تزداد يوما بعد يوم احتمالية التدخل العسكري التركي في سوريا، بعد عدة سنوات من بدء الصراع الدولي فيها، فتركيا حاولت قدر المستطاع الامتناع عن التدخل العسكري في سوريا مباشرة حتى هذه اللحظة.
وما عملية «درع الفرات» التي أعلنتها تركيا في أغسطس 2016 وانتهائها في تشرين الثاني من العام نفسه إلا تدخلاً غير مباشر أولاً، وتم دعماً للجيش السوري الحر لاستعادة مدنه وقراه من تنظيم «داعش» ثانيا، بعد أن أصبحت دعوى تحرير المدن السورية من «داعش» والتنظيمات الارهابية حجة إيرانية أولاً، ثم حجة روسية ثانياً، وحجة امريكية للتدخل العسكري في سوريا، واحتلال هذه المدن وتسليمها من قبل هذه الدول لمن يخدم مشاريعها، وينفذ أوامرها الحالية والمستقبلية في سوريا.
هذه الحجة المخادعة لاحتلال سوريا أو تقاسم احتلالها بحجة محاربة الإرهاب أو «داعش» شرعنت التدخل الدولي أولاً، وجعلت مشاريع الدول التي احتلت سوريا تسعى لجعل الأراضي التي احتلتها ضمن مناطق نفوذها في مستقبل سوريا بعد إنهاء الأزمة في مؤتمرات جنيف المقبلة، التي يتم الإعداد لها رغما عن كل الفصائل المقاتلة، بحسب اتفاقيات أستانة الأخيرة، وذريعة وقف التصعيد بحسب أستانة 5.
هذا الحذر التركي من التدخل العسكري في سوريا انتقده الكثيرون خلال السنوات الماضية، ظنا منهم أن التدخل العسكري لا يحتاج إلا للقدرات العسكرية فقط، ويجهلون أن حق التدخل الدولي لا تحكمه القدرة العسكرية، وإنما القوانين الدولية أولاً، وحق الدفاع عن النفس ثانياً، فتركيا لا تملك حق التدخل في سوريا، مهما وقع فيها من مجازر، ولكنها تملك حق الدفاع عن نفسها وأمنها من دون إذن دولي. أما منع القتل ووقف المذابح فهذا واجب المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن. وعدم تحمل المجتمع الدولي مسؤولياته نحو الشعب السوري، لا يعطي الدولة التركية منفردة ولا غيرها حق التدخل، إلا بإذن دولي، وأمريكا وروسيا وجدتا مصلحتيهما باستمرار القتال في سوريا لأهداف استعمارية في البلاد العربية وبلاد المسلمين، وتحكما بقرارات مجلس الأمن لإدامة هذا الصراع بغطاء دولي من الأمم المتحدة أيضاً.
فمنذ بداية الأزمة السورية كانت روسيا تنسق مواقفها مع أمريكا، وإدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فروسيا هي من وجهت بشار الأسد لاستخدام الجيش السوري لقمع الثورة في شهر سبتمبر من عام 2011، أي بعد ستة أشهر من اندلاع الثورة، وفشل الشبيحة والأجهزة الأمنية الأسدية من قمعها، وبعدها أخذ الجيش الإيراني الضوء الأخضر الأمريكي والإسرائيلي للتدخل عسكريا في سوريا بعد منتصف عام 2012 ، لإفشال نتائج مؤتمر جنيف1 أولاً، ولإحباط الثورة السورية ثانيا، ولكن الحرس الثوري الإيراني نجح في الأولى ولم ينجح في الثانية، فنجح بإفشال مؤتمر جنيف1، وفشل في قمع الثورة، ما اضطر روسيا للتدخل العسكري المباشر بتاريخ 30/9/2015، ووقع ما وقع من خلافات وتوترات بين روسيا وتركيا، على إثر هذا التدخل الغاشم، ولكن فشل روسيا بالقضاء على الثورة السورية ألجأها هي الأخرى لطلب المساعدة التركية، فكانت مؤتمرات أستانة لأخذ إقرار روسيا بوجود ثورة سورية معتدلة ومسلحة أولاً، بعد ان كانت ترفض ذلك، وفرض إقرارها بوجود من يمثلها من فصائل ثورية مسلحة في مؤتمر أستانة، وعقد الاتفاقيات الدولية معها، فتم تحقيق بعض النجاح للمعارضة السورية.
ولكن المشاريع الأمريكية وبعد أن دمرت سوريا وسمحت لإيران وروسيا بقتل شعبها وتشريدهم داخلها وخارجها، جاءت للخطوة الأخطر وهي جعل مؤتمر جنيف طريقا دوليا لتقسيم سوريا سياسيا، إلى كيانات منفصلة قوميا وطائفياً، وهذا الحل في النهاية يتوافق مع الرؤية السياسية والعسكرية الروسية، وكذلك فإن إيران لما وجدت انها لن تستطيع ابتلاع سوريا كاملة، فإن التقسيم السياسي لسوريا هو خيارها البديل، فهو الذي سيعطيها موطئ قدم في سوريا أكثر مما لها في لبنان الآن، بدليل أنها أخذت تعمل لهذا التقسيم السياسي الطائفي منذ بداية عام 2013، بتغيير البنية الديمغرافية في دمشق وحمص وحماة وحلب وغيرها، وأخذت تبني مصانعها العسكرية والصاروخية في مناطق نفوذها واحتلالها في سوريا.
إن المشروع الإيراني في سوريا على خطورته، لا يهدد الأمن القومي التركي مباشرة في هذه المرحلة، وكذلك فإن الاحتلال الروسي وبناء قواعد عسكرية روسية في سوريا على خطورته في المنطقة، ولكنه لا يهدد الأمن القومي التركي مباشرة، وأما التدخل العسكري الأمريكي في سوريا فإنه يهدد الأمن القومي التركي مباشرة وبصورة خطيرة جداً، لأنه يعمل لإقامة كيان انفصالي كردي شمال سوريا، وهذا بحد ذاته خطر أمني وعسكري على تركيا مباشرة، وهذا يجعل تركيا ترتب أولويات مواجهتها، وهذا الكيان الانفصالي الأمريكي الكردي هو في الوقت نفسه يمثل خطرا على الكيانات الانفصالية الأخرى، سواء التي تسعى لها المعارضة السورية، رغما عنها، أو التي يتم تفصيلها لتكون حصة للمعارضة السورية، أو التي يتم تفصيلها للنفوذ الإيراني أو للنفوذ الروسي، بدليل ان أمريكا قد بنت لها عشرة قواعد عسكرية في سوريا خلال السنتين الماضيتين، بطريقة غير قانونية على ذمة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
وما إصرار أمريكا على رفض المشاركة التركية بتحرير الرقة، إلا لعلمها أن تركيا لن تسمح بموطئ قدم للجيش الأمريكي شمال سوريا، ومن ثم عملت أمريكا على أن تكون تركيا بعيدة عن المشاريع الأمريكية شمال سوريا، وكذلك أبعدت فصائل المعارضة والثورة السورية المعتدلة القريبة من تركيا عن مشاريعها، وأوقفت عنها الدعم العسكري والمعونات اللوجستية والإنسانية، واستصدرت قرارا من الكونغرس الأمريكي بذلك قبل أيام، لأن مشروعها بعيد عن مشاريع الشعب السوري الوطنية، وتعمل مع المليشيات الكردية مستغلة رغبتها في الانفصال ليكونوا جنودا مرتزقة لحماية قواعدها العسكرية في هذا الكيان الانفصالي، الذي تصنعه أمريكا بقدراتها العسكرية والسياسية وفق رؤية أمريكية استراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط. هذا الخطر الأمريكي في شمال سوريا تحاول السياسة التركية ثنيه عن مخططاته المتهورة والخاطئة، لأن امريكا سوف تضع مستقبل تواجدها في سوريا تحت رحمة الحرس الثوري الإيراني والابتزاز الروسي، بل وابتزاز الأحزاب الإرهابية الكردية، التي يمكن ان تبيع ولاءها لروسيا أو لإيران قريبا، إذا وجدت أن مصالحها المستقبلية في أيدي روسيا أو إيران أكثر فائدة، وبالتالي فإن المراهنة الأمريكية على المليشيات الكردية أن يكونوا جنودها المحليين ليقاتلوا على الأرض بدل الجنود الأمريكيين لن يضمن لها القدرة على البقاء، وإذا أصرت أمريكا على ذلك فإنها تكرر خطأها في العراق بعد احتلالها عام 2003، حيث خضع الجيش الأمريكي لابتزاز إيران وحرسها الثوري في العراق، والميليشيات التابعة له، واضطر للانسحاب عام 2010، بعد ان خسرت أمريكا 4000 جندي وأربعة ترليونات من الدولارات الأمريكية ذهبت هباء منثورا.
إن تركيا التي تجنبت التدخل العسكري في سوريا طوال هذه السنين ستجد نفسها مضطرة لعمل عسكري قاصم مثل السيف، لمنع إنشاء أي كيان انفصالي على حدودها الجنوبية في سوريا، لأن الضرورة تفرض عليها مواجهة الخطورة، وخطواتها الضرورية هي مواصلة دعم فصائل الثورة والمعارضة السورية المعتدلة، التي يعترف بها المجتمع الدولي، لتملأ هي الفراغ الذي يحدثه زوال تنظيم «داعش» عنها، فهذه الفصائل السورية هي صاحبة الأرض الأصلية، وهي أحق من غيرها بالدفاع عنها وإقامة المنطقة الآمنة فيها، والعمل لعودة الشعب السوري إليها، بعد ان شرد عنها منذ سنوات، فتركيا لا تسعى لاحتلال أراض سورية، ولا توسيع نفوذها، ولا المشاركة باقتسام سوريا مع أمريكا وروسيا وإيران إطلاقاً، وإنما تدعم أحد مكونات الشعب السوري، بل المكون الرئيسي منها، ليأخذ حقه ويدافع عن أرضه، بعد ان أصبح بشار الأسد ونظامه جزءاً من الهيمنة الإيرانية والنفوذ الروسي بموافقة أمريكية وإسرائيلية، وهذا يفرض على الدول العربية وفي مقدمتها الأردن ودول الخليج العربي أن تدعم المكون العربي في سوريا، فهذا واجب عليها في الدفاع عن نفسها الآن، وقبل توسع النفوذ الأجنبي فيها أكثر.
يبدو أن سورية مقدمة على مرحلة جديدة ما بعد التطبيق العملي لاتفاق خفض التصعيد، على الرغم من انتهاكات النظام السوري العديدة في غوطة دمشق، إذ المسار العام الطاغي اليوم هو مسار تكريس الاتفاق عملياً، بداية من الاتفاق الروسي الأميركي الأردني حول الجنوب، مروراً بالرعاية المصرية لاتفاقي حمص والغوطة الشرقية، وليس انتهاءً بالحديث الدائر اليوم بشأن إمكانات تطبيق الاتفاق في إدلب ومحيطها. فمن الواضح نجاح روسيا في فرض هيمنتها ونفوذها على المسألة السورية إقليمياً ودولياً، ما شكل الأرضية الحقيقية التي تستند إليها الاتفاقات المتفرقة الحالية، والتي تشهد تكريساً لتحييد السوريين عن الاتفاق، وتحييد إرادتهم ورؤيتهم، معارضين كانوا أم موالين. وعليه، يمكن الحديث عن هامشية التأثير السوري على نجاح الاتفاق أو فشله، لصالح فاعلية مطلقة للدورين الإقليمي والدولي.
وتعزى هامشية الدور السوري إلى جملة من العوامل، في مقدمتها تفتيت المجتمع السوري نتيجة سياسة التهجير والتشريد الممارسة منذ بداية الثورة، ونتيجة جذرية حالة الاستقطاب الشعبية بين معسكري النظام والمعارضة، والتي طمست أهمية العمل السياسي التحريضي والاستقطابي الذي يستهدف انتزاع شرائح اجتماعية جديدة لصالح الحركة الثورية، كان جزء منها وما يزال يرفض الاصطفاف في أي من القطبين الاجتماعيين السائدين، متعذراً بالحرب الدولية الحاصلة، وبضبابية سياسة المعارضة، لنصبح أمام واقع يقوم على إلغاء جزء كبير من المجتمع السوري، بدلاً من العمل على استقطابه وتأطيره ضمن بنى وبرامج ثورية تلبي احتياجات السوريين وآمالهم في مجتمع تسوده العدالة والحرية والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كما أدى اعتماد كل من النظام والمعارضة على القوى الخارجية، والتسليم الكامل لها، إلى تهميش الإرادة السورية اليوم، فالمعلوم أن عجز النظام عن مواجهة الثورة دفعه إلى المسارعة في الاستعانة بالخارج، عبر تدخل حزب الله والحرس الثوري الإيراني سراً، ومن ثم علناً بعد زيادة حجم المليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية ودورها، وصولاً إلى الدور الروسي العسكري العلني والمباشر، والمبني على اتفاقٍ بين الحكومتين، الروسية والسورية، يشرعن الاحتلال الروسي، وفقاً لما تم الإعلان عنه من بنود الاتفاق. وكما يقال شعبياً، فإن ما خفي أعظم. وفي المقابل، بنت المعارضة السورية جل سياستها على تحجيم المكوّن الثوري الشعبي، على الرغم من مركزية دوره وفاعليته وقدرته على ضرب حصون النظام السياسية والأمنية، عبر جميع الأشكال الاحتجاجية والثورية التي ابتدعها وطوّرها الشعب السوري، وخصوصاً في الأشهر الأولى من الثورة، والتي عجزت القوى المحتلة لسورية اليوم عن القضاء عليها كلياً، تحجيمه لصالح سياسة التبعية والتعويل على الخارج التي بنيت على أوهام نقل الحكم والسلطة لصالح المعارضة السورية، عبر التدخل العسكري الدولي. لتتحول المسألة السورية وفقاً لسياسة وممارسة النظام الإجرامية، ووفقاً لسياسة المعارضة إلى صراع دولي حول سورية وعليها، مباشر وغير مباشر عبر المليشيات والكتائب المسلحة، مطلقة التبعية للداعمين والممولين، ما فرض تهميش قوى الثورة وكامل قوى الشعب السوري، لتتحول سورية إلى لعبةٍ دولية تتقاذفها الأيدي، من دون أي اعتبار للمصلحة الوطنية السورية ولمصلحة السوريين كذلك.
لذا، وعلى الرغم من سقف الطموحات العالي لهذا الاتفاق أو الاتفاقات، وخصوصاً على صعيد تقليص حدة الصراع الجاري على سورية اليوم وإجراميته ودمويته، أو على صعيد تحسّنٍ ولو طفيف في إزالة المعوقات أمام حركة السلع الضرورية لحياة السوريين، وخصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وفقاً لنصوص الاتفاقات نفسها التي تنص على تنظيم حركة السلع التجارية الغذائية والطبية والضرورية لعملية إعادة الحياة الطبيعية وإعادة الإعمار من المناطق المتفق عليها وإليها، غير أننا نلمس، وبسهولة، تجاهل هذه الاتفاقات آمالاً كثيرة طبيعية وسياسية للسوريين، مثل تجاهلها ملف الأسرى والمعتقلين المدنيين في سجون النظام، ولدى بعض القوى المعارضة، وحصرها فقط بعمليات تقوم على تبادل المعتقلين والأسرى، من دون العمل جدياً على حل هذا الملف، وبشكل كامل. فضلاً عن إهمالها المقصود في محاسبة المسؤولين عن جميع الانتهاكات بحق السوريين، سواء أكانو من معسكر النظام المسؤول قانونياً وسياسياً وأخلاقياً عن غالبية الجرائم المرتكبة في سورية أخيراً، أو من أطراف محسوبة على المعارضة، وخصوصاً العسكرية، ما يشكل عائقاً كبيراً أمام تحقيق الوفاق الوطني السوري في مقبل الأيام، كما تتجاهل هذه الآلية الدولية جوهر القضية السورية الرئيسي، أي بحث الشعب السوري عن إقامة حكم وطني، يعبر عن طموحات (وغايات) جميع السوريين، من دون تمييز على أسس عرقية أو إثنية أو طائفية، وبما يكفل في المستقبل القريب بناء هياكل ومؤسسات لدولة العدالة والمساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المنشودة شعبياً.
من الجلي أن الغرض الحقيقي من الاتفاق يقوم على تكريس الاحتلال الروسي لسورية، وتنصيبه الحاكم والمدير الوحيد لها، ولمصالح سائر القوى الدولية والإقليمية المحتلة لبعض المناطق السورية، ما يحد من صدامات هذه القوى مختلفة الغايات، لصالح البدء في عملية قطف ثمار التدخل أو الصراع على سورية، وخصوصاً اقتصادياً، بذريعة إعادة الإعمار التي سوف تشكل أولى ثمار الإدارة الروسية للملف السوري، فضلاً عن بدء قوى الاحتلال في تنفيذ بعض مشاريعها الاقتصادية التي لا تتطلب بنية تحتية متطورة وواضحة المعالم، لتنحصر الحاجة لبدء هذه المشاريع في خفض مناطق التصعيد العسكري فقط، مثل عمليات توريد البضائع باتجاه المناطق السورية، وعمليات نهب الخيرات الطبيعية.
لكن، وعلى الرغم من أن الاتفاق هو عملية تنظيم روسية لمختلف قوى الاحتلال على الأرض السورية، إلا أنه لا يلغي احتمالات تصارعها لاحقاً عند أي متغير دولي، طمعاً في زيادة حصة هذا الاحتلال أو ذاك، فالاتفاق يعكس الحاجة الدولية لجني ثمار الصراع أكثر من أنه يعكس هزيمة هذه القوى أو تلك. بينما وعلى صعيد المصلحة الوطنية السورية، لا بد من محاولة البناء، ومنذ اليوم، لآليات المواجهة الشعبية لقوى الاحتلال المتعدّدة والمختلفة، والقائمة على رفض الانخراط في صالح أيٍّ من الأطراف المحتلة لسورية عند أي صدام متوقع بينها لاحقاً، كما تجدر الإشارة إلى زيادة المعوقات التي تحول دون تحقيق الحركة الثورية السورية لأهدافها الوطنية المنشودة، نتيجة اضطرارها مستقبلاً إلى الصدام مع مخلفات الاتفاق الاحتلالية التي أصبحت قوىً وسلطات استبدادية ومافيوية متعدّدة تستنزف السوريين.
يتحمّل الإخوان المسلمون قسطا أساسيا من مسؤولية الفشل الذي وصلت إليه الثورة السورية، بل هناك من يحمّلهم القسم الرئيسي، ويعتبر أنهم تصدّروا الواجهة، من دون أن يرتقوا إلى مقام الثورة باعتبارها مشروعا تاريخيا.
