منذ فترة تتناقل الأوساط الديبلوماسية الغربية المقربة من إسرائيل المعلومات التي تضعها الدولة العبرية بحوزتها عن تعزيز التسليح والدعم الإيراني في شكل كبير لـ «حزب الله» في لبنان وخصوصاً على الحدود اللبنانية- السورية. وتشير هذه الأوساط إلى إمداد إيران كمية كبرى من الصواريخ إلى الحزب. وتضيف أنه يدرب مقاتليه اللبنانيين وغيرهم على الأراضي اللبنانية وليس في سورية. وكتب الزميل فيليب أبي عقل في صحيفة «لوريان لوجور»، أن الرئيس دونالد ترامب قال لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إن إيران زودت «حزب الله» ١٥٠ ألف صاروخ في حين أن العدد كان من قبل ١٠ آلاف. والسؤال اليوم هو إلى أين تأخذ إيران لبنان؟ وهل ندفع مجدداً ثمن تحالف جزء من الدولة اللبنانية مع «حزب الله»؟ فقد قيل الكثير عن الجيش ودفاعه عن الوطن وإبعاد «الداعشيين» عن الحدود اللبنانية. والإدارة الأميركية تزود الجيش اللبناني معدات هو بحاجة إليها. ولكن لسوء حظ لبنان أن إيران استطاعت عبر «حزب الله» وحلفائه المسيحيين الذين يمثلون الدولة اللبنانية أن تفرض نفوذها في لبنان، حتى أن اللبنانيين أصبحوا ينتظرون خطابات حسن نصرالله لمعرفة استراتيجيته في المنطقة وفي الداخل. وإيران تمول الحزب وحلفاءه منذ سنوات لأنها مهتمة ببقاء الهلال الشيعي على الحدود مع سورية. كما تسعى إلى السيطرة على جزء من سورية. ولبنان ليس بحاجة إلى تهديدات «حزب الله» بالانتصار على الدولة العبرية لأن البلد ليس بحاجة إلى المزيد من الدمار والحروب. فالدولة اللبنانية ليست اليوم كما كانت عام ٢٠٠٦ عندما شنت إسرائيل حربها الوحشية على لبنان لأن نفوذ «حزب الله» توسع ولا يخفى على أحد أن لبنان اليوم يعاني من هذه الهيمنة التي لا يجازف أحد في الحكومة بتحديها. ولا أحد في الحكومة يمكنه منع «حزب الله» من حربه في سورية للدفاع عن النظام المجرم. كما أن لا أحد في لبنان بإمكانه منع زيارة وزير من «حزب الله» إلى دمشق. ولا أحد بإمكانه تطبيق قرار مجلس الأمن بتجريد الحزب من سلاحه بل بالعكس يشهد لبنان المزيد من هذا التسلح الآتي من إيران فيما يدعي «حزب الله» أنه يجنب لبنان حرباً جديدة من العدو الإسرائيلي.
إن لبنان واقع بين قوتين إقليميتين مخربتين في المنطقة: إسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر. أما ما يسمى بسياسة النأي بالنفس عن حروب المنطقة فأمر ساذج، إذ إن القوى الأساسية في لبنان تحارب في سورية وجزءاً مهماً من الدولة متحالف مع هذا الحزب، خصوصاً من هو طامح للخلافة الرئاسية في عهد لاحق إذا استمر البلد. فـ «حزب الله» ساعد النظام السوري على خراب بلده وقتل شعبه. كما أنه بهذه الحرب ساهم في دفع الملايين من النازحين السوريين إلى الدول المجاورة ومنهم مليون ونصف نازح إلى لبنان حيث التوترات الاجتماعية بين اللبنانيين واللاجئين السوريين بلغت مستوى خطيراً جداً. فـ «حزب الله» وضع لبنان تحت وطأة إيران وأفقره بالنازحين السوريين وبقتل شبابه الشيعة الذين يتعرضون لغسل دماغ بأن قتالهم سيحولهم إلى شهداء. وأي شهادة هذه عندما يموتون من أجل بقاء بشار الأسد والنفوذ الإيراني في لبنان؟ فالوضع في لبنان خطير طالما أن إيران و «حزب الله» وإسرائيل تسيطر على مصيره، خصوصاً أن الجميع في المنطقة تركوه يتخبط في بحر هائج وملوث بالمشكلات.
ينقسم اللاجئون السوريون في ألمانيا إلى ثلاث فئات في رؤية علاقاتهم مع المجتمع الألماني؛ الفئة الأولى، بدأت في انخراط عميق بالمجتمع الألماني، وأغلب هؤلاء عائلات من أبناء المدن المتعلمين، تتوفر لهم قدرات أعلى على الاندماج والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الألماني، والفئة الثانية عائلات هي خليط موزعة بين ذوي الأصول الريفية وحرفيي المدن، وهي في مرحلة انتقالية تتقاذفها مشاعر مختلطة ما بين رغبة الانخراط في المجتمع، وإحساس بأن وجودها في ألمانيا وجود مؤقت. والفئة الثالثة أغلبها من العازبين والأفراد بينهم متعلمون وأميون، عجزوا عن التوافق مع ظروف اللجوء بسبب صعوبة تعلم اللغة، واستحالة الانخراط في سوق العمل وفق القدرات المتوفرة، وغالبية هذه الفئة خيارها محسوم في عدم البقاء في ألمانيا، وهم بانتظار أول فرصة للمغادرة سواء إلى سوريا أو أي بديل متاح، المهم أن المنتمين لهذه الفئة لا يريدون البقاء في ألمانيا.
لقد ساءت ظروف السوريين في السنوات السبع الماضية سواء المقيمون منهم في سوريا أو خارجها. ففي الداخل قتلٌ واعتقال وتدمير للممتلكات والقدرات الفردية والجماعية، وفي بلدان اللجوء والإقامة صعوبات ومشكلات لا حصر لها، تمنع في غالبها استمرار حياة السوريين بالحدود الدنيا والمقبولة، وزاد من صعوبة الظروف عاملان؛ أولهما غياب أي أفق مفتوح للحل في سوريا، والثاني، فتح بوابات الهجرة واللجوء إلى بعض بلدان أوروبا وبينها السويد وألمانيا، وكلها كانت بين دوافع السوريين في التوجه نحو اللجوء.
وللحق فإن ألمانيا أبدت اهتماماً وترحيباً خاصاً باللاجئين السوريين، وسهلت وصولهم، ويسرت سبل منحهم الإقامة، بل هي استوعبت العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى أوروبا في السنوات الماضية إلى حد أن أعدادهم تقدر فيها بنحو ثمانمائة ألف شخص.
غير أن الهوى المتبادل بين السوريين وألمانيا سرعان ما ضربته رياح الوقائع. فأغلب القادمين اعتقدوا أن اللجوء حالة إنسانية بحتة، تقوم على المساعدة، فيما المستقبلون يرونها حاجة اقتصادية واجتماعية وثقافية، تقوم على الاندماج بكل ما يعنيه من التزامات مقابل اللجوء. كما أن الفارق الثقافي/ الاجتماعي بين الطرفين، جعل من عملية الاندماج أصعب من توقعات الألمان خاصة في ظل محدودية قدرات جهازهم الإداري والفني غير المهيأ لاستقبال أعداد ضخمة من اللاجئين، وقد أضيفت لهم أعداد أخرى وكبيرة من غير السوريين، الأمر الذي أعاق وأخّر تلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين، وشكل صدمة لهم، وخلف حالات إنسانية صعبة منها لم الشمل وتفاوت مدة الإقامة وصعوبات العمل، وجميعها ليس لها رؤية مشتركة عند الطرفين، وزاد من حدة المشكلة تصريحات وتحليلات وتقديرات، تتعلق بمستقبل اللاجئين السوريين في ألمانيا.
وسط تلك الوقائع، تبدو تحديات اللجوء السوري في ألمانيا قائمة. فمن جهة الألمان الذين صرفوا نحو خمسين مليار يورو على اللاجئين (نحو ثلثهم من السوريين) في السنوات الأخيرة، فإنهم لا يرغبون في رؤية جهودهم وأموالهم، دون نتائج مناسبة، خاصة أنهم لا يستطيعون إعادة اللاجئين السوريين من حيث قدموا ولا إلى بلدهم الذي تطحنه الحرب، وتستمر فيه المقتلة والتدمير، ولهذا لا بد لهم من سياسات وإجراءات، تتغلب على العوامل المعيقة لاستيعاب ظروف اللاجئين السوريين ومتطلباتهم.
ومن جهة السوريين، فإن خيارات خروجهم من ألمانيا باتجاه بلدان أخرى محدودة، وعودتهم إلى سوريا شديدة الصعوبة بفعل استمرار الأسباب، التي جعلتهم يغادرونها أصلاً، خاصة أن النظام تخلى عن أية مسؤوليات حيالهم، وهو غير راغب في عودتهم إليها، وبالتالي فإنه لا خيارات لديهم في التعامل مع وجودهم في ألمانيا إلا باعتباره أمراً واقعاً، حتى ولو فكروا في العودة إلى بلدهم عندما تضع الحرب أوزارها، أو يبدأ مسار الحل في سوريا.
غير أن التحدي الذي يواجهه السوريون في البقاء بألمانيا، لا يمكن معالجته دون جهود وسياسات ألمانية جديدة وعميقة، تجعل من قدرة السوريين هناك أفضل للبقاء في ألمانيا.
بالهزيمة العسكرية المدويّة التي تعرّضت لها حركة أحرار الشام، الفصيل الأكبر في المقاومة السورية المسلّحة، الشهر الماضي، على يد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، وحالة التفكّك الراهنة التي تعيشها الحركة، ما يؤشر على تحولات جوهرية في الأجندة الإقليمية التي وقفت وراء دعم المعارضة المسلّحة الإسلامية، خلال الأعوام السابقة، فإنّ المعارضة السورية الوطنية المسلّحة أصبحت في حالةٍ من الضعف الشديد، بينما الأطراف المسلّحة الأخرى التي لا يمكن وضعها في السلّة نفسها، مثل "داعش" وجبهة النصرة، هي التي تمتلك الأرض في مواجهة حزب الله وإيران.
