الثورة السورية ومأساة المعارضة الداخلية والخارجية
لا تكاد تذكر الثورة في سوريا إلا ويتبادر لذهنك القتال والمعارك الطاحنة التي تدور على كل الأراضي السورية والقتل والدمار والسجون والمعتقلات والأهوال التي لا تخطر على بال والتضحيات التي يعجز شعب في الوجود عن بذل مثلها في سبيل الحرية، والبطولات التي حققها الثوار في معاركهم ضد قوات النظام على الرغم من عدم التكافؤ لا بعدة ولا بعتاد، ويتبادر للذهن أيضاً كيف زج النظام بهؤلاء الطيبين في غمار هذه الحرب ليقتل الأخ أخاه والجار جاره والجيش شعبه الذي ولد من صلبه.
وفي الطرف الآخر يتبادر للذهن مجريات الأحداث السياسية وكيف تحولت الثورة إلى حالة من الفوضى والاقتتال بين أخوة السلاح وبين الذين من المفترض أنهم في خندق واحد وأنهم حملة مشروع واحد ليصبح حلم الناس في بلدٍ خالٍ من الظلم والاضطهاد وهّماً ليس فيه من الحقيقة شيء ثم تتحول سوريا إلى ساحة لحرب مفتوحة تحركها مصالح الدول السياسية ويدفع ثمنها الشعب السوري بكل ما يملك وتتحول الثورة من حق مشروع إلى حالة مرضية لا يرجى لها برء.
ولعل أول المسامير التي دقت في نعش الثورة وأدت إلى حرفها عن سياقها الطبيعي والمنطقي الذي ولدت فيه كان عدم المقدرة على تحقيق تكامل بين مكونات الثورة السياسية والعسكرية واستمرار الهوة بالاتساع بين الداخل الذي لا صوت يعلو فيه صوت البندقية ولا أداة فيه سوى المدافع والقذائف ولا سبيل لتحقيق الهدف إلا المعارك والانتصارات، وبين الخارج الذي يمثل الجانب السياسي بما فيه من هيئات وأجسام يسعى كل منها لتحقيق مسكب سياسي على حساب الدم الذي لم يتوقف ولا يزال يزداد تدفقاً حتى كاد يغطي البلد بأكملها.
بل واستمر الرقع اتساعاً بين الجناح السياسي والعسكري حتى وصل إلى ما عرف اصطلاحاً بمعارضة الخارج والداخل أو بثوار الفنادق والخنادق ليأول الحال إلى عداء مستمر جعل من الهيئات السياسية والفصائل العسكرية أعداء ألداء يسعى كل واحد منهم لأن يكيل الاتهامات ويسوق الحجج والبراهين التي تثبت تورط الآخر وضلوعه فيما صار الوضع إليه وليصبح النظام هدفاً ثانوياً لم يعد يخطر على بال أحد.
ثم يستمر المشهد السياسي على هذا المنوال وتتحول الثورة التي خرجت ضد الظلم والتي كان مطلبها الإطاحة بالنظام إلى معارك طاحنة بين الفصائل العسكرية بحكم اختلاف الولاءات والداعمين ومعارك سياسية لا تقل حدة بين الهيئات السياسية التي يطمح كل منها لأن يسجل مكسباً سياسياً لتكون ثمرة هذه الغوغاء التي لم يتداركها السوريين للحظة انحسار الثورة إلى منطقة صغيرة وخروجها عن المشهد القائم وتحول البلد إلى ألعوبة في أيدي القوى العظمى التي لا تفكر فيما ثار الشعب لأجله ولا يعنيها من ذلك قيمة ولا مبدأ ولا فضيلة بل كل الذي يعنيها تأمين مصالحها وتحقيق مكاسبها السياسية والعسكرية في سوريا.
ولأن العقلية السورية أمنت بيئة خصبة لتنامي الخصومات وتزايد العداوات فاستطاع أعداء الثورة أن يفرقوا بكل هدوء بين جناحي الثورة السياسي والعسكري وأن يجندوا كلا الطرفين لخدمة مصالحهم في تقويض الثورة والقضاء عليها من خلال إرساء ثقافة الفرقة والاتهام والتخوين حتى أصبحت السمة التي صبغت الثورة بها بكل جوانبها الإغاثية والتعليمية والطبية والثقافية وغيرها فضاعت بذلك كل التضحيات هباء منثوراً وبددت كل البطولات كأنها لم تكن وتحولت الثورة إلى كيانات مفككة مبعثرة لا روح فيها عاجزة عن جمع المكاسب والحفاظ على الانتصارات التي تحققت في أعوام الثورة الأولى.
ولم تقف الحالة عند تحول الثورة إلى معارضة داخل وخارج بل تحولت إلى ثقافة مجتمعية عمودها الأول فرقة الصفوف وتقسيم الجماعات فبعد أن قضي على معظم الفصائل العسكرية ومعظم الهيئات السياسية تعاد حتى الآن وعلى ناطق أضيق من السابق ذات التجارب والخطوات وتظهر من جديد جماعات سياسية وهيئات مدنية تعيد الخطوات نفسها مؤمنة بما لدى عناصرها من صدق وإخلاص في أنها ستعيد الثورة إلى ما كانت عليه ولكن غياب العقل الجماعي وثقافة الاتهام والانتقاص من الآخر تغشي عيون الجميع وتعمي أبصارهم عن أن اتباع نفس الخطوات في انتظار نتائج مختلفة ليس من الحق في شيء.
ولعلنا اليوم قد وصلنا إلى آخر المشوار ولعلها الفرصة الأخيرة ولا سيما فيما تبقى من مناطق محررة في الشمال السوري تحتضر الثورة فيها ولا سبيل لإنقاذ ما تبقى إلا أن يؤمن العاملين في حقل الثورة بأن كل جهة أو هيئة أو مجلس ليست إلا أجزاء يكمل أحدها الآخر وأن العجز عن بناء جسم سياسي واحد يؤمن بأهداف الثورة ويحقق تطلعات الشعب الذي قدم الغالي والرخيص ويلم الشمل ويجمع الفرقة ويرص الصفوف ويحسن التمثيل سيؤدي في النهاية إلى خسارة لا يؤمل بعدها بوطن ولا بمستقبل فتكون الثورة التي أرادت أن تنقذ البلد من غاصب قد سلمته لعشرات الغاصبين.