وحين يجري التطرّق إلى موقف "الإخوان" اليوم، يتم التوقف عند ثلاث محطات مفصلية. تتمثل الأولى في الرهان عليهم في بداية الثورة لتشكيل قطب إسلامي معتدل، وخصوصا في عامي 2011 و2012، حين بدأت الجيوب الإسلامية الأصولية بالتشكل، والتي تطورت لاحقا إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة.
كان الأمل معقودا على الإخوان المسلمين من أجل قطع الطريق على التطرّف الأصولي الذي أخذ يستشري في الساحة السورية بسرعة، ويعبّر عن نفسه من خلال تشكيل كتائب إسلامية مسلحة، الأمر الذي سمح لأطراف خارجية بالتسلل إلى الثورة من الأبواب الخلفية. وسبب هذا الرهان أن "الإخوان" كانوا قبل الثورة قد أجروا مراجعةً لتجربة الثمانينات المأساوية، وقدّموا أنفسهم حركة تنبذ العنف وتحتكم إلى الديموقراطية، وتؤمن بالتعدّدية والانتقال السياسي السلمي.
ربما حاول "الإخوان" الوقوف أمام مهمة احتواء موجات التطرّف والشرذمة الإسلامية، ولكن معاينة دقيقة لمجريات الموقف في ذروة التشكيلات الإسلامية العسكرية في عام 2013، والتي تجاوزت مائة، لا توحي بذلك، بل هناك من يعتبر أن مواقف "الإخوان" الضبابية شكلت مولدا لفلتان الساحة السورية، وولادة الدكاكين تحت مسمياتٍ إسلامية، وبداية ظاهرة أمراء الحرب في مطلع عام 2013 تحت راية الإسلام.
على العموم، كان على الإخوان المسلمين المبادرة للوقوف في وجه الطفح الأصولي، ليس من أجل المصلحة الوطنية فقط، بل من أجل تمييز أنفسهم عن الموجة الأصولية العارمة، لا سيما وأن هناك من حسب الكتائب والرايات السوداء على الإسلام، وأن أصحابها تأثروا بالأطروحات الفكرية لـ "الإخوان"، ولديهم المرجعيات نفسها.
تتمثل المحطة الثانية في الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون على صعيد حرف بوصلة الثورة، فهم وضعوا ثقلهم، منذ الأسابيع الأولى، من أجل صبغ الثورة بصبغةٍ إسلامية، وتجلى ذلك من خلال إطلاق أسماء الجمع، فبعد أن كان الحراك يركّز على الحرية والسلمية والمدنية، جاءت مسميات "الإخوان" إسلامية الطابع، وقد لعبت بعض وسائل الإعلام، مثل قناة الجزيرة، دورا في ترويج هذه المسألة. وأدى هذا التوجه إلى تهميش الألوان الأخرى في الثورة، حتى اختفت التعدّدية بالتدريج. وقد ترافق ذلك مع تصدر "الإخوان" المشهد السياسي، ولعبوا الدور الأساسي في تشكيل أول مجلس وطني سوري، وتمكّنوا من حيازة نسبةٍ عاليةٍ من مقاعد المجلس لا تتناسب مع حجم الحركة السياسية على الأرض داخل سورية، وظهر في صورةٍ واضحةٍ أن لعبتهم الرئيسية تدور من حول السلطة. ولذا، دخلوا لعبة التحالفات والكواليس، بما فيها من تسوياتٍ ومساوماتٍ، أدت إلى نتائج عكسية وضارة على الثورة.
المحطة الثالثة هي القيام بوقفة ومراجعة لمسيرة أعوام الثورة، من أجل المساهمة في وقف قاطرة التدهور التي تزداد سرعتها كل يوم. وتكتسي المراجعة أهميةً من عدة اعتبارات. الأول ذاتي في ما يخص تصليب موقفهم باعتبارهم حركة سياسية، بما يفيد العملية الديموقراطية، وإعادة بناء صف وطني في وجه النظام والاحتلالين الإيراني والروسي. والثاني على صعيد وضع الفصائل الإسلامية التي بدأت تأكل بعضها وزاد ضررها، وتحولت إلى وبالٍ على السوريين، كما هو حاصل اليوم في إدلب التي تؤكد المؤشرات أن مصيرا أسود ينتظرها، بسبب أن جبهة النصرة تختطفها.
ليس قيام الإخوان المسلمين بالمراجعة تمرينا سياسيا يتطلبه التكتيك المرحلي، في فترة التراجع الكبير، وإنما هو حق للسوريين عليهم، يتعدّى السياسة إلى الأخلاق، ولا يسقط بالتقادم.
لم أستطع ألا أعلق على تصريح السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، في مقابلة صحيفة الشرق الأوسط معه، والتي يصل بها إلى ما نشر اليأس بين السوريين، حين قال ببقاء بشار الأسد. هذه هي النتيجة التي أراد أن يوصلها، عن قصد، كما أراد أن يوصل رسائل مهمة حين ذهب، في عزّ توسع الثورة السورية إلى حماة برفقة السفير الفرنسي.
بقاء الأسد مستحيل في كل الأحوال، وهذا ما يطيل الصراع، حيث لم تستطع روسيا، بكل جبروتها، أن توصل مقاومي النظام الذين صنعوا ثورة عظيمة إلى هذه النتيجة. وسيبقي بقاء الأسد الصراع قائماً، ولن يفيد هنا كل جبروت قوة روسيا، واستخدامها أحدث الأسلحة. بالتالي، ربما أن فورد يكمل ما بدأه حين زار حماة، أي التشويش على الثورة، ودفع الشعب السوري إلى حالة اليأس.
ما استرعى الانتباه في تصريح فورد قوله إن زيارته حماة جرى تفسيرها خطأً، حيث فُسّرت دعماً للثورة، وبالتالي استخدمها النظام لتشويه الثورة، ودليلاً على أنها مدعومة أميركياً. ومن جهة أخرى، فهمها من "الثوار" المعارضة دعماً أميركياً لهم، وهذا ما أطلق الأوهام حول "الدعم الأميركي". ويحاول فورد في تصريحه أن يقول إنه تصرّف كأنه ساذج، ومن تلقاء ذاته، أي من دون طلب من الإدارة في واشنطن. وبالتالي، كان الأمر "مصادفة"، لكنه فُهم خطأ من الطرفين: النظام والمعارضة. ولا شك أن في هذا الحديث عن السذاجة سذاجة، حيث لا يقوم سفير أميركي بخطوة من هذا القبيل بشكل عشوائي، وبلا قرار من الإدارة في واشنطن، ومن ثم بلا هدف تريده هذه الإدارة.
بالتالي، يمكن القول إن تصريح فورد يوضّح اللعب الأميركي منذ بدء الثورة السورية. هكذا بالضبط. وهو اللعب الذي لا يزال قائماً، فما أشار إليه السفير السابق لم يكن نتاج خطأ في الفهم، ولا نتيجة سذاجة، بل كانت الإدارة الأميركية تهدف إلى أن يُفهم موقفها على الشكل الذي أورده. أي أن يستغلّ النظام الأمر من أجل تشويه الثورة، وإلصاقها بـ "المؤامرة الأميركية"، ويكون لديه مستمسك واضح هو "دعم أميركا الثورة"، حيث زار السفير الأميركي الشعب الثائر و"دعمه". وأميركا تريد ذلك، بالضبط لأنها تريد تشويه الثورة، وتقديم المبرّرات للنظام لكي يسحقها، حتى وإنْ كانت التهمة هي الدعم الأميركي لها. فقد أرعبها توسّع الثورة من تونس إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا وبلدان أخرى كان يمكن أن يتطور الحراك فيها، وكانت تحتاج من يسحقها، بعد أن فشلت مناورتها في تونس ومصر، حتى عملت على تحقيق تغيير سريع لكي تنطفئ.
بهذا كانت أميركا تقدِّم للنظام السوري ورقة مهمة، يمكن أن يستغلها ضد الثورة. تمثلت المسألة الأخرى في دفع المعارضة وراء أوهامٍ تجعلها تزيد في تخريب الثورة، حيث تعمل انطلاقاً من أنها تُدعم من أميركا، وتتصرّف على هذا الأساس، وتلقي التصريحات، وتزيد في المطالبات، بما يعزّز اتهام النظام لها بأنها "عميلة" لأميركا. وهذا فعلاً ما حدث، والمعارضة تعلي الصوت داعيةً أميركا إلى التدخل العسكري، ومراهنة على دورها بدل المراهنة على الشعب، وفهم أن الارتباط بأميركا يعني حصولها على رفض شعبي، وتخويف فئاتٍ شعبيةٍ هي مع الثورة.
للأسف، نجحت أميركا في "خطتها"، واستطاعت أن تقدِّم للنظام ورقة مهمة ضد ثورة الشعب السوري، سواء بإظهار أنها مع الثورة، أو في إظهار تبعية المعارضة لها، فقد كانت تريد أن تسحق الثورة، لا أن تنتصر هذه الثورة، وكانت عبر، ما فعل سفيرها، تحرّض من أجل أن تتأكد مصداقية النظام في اعتبار الثورة "مؤامرة". .. ونجحت نتيجة غباء المعارضة التي صدَّقت أن أميركا يمكن أن تكون مع الثورة.
شكلت الزيارة التي قام بها رئيس هيئة الأركان الإيراني الجنرال محمد باقري إلى تركيا ومحادثاته مع كبار المسؤولين الأتراك علامة فارقة في العلاقات بين البلدين، فهي الزيارة الأولى لرئيس هيئة اركان إيراني إلى تركيا منذ عام 1979، كما ان المحادثات أظهرت قدراً كبيراً من التنسيق الأمني والعسكري إزاء الملفين الكردي والسوري، بعد سنوات من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، وشن الحرب بالوكالة ومباشرة في ساحات سورية والعراق، إذ ان محادثات باقري أظهرت توافقاً إزاء ثلاث قضايا أساسية هي:
1- رفض الجانبين الاستفتاء المقرر في إقليم كردستان العراق، بل تجاوز الرفض إلى حد التهديد بعمل مشترك، على اعتبار ان هذا الاستفتاء يهدد استقرار المنطقة، وهو ما يعني وجود خوف حقيقي لدى الجانبين من ان تنعكس نتائج الاستفتاء على القضية الكردية في تركيا وإيران على اعتبار ان اكراد البلدين قد يطالبون لاحقاً بمثل هذا الاستفتاء.
2- الاتفاق على التنسيق والتعاون العسكري والأمني ضد «حزب العمال الكردستاني» بشقيه التركي والإيراني (حزب «بيجاك» الذي يشكل الفرع الإيراني لحزب العمال). ويأتي هذا الاتفاق بعد سنوات من اتهامات تركية لإيران بدعم «حزب العمال الكردستاني» وحليفه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب».
3- تكثيف التعاون في شأن مناطق خفض التوتر في سورية وتحديداً في الشمال حيث محافظة ادلب التي تحولت إلى وجهة للمجموعات المسلحة على رغم سيطرة «جبهة النصرة» مؤخراً على كامل المحافظة تقريباً، ويأتي هذا التعاون بعد سنوات من الاحتراب المتبادل في الميدان وسط اتهامات متبادلة بممارسة سياسة طائفية، وصلت إلى انتقادات متبادلة على الهواء مباشرة.
لكن تلاقي المصالح التركية – الإيرانية على هذا النحو لا يعني تطابق وجهات النظر أو سهولة إقامة تحالف بينهما، فللبلدين إستراتيجيات مختلفة، بل ان العلاقات بينهما تقف على إرث من الصراع والتنافس على مناطق المشرق العربي والخليج وآسيا الوسطى، ولعل هذا الإرث وعلى رغم تحسن العلاقات بينهما في لحظات الاتفاق ضد التهديد الكردي، يظلل العلاقة بينهما على أسس يتداخل فيها الطائفي بالمصالح الاقتصادية والنفوذ الإقليمي والدور السياسي، على شكل مواجهة بين الشمس الإيرانية (اختار الشاه إسماعيل الصفوي الشمس رمزاً لعلم إيران) والقمر التركي الذي يشكل رمزاً لعلم البلاد منذ عهد الدولة العثمانية، في اشارة إلى التصادم الإقليمي بين البلدين، أساسه الصدام على الجغرافية السياسية والاجتماعية منذ ان ثبتت معركة تشالديران عام 1514 الحدود الجغرافية بينهما. وانطلاقًا من هذا الإرث تختلف رؤية كل طرف إلى قضية التقارب الحاصل حالياً، فطهران تقابل رغبة تركيا في الانفتاح على أساس انها تنازل عن سياسة سابقة ومن زاوية اليأس التركي والانقلاب على شعار إسقاط النظام السوري، فيما ترى أنقرة أن لا تغير جوهرياً في سياستها، وإنما مقاربة جديدة لكيفية حل أزمات المنطقة. وحتى في الملف الكردي ثمة تباينات كبيرة، فالرفض الإيراني المطلق لتطلع إقليم كردستان إلى الاستقلال وتحالفه مع الولايات المتحدة يقابل بتفهم تركي انطلاقاً من حسابات تركية تتعلق بالعلاقة مع الإقليم وكيفية مواجهة «حزب العمال الكردستاني»، وحتى في الملف السوري، فإن تصريحات الجانبين الداعية إلى الانفتاح والتعاون في مجال خفض مناطق التوتر لا تبدو متطابقة مع واقع الميدان، إذ ان التسخين العسكري التركي على الحدود مع إدلب وعفرين يبدو أقرب إلى رسالة مفادها: أمنحكم إدلب مقابل رأس الكيان الكردي في شمال سورية، فيما تنظر إيران الى الأمر على انه انتصار لها وللنظام وهزيمة للمعارضة التي تدعمها تركيا، ومع ان التقارب التركي مع إيران يبدو وكأنه استمرار لمسار الانفتاح على روسيا الا ان ثمة مفارقة هنا، وهي ان تطوير العلاقة التركية -الروسية يفتح خيارات عسكرية جديدة أمام تركيا لجهة تدخلها عسكريًا في شمال سورية انطلاقاً من تجربة عملية درع الفرات، وهو ما قد يكون على حساب التعاون العسكري الروسي - الإيراني في سورية إذا تكررت العملية التركية كما يقول المسؤولون الأتراك. التقارب التركي – الإيراني لا بد ان يترك تداعيات على مسار الأزمة الخليجية، وكذلك العلاقات التركية - الخليجية بخاصة في ظل التوتر الذي تشهده العلاقات الإيرانية – السعودية. وعليه، فإن أي توافق إيراني – تركي بخصوص ملفات سورية والعراق وقطر... لا بد ان يخلق حالة اصطفاف إقليمية جديدة في المنطقة، على شكل مراجعة للعلاقات الخليجية مع تركيا بعد ان تحسنت في السنوات الأخيرة على خلفية الموقف المشترك من الأزمتين السورية واليمنية، لكن يبقى الأهم هنا، نظرة الغرب إلى التقارب الجاري بين أنقرة وطهران وموسكو، وما إذا كان ينظر إلى هذا التقارب على انه مقدمة لتحالف سياسي ضده أم مجرد توافق مرحلي فرضته ظروف الاستفتاء الكردي والخوف من ولادة دولة كردية مستقلة في المنطقة.
هل هي صدفة أن تشهد الدول الغارقة في الحروب على أشكالها، سواء مع الإرهاب، وتحديدا مع «داعش»، والمبتلاة بالتناقضات المناطقية والطائفية، والخاضعة لنفوذ إيراني بهذا القدر أو ذاك، حراكاً سياسياً جديداً قد يمهد لمشهد سياسي في كل منها؟
بين ما يجري في العراق من انفتاح قوى رئيسة فيه على دول الخليج، وفتح الحدود مع المملكة العربية السعودية لمناسبة موسم الحج، بموازاة تهيؤ سلطات كردستان للاستفتاء على استقلاله، وما يجري في سورية من قيام إدارات محلية في مناطق خفض التوتر مع ترجيح بقاء بشار الأسد في السلطة، وفي لبنان من ضغوط لحمل حكومته على التطبيع مع النظام السوري، بموازاة تهيؤ الجيش اللبناني لطرد مسلحي «داعش» من الحدود مع سورية، هناك عوامل تربط بين ما تشهده الدول الثلاث، أبرزها الاستعداد لمكاسب مرحلة ما بعد التخلص من «داعش» وقبض أثمان المشاركة في تحقيق هذه الأولوية.
لطالما قيل إن واحداً من عوائق إنهاء وجود «داعش» في المنطقة، هو الاتفاق على المعادلة الأمنية السياسية التي ستحل مكانه، وما هي المكاسب التي ستنالها الأطراف التي شاركت في إنهاء هذا الوجود. هكذا في العراق، حيث حددت القيادة الكردية في أربيل موعداً للاستفتاء على استقلال الإقليم بعد تحرير الموصل من «داعش»، فالمكون الكردي يسعى إلى نيل مقابل مشاركة «البيشمركة» في دحر التنظيم المتطرف. وإنهاء التنظيم في الموصل كان حافزاً لتحرك قوى شيعية، سواء زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أو السيد عمار الحكيم، للانفتاح على السعودية والمطالبة بإنهاء استقلالية «الحشد الشعبي» ووضع حد لوجود «جيشين» في بلاد الرافدين. تراجع تهديد «داعش» للنسيج العراقي، الذي أوجب الاستعانة بالميليشيات الشيعية وبالدعم الإيراني الذي سمح بتدخل طهران غير المسبوق في الداخل العراقي، يفترض أن يتراجع أيضاً بما يتيح تصحيح المعادلة التي تحكمت بالسلطة تحت غطاء هذا التهديد. والعراق مقبل على انتخابات عامة وتنافس بين الذين استفادوا من موالاة طهران لكسب النفوذ، وبين من دفعوا ثمن التهميش والمطالبين بالإصلاحات.
