بين مؤشرات صريحة وتسريبات مقلقة، يمضي مصير سوريا والسوريين في النفق الدموي المظلم الذي ارتآه لهم العالم. الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون افتتح ولايته بانقلاب صريح على سياسة سلفه في سوريا، بوقاحة لم يسبقه إليها أحد: «نظام الأسد هو عدو للشعب السوري، وليس عدواً لفرنسا» قال. حقاً لا يمكن لعبقرية الانحطاط أن تجترح فكرة أكثر شناعة! وذلك بصرف النظر عن أنها رسمت صورة واقعية لكل السياسة الدولية تجاه المأساة السورية. فنظام بشار الكيماوي هو فعلاً ليس عدواً لأي دولة في العالم، بل هو عدو للشعب السوري وحده. لندع الأبعدين جانباً، ونذكر فقط الأقربين: وزيران من الحكومة اللبنانية بصدد زيارة جزار دمشق، بصفتهما الرسمية، لتنسيق الشؤون «ذات الاهتمام المشترك» بين الحكومتين، منها مثلاً كيف يعيد لبنان الهاربين من جحيم الأسد إليه، ومنها شراء الكهرباء الذي يحرم منه النظام مناطق سيطرته، وضمناً مجتمع مؤيديه.
والحق أن وزن فرنسا في معادلات القوة الدولية قد تراجع إلى حد كبير، ولا قيمة كبيرة لتوجهات الرئيس ماكرون، في سوريا أو غيرها، ما لم تستقو فرنسا بالظل الذي يمكن أن تمنحه لها الولايات المتحدة. وفي سوريا بالذات، لا وزن لأوروبا كلها أمام ثقل الروس والأمريكيين. لكن قيمة تصريحات ماكرون تقتصر على جانبها الدلالي، من حيث أنها ترجمة دقيقة لتوجهات «المجتمع الدولي» بصدد إعادة تأهيل نظام الأسد.
أما الإدارة الأمريكية فهي غارقة في مشكلات البيت الأبيض الداخلية التي من المحتمل أن تنتهي إلى إقالة الرئيس ترامب، بعدما فشل في الانسجام مع المؤسسة الحاكمة كما فشل في ترويضها بما يتفق مع شذوذ مسالكه السياسية غير القابلة للتنبؤ. وما زالت «بلورة» سياسة أمريكية متسقة في سوريا خاضعة للتكهنات والأمنيات. بكلمات أخرى: السياسة الأمريكية في سوريا ترسم يوماً بيوم، أو هكذا يبدو الأمر لأي مراقب من خارج أروقة صنع القرار. لكن ما هو ظاهر، منذ اتفاق هامبورغ الشهير بين ترامب وبوتين حول «خفض التصعيد» في جنوب غرب سوريا، بمحاذاة الحدود مع إسرائيل، هو استئناف لسياسة الرئيس السابق باراك أوباما في تسليم مصير سوريا، «المفيدة» منها على الأقل، لروسيا. روسيا التي أخذت توزع الكعكة السورية «بمعرفتها» على الدول الإقليمية، في سياق تثبيت دورها كبلطجي أول في سوريا وجوارها. فأصبحت موسكو هي محج مسؤولي كل الدول الإقليمية المعنية، بشكل أو بآخر، بالصراعات الدائرة على الأراضي السورية، بدلاً من واشنطن.
ولم يغير الروسي، قيد أنملة، من مقاربته لـ»حل سياسي» مزعوم للمشكلة السورية، بل غيرت كل الدول الأخرى باتجاه التقارب مع الرؤية الروسية، بمن في ذلك المبعوث الأممي ستافان ديميستورا الذي يواصل الضغط على الهيئة العليا للمفاوضات من أجل ترويضها أكثر وأكثر. وإذا صدقت التسريبات التي راجت مؤخراً يبدو أن الهيئة العليا للمفاوضات مقبلة على انقلاب أبيض يطيح برياض حجاب ويأتي بأحمد الجربا بديلاً عنه، مع ضم منصتي موسكو والقاهرة إلى جسم الهيئة. وما يعنيه ذلك، إذا نجحت الدول الضاغطة في مساعيها، من نسف الأساس السياسي الذي قامت عليه الهيئة، باتجاه القبول ببقاء بشار الكيماوي في السلطة «أثناء الفترة الانتقالية».
بصرف النظر عن صحة التسريبات من عدمها، وعلى رغم موازين القوة المختلة لغير مصلحة المعارضة، يبقى أن هذه تملك ورقة قوة لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، هي رفض التوقيع على صك استسلام لنظام بشار الكيماوي، وهذا هو المعنى الضمني لأي تهاون بشأن بقاء بشار في السلطة ولو ليوم واحد بعد أي اتفاق سياسي مفترض بين النظام والمعارضة.
يقول البعض إن شخص بشار هو مجرد تفصيل بلا قيمة، مقابل تمسك المجتمع الدولي ببقاء النظام، تحت صيغة «مؤسسات الدولة». صحيح أن بشار بذاته تافه كشخص، لكنه مهم جداً لتماسك النظام، إضافة إلى أن بقاءه مع وجود أدلة صريحة على ضلوعه في جرائم حرب، على ما أعلنت عضو لجنة التحقيق الدولية كارلا دل بونتي، يعني القبول بتلك الجرائم وإفلاته، ونظامه، من أي محاسبة محتملة عليها في المستقبل. هذا ما يمكن أن نسميه بإنشاء حل سياسي على أساس إجرامي.
لم يكن الرد السعودي في تكذيب ما نسب إلى وزير الخارجية عادل جبير، في إطار الضغط على «الهيئة العليا» مقنعاً للسوريين، بل كان أقرب إلى تأكيد التسريبات. وحتى إذا كان ما يتم تداوله بشأن احتمال ترئيس الجربا على «الهيئة» من نوع بالونات الاختبار، فهذا يشير إلى توجهات من أطلقوها، لتلمس ردود الفعل من جهة، ولتطبيع فكرة من هذا النوع من جهة ثانية، أي لتمهيد الطريق عملياً أمام الانقلاب الأبيض الذي يراد القيام به على المعارضة السورية.
في السنوات الأولى للثورة السورية، كانت هناك جهات دولية تراهن على حدوث انقلاب داخل القصر على السفاح بشار الأسد، بما من شأنه أن يفتح الباب لحل سياسي يوقف نزيف الدم السوري. ومن أبرز المحطات في هذه المراهنات، ما قيل عن اتصالات بين صهر بشار، آصف شوكت، وفرنسا. ومن المحتمل، وفقاً لهذا السيناريو، أنه تم اغتيال شوكت وزملائه في خلية إدارة الأزمة، بعدما انكشف أمر تلك الاتصالات.
وتمثلت المحطة الثانية في وزير الداخلية غازي كنعان الذي لاقى مصير شوكت نفسه بعدما انكشف «تآمره» على النظام، وفقاً لتعبير بشار الأسد بالذات في تصريحات أدلى بها إلى مجلة مصرية.
ودارت تكهنات مماثلة بشأن إبعاد وزير الدفاع السابق علي حبيب.
كلها تكهنات، وستبقى كذلك إلى حين انكشاف حقائقها يوماً ما. الفكرة هي أن «المجتمع الدولي» الذي فشل في تطويع النظام من خلال انقلاب من داخله، ربما يهيئ اليوم لإجراء انقلاب داخل المعارضة، بهدف تطويعها للقبول بـ»حل سياسي» يدفن كل عقابيل ثورة الحرية والكرامة، ويبقي مجرم الحرب في أعلى منصب في سلطة تقوم فوق أشلاء ما كان يسمى سوريا.
لندع جانباً التوصيف الأخلاقي لحل من هذا النوع، ونطرح السؤال الذي يفهمه «المجتمع الدولي» الذي يقوده أمثال ترامب وبوتين وماكرون: من الذي سيموّل إعادة إعمار ما دمره صبيهم المعجزة في سبع سنوات لتمكينه من حكم سوريا؟
في زيارات الوزراء اللبنانيين الأخيرة إلى سورية، إصرار على نزع ورقة التين الأخيرة عن الحكومة وإعلان صريح أن ما فرضته الموجة الأولى للثورة السورية من مقاطعة عربية لنظام بشار الأسد قد انتهت مفاعليه وأن لبنان سيكون في طليعة المطبّعين العرب مع النظام.
