره السلاح وقرارات السلم والحرب وتدخله العسكري في سورية، وانتفاخ دوره الإقليمي تحت الإشراف الإيراني. وهو يتّجه إلى تعميق انفصاله عن بقية الطوائف اللبنانية، وذلك بتعالي بنيته الأمنية / العسكرية وتضخمها وانفصالها عن «المجتمع اللبناني»، وتحوّلها إلى مصدر من مصادر استلاب اللبنانيين واغترابهم عن ذواتهم الإنسانية، فضلاً عن تحوّل الطوائف اللبنانية وتعبيراتها السياسية والاجتماعية إلى مجرد «أحزاب جبهة وطنية تقدمية» ملحقة طوعاً أو كرهاً بتلك «البنية الحزبية التسلطية»، وإحالة اعتراضات بعض الأطراف الداخلية اللبنانية على سياسات الحزب إلى مجال اللافاعلية واقعياً.

يشير هذا التحاكي في نتائج تجربتين مختلفتين طيلة عقود إلى تماثل في الماهية العُليا الحاكمة على مجريات الحياة الظاهرية التي تبدو مختلفة بينهما، ويقف تشابه الماهية تلك في خلفية تحول «نظام تسلطي» مغرق في المركزية والشمولية، بعد خمسين عاماً من التسلط، إلى تلمس شكل من أشكال التحاصّ الطائفي والإثني بعد انهيار «الاجتماع السوري»، الذي كان موضوعاً للاستبداد، ويقف أيضاً في خلفية ذاك النهج التسلطي السافر، الذي يستطرد «حزب الله» في فرضه على اللبنانيين، بعد سبعين عاماً من تجربة المحاصّة الطائفية، التي تسيل أيضاً باتجاه مقاربة النموذج التسلطي السوري.

ومن معاني تحاكي نتائج التجربتين أيضاً:

أولاً، انشغال الرأي العام في كلا البلدين طوال عقود بمسائل ذات طابع أيديولوجي، ما فوق وطنية أو ما دون وطنية، أدخلت «المجتمعين» في صراعات دافعة باتجاه انحداري معرفياً وأخلاقياً وثقافياً ومجتمعياً، فيما ظلت التناقضات الدافعة باتجاه التقدم التاريخي مركونة على الهوامش، كالتناقض بين الهويّة والحرية، أو بين الحداثة والـتأخر، حيث حجبها ضجيج اجترار الكلام الفاقد المعنى.

ثانياً، عمّم النظام السوري خلال اجتياحه لبنان أدلوجة «شعب واحد في دولتين»، كما يعمّم «حزب الله» حالياً أدلوجة «دخلنا إلى سورية لكي نحمي ظهر المقاومة». وفي مواجهة هذا الخلط الرديء في وصل البلدين القائم على مصالح فئوية وهوويّة، ينبغي تأكيد الفصل بين «الشعبين والمجتمعين والدولتين» من أجل وصل قائم على مبدأ الحرية. فالسوريون واللبنانيون شعبان مختلفان في دولتين مختلفتين، لكن قضاياهما المستقبلية المتصلة بتحررهما من الهويّات والتأخر هي قضايا مشتركة ومتصلة وواحدة، فهما «شعبان مختلفان وقضاياهما واحدة»، ويحتاجان إلى الحرية والديموقراطية والعلمانية والأمويّة (من أمّة) وإلى إقامة الحد على «أدلوجة المقاومة» وتفكيكها منطقياً وأخلاقياً ووطنياً، ويحتاجان أيضاً إلى نمو في حيثية الكلي في مواجهة تسلطن الفئوي والجزئي، وإلى الفكر الذي يرفع لواء الكليات، (إنسان، مساواة، عدالة، حرية، قانون، دولة، أمة، شعب...)، في مواجهة التخلّع المجتمعي و «الخلاعة الأيديولوجية».

ثالثاً، استقدمت التجربتان إلى بلديهما مختلف أنواع التدخلات الخارجية، بدوافع المصالح الحصرية المتعارضة مع المصلحة الوطنية العمومية، وبالتالي ساهمتا في انحدار البلدين إلى حضيض البلد- الساحة، فغدت سورية كلبنان ساحة صراع قوى دولية وإقليمية، وتراكبت تلك الصراعات مع الانقسامات المجتمعية الداخلية، فأصبح الخروج من هذا الحضيض مهمة تاريخية مشتركة بين الاستقلاليين اللبنانيين والسوريين.

رابعاً، إن التهديد الذي وجهته أوساط «حزب الله» إلى المثقفين اللبنانيين الذين وقّعوا مؤخراً على بيان التضامن مع اللاجئين السوريين في لبنان، يعيدنا بالذاكرة إلى إعلان «بيروت – دمشق» الذي وقّع عليه مثقفون لبنانيون وسوريون، وقامت السلطات السورية حينذاك باعتقال عدد من الموقّعين، وفصل عدد آخر من وظائفهم. وهذا يدلّل على أن قوى الاستبداد والتأخر في البلدين تعمل في اتجاه واحد، وقوى الحرية والحداثة تعمل في اتجاه معاكس وواحد أيضاً.

بكلام مختصر: إن هاتين التجربتين، على رغم اختلافهما ظاهرياً، قامتا على مبدأ الهوية غلبةً أو محاصّةً، وجرّتا كلا البلدين إلى نتائج متهاوية في كارثيتها، ولم يعد ممكناً إيقاف مسارات الانحدار الراهنة التي تعصف بأسس الحياة الآدمية في البلدين، إلا بالخروج مبدئياً ونهائياَ من سجون الهويّات إلى رحاب الحرية المرتبطة بفكرة الماهية الإنسانية كماهية كلية حاكمة على كل الانتماءات الأخرى.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان