مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٩ أغسطس ٢٠١٧
عصر "اللبننة" السورية

خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى روسيا، في الأسبوع الحالي، للاجتماع مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ليست المرة الأولى التي يلتقيان فيها، لكنهما اعتادا على عقد الاجتماعات، وفي روسيا تحديداً، قبل أي حدثٍ مفصلي. في 21 سبتمبر /أيلول 2015، عقد الثنائي لقاءً في موسكو، كشف فيه بوتين عن التدخّل الروسي العسكري في سورية، الذي عاد وحصل في 30 سبتمبر/ أيلول من العام عينه. سلّم نتنياهو لبوتين لائحة بأكثر من 1150 هدفاً "يجب ضربها في سورية"، أكثريتها عائدة لـ"جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً). أراد الإيحاء بأن ما يعرفه عن الأرض السورية أكثر بكثير مما يعرفه الكرملين.

وبعد نحو عامين من التدخّل العسكري المباشر، بدأت روسيا صياغة حلول مرحلية في سورية، عبر اتفاقات "خفض التصعيد". حلول توجد فيها إيران وحلفاؤها عناصر أساسية، خصوصاً في الجنوب السوري. هناك، وعلى الحدود بين سورية والأردن من جهة، وبين سورية والأراضي الفلسطينية المحتلة من جهة أخرى، تبدو المسألة أقرب إلى تكرار نموذج لبنان في ثمانينات القرن الماضي.

أبدى نتنياهو خشيته من الوجود الإيراني، واستطراداً حزب الله، في سورية. قدّم لبوتين عرضاً عن "الخطر الإيراني وتأثيره على إسرائيل". كان رئيس الموساد، يوسي كوهين، أساسياً في تقييم الوضع الميداني الإيراني في سورية. "تفّهمت" روسيا "المخاوف" الإسرائيلية. ربما كان يكفي بوتين الابتسام قليلاً، لمنح الضوء الأخضر لنتنياهو، بغية شنّ هجماتٍ في سورية، وإبعاد إيران وحزب الله عن المناطق المتاخمة لفلسطين المحتلة.

لن يقوم نتنياهو بأي هجوم ضد حزب الله، ولا ضد إيران، في سورية. كان واضحاً في ذلك، عبر توجيهه رسالة غير مباشرة لبوتين: "إيران تحاول إجراء عملية لبننة لسورية، والسيطرة عليها بواسطة مليشيات شيعية مثلما فعلت مع حزب الله في لبنان"، مضيفاً أن "إسرائيل ستعمل حيث يجب، وبموجب خطوطها الحمراء التي تضعها، وعندما فعلت ذلك في السابق لم تطلب إذناً من أحد".

أمران تجدر ملاحظتهما هنا. الأول أن نتنياهو استخدم مصطلحاتٍ مشابهة لما استخدمه مناحيم بيغن في أثناء الانسحاب الإسرائيلي من صيدا اللبنانية عام 1985، بما يتعلق بـ"المليشيات الشيعية"، في إشارة إلى مرحلة طويلة من النزاع المستقبلي، في حال استمرّ وجود إيران وحلفائها على مقربةٍ من الحدود الفلسطينية المحتلة مع سورية. الثاني استعمال نتنياهو مصطلح "لبننة سورية". والمعروف أن "اللبننة"، في سياق مفهوم الدولة، هي الطريق الأفضل لتهديم بنيان الدولة. و"اللبننة" التي أفرزتها الحرب اللبنانية نسيج اجتماعي مفكّك، وأرض مشتتة، وأحزاب ومليشيات صنعت "الدولة العميقة" داخل الدولة الأساسية. تؤدي هذه "اللبننة" إلى كل أنواع التقسيم المجتمعي والديمغرافي والفكري، لكنها لا تؤدي إلى رسم حدود جغرافية، لتكريس هذا الانقسام، بل تترك الأمور في سياق مراوحةٍ قاتلة، وتبادل أدوار طوائفية داخل بنيان الدولة الأساسي، الهشّ.

يعلم نتنياهو أن "الطبيعة" الروسية، المتأتية من طبيعة سوفياتية، ترفض تقاسم أي أرض مع حلفاء مشتركين. سورية ليست برلين، ليتم تقاسمها مع دول أخرى. سورية "نظامٌ استدعى حليفاً من الأقاصي البعيدة لنجدته". ولا يمكن أن يسمح هذا الحليف بمشاركة ندّية من أي طرفٍ إقليمي ودولي في سورية، باستثناء الأميركيين، لاعتباراتٍ تتجاوز الشرق الأوسط، إلى أوكرانيا والوسط الآسيوي وبحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى كوريا الشمالية. بالنسبة للروس، الإيرانيون وحلفاؤهم "فريق ثانٍ" في سورية، لا "فريق أول". لا يعني هذا أن الصدام حاصل بين موسكو وطهران، لكنه فراغٌ كافٍ لصياغة "اللبننة" السورية، في مرحلة ما قبل "طائفٍ سوري" يفسح المجال لتقسيم سورية إلى دويلات أو لحصول صداماتٍ تسبق قيام "دولة عميقة" جديدة، وهو ما يفيد الإسرائيلي. مع العلم أنه حين يتحدّث عن نيّته القيام بهجمات فإنه يعني أنه لن يقوم بها.

اقرأ المزيد
٢٩ أغسطس ٢٠١٧
عن خطابه الأخير

يكشف خطاب بشار الأسد الأخير حالة الفصام والتناقض التي يعيشها، مثل كل كلامه في السنين الست الماضية. كما يكشف مدى التصاعد في فاشيته، ومدى تأصلها في لاوعيه، بما يؤكد أن سلالة الفاشية والنازية لم تنقطع تاريخيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بل يبدو أنها مستمرة في سيرة حكام الأنظمة التوتاليتارية والعسكرية الأمنية. وما المجازر التي ارتكبت خلال سنوات حكم آل الأسد، والمستمرة، سوى دليل بسيط على هذه الفاشية، لاسيما في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت جليا الرغبة في التطهير الطائفي والطبقي لدى النظام. وربما ما جعل الجميع يتوقفون عند هذا الخطاب اعتبار بشار الأسد له، وترويجه من الإعلام الموالي، بوصفه خطاب النصر. من دون أن يشرح، على عادته، معنى كلمة النصر وما هو النصر في الحالة السورية، تاركا للمستمعين له أن يتساءلوا عن أي نصرٍ يتحدث، والبلاد محتلة من أطراف عدة، ومقسّمة ومهشّمة، والمدن ما زالت تدكّها طائرات غريبة، والموت يتنقل من مكان إلى آخر بفعل القذائف الصاروخية مجهولة المصدر، والسلاح ينتشر حتى في المدن الواقعة تحت سيطرته، مخلفا سلالاتٍ من عصابات الإجرام والقتل والخطف خارجة عن سيطرة الجيش والأمن وعن أية سيطرة أخرى، والفقر معمّم على الناس، والفاقة والغلاء والانهيار الإقتصادي وانهيار البنية التحيتة اللازمة لحياة البشر الطبيعين، من كهرباء ووقود وماء وغيرها.

ومازلنا هنا نتحدث عن المدن الواقعة تحت سيطرته، ولم نقترب من المدن الخارجة عن السيطرة بكل ما يحدث فيها، ولا عن ملايين المهجرين في الداخل والخارج، ولا عن المشرّدين وسكان المخيمات، ولا عن أكثر من مليون معاق أو مهدّد بالإعاقة، ولا عن ملايين الأطفال المحرومين من التعليم، ولا عن مدنٍ مدمرة بالكامل، ولا عن التراجع في الحياة المدنية السورية التي تحتاج إلى سنين طويلة لاستعادتها، ولا عن انهيار المجتمع السوري على جميع مستوياته، التشاركية والأخلاقية والنفسية.

سيتساءل المستمعون كثيرا قبل أن يصل إليهم الجواب، والمقصود بالمستمعين له هنا كل من يرى أن المنتصر الوحيد في سورية هو الخراب والدم والدمار، وأن ادّعاء أي طرف الانتصار محض افتراء على الحاضر والمستقبل، وعلى تاريخٍ يسجل ما يحصل ويتركه للأجيال القادمة. أما مؤيدوه من السوريين وغيرهم، فلا يمكن تسميتهم مستمعين، فهم يردّدون البله في كلامه بإعجاب، ويهللون للفاشية حين يتحدّث عنها، إذ كان مذهلا ترديدهم جملته "الاستثنائية" في خطابه: "خسرنا خيرة شباب سورية لكننا ربحنا مجتمعا متجانسا"، وكأنها قول عظيم! من دون أن ينتبهوا، وهم في غالبيتهم ينتمون إلى اليسار العربي أو إلى الأقليات الدينية، أو إلى العلمانيين من الأكثرية الدينية، أن المجتمع المتجانس فكرة فاشية وعنصرية أصلا، تقوم على نقاء النوع، وهي مضادّة للأممية التي يقوم عليها الفكر اليساري، ومعادية للأقليات الدينية التي اعتبرها هتلر، مؤسس النازية، سبب شقاء البشرية، ومعاكسة تماما لفكرة المواطنة التي تتأسّس على التنوع والاختلاف في المجتمعات، حيث لا يمكن تحقيق العلمانية إلا ببناء مواطنة حقيقية تقوم على مبادئ أساسية، أولها العدالة الاجتماعية والديمقراطية وسلطة القانون.