الزيارات العلنية التي بدأها وزيران من الثنائية الشيعية، تأتي بعد العديد من الاتصالات بين ممثلين لرئيسي البلدين. علنية الزيارات لا تفعل، إذن، غير تكريس أمر واقع. وبعد الضخ الإعلامي الكثيف أثناء معركة جرود عرسال بين «حزب الله» و «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، عن التعاون والتنسيق بين الجيش اللبناني والحزب ضد إرهابيي «النصرة»، والذي أـريد منه إسباغ الشرعية على «حزب الله» بصفته جزءاً من القوى الحامية للدولة ومؤسساتها ككل (وليس فقط للأرض وللسكان، كما كانت تصر دعاية المقاومة في السابق)، في سياق لبننة نتائج الحرب في سورية والبناء على هزيمة الثورة لفرض سيطرة سياسية وأمنية واقتصادية نهائية على هذا البلد لمصلحة محور الممانعة، تأتي زيارات الوزراء بذريعة المشاركة في معرض دمشق الدولي والبحث في العلاقات الثنائية.
بغض النظر عن الفشل الرسمي الكامل في الحفاظ على القرارات الحكومية منذ 2011 بعدم التعامل مع النظام السوري إلا ضمن الحدود التي يرسمها الإجماع العربي والعقوبات الدولية عليه، فإن الزيارات تستحق تناولاً من زاوية مختلفة. فإذا كان وجود الآلاف من مسلحي «حزب الله» في سورية قد ألغى عملياً معنى الحدود بين البلدين وفاقم من حدة الانقسام السياسي والطائفي في لبنان وطرح أسئلة عميقة عن مضامين السيادة والوحدة الترابية والاستقلال، خصوصاً بعدما رفض الحزب كل اعتراض على خطواته تلك التي مزج في تبريرها الدوافع المذهبية (الدفاع عن القرى ثم المقامات الشيعية) والوطنية (حماية لبنان من الإرهاب التكفيري)، فإن في الوسع الاعتقاد أن المرحلة المقبلة ستسمح بتقديم إجابات عن الأسئلة تلك على طريق تطابق في السلوك والآراء بين حكومتي البلدين.
يراهن حلفاء بشار الأسد في لبنان، وعن صواب، أن من سيعترض من اللبنانيين، إضافة إلى موازين القوى الواقعية في سورية ولبنان، لا تتيح بأي شكل تغيير المسار الحالي. وما نهج تكميم الأفواه واستدعاء الناشطين إلى الأجهزة الأمنية (التي يُفترض أن الوزير المسؤول عنها من صقور «تيار المستقبل») سوى بداية ظاهرة، قابلة للتعميم والانتشار، ترمي إلى نقل ما جرى من تطويع وترويض مع الإعلام المرئي والمطبوع، إلى منصات التواصل الاجتماعي. يجري ذلك فيما تلوح في الأفق كارثة اقتصادية– اجتماعية تساهم فيها مساهمة ملموسة العقوبات الأميركية المقبلة على لبنان ضمن الحملة المتجددة على إيران وأذرعها، بحيث لن يكون لأفراد معارضين ولا لأصواتهم أي قيمة أو سند أو صدى.
بهذا المعنى يُمثل لبنان المعبر المتقدم للتطبيع مع نظام قتل مواطنيه بالغازات الكيماوية (في الذكرى الرابعة لمجزرة الغوطة الشرقية) وبالبراميل المتفجرة والسكاكين. تطبيع مع الشرّ العادي والهمجية اليومية المستترة بادعاءات العلمانية ومكافحة الإرهاب وحماية الأقليات والسير على طريق القدس. وبهذا المعنى أيضاً يصح استخدام كلمة «التطبيع» التي كانت مخصصة للعلاقات مع الأعداء.
لا يريد أي من المسؤولين اللبنانيين أن يشعر مواطنوهم بالقلق حيال ما يجري وما يُعد له. بل على العكس، يريدون لنا النوم مطمئنين إلى أن المرحلة المقبلة ستكون عهداً للازدهار والاستقرار وأن نتجاهل كل مؤشرات التدهور المحيطة بنا.
نكتشف متأخرين، أن مسافة هائلة تفصل الإحساس عن السياسة، ليس فقط في الحالة السورية، إنما أيضاً في السياسات العالمية تجاهنا.
الإحساس، وأكثر ما يطلبه إحساس السوري المقهور اليوم، هو: وقف القتل، وقف الاعتقالات والخطف، وقف الجوع والتجويع، وقف حرق الجثث.
طالبَ السوريون بأن تحسّ بهم سلطتهم، وذلك قبل الثورة، طالبوا برصيف للمشاة، وجامعة ومستشفى نظيف، وبعض كرامة تليق بالبشر.
الآن السوري بكل ما يحمل من تعقيدات واحتلالات، يبدو فيه سؤال الإحساس أبعد ما يكون من مخيلات السياسيين القادرين على العمل والتدخل، لا سيما في هذا الزمن الترامبي الذي يشبه تماماً صراخ ترامب الإعلامي والإعلاني.
سيقول السوري المحاصر في مناطق النظام بالحواجز والخوف والجوع، والمحاصر من جانب جبهة النصرة و «داعش»: أما آن لهذا العالم أن يحسّ بنا؟ وفي الجواب عن هذا السؤال تبدو السياسات كأنها قهر عام لشعب بكامله، السياسة التي تجعل مصير بلدان عدة في هذا الشرق محصورة بأسوأ نظامين عرفهما العصر الحديث، هما الإيراني والروسي.
وحدها تقارير المنظمات الدولية بقيت تحسّ بالبشر ولو على الورق، توثق، (يا لهول اللغة وبرودتها أمام المقهورين)، ولكن ماذا يمكن أن تفعل أطنان الوثائق إذا غاب القرار الدولي السياسي، أو غيّب عمداً؟
مساحة هائلة من الدموع والقهر والحزن، مساحة هائلة من البكاء والفقد والعذاب والانتظار والجوع، عاشها ويعيشها حتى اللحظة السوريون، وحين يتفقدون ما يمكن أن يحدث لا يجدون أمامهم سوى ضحكة بشار الأسد، نعم ضحكة بشار الأسد التي بدأت منذ مجلس نوابه في خطابه الأول بعد بداية الثورة ولم تنته بعد.
كل العالم معلق ومتعلق بالولايات المتحدة وما يمكن أن تفعله، وها هي تعمل في سورية ولكن حسب مزاجها ومصالحها، مصالحها التي لا تقتضي تحركاً سريعاً لإنها المأساة، كما فعلت بعد احتلال صدام حسين الكويت عام 1990.
يقرأ السوري الآن لحظات موازية لمأساته في التاريخ، تقول لي صديقة ألمانية رداً على بعض شرحي عن مأساة سورية: «ونحن أيضاً دمرت بلادنا في الحرب العالمية الثانية وعشنا بلا كهرباء ولا ماء».
أحاول شرح خصوصية المأساة السورية لها، لا تسعفني مقدراتي في اللغة الألمانية على التعبير، تسبقها دموعي، ثم أصمت، تردّ علي: نحن نحسّ بكم.
وأنا أقرأ الكثير من الآراء والتحليلات السياسية المحقة والصحيحة حول الحالة السورية يأتيني سؤال الإحساس الذي ينتمي إلى الأخلاق، الأخلاق التي يمكن أن تجعل بشار الأسد الآن يضحك كممثل كوميدي.
أشعر بعجز اللغة عن التعبير، فماذا يمكن أن تفعل في التعبير أمام هول المأساة؟
إحساسي الشخصي يجعلني أقرأ من موقع المخنوق بدموعه، يجعلني أشتم كل الدول التي تساهم في استمرار المأساة.
الرسالة السياسية من الروس والإيرانيين ومعهم الأميركان لكل شعوب المنطقة تقول: اقبلوا بأوضاعكم الحالية وإلا ستعيشون القهر الذي يعيشه السوري الآن.
على الأرض السورية سياسياً لا شيء يدعو إلى التفاؤل، ولكن من موقع الإحساس، الإحساس بحجم المأساة وهولها، أرى أن المستقبل السياسي لسورية لا يمكن أن يبقى بكل هذا السواد والسوء.
بالتأكيد، اللحظة السورية لا يمكن أن تبنى سياسياً بكتابة الشعر والروايات، ولكن من موقع الإحساس أشعر بأن العامل الذاتي السوري يمكنه أن يفعل الكثير على كل الصعد المتعلقة بالمستقبل، بالتأكيد ثمة كلام حالم هنا، نعم حالم، ولكن كل التغييرات العميقة والحقيقية في حياة البشر حملها حلمُ بعض الأشخاص الحالمين بالتغيير.
صحيح أن خريطة تقاسم النفوذ في بلاد المشرق العربي، خصوصاً سورية والعراق لم تتبلور صيغتها النهائية، إلا أن المؤشرات تدل على بلورة خطوات أساسية بين القطبين الفاعلين بقوة، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وعند الحديث عن تقاسم النفوذ في سورية، يدخل لبنان حكماً ضمن منظومة التقاسم هذه، وتتحدد الجهة التي ستعطى لها الأولوية في التدخل الفاعل في الشأن اللبناني وإدارة الهيمنة فيه. في هذا المجال، لم يعد خافياً ما يطمح إليه الرئيس السوري ونظامه من إعادة السيطرة على لبنان، وأن يكون لبنان جزءاً من التعويض عن الخسارة السورية لمناطق واسعة من البلاد وحصر سلطته ضمن «سورية المفيدة». فما الممكن وما المستحيل في استعادة هذه الهيمنة؟ ومن هي القوى الإقليمية المساعدة او المعيقة لهذه السيطرة المتجددة؟
بداية، لا بد من قراءة مجريات الأحداث السورية انطلاقاً من التسويات الروسية – الأميركية تحت عنوان «مناطق خفض التوتر»، حيث يجري تحديد القوى المسموح وجودها والقوى الممنوع عليها هذا الوجود. تشير الوقائع السورية أن إيران وميليشياتها بدأت تتراجع تباعاً من مناطق سيطرتها السابقة بقرار روسي وأميركي. كما لم يعد خافياً الكلام الأميركي الصريح بضرورة انسحاب إيران وميليشياتها من الساحة السورية، وهو موقف يحظى بعضه بتأييد روسي خفي. تدرك إيران نتائج هذا الموقف الذي يهدد مشروعها التوسعي في المنطقة بالخطر. لذا أتت التصريحات الإيرانية حادة ومتوترة ضد هذه المواقف، ورافقتها تهديدات عسكرية لمنع حصول أي تسوية، ورفض قاطع للانسحاب من سورية التي استثمرت فيها بلايين الدولارات، ودفعت الآلاف من القتلى على ساحتها.
رسم الراعيان الروسي والأميركي خطاً جغرافياً لإيران داخل «سورية المفيدة»، وتمددا جغرافياً نحو لبنان وحدوده الشرقية حيث تمتلك إيران قوة سياسية وعسكرية عبر «حزب الله» اللبناني. وكما يظهر حتى الآن، وتحت ضغط القوى الدولية والمهيمنة، والتهديدات الأميركية المتمادية ضد إيران، فإن إيران قد تكون اقتنعت بمنطقة نفوذها، وبدأت تكرس هذا النفوذ على أرض الواقع، مستفيدة هذه المرة من هيمنتها على القرار السوري الرسمي.
يمكن القول، حتى الآن، أن تداخلاً في السعي الى السيطرة على لبنان موجود بين إيران والنظام السوري. يسعى الرئيس الأسد الى توظيف الدور الإيراني في إعادة موقع نظامه في لبنان، مع حماية المصالح الإيرانية من خلال العلاقة الوثيقة التي تربط النظام بـ «حزب الله». لا تبدو العلاقة مبسطة بين هذا المثلث، واذا كانت التناقضات خفيّة الآن بين أطرافه، فلأن معركة التقاسم الأكبر لم تنجز بعد. لكن ذلك لا يمنع من تسجيل بعض القضايا التي تفتح مباشرة على موقع الحكم اللبناني مما يجري حوله ويخطط له من خارجه.
قيل الكثير حول معركة جرود عرسال، وجرى تضخيم «الانتصار» الحاصل فيه من أجل توظيفه السياسي داخلياً. على رغم أن المعلومات المتكشفة تباعاً، والتي تداولتها قوى لبنانية ودولية، تقول إن حجم قوى «جبهة النصرة» لم يكن يتجاوز المئة وعشرين عنصراً، وأن اتفاقاً سبق وأن حصل مع الجيش اللبناني على انسحاب هذه القوات. لكن فجأة، وبقرار إيراني – سوري، فتح «حزب الله» معركة عسكرية، وأرفقها بحملة ديماغوجية تخويفية للأقليات المسيحية وتخوينية لكل معارض للنظامين السوري والايراني وحلفائهما. لتنتهي المعركة بعد أيام قليلة، ويعلن فيها الحزب «انتصاره»، بعد أن يكون الأسد قد سبقه في تسجيل النصر السوري على غرار ما حصل عام 2006. وبدأت عملية الإفادة من هذه المعركة التي وصفها كثيرون بـ «المسرحية» او «التمثيلية».
يجري الآن في لبنان توظيف الحرب السورية والتدخلات فيها لإعادة تموضع القوى الموالية للنظام السوري، من خلال الدعوات الى التنسيق معه في كل الأمور، وإنهاء ملف المقاطعة السياسية، والترويج لمقولات العلاقة الوثيقة بين البلدين وتفعيل هذه العلاقة... تترجم بعض القوى موقفها عبر زيارات وزراء الى سورية من دون موافقة مجلس الوزراء على ذلك. فالحكم اللبناني الراهن يقوم على تقاسم نفوذ كل طرف طائفي– سياسي لمنطقة معينة، إذ يبدو البلد مجموعة إقطاعيات يتصرف كل إقطاعي وفق ما تمليه مصالحه.
من المبكر جداً الحديث عن تضارب بين مصالح النظام السوري ومصالح إيران و «حزب الله» في لبنان. لكن التناقض قد يظهر لاحقاً عند الفرز والضم في سورية وامتداداتها اللبنانية. في هذا المجال، قد يكون متاحاً للنظام السوري لعب دور مؤثر أكبر في لبنان، من خلال القوى اللبنانية المتزايد عددها في تأييده.
يبقى أن نرى المستحيل في هذه العودة السورية، والناجمة عن التناقضات الداخلية اللبنانية وصعودها في وجه هذه الهيمنة، وهي ستعيد فرز القوى من جديد وإثارة ردود الفعل الطائفية والمذهبية. يضاف الى ذلك أن النظام السوري نفسه لم يعد بتلك القوة العسكرية والسياسية التي تمكنه من إعادة هذه الهيمنة.
يتحصن كل من جيش الإسلام وفيلق الرحمن، بشكل جيد خلف ستار حماية المدنيين و قتل بذور الشقاق، وحتماً العملاء المدسوسين المتعاملين مع النظام القاتل.
خلف هذا الستار يقف آلاف السوريين في حصار جديد داخل أروقة المناطق التي تشهد على اشتباكات أخوة السلاح السابقين، بانتظار أحد الموتين، موت بيد قاتلهم الأول أم قاتلهم الجديد الذي ادعى قتال الأول.
يدافع كل من الفيلق والجيش (الإسلام)، بعتاوة منقطعة النظير عن مبادئ الإنتماء العقائدي لشيوخ الطريقة، وللدول العاملين في فلكها، و يعملون بجهود جبارة لإثبات أن كل واحد منهم هو الأوحد القادر على ضبط عقارب ساعة الرقعة الجغرافية المتآكلة على الضفة الشرقية لدمشق.
قصص تسري عن المدنيين المحاصرين في منازلهم والممنوعين من الحركة أو التحرك، والواجب عليهم التحضر لتأكيد الإنتماء لهذا أو ذلك حتى يضمنوا البقاء في حال ما تغيرت خارطة السيطرة.
خلف أبواب المنازل في مسرابا و جسرين وغيرهما، هناك أجساد من النحالة بمكان لا تقوى على مواجهة جوع جديد، مع تقطع أوصال المناطق التي يتواجه بها جيش الإسلام و فيلق الرحمن، بسبب صراع السلطة أولاً و قتال هيئة تحرير الشام كعامل ثانوي.
قدرات لغوية وانتشار في الفضاء الرحب من خلال البيانات و البيانات المضادة، و التصريحات الغير مسؤولة و الخارج عن أي نسق، إلا نسق تشويه ما تبقى من صورة الثورة وثوارها، الأهم يسفه ويقّذر نقاوة دماء آلاف الشهداء الذين قدموا أرواحهم كي يعيش من يقف خلف أبواب مناطق الغوطة اليوم، أحرار بكل هيبة الكرامة و القوة، لا .......”
في الغوطة حيث يسطوا صراع اللحى والفتاوي، صراع الأيدلوجيات، المباح فيه كل شيء من دين و رض، روح و جسد، فهنا تطغى السلطة على كل شيء حتى لو أودت بغياب المحكوم وبقاء الحاكم على أرض قفراء أو في سجن أظلم من الظلم المعمم على الجميع.
لا نصر محسوماً في سورية. لا طائرات بوتين تستطيع إنجاز هذه المهمة، ولا تراجعات أميركا يمكن أن تحقّقها، ولا حتى كل خزان إيران البشري. كل ما يمكن تحقيقه لا يتعدى تحسين مواقع طرف أو تحالف في المعادلة، ثم إن الانتصارات في مثل هذا النمط من الصراعات لا يمكن لها التمظهر إلا بعد ثبوت المتغيرات في شكل نهائي، وهذه تأخذ زمناً طويلاً قد يصل إلى عقد وأكثر.
ثمّة من يستعجل إعلان نصر طرف في الحرب السورية، هو في شكل واضح نظام الأسد تحديداً، بناء على سيطرته على بعض المواقع، ولا شك في أن هذا معطى مضلل كشفته خبرة تجارب السنوات الماضية، ذلك أن النظام تراجع إلى حدود السيطرة على أقل من 15 في المئة من مساحة سورية، وقد يستعيد السيطرة على غالبية سورية بفضل تضافر ظروف موضوعية لمصلحته في هذه المرحلة من دون أن يعني ذلك انتصاره، فطالما بقيت هناك ثورة سيبقى هو تحت الخطر، وشروط استمراره تختلف عن شروط استمرار المعارضة ضده، فالثورة لديها مرونة أكبر ومن الممكن أن تتحول الى أشكال أقل كلفة ولا تحتاج الى انتشار واسع، في حين أن النظام يحتاج شروطاً وبيئة مختلفة، ميزتها الأساسية الكلفة العالية.
يؤثر ذلك بالضرورة على رهانات الطرفين، والرهانات هي المحركات الأكثر قوة في ديمومة الصراع، وإذ تتطلب رهانات الأسد إيجاد بيئة ملائمة للقضاء على معارضيه، تتوافق مكوناتها الخارجية والداخلية على تحقيق هذا الهدف، وتوفر له الموارد اللازمة، وهذا مستحيل في بيئة متطلبة، في مقابل أن رهانات معارضيه أقل اتساعاً وأخفض تكلفة، تبدأ من الرهان على اغتيال رأس النظام، وصولاً إلى تغير في الموقف الدولي، وهي رهانات تبقى قابلة للتحقق.
استعادة السيطرة على حلب، التي يضعها المبشرون بانتصار النظام أيقونة لمؤشراتهم، قد تكون أنهت وجود كيان منافس لكنها لم تنهِ الثورة. كل مرحلة ستكون ولادة لنمط مختلف من الصراع لن تتكشف ملامحه لأنه سيكون استجابة للمتغيرات وتكيفاً معها.
النصر مستحيل لأن الأمور في سورية لا يمكن معالجتها من فوق الى تحت، فلا يكفي أن يتحصّن الأسد في دمشق ولا أن تقبل بعض الدول ببقائه لحل الأزمة او تسويق ذلك كعلامة للنصر. القضية مرتبطة بملفات أعقد، تشمل اللاجئين، دمج عشرات إن لم يكن مئات آلاف المقاتلين في القوات المسلحة، إعادة الإعمار، مصير المعتقلين والمفقودين. كل واحدة من هذه القضايا هي عنصر تفجير ما لم يتم حلّها بتوافق وطني ونتيجة رضا كل الأطراف، أو على الأقل توافقها على نوعية التنازلات ومستوياتها ومحتواها.
النصر مستحيل، لأن البعد العسكري بعد واحد في أزمة معقدة، والحل ليس مع الفصائل المسلحة التي لم تكن سوى تعبيرات إجتماعية عن موقف مقاوم للنظام. المشكلة مع المجتمع نفسه الذي اتخذ قرار إطلاق شرارة الثورة ثم تحمّل كلفة احتضانها والسير بها ودفع ثمنها، وهو اليوم ينتظر حصاد الغلة وليس القبول بحلول ترجعه إلى واقع أسوأ من الذي ثار عليه.
صحيح أن السوريين تعلموا من ثورتهم درساً في السياسة فحواه انه لم يعد ممكناً سقوط الأنظمة بالقوة ولا حتى بالثورات، وها هي مصر وتونس تعيدان إنتاج أنظمتهما القديمة، فلكل نظام شبكة علاقات كما أن له منظومة يرتبط بها، لكن السوريين يعرفون أيضاً انهم أصبحوا طرفاً تفاوضياً، وأنهم استعادوا تعريف الدولة وفق ما نصت عليه كلاسيكيات العلوم السياسية، شعب، أرض، وسلطة، وبالتالي فإنه إن لم يكن ممكناً إسقاط رأس النظام اليوم، فإن الشعب صار جزءاً من المعادلة التي على أساسها ستعاد هيكلية السلطة وشكل الدولة.
ولا يصلح هنا الرهان على تعب طرف واحد. الجميع، بمن فيهم اللاعبون الكبار، وصل إلى أعلى مستويات الإنهاك. لقد خاضوا حرباً قاسية واشتغلوا بأقصى طاقاتهم للوصول إلى هنا، وكلهم يتمنون أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة استثمار لما يعتقدون أنهم أنجزوه، وليست مواصلة للحرب بطرقها القديمة، وروسيا نفسها التي تعتبر المشغّل الأساسي للحرب خفّضت حركة طائراتها لاعتقادها أنه لا يمكن الاستمرار بنفس النمط السابق، وأن المرحلة التي ستلي القضاء على التنظيمات المتطرفة ستكون لها حساباتها واستحقاقاتها.
النصر يصبح ممكناً في الصراع السوري، فقط إذا تم توزيعه على الجميع، بحيث تشعر جميع الفئات والطبقات والطوائف أنها حققت، من زاوية نظرها، ما يلبي مصالحها ويهدئ مخاوفها، إن لم يكن كلها فالجزء الأساس منها. فكل السوريين صار عندهم بنادق وقناصون، والصومال وأفغانستان هما تجربتان حيّتان لأطراف استعجلت يوماً إدعاء نصرها.
منذ فترة تتناقل الأوساط الديبلوماسية الغربية المقربة من إسرائيل المعلومات التي تضعها الدولة العبرية بحوزتها عن تعزيز التسليح والدعم الإيراني في شكل كبير لـ «حزب الله» في لبنان وخصوصاً على الحدود اللبنانية- السورية. وتشير هذه الأوساط إلى إمداد إيران كمية كبرى من الصواريخ إلى الحزب. وتضيف أنه يدرب مقاتليه اللبنانيين وغيرهم على الأراضي اللبنانية وليس في سورية. وكتب الزميل فيليب أبي عقل في صحيفة «لوريان لوجور»، أن الرئيس دونالد ترامب قال لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إن إيران زودت «حزب الله» ١٥٠ ألف صاروخ في حين أن العدد كان من قبل ١٠ آلاف. والسؤال اليوم هو إلى أين تأخذ إيران لبنان؟ وهل ندفع مجدداً ثمن تحالف جزء من الدولة اللبنانية مع «حزب الله»؟ فقد قيل الكثير عن الجيش ودفاعه عن الوطن وإبعاد «الداعشيين» عن الحدود اللبنانية. والإدارة الأميركية تزود الجيش اللبناني معدات هو بحاجة إليها. ولكن لسوء حظ لبنان أن إيران استطاعت عبر «حزب الله» وحلفائه المسيحيين الذين يمثلون الدولة اللبنانية أن تفرض نفوذها في لبنان، حتى أن اللبنانيين أصبحوا ينتظرون خطابات حسن نصرالله لمعرفة استراتيجيته في المنطقة وفي الداخل. وإيران تمول الحزب وحلفاءه منذ سنوات لأنها مهتمة ببقاء الهلال الشيعي على الحدود مع سورية. كما تسعى إلى السيطرة على جزء من سورية. ولبنان ليس بحاجة إلى تهديدات «حزب الله» بالانتصار على الدولة العبرية لأن البلد ليس بحاجة إلى المزيد من الدمار والحروب. فالدولة اللبنانية ليست اليوم كما كانت عام ٢٠٠٦ عندما شنت إسرائيل حربها الوحشية على لبنان لأن نفوذ «حزب الله» توسع ولا يخفى على أحد أن لبنان اليوم يعاني من هذه الهيمنة التي لا يجازف أحد في الحكومة بتحديها. ولا أحد في الحكومة يمكنه منع «حزب الله» من حربه في سورية للدفاع عن النظام المجرم. كما أن لا أحد في لبنان بإمكانه منع زيارة وزير من «حزب الله» إلى دمشق. ولا أحد بإمكانه تطبيق قرار مجلس الأمن بتجريد الحزب من سلاحه بل بالعكس يشهد لبنان المزيد من هذا التسلح الآتي من إيران فيما يدعي «حزب الله» أنه يجنب لبنان حرباً جديدة من العدو الإسرائيلي.
