الدولة اللبنانية في طريقها إلى التحلل، أو في الحقيقة ما تبقى منها. أهم مظاهرها حكومة مغلوب على أمرها. عاجزة عن اتخاذ أي قرار ليصبح القرار بيد الأقوى. فكيف إذا كان مسلحاً! هي واحدة من أفشل تجارب حكومات "الوحدة الوطنية" التي تحشر فيها جميع القوى، تأجيلا للخلافات والتكاذب والتظاهر بالتوافق والتفاهم. حكومة يريد كل طرف منها عكس ما يريده الآخر. أمر واحد فقط يجمعهم هو السمسرات والصفقات. حكومة تُقاد من الخارج، أي خارج. حكومة وضع لها رئيسها، سعد الحريري، عنوانا ومهمة شبه مستحيل تحقيقها هي "استعادة الثقة". في حين باتت ثقة اللبنانيين يأساً واستسلامًا للقدر عبر تعلقهم بالجيش، وبعصبياتهم المذهبية والزعاماتية.
قضم سلطة الدولة قائم ومتدرج ومستمر منذ أكثر من عقد. يوم تحرّر الجنوب في مايو/ أيار 2000، وتحول حزب الله إلى الداخل، وإصراره على الاحتفاظ بسلاحه. وبعد جريمة اغتيال رفيق الحريري، واضطرار بشار الأسد لسحب الجيش السوري من لبنان، تقدم لملء الفراغ كمليشيا مسلحة، تهدد ساعة تشاء وتروّض ساعة تشاء، وتراوغ أو تهادن ساعة تشاء. وهذا الدور بات يجيده حزب الله بشكل أفضل، بعد أن ولج عتبة الحكم، وأخذ يشارك في الحكومات. بوزير أو اثنين لا فرق. حتى ولا أحد. لا يحتاج ما يريد أن يفرضه أكثرية أو قوة الإقناع والمنطق. وإنما يحتاج رهبة السلاح ووهجه، فالقرار يؤخذ في الميدان، كما حصل في يوليو/ تموز 2006. أو عندما احتل، في نهاية ذلك العام، وسط بيروت سنة ونصف السنة لإجبار الحكومة على الاستقالة. أو عندما غزت مليشياه العاصمة في 7 مايو/ أيار 2008 لإجبار الحكومة على التراجع عن قرارات اتخذتها. أو عندما أسقط حكومة سعد الحريري عام 2010 التي كان له فيها وزيران من أصل ثلاثين، فيما كان الحريري يدخل البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وغيرها من محطات ومظاهر قضم لسلطة الدولة. وأحيانا، لا يحتاج حزب الله أكثر من التلويح بما يريد.
وبالأمس، كانت معركة جرود عرسال التي قرّر حزب الله خوضها لأسبابٍ لم تفرضها تطورات ووقائع لبنانية داخلية، وإنما إيرانية وسورية. هو اتخذ القرار، وهو ذهب إلى المعركة. وهو من قرّر فجأة اللجوء إلى التفاوض مع من يعتبرهم إرهابيين، ومع من رفض على الدوام التفاوض معهم. والأنكى من ذلك، وفي تحدٍّ لهيبة الدولة اللبنانية، وقرار حكومتها، باتباع "سياسة النأي النفس" عن الحرب في سورية، بادل مع جبهة النصرة عناصر له تم أسرهم خلال قتالهم ضد الشعب السوري. وقام بتسلمهم في احتفال شارك فيه أحد رموز الدولة وسلطاتها الأمنية مدير جهاز الامن العام اللبناني! وذلك كله والجيش اللبناني كان يقف مسعفاً متفرّجاً، فيما دفعت إيران المتوجسة من الاتفاق الروسي- الأميركي إلى إنشاء "منطقة خوض التوتر" في جنوب سورية، وبالتنسيق مع موسكو وواشنطن دفعت حزب الله إلى خوض معركة "تنظيف" جرود عرسال (السنّية) من طريق الشريط الساحلي لدويلة بشار الأسد.
الخطوة الثانية على طريق إعادة الاعتبار لشرعية سلطة الأسد أن يعود لبنان إلى حضن النظام السوري، فقد بدأت الضغوط تتصاعد وتزداد لإجبار الحكومة على فتح خط تواصل رسمي مع النظام في دمشق. وهذا ما انبرى له حسن نصرالله، قبل أسابيع، مطالبا الحكومة بالتفاوض مع حكومة دمشق، بحجة تنظيم عودة النازحين السوريين الذين شرّدهم الأسد وهجّرهم. وقبل أيام، انضم إلى الحملة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، مؤكدا من طهران (!) على ضرورة إعادة العلاقة مع دمشق الى ما كانت عليه قبل 15 مارس/ آذار 2011، أي يوم اندلعت الثورة الشعبية في سورية. ويبدو ان "الثنائي الشيعي" مصمم على إحراج رئيس الحكومة، سعد الحريري، عبر إعلان وزراء في حكومته القيام بزيارات رسمية إلى دمشق. علماً أن مثل هذه الزيارات تحتاج موافقة مجلس الوزراء. وكادت المسألة أن تفجر الحكومة من الداخل، قبل أيام، عندما طرح الأمر في جلسة لمجلس الوزراء. وعلى الرغم من ذلك، أعلن الوزير من حزب الله، حسين الحاج حسن (وزير الصناعة) أنه سيذهب إلى دمشق ل"المشاركة في معرض إعادة إعمار سورية"، وعلل ذلك بأنه تلقى دعوة من نظيره السوري. وهكذا، أعلن زميله وزير المال الذي ينتمي إلى حركة أمل. ويقال إن هذا الإخراج تم استنباطه "تفاديا للإحراج" في أثناء زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد الأمير اللهيان، الأسبوع الماضي إلى بيروت.
ما هو مصير مجلس الوزراء، وهل سيبقى "غائبا عن السمع"، إن لم نقل في كل شيء، فأقله في الخيارات الكبرى التي لها علاقة بمصير البلد، فالاستعدادات على قدم وساق تحضيراً للمعركة التي سيخوضها الجيش ضد مواقع "داعش" المحصّن في المقلب الآخر من الجرود لجهة رأس بعلبك، فخطوات حزب الله، في معظمها، مدعومة ومغطاة من رئيس الجمهورية ميشال عون. وكان لافتا اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، برئاسة رئيس الجمهورية، وتقرّر فيه أن "الجيش لا يريد أن يعاونه أحد" في هذه المعركة المنتظرة، غير أن رد حزب الله جاء سريعا، إذ أقحم نفسه معلنا أنه سيقوم بالمساندة والاشتراك في المعركة مع قوات الأسد من داخل الأراضي السورية.. وقبل أيام، أطلق نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، معادلة جديدة: "المقاومة تقاتل والجيش يساند والشعب يؤيد".
ويبدو أن إيران (وحزب الله) في سباق مع الوقت، ومع الإدارة الأميركية التي تعزّز، بشكل لافت، حضورها العسكري في لبنان، لإسناد الجيش كون لبنان مشاركًا في التحالف الدولي ضد الإرهاب. ويبدو أن إيران تقول بوضوح: سورية، وبمعيتها لبنان، يجب أن يبقيا تحت سيطرتنا.. فماذا سيفعل رئيس الحكومة؟ أليس أشرف له الاستقالة من أن يبقى يراوح في عجزه؟
بات هناك جيشان في لبنان. الشرعي ومليشيا حزب الله التي تحولت جيشاً بالمعنى الكامل. وباتت مقارعة الحزب تفوق قدرة طرف أو أي طائفة، لا بل جميع الطوائف مجتمعة. وهو اليوم يحاول لعب دور "الحرس الثوري الإيراني"، أي الجناح العسكري المقاتل للجيش الإيراني. نحن أمام ما يشبه "الانقلاب الزاحف" الذي يجسّده استعمال حزب الله بذكاء مقولة ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" التي حولها تدريجيا إلى "مقاومة تقاتل وجيش يساند والشعب يصفق"... كما حصل بالنسبة لمعركة جرود عرسال.
تتلاشى السلطة في لبنان، ولم يبق منها إلا العسكر، والبلد فريسة نهب الطبقة السياسية ونهبها وفسادها الذي ليس بعيدا عنه حزب الله، فالفضائح المالية والتهريب طاولته بشكل أساسي. لم يحصل الأمر فجأة، بل يحصل تراكم القوة منذ عدة سنوات، في ظل انهيار فريق 14 آذار السيادي، وتخلي داعميه الإقليميين والدوليين عنه.
الحديث عن حل في سوريا على أساس الفيدرالية ليس جديداً، فلاديمير بوتين كان أول من أشار إليه نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2015، بعد شهرين من بداية التدخل العسكري الروسي، وفي مارس (آذار) من العام الماضي بدا أن الأمور تقترب فعلاً من هذا الحل، كما أوحت تصريحات روسية أميركية تقاطعت في تأكيد التوجه إلى ترتيب الفيدرالية كمخرج للأزمة التي دمرت سوريا واستجلبت الإرهابيين وأغرقت المنطقة باللاجئين.
عشية الجولة الخامسة من المفاوضات في جنيف، قال سيرغي ريباكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن موسكو تأمل في أن يتوصل المشاركون في المفاوضات إلى حل يقوم على فكرة إنشاء جمهورية سورية فيدرالية، وموسكو لن تعترض أيضاً على أي نموذج آخر لسوريا، شرط ألا يكون نتيجة إملاء شخص على بعد ألف كيلومتر!
لكن هذا «الشخص» الذي كان ريباكوف يرد عليه ويرى أنه يقف على بعد ألف كيلومتر، لم يكن سوى جون كيري وزير الخارجية الأميركي السابق، الذي كان قد أعلن قبل أيام في شهادة أمام الكونغرس الأميركي أنه ربما فات الوقت لإبقاء سوريا موحدة، وأن سوريا الموحدة لم تعد موجودة!
في سياق الدخان الفيدرالي الذي كان يتصاعد من كواليس جنيف، قال بشار الأسد في مقابلة صحافية في سبتمبر (أيلول) الماضي، إنه لا يستبعد فكرة النظام الاتحادي، لكن أي تغيير يجب أن يكون نتيجة حوار بين السوريين واستفتاء لإدخال التعديلات اللازمة على الدستور، وكان بهذا يلاقي تصريحات ريباكوف الذي أوضح «أن النموذج الاتحادي سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة فمن الذي سيعترض على ذلك»؟
في مايو (أيار) الماضي تمخضت المحادثات في آستانة عن الخطة المعروفة التي سمّيت مناطق «خفض التوتر» الأربع، وهو ما أعاد إحياء ملامح النظام الفيدرالي، الذي أخذ بعده العملي والجاد في السابع من يوليو (تموز) الماضي على هامش قمة هامبورغ، عندما تمّ التفاهم بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين على هذه الخطة.