ما بدأت به الثورة المدنية - السلمية وقيمها شيء، وما وصلنا إليه شيء آخر. من المسؤول عن ذلك؟ النظام السوري (من وجهة نظري هو المسؤول الأول والأخير)؟ أم الدول الإقليمية (حرب الوكالة)؟ أم الدول الكبرى (التواطؤ والتخاذل) أم الفراغ الاستراتيجي العربي (بل التخبط العربي) أم أمراء الحرب في سورية؟ أم "داعش" و"النصرة" اللتان حرفتا مسار الثورة، وقلبتا الحسابات الداخلية والخارجية؟ هي جميعاً عوامل وديناميكيات لعبت الدور الرئيس فيما وصلنا إليه، لكننا – على أيّ حال- وصلنا إلى هنا، الآن، وضمن المعطيات الاستراتيجية والآفاق المتوقعة، من الضروري ألا تبقى القراءة المطلوبة أسيرة حالة الإنكار والتجاهل والمكابرة، بل لا بد من مواجهة الذات والإقرار بأنّ ما تبقى من الثورة السورية، على يد الفصائل المسلّحة، هو لا شيء، أو قريب من ذلك.
"داعش" التي تسيطر على الرقة ودير الزور خصم وعدو لقيم الثورة السورية. هيئة تحرير الشام التي بدأت بمسار، وانتهت إلى التنكيل بحليفها الاستراتيجي "أحرار الشام"، هي أيضاً في المعسكر الآخر للثورة، وهي التي تسيطر على إدلب، وتحوّلها إلى إمارة صغيرة، بعد أن وقعت اتفاقية مع حزب الله يتم من خلالها ترحيل قرابة 900 شخص من مخيمات في لبنان وعرسال إلى إدلب، وأظن أنّ مناطق تخفيض التصعيد في الجنوب ستؤدي إلى النتيجة نفسها.
أمّا الفصائل الأخرى المسلّحة ضعيفة أو تحت الوصاية الدولية والإقليمية، كما الحال في الجنوب، ولا تملك زمام أمرها. والأهم أنّ الدول الراعية للمعارضة، مثل تركيا وقطر والسعودية، قلبت تماماً أدوارها، أو تخلّت عن نفوذها، في الشهور الأخيرة، بداية من محاولة الانقلاب العسكري التركي التي دفعت إلى التقارب التركي- الروسي، وانتهاءً بأزمة الخليج الراهنة، وما بدأت تخلقه من نتائج، في مقدمتها هزيمة "أحرار الشام" وتفكيكها قبل أيام.
ما العمل؟ هذا هو السؤال المفروض اليوم على المعارضة السورية، خصوصا ونحن نشاهد مسار أستانة فاعلا بقوة، أي التهدئات والتسويات العسكرية، بينما مسار جنيف معطّل. فهل يمكن أن يتم التركيز مرّة أخرى على إعادة ترتيب البيت الداخلي السوري، وتحديداً المجتمعي - السياسي، أو إحياء الوطنية السورية الجامعة، واستعادة قيم الثورة، والخروج من حارة الوكالات الإقليمية والدولية، ومحاولة تحييد رجال البيزنس والمكاتب والعقارات الثورية الذين تحوّلوا إلى موظفين هنا وهناك.
كتب المعارض السوري، ميشيل كيلو، في "العربي الجديد" مقالاً عن التداعيات المتوقعة لاتفاق عمّان في الجنوب السوري، وبدا متفائلاً بأنّ الاتفاق قد يؤدي إلى "نقطة تحول"، إذ حجّم عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين، وأطّر قواعد اللعبة، لتشمل أميركا وروسيا، ومعهم الأردن باعتباره طرفا معنيا رئيسا بالوضع في الجنوب، وأخرج إيران وحزب الله، وتركيا، والدول العربية الأخرى، ولكلّ أجندته، من دائرة اللعبة والتأثير. وتتمثل الجدلية التي تتوارى وراء فرضيات كيلو في أنّ عسكرة الثورة السورية ضربتها في الصميم، ودفعت نخبا عسكرية غير مؤهلة سياسياً إلى قمرة القيادة، وأعطت اللاعبين الإقليميين اليد الطولى فيما يحدث، بينما القوى السلمية المدنية التي وقفت وراء الثورة في البداية تراجعت. وفيما إذا نجحت مشروعات "المناطق منخفضة التوتر"، فإنها ستسمح، مرة أخرى، ببزوغ القوى المدنية والخطاب الأصلي للثورة.
رؤية متفائلة جداً، لكنها تحمل أفقاً مختلفاً عن الواقع القاتم، بيد أنّ السؤال، بعد هذه الأعوام القاسية، والتفكك الكبير في المجتمع السوري، والأجندات الدولية والإقليمية التي أضرّت بالثورة، وساهمت فيما وصلنا إليه، بعد ذلك كله، هل المجتمع السوري، أو ما تبقى منه، ما يزال قادرا على حمل قيم ثورة سلمية؟ سؤال برسم الإجابة والتفكير، طالما أن الوضع العسكري وصل إلى هذا المنعرج الخطير.
مرة أخرى يسأل المرء نفسه عن الذي جرى على الحدود اللبنانية السورية في الأسابيع الفائتة! فحرب الجرود التي خاضها «حزب الله» ضد «جبهة النصرة» وأفضت إلى انسحاب 120 مقاتلاً من النصرة كانوا يتمركزون على طرفي الحدود، كان ضجيجها أكبر من نتائجها، وخلف مشهد «النصر المبين» ثمة وقائع وحكايات يشيح اللبنانيون وجوههم عنها.
الحرب المزعومة لن تقترب من حقيقة أن هناك أكثر من مليون لاجىء سوري قذفتهم الحرب الحقيقية في سورية إلى لبنان. أكثر من مليون لاجىء بلادهم مدمرة، وتقيم النسبة الأكبر منهم في مخيمات مرتجلة وغير معترف بها، يدفعون فيها ايجار الأرض التي ينصبون عليها خيمهم، ويعملون بأجور زهيدة، ولم يذهب أطفالهم إلى المدارس للسنة السادسة على التوالي.
عنوان هذا القضية لبنانياً، هو الضيق بهم، وإشاحة النظر عن قصصهم الصغيرة التي حملوها معهم. والجواب اللبناني عن سؤال اللاجئين كان «حرب الجرود» التي صورت بصفتها مدخلاً لحل لبناني لهذه القضية!
هذه الحرب الوهمية لم تقترب من قضية اللاجئين، إن لم نقل إنها فاقمتها. وحكايات النازحين أوسع بكثير من تلك الحرب الضيقة على تخوم عرسال. هي في حجم الدمار الهائل في سورية، ومرشحة لأن تكون مولدة لمزيد من المآسي طالما أن العالم كله يتصرف على نحو ما تصرف لبنان في مأثرة الجرود، أي انه اختصر مأساتهم بمئة وعشرين إرهابياً كانوا يتمركزون على حدوده. وإشاحة الوجه عن حكاياتهم يوازيها إشاحة وجه عن حكاية أخرى تتمثل في أن النظام السوري الذي تتحالف معه حكومتنا، ويقاتل إلى جانبه الحزب اللبناني الأكبر، وله في عاصمتنا سفير يمتنع عن مصافحة رئيس حكومتنا، لا يريد للاجئين أن يعودوا. هو اليوم يسيطر على أكثر من 80 في المئة من مناطق نزوحهم، أي حمص والقصير وريف دمشق، لكنه لم يبد إشارة واحدة حيال قضيتهم. و «حزب الله» أيضاً لا يريد عودتهم، فهم كتلة ديموغرافية تعيد رسم الخريطة المذهبية في المناطق التي «انتصر» فيها الحزب في سورية.
اذاً الضيق اللبناني باللاجئين السوريين هو ضيق بالنفس، وهو ينطوي على صفاقة سياسية وأخلاقية لا تخطؤها عين. من جهة إشاحة النظر عن قصة مأساتهم، ومن جهة أخرى تحميلهم تبعات سقطاتنا الأخلاقية وانحيازنا إلى نظام تسبب بمأساتهم وقتالنا إلى جانبه.
لبنان هذا، لم يوجه سؤالاً واحداً الى الحكومة الحليفة في دمشق تتعلق بقضيتهم. واستعاض عن ذلك بأن تعامل معهم بصفتهم مسؤولين عن مأساتهم ومأساته. مئات آلاف الأطفال خارج المدارس، لم تلتفت إليهم الضائقة اللبنانية إلا بصفتهم مشاريع «إرهابية» على وشك التحقق. إنهم «عبء» على رغم انشغالنا بالفساد الذي رافق عمليات الإغاثة الدولية والمبالغ التي تتقاضاها وزاراتنا ووزراؤنا من الصناديق الدولية لمساعدتهم. إنهم عبء بينما النظام الذي هجّرهم له مكان واسع في قلوبنا. إنهم عبء على رغم أنهم القوة العاملة الوحيدة في قطاعَي الزراعة والبناء. وهم عبء على رغم أن أحداً لم يقل لنا شيئاً عن قيمة الفاتورة اللبنانية المتوجبة على هذا العبء بعد أن نحذف منها حجم المساعدات الدولية التي تبلغ نحو بليون يورو سنوياً.
القضية ليست أعباءهم التي تترجم أحياناً غنائم. القضية أنهم رقم مذهبي في المعادلة اللبنانية، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى حقيقة أن لبنان المذهبي ساهم في تهجيرهم من بلادهم إلى بلادنا. التغيير الديموغرافي في سورية لن يُنجز من دون تهجير مذهبي في لبنان. هذه حقيقة ثقيلة على قلوب لبنانية كثيرة ساهمت في المهمة السورية، وتقف اليوم عاجزة أمام المعادلة المستجدة في لبنان.
مدن السوريين المدمرة لن تؤوي هؤلاء اللاجئين. حمص وحلب والقصير ويبرود كلها اليوم تحت سيطرة النظام. والأخير لم يطلب ممن يُفترض أنهم مواطنوه أن يعودوا! وهذا ليس مؤشراً للمرتعدين اللبنانيين من اللاجئين إلى أن المسؤولية تقع على حليفهم وليس على طفل سرق وزراء ومسؤولون لبنانيون المساعدات الدولية التي وصلت لإغاثته.
نحو ربع قرن يفصل ما بين ذاكرة الموت للحرب البشعة في رواندا والواقعٍ الراهن في شأن أرض الضحايا للحرب المتوحشة في سورية. الأولى بلغت ذروتها في نيسان (أبريل) 1994 حين أبادت قبائل الهوتو نحو 800 ألف من التوتسي وأقليات صغيرة أخرى خلال مئة يوم. ضحايا الحرب السورية يقدرون بنحو نصف مليون يسقطون على دفعات منذ 2011، ولا يبدو في الأفق ما يوحي بنهاية سريعة لذلك، ما أدى إلى إعلان المدعي العام الدولية، كارلا دلبونتي عن استقالتها لوصول جهودها إلى طريق مسدود.
كارلا دلبونتي، المحامية السويسرية، كُلِّفَت من قبل مجلس الأمن بمهمة النظر في جرائم الحرب في سورية قبل خمس سنوات، لكنها الآن تتهم الجهة التي كلفتها بالمهمة بـ «العجز» و «التفاهة». فاللجنة الدولية التي مهمتها التحقيق في خروقات حقوق الإنسان (وهذا تعبير مهذّب لوصف أعمال القتل والتعذيب والنهب المستمرة) في سورية، لم تنجز أي شيء من تلك المهمة. دلبونتي مدعي عام ذائعة الصيت وصاحبة تجربة خارقة في التحقيق في جرائم رواندا ويوغسلافيا السابقة، تقول التالي: «أشعر بالخيبة، ولذلك أتنحى عن مهمتي... أمام تــــقاعس مجلس الأمن. ليس لدي أي سلطة... جميع الأطراف في سورية متورطة. حكومة الأسد ارتكبت جرائم مذهلة ضد الإنسانية واستخدمت أسلحة كيماوية، والمعارضة تتكون راهناً من المتــطرفين والإرهابيين. لم أشــهد مثل جرائم ســـــورية سابقاً ولا حـــتى في روانــدا ويـــوغــسلافيا. سورية محرومة من العدالة».
في كل حال، وقف إطلاق النار الأخير في بعض المناطق يسجل خطوة مهمة في التنسيق الروسي- الأميركي، ولكن السؤال الأهم: هل سيوصل تكتيك الخطوة- خطوة الحرب المتوحشة إلى نهايتها. فلا سبيل جنيف ولا طريق آستانة وصلا إلى أي نتائج في هذا الخصوص، فلمَ التفاؤل الآن؟ وبدلاً من حماية مبادرة موفد الأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا، ها هي موسكو وواشنطن بتأييد مجلس الأمن، تتخليان عنها وتدفعان باتجاه الحل بالتقسيط، إذ بات المطلوب الأول، الرئيس بشار الأسد، يشعر باطمئنان شديد على مستقبله أكثر من أي وقت مضى منذ 2011.
فهو يقول بثقة، وبدعم إيراني وروسي مباشر، إن مهمة دي ميستورا «باتت من الماضي»، وليس هناك «غير سبيل مناطق خفض التوتر للحل» المنطلق بمبادرة من روسيا وإيران وتركيا والذي أيدته لاحقاً إدارة دونالد ترامب. لا يلام الأسد على الثقة بالنفس ما دام أصحاب القرار الدولي باتوا يميلون إلى فكرة أنه من الممكن التعايش مع نظامه لفترة أخرى ولو كانت محدودة. وها هو الرئيس الجديد لفرنسا، التي كانت منذ 2011 في مقدمة المطالبين بتغيير النظام في دمشق، يردد في شكل مقزز أن الأسد يمكن أن يكون جزءاً من الحل في سورية.
لسوء حظ سورية وأهلها أنه سُمِحَ لحربها المتوحشة أن تستمر في شكل أعمى من دون أي أهداف واضحة في الأفق ومن دون مجموعة مبادئ محددة لصوغ النظام البديل. مأساة هذه الحرب ليس فشلها في تقديم نتائج نهائية لها ولا معرفة من ينتصر فيها فحسب، بل إن جُلّ ما قدمته إلى العالم حتى الآن هو الضحايا.
نحو نصف سكان سورية إما قُتلوا أو هُجِّروا، مع تقدير نحو نصف مليون قتيل ونحو خمسة ملايين لاجئ في دول الجوار السوري، ما عدا من تمكن من الوصول إلى أوروبا، وخمسة ملايين آخرين نزحوا داخل بلادهم. وتقدر الأمم المتحدة أن جيلاً بأكمله من أطفال سورية حُرِموا، وإن بدرجات متفاوتة، من التعليم. وهذا يحدث تحت سمع وبصر العالم، ما يزيد من صعوبة فهم المسألة، في وقت يتعرض فيه وطنٌ برمته للتمزق يوماً تلو الآخر.
ويبقى التساؤل: ما هو شكل سورية الجديد، بل هل هناك شكل جديد لسورية المستقبل لدى المتورطين الكبار في حربها المتوحشة؟ أمام استحالة العودة إلى شكلها القديم، أي حكومة مركزية في العاصمة تحكم كل سورية، لأن مثل هذا الحل يُعتبر معجزة، وفي واقع تندر فيه المعجزات، هل الحل سيكون فيدرالياً، كونفيدرالياً، على شكل أقاليم منفصلة مع إدارة ذاتية؟ ففي غياب المنتصر أو المنتصرين، ستواصل الغالبية الساحقة من السوريين، بمن في ذلك من يعيشون في أراضي سلطة النظام، دفع ثمن باهظ كماً ونوعاً.
وكذلك سيفعل من هم خارج سورية إذ وصلت ترددات هذه المأساة إلى أوروبا، أكان من خلال تدفق المهاجرين الذين وصلوا إلى ألمانيا، أو عبر من حُجزوا منهم داخل تركيا القابعة عند بوابات الاتحاد الأوروبي والمتورطة بعمق في الحرب السورية. فالقوات التركية تتحرك بحرية كاملة في الشمال السوري حتى أطراف إدلب، حيث لا هم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سورية في الحقيقة غير التأكد من أن لا يميل ميزان الترتيبات المقبلة في شمال- شرق البلاد لمصلحة أكرادها، وليس نوع الحكومة المنتظرة في دمشق. همه الأول والأخير هو كيف ستكون عليه التركيبة الديموغرافية والسياسية في شمال البلاد.
في هذه الأثناء ثمة ترتيبات ثلاثية الأطراف يشارك فيها الأردن مع روسيا والولايات المتحدة في مناطق الجنوب السوري. ويبدو أن وقف النار في هذه المناطق الذي أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون من قمة العشرين في تموز (يوليو) الفائت، جاء عقب سلسلة من المشاورات السرية على مدى أشهر عدة بين الأطراف الثلاثة. وحرص الأميركيون على أن تكون إسرائيل على إطلاع على ما كان يجري من مناقشات لقرب جنوب- غرب سورية من مرتفعات الجولان المحتلة.
هذه التطورات تعكس إنجاز خطوة جوهرية على صعيد التعاون بين واشنطن وموسكو. لقد قال تيلرسون بوضوح إن لدى بلده وروسيا الأهداف نفسها من وقف النار، وكان ذلك التصريح أول إشارة إلى وجود تصور مشترك لمسار الأمور نحو سورية المستقبل. ولكن يبقى السؤال قائماً حول ما إذا كان تكتيك الخطوة- خطوة سيضع نهاية عملية للحرب البشعة؟!
أثارت تصريحات عضو وفد المعارضة السورية في التفاوض مع النظام، خالد المحاميد، غضب الهيئة العليا للمفاوضات الذي عبّرت عنه بقرارها إلغاء عضويته من وفدها التفاوضي، لاعتباره "أن الحرب بين المعارضة والنظام وضعت أوزارها"، على الرغم من أن تصريحاته تأتي في سياق الاتفاقات فوق التفاوضية التي تفرضها كل من روسيا والإدارة الأميركية على الصراع السوري، والتي تغيّر، في كل مرة، مسارات الصراع، ووجهاته ومساحاته، وفق ما يخدم الصراع على سورية، وتقاسم النفوذ داخل أراضيها بين قوتين رئيسيتين، وما يتبعهما من قوى أخرى، يكاد ظهورها واختفاؤها يحدّد حسب المزاج الأميركي، ولاحقاً الروسي.
لم يأت المحاميد بما هو خارج بنود الاتفاقيات التي سميت "خفض التصعيد"، على الرغم من أن انتهاكاتها تحدث يومياً، على مسمع ومرأى من الدول الضامنة نفسها، لكنه عبر بوضوح عما يجب أن تكون عليه الحالة المسلحة بين الطرفين. وكان هذا بالإمكان، لو أن الدول الضامنة مارست دورها، وكانت لكيانات المعارضة (السياسية والعسكرية) التي أعلنت تأييدها اتفاق الجنوب ومباركتها له، وهو محور تصريح المحاميد، فاعليتها أو سلطتها على الفصائل المسلحة التي حولت صراعها من النظام إلى التصارع بعضها مع بعض، لتصبح الحرب الحقيقية التي تستهدف الشباب السوري قد تضاعفت، حيث باتت الفصائل المتحاربة أحد أدواتها ووقودها؛ إلى جانب النظام ومليشيا حزب الله وإيران وطيران روسيا.
لم تكن صراحة المحاميد، على الرغم من ملاحظاتي على طريقة صياغة تلك التصريحات، المأزق الوحيد الذي وجدت هيئة المفاوضات نفسها أمامه، بل كان واحداً من كثير غيره، فهي التي تعوّدت، كغيرها من كيانات المعارضة، الابتعاد عن مصارحة الشعب بكل ما يحيط بمسار ثورته التي تتولى هذه الكيانات قيادتها. والحقيقة، إن ما قاله المحاميد وضع الهيئة العليا في تناقضٍ واضح، من حيث هدف وجودها، وسبب استمرارها، إذ تجري الاتفاقيات بعيداً عنها، ومن ثم يصار إلى انتزاع موافقتها، كما حدث في مسار أستانة الذي هدف إلى تعطيل مسار جنيف، بل تغيير خريطة الأولويات الدولية، وتحجيم دور الملف السياسي الذي تضطلع الهيئة به، حسب قرار مجلس الأمن 2254.
لم تظهر "الهيئة العليا" إدراكها مخاطر وجود مسار تفاوضي آخر، لا تكون هي أحد أطرافه، هذا المسار الذي بدأ بعد خسارة المعارضة في حلب، وبعد أن أوقفت "الهيئة" مشاركتها في جولة جنيف في فبراير/ شباط 2016، معلنة "عدم العودة إلى جنيف قبل تحقيق المطالب الإنسانية". بيد أنها عادت، بعد أكثر من عام، في مارس/ آذار 2017، إلى طاولة المفاوضات من دون أن يتحقق أيٌّ من مطالبها، بل وبعد أن عبّد الروس طريق "مفاوضات أستانة"، بالمشاركة مع تركيا وإيران باعتبارهما دولتين ضامنتين، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017، وبعد أن أصبح مصير حلب بمثابة فزّاعة ترفع أمام كل الفصائل المعارضة للنظام، فلم تجد مفراً من حضور مفاوضاتٍ تتحدث عن المعارضة، وباسمها، وبحضورها من دون مشاركتها.
وعلى الرغم من كل الخسائر، والتراجعات، كان يمكن للهيئة أن تتجاوز عثراتها، وأن تعيد قراءة القرارات الدولية، وفي مقدمتها بيان جنيف، والقرار الأممي 2254، وأن تدرك أن دورها التفاوضي يقتضي أن تكون عامل جمع السوريين، وليس محل خلافٍ أو اختلاف، بأن تعمل على صوغ "رؤية لسورية المستقبل"، تأخذ بالاعتبار طموحات كل السوريين في دولة مواطنين ديمقراطية، أساسها إعلاء شأن المواطن السوري، وتحقيق عدالةٍ تأخذ بالإعتبار كل مكونات الشعب السوري، لا مجرّد الحديث عن مشاركةٍ مع نظامٍ، على الأسس السابقة نفسها (كما جاء في الرؤية التي صاغتها ومنحت الحكومة المشتركة سلطات مطلقة). هكذا، فعندما علت الأصوات السورية بملاحظاتٍ بشأن تلك "الرؤية"، اعتبرت الهيئة تلك الأصوات مجرّد نشاز، بل وأبعدتها، لأن الهيئة بوصفها سلطةً فوقية، سارت وفق مبدأ من ليس معي هو ضدي، لكنها اليوم تعلن عن استعدادها لإعادة النظر بتلك الرؤية التي أعلنتها من لندن، ليس لقناعتها بضرورة الاستماع إلى السوريين الذين انتقدوا تلك الرؤية، بل لأن قراراً دولياً اقتضى ذلك؛ هكذا بدون توضيحاتٍ للشعب، وبدون أي مراجعة نقدية.
في المقابل، كانت هناك فرصة أخرى لقراءة قرار مجلس الأمن 2254 ذي الصياغة الملتبسة، والتي يمكن تدويرها باتجاهاتٍ مختلفة، لقراءات متعدّدة، تتناسب وكل الأطراف المشاركة بصياغته من جهة، وبالموافقة عليه من جهة أخرى، وبكل صراحة، إلا أن "الهيئة العليا" فضلت أن تقرأه من زاوية واحدة، لم يشاركها بها أيٌّ من الدول ذات القرار والتأثير في الحل السوري، فهي لم تلحظ أبداً أن هيئة الحكم ذات الصلاحيات التنفيذية التي تتمسّك بها، على رئيس النظام السوري أن يمنحها صلاحياتها، كما أنها لم تدرك معنى أن تذكر كل من منصتي القاهرة وموسكو بالقرار، ولم تأخذ في اعتبارها أن القرار 2254 منح مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا، صلاحية تشكيل الوفد المفاوض، أو على أقل ما يمكن أن لا يكتفي بوفد "الهيئة العليا للتفاوض" ممثلا عن المعارضة.
ندرك أن مساحة الحركة عند "الهيئة" محدودة، بسبب غلبة العامل الدولي، لكنها ليست كذلك فيما يتعلق بترتيب بيتها الداخلي، بتنظيم علاقاتها مع قوى سورية موجودة على الساحة، كانت حسب مقاس الهيئة أم لا، وهي لا يفترض بها أن تكون كذلك، حسب عرف العمل السياسي. لذا، كان واجبا أن تعمل الهيئة على تقريب وجهات النظر، من خلال طرح مشروع سوري توافقي، يتم الدفاع عنه، بغض النظر عمن له عدد أقل، أو أكثر، في هيئة الدفاع، أقصد وفد التفاوض. ولهذا، انطلقت أصوات كثيرة ونداءات وطنية كثيرة بضرورة أن تعمل "الهيئة العليا" على عقد مؤتمر وطني جامع، قبل الذهاب إلى جنيف 5، وكنت قد كتبت، في مقالتي "سورية في حوار المنصات"، ("العربي الجديد" 1/3/2017) "إن السوريين ليسوا بحاجة إلى منصات تحاور النظام، وإنما إلى وفد واحد للمعارضة"، و"لماذا لا تجتمع هذه الأطراف المعارضة، لكي تناقش فيما بينها كل القضايا، وتخرج بتوافقات معينة، لتشكل وفداً يفاوض عليها مع النظام"؟
لكنني واحدة من سوريين كثيرين تم استبعاد آرائهم التي أصبحت اليوم شعار المرحلة، فقط لأنها تستجدّ الآن بناء على ضغط خارجي، على الرغم من أنه طلب يقع ضمن الحاجات السورية. لكن بعد أن خسرنا نحو عام ونصف العام من أعمارنا، وربح النظام حلب، ومناطق في ريف دمشق وحمص وحماه، ويسير الآن باتجاه دير الزور، وقد اطمأن إلى مناطق أخرى، تحت مسمّى اتفاقيات خفض التصعيد، وكانت خسائرنا بالأرواح كبيرة، عشرات آلاف الضحايا من شهداء، ومهجّرين ونازحين وجرحى. نعم، على الرغم من تأخرنا في قراءة قرار مجلس الأمن 2254 الذي صدر نهاية 2015، وعلى الرغم مما دفعته سورية لقاء ذلك. وعلى الرغم من أن قرار الاجتماع بين المنصّات لم يكن سيادياً للهيئة، ولم يتم العمل به بقرار وطني داخلي، إلا أن ضروراته تؤجل أسئلتنا الكثيرة بشأن من يتحمّل مسؤولية ذلك التأخير ولماذا؟
الدولة اللبنانية في طريقها إلى التحلل، أو في الحقيقة ما تبقى منها. أهم مظاهرها حكومة مغلوب على أمرها. عاجزة عن اتخاذ أي قرار ليصبح القرار بيد الأقوى. فكيف إذا كان مسلحاً! هي واحدة من أفشل تجارب حكومات "الوحدة الوطنية" التي تحشر فيها جميع القوى، تأجيلا للخلافات والتكاذب والتظاهر بالتوافق والتفاهم. حكومة يريد كل طرف منها عكس ما يريده الآخر. أمر واحد فقط يجمعهم هو السمسرات والصفقات. حكومة تُقاد من الخارج، أي خارج. حكومة وضع لها رئيسها، سعد الحريري، عنوانا ومهمة شبه مستحيل تحقيقها هي "استعادة الثقة". في حين باتت ثقة اللبنانيين يأساً واستسلامًا للقدر عبر تعلقهم بالجيش، وبعصبياتهم المذهبية والزعاماتية.
قضم سلطة الدولة قائم ومتدرج ومستمر منذ أكثر من عقد. يوم تحرّر الجنوب في مايو/ أيار 2000، وتحول حزب الله إلى الداخل، وإصراره على الاحتفاظ بسلاحه. وبعد جريمة اغتيال رفيق الحريري، واضطرار بشار الأسد لسحب الجيش السوري من لبنان، تقدم لملء الفراغ كمليشيا مسلحة، تهدد ساعة تشاء وتروّض ساعة تشاء، وتراوغ أو تهادن ساعة تشاء. وهذا الدور بات يجيده حزب الله بشكل أفضل، بعد أن ولج عتبة الحكم، وأخذ يشارك في الحكومات. بوزير أو اثنين لا فرق. حتى ولا أحد. لا يحتاج ما يريد أن يفرضه أكثرية أو قوة الإقناع والمنطق. وإنما يحتاج رهبة السلاح ووهجه، فالقرار يؤخذ في الميدان، كما حصل في يوليو/ تموز 2006. أو عندما احتل، في نهاية ذلك العام، وسط بيروت سنة ونصف السنة لإجبار الحكومة على الاستقالة. أو عندما غزت مليشياه العاصمة في 7 مايو/ أيار 2008 لإجبار الحكومة على التراجع عن قرارات اتخذتها. أو عندما أسقط حكومة سعد الحريري عام 2010 التي كان له فيها وزيران من أصل ثلاثين، فيما كان الحريري يدخل البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وغيرها من محطات ومظاهر قضم لسلطة الدولة. وأحيانا، لا يحتاج حزب الله أكثر من التلويح بما يريد.
وبالأمس، كانت معركة جرود عرسال التي قرّر حزب الله خوضها لأسبابٍ لم تفرضها تطورات ووقائع لبنانية داخلية، وإنما إيرانية وسورية. هو اتخذ القرار، وهو ذهب إلى المعركة. وهو من قرّر فجأة اللجوء إلى التفاوض مع من يعتبرهم إرهابيين، ومع من رفض على الدوام التفاوض معهم. والأنكى من ذلك، وفي تحدٍّ لهيبة الدولة اللبنانية، وقرار حكومتها، باتباع "سياسة النأي النفس" عن الحرب في سورية، بادل مع جبهة النصرة عناصر له تم أسرهم خلال قتالهم ضد الشعب السوري. وقام بتسلمهم في احتفال شارك فيه أحد رموز الدولة وسلطاتها الأمنية مدير جهاز الامن العام اللبناني! وذلك كله والجيش اللبناني كان يقف مسعفاً متفرّجاً، فيما دفعت إيران المتوجسة من الاتفاق الروسي- الأميركي إلى إنشاء "منطقة خوض التوتر" في جنوب سورية، وبالتنسيق مع موسكو وواشنطن دفعت حزب الله إلى خوض معركة "تنظيف" جرود عرسال (السنّية) من طريق الشريط الساحلي لدويلة بشار الأسد.
الخطوة الثانية على طريق إعادة الاعتبار لشرعية سلطة الأسد أن يعود لبنان إلى حضن النظام السوري، فقد بدأت الضغوط تتصاعد وتزداد لإجبار الحكومة على فتح خط تواصل رسمي مع النظام في دمشق. وهذا ما انبرى له حسن نصرالله، قبل أسابيع، مطالبا الحكومة بالتفاوض مع حكومة دمشق، بحجة تنظيم عودة النازحين السوريين الذين شرّدهم الأسد وهجّرهم. وقبل أيام، انضم إلى الحملة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، مؤكدا من طهران (!) على ضرورة إعادة العلاقة مع دمشق الى ما كانت عليه قبل 15 مارس/ آذار 2011، أي يوم اندلعت الثورة الشعبية في سورية. ويبدو ان "الثنائي الشيعي" مصمم على إحراج رئيس الحكومة، سعد الحريري، عبر إعلان وزراء في حكومته القيام بزيارات رسمية إلى دمشق. علماً أن مثل هذه الزيارات تحتاج موافقة مجلس الوزراء. وكادت المسألة أن تفجر الحكومة من الداخل، قبل أيام، عندما طرح الأمر في جلسة لمجلس الوزراء. وعلى الرغم من ذلك، أعلن الوزير من حزب الله، حسين الحاج حسن (وزير الصناعة) أنه سيذهب إلى دمشق ل"المشاركة في معرض إعادة إعمار سورية"، وعلل ذلك بأنه تلقى دعوة من نظيره السوري. وهكذا، أعلن زميله وزير المال الذي ينتمي إلى حركة أمل. ويقال إن هذا الإخراج تم استنباطه "تفاديا للإحراج" في أثناء زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد الأمير اللهيان، الأسبوع الماضي إلى بيروت.
ما هو مصير مجلس الوزراء، وهل سيبقى "غائبا عن السمع"، إن لم نقل في كل شيء، فأقله في الخيارات الكبرى التي لها علاقة بمصير البلد، فالاستعدادات على قدم وساق تحضيراً للمعركة التي سيخوضها الجيش ضد مواقع "داعش" المحصّن في المقلب الآخر من الجرود لجهة رأس بعلبك، فخطوات حزب الله، في معظمها، مدعومة ومغطاة من رئيس الجمهورية ميشال عون. وكان لافتا اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، برئاسة رئيس الجمهورية، وتقرّر فيه أن "الجيش لا يريد أن يعاونه أحد" في هذه المعركة المنتظرة، غير أن رد حزب الله جاء سريعا، إذ أقحم نفسه معلنا أنه سيقوم بالمساندة والاشتراك في المعركة مع قوات الأسد من داخل الأراضي السورية.. وقبل أيام، أطلق نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، معادلة جديدة: "المقاومة تقاتل والجيش يساند والشعب يؤيد".
ويبدو أن إيران (وحزب الله) في سباق مع الوقت، ومع الإدارة الأميركية التي تعزّز، بشكل لافت، حضورها العسكري في لبنان، لإسناد الجيش كون لبنان مشاركًا في التحالف الدولي ضد الإرهاب. ويبدو أن إيران تقول بوضوح: سورية، وبمعيتها لبنان، يجب أن يبقيا تحت سيطرتنا.. فماذا سيفعل رئيس الحكومة؟ أليس أشرف له الاستقالة من أن يبقى يراوح في عجزه؟
بات هناك جيشان في لبنان. الشرعي ومليشيا حزب الله التي تحولت جيشاً بالمعنى الكامل. وباتت مقارعة الحزب تفوق قدرة طرف أو أي طائفة، لا بل جميع الطوائف مجتمعة. وهو اليوم يحاول لعب دور "الحرس الثوري الإيراني"، أي الجناح العسكري المقاتل للجيش الإيراني. نحن أمام ما يشبه "الانقلاب الزاحف" الذي يجسّده استعمال حزب الله بذكاء مقولة ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" التي حولها تدريجيا إلى "مقاومة تقاتل وجيش يساند والشعب يصفق"... كما حصل بالنسبة لمعركة جرود عرسال.
تتلاشى السلطة في لبنان، ولم يبق منها إلا العسكر، والبلد فريسة نهب الطبقة السياسية ونهبها وفسادها الذي ليس بعيدا عنه حزب الله، فالفضائح المالية والتهريب طاولته بشكل أساسي. لم يحصل الأمر فجأة، بل يحصل تراكم القوة منذ عدة سنوات، في ظل انهيار فريق 14 آذار السيادي، وتخلي داعميه الإقليميين والدوليين عنه.
الحديث عن حل في سوريا على أساس الفيدرالية ليس جديداً، فلاديمير بوتين كان أول من أشار إليه نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2015، بعد شهرين من بداية التدخل العسكري الروسي، وفي مارس (آذار) من العام الماضي بدا أن الأمور تقترب فعلاً من هذا الحل، كما أوحت تصريحات روسية أميركية تقاطعت في تأكيد التوجه إلى ترتيب الفيدرالية كمخرج للأزمة التي دمرت سوريا واستجلبت الإرهابيين وأغرقت المنطقة باللاجئين.
عشية الجولة الخامسة من المفاوضات في جنيف، قال سيرغي ريباكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن موسكو تأمل في أن يتوصل المشاركون في المفاوضات إلى حل يقوم على فكرة إنشاء جمهورية سورية فيدرالية، وموسكو لن تعترض أيضاً على أي نموذج آخر لسوريا، شرط ألا يكون نتيجة إملاء شخص على بعد ألف كيلومتر!
لكن هذا «الشخص» الذي كان ريباكوف يرد عليه ويرى أنه يقف على بعد ألف كيلومتر، لم يكن سوى جون كيري وزير الخارجية الأميركي السابق، الذي كان قد أعلن قبل أيام في شهادة أمام الكونغرس الأميركي أنه ربما فات الوقت لإبقاء سوريا موحدة، وأن سوريا الموحدة لم تعد موجودة!
في سياق الدخان الفيدرالي الذي كان يتصاعد من كواليس جنيف، قال بشار الأسد في مقابلة صحافية في سبتمبر (أيلول) الماضي، إنه لا يستبعد فكرة النظام الاتحادي، لكن أي تغيير يجب أن يكون نتيجة حوار بين السوريين واستفتاء لإدخال التعديلات اللازمة على الدستور، وكان بهذا يلاقي تصريحات ريباكوف الذي أوضح «أن النموذج الاتحادي سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة فمن الذي سيعترض على ذلك»؟
في مايو (أيار) الماضي تمخضت المحادثات في آستانة عن الخطة المعروفة التي سمّيت مناطق «خفض التوتر» الأربع، وهو ما أعاد إحياء ملامح النظام الفيدرالي، الذي أخذ بعده العملي والجاد في السابع من يوليو (تموز) الماضي على هامش قمة هامبورغ، عندما تمّ التفاهم بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين على هذه الخطة.
وتؤكد تقارير دبلوماسية أوروبية، أن العشاء السري بينهما تحوّل إلى اجتماع حول الخرائط كرس هذا التفاهم، خصوصاً بعد المحادثات الروسية الأميركية التي كانت قد جرت في الأردن وهندسها مايكل راتني المسؤول الأميركي عن الملف السوري، والتي درست موضوع إنشاء مناطق «خفض التوتر»، لكن على قاعدة اقتراحات أميركية، هدفها تطوير الوضع تمهيداً للدخول إلى الحل الفيدرالي، بما يعني أن واشنطن تبنّت هذا الحل الذي كان في الأساس اقتراحاً روسياً من بوتين.
ويبدو أن التفاهم بين واشنطن وموسكو يمضي قدماً في وضع تصور لشكل هذه الفيدرالية، التي يفترض، كما تقول التقارير الدبلوماسية، أن تأتي استجابة لقرار أممي يصدر عن الشرعية الدولية في الأمم المتحدة، بحيث يأخذ بعداً إلزامياً مستنداً إلى القانون الدولي.
في هذا السياق، تقول التقارير المشار إليها إن الصيغة الفيدرالية ستُطرح على الأمم المتحدة الشهر المقبل، وستوافق عليها أميركا وروسيا والصين والدول الأوروبية والعربية، وستكون على أساس أن لكل محافظة من المحافظات السورية حاكماً ومجلس محافظة يتبعان دمشق في المسائل المالية والسياسات الخارجية والدفاعية، ويفترض أن يبدأ عملياً تطبيق الدستور الفيدرالي بعد شهرين من إجراء انتخابات عامة يشارك فيها السوريون في الداخل وفي الخارج، وتجري بإشراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتقرر بالنهاية موقع بشار الأسد من الحل.
وينصّ الدستور الفيدرالي المقترح، على تشكيل مجلس رئاسي ثلاثي، بمعنى أن يكون هناك رئيس ونائبان للرئيس، شرط أن يكون لنائبي الرئيس حق المشاركة الكاملة في اتخاذ القرار، وعلى أن يتشكّل هذا المجلس على أساس أن يكون الرئيس علوياً ونائب الرئيس سنياً والنائب الثاني من الأقليات.
وتشير هذه التقارير إلى نقطة لا تزال موضع بحث مع الروس، على خلفية أن الجانب الأميركي يصرّ على إلغاء كل الأجهزة الأمنية القائمة وعلى إنشاء «جهاز أمن وطني» بفرعين، فرع يتبع الجيش ويكون بإمرة قائد علوي، وفرع يتولى الأمن الداخلي ويكون بإمرة قائد سني ومن حلب تحديداً.
وفي التقارير إشارات واضحة إلى «أن الحرب في سوريا انتهت»، وأنه سيتمّ ضم الفصائل المعارضة ودمجها بالجيش الوطني الجديد، وسيجري إخراج المقاتلين الأجانب، ويتولى الأميركيون والروس الإشراف على تنفيذ فصول هذا الحل.
ورغم أن العلاقات الأميركية الروسية تمر في مرحلة من التعقيد على خلفية العقوبات التي أقرّها الكونغرس أخيراً ضد موسكو، فقد كان هذا الحل المقترح لسوريا موضع بحث بين سيرغي لافروف وريكس تيلرسون في السادس من الشهر الحالي في مانيلا، على هامش قمة «آسيان»، وقال بيان للخارجية الروسية إنهما ناقشا بشكل مفصل الوضع في سوريا، وشددا على أهمية المضي في تطبيق المذكرة التي وقع عليها البلدان في الأردن الشهر الماضي، والتي تفاهم ترمب وبوتين على مفاعيلها في هامبورغ.
موسكو أعلنت أنها تنخرط الآن في مفاوضات مع فصائل المعارضة في ست محافظات سورية، بهدف إقناعها بالانضمام إلى خطة «خفض التوتر»، وهذا يعني استطراداً التمهيد لقبول هذه الفصائل بخطة الاندماج في الجيش الوطني الذي تقترحه صيغة الدستور الفيدرالي.
والمعروف أن المناطق الأربع لخفض التوتر هي: أولاً جنوب غربي سوريا حيث بدأ تنفيذ الخطة، بإشراف روسي بعدما تمّ إبعاد «حزب الله» والتنظيمات الإيرانية مسافة 40 كيلومتراً من الجولان إلى الحدود الأردنية السورية، وثانياً غوطة دمشق التي يجري الآن ترتيب وقف النار فيها رغم تصعيد النظام، وثالثاً منطقة شمال حمص والساحل، ورابعاً منطقة إدلب.
بعد الإعلان عن خطة المناطق الأربع لخفض التوتر في مايو الماضي، بدأت «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) هجوماً أدى إلى طرد «حركة أحرار الشام» وإلى فرض سيطرتها الكاملة على محافظة إدلب، وكان من المثير أن يتم نقل مقاتلي «النصرة» من جماعة أبو مالك التلي من جرود عرسال إلى إدلب في حافلات سورية وبمواكبة أمنية سورية، وهو ما جعل البعض يفترض أن هناك خطة لجعل إدلب مصيدة للقضاء على حركة «النصرة»، وهو ما يفسّر التقاطع في الموقفين الأميركي والروسي من التطورات في إدلب.
واشنطن حذّرت بداية الشهر من عواقب وخيمة لسيطرة «النصرة» على إدلب، وقال مايكل راتني: «هذا سيعرض منطقة شمال سوريا لخطر كبير، ويجب أن يعلم الجميع أن أبو محمد الجولاني وعصابته هم المسؤولون عن العواقب التي ستحلّ بإدلب».