إن لبنان واقع بين قوتين إقليميتين مخربتين في المنطقة: إسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر. أما ما يسمى بسياسة النأي بالنفس عن حروب المنطقة فأمر ساذج، إذ إن القوى الأساسية في لبنان تحارب في سورية وجزءاً مهماً من الدولة متحالف مع هذا الحزب، خصوصاً من هو طامح للخلافة الرئاسية في عهد لاحق إذا استمر البلد. فـ «حزب الله» ساعد النظام السوري على خراب بلده وقتل شعبه. كما أنه بهذه الحرب ساهم في دفع الملايين من النازحين السوريين إلى الدول المجاورة ومنهم مليون ونصف نازح إلى لبنان حيث التوترات الاجتماعية بين اللبنانيين واللاجئين السوريين بلغت مستوى خطيراً جداً. فـ «حزب الله» وضع لبنان تحت وطأة إيران وأفقره بالنازحين السوريين وبقتل شبابه الشيعة الذين يتعرضون لغسل دماغ بأن قتالهم سيحولهم إلى شهداء. وأي شهادة هذه عندما يموتون من أجل بقاء بشار الأسد والنفوذ الإيراني في لبنان؟ فالوضع في لبنان خطير طالما أن إيران و «حزب الله» وإسرائيل تسيطر على مصيره، خصوصاً أن الجميع في المنطقة تركوه يتخبط في بحر هائج وملوث بالمشكلات.
ينقسم اللاجئون السوريون في ألمانيا إلى ثلاث فئات في رؤية علاقاتهم مع المجتمع الألماني؛ الفئة الأولى، بدأت في انخراط عميق بالمجتمع الألماني، وأغلب هؤلاء عائلات من أبناء المدن المتعلمين، تتوفر لهم قدرات أعلى على الاندماج والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الألماني، والفئة الثانية عائلات هي خليط موزعة بين ذوي الأصول الريفية وحرفيي المدن، وهي في مرحلة انتقالية تتقاذفها مشاعر مختلطة ما بين رغبة الانخراط في المجتمع، وإحساس بأن وجودها في ألمانيا وجود مؤقت. والفئة الثالثة أغلبها من العازبين والأفراد بينهم متعلمون وأميون، عجزوا عن التوافق مع ظروف اللجوء بسبب صعوبة تعلم اللغة، واستحالة الانخراط في سوق العمل وفق القدرات المتوفرة، وغالبية هذه الفئة خيارها محسوم في عدم البقاء في ألمانيا، وهم بانتظار أول فرصة للمغادرة سواء إلى سوريا أو أي بديل متاح، المهم أن المنتمين لهذه الفئة لا يريدون البقاء في ألمانيا.
لقد ساءت ظروف السوريين في السنوات السبع الماضية سواء المقيمون منهم في سوريا أو خارجها. ففي الداخل قتلٌ واعتقال وتدمير للممتلكات والقدرات الفردية والجماعية، وفي بلدان اللجوء والإقامة صعوبات ومشكلات لا حصر لها، تمنع في غالبها استمرار حياة السوريين بالحدود الدنيا والمقبولة، وزاد من صعوبة الظروف عاملان؛ أولهما غياب أي أفق مفتوح للحل في سوريا، والثاني، فتح بوابات الهجرة واللجوء إلى بعض بلدان أوروبا وبينها السويد وألمانيا، وكلها كانت بين دوافع السوريين في التوجه نحو اللجوء.
وللحق فإن ألمانيا أبدت اهتماماً وترحيباً خاصاً باللاجئين السوريين، وسهلت وصولهم، ويسرت سبل منحهم الإقامة، بل هي استوعبت العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى أوروبا في السنوات الماضية إلى حد أن أعدادهم تقدر فيها بنحو ثمانمائة ألف شخص.
غير أن الهوى المتبادل بين السوريين وألمانيا سرعان ما ضربته رياح الوقائع. فأغلب القادمين اعتقدوا أن اللجوء حالة إنسانية بحتة، تقوم على المساعدة، فيما المستقبلون يرونها حاجة اقتصادية واجتماعية وثقافية، تقوم على الاندماج بكل ما يعنيه من التزامات مقابل اللجوء. كما أن الفارق الثقافي/ الاجتماعي بين الطرفين، جعل من عملية الاندماج أصعب من توقعات الألمان خاصة في ظل محدودية قدرات جهازهم الإداري والفني غير المهيأ لاستقبال أعداد ضخمة من اللاجئين، وقد أضيفت لهم أعداد أخرى وكبيرة من غير السوريين، الأمر الذي أعاق وأخّر تلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين، وشكل صدمة لهم، وخلف حالات إنسانية صعبة منها لم الشمل وتفاوت مدة الإقامة وصعوبات العمل، وجميعها ليس لها رؤية مشتركة عند الطرفين، وزاد من حدة المشكلة تصريحات وتحليلات وتقديرات، تتعلق بمستقبل اللاجئين السوريين في ألمانيا.
وسط تلك الوقائع، تبدو تحديات اللجوء السوري في ألمانيا قائمة. فمن جهة الألمان الذين صرفوا نحو خمسين مليار يورو على اللاجئين (نحو ثلثهم من السوريين) في السنوات الأخيرة، فإنهم لا يرغبون في رؤية جهودهم وأموالهم، دون نتائج مناسبة، خاصة أنهم لا يستطيعون إعادة اللاجئين السوريين من حيث قدموا ولا إلى بلدهم الذي تطحنه الحرب، وتستمر فيه المقتلة والتدمير، ولهذا لا بد لهم من سياسات وإجراءات، تتغلب على العوامل المعيقة لاستيعاب ظروف اللاجئين السوريين ومتطلباتهم.
ومن جهة السوريين، فإن خيارات خروجهم من ألمانيا باتجاه بلدان أخرى محدودة، وعودتهم إلى سوريا شديدة الصعوبة بفعل استمرار الأسباب، التي جعلتهم يغادرونها أصلاً، خاصة أن النظام تخلى عن أية مسؤوليات حيالهم، وهو غير راغب في عودتهم إليها، وبالتالي فإنه لا خيارات لديهم في التعامل مع وجودهم في ألمانيا إلا باعتباره أمراً واقعاً، حتى ولو فكروا في العودة إلى بلدهم عندما تضع الحرب أوزارها، أو يبدأ مسار الحل في سوريا.
غير أن التحدي الذي يواجهه السوريون في البقاء بألمانيا، لا يمكن معالجته دون جهود وسياسات ألمانية جديدة وعميقة، تجعل من قدرة السوريين هناك أفضل للبقاء في ألمانيا.
بالهزيمة العسكرية المدويّة التي تعرّضت لها حركة أحرار الشام، الفصيل الأكبر في المقاومة السورية المسلّحة، الشهر الماضي، على يد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، وحالة التفكّك الراهنة التي تعيشها الحركة، ما يؤشر على تحولات جوهرية في الأجندة الإقليمية التي وقفت وراء دعم المعارضة المسلّحة الإسلامية، خلال الأعوام السابقة، فإنّ المعارضة السورية الوطنية المسلّحة أصبحت في حالةٍ من الضعف الشديد، بينما الأطراف المسلّحة الأخرى التي لا يمكن وضعها في السلّة نفسها، مثل "داعش" وجبهة النصرة، هي التي تمتلك الأرض في مواجهة حزب الله وإيران.
ما بدأت به الثورة المدنية - السلمية وقيمها شيء، وما وصلنا إليه شيء آخر. من المسؤول عن ذلك؟ النظام السوري (من وجهة نظري هو المسؤول الأول والأخير)؟ أم الدول الإقليمية (حرب الوكالة)؟ أم الدول الكبرى (التواطؤ والتخاذل) أم الفراغ الاستراتيجي العربي (بل التخبط العربي) أم أمراء الحرب في سورية؟ أم "داعش" و"النصرة" اللتان حرفتا مسار الثورة، وقلبتا الحسابات الداخلية والخارجية؟ هي جميعاً عوامل وديناميكيات لعبت الدور الرئيس فيما وصلنا إليه، لكننا – على أيّ حال- وصلنا إلى هنا، الآن، وضمن المعطيات الاستراتيجية والآفاق المتوقعة، من الضروري ألا تبقى القراءة المطلوبة أسيرة حالة الإنكار والتجاهل والمكابرة، بل لا بد من مواجهة الذات والإقرار بأنّ ما تبقى من الثورة السورية، على يد الفصائل المسلّحة، هو لا شيء، أو قريب من ذلك.