أمام النصف الأول من جملته، وهي خسارة خيرة شباب سورية، كأن مؤيديه غير معنيين بها، فإن كانت سورية قد خسرت خيرة شبابها، وهو أمر حقيقي وليس مجرد كلام يقوله في خطابه، فسورية فقدت، خلال الحرب التي أسس نظام الأسد لها، جيلا كاملا من خيرة شبابها من مختلف الطوائف والمذاهب، فما هو شكل هذا المجتمع المتجانس الذي فقد خيرة شبابه؟ وما هو هذا التجانس الحاصل، والبلد مقسم ومدمر، ولم يعد فيه جيل شاب يمكن التعويل عليه لمستقبله؟ هل فكر مؤيدو الأسد بهذا التجانس الذي يهللون له؟ هل فكّروا فعلا بحجم الكارثة التي تعيشها سورية بفضل نظامها؟ أما بشأن معارضين استهزأوا بمصطلح التجانس، فلنا فيما اشتغلوا عليه من طائفية وتهميش لدور الشباب والمرأة في العمل السياسي السوري خير دليل على (التنوع) الذي تغمرنا به مؤسسات المعارضة، يوما وراء يوم.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٧
كلفة داعش.. السؤال الأخلاقي

على الرغم من الهزيمة التي مُني بها تنظيم داعش في الموصل، والحصار الذي يعانيه اليوم في الرقّة، فإنّ هزيمة تنظيمٍ على هذا القدر من الوحشية والعقيدة القتالية الانتحارية لم تكن بلا كلفة حقيقية، ولا أعني هنا كلفة الطرف الآخر بشرياً ومالياً، أي الجيش العراقي والحشد الشعبي والأكراد والقوى المعادية له في سورية، ومعهم الإيرانيون والجيش النظامي السوري، الذين يقاتلون التنظيم (وإن كانت حتى هذه الكلفة لم تُعلن بنزاهة وشفافية)، بل أعني الكلفة الكبيرة التي دفعتها المجتمعات والبشر المحاصرون في المناطق التي كان، وفي بعضها ما يزال، يسيطر عليها التنظيم.

يتضمن تقرير نُشر قبل أيام في صحيفة واشنطن بوست الأميركية بعنوان "بعد النصر على داعش.. الموصل تكتشف الكلفة: بيوت تتحوّل مقابر"، معلومات وقصصاً مروّعة عن حجم الكلفة البشرية والمادية والدمار الذي لحق المدينة من أجل هزيمة التنظيم عسكرياً، وهي صورة غيّب الإعلام العالمي نفسه عنها، وتمّ التغطية عليها، كي لا نكتشف حجم الكارثة الإنسانية والبيئية التي حدثت.

ويؤكد التقرير غياب أي أرقام دقيقة صحيحة، غير متلاعب فيها، لحجم القتلى المدنيين الأبرياء، الذين كان ذنبهم أنّهم حوصروا بين وحشية التنظيم والوحشية الأكبر لأعدائه، فتمّ دفنهم أحياء في منازلهم أو تحت الركام، نتيجة القصف العشوائي الذي كان يهدف إلى إنهاء التنظيم من دون أدنى حسابٍ لأي اعتبار إنساني أو قانوني أو أخلاقي لوجود المدنيين.

لا تختلف الحال اليوم، بالمناسبة، في الرقة، ونحن ما نزال على أعتاب المعركة، إذ تشير تقارير عديدة إلى مقتل مئات المدنيين والأطفال الصغار، نتيجة القصف العشوائي. وعلى الأغلب إن تمّ سدّ الطرق أمام مقاتلي التنظيم، وحصارهم في الرّقة، كما حدث في الموصل، فسيقاتلون حتى النهاية، ولن يسمحوا بخروج المدنيين، وهكذا سنكرّر كارثة الموصل في الرقّة، وربما في دير الزور.

عند ذلك، أليس من الإنصاف والمنطقي أن نطرح السؤال الأخلاقي، وإن لم يكن فالسياسي والإنساني والعسكري والاستراتيجي؛ أيّ كُلفةٍ كانت أكبر على الناس والمواطنين الذين يزعم العالم أنّه يريد تحريرهم من تنظيمٍ عدمي همجي؛ هل كانت استمرار التنظيم وبقاءه إلى حين تحلّله وتفككه، بفعل الحصار والحرب النفسية والأمنية والمدروسة، أم الكلفة الإنسانية الباهظة التي رأينا جزءاً منها مما حدث في الموصل، وما قد يحدث في الرقّة؟ هل الهدف هو القضاء على التنظيم فقط؛ لماذا؟ وماذا عن الملايين الذين يتم قصفهم مع التنظيم في المناطق التي كان (أو ما يزال) يسيطر عليها؟

إذا كان تنظيم الدولة الإسلامية قتل مئاتٍ، في العراق وسورية، من المدنيين، مثلاً (لا نتحدث عن الأفراد المسلّحين)، وحرّك عمليات انتحارية قتلت مئاتٍ آخرين في مناطق مختلفة من العالم؛ فكم عدد الذين قُتلوا في العراق وسورية من أجل قتل أعضاء من التنظيم، متحصنين في تلك المناطق؟

دعونا نغوص أكثر في السؤال الأخلاقي، غير المطروح من أغلب المثقفين والمفكرين، لو كان التنظيم تحصّن في مدينة أميركية، ومعه آلاف الأميركيين، فهل سيكون التعامل مع الناس بالطريقة نفسها، كما حدث في الموصل، وهل كان الإعلام سيتغافل عن حجم الكارثة الإنسانية المترتبة على أعمال عسكرية بهذا الحجم؟

بالضرورة، كان يُفترض أن يكون إنهاء وجود التنظيم أن يكون أكبر خدمةٍ تقدّم لأهل الموصل والرقة والمناطق التي كانت تحت وحشيته، لكن الطريق التي تمّ من خلالها الأمر كانت أكثر سوءاً من التنظيم نفسه، والبديل الذي ينتظر من تبقوا من الناس هناك أكثر سوءاً ووحشية من التنظيم، وكأنّ الناس تفرّ من الكوليرا إلى الطاعون.

كان من الضروري أن يكون التعامل مع الحرب على التنظيم، بصورة أكثر حضاريةً، وألا يتم تغييب الأبعاد القانونية والإنسانية والأخلاقية، وحتى الإعلامية، لكن ذلك لم يحدث، بل لا نبالغ إن قلنا أنّ الهمجية والبريرية في الحرب على "داعش" تجاوزت بربريته بأضعاف كبيرة، وكلفتها أكبر من كلفة استمراره. وعلى المدى البعيد، ما حدث لم ينه التنظيم، ولم يغيّر من شروط صعوده، بل ربما على النقيض من ذلك تماماً.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٧
تزامن مشبوه بين أمريكا وإيران في سوريا والمنطقة

منذ ثلاثة أشهر أطلق وزير الدفاع الإيراني العميد حسين دهقان تهديدا للدول العربية والإسلامية قال فيه، إنّ هناك محاولات في المنطقة لإضعاف الجمهورية الإيرانية، وقال :»إن على حكام السعودية تذكر مصير صدام حسين، الذي كان غارقاً في العمالة». وقال: «إنّ بلاده أصبحت تصمم وتنتج حاجتها من الصواريخ البالستية وكروز بمدى 300 كيلومتر». وقال: «ليس فخراً للسعودية أن تتحول لمخزن للسلاح الأمريكي» و»إذا ارتكبت السعودية حماقةً لن يبقى فيها مكان آمن غير مكة والمدينة». وقال: «إنّ العراق بعد عام 2003 أصبح جزءاً من الامبراطورية الفارسية، وإنّ لديهم في العراق قوة هي الحشد الشعبي، التي سوف تقوم بإسكات أي صوت يميل إلى التحالف العربي الاسلامي». وقال دهقان أيضا: «إنّ بلاده عادت قوة عظمى وإنّهم أسياد المنطقة».

هذه التهديدات العسكرية من إيران والصادرة من موقع رسمي على لسان وزير الدفاع الإيراني، ليست مجرد تهديدات وإنما ترسم معالم التحالفات العسكرية في المنطقة، وأن هذه التحالفات تقوم على المستوى الأمني والعسكري اولاً، بغض النظر عن المستوى السياسي وتصريحاته، وبالأخص بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإيرانية. فما أشار إليه وزير الدفاع الإيراني هو اعتراف بأن إيران حصدت نتائج الاحتلال الأمريكي عام 2003 للعراق، بأن أصبح العراق جزءاً من الإمبراطورية الايرانية، وأن إيران أصبحت دولة مصنعة لسلاحها الصاروخي، بينما الدول العربية تخزن الأسلحة الامريكية بمئات المليارات، ولا تسمح لها أمريكا بتصنيعها، ولا بإخراج الاحتلال الإيراني من الأراضي العربية، بل إنه يذكر حكام العرب بمصير صدام حسين، الذي قامت امريكا بإسقاطه من حكم العراق بالقوة العسكرية، بعد احتلالها للعراق عام 2003 وإعدامه على أيدي عراقيين، أي ان وزير الدفاع الإيراني يهدد حكام العرب باحتلال أمريكا لبلادهم، وتسليمها لإيران وإعدامهم على أيدي اتباعهم من العرب. وعندما يقول بأنه لن يبقى مكان آمن إلا مكة والمدينة، فهو يقول لن يبقى عربي مسلم حي في الحرب المقبلة، لأن الدمار والقتل سوف يدمر كل شيء، كما فعلت امريكا عند احتلالها للعراق. حديث دهقان كان يبطن التحالف الإيراني الأمريكي، لأن ما يحصل في العراق كان تحالفا إيرانيا امريكيا اعترف به ترامب، بداية بإدانة سياسة اوباما مع إيران في حملته الانتخابية، ولكنه يواصل تنفيذ هذه السياسة التحالفية مع إيران وحرسها الثوري، بل ذهبت سياسة ترامب إلى تحالف أكبر مع إيران بوقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برنامج تسليح فصائل سورية معارضة في الشهر الماضي، فهذا القرار يصب أولاً في مصلحة الاحتلال الإيراني في سوريا، وقد وصف السناتور الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام هذه الخطوة بأنها «ستكون أشبه بالاستسلام الكامل للأسد وروسيا وإيران». وقال: «إن وقف تسليح المعارضة السورية، إذا صح، فإن ذلك سيكون «خسارة كبيرة أولا للسوريين الذين يتعرضون لهجمات بلا هوادة من قبل الأسد، وثانيا لشركائنا من العرب، وثالثا لوضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط». واعتبر أن مثل هذه الخطوة ستعني بالضرورة، منح عاصمة عربية أخرى للإيرانيين. وما يفسر ذلك أيضاً هو سماح الإدارة الأمريكية لحزب الله اللبناني بالسيطرة على معظم الحدود اللبنانية السورية في العمليات العسكرية الأخيرة، والسماح له بالهيمنة على القرار اللبناني سياسيا وعسكريا، وهذا لا يتم من دون موافقة أمنية وعسكرية إسرائيلية أيضاً.

وما يؤكد ذلك أيضاً ان أمريكا سمحت لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي قبل شهر أن يتعاون مع نظام الأسد سياساً وعسكرياً، بل التعاون بتقاسم عائدات النفط في الحسكة وغيرها، علما بأن هذه المناطق تخضع أمنيا وعسكريا للقواعد العسكرية الأمريكية في الحسكة وغيرها، أي أن أمريكا تتعاون مع نظام الأسد بتوفير مساعدات مالية واقتصادية ولوجستية له في شمال سوريا، وهذا لا يكون دون تفاهم امريكي إيراني أيضاً، فالأمر تم وفق اتفاق مبرم بين الجانبين، ينص على أن يحصل نظام الأسد على 65% من عائدات إنتاج النفط في المناطق المذكورة، وتنظيم «ب ي د» على 20%، فيما سيخصص المبلغ المتبقي للقوات العربية المكلفة بحماية الحقول لصالح التحالف بينهما بإشراف امريكي. لذا ينبغي النظر إلى المعارك الأخيرة داخل سوريا، وعلى الحدود السورية اللبنانية، وبالأخص ضد «داعش» على أنها كانت ضمن مساومات إيرانية وامريكية نفذها «داعش» وحزب الله اللبناني، فأمريكا عملت على تزويد هذه التنظيمات الارهابية بالأسلحة بطرق مختلف، وقد ضبط الجيش التركي جنوب شرقي البلاد بندقية لمنظمة «بي كا كا» الإرهابية، أمريكية الصنع، تعود لدفعة الصنع نفسها التي كشفت بأيدي تنظيم «داعش» الإرهابي عام 2014، ما اضطر أمريكا في حينها لإعلان أن هناك أسلحة أمريكية وقعت بأيدي «داعش» عن طريق الخطأ، فأمريكا الداعم الأساسي لـ»ب ي د» تدخل أسلحة بمليارات الدولارات للتنظيمات الإرهابية في سوريا، بينما المدنيون في المنطقة يعيشون أصعب الظروف الإنسانية، بل تُخضع أمريكا إيصال المساعدات الإنسانية لشروط الاتفاقيات العسكرية والسياسية، على طريقة الابتزاز الإيرانية التي ينفذها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في العراق وسوريا. هذه التحالفات التي تجريها أمريكا مع الإيرانيين سرا، ومع الأحزاب الارهابية الكردية سرا وعلنا لن تزيد المنطقة إلا قتلاً ودماراً، فامريكا بإضعافها للدول العربية لصالح إيران، لن يحقق لأمريكا الاستقرار ولا لإيران النصر، كما أن محاولة أمريكا إضعاف تركيا لصالح الأحزاب الارهابية الكردية لن يحقق لأمريكا الاستقرار ولا لحزب العمال الكردستاني النصر، لأن هذه السياسة الأمريكية قائمة على المراهنة الخاطئة والخطيرة، فهي تعلن عن تغيير خريطة الشرق الأوسط ديمغرافيا وسياسياً، رغما عن الجغرافيا الطبيعية، ورغما عن التاريخ العربي، ورغما عن الحضارة الاسلامية، أي انها تسير في خطى معاكسة لمسار التاريخ الطبيعي وسنن الحياة البشرية الطبيعية، فهذه السياسة الأمريكية لا ولن يقبل بها الشعب العربي في الحاضر والمستقبل، ولا الشعب الإيراني ولا الشعب التركي ولا الشعب الكردي، وإنما تستغل امريكا حالة الاضطراب في المنطقة العربية الناتجة عن مخلفات سيئة وضعيفة منذ الحرب العالمية الأولى لتحقيق مصالحها فيها، بينما المستعمر الأول والمنشئ لهذه المخلفات الفرنسي والبريطاني لم يستطع أن يحقق فيها نصرا، وإن استطاع ان يؤخر النصر ويمنع الحرية ويعيق الديمقراطية فيها، أو يبقي الهزيمة على اهلها لأجل محدود فقط، فلسان حال امريكا اليوم لإيران الملالي: نحن نستنزف الدول العربية ماليا، بينما شرط تحالفنا معكم: أن تستنزفوا العرب بشرياً وعسكرياً وحضاريا.

اقرأ المزيد
٢٨ أغسطس ٢٠١٧
فدوى ونساء الثورة

يُذكّرنا رحيل الفنانة فدوى سليمان بالتناقض بين دور المرأة السورية في الثورة، الاستثنائي بجميع المعايير، وتغييبها عن مؤسساتها. ويذكّرنا أيضاً بأنهن ذلك القطاع من المجتمع السوري الذي تخطت أدواره النضال في سبيل التحرّر السياسي من الاستبداد إلى النضال من أجل تحرّر المجتمع والإنسان، كما يتجسّد رمزياً وواقعياً في نساءٍ حملن معناه الشامل والعميق في وعيهن وأفعالهن، ووضعن حياتهن وإبداعاتهن في خدمته، بما هو جوهر ثورة تحرر إنساني لن تفيد منه النساء وحدهن، وإنما يحمل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية إلى كل سوري وسورية، بجهود نساء كثيرات، مثل فدوى ورزان زيتونة وسميرة الخليل وميه الرحبي وسمر يزبك ومي سكاف وسعاد خبيه وفاتن رجب وحسنه الحريري، ومئات آلاف النساء اللواتي غدون رموز تمرد تاريخي، أسهمن في إنضاج أجوائه، وشاركن فيه بكل فدائية وحب للإنسان، وتماهين معه، حتى صارت أسماؤهن تذكّر به، وأضفت ريادتهن له طابعاً سلمياً ومجتمعياً، قاومت أغانيه وأهازيجه ودبكاته رصاص الاستبداد، ونشرت فوقه روحاً إنسانية حملته إلى كل شبر من أرض سورية، وأضفت عليه هوية من طبعنه بطابع حبهن الحميم والحنون للوطن والناس، جميع الناس، فلم يكن ما فعلنه أقل مما فعلته مثيلاتهن ممن أسهمن في صنع ثوراتٍ اكتسبت دلالات كونية كالفرنسية والروسية.

وضعت فدوى الثورة في قلبها وعقلها، فاحتلت قلوب وعقول سوريين بلا عدد، أطلقوا شهقة حزن مؤلمة هزّت كيانهم، عندما أعلن نبأ رحيلها عنهم، فكانت ردة فعلهم الحزينة دليلاً إضافياً على الأثر العميق الذي تركته أمثولتها من عاطفةٍ لازمت ضمائرهم، وعبرت عما بلغته رمزيتها عندهم. آمنت أن الحرية لا تكون لأحد إذا لم تكن لكل سورية وسوري، وأنها بغير ذلك تفقد هويتها. وقاتلت، ليس لتنال حرّيتها بما هي شأن فردي أو شخصي، بل لإيمانها أنها لن تكون حرة إن لم تكرّس وجودها لحرية الآخرين، وأن ثورتها لن تستحق اسمها إذا لم تكن زلزالاً يتجاوز إسقاط الاستبداد السياسي إلى اقتلاع جذره: مجتمع الامتيازات والإقصاء والأحكام المسبقة والتمييز بين المرأة والرجل وبين الطبقات والأديان والمذاهب.. إلخ. ولم يحصّن نفسه بتحرّر الفرد وحمايته من سقوط جديد في عالمٍ ستضيع تضحيات السوريين، إن هم انتصروا على الأسدية ولم يهزموه هو أيضاً. وفي منظور فدوى للثورة، كان أي سوري يساوي أي سوري آخر، وكان الجميع يتعرّفون بمطلبهم: الحرية بمعناها الأشمل والأعمق الذي ينقل المجتمع من واقع موروث مخالف للطبيعة الإنسانية إلى واقع طبيعي/ إنساني من صنع بشر أحرار، مثلها.

رحلت فدوى، لكن أفكارها التي تخطت المألوف لم ولن ترحل، ومثلها أمثولتها الشخصية، وفكرة الحرية التي ألهمتها وتلهم السوريات مطلباً ينبع من فطرتهن التي تدفعهن إلى المطالبة بحريةٍ شاملةٍ تتخطى السياسة، هي وحدها التي تحميهن من مجتمعٍ أمعن في اضطهادهن على مر السنين، وجعل من المحال بالنسبة لهن القبول بحرية مجتزأة أو بنصف حرية، وكيف يقبلن إن كانت أمثولة فدوى وحياتها تخبرهن أن حريتهن ستكون في متناول أيديهن، بقدر ما تكون رهان حياتهن، وتجسيداً لإرادتهن التي لا يجوز أن يسمحن، بعد الثورة، بتغييبها وراء إراداتٍ حجبتها، كتمت أنفاس النساء، وقوّضت وجودهن الإنساني النبيل وحساسيتهن الروحية المفعمة بفيض من الإنسانية.

رحلت فدوى، بعد أن أثبتت بالقول والفعل أن الحرية والمرأة صنوان، وأنها تستطيع أن تتقدّم صفوف من يضحون لأجلهما، كما ضحت هي، وينشطون كما نشطت هي، ويثقون، كما وثقت، بدورها في نيلها باعتبارها حقاً من حقوقها. أبعد هذا، تغيب المرأة السورية عن حريتها، وتغيب فدوى من حياة المرأة السورية ووجدانها؟ وهل يستطيع الموت تغييب من جعلت حياتها شأناً عاماً، يتداخل ويتفاعل مع حياة الملايين من نساء منحت فدوى قضيتهن، قضيتها، عمرها، وجعلتها معنى وجودها واختبار جدارتها، وتعاملت معها بنكران ذاتٍ وسخاء إنساني سيبقي سيرتها في أنصع صفحات تاريخ الحرية.

لم تكن فدوى طيفاً عبر حياتنا ثم غاب عن أعيننا، بل كانت شجرة سنديان سورية ضربت جذورها بعمق في وطنها ووعي ناسه. لذلك سيتفيأ زماننا الآتي ظلها، لكونها من صنّاعه، ولكونه كان وسيبقى زمانها.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٧
عن التزام الهدن في سورية

تتوسّع قاعدة التوافقات الروسية مع فصائل المعارضة السورية المسلحة، يوماً بعد آخر، لتصل إلى كل ما يحيط بدمشق اليوم تقريباً، وذلك بعد أن عقدت اتفاقية خفض التصعيد مع جناحي المعارضة المسلحة في الغوطة، جيش الإسلام وفيلق الرحمن، الإخوة الأعداء الذين قاتلوا في جبهتين متعاكستين، ضد النظام، وضد بعضهما بعضاً، وأسقطا من الضحايا في المعركة بينهما أكثر مما سقط من جيشيهما والنظام معاً في مجمل المعارك التي خاضاها ضد النظام.

وتتابع موسكو جهودها الرامية إلى جعل كامل مساحة سورية ضمن ما يسمى اتفاق خفض التصعيد، وهو الأمر الذي يتغاضى عنه النظام على مضض، على الرغم من الفوائد الجمّة التي تعود عليه، جرّاء خضوع هذه المناطق للهيمنة الروسية، لكن هذه الهيمنة، في الوقت نفسه، يفترض أنها تبعد قبضة المليشيات الإيرانية، وهو الأمر الذي يرى فيه النظام انتقاصاً لإرادته في بقاء هذه المليشيات سندا له، يستطيع من خلالها نقض وعوده حول التزامه وقف إطلاق النار، كما حدث في حلب والقلمون سابقاً، حيث تمت السيطرة على مساحات إضافية غيرّت خريطة مواقع القوات المتقاتلة على الأرض السورية، وبالتالي غيّرت معها خريطة العمل السياسي في جنيف، ومهّدت لما سميت مفاوضات أستانة التي أدخلت إيران طرفا ضامنا للاتفاقات الموقعة مع المعارضة السورية، إلى جانب تركيا وروسيا.

وتلتزم الأطراف جميعها اليوم بأعلى نسبة باتفاقيات خفض التصعيد التي تجري بعيداً عن طاولات التفاوض في جنيف وأستانة، كما لم يحدث سابقاً، في تأكيد واضح أن روسيا هي صاحبة القول الفصل من جانب النظام، بينما تبقى الإدارة الأميركية المحرّك الأساسي للمعارضة. بيد أن هذا لا يعني أن كل ما تقوم به روسيا لا يقع ضمن المساحة المسموح لموسكو التحرّك فيها بإرادة الجانب الأميركي الذي ما زال يراقب السلوك الروسي في سورية للبحث عن تعاون معه في أوكرانيا، وملف العقوبات والدرع الصاروخي وغيرها.

وتعد هذه الاتفاقات "فوق التفاوضية" الوسيلة الأنجع خلال السنوات السبع الماضية في شل آلة القتل التي يستخدمها النظام وحلفاؤه، ضد السوريين، في مناطق الجنوب، وحمص، وتدخل الآن غوطة دمشق الشرقية متضمنة جوبر، التي تم استبعادها في الاتفاق السابق حول الغوطة، في اتفاقيتي خفض التصعيد الموقّعة مع جيش الإسلام في مصر، ومع فيلق الرحمن في جنيف.

وعلى الرغم من تصاعد أصوات معادية لمثل هذه الاتفاقيات، إلا أن الالتزام بها أصبح معياراً لتحديد موقع الفصائل المسلحة المعارضة على خريطة الإرهاب الدولية، حيث تصنف موسكو الفصائل الموقعة على نظام وقف إطلاق النار "معتدلة"، وهي الفصائل نفسها التي كانت روسيا، وقبلها النظام السوري، تدّعي أنها فصائل "إرهابية"، وأن الحرب التي تشنّها قواتهما مع إيران هي حرب على الإرهاب، وليست لوأد ثورة الشعب السوري.

لعل من الأهمية اليوم التذكير أن هذه الاتفاقيات، على الرغم من أنها مقدمة لإجهاض الحل السياسي الذي تنشده المعارضة في وثائقها، منذ تأسيس كياناتها، المجلس الوطني، ولاحقاً الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ثم الهيئة العليا الآيلة اليوم للتجديد أو التغيير، أي إقامة هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، وهذا الحل هو السبيل الوحيد لتخفيف المأساة السورية وحقن الدماء، وإعادة الثورة إلى ما كانت عليه قبل أن تمتطيها الفصائل المدجّجة بالأجندات غير السورية، وقبل أن تصبح سورية ساحة للصراع الدولي والإقليمي والعربي، وصندوقاً للرسائل البريدية بين الدول المتصارعة، والمتحالفة بآن معاً.

التزام النظام بمضمون الاتفاقيات يمهد له الطريق لسيطرة اسمية، وغير مباشرة، على سورية التي لم يضعها ضمن خريطة سورية المفيدة، والتي أحكم السيطرة عليها بالتعاون مع إيران وروسيا. أما التزام الفصائل المسلحة من "المعارضة" فهذا يعني تجنّب أحكام الإبادة التي تنتظر المصنّفين على قائمة الإرهاب، وتحويل هؤلاء المسلحين إلى شرطةٍ تضمن هدوء الجبهات المقاتلة، وربما تضمن كمّ الأفواه الثائرة ضد النظام وأشباهه، حتى ولو اختلفت مواقع السجون التي ستؤسّس وتبعيتها العقائدية.

من هنا، يأتي السؤال بشأن دور المعارضة السياسية الغائبة تماماً، والمكتفية ببيانات الموافقة المشروطة، من دون أن يكون لها أي قوى حقيقية تساعدها في فرض هذه الشروط، أو حتى مراعاتها، ومن دون أن تمهد لذلك بعلاقات وثقى مع الداخل السوري الذي مازال يؤمن بالثورة، لإقامة دولته الديمقراطية، والتي تبعد عنه شبح الاعتقالات، والتغوّل الأمني على حقوق السوريين، باعتبارهم مواطنين أحرارا في بلد يمنحهم حقوق المواطنة.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٧
كيف تنصرون الأقصى إذا لم تنصروا أنفسكم؟

«إن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم المغتصبة أهم وأولى بكثير، من التفاوض على استعادة القدس»، رغم أهميتها الدينية والروحية بالنسبة للفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة. هكذا تحدث الدكتور رمضان شلــّح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في إحدى مقابلاته قبل سنوات. ولا أعتقد أن شلــّح كان يقلل من أهمية القدس بالنسبة للنضال الفلسطيني، لكنه وجد أن القضايا والحقوق الإنسانية يجب أن تحظى بالأولوية كي يكون أصحابها مستعدين لاحقاً للذود عن المقدسات. ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يزايد على الدكتور شلــّح في غيرته على عقيدته ومقدساته.

كم تمنيت أن يكون لدى العرب تلك الواقعية التي عبر عنها الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي. أقول هذا الكلام بمناسبة الضجات الكبرى التي يثيرها العرب كلما تعرض أحد الكتاب للعقيدة الإسلامية أو دخلت الشرطة الإسرائيلية إلى المسجد الأقصى أو منعت المصلين من دخوله، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، كما لو أنهم حلوا كل مشاكلهم الدنيوية، ولم يبق لديهم سوى التفرغ لمقارعة المتطاولين على مقدساتهم.

لا أريد طبعاً أن انتقد تلك الحمية والغيرة الروحية العظيمة لدى العرب والمسلمين في العالم على دينهم ورسلهم، خاصة وأن بعضهم أحب من المال والأهل والوالد والولد والنفس، وهذا مقياس صدق الإيمان، لكنني كم أتمنى لو أنهم يوازنون ويوفقون بين «نخوتهم» العقدية وبين تصديهم للطغيان والاستبداد والديكتاتورية الداخلية والخارجية التي يرزحون تحتها من جاكرتا إلى بغداد. جميل جداً أن يثور المسلم عندما يحاول البعض النيل من عقيدته، لكنه جميل أيضاً أن يكون لديه القدر نفسه من النخوة والاستبسال في الدفاع عن كرامته ولقمة عيشه وحياته وأوطانه وأبناء جلدته في وجه الأنظمة والقوى التي تسومه يومياً شتى أنواع العذاب والانتهاكات. وإلا لاتهمه البعض بالانفصام والكذب والنفاق.

لماذا يثور الملايين ويخرجون إلى الشوارع لاستنكار رسم كاريكاتوري سخيف، ولا يحركون ساكناً ضد كل أنواع القهر والإذلال والقمع ودوس الكرامات التي يتعرضون لها على أيدي أجهزة التنكيل الرسمية في بلادهم؟ لا شك أن الدفاع عن كرامة العقيدة أمر جدير بكل الاحترام، لكن أليس من الغريب أن نتصدى لرسم كرتوني ولا نحس بكل صنوف الظلم والجور التي تحاصرنا داخل أوطاننا من كل حدب وصوب، كما لو أنها قدر محتوم؟

لماذا المقدسات أهم من الحقوق لدينا؟ «أليس لافتاً أن مقدساتنا تتقدم كثيراً في سلوكياتنا على حقوقنا، فلا نعير هذه الأخيرة الأهمية اللازمة، ولا نسعى أو نناضل من أجل تحقيقها أو استردادها؟ هل للشعائر قداسة عندنا أكثر من الحقوق الشخصية، ولماذا؟ أليس للحق في الحياة والحرية والكرامة والعيش الكريم قداسة وأهمية عندنا؟ أليس للأرض، أرض الوطن والأجداد والأحفاد، قيمة واحترام وتقدير؟

إذا كان لكل هذه الحقوق والقيم أهمية وقيمة وتقدير، لماذا لا نشعر بالاستفزاز وبالإهانة عند استباحتها وانتهاكها من قبل الغير، أيا كان؟ لماذا للمورثات أهمية في حياتنا أكثر من المنجزات ؟ لماذا الماضي الغابر يحفّزْنا إلى التحرك أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه؟ كاد الاستعمار الداخلي والتدخل الخارجي ينتهي في كل أنحاء العالم إلاّ عندنا، فلماذا نطيق وطأته منذ مئات السنين ولا نناضل لإزالته عن كاهلنا كما سائر الشعوب الحرة ؟

نتهم الغرب بازدواجية المعايير، وهذا طراز من النفاق، فهل كان الغرب لينجح في منافقتنا لو لم نكن نحن ننافق أنفسنا؟ أليس نفاقاً ان ندّعي الغضب عندما يجرّح أحدهم نبياً أو ولياً أو زعيماً، ولا نشعر بالخجل عندما نمارس نحن شتى أنواع الكذب والنفاق والهوان؟»
لماذا نتعامى عما يحدث لأخوتنا في العراق وسوريا واليمن، ولا نصرخ على الأقل صوتياً، بينما ننزل إلى الشوارع، ونزبد ونرغي، ونحرق الأعلام والأبنية والصور، ونهدد المسيئين للدين بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونطالبهم، صباح مساء، بالاعتذار، لمجرد أنهم قالوا جملة أو جملتين بحق الدين الحنيف؟ أيهما أكثر إلحاحاً الذود عن المقدسات، التي لا يمكن أن يدنسها أو ينال منها رسم كاريكاتوري أو دخول الإسرائيليين إلى الأقصى، أم الحقوق والأوطان المغتصبة والثروات المستباحة من قبل الطغاة المحليين والخارجيين على حد سواء؟ ألم يقدم الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفسطينية قضية اللاجئين على قضية القدس لأنها أكثر إلحاحاً وضرورة؟ ألا يقولون في أدبياتنا العامة إن «الكد على العيال أفضل من العبادة على رؤوس الجبال»، أي أن الهم المادي مقدم على الروحي، على الأقل ريثما يتحقق الأول؟ فكيف ننصر الأعظم إذا فشلنا في نصرة الأصغر؟

لا أعتقد أن الأولياء والأنبياء الطاهرين الذين ندافع عنهم ضد المفترين سيكونون ممتنين لنا كثيراً، إذا ما عرفوا أننا نتعامى عن الظلم والطغيان الواقع علينا وعلى أوطاننا وأخوتنا وأهلنا من الطواغيت «الوطنيين» والاستعماريين.

كيف سيصدقون أننا نذود عنهم ونحن لسنا قادرين على الذود عن أبسط حقوقنا البشرية؟ متى كان العبيد والأقنان سنداً للبشر كي يكونوا عوناً و نصرة للأنبياء والمرسلين؟ واعتقد أن أول ما قد يقولونه لنا هؤلاء المطهّرون: «دافعوا عن أنفسكم وعن حقوقكم أولاً قبل أن تستلوا سيوفكم الخشبية للهجوم على المفترين علينا، فلسنا بحاجة لصراخ الأذلاء والمستعبدين كي يحمينا من سهام السخفاء والقداحين! ذودوا عن مصالحكم وكراماتكم أولاً إذا كنتم صادقين!»

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٧
بشائر «روجافا» السورية: بعثيّة كردية؟

تزايدت التقارير والأخبار مؤخرا حول ما تقوم به الطبعات والتسميات المختلفة لحزب العمال الكردستاني التركي في امتداده السوري، من حزب «الاتحاد الديمقراطي»، إلى «وحدات الحماية الكردية»، و«فدرالية شمال سوريا» (أو روجافا) وصولاً إلى «قوات سوريا الديمقراطية»، وغيرها من مؤسسات تتنكر بأقنعة تخفي أصلها الأيديولوجي وتبعيتها للتنظيم التركيّ، من جهة، وتفصّل ألقاباً ومسمّيات تريد التأكيد، وتشديد التأكيد، على طبيعتها الديمقراطية والفدرالية وانتمائها إلى سرديّات الحداثة والتقدم الغربية.

غير أنه باستثناء تركيز التنظيم، ووسائل الإعلام الغربية المتلقية، على إصدار آلاف الصور التي تظهر نساء جميلات مسلّحات يفترض أنهن يقاتلن في صفوف هذه القوّة الكرديّة، أو تكليف بعض النساء النطق باسم هذه التشكيلات، فإن كل ما يفعله هذا التنظيم المتعدد الوجوه أشبه في عدائه للحريات والديمقراطية والفدرالية وقيم الحداثة والتقدم لخصومه الذين بنى مجده على العداء لهم، ومنهم على سبيل المثال، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان الوجه الأيديولوجي الحاكم لعقود طويلة في العراق وسوريا، وقاد حملات قمع للهويّة الكردية، وبطش بالأكراد، وامتهان لحقوقهم بكل أشكالها.

يذكّر حال التنظيم الكرديّ المذكور بمقولة ابن خلدون عن أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في سائر أحواله وعوائده، أو ما يسميه عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي في كتابه «مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» بـ»التماهي بالمتسلّط»، وأحد أشكاله تحويل عدوانية المقهور إلى الذين يشبهونه، واستخدام العنف ضد الجمهور الذي يدّعي نضاله لأجل تحريرهم.

من ذلك ما قامت به «وحدات الحماية الكردية» (أو ما يسمى الأسايش) في محافظة الحسكة السورية أمس الجمعة حين تظاهر المئات من سكانها ضد فرضها لمناهج دراسة باللغة الكردية على الطلاب العرب، في ممارسة شبيهة بما كانت تفعله قوات الأمن البعثية السورية من منع لتدريس الكرديّة وأحيانا اعتقال من يتكلم بها، بل إن ميليشيا «الأسايش» اجتهدت في تطبيق ممارسات النظام البعثي فقامت بتطويق المظاهرة وفضها بإطلاق الرصاص الحيّ مما أدى لجرح طفلين ثم اعتقلت عددا من الأهالي بشكل عشوائي.

وحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان واستنادا إلى مقاطع مصورة فإن «قوات سوريا الديمقراطية» تمارس عمليات تعذيب وإعدام خارج نطاق القانون بحق المدنيين، ويحمل بعض هذه العمليات، حسب الشبكة، صبغة عرقية، ويظهر أحد هذه المقاطع عملية إعدام بإطلاق النار على رأس شخص مكبّل اليدين يقول أحد العناصر فيه: «هذا مصير كل من يحارب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي»، وحسب الشبكة فإن التنظيم الكردي نشر هذه المقاطع والصور بشكل متعمد ومقصود وذلك لإرهاب المجتمع وتركيعه، وهي إجراءات تتطابق بدورها مع إجراءات النظام الأمني السوري.

على فكاهية التسميات وتعدّدها الكبير فإن التنظيم الكرديّ لا يخفي نزوعه الشديد للتعبير عن سلطته وإظهار قوتها العسكرية والأمنية بشكل جليّ مطابقا بين هذه العسكرة وطقوسها وفكرة الدولة ـ الأمة الكردية (رغم نقده العنيف للنزعات القومية كما تتجلّى لدى خصومه الأكراد في العراق وسوريا وإيران)، وهو في هذا الأمر، لا يفعل، مجدداً غير استنساخ المأساتين البعثيتين، السورية والعراقية، لكن موضوع الاضطهاد وقمع الهوية والتنكيل هذه المرة هم العرب لا الأكراد.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٧
حوار المعارضة في الرياض

أول مرة تلتقي أطياف المعارضة السورية المتباعدة في حوار صريح وجاد دعت إليه الهيئة العليا للمفاوضات التي تمثل مؤتمر الرياض وكان جامعاً لقوى الثورة والمعارضة، ولم تحضره منصة موسكو التي ظهرت برؤية مختلفة عن رؤية مؤتمر الرياض نحو الحل السياسي. أما منصة القاهرة فلم تكن الهيئة العليا للمفاوضات بعيدة عنها، لأن عدداً كبيراً ممن حضروا مؤتمري القاهرة انضموا إلى مؤتمر الرياض ووقعوا على بيانه الشهير، ولكن خصوصيات في الآراء لدى زملائنا في القاهرة استدعت أن يظهر نوع من التباين الطفيف في الموقفين رغم أنهما يتفقان في المنطلق وفي الهدف، وهذا وضع طبيعي في مفاهيم التعددية عامة.

وقد أتيح لي أن أشارك في لقاءات الرياض مع منصتي موسكو والقاهرة، وأن أتعرف مع زملائي في الهيئة العليا إلى ممثلي منصة موسكو، وأن نجلس معاً إلى طاولة حوار وطني يبحث عن رؤية مشتركة للحل السياسي المنشود، ولمستقبل بلدنا. وكنا نبحث عن المشتركات بيننا قبل البحث عن نقاط الخلاف، لأن مساحة المشترك الوطني أوسع من مساحة المختلف حوله، فنحن متفقون حول المبادئ الكبرى المتعلقة بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وبالحفاظ على مؤسسات الدولة وعلى الأمن والاستقرار خشية حدوث أية فوضى في المرحلة الانتقالية. وعلى أن يكون بيان جنيف والقرارات الدولية ذات الصلة وأهمها القرار 2254 مرجعية للمفاوضات. وأما الاختلاف بيننا وبين منصة موسكو فينحصر في نقطتين أولاهما اعتبار منصة موسكو أن إصرار الهيئة العليا على رفض أي دور للأسد في المرحلة الانتقالية وفي مستقبل سوريا هو شرط مسبق (وهذا موقف روسيا المعلن)، وثانيهما إصرار منصة موسكو على أن يستمر العمل بدستور 2012 في المرحلة الانتقالية، بينما ترى الهيئة العليا أن هذا الدستور لا يصلح أن يكون مرجعية للانتقال السياسي، ولابد من إعلان دستوري، تليه مرحلة الإعداد لدستور جديد يقره الشعب السوري.

وللأسف انتهت اللقاءات دون التوصل إلى اتفاق، وقد أعلنا أن الحوار سيستمر حتى نصل إلى رؤية موحدة، تسمح بتشكيل وفد موحد، في حين طلبت منصة موسكو تشكيل وفد (واحد غير موحد) وهذا ما يجعل فريق التفاوض مشتت الرؤى، ومتناقض المطالب.

وما يدفعني إلى الإفصاح عما دار في اجتماعاتنا في الرياض ضرورة مصارحة الشعب بكل ما يدور حول قضيته، فهو المرجعية الكبرى لرؤية المستقبل السوري، وقد سبقنا إلى ذكر التفاصيل متحدثون باسم منصة موسكو قدموا الوقائع من وجهة نظرهم، وهناك من اتهم الهيئة العليا بأنها كانت معوّقة للاتفاق، وهذا يفترض أن من لا يوافق على رؤية منصة موسكو فهو يشكل عائقاً وربما يسمى متشدداً وغير معتدل.

إن إصرارنا على ألا يكون للأسد دور في المرحلة الانتقالية هو استحالة أن يقبل الشعب بأن يكون هذا الانتقال المنشود من عهد الأسد إلى عهد جديد للأسد، وأن تصير مهمة المعارضة منح الأسد شرعية جديدة، ونحن لا نرى الحديث عن رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية شرطاً مسبقاً، فهو صلب موضوع التفاوض، وقد قامت الثورة تطالبه بالإصلاح (ونحن شهود المرحلة) ولكنها تحولت إلى ثورة ضده منذ أن أمر بقتل المتظاهرين. وثمة استحالة واضحة في إمكانية ومصداقية أن يقود الأسد ذاته مرحلة انتقال سلطته إلى التغيير الكامل والشامل والعميق، وأن يؤسس للديموقراطية وللحرية والكرامة وهو الذي دمر سوريا وشتت شمل شعبها وهو يفخر اليوم بأن النسيج الاجتماعي فيها صار أفضل بعد أن هاجر أكثر من ثلثي الشعب، وبعد مليون شهيد ومقتول ومئات الآلاف من المعتقلين والمعوقين وبعد دمار المدن الكبرى في سوريا، وبعد أن استقدم الاحتلال إلى سوريا، وأفقدها السيادة.

إننا ندرك أن هناك متغيرات دولية تفترض انحناءة أمامها، ولكننا لا نملك حق التنازل عن أهداف الشعب، والمتغيرات قابلة لأن تتغير أيضاً، وقد أسعدنا أن تكون منصة القاهرة أقرب إلينا، مع حرصنا على أن يتفهم الإخوة في منصة موسكو دوافع موقفنا، ونرجو أن نقترب معاً من رؤية مشتركة تسمح بتشكيل وفد موحد، وأن يكون هدفنا إنقاذ سوريا وليس إنقاذ الأسد وضمان استمرار رئاسته، ونظراً لفقدان الثقة فإن الهاجس الذي يخشاه شعبنا هو أن تبدأ التنازلات خطوة خطوة، فيطلع علينا من ينادي بحق الأسد في الترشح لانتخابات الرئاسة وبيده كل القوى أمام شتات من تنافس المرشحين الضعفاء، وأن نجد سوريا أخيراً، لاسمح الله، لقمة سائغة في فم المشروع الفارسي الذي يحلم بالاستيلاء على مقدرات الأمة كلها.

اقرأ المزيد
٢٧ أغسطس ٢٠١٧
حروب ترامب ... لا باردة ولا ساخنة!

تهديد الرئيس الأميركي بالتدخل العسكري في فنزويلا ليس من النوع الذي يمكن التعاطي معه باستخفاف، إذ أتى ليكمل حلقة من التهديدات شملت سورية وإيران وكوريا الشمالية، ومن السذاجة تخطي حقيقة أن ترامب أصبح بحاجة، بعد تراكم تلك التهديدات، إلى استخدام العصا التي يلوح بها في واحدة من هذه الساحات أو في غيرها.

وفي ظل تولي البنتاغون صدارة التعامل مع الأزمات الناشئة بعد تباطؤ انتاجية الديبلوماسية في معظم بؤر التوتر حول العالم، تذهب استراتيجية الإدارة الحالية باتجاه البحث عن عمل يظهر تحكم الولايات المتحدة بالقرار الدولي ويفضي إلى تحقيق نتائج الحرب من دون خوضها.

نموذج التفاعل مع الأزمة في كوريا الشمالية أدى جزءاً من هذه المهمة وكشف جدية التهديد الأميركي باستعمال القوة. التعلم من دروس الحرب العالمية أفضى إلى انتشار أميركي غير مسبوق في تلك البقعة من العالم، وأي حرب قادمة قد تبدأ من حيث انتهت الحرب الثانية، هذا ما قالته الآلة العسكرية لإدارة ترامب، وهو ما أوقف لحد الآن إمكانية الانزلاق إلى الحرب.

وقد تضغط الأزمة مع كوريا الشمالية باتجاه إعادة أخذ الاستراتيجية الأميركية باتجاه المحيط الهادئ فيما إذا تفاقمت، وعين ترامب على تعديل الموازين التجارية مع الصين وفق قواعد جديدة تقع العراضات العسكرية في صلبها. طبعاً التحدي الكوري الشمالي يمس الأمن القومي الأميركي بصورة مباشرة ويطاول عمقه الحيوي وأمن حلفائه، وبالتالي فمبررات التدخل الاستباقي هناك لا تحتاج إلى مقدمات كثيرة.

أما استتباب الأمر في الهادئ من دون اللجوء إلى عمل استباقي فهو لا شك ينعكس على معادلة التوازن الدولي برمتها، بخاصة مع روسيا في أوروبا والشرق الأوسط. فمنذ تبوؤ الرئيس ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية قبل مئتي يوم تقريباً قدم الروس سلسلة خطوات تؤهلهم كي يجددوا التفويض الذي أخذوه من أوباما في ملف الكيماوي في سورية، وقد أتت تجربة المناطق المنخفضة التوتر لكي تريح ترامب من وعده بإنشاء مناطق آمنة وتخفف عنه ثقل حمايتها ويتفرغ لمحاربة داعش. وما نقص من الود المفترض بين ترامب وبوتين في الساحة الدولية فاض بينهما في الساحة السورية باعتباره استكمالاً لسياسة الإدارة السابقة وليس تحولاً يُبنى على تواطؤ مع الروس كشفته الانتخابات الأميركية.

بالتوازي، فنقطة الارتكاز في الاستراتيجية الروسية تبقي على أولوية أوكرانيا ووظيفة تلك البوابة في فرض ستاتيكو اقتصادي وسياسي على أوروبا. وقد شرع ترامب في فتح الحوار حول أوكرانيا بعد تعيينه لكورت فولكر موفداً خاصاً للولايات المتحدة لتطبيق اتفاقات مينسك ومتابعة الحوار مع الروس. وفوكلر واحد من الصقور الذي ارتدى، فور تعيينه، درعه الواقي للرصاص وجال على خطوط التماس وأعلن مسؤولية روسيا عن تأجيج الحرب في شرق أوكرانيا.