في المقابل شكك سيرغي لافروف في ضم إدلب إلى خطة خفض التوتر، «لأن الوضع بات أكثر تعقيداً»، بما يوحي أن المضي في تنفيذ الاتفاق على حل لسوريا على أساس الفيدرالية، بات يتطّلب تطهير إدلب من «النصرة»، وهو ما يدخل حسابات رجب طيب إردوغان المعقدة على الخط!
إلى أين تتجه التطورات في سوريا؟ وهل بات ممكناً تبلوُر صورة نهائية يمكن أن يستقر عليها الوضع؟ تتسارع الأحداث وكثير منها خارج التوقع، والثابت الوحيد أن قمة هامبورغ التي جمعت الرئيسين ترمب وبوتين وضعت سوريا على سكة جديدة، لا مبالغة بالقول إن موسكو رسمت حدودها، قبل سنة من اليوم، لحظة إحكامها السيطرة على حلب، الأمر الذي يوصَف بأنه الإنجاز النوعي منذ بدءِ التدخل العسكري الروسي في سوريا.
نسمع اليوم حديثاً أميركياً عن ضرورة الوصول إلى وقف نار شامل، غداة إعلان اتفاق أميركي - روسي مفاجئ، قضى بجعل الجنوب السوري منطقة أمنية تمتد من القنيطرة في الجولان إلى درعا والسويداء. تلاه إعلان «خفض التصعيد» في الغوطة، ثم ريف حمص الشمالي، بمشاركة مصر ورعايتها، وكذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية أنها تناقش مع الفصائل المسلحة وأطراف معارضة، إعلان 6 مناطق جديدة «خفض التصعيد»، بينها دمشق وحلب وحمص وحماه... إلخ.
أما إدلب، الثقب الأسود في الجسد السوري عموماً بعدما حوّلتها جبهة النصرة إلى ما يشبه الإمارة، فإن إسقاط هذا الوضع آتٍ، ولو تطلب المزيد من الوقت، لأنه لا سورياً ولا إقليمياً ولا دولياً مُجَاز استمرار سلطة هذه القوى السوداء، على أي بقعة سورية. لكن الأمر اللافت أن موسكو تصرفت بقرارات مؤتمر «آستانة»، مستبعدة عن التنفيذ «الضامنين» معها؛ إيران وتركيا، واجتذبت الأردن ومصر، ولهذا الأمر معنى مؤثر على الحل المستقبلي. وفيما تم حشد كل الفصائل، أطراف هذه الاتفاقات، للمشاركة في المعركة ضد الإرهاب؛ ضد «داعش» وضد «النصرة»، يبدو أن المعنى الحقيقي لما يتم تنفيذه على أرض الواقع، أنه يحمل تسليماً بأنه لا تسوية سياسية في القريب العاجل، أقله لأن أطراف هذه التسوية ليسوا جاهزين بعد. وهذا يقودنا للتأكيد أنه لغير مواجهة الإرهاب وهزيمته، فإن زمن السلاح والأعمال القتالية في سوريا انتهى كلياً، وأساساً مرحلة عسكرة الانتفاضة التي تمّ فرضها على الانتفاضة سقطت مع انتهاء معركة حلب. بهذا السياق تُبرز الأحداث انتصاراً روسياً صريحاً، فكل الوضع بات رهن مشيئة القيادة الروسية، التي تحوز أيضاً الضوء الأخضر الأميركي، ولا يبدو أن هذا الأمر كان سيتحقق لولا نجاح موسكو في أمرين مهمَّيْن؛ أولهما فرض إملاءاتها على النظام السوري بحيث كان هناك انصياع كامل من رأس النظام للقرارات الروسية من جهة، وثانيهما بدء تحجيم النفوذ الإيراني من جهة ثانية، والأمر جلي في إخراج ميليشيات الحرس الثوري من الجنوب ثم الغوطة الشرقية والريف الشمالي لحمص، وأكثر من ذلك فإن اتفاقات «خفض التصعيد» لحظت مطالبات آنية بعدم قيام الميليشيات الطائفية بأي دور أمني، ومطالبات واضحة بإخراج هذه الميليشيات من سوريا خلال عام واحد، وهنا تلتقي الإجراءات العملانية الروسية مع الرغبات الأميركية بتحجيم النفوذ الإيراني، ما يطرح الأسئلة عن مدى عمق التفاهمات الثنائية وتشعبها بين الرئيسين ترمب وبوتين.
على أرض الواقع عظيم جداً انتهاء الأعمال القتالية، وهذا يخدم مصالح السوريين بوقف إهراق دمهم مجاناً، ووقف تفتيت نسيج المجتمع السوري، وتشظي سوريا حصصاً بين قوى النفوذ الإقليمي والدولي. هذا الواقع الجديد شطب أحلام رأس النظام السوري بالانتصار العسكري، لكنه في الوقت ذاته حال دون سقوط الدولة السورية، وكثير من مؤسساتها العامة، وهذا أمر يُبنَى عليه، لأنه يجنِّب سوريا المزيد من الكوارث. طبعاً كل هذه المسائل غير نهائية، والتطورات تتلاحق، والقوى المتضررة كإيران التي لم تخفِ يوماً طموحاتها بالهيمنة تملك كثيراً من الأوراق ولن تقف مكتوفة الأيدي، لكنها وهي تجيد القراءة السياسية ستكون مضطرة للتكيف أملاً بالحفاظ على حدٍ من النفوذ، وأكثر من سواها تعرف أنه ضمن ميزان القوى الحالي، ستمضي روسيا في ترتيب الوضع السوري الداخلي على مختلف الصعد.
فالشرطة العسكرية الروسية تقوم بدور أمني متزايد ومطمئن، وجوانب أساسية من أمور المعيشة وتوفير العلاج الطبي وُضِعَت قيد الاهتمام. ولا شك أن هذا الوضع الجديد، سيوفر الإمكانية لعودة أعداد كبيرة من النازحين، والعودة لها أهميتها لأنها بمثابة مسمار في نعش الاقتلاع والتغيير الديموغرافي الذي عرفته بعض المناطق السورية، لا سيما في محيط دمشق والقلمون الغربي وسواهما.
بالتأكيد سوريا تتغير، وما يقوم به الروس من جهة، وما يحصل في الشمال الشرقي بدعم أميركي على يد «قوات سوريا الديمقراطية»، الطرف الأبرز في قتال «داعش»، يوحي وكأن الفيدرالية شكل للحكم في سوريا يتقدم على ما عداه، وهنا ربما كان التقارب الأميركي - الروسي أكبر مما كان يعتقد، وطبعاً ضمن الشروط الآنية لمناطق «خفض التصعيد»، سيتمُّ انتخاب مجالس تمثيلية، إذا ما أُعطيت من قِبَل كل المعارضة الأهمية التي تستحق، فإنها مرشحة لأن تكون الخزّان الحقيقي لبلورة الأسس السليمة لتحقيق طموحات الشعب السوري في يومٍ ليس ببعيد.
بالانتظار، تعرف كل القيادات السورية أن الثورة السورية استمرت بفعل تضحيات السوريين وليس إبداع القيادات المختلفة، وأن مناطق «خفض التصعيد» التي حقنت الدم ليست أبداً التسوية السياسية العادلة والمنشودة، ويجب عدم التوهم أبداً أن الروس سيؤمنون مطالب السوريين الحقيقية، لذا فإن الائتلاف السوري أمام التحدي، ومثله الهيئة العليا للمفاوضات التي أعلنت اعتزامها توسيع صفوفها، وتستعد، رغم الصعوبات، لتوحيد كل القوى، ليكون بالإمكان تشكيل وفد موحد، وصوت سوري واحد للمعارضة في كل محفل دولي.
الظروف الآن، بعد سقوط أكثر شبيحة الثورة وأمراء الحرب والنهب، مواتية لإيجاد خطاب موحد غير إقصائي، وقيادة جدية للسوريين تجمع جانبي النضال السياسي والعسكري، ولا تترك أي مجال للطامحين بالسيطرة على سوريا باللعب على تناقضات جزئية، لأنه دون ذلك لا نتائج مرضية للسوريين من كل التفاوض الدولي.
توصّل الرئيسان الروسي والأميركي، فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، في قمة أولى جمعتهما في هامبورغ، على هامش اجتماعات الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم، في السابع من تموز/ يوليو الماضي، إلى اتفاقٍ لخفض التصعيد في جنوب غرب سورية، شمل محافظتي درعا والقنيطرة، والبدء بتنفيذه في التاسع من الشهر نفسه. وجاء هذا الاتفاق بعد سلسلة طويلة من الاتصالات والاجتماعات بين مسؤولين وخبراء روس وأميركيين، شارك في جزء منها مسؤولون إسرائيليون وأردنيون. وفي النصف الثاني من تموز/ يوليو الماضي، نشرت روسيا مئات من عناصر شرطتها العسكرية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء على خطوط التماس بين طرفي الصراع، وأقامت مراكز عسكرية في هذه المناطق، رفعت عليها العلم الروسي، وأبعدت، في الوقت نفسه، القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها، نحو أربعين كيلومترًا عن خط الحدود مع الجولان المحتل ومع الأردن.
وعلى الرغم من إبعاده القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها عن خط الحدود السورية مع إسرائيل والأردن، وهو ما كانت تطالب به إسرائيل في السنوات الأخيرة، فإن إسرائيل عارضت الاتفاق كالعادة، وانتقده بشدة رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، ومسؤولون إسرائيليون آخرون، بذريعة أنه لا يستجيب لمتطلبات الأمن الإسرائيلية، وهي المتطلبات التي لا يُستجاب لها أبدًا بحكم تعريفها. فما هو كنه الموقف الإسرائيلي من هذا الاتفاق؟ وما خلفياته؟ وما أسباب تحفظ إسرائيل الشديد منه ومعارضتها له؟
مواقف إسرائيلية
تبنت إسرائيل، منذ بداية الثورة في سورية سنة 2011، والتي حولها النظام السوري إلى حرب أهلية، إستراتيجية إطالة أمد الحرب، وإضعاف سورية، والدعوة إلى تقسيمها على أسس طائفية وعرقية ومناطقية. وعلى الرغم من إعلان إسرائيل المستمر أنها لن تتدخل في هذه الحرب، فإنها أقامت قنوات اتصال مع بعض الفصائل الناشطة في الشريط الحدودي المحاذي للجولان السوري الذي تحتله إسرائيل من ناحية، ووضعت، من ناحية أخرى، خطوطًا حمراء للنظام السوري، شملت منع استخدام الأراضي السورية لنقل أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، ومنع دخول قوات عسكرية إيرانية والمليشيات المرتبطة بها إلى المنطقة المحاذية للجولان السوري المحتل. وشنت إسرائيل منذ كانون الثاني/ يناير 2012 عشرات الغارات على مواقع مختلفة في سورية، كلما رأت أنه جرى اختراق خطوطها الحمراء، وكان آخرها في النصف الثاني من تموز/ يوليو الماضي، أي بعد اتفاق هامبورغ.
كما سعت إسرائيل، في السنوات الأخيرة، إلى استغلال الحرب في سورية، لتحقيق هدفين أساسيين، هما الحصول على شرعية دولية لضمها هضبة الجولان السورية التي تحتلها منذ سنة 1967، وإقامة منطقةٍ عازلة في الجانب السوري المحاذي لهضبة الجولان، بعمق عشرات الكيلومترات، لتكون منزوعة السلاح وتحت النفوذ الإسرائيلي.
وقد طالب نتنياهو، في اتصالاته التي أجراها مع الإدارة الأميركية وروسيا ودول أخرى منذ آذار/ مارس 2017، بإقامة منطقة عازلة جنوب سورية على طول الحدود مع الجولان السوري المحتل، وأيضًا على طول الحدود السورية - الأردنية، تكون خاليةً من القوات العسكرية، ولا سيما الإيرانية والمليشيات التابعة لها. وفي هذا السياق، أجرت إسرائيل، منذ آذار/ مارس الماضي، سلسلة من الاتصالات والاجتماعات مع أركان إدارة دونالد ترامب والقيادة الروسية لتحقيق هذا الغرض. وطالب المسؤولون الإسرائيليون، في الاجتماعات التي عقدوها في آذار/ مارس 2017 مع مبعوثي الإدارة الأميركية مايكل راتني وبريت ماكغورك ومسؤولين أميركيين آخرين، بفصل المداولات بشأن خفض التصعيد في منطقة جنوب سورية عن المفاوضات التي تجري في أستانة في كازاخستان، واستبعاد إيران وتركيا من المفاوضات بشأن خفض التصعيد في جنوب سورية، وإبعاد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها من المنطقة. وشدّد المسؤولون الإسرائيليون، في هذه الاجتماعات، على معارضة إسرائيل إشراف روسيا على خفض التصعيد والمحافظة على وقف إطلاق النار في جنوب سورية، وطالبوا أن تقوم الولايات المتحدة بهذا الدور بدلًا من روسيا.
ومع اقتراب التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، تكثفت الاتصالات والاجتماعات بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين والروس. وعقد مسؤولون أمنيون وسياسيون إسرائيليون وأميركيون عدة اجتماعات سرية في بداية تموز/ يوليو الماضي في العاصمة الأردنية عمّان، وفي عاصمة أوروبية أخرى، حضرها كبارُ القادة في الجيش الإسرائيلي والموساد، ومسؤولون بارزون في وزارتي الدفاع والخارجية، بينما رأس الوفد الأميركي كل من مايكل راتني وبريت ماكغورك. كما عُقد اجتماع آخر في العاصمة الأردنية، شارك فيه ممثلون عن إسرائيل والولايات المتحدة والأردن. وتمسّكت إسرائيل، في هذه الاجتماعات بمعارضتها الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية، وإشراف روسيا على تطبيق خفض التصعيد في هذه المنطقة، وأضافت مطلبًا جديدًا، لم تكن تطرحه سابقًا، وهو أن يشمل الاتفاق إنهاء الوجود العسكري الإيراني برمته من مجمل الأراضي السورية، وليس فقط إبعاد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها من جنوب غرب سورية.
أسباب المعارضة الإسرائيلية
عند الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، انتقده القادة الإسرائيليون، وازداد هذا الانتقاد حدةً بعد حصولهم على مسودة الاتفاق في منتصف تموز/ يوليو الماضي، مدّعين أنه اتفاق سيء جدًا، لأنه لم يأخذ في الحسبان مصالح إسرائيل الأمنية، ويخلق وضعًا مقلقًا في جنوب سورية. وتصاعدت الانتقادات الإسرائيلية لهذا الاتفاق، مع بدء روسيا نشر عناصر شرطتها العسكرية في مناطق مختلفة من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، علمًا أن وزارة الدفاع الروسية كانت قد أخبرت إسرائيل مسبقًا بنشر قواتها في جنوب سورية، وأنها ستبقى بعيدة مسافة 13 كيلومترًا عن خط الحدود بين سورية والجولان السوري المحتل. وفي هذه الأجواء، وقبل اجتماع مجلس الوزراء الأمني السياسي الإسرائيلي المصغر (الكابينت) لبحث الاتفاق، تفقد بنيامين نتنياهو ووزير الأمن أفيغدور ليبرمان القوات الإسرائيلية المتمركزة في الجولان السوري المحتل، وأعلن نتنياهو من هناك أن الواقع في جنوب سورية يتغير بسرعة وأن قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تتضاءل، وادّعى أن إيران وحزب الله يحاولان ملء الفراغ، متجاهلًا أن هذه القوات قد جرى إبعادها وفق الاتفاق الروسي - الأميركي نحو أربعين كيلومترًا عن خط الحدود مع الجولان المحتل.
وفي الثلاثين من تموز/ يوليو الماضي، عقد "الكابينت" اجتماعًا خُصص للبحث في الاتفاق الروسي - الأميركي استمر أربع ساعات. وشارك فيه رئيسا هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والموساد وكبار جنرالات الجيش الإسرائيلي وموظفو وزارتي الدفاع والخارجية. وجرى التأكيد فيه على أن هذا الاتفاق أولي، وأن روسيا والولايات المتحدة لم تتفقا بعد على جميع التفاصيل. وتبين في هذا الاجتماع أن الدافع الأساسي وراء معارضة إسرائيل الاتفاق كان الوجود العسكري الروسي المنفرد في جنوب سورية، وإشراف روسيا على تنفيذ هذا الاتفاق.
وقد ازداد القلق الإسرائيلي مع ورود أنباء عن تفاهم محتمل، جرى التوصل إليه بين الولايات المتحدة وروسيا لتقاسم النفوذ في سورية، بحيث يكون غرب سورية وجنوبها الغربي تحت سيطرة روسيا في مقابل سيطرة الولايات المتحدة على المناطق السورية الواقعة شرقي الفرات وحتى الحدود السورية - العراقية. ومع أن هذا التفاهم، في حال تأكد حصوله، يقطع التواصل البري بين إيران وسورية عبر العراق، فإنه يكرّس النفوذ الروسي في جنوب غرب سورية. وبالفعل، شرعت روسيا في زيادة وجودها العسكري في هذه المنطقة، واتخذت جملةً من الخطوات، منها إقامة قاعدتين عسكريتين في الصنمين وموثبين شمال درعا، رفعت عليهما العلم الروسي، كما أقام الجيش الروسي غرفة عمليات رئيسة له في الصنمين، للإشراف على تنفيذ اتفاق هامبورغ.
وتخشى إسرائيل من أن تطوّر روسيا وجودها العسكري في جنوب سورية من مجرد الإشراف على تنفيذ الاتفاق إلى وجود دائم يشمل إقامة قاعدة عسكرية جوية لسلاح الجو الروسي في مطار الثعلة الواقع شرقي مدينة درعا، والمتاخم لمحافظة السويداء؛ ما يعني أن روسيا قد تستقدم إلى هذا المطار منظومات صواريخ إس 300 وإس 400 كالتي نشرتها في مطار حميميم في شمال غرب سورية، والتي حولتها روسيا إلى قاعدة عسكرية جوية كبيرة. وفي حال فعلت روسيا ذلك، سوف تستقدم على الأرجح قوات عسكرية برية للدفاع عن المطار الذي لا يبعد سوى 55 كيلومترًا عن الحدود السورية مع الجولان المحتل؛ ما سيحدّ، في حال حصوله، من قدرة إسرائيل على الاستمرار في استباحة الأجواء والأراضي السورية، وشن اعتداءات على سورية كلما رأت أن خطوطها الحمراء قد اخترقت.
خاتمة
تعارض إسرائيل اتفاق خفض التصعيد الذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة بشأن جنوب سورية، لأنها ترى أنه يتناقض مع إستراتيجيتها الأمنية والعسكرية تجاه الصراع الدائر في سورية، فقد يمهد الاتفاق إلى إنهاء الحرب في سورية، وهو ما لا ترغب فيه إسرائيل. والأهم أنها تعتبر الاتفاق تهميشًا لمطلبها أن تكون المنطقة السورية المحاذية للجولان السوري المحتل عازلة، تحت النفوذ الإسرائيلي. ومع أن هذا الاتفاق يبعد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها عن الحدود السورية – "الإسرائيلية"، فإنه، في الوقت نفسه، يعزّز من الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية، ويحدّ من حرية الحركة لدى إسرائيل، وإن كنا نشك أنه يحدّ من حركتها الجوية، والتي كانت حتى الآن منسقةً مع غرفة العمليات الروسية التي تبدي "تفهمًا" لاعتبارات "أمن إسرائيل".
تداولت وسائل الإعلام، في الأسبوعين الأخيرين، خبر طلب الولايات المتحدة من بعض فصائل المعارضة السورية في الجنوب السوري إعادة الأسلحة التي قدمتها لها في الفترة الماضية، كما اشترطت عدم توجيهها إلى النظام، بل حصرياً ضد "داعش".
لم يشكل القرار مفاجأة كبيرة، لأن الجبهة الجنوبية التي تشكل قوة قتالية كبيرة كانت معطلة منذ أكثر من عامين، قبل معركة درعا الأخيرة التي تكبّد النظام فيها خسائر كبيرة، ولم يحقق أهدافه. وجرى تجميد تلك الجبهة بقرار من الأطراف الممولة والمسؤولة عن التسليح. والمعروف أن ثلاث دول عربية كانت تتولى التمويل، السعودية والإمارات وقطر، في حين تتكفل أميركا بالتسليح، في وقت لم تكن فيه الهيئات التي تقدم نفسها ممثلة للثورة السورية، سواء المجلس الوطني أو الائتلاف الوطني، على علاقة أو حتى علم بالتفاصيل، وحسب الدكتور برهان غليون، رئيس أول مجلس وطني للمعارضة السورية، "كان التمويل يقدم مباشرة من غرفتي الموم في تركيا والموك في الاْردن، وكلاهما تحت إشراف الأميركيين"، وهل كانت هناك معونات خارج هذا الإطار؟ يجيب غليون "محتمل. لكن أنا شخصياً لا أملك أي معلومات دقيقة عنها، ولم يكن هناك من يمكن أن يعرف تفاصيلها سوى المعتمدين من الدول مباشرة من العسكريين".