"داعش" التي تسيطر على الرقة ودير الزور خصم وعدو لقيم الثورة السورية. هيئة تحرير الشام التي بدأت بمسار، وانتهت إلى التنكيل بحليفها الاستراتيجي "أحرار الشام"، هي أيضاً في المعسكر الآخر للثورة، وهي التي تسيطر على إدلب، وتحوّلها إلى إمارة صغيرة، بعد أن وقعت اتفاقية مع حزب الله يتم من خلالها ترحيل قرابة 900 شخص من مخيمات في لبنان وعرسال إلى إدلب، وأظن أنّ مناطق تخفيض التصعيد في الجنوب ستؤدي إلى النتيجة نفسها.
أمّا الفصائل الأخرى المسلّحة ضعيفة أو تحت الوصاية الدولية والإقليمية، كما الحال في الجنوب، ولا تملك زمام أمرها. والأهم أنّ الدول الراعية للمعارضة، مثل تركيا وقطر والسعودية، قلبت تماماً أدوارها، أو تخلّت عن نفوذها، في الشهور الأخيرة، بداية من محاولة الانقلاب العسكري التركي التي دفعت إلى التقارب التركي- الروسي، وانتهاءً بأزمة الخليج الراهنة، وما بدأت تخلقه من نتائج، في مقدمتها هزيمة "أحرار الشام" وتفكيكها قبل أيام.
ما العمل؟ هذا هو السؤال المفروض اليوم على المعارضة السورية، خصوصا ونحن نشاهد مسار أستانة فاعلا بقوة، أي التهدئات والتسويات العسكرية، بينما مسار جنيف معطّل. فهل يمكن أن يتم التركيز مرّة أخرى على إعادة ترتيب البيت الداخلي السوري، وتحديداً المجتمعي - السياسي، أو إحياء الوطنية السورية الجامعة، واستعادة قيم الثورة، والخروج من حارة الوكالات الإقليمية والدولية، ومحاولة تحييد رجال البيزنس والمكاتب والعقارات الثورية الذين تحوّلوا إلى موظفين هنا وهناك.
كتب المعارض السوري، ميشيل كيلو، في "العربي الجديد" مقالاً عن التداعيات المتوقعة لاتفاق عمّان في الجنوب السوري، وبدا متفائلاً بأنّ الاتفاق قد يؤدي إلى "نقطة تحول"، إذ حجّم عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين، وأطّر قواعد اللعبة، لتشمل أميركا وروسيا، ومعهم الأردن باعتباره طرفا معنيا رئيسا بالوضع في الجنوب، وأخرج إيران وحزب الله، وتركيا، والدول العربية الأخرى، ولكلّ أجندته، من دائرة اللعبة والتأثير. وتتمثل الجدلية التي تتوارى وراء فرضيات كيلو في أنّ عسكرة الثورة السورية ضربتها في الصميم، ودفعت نخبا عسكرية غير مؤهلة سياسياً إلى قمرة القيادة، وأعطت اللاعبين الإقليميين اليد الطولى فيما يحدث، بينما القوى السلمية المدنية التي وقفت وراء الثورة في البداية تراجعت. وفيما إذا نجحت مشروعات "المناطق منخفضة التوتر"، فإنها ستسمح، مرة أخرى، ببزوغ القوى المدنية والخطاب الأصلي للثورة.
رؤية متفائلة جداً، لكنها تحمل أفقاً مختلفاً عن الواقع القاتم، بيد أنّ السؤال، بعد هذه الأعوام القاسية، والتفكك الكبير في المجتمع السوري، والأجندات الدولية والإقليمية التي أضرّت بالثورة، وساهمت فيما وصلنا إليه، بعد ذلك كله، هل المجتمع السوري، أو ما تبقى منه، ما يزال قادرا على حمل قيم ثورة سلمية؟ سؤال برسم الإجابة والتفكير، طالما أن الوضع العسكري وصل إلى هذا المنعرج الخطير.
مرة أخرى يسأل المرء نفسه عن الذي جرى على الحدود اللبنانية السورية في الأسابيع الفائتة! فحرب الجرود التي خاضها «حزب الله» ضد «جبهة النصرة» وأفضت إلى انسحاب 120 مقاتلاً من النصرة كانوا يتمركزون على طرفي الحدود، كان ضجيجها أكبر من نتائجها، وخلف مشهد «النصر المبين» ثمة وقائع وحكايات يشيح اللبنانيون وجوههم عنها.
الحرب المزعومة لن تقترب من حقيقة أن هناك أكثر من مليون لاجىء سوري قذفتهم الحرب الحقيقية في سورية إلى لبنان. أكثر من مليون لاجىء بلادهم مدمرة، وتقيم النسبة الأكبر منهم في مخيمات مرتجلة وغير معترف بها، يدفعون فيها ايجار الأرض التي ينصبون عليها خيمهم، ويعملون بأجور زهيدة، ولم يذهب أطفالهم إلى المدارس للسنة السادسة على التوالي.
عنوان هذا القضية لبنانياً، هو الضيق بهم، وإشاحة النظر عن قصصهم الصغيرة التي حملوها معهم. والجواب اللبناني عن سؤال اللاجئين كان «حرب الجرود» التي صورت بصفتها مدخلاً لحل لبناني لهذه القضية!
هذه الحرب الوهمية لم تقترب من قضية اللاجئين، إن لم نقل إنها فاقمتها. وحكايات النازحين أوسع بكثير من تلك الحرب الضيقة على تخوم عرسال. هي في حجم الدمار الهائل في سورية، ومرشحة لأن تكون مولدة لمزيد من المآسي طالما أن العالم كله يتصرف على نحو ما تصرف لبنان في مأثرة الجرود، أي انه اختصر مأساتهم بمئة وعشرين إرهابياً كانوا يتمركزون على حدوده. وإشاحة الوجه عن حكاياتهم يوازيها إشاحة وجه عن حكاية أخرى تتمثل في أن النظام السوري الذي تتحالف معه حكومتنا، ويقاتل إلى جانبه الحزب اللبناني الأكبر، وله في عاصمتنا سفير يمتنع عن مصافحة رئيس حكومتنا، لا يريد للاجئين أن يعودوا. هو اليوم يسيطر على أكثر من 80 في المئة من مناطق نزوحهم، أي حمص والقصير وريف دمشق، لكنه لم يبد إشارة واحدة حيال قضيتهم. و «حزب الله» أيضاً لا يريد عودتهم، فهم كتلة ديموغرافية تعيد رسم الخريطة المذهبية في المناطق التي «انتصر» فيها الحزب في سورية.
اذاً الضيق اللبناني باللاجئين السوريين هو ضيق بالنفس، وهو ينطوي على صفاقة سياسية وأخلاقية لا تخطؤها عين. من جهة إشاحة النظر عن قصة مأساتهم، ومن جهة أخرى تحميلهم تبعات سقطاتنا الأخلاقية وانحيازنا إلى نظام تسبب بمأساتهم وقتالنا إلى جانبه.
لبنان هذا، لم يوجه سؤالاً واحداً الى الحكومة الحليفة في دمشق تتعلق بقضيتهم. واستعاض عن ذلك بأن تعامل معهم بصفتهم مسؤولين عن مأساتهم ومأساته. مئات آلاف الأطفال خارج المدارس، لم تلتفت إليهم الضائقة اللبنانية إلا بصفتهم مشاريع «إرهابية» على وشك التحقق. إنهم «عبء» على رغم انشغالنا بالفساد الذي رافق عمليات الإغاثة الدولية والمبالغ التي تتقاضاها وزاراتنا ووزراؤنا من الصناديق الدولية لمساعدتهم. إنهم عبء بينما النظام الذي هجّرهم له مكان واسع في قلوبنا. إنهم عبء على رغم أنهم القوة العاملة الوحيدة في قطاعَي الزراعة والبناء. وهم عبء على رغم أن أحداً لم يقل لنا شيئاً عن قيمة الفاتورة اللبنانية المتوجبة على هذا العبء بعد أن نحذف منها حجم المساعدات الدولية التي تبلغ نحو بليون يورو سنوياً.
القضية ليست أعباءهم التي تترجم أحياناً غنائم. القضية أنهم رقم مذهبي في المعادلة اللبنانية، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى حقيقة أن لبنان المذهبي ساهم في تهجيرهم من بلادهم إلى بلادنا. التغيير الديموغرافي في سورية لن يُنجز من دون تهجير مذهبي في لبنان. هذه حقيقة ثقيلة على قلوب لبنانية كثيرة ساهمت في المهمة السورية، وتقف اليوم عاجزة أمام المعادلة المستجدة في لبنان.