حزمة العقوبات الأميركية الأخيرة وحّدت موقفي روسيا وإيران تجاه المخاوف من تصعيد إدارة ترامب. وفي الوقت ذاته دفعت الأوروبيين إلى التقارب مع روسيا في شأن الإمداد النفطي للقارة، وإلى الضغط لتعديل بعض البنود في قائمة العقوبات الأميركية المتعلقة بالشركات التي تعمل على جر الطاقة من روسيا، وقد نجحوا، بخاصة بعدما تصاعد الكلام عن أهمية السوق الأوروبية للغاز الأميركي الفائض للتصدير! وأظهرت سلة العقوبات الأميركية الأخيرة أهدافاً أميركية مبيتة بهذا الاتجاه.

وبينما أطلقت روسيا على مناوراتها العسكرية في السنوات السابقة مسميات من قبيل مناورات «الشرق» و «المركز» و «القوقاز»، تتحضر هذا العام لإطلاق أضخم حشد عسكري لمناورات تجريها تحت مسمى «الغرب 2017» وتحشد لها حوالى مئة ألف عسكري. هذا الانتقال من الشرق والوسط إلى الغرب يتزامن مع طموح روسيا لتعبئة الفراغ الذي تتوقعه في النظام العالمي وتطلق عليه «عالم ما بعد الغرب». وذلك من شأنه أن يدلّل على الوجهة الاستراتيجية الرئيسية، أو بالأحرى «العقدة» الرئيسية لاستراتيجيتها وهي الغرب.

طبعاً من الصعب أن تنجح روسيا في لعب دور الشرطي في الغرب كما نجحت في لعب هذا الدور على الساحة السورية، لكنها تطل من زاوية القدرة على إدارة الجماعات التي تأخذ بالنفوذ الروسي عليها في دول المعسكر الشرقي سابقاً.

وريثما ينضج الحوار الحقيقي بين الولايات المتحدة وروسيا حول أوكرانيا، فالعالم يقف أمام توليفة فريدة من العوامل والانفعالات التي قد تؤدي في لحظة من اللحظات إلى نشوب حرب، لكن في المقابل فإن نماذج القادة في عالم اليوم ليسوا بعد فاقدي السيطرة إلى هذا الحد، فنموذج ترامب لا تحكمه فقط التعبيرات الكلامية أو النيات الجامحة، إنما أيضاً إحاطات جنرالاته العسكريين. أما نموذج كيم جونغ أون فلا تحكمه انفعالات هستيرية تذهب إلى حد التلويح بضرب الولايات المتحدة إنما أيضاً المظلة السياسية التي تؤمنها له كل من الصين وروسيا.

اقرأ المزيد
٢٦ أغسطس ٢٠١٧
بشار الكيماوي «يتجانس» مع كيم

في خطابه الأخير، يبدو بشار الأسد، الفاقد الشرعية، فرحاً لنجاح سعيه في تحويل سورية إلى «كوريا شمالية» أخرى، حيث المواطنون أشبه بـ «روبوتات» بشرية، ليس مسموحاً لهم التفكير أو الخروج على تعاليم «الزعيم الأوحد» أو الاستماع إلى ما عداها، ومصيرهم مرهون بمزاج الحاكم ورغباته. فإذا غضب حلت اللعنة على من يصادفه حتى لو كان من أقرب جنرالاته، وإذا افترت شفتاه عن سماجة اضطروا للضحك والتصفيق وإبداء الإعجاب.

ويسوم الحفيد كيم مواطنيه أسوأ أنواع الامتهان، فلا يكتفي بالإعدامات العشوائية الغريبة التنفيذ، بل يجبرهم على الانصات يومياً إلى نشرة أخبار وحيدة يخصص أكثر من نصفها للتمجيد بإنجازاته ونصفها الآخر لعرض نشاطاته «المقدسة»، ويلزمهم حفظ ألقابه التي بينها «الشمس الساطعة للقرن الحادي والعشرين»، فيما هم يتضورون جوعاً ويعيشون على فتات الصينيين وبعض المساعدات من أقرانهم الجنوبيين.

ويهدد كيم «الخونة» من مواطنيه بتلقي «رصاصة في الرأس» ويشبه الأميركيين والغربيين بـ «الجرذان المرتعبة التي سيفنيها القائد العظيم».

ويبدو أن حاكم دمشق في الطريق «الصحيح» نحو تمثله بحاكم بيونغيانغ و «الارتقاء» إلى مصافه، فهو أيضاً يصف معارضيه السوريين بأنهم «حثالة» و «عبيد» و «بلا وزن، وأدوات تستخدم لمرة واحدة ثم تلقى في سلة المهملات»، من دون أن تفوته الإشارة إلى نجاحه في «إفشال مشروع الغرب الذي يعيش أزمة وجودية(...) ويعميه الغرور»، علماً أنه بالتأكيد بزّ مثاله الأعلى في بعض أساليب التعذيب والبطش الجماعي.

وعلى خطى أبيه، استعان الأسد الابن بـ «آل كيم» في بناء وتطوير ترسانته الكيماوية والصاروخية التي لم يتردد لحظة في استخدامها ضد المدنيين في المدن والقرى التي احتضنت المنتفضين على عسفه. ولعله من حسن حظ السوريين أنه لم يستطع إكمال مشروع المفاعل النووي الذي كان الكوريون الشماليون والإيرانيون يبنونه في الكبر، قرب دير الزور، وإلا لما تورع عن رشقهم بما تخصب لديه، لو ضَمِن أنه يقتل.

ومع حلول الذكرى الرابعة لمجزرة الغوطة التي قصفها بغاز السارين في آب (أغسطس) 2013، قال تقرير للأمم المتحدة إنه جرى خلال الأشهر الستة الماضية، اعتراض شحنتين مرسلتين من بيونغيانغ إلى وكالة تابعة للحكومة السورية مسؤولة عن برنامج الأسلحة الكيماوية. وأوضح خبراء المنظمة الدولية أن الجهة المرسلة إليها الشحنتان كيان سوري يعمل بمثابة «واجهة» لمركز جمرايا «للأبحاث العلمية» الذي سبق أن تعاون مع هيئة كورية شمالية مماثلة له في نقل مواد محظورة دولياً إلى سورية.

في خطابه، قال الأسد أيضاً إن بلاده «خسرت خلال سنوات الحرب خيرة شبابها، فضلاً عن تضرر بنيتها التحتية، لكنها كسبت في المقابل مجتمعاً صحياً متجانساً». وهذا التجانس الذي يتفاخر به ويدعو إليه، هو في أساس قيام الديكتاتوريات والأنظمة الفاشية والنازية التي تقول بتفوق عرق على آخر، وقومية على أخرى، وجنس على آخر، وتدافع عن فكرتها بالعنف والإكراه. لكن بشار الذي قال عنه بعض الإعلام الغربي السطحي عندما ورث والده إنه «ذو ثقافة غربية»، إنما «يتجانس» فقط مع كيم ومن شابهه، مثل مادورو الفنزويلي أو الجماعات الأميركية والأوروبية المدافعة عن تفوق العرق الأبيض، وهم من «محبيه ومريديه».

يبقى أن بشار المتفائل بإمكان استكمال خطة «النقاء المذهبي» المشغولة بأفكار وأيدي «الحرس الثوري» و «حزب الله»، لن يهنأ طويلاً بـ «إنجازاته»، فأسياده الإيرانيون والروس من الشطار في المساومة والبيع والشراء، وهم حاضرون اليوم في «سوق الشرق الأوسط» التي يعيد ترامب هندستها، ولن يضيرهم مبادلته في أي صفقة إذا كان الثمن معقولاً.

اقرأ المزيد
٢٦ أغسطس ٢٠١٧
نتانياهو يبحث عن ضمانات أميركية - روسية لمواجهة إيران

بينما كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو يحمل الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود معارضة إسرائيل «مواصلة إيران ترسيخ وجودها في سورية» لتعزز قوس نفوذها من الخليج الى البحر المتوسط، كشفت وكالة «أسوشييتد برس» أن آلاف العناصر الموالين لإيران واصلوا تقدمهم شرقاً في البادية السورية محققين لطهران، للمرة الأولى، بداية ميدانية لذلك «الممر» الأرضي الذي يصل إيران بالبحر المتوسط عبر العراق وسورية ولبنان. نتانياهو ليس جاهلاً للمباركة الأميركية - الروسية الصامتة لقطف طهران استثماراتها في سورية منذ دخلت الحرب فيها قبل 6 سنوات عبر تثبيت سيطرتها الجغرافية على الممر المسمى «الجائزة الكبرى». هدد نتانياهو وتوعَّد وحذر بأن إسرائيل مستعدة للتحرك منفردة لمنع إيران من ترسيخ وجودها العسكري الموسع في سورية، إنما ما كان يفعله واقعياً هو التموضع في مستقبل الصفقات الإقليمية والدولية في سورية وبالذات الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة وروسيا ببعدها الإيراني من الجغرافيا العربية وموازين القوى الإقليمية. استفادة المستثمرين في الحرب السورية، مثل إيران، ستشمل الربح من عملية إعادة البناء، لكن لطهران استثمارات أوسع أفقاً في كل من سورية والعراق ولبنان غايتها ضمان الدور الأساسي لها في مستقبل الشرق الأوسط وفي معادلات التحالفات الإقليمية الناشئة. إسرائيل من جهتها واثقة تماماً من أن التفاهات الأميركية- الروسية ستأخذ دائماً في حسابها المصلحة الإسرائيلية بما يحفظ استمرار تفوق إسرائيل وضمان أمنها في الشرق الأوسط، إلا أن ما دعا نتانياهو للتوجه الى بوتين للمرة الثانية منذ مطلع السنة هو إقراره بأن رجل الكرملين يمسك مفاتيح منطقة الشرق الأوسط وإدراكه أن واشنطن أرادت له أن يفعل. التوسّع الإيراني يشغل بال إسرائيل لكنه لا يشكل لها هلعاً. نتانياهو يتمركز ويتموضع ليكون حاضراً في صورة المقايضات والمساومات والتسويات التي تُصنَع في الجغرافيا العربية، بدءاً بسورية والعراق وصولاً الى لبنان. تركيا وإيران تفعلان الشيء ذاته، إنما ميدانياً، وهما تتمسكان بإنجاز الانتماء الى مثلث الضامنين للهدنات الذي يضمهما الى روسيا الفاعل الأول في سورية بتأشيرة أميركية. أكثرية الدول العربية شبه غائبة عن الترتيبات الإقليمية والدولية التي تتم عبر سورية، لكنها تسعى لأن تكون حاضرة في الساحة العراقية التي غابت عنها لسنوات عدة. فالدول الخليجية منشغلة بحرب اليمن كما بالخلافات بسبب الأزمة القطرية. الأردن وحده له دور مباشر في المشهد السوري في هذه المرحلة بعد انحسار الأدوار الخليجية في سورية، فيما لمصر الدور الذي تريده لها روسيا في سورية بالذات عبر النفوذ مع أقطاب في المعارضة السورية. فالقيادة الميدانية والسياسية والاستراتيجية ترسخت لمصلحة روسيا في سورية بإيماءات موافقة أميركية.