في سورية يركَب النظام، الذي لطالما استظل وحلفاءه الإيرانيين، شعار «محاربة الإرهاب» في صراعه مع المعارضين لحكم بشار الأسد، سفينة التخلص من «داعش» و «جبهة النصرة»، اللذين هادنهما في السنوات الماضية لمصلحة أولوية قتاله الرافضين حكمه (المعتدلين). انضم مع طهران إلى القوى المحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، ليكون شريكاً مقبولاً من المجتمع الدولي في أولوية القضاء على الإرهاب، وليحصد اعترافاً دولياً بدوره وببقائه. هذا فضلاً عن سعيه إلى تحسين موقعه في توزيع مناطق النفوذ التي ترسم حدودها موسكو وواشنطن على الخريطة السورية المتعددة الألوان، تحت عنوان «مناطق خفض التوتر» عبر آستانة والتفاهمات بين الدولتين الكبريين. وهي تفاهمات اهتمت بمراعاة إسرائيل عبر إبعاد القوات الإيرانية من المنطقة الجنوبية الغربية، وتعطيل جيوب «داعش» فيها، وإيكال إدارة الحدود مع الأردن إلى فصائل من «الجيش السوري الحر» من جهة درعا، على حساب الجيش النظامي والميليشيات الإيرانية، ما يفسر توسع قوات الأسد نحو هذه الحدود من جهة محافظة السويداء، لعلها تكون شريكاً في التحكم بالعلاقة مع الأردن. وبموازاة استرجاع الأميركيين السلاح الثقيل من «الجيش الحر»، أوكل تفاهم موسكو وواشنطن القتال لإخراج «داعش» من الرقة في الشمال، إلى المكون الكردي الذي استبق تحرير المدينة بالمطالبة بضمها إلى الإقليم الكردي في الفيدرالية السورية المفترضة، ثمناً لدور الأكراد بطرد «تنظيم الدولة» منها، فيما يعمل النظام على أخذ دوره في إخراج «داعش» من دير الزور لمشاركة الأكراد في النفوذ المفترض مستقبلاً.
وعلى مساحة الجغرافيا اللبنانية- السورية، جهد «حزب الله» للإمساك بمبادرة إخراج «النصرة» من جرود عرسال، المتداخلة بين البلدين، وسيشترك مع الجيش اللبناني في إخراج «داعش» مما تبقى من جرود، لكن من الأراضي السورية، لتكريس نفوذ إيران في المنطقة الممتدة من دمشق نحو القلمون وصولاً إلى الطرق المؤدية إلى حمص والبادية... والثمن الذي يطمح إليه الحزب في المقابل، بالإضافة إلى تقوية موقع إيران في الميدان السوري مقابل سعي دونالد ترامب إلى إخراجها منه، هو حمل الحكومة اللبنانية على التطبيع مع النظام. وإذا كان صحيحاً أن الأسد ليس في حاجة إلى اعتراف معارضيه اللبنانيين، فإن مصلحة الحزب في الحصول على أثمان تدخله في سورية وتكريس نفوذه فيها، تدفع المعادلة التي يقوم عليها الحكم في لبنان حالياً إلى الاهتزاز، داخلياً وعربياً. فلا شيء ثابتاً في سورية، فضلاً عن أن اللبنانيين الآخرين شركاء في قتال «داعش».
يمكننا أن نشعر بنبرة الخوف والغضب في تصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين، وآخرهم الرئيس حسن روحاني، فقد حذّر من تداعيات سقوط المشروع الكبير؛ اتفاق المصالحة مع الغرب المبني على الاتفاق النووي الذي وقع في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
الكونغرس فاجأ الحكومة الإيرانية عندما أعاد عدداً من العقوبات الاقتصادية على إيران، واستمر الرئيس الأميركي دونالد ترمب على موقفه القائل إن الاتفاق بصيغته التي وقع عليها أوباما يخدم إيران أكثر مما هو في صالح بلاده، وهدد بإلغائه.
وأكثر الحريصين على بقاء الاتفاق هي دول الاتحاد الأوروبي، التي تعدّه مرحلة جديدة مع النظام في طهران. وقد سارعت منذ التوقيع عليه إلى إبرام صفقات تجارية كبيرة، بعد أن كانت في المرحلة السابقة لا تستطيع، لأن الحكومة الأميركية تعاقب الشركات الأوروبية المتعاملة مع إيران بوضعها على القوائم السوداء.
وبعكس ذلك، فإن أكثر الغاضبين من الاتفاق هي الدول العربية، وتحديداً الخليجية... لم تكن ضد إبرام اتفاق ينهي الخطر النووي الإيراني، ولا ضد التعامل التجاري مع إيران، بل ضد الأثمان التي دفعت مقابله، وأبرزها إطلاق يد قوات إيران تتمدد وتحارب في ثلاث دول عربية؛ سوريا واليمن والعراق، وتهدد البقية.
وفي حال عدّت طهران أن فرض العقوبات يلغي الاتفاق النووي، وعادت للتخصيب، فإن ذلك سيؤذن بعودة التوتر. فإيران تضع الغرب أمام خيارين؛ مشروعها النووي الذي سيهدد الغرب وإسرائيل مستقبلاً، أو أن يسمح لها بالهيمنة على المنطقة. وقد نجحت في استخدامه سلاحاً لابتزاز الغرب، حيث أبرمت إدارة أوباما اتفاقاً هدفه فقط وقف مشروعها النووي، وتركت يد إيران طليقة تمارس بلطجتها في كل مكان، بما في ذلك مناطق تعدّها الولايات المتحدة في دائرة مصالحها، مثل الخليج والعراق وأفغانستان وباكستان.
وهذا لا يلغي حقيقة أن التزام إيران بوقف مشروعها النووي تطور مهم حينها، واتفاق يستحق أن تكافأ عليه برفع العقوبات الاقتصادية والتجارية، لولا أن إدارة أوباما مضت بعيداً في تنازلاتها؛ فقد تركت لإيران الساحة مفتوحة تشن حروباً لأول مرة في تاريخ إيران، وبشكل مباشر، حتى في دول ليست لها حدود معها مثل سوريا واليمن. الاتفاق النووي مسؤول جزئياً عن الفوضى التي أصابت المنطقة. صار في سوريا أكثر من 50 ألف مقاتل متطرف يحاربون تحت إدارة الحرس الثوري الإيراني جلبوا من أنحاء المنطقة، في الوقت الذي كان المجتمع الدولي يسعى فيه للتخلص من مقاتلي تنظيمات متطرفة، مثل «داعش»، جاءوا من أنحاء المنطقة، أيضاً.
ولأن الاتفاق النووي تم التفاوض عليه خلف أبواب مغلقة بين فريق أوباما وفريق الرئيس روحاني، فإن دول المنطقة لم تعرف بتفاصيله إلا متأخراً، وغادرت إدارة أوباما مخلفة وراءها لغماً خطيراً. وكل الشواهد التي تلت توقيع الاتفاق النووي تظهر أن إيران صارت قوة أكثر عدوانية. ربما ينجح الاتفاق في تعطيل المشروع النووي لعشر سنوات أخرى، لكنه أشعل حروباً أخطر في الشرق الأوسط، وهدد الأنظمة بشكل يفوق ما فعلته إيران منذ قيام ثورتها عام 1979. وزيادة عليه؛ عزز وضع المتطرفين في طهران الدينية والأمنية.
وتهديدات إيران الجديدة ضد العقوبات الاقتصادية الأميركية يفترض أن تؤخذ على محمل الجد، لأنها تعكس أسلوبها في فرض ما تريده، من خلال العنف والفوضى. لكن التراجع الأميركي في سوريا يشكل خطأ تكتيكياً فادحاً، لأنها الساحة التي يمكن للعالم محاصرة إيران فيها وإجبارها على التعاون الإقليمي والدولي، وهو عمل يناقض نفسه، فواشنطن تصعّد مع إيران على جبهة الاتفاق، ثم تترك يدها طليقة في جبهة سوريا.
لا يزال عميد السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قادراً على إدهاش العالم بطروحاته الإشكالية للسياسات الدولية، وإن اقترب من أعوامه المائة؛ الأمر الذي يعد ظاهرة غير عادية في المسارات السياسية العالمية.
كيسنجر يعود من جديد الأيام القليلة الماضية عبر موقع Cap x البريطاني الشهير ليحدثنا عن الفوضى العالمية، ولا سيما في الشرق الأوسط ويفتح أذهاننا، وتالياً أعيننا على معضلة كارثية تستحق التوقف والتصرف بأسرع قدر ممكن حتى لا نكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أي منذ أكثر من أربعة عقود والسياسي الأميركي الأشهر تلميذ مترنيخ وبسمارك مطّلع بأوسع قدر وعمق وارتفاع على أحوال الشرق الأوسط المضطرب؛ ولهذا فإن رؤيته الاستشرافية للإقليم لا تأتي من فراغ، وبخاصة حين يجزم بأن المشهد الذي صار إليه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم سايكس بيكو لم يعد له وجود، ولا أحد يمتلك تصوراً ما لقادم الأيام، وقد توقفت أربع دول عن العمل كدول ذات سيادة؛ إذ أصبحت سوريا والعراق وليبيا واليمن ساحات معارك للفصائل الساعية لفرض حكمها.
يضعنا كيسنجر أمام قراءة لـ«(داعش)، ذلك الجيش الديني المتطرف آيديولوجياً»، والذي ينعته بـ«العدو العنيد للحضارة الحديثة»، وما جره على المنطقة، وربما العالم من وبال.
يشرح ثعلب السياسة الأميركية مشهد مواجهات «داعش» ويبرز طرحاً جديداً مخالفاً للقاعدة التقليدية «عدو عدوك صديقك»، والإشارة هنا تحديداً إلى إيران التي لعبت ميليشياتها دوراً في مواجهة «داعش» ومجابهته سواء في العراق أو سوريا؛ ذلك أن إيران وإن كانت عدواً ظاهراً لـ«داعش»، إلا أنه لا يمكن اعتبارها صديقاً سواء للأميركيين أو لشعوب المنطقة، وهي لا تداري أو تواري أطماعها وتطلعاتها الإمبراطورية المرتكزة إلى أحقاد فارسية تاريخية.