مدن السوريين المدمرة لن تؤوي هؤلاء اللاجئين. حمص وحلب والقصير ويبرود كلها اليوم تحت سيطرة النظام. والأخير لم يطلب ممن يُفترض أنهم مواطنوه أن يعودوا! وهذا ليس مؤشراً للمرتعدين اللبنانيين من اللاجئين إلى أن المسؤولية تقع على حليفهم وليس على طفل سرق وزراء ومسؤولون لبنانيون المساعدات الدولية التي وصلت لإغاثته.
نحو ربع قرن يفصل ما بين ذاكرة الموت للحرب البشعة في رواندا والواقعٍ الراهن في شأن أرض الضحايا للحرب المتوحشة في سورية. الأولى بلغت ذروتها في نيسان (أبريل) 1994 حين أبادت قبائل الهوتو نحو 800 ألف من التوتسي وأقليات صغيرة أخرى خلال مئة يوم. ضحايا الحرب السورية يقدرون بنحو نصف مليون يسقطون على دفعات منذ 2011، ولا يبدو في الأفق ما يوحي بنهاية سريعة لذلك، ما أدى إلى إعلان المدعي العام الدولية، كارلا دلبونتي عن استقالتها لوصول جهودها إلى طريق مسدود.
كارلا دلبونتي، المحامية السويسرية، كُلِّفَت من قبل مجلس الأمن بمهمة النظر في جرائم الحرب في سورية قبل خمس سنوات، لكنها الآن تتهم الجهة التي كلفتها بالمهمة بـ «العجز» و «التفاهة». فاللجنة الدولية التي مهمتها التحقيق في خروقات حقوق الإنسان (وهذا تعبير مهذّب لوصف أعمال القتل والتعذيب والنهب المستمرة) في سورية، لم تنجز أي شيء من تلك المهمة. دلبونتي مدعي عام ذائعة الصيت وصاحبة تجربة خارقة في التحقيق في جرائم رواندا ويوغسلافيا السابقة، تقول التالي: «أشعر بالخيبة، ولذلك أتنحى عن مهمتي... أمام تــــقاعس مجلس الأمن. ليس لدي أي سلطة... جميع الأطراف في سورية متورطة. حكومة الأسد ارتكبت جرائم مذهلة ضد الإنسانية واستخدمت أسلحة كيماوية، والمعارضة تتكون راهناً من المتــطرفين والإرهابيين. لم أشــهد مثل جرائم ســـــورية سابقاً ولا حـــتى في روانــدا ويـــوغــسلافيا. سورية محرومة من العدالة».
في كل حال، وقف إطلاق النار الأخير في بعض المناطق يسجل خطوة مهمة في التنسيق الروسي- الأميركي، ولكن السؤال الأهم: هل سيوصل تكتيك الخطوة- خطوة الحرب المتوحشة إلى نهايتها. فلا سبيل جنيف ولا طريق آستانة وصلا إلى أي نتائج في هذا الخصوص، فلمَ التفاؤل الآن؟ وبدلاً من حماية مبادرة موفد الأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا، ها هي موسكو وواشنطن بتأييد مجلس الأمن، تتخليان عنها وتدفعان باتجاه الحل بالتقسيط، إذ بات المطلوب الأول، الرئيس بشار الأسد، يشعر باطمئنان شديد على مستقبله أكثر من أي وقت مضى منذ 2011.
فهو يقول بثقة، وبدعم إيراني وروسي مباشر، إن مهمة دي ميستورا «باتت من الماضي»، وليس هناك «غير سبيل مناطق خفض التوتر للحل» المنطلق بمبادرة من روسيا وإيران وتركيا والذي أيدته لاحقاً إدارة دونالد ترامب. لا يلام الأسد على الثقة بالنفس ما دام أصحاب القرار الدولي باتوا يميلون إلى فكرة أنه من الممكن التعايش مع نظامه لفترة أخرى ولو كانت محدودة. وها هو الرئيس الجديد لفرنسا، التي كانت منذ 2011 في مقدمة المطالبين بتغيير النظام في دمشق، يردد في شكل مقزز أن الأسد يمكن أن يكون جزءاً من الحل في سورية.
لسوء حظ سورية وأهلها أنه سُمِحَ لحربها المتوحشة أن تستمر في شكل أعمى من دون أي أهداف واضحة في الأفق ومن دون مجموعة مبادئ محددة لصوغ النظام البديل. مأساة هذه الحرب ليس فشلها في تقديم نتائج نهائية لها ولا معرفة من ينتصر فيها فحسب، بل إن جُلّ ما قدمته إلى العالم حتى الآن هو الضحايا.
نحو نصف سكان سورية إما قُتلوا أو هُجِّروا، مع تقدير نحو نصف مليون قتيل ونحو خمسة ملايين لاجئ في دول الجوار السوري، ما عدا من تمكن من الوصول إلى أوروبا، وخمسة ملايين آخرين نزحوا داخل بلادهم. وتقدر الأمم المتحدة أن جيلاً بأكمله من أطفال سورية حُرِموا، وإن بدرجات متفاوتة، من التعليم. وهذا يحدث تحت سمع وبصر العالم، ما يزيد من صعوبة فهم المسألة، في وقت يتعرض فيه وطنٌ برمته للتمزق يوماً تلو الآخر.
ويبقى التساؤل: ما هو شكل سورية الجديد، بل هل هناك شكل جديد لسورية المستقبل لدى المتورطين الكبار في حربها المتوحشة؟ أمام استحالة العودة إلى شكلها القديم، أي حكومة مركزية في العاصمة تحكم كل سورية، لأن مثل هذا الحل يُعتبر معجزة، وفي واقع تندر فيه المعجزات، هل الحل سيكون فيدرالياً، كونفيدرالياً، على شكل أقاليم منفصلة مع إدارة ذاتية؟ ففي غياب المنتصر أو المنتصرين، ستواصل الغالبية الساحقة من السوريين، بمن في ذلك من يعيشون في أراضي سلطة النظام، دفع ثمن باهظ كماً ونوعاً.
وكذلك سيفعل من هم خارج سورية إذ وصلت ترددات هذه المأساة إلى أوروبا، أكان من خلال تدفق المهاجرين الذين وصلوا إلى ألمانيا، أو عبر من حُجزوا منهم داخل تركيا القابعة عند بوابات الاتحاد الأوروبي والمتورطة بعمق في الحرب السورية. فالقوات التركية تتحرك بحرية كاملة في الشمال السوري حتى أطراف إدلب، حيث لا هم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سورية في الحقيقة غير التأكد من أن لا يميل ميزان الترتيبات المقبلة في شمال- شرق البلاد لمصلحة أكرادها، وليس نوع الحكومة المنتظرة في دمشق. همه الأول والأخير هو كيف ستكون عليه التركيبة الديموغرافية والسياسية في شمال البلاد.
في هذه الأثناء ثمة ترتيبات ثلاثية الأطراف يشارك فيها الأردن مع روسيا والولايات المتحدة في مناطق الجنوب السوري. ويبدو أن وقف النار في هذه المناطق الذي أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون من قمة العشرين في تموز (يوليو) الفائت، جاء عقب سلسلة من المشاورات السرية على مدى أشهر عدة بين الأطراف الثلاثة. وحرص الأميركيون على أن تكون إسرائيل على إطلاع على ما كان يجري من مناقشات لقرب جنوب- غرب سورية من مرتفعات الجولان المحتلة.
هذه التطورات تعكس إنجاز خطوة جوهرية على صعيد التعاون بين واشنطن وموسكو. لقد قال تيلرسون بوضوح إن لدى بلده وروسيا الأهداف نفسها من وقف النار، وكان ذلك التصريح أول إشارة إلى وجود تصور مشترك لمسار الأمور نحو سورية المستقبل. ولكن يبقى السؤال قائماً حول ما إذا كان تكتيك الخطوة- خطوة سيضع نهاية عملية للحرب البشعة؟!
أثارت تصريحات عضو وفد المعارضة السورية في التفاوض مع النظام، خالد المحاميد، غضب الهيئة العليا للمفاوضات الذي عبّرت عنه بقرارها إلغاء عضويته من وفدها التفاوضي، لاعتباره "أن الحرب بين المعارضة والنظام وضعت أوزارها"، على الرغم من أن تصريحاته تأتي في سياق الاتفاقات فوق التفاوضية التي تفرضها كل من روسيا والإدارة الأميركية على الصراع السوري، والتي تغيّر، في كل مرة، مسارات الصراع، ووجهاته ومساحاته، وفق ما يخدم الصراع على سورية، وتقاسم النفوذ داخل أراضيها بين قوتين رئيسيتين، وما يتبعهما من قوى أخرى، يكاد ظهورها واختفاؤها يحدّد حسب المزاج الأميركي، ولاحقاً الروسي.
لم يأت المحاميد بما هو خارج بنود الاتفاقيات التي سميت "خفض التصعيد"، على الرغم من أن انتهاكاتها تحدث يومياً، على مسمع ومرأى من الدول الضامنة نفسها، لكنه عبر بوضوح عما يجب أن تكون عليه الحالة المسلحة بين الطرفين. وكان هذا بالإمكان، لو أن الدول الضامنة مارست دورها، وكانت لكيانات المعارضة (السياسية والعسكرية) التي أعلنت تأييدها اتفاق الجنوب ومباركتها له، وهو محور تصريح المحاميد، فاعليتها أو سلطتها على الفصائل المسلحة التي حولت صراعها من النظام إلى التصارع بعضها مع بعض، لتصبح الحرب الحقيقية التي تستهدف الشباب السوري قد تضاعفت، حيث باتت الفصائل المتحاربة أحد أدواتها ووقودها؛ إلى جانب النظام ومليشيا حزب الله وإيران وطيران روسيا.
لم تكن صراحة المحاميد، على الرغم من ملاحظاتي على طريقة صياغة تلك التصريحات، المأزق الوحيد الذي وجدت هيئة المفاوضات نفسها أمامه، بل كان واحداً من كثير غيره، فهي التي تعوّدت، كغيرها من كيانات المعارضة، الابتعاد عن مصارحة الشعب بكل ما يحيط بمسار ثورته التي تتولى هذه الكيانات قيادتها. والحقيقة، إن ما قاله المحاميد وضع الهيئة العليا في تناقضٍ واضح، من حيث هدف وجودها، وسبب استمرارها، إذ تجري الاتفاقيات بعيداً عنها، ومن ثم يصار إلى انتزاع موافقتها، كما حدث في مسار أستانة الذي هدف إلى تعطيل مسار جنيف، بل تغيير خريطة الأولويات الدولية، وتحجيم دور الملف السياسي الذي تضطلع الهيئة به، حسب قرار مجلس الأمن 2254.
لم تظهر "الهيئة العليا" إدراكها مخاطر وجود مسار تفاوضي آخر، لا تكون هي أحد أطرافه، هذا المسار الذي بدأ بعد خسارة المعارضة في حلب، وبعد أن أوقفت "الهيئة" مشاركتها في جولة جنيف في فبراير/ شباط 2016، معلنة "عدم العودة إلى جنيف قبل تحقيق المطالب الإنسانية". بيد أنها عادت، بعد أكثر من عام، في مارس/ آذار 2017، إلى طاولة المفاوضات من دون أن يتحقق أيٌّ من مطالبها، بل وبعد أن عبّد الروس طريق "مفاوضات أستانة"، بالمشاركة مع تركيا وإيران باعتبارهما دولتين ضامنتين، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017، وبعد أن أصبح مصير حلب بمثابة فزّاعة ترفع أمام كل الفصائل المعارضة للنظام، فلم تجد مفراً من حضور مفاوضاتٍ تتحدث عن المعارضة، وباسمها، وبحضورها من دون مشاركتها.
وعلى الرغم من كل الخسائر، والتراجعات، كان يمكن للهيئة أن تتجاوز عثراتها، وأن تعيد قراءة القرارات الدولية، وفي مقدمتها بيان جنيف، والقرار الأممي 2254، وأن تدرك أن دورها التفاوضي يقتضي أن تكون عامل جمع السوريين، وليس محل خلافٍ أو اختلاف، بأن تعمل على صوغ "رؤية لسورية المستقبل"، تأخذ بالاعتبار طموحات كل السوريين في دولة مواطنين ديمقراطية، أساسها إعلاء شأن المواطن السوري، وتحقيق عدالةٍ تأخذ بالإعتبار كل مكونات الشعب السوري، لا مجرّد الحديث عن مشاركةٍ مع نظامٍ، على الأسس السابقة نفسها (كما جاء في الرؤية التي صاغتها ومنحت الحكومة المشتركة سلطات مطلقة). هكذا، فعندما علت الأصوات السورية بملاحظاتٍ بشأن تلك "الرؤية"، اعتبرت الهيئة تلك الأصوات مجرّد نشاز، بل وأبعدتها، لأن الهيئة بوصفها سلطةً فوقية، سارت وفق مبدأ من ليس معي هو ضدي، لكنها اليوم تعلن عن استعدادها لإعادة النظر بتلك الرؤية التي أعلنتها من لندن، ليس لقناعتها بضرورة الاستماع إلى السوريين الذين انتقدوا تلك الرؤية، بل لأن قراراً دولياً اقتضى ذلك؛ هكذا بدون توضيحاتٍ للشعب، وبدون أي مراجعة نقدية.
في المقابل، كانت هناك فرصة أخرى لقراءة قرار مجلس الأمن 2254 ذي الصياغة الملتبسة، والتي يمكن تدويرها باتجاهاتٍ مختلفة، لقراءات متعدّدة، تتناسب وكل الأطراف المشاركة بصياغته من جهة، وبالموافقة عليه من جهة أخرى، وبكل صراحة، إلا أن "الهيئة العليا" فضلت أن تقرأه من زاوية واحدة، لم يشاركها بها أيٌّ من الدول ذات القرار والتأثير في الحل السوري، فهي لم تلحظ أبداً أن هيئة الحكم ذات الصلاحيات التنفيذية التي تتمسّك بها، على رئيس النظام السوري أن يمنحها صلاحياتها، كما أنها لم تدرك معنى أن تذكر كل من منصتي القاهرة وموسكو بالقرار، ولم تأخذ في اعتبارها أن القرار 2254 منح مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا، صلاحية تشكيل الوفد المفاوض، أو على أقل ما يمكن أن لا يكتفي بوفد "الهيئة العليا للتفاوض" ممثلا عن المعارضة.
ندرك أن مساحة الحركة عند "الهيئة" محدودة، بسبب غلبة العامل الدولي، لكنها ليست كذلك فيما يتعلق بترتيب بيتها الداخلي، بتنظيم علاقاتها مع قوى سورية موجودة على الساحة، كانت حسب مقاس الهيئة أم لا، وهي لا يفترض بها أن تكون كذلك، حسب عرف العمل السياسي. لذا، كان واجبا أن تعمل الهيئة على تقريب وجهات النظر، من خلال طرح مشروع سوري توافقي، يتم الدفاع عنه، بغض النظر عمن له عدد أقل، أو أكثر، في هيئة الدفاع، أقصد وفد التفاوض. ولهذا، انطلقت أصوات كثيرة ونداءات وطنية كثيرة بضرورة أن تعمل "الهيئة العليا" على عقد مؤتمر وطني جامع، قبل الذهاب إلى جنيف 5، وكنت قد كتبت، في مقالتي "سورية في حوار المنصات"، ("العربي الجديد" 1/3/2017) "إن السوريين ليسوا بحاجة إلى منصات تحاور النظام، وإنما إلى وفد واحد للمعارضة"، و"لماذا لا تجتمع هذه الأطراف المعارضة، لكي تناقش فيما بينها كل القضايا، وتخرج بتوافقات معينة، لتشكل وفداً يفاوض عليها مع النظام"؟
لكنني واحدة من سوريين كثيرين تم استبعاد آرائهم التي أصبحت اليوم شعار المرحلة، فقط لأنها تستجدّ الآن بناء على ضغط خارجي، على الرغم من أنه طلب يقع ضمن الحاجات السورية. لكن بعد أن خسرنا نحو عام ونصف العام من أعمارنا، وربح النظام حلب، ومناطق في ريف دمشق وحمص وحماه، ويسير الآن باتجاه دير الزور، وقد اطمأن إلى مناطق أخرى، تحت مسمّى اتفاقيات خفض التصعيد، وكانت خسائرنا بالأرواح كبيرة، عشرات آلاف الضحايا من شهداء، ومهجّرين ونازحين وجرحى. نعم، على الرغم من تأخرنا في قراءة قرار مجلس الأمن 2254 الذي صدر نهاية 2015، وعلى الرغم مما دفعته سورية لقاء ذلك. وعلى الرغم من أن قرار الاجتماع بين المنصّات لم يكن سيادياً للهيئة، ولم يتم العمل به بقرار وطني داخلي، إلا أن ضروراته تؤجل أسئلتنا الكثيرة بشأن من يتحمّل مسؤولية ذلك التأخير ولماذا؟