وتؤكد تقارير دبلوماسية أوروبية، أن العشاء السري بينهما تحوّل إلى اجتماع حول الخرائط كرس هذا التفاهم، خصوصاً بعد المحادثات الروسية الأميركية التي كانت قد جرت في الأردن وهندسها مايكل راتني المسؤول الأميركي عن الملف السوري، والتي درست موضوع إنشاء مناطق «خفض التوتر»، لكن على قاعدة اقتراحات أميركية، هدفها تطوير الوضع تمهيداً للدخول إلى الحل الفيدرالي، بما يعني أن واشنطن تبنّت هذا الحل الذي كان في الأساس اقتراحاً روسياً من بوتين.
ويبدو أن التفاهم بين واشنطن وموسكو يمضي قدماً في وضع تصور لشكل هذه الفيدرالية، التي يفترض، كما تقول التقارير الدبلوماسية، أن تأتي استجابة لقرار أممي يصدر عن الشرعية الدولية في الأمم المتحدة، بحيث يأخذ بعداً إلزامياً مستنداً إلى القانون الدولي.
في هذا السياق، تقول التقارير المشار إليها إن الصيغة الفيدرالية ستُطرح على الأمم المتحدة الشهر المقبل، وستوافق عليها أميركا وروسيا والصين والدول الأوروبية والعربية، وستكون على أساس أن لكل محافظة من المحافظات السورية حاكماً ومجلس محافظة يتبعان دمشق في المسائل المالية والسياسات الخارجية والدفاعية، ويفترض أن يبدأ عملياً تطبيق الدستور الفيدرالي بعد شهرين من إجراء انتخابات عامة يشارك فيها السوريون في الداخل وفي الخارج، وتجري بإشراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتقرر بالنهاية موقع بشار الأسد من الحل.
وينصّ الدستور الفيدرالي المقترح، على تشكيل مجلس رئاسي ثلاثي، بمعنى أن يكون هناك رئيس ونائبان للرئيس، شرط أن يكون لنائبي الرئيس حق المشاركة الكاملة في اتخاذ القرار، وعلى أن يتشكّل هذا المجلس على أساس أن يكون الرئيس علوياً ونائب الرئيس سنياً والنائب الثاني من الأقليات.
وتشير هذه التقارير إلى نقطة لا تزال موضع بحث مع الروس، على خلفية أن الجانب الأميركي يصرّ على إلغاء كل الأجهزة الأمنية القائمة وعلى إنشاء «جهاز أمن وطني» بفرعين، فرع يتبع الجيش ويكون بإمرة قائد علوي، وفرع يتولى الأمن الداخلي ويكون بإمرة قائد سني ومن حلب تحديداً.
وفي التقارير إشارات واضحة إلى «أن الحرب في سوريا انتهت»، وأنه سيتمّ ضم الفصائل المعارضة ودمجها بالجيش الوطني الجديد، وسيجري إخراج المقاتلين الأجانب، ويتولى الأميركيون والروس الإشراف على تنفيذ فصول هذا الحل.
ورغم أن العلاقات الأميركية الروسية تمر في مرحلة من التعقيد على خلفية العقوبات التي أقرّها الكونغرس أخيراً ضد موسكو، فقد كان هذا الحل المقترح لسوريا موضع بحث بين سيرغي لافروف وريكس تيلرسون في السادس من الشهر الحالي في مانيلا، على هامش قمة «آسيان»، وقال بيان للخارجية الروسية إنهما ناقشا بشكل مفصل الوضع في سوريا، وشددا على أهمية المضي في تطبيق المذكرة التي وقع عليها البلدان في الأردن الشهر الماضي، والتي تفاهم ترمب وبوتين على مفاعيلها في هامبورغ.
موسكو أعلنت أنها تنخرط الآن في مفاوضات مع فصائل المعارضة في ست محافظات سورية، بهدف إقناعها بالانضمام إلى خطة «خفض التوتر»، وهذا يعني استطراداً التمهيد لقبول هذه الفصائل بخطة الاندماج في الجيش الوطني الذي تقترحه صيغة الدستور الفيدرالي.
والمعروف أن المناطق الأربع لخفض التوتر هي: أولاً جنوب غربي سوريا حيث بدأ تنفيذ الخطة، بإشراف روسي بعدما تمّ إبعاد «حزب الله» والتنظيمات الإيرانية مسافة 40 كيلومتراً من الجولان إلى الحدود الأردنية السورية، وثانياً غوطة دمشق التي يجري الآن ترتيب وقف النار فيها رغم تصعيد النظام، وثالثاً منطقة شمال حمص والساحل، ورابعاً منطقة إدلب.
بعد الإعلان عن خطة المناطق الأربع لخفض التوتر في مايو الماضي، بدأت «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) هجوماً أدى إلى طرد «حركة أحرار الشام» وإلى فرض سيطرتها الكاملة على محافظة إدلب، وكان من المثير أن يتم نقل مقاتلي «النصرة» من جماعة أبو مالك التلي من جرود عرسال إلى إدلب في حافلات سورية وبمواكبة أمنية سورية، وهو ما جعل البعض يفترض أن هناك خطة لجعل إدلب مصيدة للقضاء على حركة «النصرة»، وهو ما يفسّر التقاطع في الموقفين الأميركي والروسي من التطورات في إدلب.
واشنطن حذّرت بداية الشهر من عواقب وخيمة لسيطرة «النصرة» على إدلب، وقال مايكل راتني: «هذا سيعرض منطقة شمال سوريا لخطر كبير، ويجب أن يعلم الجميع أن أبو محمد الجولاني وعصابته هم المسؤولون عن العواقب التي ستحلّ بإدلب».
في المقابل شكك سيرغي لافروف في ضم إدلب إلى خطة خفض التوتر، «لأن الوضع بات أكثر تعقيداً»، بما يوحي أن المضي في تنفيذ الاتفاق على حل لسوريا على أساس الفيدرالية، بات يتطّلب تطهير إدلب من «النصرة»، وهو ما يدخل حسابات رجب طيب إردوغان المعقدة على الخط!
إلى أين تتجه التطورات في سوريا؟ وهل بات ممكناً تبلوُر صورة نهائية يمكن أن يستقر عليها الوضع؟ تتسارع الأحداث وكثير منها خارج التوقع، والثابت الوحيد أن قمة هامبورغ التي جمعت الرئيسين ترمب وبوتين وضعت سوريا على سكة جديدة، لا مبالغة بالقول إن موسكو رسمت حدودها، قبل سنة من اليوم، لحظة إحكامها السيطرة على حلب، الأمر الذي يوصَف بأنه الإنجاز النوعي منذ بدءِ التدخل العسكري الروسي في سوريا.
نسمع اليوم حديثاً أميركياً عن ضرورة الوصول إلى وقف نار شامل، غداة إعلان اتفاق أميركي - روسي مفاجئ، قضى بجعل الجنوب السوري منطقة أمنية تمتد من القنيطرة في الجولان إلى درعا والسويداء. تلاه إعلان «خفض التصعيد» في الغوطة، ثم ريف حمص الشمالي، بمشاركة مصر ورعايتها، وكذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية أنها تناقش مع الفصائل المسلحة وأطراف معارضة، إعلان 6 مناطق جديدة «خفض التصعيد»، بينها دمشق وحلب وحمص وحماه... إلخ.
أما إدلب، الثقب الأسود في الجسد السوري عموماً بعدما حوّلتها جبهة النصرة إلى ما يشبه الإمارة، فإن إسقاط هذا الوضع آتٍ، ولو تطلب المزيد من الوقت، لأنه لا سورياً ولا إقليمياً ولا دولياً مُجَاز استمرار سلطة هذه القوى السوداء، على أي بقعة سورية. لكن الأمر اللافت أن موسكو تصرفت بقرارات مؤتمر «آستانة»، مستبعدة عن التنفيذ «الضامنين» معها؛ إيران وتركيا، واجتذبت الأردن ومصر، ولهذا الأمر معنى مؤثر على الحل المستقبلي. وفيما تم حشد كل الفصائل، أطراف هذه الاتفاقات، للمشاركة في المعركة ضد الإرهاب؛ ضد «داعش» وضد «النصرة»، يبدو أن المعنى الحقيقي لما يتم تنفيذه على أرض الواقع، أنه يحمل تسليماً بأنه لا تسوية سياسية في القريب العاجل، أقله لأن أطراف هذه التسوية ليسوا جاهزين بعد. وهذا يقودنا للتأكيد أنه لغير مواجهة الإرهاب وهزيمته، فإن زمن السلاح والأعمال القتالية في سوريا انتهى كلياً، وأساساً مرحلة عسكرة الانتفاضة التي تمّ فرضها على الانتفاضة سقطت مع انتهاء معركة حلب. بهذا السياق تُبرز الأحداث انتصاراً روسياً صريحاً، فكل الوضع بات رهن مشيئة القيادة الروسية، التي تحوز أيضاً الضوء الأخضر الأميركي، ولا يبدو أن هذا الأمر كان سيتحقق لولا نجاح موسكو في أمرين مهمَّيْن؛ أولهما فرض إملاءاتها على النظام السوري بحيث كان هناك انصياع كامل من رأس النظام للقرارات الروسية من جهة، وثانيهما بدء تحجيم النفوذ الإيراني من جهة ثانية، والأمر جلي في إخراج ميليشيات الحرس الثوري من الجنوب ثم الغوطة الشرقية والريف الشمالي لحمص، وأكثر من ذلك فإن اتفاقات «خفض التصعيد» لحظت مطالبات آنية بعدم قيام الميليشيات الطائفية بأي دور أمني، ومطالبات واضحة بإخراج هذه الميليشيات من سوريا خلال عام واحد، وهنا تلتقي الإجراءات العملانية الروسية مع الرغبات الأميركية بتحجيم النفوذ الإيراني، ما يطرح الأسئلة عن مدى عمق التفاهمات الثنائية وتشعبها بين الرئيسين ترمب وبوتين.
على أرض الواقع عظيم جداً انتهاء الأعمال القتالية، وهذا يخدم مصالح السوريين بوقف إهراق دمهم مجاناً، ووقف تفتيت نسيج المجتمع السوري، وتشظي سوريا حصصاً بين قوى النفوذ الإقليمي والدولي. هذا الواقع الجديد شطب أحلام رأس النظام السوري بالانتصار العسكري، لكنه في الوقت ذاته حال دون سقوط الدولة السورية، وكثير من مؤسساتها العامة، وهذا أمر يُبنَى عليه، لأنه يجنِّب سوريا المزيد من الكوارث. طبعاً كل هذه المسائل غير نهائية، والتطورات تتلاحق، والقوى المتضررة كإيران التي لم تخفِ يوماً طموحاتها بالهيمنة تملك كثيراً من الأوراق ولن تقف مكتوفة الأيدي، لكنها وهي تجيد القراءة السياسية ستكون مضطرة للتكيف أملاً بالحفاظ على حدٍ من النفوذ، وأكثر من سواها تعرف أنه ضمن ميزان القوى الحالي، ستمضي روسيا في ترتيب الوضع السوري الداخلي على مختلف الصعد.
فالشرطة العسكرية الروسية تقوم بدور أمني متزايد ومطمئن، وجوانب أساسية من أمور المعيشة وتوفير العلاج الطبي وُضِعَت قيد الاهتمام. ولا شك أن هذا الوضع الجديد، سيوفر الإمكانية لعودة أعداد كبيرة من النازحين، والعودة لها أهميتها لأنها بمثابة مسمار في نعش الاقتلاع والتغيير الديموغرافي الذي عرفته بعض المناطق السورية، لا سيما في محيط دمشق والقلمون الغربي وسواهما.
بالتأكيد سوريا تتغير، وما يقوم به الروس من جهة، وما يحصل في الشمال الشرقي بدعم أميركي على يد «قوات سوريا الديمقراطية»، الطرف الأبرز في قتال «داعش»، يوحي وكأن الفيدرالية شكل للحكم في سوريا يتقدم على ما عداه، وهنا ربما كان التقارب الأميركي - الروسي أكبر مما كان يعتقد، وطبعاً ضمن الشروط الآنية لمناطق «خفض التصعيد»، سيتمُّ انتخاب مجالس تمثيلية، إذا ما أُعطيت من قِبَل كل المعارضة الأهمية التي تستحق، فإنها مرشحة لأن تكون الخزّان الحقيقي لبلورة الأسس السليمة لتحقيق طموحات الشعب السوري في يومٍ ليس ببعيد.
بالانتظار، تعرف كل القيادات السورية أن الثورة السورية استمرت بفعل تضحيات السوريين وليس إبداع القيادات المختلفة، وأن مناطق «خفض التصعيد» التي حقنت الدم ليست أبداً التسوية السياسية العادلة والمنشودة، ويجب عدم التوهم أبداً أن الروس سيؤمنون مطالب السوريين الحقيقية، لذا فإن الائتلاف السوري أمام التحدي، ومثله الهيئة العليا للمفاوضات التي أعلنت اعتزامها توسيع صفوفها، وتستعد، رغم الصعوبات، لتوحيد كل القوى، ليكون بالإمكان تشكيل وفد موحد، وصوت سوري واحد للمعارضة في كل محفل دولي.
الظروف الآن، بعد سقوط أكثر شبيحة الثورة وأمراء الحرب والنهب، مواتية لإيجاد خطاب موحد غير إقصائي، وقيادة جدية للسوريين تجمع جانبي النضال السياسي والعسكري، ولا تترك أي مجال للطامحين بالسيطرة على سوريا باللعب على تناقضات جزئية، لأنه دون ذلك لا نتائج مرضية للسوريين من كل التفاوض الدولي.
توصّل الرئيسان الروسي والأميركي، فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، في قمة أولى جمعتهما في هامبورغ، على هامش اجتماعات الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم، في السابع من تموز/ يوليو الماضي، إلى اتفاقٍ لخفض التصعيد في جنوب غرب سورية، شمل محافظتي درعا والقنيطرة، والبدء بتنفيذه في التاسع من الشهر نفسه. وجاء هذا الاتفاق بعد سلسلة طويلة من الاتصالات والاجتماعات بين مسؤولين وخبراء روس وأميركيين، شارك في جزء منها مسؤولون إسرائيليون وأردنيون. وفي النصف الثاني من تموز/ يوليو الماضي، نشرت روسيا مئات من عناصر شرطتها العسكرية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء على خطوط التماس بين طرفي الصراع، وأقامت مراكز عسكرية في هذه المناطق، رفعت عليها العلم الروسي، وأبعدت، في الوقت نفسه، القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها، نحو أربعين كيلومترًا عن خط الحدود مع الجولان المحتل ومع الأردن.
وعلى الرغم من إبعاده القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها عن خط الحدود السورية مع إسرائيل والأردن، وهو ما كانت تطالب به إسرائيل في السنوات الأخيرة، فإن إسرائيل عارضت الاتفاق كالعادة، وانتقده بشدة رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، ومسؤولون إسرائيليون آخرون، بذريعة أنه لا يستجيب لمتطلبات الأمن الإسرائيلية، وهي المتطلبات التي لا يُستجاب لها أبدًا بحكم تعريفها. فما هو كنه الموقف الإسرائيلي من هذا الاتفاق؟ وما خلفياته؟ وما أسباب تحفظ إسرائيل الشديد منه ومعارضتها له؟
مواقف إسرائيلية
تبنت إسرائيل، منذ بداية الثورة في سورية سنة 2011، والتي حولها النظام السوري إلى حرب أهلية، إستراتيجية إطالة أمد الحرب، وإضعاف سورية، والدعوة إلى تقسيمها على أسس طائفية وعرقية ومناطقية. وعلى الرغم من إعلان إسرائيل المستمر أنها لن تتدخل في هذه الحرب، فإنها أقامت قنوات اتصال مع بعض الفصائل الناشطة في الشريط الحدودي المحاذي للجولان السوري الذي تحتله إسرائيل من ناحية، ووضعت، من ناحية أخرى، خطوطًا حمراء للنظام السوري، شملت منع استخدام الأراضي السورية لنقل أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، ومنع دخول قوات عسكرية إيرانية والمليشيات المرتبطة بها إلى المنطقة المحاذية للجولان السوري المحتل. وشنت إسرائيل منذ كانون الثاني/ يناير 2012 عشرات الغارات على مواقع مختلفة في سورية، كلما رأت أنه جرى اختراق خطوطها الحمراء، وكان آخرها في النصف الثاني من تموز/ يوليو الماضي، أي بعد اتفاق هامبورغ.
كما سعت إسرائيل، في السنوات الأخيرة، إلى استغلال الحرب في سورية، لتحقيق هدفين أساسيين، هما الحصول على شرعية دولية لضمها هضبة الجولان السورية التي تحتلها منذ سنة 1967، وإقامة منطقةٍ عازلة في الجانب السوري المحاذي لهضبة الجولان، بعمق عشرات الكيلومترات، لتكون منزوعة السلاح وتحت النفوذ الإسرائيلي.
وقد طالب نتنياهو، في اتصالاته التي أجراها مع الإدارة الأميركية وروسيا ودول أخرى منذ آذار/ مارس 2017، بإقامة منطقة عازلة جنوب سورية على طول الحدود مع الجولان السوري المحتل، وأيضًا على طول الحدود السورية - الأردنية، تكون خاليةً من القوات العسكرية، ولا سيما الإيرانية والمليشيات التابعة لها. وفي هذا السياق، أجرت إسرائيل، منذ آذار/ مارس الماضي، سلسلة من الاتصالات والاجتماعات مع أركان إدارة دونالد ترامب والقيادة الروسية لتحقيق هذا الغرض. وطالب المسؤولون الإسرائيليون، في الاجتماعات التي عقدوها في آذار/ مارس 2017 مع مبعوثي الإدارة الأميركية مايكل راتني وبريت ماكغورك ومسؤولين أميركيين آخرين، بفصل المداولات بشأن خفض التصعيد في منطقة جنوب سورية عن المفاوضات التي تجري في أستانة في كازاخستان، واستبعاد إيران وتركيا من المفاوضات بشأن خفض التصعيد في جنوب سورية، وإبعاد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها من المنطقة. وشدّد المسؤولون الإسرائيليون، في هذه الاجتماعات، على معارضة إسرائيل إشراف روسيا على خفض التصعيد والمحافظة على وقف إطلاق النار في جنوب سورية، وطالبوا أن تقوم الولايات المتحدة بهذا الدور بدلًا من روسيا.
ومع اقتراب التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، تكثفت الاتصالات والاجتماعات بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين والروس. وعقد مسؤولون أمنيون وسياسيون إسرائيليون وأميركيون عدة اجتماعات سرية في بداية تموز/ يوليو الماضي في العاصمة الأردنية عمّان، وفي عاصمة أوروبية أخرى، حضرها كبارُ القادة في الجيش الإسرائيلي والموساد، ومسؤولون بارزون في وزارتي الدفاع والخارجية، بينما رأس الوفد الأميركي كل من مايكل راتني وبريت ماكغورك. كما عُقد اجتماع آخر في العاصمة الأردنية، شارك فيه ممثلون عن إسرائيل والولايات المتحدة والأردن. وتمسّكت إسرائيل، في هذه الاجتماعات بمعارضتها الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية، وإشراف روسيا على تطبيق خفض التصعيد في هذه المنطقة، وأضافت مطلبًا جديدًا، لم تكن تطرحه سابقًا، وهو أن يشمل الاتفاق إنهاء الوجود العسكري الإيراني برمته من مجمل الأراضي السورية، وليس فقط إبعاد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها من جنوب غرب سورية.
أسباب المعارضة الإسرائيلية
عند الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، انتقده القادة الإسرائيليون، وازداد هذا الانتقاد حدةً بعد حصولهم على مسودة الاتفاق في منتصف تموز/ يوليو الماضي، مدّعين أنه اتفاق سيء جدًا، لأنه لم يأخذ في الحسبان مصالح إسرائيل الأمنية، ويخلق وضعًا مقلقًا في جنوب سورية. وتصاعدت الانتقادات الإسرائيلية لهذا الاتفاق، مع بدء روسيا نشر عناصر شرطتها العسكرية في مناطق مختلفة من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، علمًا أن وزارة الدفاع الروسية كانت قد أخبرت إسرائيل مسبقًا بنشر قواتها في جنوب سورية، وأنها ستبقى بعيدة مسافة 13 كيلومترًا عن خط الحدود بين سورية والجولان السوري المحتل. وفي هذه الأجواء، وقبل اجتماع مجلس الوزراء الأمني السياسي الإسرائيلي المصغر (الكابينت) لبحث الاتفاق، تفقد بنيامين نتنياهو ووزير الأمن أفيغدور ليبرمان القوات الإسرائيلية المتمركزة في الجولان السوري المحتل، وأعلن نتنياهو من هناك أن الواقع في جنوب سورية يتغير بسرعة وأن قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تتضاءل، وادّعى أن إيران وحزب الله يحاولان ملء الفراغ، متجاهلًا أن هذه القوات قد جرى إبعادها وفق الاتفاق الروسي - الأميركي نحو أربعين كيلومترًا عن خط الحدود مع الجولان المحتل.
وفي الثلاثين من تموز/ يوليو الماضي، عقد "الكابينت" اجتماعًا خُصص للبحث في الاتفاق الروسي - الأميركي استمر أربع ساعات. وشارك فيه رئيسا هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والموساد وكبار جنرالات الجيش الإسرائيلي وموظفو وزارتي الدفاع والخارجية. وجرى التأكيد فيه على أن هذا الاتفاق أولي، وأن روسيا والولايات المتحدة لم تتفقا بعد على جميع التفاصيل. وتبين في هذا الاجتماع أن الدافع الأساسي وراء معارضة إسرائيل الاتفاق كان الوجود العسكري الروسي المنفرد في جنوب سورية، وإشراف روسيا على تنفيذ هذا الاتفاق.
وقد ازداد القلق الإسرائيلي مع ورود أنباء عن تفاهم محتمل، جرى التوصل إليه بين الولايات المتحدة وروسيا لتقاسم النفوذ في سورية، بحيث يكون غرب سورية وجنوبها الغربي تحت سيطرة روسيا في مقابل سيطرة الولايات المتحدة على المناطق السورية الواقعة شرقي الفرات وحتى الحدود السورية - العراقية. ومع أن هذا التفاهم، في حال تأكد حصوله، يقطع التواصل البري بين إيران وسورية عبر العراق، فإنه يكرّس النفوذ الروسي في جنوب غرب سورية. وبالفعل، شرعت روسيا في زيادة وجودها العسكري في هذه المنطقة، واتخذت جملةً من الخطوات، منها إقامة قاعدتين عسكريتين في الصنمين وموثبين شمال درعا، رفعت عليهما العلم الروسي، كما أقام الجيش الروسي غرفة عمليات رئيسة له في الصنمين، للإشراف على تنفيذ اتفاق هامبورغ.
وتخشى إسرائيل من أن تطوّر روسيا وجودها العسكري في جنوب سورية من مجرد الإشراف على تنفيذ الاتفاق إلى وجود دائم يشمل إقامة قاعدة عسكرية جوية لسلاح الجو الروسي في مطار الثعلة الواقع شرقي مدينة درعا، والمتاخم لمحافظة السويداء؛ ما يعني أن روسيا قد تستقدم إلى هذا المطار منظومات صواريخ إس 300 وإس 400 كالتي نشرتها في مطار حميميم في شمال غرب سورية، والتي حولتها روسيا إلى قاعدة عسكرية جوية كبيرة. وفي حال فعلت روسيا ذلك، سوف تستقدم على الأرجح قوات عسكرية برية للدفاع عن المطار الذي لا يبعد سوى 55 كيلومترًا عن الحدود السورية مع الجولان المحتل؛ ما سيحدّ، في حال حصوله، من قدرة إسرائيل على الاستمرار في استباحة الأجواء والأراضي السورية، وشن اعتداءات على سورية كلما رأت أن خطوطها الحمراء قد اخترقت.
خاتمة
تعارض إسرائيل اتفاق خفض التصعيد الذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة بشأن جنوب سورية، لأنها ترى أنه يتناقض مع إستراتيجيتها الأمنية والعسكرية تجاه الصراع الدائر في سورية، فقد يمهد الاتفاق إلى إنهاء الحرب في سورية، وهو ما لا ترغب فيه إسرائيل. والأهم أنها تعتبر الاتفاق تهميشًا لمطلبها أن تكون المنطقة السورية المحاذية للجولان السوري المحتل عازلة، تحت النفوذ الإسرائيلي. ومع أن هذا الاتفاق يبعد القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها عن الحدود السورية – "الإسرائيلية"، فإنه، في الوقت نفسه، يعزّز من الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية، ويحدّ من حرية الحركة لدى إسرائيل، وإن كنا نشك أنه يحدّ من حركتها الجوية، والتي كانت حتى الآن منسقةً مع غرفة العمليات الروسية التي تبدي "تفهمًا" لاعتبارات "أمن إسرائيل".
تداولت وسائل الإعلام، في الأسبوعين الأخيرين، خبر طلب الولايات المتحدة من بعض فصائل المعارضة السورية في الجنوب السوري إعادة الأسلحة التي قدمتها لها في الفترة الماضية، كما اشترطت عدم توجيهها إلى النظام، بل حصرياً ضد "داعش".
لم يشكل القرار مفاجأة كبيرة، لأن الجبهة الجنوبية التي تشكل قوة قتالية كبيرة كانت معطلة منذ أكثر من عامين، قبل معركة درعا الأخيرة التي تكبّد النظام فيها خسائر كبيرة، ولم يحقق أهدافه. وجرى تجميد تلك الجبهة بقرار من الأطراف الممولة والمسؤولة عن التسليح. والمعروف أن ثلاث دول عربية كانت تتولى التمويل، السعودية والإمارات وقطر، في حين تتكفل أميركا بالتسليح، في وقت لم تكن فيه الهيئات التي تقدم نفسها ممثلة للثورة السورية، سواء المجلس الوطني أو الائتلاف الوطني، على علاقة أو حتى علم بالتفاصيل، وحسب الدكتور برهان غليون، رئيس أول مجلس وطني للمعارضة السورية، "كان التمويل يقدم مباشرة من غرفتي الموم في تركيا والموك في الاْردن، وكلاهما تحت إشراف الأميركيين"، وهل كانت هناك معونات خارج هذا الإطار؟ يجيب غليون "محتمل. لكن أنا شخصياً لا أملك أي معلومات دقيقة عنها، ولم يكن هناك من يمكن أن يعرف تفاصيلها سوى المعتمدين من الدول مباشرة من العسكريين".
جرى دائماً رمي مسؤولية تعطيل الجبهة الجنوبية على الأردن. وفي إحدى المرات، ذهب رئيس "الائتلاف" الأسبق، خالد خوجة، إلى عمّان ليلتقي بالقيادات العسكرية المسؤولة عن الجنوب، فلم تسمح له الأجهزة الأردنية. وقد يتحمل الأردن قسطاً من المسؤولية، ولكن من التجني رمي كل الحمل على ظهره، لاسيما وأن سياسة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم تطرح في أي يوم مسألة إسقاط النظام السوري عسكرياً، وهي صاحبة مشروع قتال "داعش" حصرياً، ولم تأتِ أجهزة الإدارة الجديدة بما يخالف خط الإدارة السابقة.
بات واضحاً اليوم أنه ليس هناك أولوية تتقدّم لدى واشنطن على هزيمة تنظيمي داعش والقاعدة، الأمر الذي يهدّد بإضعاف كل القوى العسكرية السورية التي لا تزال تواجه النظام، وهذا سيقوّي من "داعش" وجبهة النصرة والمليشيات الطائفية الإيرانية وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي).
ما يستحق الوقفة الطويلة هنا هو حصاد أخطاء الأعوام الماضية على الشعب السوري الذي دفع ثمن خروجه ضد النظام مرتين. الأولى من النظام الذي لم يترك سلاحاً من أجل قتل هذا الشعب وتهجيره. والثانية رهان الفصائل العسكرية والهيئات السياسية التي تنطّعت لتمثيل السوريين، على الولايات المتحدة التي تخلت عن مسؤوليتها الدولية والأخلاقية لإغاثة شعبٍ تعرّض للإبادة ستة أعوام، خصوصاً بعد مجزرة الغوطة الكيميائية قبل أربعة أعوام.
مؤكّدٌ أنه لم تكن أمام السوريين خيارات في معركة بدأت أكبر منهم، ولكن كان لديهم استعداد للالتحاق بأجندات خارجية، وجدوا أنفسهم يلعبون أدواراً فيها، وهذا ما يفسّر جانباً من المآلات المأساوية العسكرية والسياسية، والأدهى من ذلك، وعلى الرغم من المأساة التي حلت بالبلد وأهله، لم يقم أحد بالمراجعة، وترك الجميع السفينة تلعب بها الأمواج، وكأنهم تواطأوا مع الأعداء لتركها للمصير المأساوي. ولا ينسى المرء هنا الذين دخلوا إلى الثورة، وهم لديهم أهداف خاصة، فعدد هؤلاء ليس قليلاً، ووصل بعضهم إلى مراتب متقدّمة، ومنهم من بات أمير حرب جمع ثروات طائلة من المتاجرة بشقاء السوريين وآلامهم. وشكل بعض آخر جيوشاً لعبت دوراً سلبياً لمنع قيام أي حالة ثورية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ومثال ذلك الفصائل الإسلامية التي احتلت المشهد منذ عام 2013، وتعتبر مسؤولة عن القسط الأساسي من التدهور، بدءاً بمعركة القصير وحتى الوضع الراهن في محافظة إدلب التي تعمل "النصرة" على تحويلها إمارة لتنظيم القاعدة.
يسقط تسعة شبان لبنانيين يوم الأربعاء الماضي، (9 أغسطس/ آب الجاري)، ينتمون إلى حزب الله، في البادية السورية قريباً من مثلث الحدود مع العراق والأردن. ينعاهم الحزب الإلهي وينشر صورهم. في كل صورة مجسم ذهبي اللون لقبة الصخرة المشرّفة يتقدّم الشاب صاحب الصورة. والإيحاء أن القتلى سقطوا محبّةً في المسجد الأقصى والقدس. .. ها هي طريق أخرى إلى القدس، يرسمها من أرسلوا هؤلاء إلى الموت، إنها طريق البادية السورية، والقتال هناك من أجل تمكين الحشد الشعبي العراقي ومليشيات إيران من التدفق بسلاسة إلى سورية للقتال إلى جانب نظام دمشق. وفي تلك البادية التي يجتمع فيها الرمل مع الصهد، تطفو صورة تتخيلها وتبثها دعاية الحزب للقدس، لكنها صورة لا يراها أحد من المقاتلين على الرمال.
وتحفل هذه الأدبيات بالقدس، وعلى غرار بقية الأحزاب الإسلامية، ينتج حزب الله أناشيد جهادية ودعوية وهادفة، تتخذ من القدس عنواناً لها. ويحفل "يوتيوب" بهذه الأناشيد التي تجمع بين الرتابة والصراخ، ومنها "يا قدس حزب الله قادمون"، وقد دأب قادة في الحزب على التلفع بالوشاح الفلسطيني في المناسبات، أسوةً بالمرجع المرشد في طهران، آية الله علي خامئني.
وقد تزامنت صولات حزب الله في البادية السورية مع اشتعال معركة الأقصى، واستباحته من الاحتلال ومستوطنيه، إلا أن هذا التزامن لم ينعكس بأي اهتزاز لا للبوصلة العسكرية لحزب الله، وصولاته وجولاته نصرة للنظام ضد شعبه. وفي واقع الحال، يستنسخ حزب الله تجربة أنظمة عربية تهتف للقدس، من دون أن تقدم شيئاً لها. ويعتنق الحزب فكرة أن الجمهور يولي اهتماماً بالأناشيد والتصريحات والخطابات، وما شاكلها من نشاطاتٍ شفوية لفظية ومموسقة، بأكثر مما يولي اهتمامه لمعاينة الممارسات والسياسات الفعلية المتبعة. وهذا سرّ الاهتمام الفائق بتوجيه خطاباتٍ دوريةٍ يأتي فيها الخطيب دائماً على ذكر إسرائيل والاحتلال، فيما الاحتكاكات مع الإسرائيليين متوقفة تماماً منذ أحد عشر عاماً، وفيما قوات الحزب لا تحارب إلا السوريين في وطنهم، وما تيسّر من شعوبٍ عربية أخرى في العراق واليمن. وتنسج النسخة اليمنية للحزب، أنصار الله (الحوثيون) على المنوال ذاته، فالحرب على اليمنيين وعلى النسيج الاجتماعي وعلى الشرعية هناك، تتم تحت يافظة: الموت لإسرائيل، وعلى وقع نشيد "القدس تجمعنا" مع أن الجامع الوحيد الذي يجمع الانقلابيين هو العداء لحق اليمنيين في تقرير مصيرهم، والولاء التام لإيران، وتمكينها من التمدّد وبسط النفوذ على أرض سبأ وبلقيس، أما القدس فهي كلية البراءة من دماء اليمنيين، ومن هذه المخططات التوسعية لاختراق العالم العربي ولمحاولات جعل المنطقة العربية امتداداً للإمبراطورية الإسلامية الإيرانية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير المدن العربية على رؤوس ساكنتها، وكما يحدث بالفعل في سورية واليمن والعراق.
وليس للقدس في الدعاية الايرانية أناشيد ومجسمات وهتافات فقط، بل هناك فيلق يتبع الحرس الثوري، ويحمل اسم "فيلق القدس"، وهو بمثابة جيش مدرّب على حروب المدن والجبال، وقوام عديده نحو مائة ألف جندي، ويعتبر ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري، ذلك أن هذا الحرس لا يأبه بحدود، أو بسيادة دول، أو بحقوق الشعوب. ولا يجد أي غضاضةٍ في أن تكون له عمليات خارج الحدود الإيرانية. على أنه لا مكان للقدس، والأرض المحتلة عموماً، في أجندة "فيلق القدس"، وليس من شأن هذا الفيلق أن يتلهى بمعارك جانبية غير استراتيجية، مثل القدس المحتلة. وقد لوحظ أن هذا الفيلق، بقادته العسكريين وبمرجعيته الدينية والسياسية، قد أشاح أنظاره عن معركة القدس في الشهرين الماضيين، وأبدى صموداً لافتاً في إدارة الظهر لهذه المعركة، وصمّ الآذان عنها بصورة شبه كلية. وتفسير ذلك أنه ما دامت فرص التمدّد الإيراني هناك شبه معدومة، وما دامت الحرب الجهادية الطائفية غير ممكنة هناك، كما هي مستعرة في سورية والعراق، للدفاع عن المراقد والمقدسات والأضرحة، إذن لن يخون الذكاء رجالاً، مثل قاسم سليماني وحسن نصر الله، ولن يبدّدوا طاقاتهم في تلك المعركة الجانبية الخاسرة، وسوف يتم الاكتفاء، كما هي العادة، بقصف إعلامي وإطلاق أناشيد وتصريحات، ما قد يأخذ بألباب جانبٍ من جمهور يصدق كل ما يسمع نصرة للقدس والمقدسات. وعلى هذا الجمهور أن ينتظر حلول يوم قدس إيراني جديد في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان (حسب الموعد السنوي الثابت منذ العام 1991)، كي يسمع رأي المراجع في ما يجري في القدس. علماً أن هذا اليوم الذي يُعقد في طهران يجمع شركاء إيران من قادة مليشياتٍ وأحزاب، وحيث تجري فيه الإشادة بثورة إيران وقياداتها الدينية، وأياديها البيضاء على الشعوب الإسلامية. وتبدو القدس مجرد خلفية للمشهد، فالغرض هو تسويق الأجندة الإيرانية، ودعوة الشعوب إلى أن تتخلى عن حقها في تقرير مصيرها، وأن تسلم قيادها لإيران، ولزعامتها الملهمة التي تنوب عن كل الشعوب الإسلامية، وتنطق باسمها.. شاءت هذه الشعوب أم لم تشأ.
وهكذا، بالانضباط الإيراني في معركة القدس، والنأي التام بالنفس عنها، يتضّح، مرة أخرى، مدى حدود الدعاية، ومدى انفصالها الكلي عن الواقع، بما يتعلق بالقدس والأراضي العربية المحتلة. والرسائل الإيرانية بهذا الخصوص، للغرب ولأميركا بالذات، أن طهران ليست في وارد إزعاج إسرائيل، وأن اقتراب بعض المليشيات من الحدود مع جبهة الجولان المحتل يُراد به تحسين أوراق التفاوض مع واشنطن، لا الاشتباك مع إسرائيل، وذلك للحفاظ على الاتفاق النووي، ولحمل واشنطن على الاستمرار في سياستها القائمة على غض النظر عن التمدّد الإيراني، علماً أن طهران تركّز جهودها على محاربة الإرهاب فحسب (وحيث يقتضي ذلك شن الحرب على كل مكونات ومشتملات البيئات السنيّة)! حتى لو كانت مليشيات إيران تمارس الإرهاب على طريقتها داخل إيران وخارجها.
ومن حق الفلسطينيين، ومعهم أنصار العدل والحرية في كل مكان، إزاء هذا الاستعمال المتمادي لاسم القدس في الأدبيات، وفي الغزوات الإيرانية، أن يجهروا بالرفض الحازم: ليس باسمنا.. ليس باسم القدس.
من بركات الربيع العربي أنه أثبت لنا بما لا يدع أي مجال للشك بأن مصير الحكام العرب والأنظمة العربية ليس بأيدي شعوبها أبداً، بل بأيدي كفلائها في الخارج. لقد كنا نعلم أن معظم الأنظمة الحاكمة والحكام العرب مرتبطون بالقوى العظمى، وأن تلك القوى كان لها رأي بوصول هذا الحاكم أو ذاك إلى السلطة في بلاده، لكننا لم نكن ندرك أن الرأي الأول والأخير في تعيين الحكام في بلادنا هو بأيدي القوى الخارجية وليس بأيدي الشعوب ولا القوى الداخلية. لقد اكتشفنا متأخرين أن الشعوب مثل الأطرش في الزفة كما يقول المثل الشعبي، وأن لا حول ولا قوة لها، وهي مغلوبة على أمرها، ولا تستطيع أن تختار حتى مختار القرية، فما بالك زعيم الدولة.
لا تحلموا بتغيير أنظمتكم. لا تحلموا بتغيير حكامكم. لا تحلموا بتغيير سياسات بلدانكم. لا تحلموا بتغيير ثقافاتكم ولا حتى تحديث أو تعديل مناهجكم الدراسية ولا الدينية. أنتم مجرد عبيد أيها العرب. نحن نختار لكم كل شيء، وإن حاولتم التمرد على إرادتنا فسنجعلكم تلعنون الساعة التي فكرتم فيها بالتمرد علينا أو بتحسين شروط عبوديتكم. تلك هي الرسالة الدولية للشعوب العربية. وقد وصلت تلك الرسالة القذرة واضحة الآن بعد أن انقشع غبار الثورات العربية وذاب الثلج وبان المرج. حتى لو ضحيتم بالملايين من شعوبكم، وحتى لو تشردتم بالملايين بين لاجئ ونازح. وحتى لو خسرتم ملايين البيوت في أوطانكم، فلا تحلموا بالتغيير إلا بشروطنا. انظروا ماذا قدم السوريون في سبيل التغيير من شهداء وضحايا ولاجئين ونازحين ومعاقين ومدن مدمرة. ماذا حققوا؟ لا شيء أبداً سوى الخيبة والحسرة. أنتم أيها العرب لستم جبناء كما يعيركم البعض، بل أنتم رمز للتضحية والشهادة في سبيل تحقيق الحرية والكرامة، لكن مع ذلك لن نسمح لكم بجني ثمار تضحياتكم. هكذا يقول لنا ضباع العالم. وفروا شهداءكم وتضحياتكم، فلن تحققوا مرادكم.
هل حققت الشعوب العربية أياً من طموحاتها في بلاد الربيع العربي؟ بالطبع لا. وقد تراوحت خساراتها بين العودة إلى المربع الأول كما في تونس ومصر، أو العودة إلى العصر الحجري كما في سوريا واليمن وليبيا. في تونس عاد النظام القديم لكن بشرعية جديدة لم تكن متوفرة لنظام بن علي، وكأنك يا بو زيد ما غزيت. لقد عاد النظام القديم بكل أركانه السياسية والأمنية والإعلامية والاقتصادية. لا بل عاد بشكل أكثر شراسة وفجاجة بدعوى أنه جاء هذه المرة عبر صناديق اقتراع حقيقية. وفي مصر، بات الكثيرون يترحمون على نظام مبارك اقتصادياً وأمنياً وإعلامياً وسياسياً، لا بل إن البعض بات يعتبره عصراً ذهبياً. وحدث ولا حرج عن سوريا التي لم يكتف ضباع العالم بتحويلها إلى قاع صفصف وتجريدها من أبسط بنيتها التحتية، بل أصروا على بقاء النظام الذي ثار السوريون لتغييره. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن الشرق والغرب باتا يؤكدان على ضرورة بقاء النظام والرئيس على رأس السلطة وكأنهم يرشون الملح على جروح ملايين السوريين. وبمجرد أن نسمع القوى الدولية والإقليمية والعربية تقول إن الرئيس السوري باق، فهذه وصمة عار في جبين السوريين جميعاً مؤيدين ومعارضين، لأنها تقول للسوريين بصريح الكلام: نحن من نقرر بقاء رئيسكم أو رحيله. كما أنها رسالة واضحة للنظام وللشعب السوري بأنكم جميعاً مجرد أدوات في أيدينا. نحن من نعين هذا الرئيس أو ذاك، ونحن من يتحكم ببقائه أو سقوطه.
وفي ليبيا أيضاً لم يكتفوا بتحويل ليبيا إلى ساحة حرب وتصفية حسابات داخلية ودولية، بل راحوا يعيدون كل أشكال النظام القديم. هل ثار الليبيون لاستبدال العقيد القذافي باللواء حفتر؟ لاحظوا الآن أن الجنرال الليبي الجديد يحظى بدعم عربي ودولي لا تخطئه عين.
وفي اليمن بات اليمنيون يتحسرون على أيام الشقاء والطغيان الخوالي بعد أن تحول بلدهم إلى ساحة حرب دولية وإقليمية وعربية. لا بل إن ضباع العالم يدعمون النظام الذي ثار عليه الشعب اليمني بطرق مختلفة، فلو كان العالم يريد مساعدة اليمنيين لما سمح ببقاء الرئيس اليمني وأركان نظامه الأمنيين والعسكريين والاقتصاديين داخل اليمن بعد الثورة.
هذه القصة القصيرة تلخص لنا الوضع العربي الحزين: «ذات يوم استأجر فلاح بسيط شقة ذات غرفة واحدة من إقطاعي، وعاش في تلك الغرفة الصغيرة مع زوجته وأولاده السبعة. وكانوا يعانون معاناة شديدة من صغر الغرفة. وبعد مدة جاءه الإقطاعي وقال له يا فلاح: عندي عنزتان وديك وقرد لا أجد لهم مكاناً، وأريد منك أن تسكنهم معك في الغرفة، فاضطر الفلاح إلى قبول الطلب مرغماً، فزادت معاناة العائلة أضعافاً مضاعفة من العنزتين والديك والقرد المزعج الذين حولوا الغرفة إلى كارثة. وبعد مدة عاد الإقطاعي وأخذ العنزتين والقرد والديك، ثم اتصل بالفلاح بعد ايام ليسأله عن حاله: فقال الفلاح: حالنا عال العال، ممتاز، فنحن في نعمة، والبيت كبير ومريح ولا ينقصنا من هذه الدنيا شيء.» هذا ما فعلوه مع السوريين والمصريين والليبيين والتونسيين واليمنيين والعراقيين بعد أن ثاروا. لقد سلطوا عليهم كل صنوف العذاب والشقاء والقهر والفقر كي يحنوا إلى أيام الطغيان الخوالي.
التطبيع الرسميّ مع النظام السوريّ تتويج لإنجازات راكمها «حزب الله» على مدى سنين. لكنّه أيضاً تتويج لإخفاقات خصوم الحزب والنظام، المحليّين وغير المحليّين، ولانقلاب الثورة حرباً أهليّة مصحوبة بتنازع إقليميّ وتخلٍّ كونيّ.
ولا يُعرف بالضبط كم سيدوم زمن «حزب الله»، وكم ستدوم وحدة القاعدة الشعبيّة التي ينهض عليها. لكنّنا نعيش اليوم زمناً قد يطول أو يقصر، ونعيش الحقيقة الخطيرة التي هي اندماج البندقيّة بالتأييد الشعبيّ العابر للطوائف. وهذا تحوّل كبير: مثلاً، يوم 14 آذار (مارس) 2005 أيّدت الأكثريّةُ الشعبيّة مَن يقتلهم السلاح. الآن، انحازت هذه الأكثريّة إلى من يقتلون غيرهم، في لبنان ثمّ، على نطاق أكبر، في سوريّة. انحازت إلى من يملكون حقّاً هو واجب على سواهم. قبول واقع كهذا، ناهيك عن تجميله، ينطوي على شيء من أخلاق العبيد.
هذا الانحطاط في الوطنيّة اللبنانيّة، وانبثاق الزمن الحزب-اللهيّ، ليسا صدفة تتحدّى التأويل. أسباب ذلك كثيرة ومعروفة، تراكمت سنة بعد سنة. لكنْ لا بأس بتكرارها في حزمة واحدة: 1- دعم إيران الكبير، وحتّى 2011 دعم «سوريّة الأسد». 2 - الاحتلال الإسرائيليّ حتّى انسحاب 2000، وقضيّة فلسطين منذ 2000: الاستحواذ على هذه القضيّة (والتواجد الحدوديّ مع الدولة العبريّة) جعل «حزب الله» أهمّ استثمار إيرانيّ خارج إيران. 3 - الصراع في سوريّة والطابع المذهبيّ الذي انقلب إليه، ثمّ الهديّتان الثمينتان: «النصرة» و «داعش». في هذا المناخ تحوّلت مشاركة الحزب في الحرب السوريّة عنصر تصليب لقاعدته وامتصاص لتناقضاتها، وهذا جاء معاكساً لما ظنّه الذين يعدّون خسائره البشريّة ويبنون عليها: مقتل الحزبيّين يقوّي الأحزاب التي من هذا الصنف ولا يُضعفها. هم يموتون. هو تتعاظم ثروته بالشهداء. هنا، حالة مصغّرة عن الخدمة التي أسدتها الحرب العراقيّة– الإيرانيّة للنظام الخمينيّ. 4 - ودائماً: ضعف الدولة اللبنانيّة واستضعافها. دولة الطائف قوننت ذاك الضعف ودَسْتَرتْه عبر تشريعها سلاح الحزب. لقد تبيّن أنّ مقاتلة إسرائيل تجعل التراب ذهباً، والميليشيات مقاومة. كذبة مزارع شبعا ما لبثت أن سحرت البلد كلّه وجعلته، هو نفسه، مزارع شبعا مكبّرة يريد الحزب أن «يحرّرها». إلى ذلك: الوصاية السوريّة ضغطت صلاحيّات السلطات اللبنانيّة: «الترويكا» مرّة. ترئيس من لا يمثّل مرّة. اغتيال من يمثّل مرّة ثالثة... السقف فوق رأس الجيش أبقي بالغ الانخفاض.
لكنْ هناك سبب آخر، اسمه حسن نصر الله: الوجه السياسيّ الوحيد غير التافه في صحراء السياسة اللبنانيّة. ذاك الرجل بنى موقعه بالعمل والجدّ والسهر، والعيش تحت الأرض، وطبعاً بكلّ ما يلازم الأحزاب النضاليّة والسرّيّة ممّا ينكره أصحابه أو يتكتّمون عليه. نجله قضى، لا اغتيالاً، بل في معركة. نظريّاً، يستطيع أيّ لبنانيّ «يناضل» في حزب، ولأجل «قضيّة»، أن يصير حسن نصر الله. أحدٌ لا يستطيع أن يصبح «ابن جنبلاط» أو «ابن الحريري» أو «ابن الجميّل»... في خطاباته سلّح، ويسلّح، جمهوره بالحجج التي تغذّي سجالهم السياسيّ. سواه محترفو «بهورة» وزجل وسمعة سيّئة. يخطب نصر الله فيُشتقّ موقف سياسيّ من خطابه. يعرف أنّه باقٍ حيث هو وأنّه، إن وقعت عليه الواقعة، لا يملك الذهاب إلى جنوب فرنسا أو جنوب إيطاليا. جمهوره يفتخر به وجمهور خصومه يخجل بهم. هو قائد حركة توتاليتاريّة. هم قادة حركات صبيانيّة. قياساً بهم، هو مثل الخميني للشاه.
بمواصفات كهذه، وبتوازن قوى كهذا بين حزب ساحق وبلد مسحوق، لا يتلبنن الحزب أبداً، على عكس ما توهّم البعض أو لفّقوا. الاحتمال الأكبر أن يصاب لبنان نفسه، وإلى حين، بالحزب-اللهيّة.
شيء من سافونارولاّ لبنانيّ إذاً؟ ربّما. هذا مخيف بالطبع. ولهذا، فإنّ الوضع كلّه مخيف، بل زمننا ذاته، زمن «حزب الله».
يقف المراقب مدهوشاً حيال الحملة المسعورة التي شنها الحزب الإلهي وصغاره وأبواق نظام الأسد على النائب عقاب صقر. حملة غير مسبوقة شنها "فرسان الممانعة" عبر كل قياداتهم وأتباعهم وجمهورهم ،ولَم يتبق إلا أن يستأجروا جمهوراً من أفغانستان أو نيجيريا لمشاركتهم في حمام القذف والعار، تماما كحمام الدم السوري الذي أسالوه في سوريا بعدما استجلبوا كل مرتزقة الأرض ليستبدلوا بهم طرفي صراع داخلي بين شعب يطالب بحريته ونظام يرتكب كل الفظائع.
اشتعلت حملة "الحزب الإلهي" قبيل المؤتمر الصحفي للنائب صقر بأيام، وتفاعلت بقوة كبيرة بعده، لم تتحل بأي صفة من صفات الأخلاق، ولَم توفر أي مفردة من قاموس الشتائم والسباب الذي تمتلئ به عقولهم ويعبر عن حقيقة أخلاقهم في الرد على ماورد في مؤتمر صحفي أجزم أن صاحبه لم يكلف نفسه عناء التحضير له أكثر من بضع دقائق لوضوح كل معطياته وحقائقه. وبعاصفة من الجنون تسابق "كبارهم" مع صغارهم بمستوى الانحدار باختيار العبارات والأوصاف التي لايعرفون غيرها، حتى لم يعودوا ليجدوا مايزيد به أحدهم على الآخر إلا أن يضيفوا أرقاماً قبل تكرار نفس الشتائم ليعبروا عن ألمهم وعمق جرحهم وفضيحتهم بما واجههم به النائب صقر. حتى وصلت الأمور بشيخ معمم من الحزب الإلهي ونجلٌ لقيادي كبير وأخٌ لمستشار حسن نصرالله أن يهدد علناً النائب صقر بقطع راْسه.
لم يكن مستغرباً من "رئيسٍ" سابقٍ لأحد الأجهزة الأمنية السورية وسفير "مطرود" أن يشتم النائب اللبناني بكل ما أوتي من إسفاف، وينسى الإجابة عن سؤاله الكبير حول كيفية الإفراج عن أبومالك التلي من سجون النظام، وهو للسخرية كان معتقلاً في إدارة "أمن الدولة" التي كان يرأسها هذا المرتكب على مدى عقد من الزمن، ولَم يجب "صبيه" الذي كان يرأس جهازاً في لبنان عن جلبه بسيارته برفقة زميله وثاني "الاثنان" ميشيل سماحة للمتفجرات من عرين المقاومة دمشق لزرعها في لبنان، كما ولَم يوضح لنا "رئيس حكومة الحزب الإلهي" كيفية تغلغل الإرهاب في عهده من سوريا إلى لبنان وبالعكس عندما كان مشغولاً بتشريع نقل المحروقات من لبنان إلى نظام الأسد لتستخدم وقوداً لدبابات الأسد التي تفتك بالشعب السوري. وبالتأكيد لم يقدم لنا أي من إعلامييهم المختصون بالتزوير والفبركة والذين شاركوا بمهرجان "الآلام والعويل" وهم نفسهم من كانوا يغطون أحداث ما أسموه "بمعركة عرسال" أي إيضاح حول ماجرى في هذه المعركة وأسباب الصفقة التي عقدها الحزب الإلهي مع "إرهابيي جبهة النصرة المهزومين المستسلمين والمحاصرين" حسب وصفهم في مساحةٍ لاتسمح لأحدهم حتى بالجلوس، شبيهةٍ بزنازين معتقلات قائد محور "المقاومة" بشار الأسد.
كل ماسبق لم يمكن مفاجئاً أو حتى مستهجناً صدوره عن رموز وناشطي وحتى جمهور "محور التشبيح وعبادة الأحذية" في سوريا ولبنان ضمن سياسة الإرهاب والترهيب لكل صوت مخالف لهم، أو فاضح لإجرامهم، أو كاشف لكذبهم في حالة "وهمية" من فرط القوة التي يعيشونها بكل جوارحهم. وما زاد من حدة حملتهم المجنونة الصمت من قبل ناشطي وجمهور الطرف الآخر الذي يقف بمواجهة هذا المحور الإجرامي في دمشق وبيروت، حتى توهموا أنهم نجحوا بإخافة الجميع ولجمهم، عبر سلاح الإجرام، والقتل، والتهديد، والوعيد، والشتم، والسباب.
لا أيها "السادة"، لم تصمت الأصوات خوفاً منكم، بل صمتنا ترفعاً عن مستوى أخلاقي لم تعرفه البشرية يوماً في أي درجة من درجات الاشتباك السياسي أو العسكري. صمتنا لأن درجة انكشافكم وفضيحتكم لم تعد تحتمل المزيد من الإيضاح والتوضيح، فقد وصلتم للدرك الأسفل من اللاأخلاق بعد أن كُنتُم قد وصلتم منذ زمن إلى الدرجة الأعلى من اللاإنسانية والإجرام. صمتنا لأن رمزكم صار للأسف مجرد حذاء تتغنون به ليل نهار وتستحضرونه بوجه كل من يخالفكم، بل وتجلسون مايشبه هذا الحذاء والذي يرتديه الإيراني والروسي وكل من يريد في قصر الشعب بدمشق وتتخذون منه قائداً ورمزاً. صمتنا لأن خزانكم الفكري واللغوي والذي تتفوقون به من الشتائم والسباب والسفاهة والإسفاف قد استبدلتم به لغة العقل والمنطق ليتحكم بتصرفاتكم، وكلامكم، وكتاباتكم بوجه كل من يخالفكم بالرأي ولو حتى بموقف أو كلمة ولاتوفرون حتى عائلات من يختلف معكم وأعراضهم كما لا توفر براميل حقدكم المتفجرة بشراً أو حجر.
نعم لقد صمتنا لأن الحقائق لايحتاج سردها نبرات عالية متشنجة هيستيرية، ولا لعبارات سوقية مبتذلة. فالأفكار والصدق لايحتاجان لحالة الجنون والهيجان التي أصابتكم كخفاش يحتضر ولم يبق له إلا الوَط بكل طاقته دفاعاً عن حياته التي عاشها كاملةً في ظلام الكهوف.
"وإن عدتم عدنا" عبارة كررتموها في معظم ردودكم وبياناتكم وللحقيقة فإن إنجاز حملتكم الوحيد والذي يحسب لكم، هو أنكم قد وصلتم إلى درك سفلي لن نستطيع أن نعود معكم إليه في أي حال لصعوبة الوصول إليكم في قاع القاع.
كل ما فعلته تفاهمات وقف إطلاق النار في مناطق «خفض التصعيد» في أستانة، ليس سوى مساهمة سياسية من حلفاء النظام «رعاة أستانة»، لتخفيف الضغط العسكري على قواته من مناطق أقل أولوية في أهميتها الجيوسياسية، لحين الانتهاء من المناطق الأكثر أهمية.أي أنه جهد سياسي من حلفاء النظام يكمل الجهد العسكري للحلفاء أنفسهم في سوريا، من خلال استمالة وترويض المعارضين الأقل خطورة، لحين الانتهاء من مواجهة المعارضين الأكثر خطورة كالجهاديين، بل حتى بين الجهاديين انفسهم.
أدار النظام وحلفاؤه خطة العمل العسكري بطريقة، الأكثر خطورة والأقل خطورة، فتجده ترك النصرة في إدلب لحين الانتهاء من مواجهة تنظيم «الدولة» في دير الزور ومحيطها، وليس فقط المقارنة على أساس خطورة التنظيمات، بل هي ايضا بأهمية المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، فدير الزور أكثر أولوية من إدلب، لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بحسابات النظام الداخلية، وهي تلك المرتبطة بثروة الدير النفطية والزراعية، وكذلك وجود عدة وجوه موالية للنظام من تلك المناطق العشائرية القادرة على خلخلة واختراق بعض القرى، خصوصا في الريف الغربي للدير والشرقي للرقة، حيث كانت بعض هذه القرى معارضة للتمرد على النظام من بدايات الثورة، أضف لذلك وجود قوة للنظام محاصرة منذ أكثر من عامين في دير الزور، تتمركز في المطار ومحيطه، وأجزاء من جنوب المدينة، ويريد النظام تكرار ما فعله في سجن حلب المركزي ومطار كويريس، عندما نجح في فك حصار قواته المحاصرة هناك، بعد عمل عسكري دؤوب استمر لأشهر طويلة.
وأيضا وفي إطار الحسابات الداخلية للنظام، فإن النظام عادة ما يهتم بالحفاظ واستعادة مراكز المحافظات في سوريا، وإن ترك الأرياف، لذلك تراه يهتم بإضافة مركز محافظة جديد لقائمة المراكز التي يهيمن عليها منذ بدء الثورة المسلحة. أما إذا تحدثنا عن الحسابات الإقليمية، أي تلك المرتبطة بعلاقات النظام بقطب الرحى في حلفه، أي طهران، فإن دير الزور محافظة حدودية مع العراق، وبات معروفا مدى الاهتمام الذي يوليه حلفاء دمشق لإدامة التواصل الجغرافي مع بغداد عبر الحدود، لذلك كان لاعتبار دير الزور أولوية في العمليات العسكرية اعتبارات داخلية وإقليمية، جعلتها أكثر الحاحا من إدلب، ومن باقي المناطق المؤجلة في «خفض التصعيد».
وهكذا فإن خطة مناطق خفض التصعيد الأربع، وهي غوطة دمشق الشرقية، وريف حمص وجنوب سوريا، وإدلب، جاءت لتمكن التنظيم من تركيز جهده الاكبر على عملياته في دير الزور، فكانت كأنها مناطق مؤجلة الحسم العسكري حسب سلم الاولويات، ورغم ذلك تجد ان النظام يواصل هجماته المتقطعة والقصف على كل مناطق خفض التصعيد تقريبا، وهذا دليل آخر على أنه ينظر لها ليس كمناطق مشمولة بوقف حقيقي لإطلاق النار، وإنما مناطق مشمولة بتخفيف إطلاق النار، اذا صح التعبير. وهذه السياسة هي التي اتبعها النظام على مدار عامين، منذ اتفاقات جنيف الفارغة، وقبلها الرياض، حيث كان يخفف من ضغط جبهات، من خلال اتفاهمات لوقت محدود، ليركز على جبهات أكثر أهمية، وبينما يواصل جهده العسكري في الجبهات التي تسيطر عليها فصائل عنيدة، لا تقبل التسويات، فإن جهده السياسي وجهد حلفائه، كما قاعدة حميميم الروسية، ينصب على باقي مناطق «خفض التصعيد» لكي يتم إقناع فصائلها المعارضة بالتسوية وتسليم المناطق للنظام، مقابل خروج آمن، إذ أن الأسلوب المتبع مع هذه المناطق المشمولة بخفض التصعيد، أو وقف إطلاق النار سابقا، هو القصف والحصار، بدون بذل جهد حملة عسكرية كبيرة للاقتحام، كون هذه الفصائل غالبا ما تقبل بالانسحاب بتسويات تحت ضغط الجوع والحصار والقصف، وهذا ما تم في المعضمية وداريا وغيرها، خلال اجتماعات المفاوضات السابقة، وهذا ما تم قبل أيام في جنوب سوريا، عندما انسحب جيش العشائر من كامل الحدود السورية الأردنية في محافظة السويداء، وأدخل قوات النظام لمواقعه، وإن كانت بعض المناطق كعين ترما مثلا تشهد محاولات اقتحام وتقدم من قبل النظام، ومقاومة من قبل المعارضة، فإن هذه العمليات هي خطوة أخيرة لإكمال الضغط والحصار للوصول لتسوية، بدون مزيد من المعارك، وهذا ما حصل في حلب، حيث انهارت كل فصائل المعارضة ما عدا النصرة وحليفها الزنكي، وسيطر النظام على كامل حلب الشرقية في أيام معدودة، بعد عمليات حصار ومواجهات استمرت لعامين كاملين في محيط حلب لإكمال طوق المدينة، كان معظمها مواجهات مجاميع جهادية في أحرار الشام والمهاجرين والأنصار وجند الخلافة وجبهة أنصار الدين.وما يحصل مؤخرا من تفاهمات مع جيش الإسلام سيجعل الغوطة في طريقها للمصير نفسه، رغم خلافه مع فيلق الرحمن.
هذه إذن السياسة المتبعة في مناطق خفض التصعيد، حصار ومساومات وقصف ومناوشات لا تصل إلى حملة عسكرية ضخمة، ثم تسوية ودخول آمن، لتوفير هذه الحملات العسكرية البرية الواسعة، للمناطق التي يعرف النظام أنه لن يستعيدها سوى بحملات عسكرية وجهد حربي خالص، وهي التي يسيطر عليها النصرة والتنظيم في إدلب ودير الزور.
فحوى القضية إذن، هي أن النتائج العسكرية على الأرض في هذه الحروب الأهلية هي التي تحدد المسار السياسي، وليس العكس، وكل ما دون ذلك من تفاهمات وصيغ هلامية ما هي إلا محاولة لكسب الوقت لحين إتمام المهمة العسكرية، حسب الأهم فالمهم.
وحين تتم السيطرة على المناطق الأصعب، يدرك النظام أن بعض فصائل المعارضة الصغيرة في مناطق «خفض التصعيد» لن تقبل فقط ببقاء الاسد، بل ستنضم لصفوف الجيش النظامي لمحاربة «الإرهاب»، وهذا ما حصل فعلا من بعض المجموعات التي خرجت بعد حصارها لأربعة أعوام في ريف دمشق لتهتف بـ»الوطن» وتنضم للفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري، بل إن هذا ما فعله قائد مؤسسة المعارضة السياسية السابق المدعوم سعوديا الجربا، الذي أعلن رفض مواجهة النظام عسكريا، وانضم للعمليات العسكرية شمال سوريا لمحاربة «الإرهاب» بدعم من حليف الأسد.. روسيا، لذلك لن يجد النظام طريقة أفضل للتعامل مع مناطق خفض التصعيد، سوى بمنطق تأجيل التصعيد لحين إتمام التفاهم مع من يوفر عليه الجهد العسكري.. مثل الجربا.
شكلت الحياة في سورية نموذجاً مقبولاً لحياة المنفى الفلسطيني، قياساً بحالات أخرى أكثر تطرفاً في إذلالهم، بخاصة في لبنان. فقد وجدوا حالة احتضان شعبية سورية عالية التضامن، وصلت في الكثير من الحالات الى الاندماج في الحياة السياسية الفلسطينية، فهناك الكثيرون من السوريين اختاروا الانضمام إلى الفصائل الفلسطينية، وقدموا حياتهم من أجل فلسطين في صفوفها. كذلك هناك فلسطينيون اختاروا الانخراط في الحياة السياسية السورية، منهم من انضم إلى حزب البعث وحصل على امتيازات، ومنهم من انتمى لأحزاب المعارضة ودفع ثمن ذلك سنوات طويلة في السجن.
وفي الحالتين لم يكن الانتماء الفلسطيني الى قوى سورية ظاهرة تهدد العمل السياسي الفلسطيني وفاعليته في الأوساط الفلسطينية، ولا كان الانتماء السوري إلى الفصائل الفلسطينية، يدفع هذه القوى للتدخل في الشأن السوري، على رغم التدخل السوري المستمر في الشأن الفلسطيني، ولا كان العمل السياسي الفلسطيني في صفوف المعارضة السورية، يعطيهم وزناً في تقرير السياسة السورية، التي يقررها رجل واحد.
عانى الفلسطينيون في سورية ما عاناه المواطن السوري، سواء على مستوى الحياة والمتاعب الاقتصادية، أو على مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع، والتي شملت المخيمات في شكل طبيعي. فالمخيمات في سورية لم تكن معازل أمنية كما هي المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني التي لا تخضع للأمن اللبناني. في سورية الموضوع مختلف، كل شيء تحت القبضة الأمنية، وما يخضع السوريون له من تدقيقات أمنية، يخضع الفلسطينيون له بالقدر ذاته.
لم يشعر الفلسطينيون بتهديد الاقتلاع من سورية، على رغم تحرك هذا الشعور أحياناً، عندما تعرضت تجمعات فلسطينية لهذا التهديد. كان الاستقرار السمة البارزة لحياة الفلسطينيين في سورية، وكانوا يعتقدون أن مساراً واحداً يمكن أن يجعلهم يغادرون سورية، وهو مسار العودة الى فلسطين.
فجأة، تبين أن الثابت يهتز، فلا يمكن لوضع اللاجئ أن يبقى ثابتاً، في الوقت الذي يهتز البلد الذي يقيم فيه، ولم يكن من الممكن أن يبقى الوجود الفلسطيني على حاله، في الوقت الذي تشهد سورية صداماً دامياً في كل المناطق بفعل الاحتجاجات التي اجتاحت البلد وقمعها النظام بوحشية.
يكتشف اللاجئ في حالة التهديد المباشر والداهم، أنه لا ينتمي إلى المكان المقيم فيه، أو أن هناك من يُفهمه ذلك، ومن يُذكره بأن المكان ليس مكانه، ويطلب منه أن لا يتدخل، وأن ليس له الحق في التعبير عن رأيه في قضايا لا تخصه، وكل طرف يتهمه بالعمالة للطرف الآخر! عند ذلك، يكتشف من جديد هشاشة وجوده في المنفى. وأن الثبات وهم، وأن الاستقرار قناع مزيف لكارثة تنتظره في أول انعطافة، أو في أول صدام. لذلك، كان الفلسطينيون أول من اتهمهم النظام بأنهم يفتعلون الصراع في سورية.
وبتمزيق المخيمات وتدميرها سكانياً وعمرانياً، فإن الوجود السابق للمخيم لم يعد موجوداً، ولن يعود في المستقبل الى ما كان عليه. كما أن سورية التي كانت قائمة قبل 2011 لم تعد موجودة، ولن تكون في المستقبل. شكلت المأساة السورية فصلاً جديداً من فصول الدراما الفلسطينية، لكنها هذه المرة مجدولة مع مأساة سورية أوسع تستعيد محطات التجربة الفلسطينية في الكثير من التفاصيل، ليس أولها التهجير والمذابح، وليس آخرها منافي احتضنتهم وسرعان ما انقلبت عليهم.
إن التاريخ السوري الراهن في جانب من جوانبه تكثيف حداثي وسريع للمأساة الفلسطينية. ما اختبره الفلسطينيون خلال أكثر من ستة عقود، جربه السوريون في أقل من ست سنوات، إنهم في جانب من مأساتهم ضحايا لعنة التاريخ السريع.
لا تتميز محافظة دير الزور بكونها ثاني أكبر محافظة سورية من حيث المساحة وحسب، بل بكونها خزان النفط والغاز السوريين، حيث تحتوي على 40 في المئة من احتياطياتهما، ناهيك عن إنتاجها الزراعي والحيواني الكبير. وقد منحها موقعها الجغرافي أهمية إضافية، فهي عقدة مواصلات بين معظم المحافظات السورية ومعبر إلى دول الجوار (العراق والأردن والسعودية والكويت) عبر البادية السورية المترامية الأطراف (ثلث مساحة سورية)، وهذا جعلها مركز جذب وساحة تنافس على مناطق نفوذ بين قوى إقليمية ودولية عدة في سياق صراعها على سورية، وأجج التنافس تحولها إلى ميدان المواجهة الأخيرة مع مشروع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» في ضوء حسم معركة الموصل واقتراب حسم معركة الرقة.
دفع التحضير لمعركة دير الزور من قبل قوى إقليمية ودولية عدة إلى الدخول في سباق ميداني (نشر قوات، تشكيل تحالفات، طرح خطط)، وسعي إلى تفاهمات على تقاسم النفوذ، أو تفاهم عسكري يجنب قواتها اصطداماً مباشراً بالاتفاق على تركيز الجهد على قتال قوات «داعش»، والتسابق على ملء الفراغ الذي سينجم عن دحرها. فالولايات المتحدة، ومن خلال رعايتها لقوات سورية الديموقراطية ولكتائب من الجيش السوري الحر، تعمل على تجميع قوات موالية في منطقة الشدادي، وتشكيل تحالف عسكري تحت عنوان «جيش وطني»، وتجهيزه لخوض معركة دير الزور، في ضوء قرار واشنطن السيطرة على المحافظة لقربها من شمال سورية، حيث القواعد الأميركية، ولما تحويه من نفط وغاز، ولوقوعها على طريق بغداد، كانت قد أبلغت روسيا بقرارها السيطرة على منطقة شرق الفرات وحصلت على موافقة الأخيرة ببقاء الشمال والشرق تحت سيطرتها هي وحلفاؤها من الكرد والعرب، وعملت على تحصينها وحمايتها من خلال إغلاق طرق الوصول إلى الحدود السورية- العراقية في الجانب العراقي من الحدود عبر سيطرة قوات البيشمركة على معبر الوليد العراقي، مقابل معبر اليعربية السوري في محافظة الحسكة، ونشر قوات أميركية خاصة في محافظة نينوى، لقطع الطريق على قوات الحشد الشعبي العراقي، الموالية لإيران، التي دفعتها إيران لفتح ممر من العراق إلى سورية بحيث تستكمله الميليشيات الموالية في الجانب السوري من الحدود بإيصاله إلى لبنان فالبحر الأبيض المتوسط، وقطع الطرق على القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في الجانب السوري من الحدود عبر إقامة قواعد عسكرية في التنف والزكف في البادية السورية. بموازاة هذا التحرك الأميركي، سعى الروس إلى ما أسموه «تحديد حدود مناطق النفوذ» كمدخل لمنع أميركا من السيطرة على كامل منطقة الحدود السورية- العراقية، وفق تصريح لمسؤول روسي أكد «أنه ليست هناك نية لدى بلاده للدخول في صدام عسكري مع الأميركيين»، لكنها «ترسم حدود المناطق». وهذا دفع الروس إلى تقديم غطاء جوي لقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية في زحفها باتجاه شرق سورية وصولاً إلى الحدود السورية- العراقية، من جهة، والعمل، من جهة ثانية، مع الولايات المتحدة على الاتفاق على مناطق خفض التوتر، وتنفيذ وقف إطلاق نار، في الجنوب الغربي (محافظات درعا القنيطرة والسويداء)، والبحث في الصيغة المناسبة لمحافظة إدلب، وإلى عقد اتفاقات خفض توتر مع الفصائل المسلحة في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، لتوفير غطاء لنشر قواتها في هذه المناطق، من جهة ثالثة، وهذا وضعها في موقف حرج بين حاجتها لإيران وميليشياتها لموازنة الثقل العسكري للولايات المتحدة واحتواء قدرتها على استنزافها وإنهاكها، وإدراكها لطبيعة التحرك الإيراني وسعي إيران والنظام السوري لتقويض التفاهم مع واشنطن على مناطق خفض التوتر وتنفيذ وقف إطلاق نار دائم، لما يترتب عليه من ضرب لنفوذ إيران واحتمال فرض حل سياسي على النظام لا يحقق تطلعاته وتصوراته لمستقبله، بدفع قواتهما إلى شرق سورية وسعيهما للدخول على خط معركة تحرير دير الزور من «الدواعش»، وحاجة روسيا للتفاهم مع الولايات المتحدة لتكريس دورها ومصالحها، بعد أن أدركت استحالة تمرير حل سياسي وضمان الهدوء والاستقرار في سورية، بحيث تتخفف من تبعات تدخلها وتنفذ إستراتيجية خروج مع تكريس مصالحها في سورية، بما في ذلك حصة من تركة «داعش» الجغرافية، حصة من نفط وغاز وفوسفات البادية السورية، من دون مباركة واشنطن، وما يتطلبه ذلك من الموافقة على تحجيم دور إيران ونفوذها تمهيداً لإخراجها هي وميليشياتها من سورية في مرحلة ما بعد «داعش».
وهذا فرض على واشنطن وموسكو تحركاً عسكرياً حذراً وبحسابات ميدانية دقيقة في ضوء توجس الطرفين من رد فعل إيران على إخراجها من المعادلة وتمسكها بإقامة الممر البري الذي يربط بين إيران ولبنان مروراً بالعراق وسورية، وفرض على أبناء المحافظة استقبال أقدارهم القاسية والعيش تحت رحمة قصف عشوائي مدمر من طائرات التحالف الدولي وطائرات روسيا والنظام، ما دفعهم إلى النزوح إلى العراء والعيش تحت لهيب الشمس بلا طعام أو ماء أو دواء، و «النفير العام» الداعشي الذي ألزم من هم في عمر بين العشرين والثلاثين بالقتال إلى جانبه تحت طائلة العقوبة التي تجيزها مصفوفته الفقهية تحت عناوين الردة والفرار من الزحف التي خبروها في ظل خلافته المزعومة.