جرى دائماً رمي مسؤولية تعطيل الجبهة الجنوبية على الأردن. وفي إحدى المرات، ذهب رئيس "الائتلاف" الأسبق، خالد خوجة، إلى عمّان ليلتقي بالقيادات العسكرية المسؤولة عن الجنوب، فلم تسمح له الأجهزة الأردنية. وقد يتحمل الأردن قسطاً من المسؤولية، ولكن من التجني رمي كل الحمل على ظهره، لاسيما وأن سياسة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم تطرح في أي يوم مسألة إسقاط النظام السوري عسكرياً، وهي صاحبة مشروع قتال "داعش" حصرياً، ولم تأتِ أجهزة الإدارة الجديدة بما يخالف خط الإدارة السابقة.
بات واضحاً اليوم أنه ليس هناك أولوية تتقدّم لدى واشنطن على هزيمة تنظيمي داعش والقاعدة، الأمر الذي يهدّد بإضعاف كل القوى العسكرية السورية التي لا تزال تواجه النظام، وهذا سيقوّي من "داعش" وجبهة النصرة والمليشيات الطائفية الإيرانية وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي).
ما يستحق الوقفة الطويلة هنا هو حصاد أخطاء الأعوام الماضية على الشعب السوري الذي دفع ثمن خروجه ضد النظام مرتين. الأولى من النظام الذي لم يترك سلاحاً من أجل قتل هذا الشعب وتهجيره. والثانية رهان الفصائل العسكرية والهيئات السياسية التي تنطّعت لتمثيل السوريين، على الولايات المتحدة التي تخلت عن مسؤوليتها الدولية والأخلاقية لإغاثة شعبٍ تعرّض للإبادة ستة أعوام، خصوصاً بعد مجزرة الغوطة الكيميائية قبل أربعة أعوام.
مؤكّدٌ أنه لم تكن أمام السوريين خيارات في معركة بدأت أكبر منهم، ولكن كان لديهم استعداد للالتحاق بأجندات خارجية، وجدوا أنفسهم يلعبون أدواراً فيها، وهذا ما يفسّر جانباً من المآلات المأساوية العسكرية والسياسية، والأدهى من ذلك، وعلى الرغم من المأساة التي حلت بالبلد وأهله، لم يقم أحد بالمراجعة، وترك الجميع السفينة تلعب بها الأمواج، وكأنهم تواطأوا مع الأعداء لتركها للمصير المأساوي. ولا ينسى المرء هنا الذين دخلوا إلى الثورة، وهم لديهم أهداف خاصة، فعدد هؤلاء ليس قليلاً، ووصل بعضهم إلى مراتب متقدّمة، ومنهم من بات أمير حرب جمع ثروات طائلة من المتاجرة بشقاء السوريين وآلامهم. وشكل بعض آخر جيوشاً لعبت دوراً سلبياً لمنع قيام أي حالة ثورية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ومثال ذلك الفصائل الإسلامية التي احتلت المشهد منذ عام 2013، وتعتبر مسؤولة عن القسط الأساسي من التدهور، بدءاً بمعركة القصير وحتى الوضع الراهن في محافظة إدلب التي تعمل "النصرة" على تحويلها إمارة لتنظيم القاعدة.
يسقط تسعة شبان لبنانيين يوم الأربعاء الماضي، (9 أغسطس/ آب الجاري)، ينتمون إلى حزب الله، في البادية السورية قريباً من مثلث الحدود مع العراق والأردن. ينعاهم الحزب الإلهي وينشر صورهم. في كل صورة مجسم ذهبي اللون لقبة الصخرة المشرّفة يتقدّم الشاب صاحب الصورة. والإيحاء أن القتلى سقطوا محبّةً في المسجد الأقصى والقدس. .. ها هي طريق أخرى إلى القدس، يرسمها من أرسلوا هؤلاء إلى الموت، إنها طريق البادية السورية، والقتال هناك من أجل تمكين الحشد الشعبي العراقي ومليشيات إيران من التدفق بسلاسة إلى سورية للقتال إلى جانب نظام دمشق. وفي تلك البادية التي يجتمع فيها الرمل مع الصهد، تطفو صورة تتخيلها وتبثها دعاية الحزب للقدس، لكنها صورة لا يراها أحد من المقاتلين على الرمال.
وتحفل هذه الأدبيات بالقدس، وعلى غرار بقية الأحزاب الإسلامية، ينتج حزب الله أناشيد جهادية ودعوية وهادفة، تتخذ من القدس عنواناً لها. ويحفل "يوتيوب" بهذه الأناشيد التي تجمع بين الرتابة والصراخ، ومنها "يا قدس حزب الله قادمون"، وقد دأب قادة في الحزب على التلفع بالوشاح الفلسطيني في المناسبات، أسوةً بالمرجع المرشد في طهران، آية الله علي خامئني.
وقد تزامنت صولات حزب الله في البادية السورية مع اشتعال معركة الأقصى، واستباحته من الاحتلال ومستوطنيه، إلا أن هذا التزامن لم ينعكس بأي اهتزاز لا للبوصلة العسكرية لحزب الله، وصولاته وجولاته نصرة للنظام ضد شعبه. وفي واقع الحال، يستنسخ حزب الله تجربة أنظمة عربية تهتف للقدس، من دون أن تقدم شيئاً لها. ويعتنق الحزب فكرة أن الجمهور يولي اهتماماً بالأناشيد والتصريحات والخطابات، وما شاكلها من نشاطاتٍ شفوية لفظية ومموسقة، بأكثر مما يولي اهتمامه لمعاينة الممارسات والسياسات الفعلية المتبعة. وهذا سرّ الاهتمام الفائق بتوجيه خطاباتٍ دوريةٍ يأتي فيها الخطيب دائماً على ذكر إسرائيل والاحتلال، فيما الاحتكاكات مع الإسرائيليين متوقفة تماماً منذ أحد عشر عاماً، وفيما قوات الحزب لا تحارب إلا السوريين في وطنهم، وما تيسّر من شعوبٍ عربية أخرى في العراق واليمن. وتنسج النسخة اليمنية للحزب، أنصار الله (الحوثيون) على المنوال ذاته، فالحرب على اليمنيين وعلى النسيج الاجتماعي وعلى الشرعية هناك، تتم تحت يافظة: الموت لإسرائيل، وعلى وقع نشيد "القدس تجمعنا" مع أن الجامع الوحيد الذي يجمع الانقلابيين هو العداء لحق اليمنيين في تقرير مصيرهم، والولاء التام لإيران، وتمكينها من التمدّد وبسط النفوذ على أرض سبأ وبلقيس، أما القدس فهي كلية البراءة من دماء اليمنيين، ومن هذه المخططات التوسعية لاختراق العالم العربي ولمحاولات جعل المنطقة العربية امتداداً للإمبراطورية الإسلامية الإيرانية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير المدن العربية على رؤوس ساكنتها، وكما يحدث بالفعل في سورية واليمن والعراق.
وليس للقدس في الدعاية الايرانية أناشيد ومجسمات وهتافات فقط، بل هناك فيلق يتبع الحرس الثوري، ويحمل اسم "فيلق القدس"، وهو بمثابة جيش مدرّب على حروب المدن والجبال، وقوام عديده نحو مائة ألف جندي، ويعتبر ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري، ذلك أن هذا الحرس لا يأبه بحدود، أو بسيادة دول، أو بحقوق الشعوب. ولا يجد أي غضاضةٍ في أن تكون له عمليات خارج الحدود الإيرانية. على أنه لا مكان للقدس، والأرض المحتلة عموماً، في أجندة "فيلق القدس"، وليس من شأن هذا الفيلق أن يتلهى بمعارك جانبية غير استراتيجية، مثل القدس المحتلة. وقد لوحظ أن هذا الفيلق، بقادته العسكريين وبمرجعيته الدينية والسياسية، قد أشاح أنظاره عن معركة القدس في الشهرين الماضيين، وأبدى صموداً لافتاً في إدارة الظهر لهذه المعركة، وصمّ الآذان عنها بصورة شبه كلية. وتفسير ذلك أنه ما دامت فرص التمدّد الإيراني هناك شبه معدومة، وما دامت الحرب الجهادية الطائفية غير ممكنة هناك، كما هي مستعرة في سورية والعراق، للدفاع عن المراقد والمقدسات والأضرحة، إذن لن يخون الذكاء رجالاً، مثل قاسم سليماني وحسن نصر الله، ولن يبدّدوا طاقاتهم في تلك المعركة الجانبية الخاسرة، وسوف يتم الاكتفاء، كما هي العادة، بقصف إعلامي وإطلاق أناشيد وتصريحات، ما قد يأخذ بألباب جانبٍ من جمهور يصدق كل ما يسمع نصرة للقدس والمقدسات. وعلى هذا الجمهور أن ينتظر حلول يوم قدس إيراني جديد في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان (حسب الموعد السنوي الثابت منذ العام 1991)، كي يسمع رأي المراجع في ما يجري في القدس. علماً أن هذا اليوم الذي يُعقد في طهران يجمع شركاء إيران من قادة مليشياتٍ وأحزاب، وحيث تجري فيه الإشادة بثورة إيران وقياداتها الدينية، وأياديها البيضاء على الشعوب الإسلامية. وتبدو القدس مجرد خلفية للمشهد، فالغرض هو تسويق الأجندة الإيرانية، ودعوة الشعوب إلى أن تتخلى عن حقها في تقرير مصيرها، وأن تسلم قيادها لإيران، ولزعامتها الملهمة التي تنوب عن كل الشعوب الإسلامية، وتنطق باسمها.. شاءت هذه الشعوب أم لم تشأ.
وهكذا، بالانضباط الإيراني في معركة القدس، والنأي التام بالنفس عنها، يتضّح، مرة أخرى، مدى حدود الدعاية، ومدى انفصالها الكلي عن الواقع، بما يتعلق بالقدس والأراضي العربية المحتلة. والرسائل الإيرانية بهذا الخصوص، للغرب ولأميركا بالذات، أن طهران ليست في وارد إزعاج إسرائيل، وأن اقتراب بعض المليشيات من الحدود مع جبهة الجولان المحتل يُراد به تحسين أوراق التفاوض مع واشنطن، لا الاشتباك مع إسرائيل، وذلك للحفاظ على الاتفاق النووي، ولحمل واشنطن على الاستمرار في سياستها القائمة على غض النظر عن التمدّد الإيراني، علماً أن طهران تركّز جهودها على محاربة الإرهاب فحسب (وحيث يقتضي ذلك شن الحرب على كل مكونات ومشتملات البيئات السنيّة)! حتى لو كانت مليشيات إيران تمارس الإرهاب على طريقتها داخل إيران وخارجها.
ومن حق الفلسطينيين، ومعهم أنصار العدل والحرية في كل مكان، إزاء هذا الاستعمال المتمادي لاسم القدس في الأدبيات، وفي الغزوات الإيرانية، أن يجهروا بالرفض الحازم: ليس باسمنا.. ليس باسم القدس.