التساؤل الجوهري الذي يطرحه كيسنجر... من الذي سيرث النفوذ في المناطق التي يطرد منها «داعش»؟ وهل تلك المناطق ستضحى مجال نفوذ تهيمن عليه إيران؟
النتيجة الكارثية التي يحذر منها وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق، هي أنه حال سيطرت ميليشيات الحرس الثوري والمجموعات الشعبية التابعة لإيران على أراضي «داعش» فإن النتيجة ستكون سيطرة إيرانية على حزام من الأراضي يمتد من طهران إلى بيروت، عندها تعلن ولادة الإمبراطورية الإيرانية الراديكالية.
لا تقتصر التحذيرات من إيران على كيسنجر؛ ففي الأول من أغسطس (آب) الحالي، وفي بيان موجز له أمام وزراء إسرائيليين، تحدث رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد الإسرائيلي) يوسي كوهين، عن «إيران التي تملأ فراغات (داعش)»، مشيراً إلى أن العملية المركزية التي تحدث في الشرق الأوسط في وقتنا هذا هي انتشار إيراني من خلال تمركز قوات إيرانية وأذرع طهران في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
والشاهد، أن خبراء السياسة الخارجية الأميركية بدورهم باتوا قلقين من تبعات مواجهة إيران لـ«داعش» بقدر لا يقل عن التصدي والتحدي للتنظيم الدموي الأشهر حديثاً.
خذ إليك ما يقوله إبان بيرمان، خبير العلاقات الخارجية الأميركية، الذي يرسلها صريحة غير مريحة، عندما يحذر مما سماه «فيلق إيران الجهادي»، وإذ تذرعت طهران بطرح القضاء على «داعش»، فقد عملت جاهدة على استجلاب مقاتلين شيعة من أفغانستان واليمن وباكستان إلى جانب طيف من الميليشيات العراقية، والسؤال «كم يبلغ تعداد هذا الفيلق، وهل فاق كثيراً (فيلق القدس)؟».
الجواب نجده عند نادر أسكوبي، مستشار القيادة المركزية للجيش الأميركي سابقاً، والذي يذهب إلى أن عدد المقاتلين الذين حشدتهم إيران حتى الآن قد يصل إلى مائتي ألف مقاتل، بمعنى أنه ربما يتجاوز عدد الجيوش النظامية لبعض الدول...
ما مصير ومستقبل هذا الحشد، وهل سيُترك للفراغ أم سيوظف توظيفاً مدروساً ومخططاً له من قِبل إيران للوصول إلى إمبراطورية التطرف التي يتحدث عنها كيسنجر؟
أقرب الاحتمالات الواردة هي أن طهران التي تسيطر على ذلك الفيلق سيطرة كاملة سوف تستخدمه في حملات خارجية لها، بهدف تحقيق انتصارات جيوسياسية، واستهداف خصومها الإقليميين؛ ما يعني إنهاء وإلغاء أي شكل من أشكال توازنات القوة خليجياً وشرق أوسطياً؛ الأمر الذي يجعلنا نفهم مخاوف تحليلات كيسنجر من جديد.
إيران لم تتنازل عن طموحاتها النووية، ويعزز الاتفاق النووي بين الدول العظمى وطهران هذا الهدف وتلك العدوانية الإيرانية، وهي تتلاعب بمقدرات الدول الكبرى، وخير دليل على صحة هذا الطرح التحذيرات التي أطلقها حسن روحاني منتصف الشهر الحالي، والمتصلة بالانسحاب من الاتفاق النووي «خلال ساعات» حال واصلت العقوبات الأميركية طريقها ضد بلاده.
زعزعة إيران لاستقلال الشرق الأوسط واستقراره تبدت واضحة من خلال مشهدين الأيام الماضية.
الأول: موافقة البرلمان الإيراني على زيادة ميزانية الأمن وبرامج الصواريخ الباليستية بمقدار 260 مليون دولار، ودعم «فليق القدس» ذراع إيران الخارجية بمبلغ مماثل.
الثاني: ما تردد عن مصنع إيراني للصواريخ البعيدة المدى يجري العمل عليه على الأراضي السورية، وتحديداً في مدينة بانياس.
تلعب إيران على متناقضات الصراعات الدولية، ولا سيما ما هو قائم منها بين موسكو وواشنطن وبكين، وفي انتهازية براغماتية صارخة تسعى إلى جعل العالم كله رهينة لها.
السؤال قبل الانصراف... كيف للعالم العربي السني بنوع خاص فهم تحذيرات كيسنجر من جهة، والاستعداد للتعاطي مع إمبراطورية الشر الإيرانية من جهة ثانية؟
يخشى المرء أن تكون المواجهة مع طهران قدراً مقدوراً في زمن منظور.
لو أحصيت ما أنفقته في متابعة أخبار الثورة السورية من ساعة انطلاقتها الأولى إلى اليوم لبلغَ عشرة آلاف ساعة أو تزيد، ولعلي أعرف من تفاصيلها ودقائقها ما لا يعرفه إلا بضع مئات من أهل الثورة فحسب، وبعد ذلك كله أشهد شهادة لله وللتاريخ: إنني لم أعرف في الثورة مشكلة أكثر تعقيداً وتداخلاً من مشكلة الغوطة، ومَن ظن أن إعلام الجيش أو إعلام الفيلق الرسميَّين يقدمان معلومات صادقة قاطعة فهو واهم، ولو زعم أحدٌ أنه يملك الحقيقة الكاملة في هذه المشكلة المعقدة المزمنة فلا تصدقوه.
* * *
لقد مارس الطرفان وأنصارُ الطرفين ضغوطاً هائلة على المجلس الإسلامي وعلى طائفة من الأفاضل لانتزاع مواقف مؤيدة لأحد الفريقين ومجرِّمة للفريق الآخر، وكان الشرط الضمنيّ الذي يشترطه هؤلاء دائماً: عليكم أن تروا بأعيننا وتسمعوا بآذاننا وتَقبلوا روايتنا وتُعرضوا عن رواية الطرف الآخر وتَضربوا بها عرض الحائط. وهذا طلبٌ لا يُعقَل أن يُطلَب من وسيط محايد، فإن من بديهيات القضاء أن يستمع القاضي والحكَم إلى الطرفين، ومن صنع ذلك سوف يصطدم لا محالة بتناقض الروايات، فإما أن يأخذها جميعاً أو يرفضها جميعاً، وفي الحالتين لن يخرج بنتيجة، وعندئذ لا مناص من ترك ذلك كله واستنطاق الأدلة والشواهد والشهود.
فإذا صنع المرء ذلك خرج بنتيجة لا تسرّ الطرفين، وهي أنهما كليهما ليسا مصدراً موثوقاً للمعلومات وأن تحرّي الصدق ليس عندهما من الأولويات والمسلَّمات كما يظن المتابع البعيد، ولن يُحسم أبداً ذلك الخلاف الطفولي بينهما: مَن بدأ فهاجم ومَن رَدّ فدافع وأي الطرفين يحمل النسبة الأكبر من المسؤولية؟ لذلك لا بد من طَيّ كلام الطرفين والقفز فوق التفاصيل والذهاب مباشرة إلى الحل الممكن، وإن لم يكن هو الحلَّ النموذجي الكامل، حل يقدم مبادئ وقواعد عامة لحماية الغوطة من التفكك والضياع.
* * *
الحل الممكن والفرض الواجب هو وقف التنازع وتثبيت خطوط التماس بين الطرفين، وتجريم كل من يتجاوز تلك الخطوط أو يبدأ بإطلاق النار على الطرف الآخر أو يحرّك قواته تجاهه مهما تكن الذرائع والمبررات.
لا بد من الاعتراف بالأمر الواقع مهما بدا كريهاً: إن الغوطة الواحدة التي نعرفها لم يَعُدْ لها وجودٌ إلا في الخيال. لقد تم تقسيم الغوطة الشرقية المترامية الأطراف إلى إمبراطوريتين عظيمتين: "الإمبراطورية الغوطانية الشرقية" و"الإمبراطورية الغوطانية الغربية"، ولا يوجد أي حل عَمَلي يحقن الدم وينجّي الغوطة من الضياع بأمر الله إلا بتكريس تقاسم النفوذ بين المملكتين المستقلتين وإبرام اتفاقية عدم اعتداء بينهما، أو لنقل (ويا للمهزلة!) إننا نتمنى أن توقع المملكتان على "اتفاقية خفض تصعيد" يُمنَع بموجبها منعاً باتاً اقتراب أي من قوات المملكتين من حدود المملكة الأخرى أو المبادأة بعدوان أو إطلاق نار.
* * *
لا بد أخيراً من ملاحظة مهمة: هذا الحل (الممكن وليس النموذجي) يقتضي إخراج جبهة النصرة من المعادلة، فإذا بقيت لها فلول في أراضي المملكة الغربية فإن مسؤولية ملاحقتها وتفكيكها واتقاء شرها وضرها تقع على عاتق حكومة تلك المملكة حصراً، ولا يجوز أن تخترق قوات المملكة الشرقية الحدود بذريعتها ولا أن تنشئ قتالاً مع الممكلة الغربية بسببها.
نعم، النصرة عدو للثورة لا شك في ذلك، بل من أعدى أعداء الثورة، والتحالف معها خيانة بلا ريب، ولكن متى استباحت الثورةُ قتالَ أي فصيل تحالَفَ مع النصرة في أي يوم؟ هذه حركة الزنكي لمّا دخلت في التحالف الأخير (قبل أن تنفَضّ عنه أخيراً بحمد الله) هل دعا إلى قتالها عاقل مخلص من أهل الثورة؟ وهذه بعض فصائل إدلب التي تتحالف ضمنياً مع جبهة النصرة: هل قاتلها أحدٌ أو دعا إلى قتالها أحد؟
* * *
إن الغوطة اليوم كالصخرة المشرفة على الوادي العميق، أي حركة عنيفة قد تُفقدها توازنها القلِق فتتدحرج وتسقط في الهاوية، لكن الظاهر أن طرفَي الصراع في الغوطة لا يدركان حجم الكارثة التي يسوق تنازعُهما الأحمق الغوطةَ كلها إليها، فإما أن تضغط القوى الثورية والإعلامية على الطرفين لوقف ذلك العبث المجنون والخلافات الصبيانية بينهما، أو سيتكرر في الغوطة مصير حلب الحزين ولو بعد حين لا قدّر الله.
على مدى ست سنوات ونصف من عمر الانتفاضة الشعبية في سورية، استخدم نظام الأسد وحليفاه الإيراني والروسي وسائل وأدوات متنوعة في حربهم على الثورة والثوار وكل من تضامن معهم سياسياً أو دعم صمودهم عملياً، مستفيدين من سياسة أميركية وغربية تتحاشى الانزلاق إلى تدخل مباشر أو واسع، وتعطي الأولوية لدرء الأخطار عن أراضيها ومصالحها، ومستغلين أيضاً انقساماً وتلكؤاً عربيين انعكسا تذبذباً في المساعدات والإمدادات والمواقف.
وكان الأنجح استخداماً والأفضل نتائج بين وسائل الحلف الثلاثي، سياسة الأرض المحروقة القائمة على استخدام العنف اللامحدود ضد مناطق انتشار المعارضين، بما يشمل البشر والبناء والزرع، والتنكيل الجماعي والاعتقالات العشوائية. ما أدى، بالإضافة إلى الخسائر البشرية المروعة، إلى موجة نزوح هائلة، استخدمت بدورها للضغط على دول قريبة وبعيدة فأرهقتها.
وترافق كل ذلك مع إطلاق تنظيمات وجماعات «الإرهاب الإسلامي»، ومساعدتها على التوسع، وتوفير السلاح والتمويل لها، سواء عبر الإفراج عن قادتها المعتقلين في سجون النظام، أو عبر انسحاب قواته من أمامها في أكثر من منطقة، وخصوصاً تلك الغنية بالنفط والموارد الزراعية، وتسهيل تسللها إلى مناطق المعارضين وتشجيعها على قتالهم وتشتيت قواهم.
وتعود «براعة» الأسد في استخدام هذه الأدوات إلى أن ضباط جيشه أتقنوا التعامل بها لسنوات طويلة، بعدما تحولت الحرب ضد إسرائيل شعاراً يتيح رفعه التفرغ للإطباق على الداخل، وللحيلولة دون تطور أي تململ اجتماعي إلى حالة قابلة للانتشار.
ومع مرور الوقت، تمكن «التحالف الممانع» من «تحييد» الدول التي ساندت الثورة في بداياتها، مستغلاً خبرته الطويلة في الابتزاز، لا سيما في تعامله مع الدول الغربية التي يعرف أنها تغلب مصالحها الوطنية على المواقف المبدئية، عندما يتعلق الأمر بأمنها، عبر زرع مجموعات إرهابية وسط اللاجئين الذين انتقلوا إليها من دول الجوار السوري.
لم يكن لبنان المنقسم الذي يمسك «حزب الله» بقراره بحاجة إلى جهد كبير لتطويع مؤيدي الثورة فيه. استمر الضغط عبر قوى الحزب المسلحة وعبر النازحين، إلى أن جيء بحليف الحزب (المسيحي) رئيساً، وأخضِعتْ رئاسة الوزراء (السنية) لضغوط وشروط يصعب تجاوزها. ولم تبخل إسرائيل بالدعم عبر التصريحات الدورية عن «احتمالات الحرب»، فيما هي مرتاحة لإمساك الحزب بجبهة الجنوب وفرضه الهدوء فيها، ولخدمته مصلحتها البعيدة المدى في الإبقاء على نظام الأسد.
أما الأردن، فوقع تحت ضغط هاجسين: النازحون الذين يثقلون على اقتصاده وسط شح المساعدات العربية والدولية، والتيار الإسلامي المتشدد الذي رأى في الأوضاع السورية فرصة للتوسع. وكان أن اعتمد المهادنة مع الأسد وحلفائه كي لا يرهقوا بلاده بالمزيد من النازحين، ويضعفوا أمنه أمام متشددي «داعش» وأنصارهم في الداخل.
وبالنسبة إلى تركيا، تكفل الروس والأميركيون بالتناوب على إخضاعها، كل بأسلوبه. وفي حين ضغطت روسيا اقتصادياً وعسكرياً عبر العقوبات والتلويح بمواجهات مع القوات النظامية، مارس الأميركيون ضغطاً سياسياً متواصلاً عبر تحالفهم مع الأكراد وتسليحهم ومنحهم دوراً قيادياً في الحرب على «داعش»، ما أوقع أنقرة في مأزق مزدوج. فهي من جهة لا يمكنها التراجع أمام تنامي رغبة الأكراد في الانفصال، ومن جهة ثانية لا يمكنها تحدي الأميركيين. ولم يكن أمام أردوغان سوى التراجع مستفيداً من المحاولة الانقلابية، وإهمال دعواته لإقصاء الأسد، مع استمرار تلويحه بالتدخل العسكري ضد الأكراد لأغراض داخلية بحتة.
ولم يطل الأمر بالدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا، حتى انضمت إلى الركب الأميركي والإقليمي وتراجعت عن دعواتها المبدئية إلى تغيير النظام السوري ورأسه، في مواجهة خطر «داعش» الذي وصل إلى عواصمها بتسهيلات استخباراتية لم تقو على منعها. وبعدما أعلنت أنها لا تعارض بقاء الأسد، تراجعت فجأة، بقدرة قادر، وتيرة العمليات الإرهابية الكبيرة على أراضيها. لكن ذلك لم يحصل بسبب الحرب المستعرة على «داعش»، لأن للإرهاب قواعد خارج سورية والعراق وخلايا «نائمة» لم تمس، بل لأن الهدف من الاعتداءات تحقق.
هل ثمة ما يمكن فعله في لحظات الاحتضار؟! وكيف يمكن للأنفاس الأخيرة أن تمضي من دون استرجاع محطات الذكريات. يقول بعض العائدين من رحلات الموت: بصيص الأمل يبقى حتى لحظة الغياب الأسود. فهل هذا ينطبق على الكيانات المتعثرة والهشة للمعارضة السورية؟
قبل أسابيع قليلة قال المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية مايكل راتني، ناعياً بغير قصد ربما «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، أنه «لا يوجد تمثيل سياسي للمعارضة»، متناسياً أن دولته كانت ضمن المحتفين بقيام كيان «الائتلاف» كممثل شرعي للمعارضة وقوى الثورة، بعد أن تم إعلان نعي «المجلس الوطني» السوري بالطريقة ذاتها ولنفس المآل، من قبل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون (نهاية ٢٠١٢)، عندما قالت: «حان الوقت لتجاوز المجلس»، وذلك للترويج لقيام «الائتلاف» آنذاك، والذي نعاه راتني من الأردن (تموز- يوليو ٢٠١٧)، من دون أن يذكر كيف ولماذا لم يعد هناك تمثيل سياسي للثورة أو للمعارضة!
عندما تأسس «الائتلاف» (أواخر ٢٠١٢)، واعترفت به أكثر من مئة دولة إضافة إلى الأمم المتحدة، كمفاوض عن جهة المعارضة المواجهة لنظام الأسد، وتعاملت معه الجامعة العربية كممثل شرعي ووحيد للسوريين، بدا كل ذلك كافياً لمن تولى قيادته، كي يسير به من لحظة الاعتراف الدولي إلى المباركة الشعبية، من خلال ممارسة دوره كممثل سياسي بديل عن النظام السوري (الحكومة)، أو على الأقل أن يتعامل من مبدأ أن نظام الأسد لم يعد هو الممثل الوحيد للسوريين، وأن هذا الأمر يخول «الائتلاف» التحرك دولياً وشعبياً لإنتاج الهوية السورية الجديدة، التي يطمح إليها السوريون عبر ثورتهم، التي نادت بالحرية والكرامة والمواطنة المتساوية. بيد أن قرارات الإنشاء والتأسيس ليست هي فقط التي تبلور الدور المنوط بالائتلاف، فثمة عامل ذاتي للقائمين عليه، وثمة عوامل كثيرة أخرى دولية وإقليمية وعربية، وجميعها منفذها إلى ذلك العامل الأهم وهو الذاتي، الذي يحدد من خلاله مسار حراك هذا الكيان، وثوابته، وقدرته على بناء شعبيته بين من يدعي تمثيلهم.
يدرك جميع أعضاء «الائتلاف»، سواء الذين يصارعون اليوم سكرات الموت لكيانهم، أو الذين غادروه (وأنا منهم)، أن هذا الكيان الذي وجد- بقرار دولي وإقليمي وليس في سياق النضال الشعبي للسوريين- لتحقيق توازن ما سمي التمثيل بين أطياف المعارضة من جهة والنظام من جهة أخرى، أن ما هو مطلوب منهم شعبياً لم يكن بالكثير الذي يفوق طاقتهم، لكن انزياح «الائتلاف»- وذلك هو أحد أخطائه الذاتية- عن دوره في العمل السياسي والديبلوماسي، ومحاولته تنازع السلطة التنفيذية على أرض ليست له سلطة على من يحكمها (الفصائل المسلحة)، ودخوله في ملفات الإغاثة لإبعاد المؤسسات المعنية بذلك، مما خفف الحمل عن المؤسسة الدولية في ممارسة دورها الملزم بتأمين الغذاء والدواء والحماية للمدنيين، جعل منه طرفاً خصماً للكثير من السوريين، مع ما هو شائع عن فساد شاب ذلك العمل الإغاثي ومن ثم الحكومي قبل أن ينتقل إلى العمل السياسي.
وبحسب الواقعية في العمل السياسي، لم يكن مطلوباً من «الائتلاف» أن يواجه إرادة الدول التي أسست فصائلها المسلحة، تحت مسميات إيديولوجية إسلامية، ولأهداف ومقاصد لا تتقاطع مع أهداف ثورة السوريين، التي نادت بالحرية والدولة الديموقراطية، وإن صادف أن مسيرها في قتال النظام جنباً إلى جنب مع من دفعه النظام إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسه وأهل بيته وثورته، لكن ذلك لم يكن يعني تسليم «الائتلاف» بحقيقة عسكرة الثورة، وارتهانها لمموليها، وحرف خطاب الثورة إلى الزاوية التي أرادها النظام، ودفع إليها، وهو الخطاب الديني الطائفي، الذي أراد أن يواجه خطاب النظام والميليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانبه، فوقع في فخه.
يقع كل ما تقدم ضمن العامل الذاتي لـ «الائتلاف» المعني بصوغ المشروع الوطني الجامع والترويج له، بخطاب غير مرتهن لهذا الفصيل العسكري أو ذاك، ومن هنا كان يمكن فرز من يقاتل من أجل قيام سورية الدولة الديموقراطية، عن سورية الإمارة الإسلامية، والمشاريع غير الوطنية، وضمن هذا التصنيف، كان يمكن لكل السوريين، معارضين وموالين، أن يدركوا حجم الأخطار القادمة مع المشاريع الدينية الطائفية، بدءاً من مشروع «ولاية الفقيه» الذي تحمله ميليشيات «حزب الله»، إلى مشروع «الدولة الإسلامية»، وإمارات «النصرة» (الفرع السوري لـ «القاعدة»).
لكن مع غياب الرؤية وتعدد خطابات المعارضة، وابتعاد الكيان الممثل لها عن دوره في ترسيخ صلاته مع السوريين، وتأطير هذه الصلات ومأسستها والاستفادة من طاقاتها، في بث روح الحيوية والتجديد في «الائتلاف» وهيئاته، واعتبار «الائتلاف» من قبل من يقوده، أنه كيان مغلق توزع غنائمه- وهنا لا أقصد المالية فقط وإنما السياسية أيضاً- على من فيه، بعيداً من إدراك أخطار هذا الانغلاق، أدى إلى التخلي عن الدور السياسي، في الثبات على مشروع وطني سوري، يحقق إقامة دولة المواطنين الأحرار التي تكفل حقوق السوريين أفراداً وقوميات. هكذا فإن النعي الحقيقي لـ «الائتلاف» جاء داخلياً قبل أن يعبر عنه المبعوث الأميركي راتني بمقولته: «لا يوجد تمثيل سياسي للمعارضة»، حتى وإن كان راتني يعني في قوله ذاك، «الهيئة العليا للمفاوضات»، فإنه أصاب من غير أن يدري «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، برميته تلك من مبدأ: «رب رمية من غير رام»، فكيف إذا كان ذلك الرامي هدّافاً مثل راتني؟
على رغم كل ذلك، وطالما أن هناك فسحة من نفس يتصاعد، فإن غياب التمثيل السياسي للسوريين في هذا الوقت ليس في مصلحة الثورة، لأنه يعني عودة التمثيل الأوحد الذي يمثله النظام فقط، وفي ذلك مقدمة لانتصار «وهمي» تريد الإدارة الأميركية أن تقدمه لروسيا، في إطار المصالح المشتركة بينهما، والتي لا تتقاطع حتماً مع إرادة السوريين ولا مع مصالحهم.
كشف الرئيس دونالد ترامب، مجددا، عن قرابته مع اليمين المتطرف والعنصري الأمريكي حين قام بمساواة تيّار من المهووسين بكراهية الأجانب والأديان والإثنيات الأخرى من جماعات كوكلوكس كلان و«تفوّق البيض» مع دعاة المساواة والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين كانوا يتظاهرون سلميّاً يوم السبت الماضي حين قام أحد النازيين الجدد بالهجوم عليهم بسيارته فقتل امرأة وجرح 19 آخرين.
التصريح المثير لترامب قال: «ندين بأشد العبارات هذا الإعلان البشع عن الكراهية، التعصب والعنف من عدة اتجاهات»! وهو ما انعكس هجمات سياسية عليه بما فيه من بعض قادة حزبه الجمهوري، وكان لافتا أن نائبه مايك بنس أدان أنصار التفوق العرقي والنازيين الجدد وكوكلوكس كلان قائلا إن هذه الجماعات لا مكان لها في الحياة العامة الأمريكية، فيما قام وزير العدل جيف سيشنز باعتبار «الاعتداء الشرّير» الذي حصل «إرهابا محلّياً».
أنصار اليمين المتطرّف استطاعوا جمع الآلاف على خلفيات أيديولوجية مختلفة تتعلق بالعرق الأبيض، وكراهية اليسار، والدفاع عن حرية التعبير، والمدافعين عن التراث الجنوبي الأمريكي والمعادين للمؤسسات السياسية التقليدية، وتناظر ذلك مع وقف الرئيس الأمريكي الدعم الحكومي لمواجهة التطرف اليميني للتركيز على «الإرهاب الإسلامي».
دفع الحدث وسائل إعلام عديدة لربط ما حصل في شارلوتسفيل بالتاريخ، فتحدّثت «الغارديان» البريطانية مثلا عن والد ترامب الذي كان معروفا بتعاطفه مع النازيين وأنه اعتقل في تجمع لمنظمة كوكلوكس كلان العنصرية المتطرفة عام 1927، وربطت ما يحصل حاليّاً بالدستور الأمريكي لعام 1787 الذي بني على التفوق العرقيّ للبيض والذي اعتبر الأسود يساوي ثلاثة أخماس الأبيض، لكنّها أشارت أيضاً إلى أن تطوّرات هائلة حصلت في السياسة الأمريكية خلال الخمسين سنة الأخيرة وضعت حقوق الإنسان والمساواة ضمن القوانين وأدت لانتخاب رئيس أسود، وافترضت، بالنتيجة أنه لا يمكن لرئيس أمريكي أن يتجاهل أمرا اعتبر إرهابا في لندن وبرلين ونيس، وأن المساواة بين عنف العنصريين والاحتجاج السلمي غير ممكن سياسيا.
كان لافتاً، بالنسبة لنا كعرب، اكتشاف أن للرئيس السوري بشار الأسد أنصاراً ضمن عناصر النازيين الجدد وعصابات كوكلوكس كلان، وقد انتشر شريط فيديو لأشخاص منهم يرتدون قمصانا طبعت عليها عبارات مؤيدة لـ«الجيش العربي السوري» ويدعون الأسد لاستخدام السلاح الكيميائي وإلقاء البراميل المتفجرة على «الإرهابيين»، فيما ذكر أن جيمس فيلدز، الإرهابي الذي هاجم المتظاهرين بسيارته وضع صورة للأسد باللباس العسكري على صفحة «فيسبوك» الخاصة به وتحتها كلمة: «لا يمكن هزيمته»، وهذه «ميدالية» جديدة تضاف للرئيس السوري، بعد تطويبه في البروباغاندا الروسيّة كمقاتل ضد الإسلام، وفي الدعاية الإيرانية، كمجاهد شيعي، وفي «تحليلات» اليسار التونسي والأردني واللبناني كبطل معاد للإمبريالية، ومؤخراً، انضافت العباءة القوميّة الناصريّة لجمهور مطبّلين من مصر، من دون أن ننسى الحماس الإسرائيلي له كـ«حام للأقليّات»، والتواطؤ المبطن والمكشوف لحلف الثورة المضادّة في مصر والخليج العربي معه.
على هذه الخلفيّة المعقّدة، نفهم كيف انتهى الأمر بترامب، الذي قصف مطار الشعيرات بعد هجوم الأسد الكيميائي على خان شيخون، إلى تسليم روسيا، عمليّاً، الملفّ السوري، شرط مراعاة المصالح الإسرائيلية، وكيف آل الحال إلى أن يلتقي اليسار «الممانع» و«المعادي للإمبريالية» الذي يحيّي «صمود» الأسد بعد قتله مئات الآلاف وتهجير الملايين، مع اليمين العنصريّ المتطرّف الذي يطالب، هو أيضاً، بإكمال المذبحة ويحيي بطلها «الذي لا يهزم»!