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يتقن لغة السيطرة على مسار الديبلوماسية المتزامنة مع التطورات الميدانية. فهو رجل براغماتي يستخدم «سحره» الشخصي ليؤثر في سيكولوجية الأصدقاء والأعداء الذين يجلسون أمامه إما للتفاوض أو لتلقي الإملاءات أو للتعارك أو لصنع المقايضات والصفقات. إنه اليوم يدير ملفاً يكرهه هو ملف المعارضة السورية، وهو يجري الاتصالات مع السعودية ومصر لدفع جهود تشكيل وفد معارضة موحّد من «المنصات» الثلاث، أي منصة القاهرة، وموسكو، والهيئة العليا للمفاوضات. فشل لقاء المعارضات السورية في اجتماع الرياض هذا الأسبوع سببه الاختلاف بينها على مصير بشار الأسد في العملية السياسية التي تلي «الانتهاء» من الحرب في سورية، وهذا يثير المزيد من ازدراء وكراهية لافروف لملف المعارضة السورية التي لا يكن لها الاحترام، باستثناء تلك التي تنتمي إليه وموقعها موسكو. فمصير الأسد، بالنسبة الى روسيا، ليس حديثاً له أولوية الآن. فأولويتها ميدانية.

في هذا المنعطف من الحرب السورية، تركز روسيا على الاتفاق مع تركيا على إقامة المنطقة الرابعة من مناطق «تخفيف التصعيد» أو «الجيوب الهادئة» في إدلب، ولقد أجرى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مع نظيره التركي سادات أونال مشاورات للتوصل الى اتفاق. سيرغي لافروف أشار الى تواصل المشاورات مع تركيا وكذلك مع إيران حول الوضع في إدلب مشيراً الى تعقيدات. هذه التعقيدات لها علاقة بالعقَد الإيرانية - التركية وتراوحها بين العداء المذهبي والأيديولوجي وبين الشراكة الاضطرارية إما ضمن المثلث الروسي- التركي- الإيراني الضامن لوقف النار، أو لصد الطموحات الكردية. على الساحة الميدانية، تركز روسيا على دير الزور وهي تعتبر معركتها نقطة تحول أساسية في الحرب على «داعش». إيران من جهتها تركز على تثبيت نفسها في البادية السورية وتشق الممر لترسيخ القوس أو الهلال. أما تركيا، فأولويتها منع الأكراد من تثبيت مكاسبهم في الجغرافيا السورية القريبة من الحدود التركية.

عنصر الكرد هو قاسم مشترك بين تركيا وإيران على رغم نفي «الحرس الثوري» الإيراني تنفيذ أي عمليات خارج حدود ايران بعدما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدث عن اتفاق تركي- إيراني لتحرك عسكري محتمل ضد «حزب العمال الكردستاني» وحليفه الإيراني «حزب الحياة الحرة لكردستان». ولقد تردد أن ما يريده أردوغان هو إنشاء تحالف إقليمي مثلث يضم تركيا وإيران والعراق، وفي باله احتواء الطموحات الكردية القومية.

تلك الطموحات تتمثل حالياً بإصرار الزعامة الكردية في العراق على إجراء استفتاء على استقلال إقليم كردستان تعارض الولايات المتحدة توقيته. رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، كان أكد أنه لن يؤجل التصويت «دقيقة واحدة» فيما كان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس يؤكد أهمية وحدة العراق وسيادته على كل أراضيه. وفيما كان مندوب الرئيس الأميركي إلى بغداد بريت ماكغورك يقول إن الاستفتاء «سيكون كارثياً».

كثير من أصدقاء الكرد الذين يتفهمون طموحاتهم القومية حذروا من تحمل الكرد مسؤولية المبادرة الى تقسيم العراق إذا أصروا اليوم على استفتاء الاستقلال في 25 أيلول (سبتمبر) المقبل. آخرون تخوفوا من تأثير الانشقاق الكردي على استراتيجية هزيمة «داعش» في العراق. بعد زيارة ماتيس كردستان، صدر كلام عن مكتب بارزاني أوحى بمرونة ما، إذ قال المستشار الإعلامي إن الاستفتاء لن يؤجَّل إلا ببديل «والبديل هو ضمانات دولية يوقعها كل الأطراف، خصوصاً الأطراف الرئيسية المتمثلة ببغداد والولايات المتحدة، وحتى تركيا وإيران، وهذه الضمانات تكون مكتوبة وتحدد يوماً آخر أو موعداً آخر للاستفتاء وتتعهد باحترام نتائجه».

مواقف ادارة ترامب له تأثير بالضرورة، فهذه في نهاية الأمر الولايات المتحدة الاميركية. إنما الثقة بأميركا تتآكل باستمرار نظراً للرجوع عن التعهدات والوعود أمام مقتضيات المصالح القومية الأميركية. فلا أحد يشعر بكامل الأمان في العربة الأميركية، لا الكرد ولا الأتراك ولا الإيرانيون ولا العرب. حتى إسرائيل المدللة لدى الولايات المتحدة وهي الحليف النوعي الدائم بغض النظر عن الإدارات والرئاسات، تجد نفسها مضطرة للتوجه الى روسيا للفهم والتفاهم والتفهم لأن الأجواء الأميركية مفعمة بالانقسام والتناقضات وعدم الثبات.

فواشنطن حليف للكرد في سورية في إطار محاربة «داعش»، ذلك الاختلاق الدولي الذي حوّل الثورات إرهاباً وساهم جذرياً في بقاء التسلط في السلطة. وحالما يتم إنجاز القضاء على إرهاب «داعش» وأمثاله في سورية والعراق، يزعم الأميركيون والروس والممثلون الدوليون على السواء، بأن القوات الأجنبية والميليشيات والحشود الشعبية ستخسر حينذاك «منطق» البقاء. وهكذا ستنتهي حرب سورية وحرب العراق بأراضٍ موحدة محررة من الإرهاب جاهزة لعملية سياسية ودستور جديد وشراكة في الحكم تأتي بيوم جديد برّاق كما يزعمون. أما ماذا يفعلون، فالإجابة ميدانية في الجغرافيا العربية.

«لجم» إيران أو»كبح» مشروعها المتمدد في الجغرافيا العربية، وصولاً الى إسرائيل، هو ما حمله بنيامين نتانياهو الى فلاديمير بوتين بعدما كان وفد استخباري أمني إسرائيلي حمل الرغبة الإسرائيلية ذاتها الى واشنطن. كلاهما عاد بطمأنة «منطق» زوال الذريعة العسكرية لدى إيران بعد الخلاص من»داعش» وما يليه من تفاهمات إيرانية- إسرائيلية تضمنها الشراكة الأميركية- الروسية.

جزء من هذه التفاهمات يترسخ حالياً في هضبة الجولان حيث تم إبعاد إيران ميليشياتها على بعد كيلومترات فيما تريد إسرائيل ترسيخ الأمر الواقع لبلعها الجولان بكامله كي لا يعود حديث استعادة سورية إياه، لا عبر المفاوضات ولا عبر المقايضات. السفير الإسرائيلي في موسكو تهكَّم على الذين يتحدثون عن إعادة الجولان المحتل الى سورية، معتبراً حتى الكلام عن الأمر نكتة.

إنما إسرائيل تريد الضمانات الأميركية- الروسية الاستراتيجية التي لا تتوقف عند تحييد الجبهة السورية على حدودها الشرقية والجبهة اللبنانية على حدودها الشمالية عبر قوات دولية موسعة الصلاحيات مهماتها ضمان السلام عبر استبعاد تام لخيار الحرب. تريد ضمانات أميركية- روسية تنبثق من المفهوم الإسرائيلي الجديد بأن «لإيران حدوداً مع إسرائيل، إنما ليس لإسرائيل حدود مع إيران».

مثل هذه الضمانات الاستراتيجية الدولية يتطلب تفاهمات ثنائية بين اللاعبين الأقوياء في موازين التوازن الإقليمي- إيران وإسرائيل. وهذا هو تماماً ما يتم فعلياً وعملياً وما سعى نتانياهو عندما زار بوتين في سوتشي الى تأكيد أهمية استمراره وليس الكلام للاستهلاك الذي توعَّد بالتحرك بانفراد لمنع التوسع الإيراني في الجغرافيا العربية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني