مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٨ يناير ٢٠١٧
الجمهورية السورية الأولى.. كانتونات سبقت حالة الاتحاد


أورث سقوط الدولة العثمانية، ودخول سوريا الطبيعية ضمن دائرة التقسيمات الاستعمارية التي طالت معظم البلاد العربية، كانتونات فيدرالية دعمت نشوءها دول “الاحتلال”، واستمرت إلى ما بعد إعلان الجمهورية الأولى، لينتهي العمل بها بالتزامن مع إعلان الاستقلال.

وتطورت سوريا، من حيث التقسيمات الفيدرالية ثم الإدارية، من خمس دول إلى سبع محافظات ثم 14 محافظة، وخسرت أجزاءً سيادية من الشمال والغرب والجنوب، لكنها حافظت على استقرار حدودها وحالة الاتحاد السائدة فيها منذ سبعينيات القرن الفائت وحتى عام 2012، أي حوالي أربعة عقود سبقت اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الأسد الابن، وما تبعها من انقسام الدولة إلى مناطق نفوذ متصارعة.

ونسرد في هذا التقرير حالة سوريا الجيوسياسية، عقب ترسيم الدول الكبرى للحدود في المنطقة العربية، وما تبعها من إمعان الانتداب الفرنسي في تقسيم الدولة الواحدة إلى دول وكانتونات مستقلة، في الفترة الممتدة بين عامي 1920 و1936.

سياسة فرنسا الانتدابية

ونسلّط الضوء في هذا الباب، على ما فنّده الباحث السوري نشوان الأتاسي، في كتابه “تطور المجتمع السوري”، والذي أوضح من خلاله أن الانتداب الفرنسي، ومن أجل وقف انتشار المد القومي، كان عليه بسط هيمنته على الداخل السوري، وتحديدًا دمشق.

وفي التطبيق العملي للسياسات الفرنسية في سوريا، اعتمد الانتداب ثلاث استراتيجيات عمل على تنفيذها حينما بسط سيطرته على البلاد، وهي: التقسيم الجغرافي، وتأليب المناطق الريفية على المراكز الوطنية المدنية، ومحاولة الحكم باستخدام عناصر متعاونين من بين النخبة السياسية التقليدية، بحسب الباحث.

وعمدت فرنسا وبريطانيا معًا إلى تقسيم سوريا الطبيعية إلى انتدابات منفصلة إداريًا تحت إشرافهما، ما أدى إلى تقطيع أوصال البلاد وعزلها وإحاطتها بحدود مصطنعة وحواجز جمركية أعاقت انتقال السلع والناس بحرّية، لكن التقطيع هذا لم يكن سوى المرحلة الأولى من عملية التقسيم.

في المرحلة التالية، عمدت فرنسا فور احتلالها سوريا، إلى تجزئتها أيضًا إلى قطع أصغر، بهدف عزل الحركة القومية العربية واحتوائها، فأعلنت في أيلول 1920، نشوء دولة لبنان الكبير، بضم مدن طرابلس وصيدا وصور ومناطق ووادي البقاع وجبل عامل وسهل عكار إلى جبل لبنان، فولدت دولة بأغلبية ضئيلة كاثوليكية مارونية.

ثم سلخت فرنسا أجزاء من ولاية حلب في الشمال ومنحتها لتركيا في تشرين الأول 1921، ومنحت امتيازات خاصة لتركيا في “لواء اسكندرون” (هاتاي حاليًا)، والتي كانت واقعة ضمن ولاية حلب، ما قلص مجددًا من مساحة سوريا، إلى أن تنازلت نهائيًا عن “لواء اسكندرون” لتركيا عام 1939.

واتبعت فرنسا فيما تبقى من سوريا سياسة “فرّق تسد”، فحوّلت البلاد إلى وحدات مناطقية وعرقية صغيرة، ففي عام 1920 شرعت في تقسيمها إلى أربعة كيانات مذهبية: دولة بأغلبية سنية عاصمتها دمشق، ودولة ثانية بأغلبية سنية عاصمتها حلب، وحكم كلًا من المدينتين حاكم محلي يدعمه مستشارون فرنسيون، ثم تمّ الإعلان عن دولة علوية في الساحل السوري، ودرزية جنوب سوريا، إلى جانب كيان خاص بمنطقة الجزيرة.

أسهمت هذه الاستراتيجية في تحديد نطاق الحركة الوطنية السورية، ومنعها من الوصول إلى المناطق المأهولة بالأقليات، كما أن القوى الوطنية التي نشطت في المدن الرئيسة (دمشق وحلب وحمص وحماة) كانت غائبة في المناطق المحيطة، ولهذا واجهت صعوبات كبيرة في توسيع قاعدة نشاطها خارج المراكز الأربعة.

دولة دمشق

تولّى الجنرال هنري غورو، المندوب السامي للانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، مهمّة فصل لبنان عن سوريا، وإعلانها دولة مستقلة، ثم إتباع مناطق بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا بها في 3 آب 1920، بعدما كانت هذه المناطق تابعة لقضاء دمشق.

في تشرين الثاني 1920، رسّمت حدود دولة دمشق بشكل نهائي بفك الأردن وفلسطين عنها وإلحاقها بالانتداب البريطاني، وفقًا لاتفاقية “سايكس- بيكو”، والأقضية الأربعة التي ألحقت بدولة “جبل لبنان الكبير”، وشملت دولة دمشق: مدينة دمشق وريفها، وألوية حمص وحماة وحوران.

دولة لبنان

في 31 آب، أعلن الجنرال غورو إنشاء دولة “لبنان الكبير”، ويشمل متصرفية “جبل لبنان”، إضافة إلى سناجق بيروت وصيدا وطرابلس، والأقضية الأربعة سابقة الذكر (بعلبك، والبقاع، وراشيا، وحاصبيا)، وانفصلت لبنان منذ ذلك الوقت رسميًا عن سوريا، عملًا باتفاقية “سايكس- بيكو” ومؤتمر “سان ريمو”.

دولة حلب

وتضم محافظات حلب وإدلب ودير الزور الحالية، أعلن عنها في تشرين الثاني 1920، وعاصمتها مدينة حلب، وألحق بها سنجق “اسكندرون” عام 1923.

لواء اسكندرون

ضمت السلطات الفرنسية “لواء اسكندرون” إلى دولة حلب عام 1923، وأعطته حكمًا ذاتيًا مقرّبًا من الحكومة التركية حتى عام 1926، حينما عاد إلى الدولة السورية مجددًا.

في عام 1937 أعطي “لواء اسكندرون” حكمًا ذاتيًا مجددًا، إلى أن ضمته تركيا رسميًا عام 1939، وأصبح منذ ذلك الوقت تحت اسم “ولاية هاتاي”.

مقاطعة الجزيرة

استحدث الانتداب الفرنسي مقاطعة الجزيرة عام 1920، وتشمل المناطق الواقعة ضمن محافظة الحسكة حاليًا، وأتبعت إلى دولة حلب اسميًا، ومنحت استقلالًا ماليًا وإداريًا بإشراف فرنسي، واستمرت بذات النسق حتى إعلان الجمهورية السورية الأولى عام 1932.

دولة جبل الدروز

اعتبرت فرنسا جبل العرب (الدروز) دولة مستقلة في 3 آذار 1921، بمسمى “دولة جبل الدروز” تولى رئاستها الأمير سليم الأطرش بمعاونة مستشارين فرنسيين.

شملت الدولة محافظة السويداء الحالية، وامتد نفوذها إلى القرى الدرزية في البقاع اللبناني والجولان السوري، واستمر العمل بها حتى عام 1936، حين عادت إلى الدولة السورية.

لكنها حافظت على استقلالها المالي والإداري حتى 30 كانون الأول 1944، حين أعلن المجلس النيابي السوري ربطها بشكل نهائي بالحكومة السورية.

دولة جبل العلويين

أعلن عنها في تشرين الثاني 1920، وانفصلت بشكل كامل في أيلول 1923، وتشمل محافظتي اللاذقية وطرطوس، إلى جانب جسر الشغور التابع حاليًا لمحافظة إدلب، ومصياف التابعة لحماة، وتلكلخ والحصن التابعة لحمص.

غلب الطابع الطائفي البحت على هذه الدولة، من ناحية المسمى المرتبط بالطائفة العلوية التي هيمنت على مقاليد الحكم فيها رغم وجود نسبة سنية ليست ضئيلة في المنطقة الساحلية، وانضمت مجددًا إلى الدولة السورية في كانون الأول 1936.

لاحقًا اعتبرت سوريا مكونة من إقليمين فيدراليين رئيسيين، حلب ودمشق، باستثناء جبلي الدروز والعلويين، ثم أتبع الجبلين بالإقليمين، إلى أن انتهت حالة الفدرلة نهائيًا عام 1940، إبان الحرب العالمية الثانية.

مراحل انتداب ثم تقسيم ثم فدرلة فعودة إلى الجسم الواحد، مع فقدان أجزاء أساسية أصبحت دولًا أو انضمت إلى دول الجوار، هي حالة سوريا خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، في حين تمر الجغرافيا السورية الحالية بمخاضات عسيرة تلت ثورة شعبية، وتداخلات مصالح القوى الجديدة (أمريكا- روسيا) فيها، فهل ستتمخض عن كانتونات أو دويلات جديدة، أم ستحافظ على جغرافيتها؟


الجمهورية السورية الأولى

وهي الفترة الممتدة بين عامي 1932 و1963، تخللها فترتان رئيسيتان بدستورين، الأول أعلن عنه عام 1932، والثاني عام 1950، وعطّل الأخير إبان انقلاب حزب البعث عام 1963.

شهدت هذه الفترة أحداثًا سياسة وعسكرية مهمة، منها إعادة البلاد إلى حالة الاتحاد باندماج دولة العلويين ودولة الدروز بها عام 1936، وسلخ “لواء اسكندرون” عن سوريا عام 1939، وإعلان الاستقلال عام 1941 والجلاء الفرنسي الأخير عام 1946، وإعلان الوحدة مع مصر عام 1958.


الجمهورية السورية الأولى.. كانتونات سبقت حالة الاتحاد

وهي الفترة الممتدة من عام 1963 وحتى اليوم، أي منذ انقلاب حزب “البعث” على السلطة الشرعية، واعتقال الرئيس الأسبق ناظم القدسي ورئيس الحكومة خالد العظم.

شهدت سوريا منذ ذلك الوقت إنشاء عدة دساتير عززت من هيمنة الحزب الحاكم على مفاصل البلاد، أبرزها الدستور الذي أعده حافظ الأسد عام 1973، والدستور الذي أقره بشار الأسد عام 2012.

ومرت بأحداث سياسية وعسكرية بارزة أهمها التدخل العسكري في لبنان عام 1975، وانتفاضة جماعة “الإخوان المسلمون” عام 1979، ومجرزة حماة عام 1982، والثورة الشعبية ضد بشار الأسد عام 2011.

توالى على سدة الحكم منذ انقلاب “البعث” ستة رؤساء، أربعة منهم كان وجودهم اسميًا في ظل الهيمنة العسكرية على السلطة، وهم: لؤي الأتاسي، وأمين الحافظ، ونور الدين الأتاسي، وأحمد الحسن الخطيب، ثم حافظ الأسد، وبشار الأسد.

أبرز رؤساء سوريا خلال الجمهورية الأولى وفقًا للجدول الزمني: محمد علي العابد، هاشم الأتاسي، بهيج الخطيب، تاج الدين الحسني، حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي، فوزي سلو، مأمون الكزبري، شكري القوتلي، جمال عبد الناصر، ناظم القدسي.

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
تحولات الموقف التركي وتأثيره على الثورة السورية

أثار تحول الموقف التركي إزاء الأزمة السورية الكثير من التساؤلات حول طبيعة ذلك التحول وأبعاده المترقبة على مسار الثورة، في حين ربطت الكثير من المصادر تحولات السياسة الخارجية التركية بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو الماضي. والتي نشطت الدبلوماسية التركية بعدها بصورة ملحوظة، وخاصة فيما يتعلق بمحاولة تفكيك العقدة السورية من خلال التوصل إلى تفاهمات إقليمية ودولية.

لكن الحقيقة هي أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد قام قبل محاولة الانقلاب الفاشلة بنحو شهرين بانعطافة حادة في سياسة بلاده نتج عنها استقالة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو وتولي بن علي يلدريم في 24 مايو عام 2016، والذي أخذ على عاتقه تبني عملية تحول جذرية في السياسة الخارجية التركية، ومن أبرزها ملامحها:

أولا: إعادة العلاقات مع تل أبيب

بعد شهر من تولي يلدريم رئاسة الحكومة، عادت العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى سابق عهدها عقب اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشفهي، ومن ثم تنازل أنقرة عن القضية المرفوعة ضد تل أبيب في المحكمة الدولية، ورأت دراسة نشرها موقع "ديفينس ون" العسكري (27 يوليو 2016) أن عودة العلاقات بين البلدينجاءت نتيجة إحباط أنقرة من إصرار إدارة أوباما على دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية المرتبطتان بحزب العمال الكردستاني، مشيرة إلى أن العامل الكردي هو العنصر الأساسي الذي يقود تركيا للتطبيع مع إسرائيل، حيث ترغب أنقرة في تخفيف نزعة تل أبيب لدعم استقلال أكراد العراق، وتفويت فرصة إقامة علاقة بين أكراد سوريا مع إسرائيل، وإقناع إسرائيل بالتوقف عن دعم طموحات أكراد سوريا لتحقيق الاستقلال.

ونظرا للاعتقاد السائد بأن نفوذ تل أبيب قد يغير توجهات واشنطن، فقد حرص أردوغان على الالتقاء بقادة اليهود الأمريكيين مرتين في الربيع الماضي، وأعرب عن أمله في أن يختار اليهود الوقوف في صف الأتراك حينما تشتد المنافسة على الاختيار بين الأكراد وبين أنقرة، كما أن خيبة الأمل التركية والفشل في التقارب مع معظم الدول العربية قد سرع من وتيرة هذا التقارب الذي قام على أنقاض محاولات فاشلة لإنشاء تحالفات عربية -كردية في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

ثانيا: الانتقال من حالة العداء إلى إبرام تحالف إستراتيجي مع موسكو

وفي غضون الأشهر الثلاثة عقب تولي يلدريم بذلت تركيا وساطات عديدة لإصلاح العلاقات مع روسيا. وتوجت تلك الجهود بزيارة أردوغان لنظيره بوتين في مدينة سان بطرسبرغ يوم الثلاثاء 9 أغسطس 2016، مصطحبا معه عددا من القادة الأمنيين والعسكريين للتباحث مع نظرائهم الروس حول سبل التعاون الميداني في الملف السوري، وتم الاتفاق على إنشاء غرفة عسكرية مشتركة للتنسيق في الشأن السوري، وأكد تقرير "ديبكا" (12 أغسطس 2016) أن روسيا وأنقرة قد اتفقتا على تفعيل دور المجلس المشترك في منع قوات سوريا الديمقراطية من التقدم نحو الحدود السورية -التركية، وأن يتاح للقوات التركية مجال التوغل في الحدود السورية.

وأشار موقع "ستراتفور" الأمني (12 أغسطس 2016) إلى أن بوتين عرض تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أنقرة، وتضمنت المباحثات الأمنية كذلك قيام الفريق التركي بعرض فكرة إدماج فصائل المعارضة شمال البلاد في تشكيل موحد وتدشين عملية سياسية بإشراف روسي -تركي مشترك، وذلك مقابل الحصول على ضمانات روسية تخص الملف الكردي والحدودي، كما تضمنت المباحثات بين الجانبين سبل تعزيز التعاون الاقتصادي واستئناف العلاقات التجارية مقابل "تنسيق أكبر" لإعادة الهدوء وتثبيت آليات وقف إطلاق النار داخل سوريا.

وفي تصديق للتكهنات بوجود تفاهمات بين موسكو وأنقرة حول سوريا، تحدث بوتين عقب سقوط الأحياء الشرقية من مدينة حلب عن اتفاقه مع نظيره رجب طيب أردوغان في شهر أغسطس المفضي إلى استسلام المعارضة المسلحة في شرق حلب، وفتح مسار تفاوضي جديد يوازي مسار جنيف دون انخراط واشنطن والقوى الإقليمية الفاعلة، وأكد بوتين في مؤتمر صحافي مع نظيره الياباني في 16 ديسمبر أن: "كل شيء يجري وفق التوافقات التي أبرمناها، بما في ذلك الاتفاقات مع الرئيس التركي خلال زيارته سان بطرسبورغ "، مضيفا: "اتفقنا أن توفر تركيا كل مساعدة ممكنة بالنسبة لإزالة هؤلاء المسلحين المستعدين للاستسلام في حلب ".

ثالثا: تعزيز العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة

عقب توتر شاب العلاقات بين تركيا وإدارة أوباما، فتحت الانتخابات الأمريكية بابا جديدا لإعادة الحرارة بين البلدين من بوابة الحزب الجمهوري، وذلك عقب تغريدة أطلقها دونالد ترامب في 24 أغسطس الماضي أشار فيهما إلى وجود أدلة لديه بتورط 13 ضابط من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، مؤكدا أن: "قيادة أوباما الفاشلة" هي السبب في وقوع هذه: "الأخطاء الغبية التي تعرض مصالح أمريكا للخطر".

في هذه الأثناء تحدث مستشارو ترامب عن دور الإدارة الأمريكية في دعم تنظيم فتح الله غولن، وتغلغلهم في دوائر الحزب الديمقراطي ودعمهم لكلنتون في حملتها الانتخابية، فقد أكد الجنرال مايكل فلين الذي كان يترأس جهاز الاستخبارات العسكرية أن إدارة أوباما كانت ترغب في إنجاح المحاولة الانقلابية ضد أردوغان لتعزيز دور غولن وجماعته في أنقرة، ورأى أن كلنتون كانت ترغب في تحقيق دفعة كبيرة على الصعيد الخارجي من خلال استبدال أردوغان بجماعة غولن "الأكثر انفتاحا" كجزء من إستراتيجيتها لدعم حركات التغيير في الشرق الأوسط منذ عام 2011.

وأشار التقرير إلى أن مستشاري ترامب قد تحدثوا عن وجود الآلاف من مؤيدي غولن في صفوف حملة كلنتون الانتخابية، في حين أسهمت الاتهامات التي أطلقها فريق كلنتون لبوتين بدعم ترامب في التقريب بين الزعيمين بالفعل، ويتوقع أن تسهم علاقة التقارب بين بوتين وأردوغان مع ترامب في إنشاء تحالف بين الدول الثلاثة لحسم الملفات العالقة في المنطقة العربية، وعلى رأسها الملفين السوري والعراقي.

واتهم تقرير "ديبكا" (14 نوفمبر 2016) أوباما بمحاولة إفساد التعاون بين فريق ترامب مع موسكو وأنقرة بإرسال شحنة ضخمة من السلاح إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، لإفساد أية ترتيبات يمكن أن يصيغها فريق ترامب مع أنقرة وأربيل قبل توليه الإدارة مطلع العام القادم.

كما تحدث التقرير عن وجود تفاهمات تركية-روسية بدعم من فريق ترامب لتمكين الأتراك من السيطرة على الرقة بدعم جوي روسي لطرد تنظيم "داعش" منها بحلول منتصف يناير 2017، وذلك في مقابل دعم تركيا لمفاوضات سرية مباشرة بين الروس والفصائل الرئيسية في حلب تمهيدا لاتفاق بين الطرفين، وبذلك يكون ترامب قد دشن عهده بإنجازين مهمين في كل من الرقة وحلب، ولذلك فإن فريقه يعمل بجد في الفترة الحالية على تكثيف التواصل مع أنقرة وموسكو، وكذلك أربيل لتعزيز التعاون بين هذه القوى الإقليمية، وذلك في ظل تعثر حملة أوباما في الموصل وفشلها في تحقيق أي تقدم يذكر.

ويدور الحديث في واشنطن عن قيام الإدارة المنتخبة بإعداد خطة لمعالجة الأزمة السورية بالتعاون مع موسكو، وتتضمن الإبقاء على بشار الأسد مع تخلیھ عن بعض الصلاحیات لحكومة تشارك فيها جهات من المعارضة، وذلك بالتزامن مع إخراج القوات الإیرانیة والميلشيات التابعة لها من سوریا، وعلى رأسها "حزب الله "، وتنفيذ خطة رديفة لاستیعاب المعارضة في صفوف قوات" شبھ نظامیة "تمهيدا لضمها إلى جيش النظام في مرحلة لاحقة.

رابعا: إضعاف دور الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي

جاء التقارب التركي مع موسكو ومع مجموعة ترامب بواشنطن على حساب العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ورأت دراسة نشرها معهد "أتلانتيك كاونسل" (12 أغسطس 2016) أن إصلاح العلاقات التركية-الروسية قد جاء بعد إبداء أنقرة استعدادها للنأي بنفسها عن حلف شمال الأطلنطي وحلفائها الغربيين التقليديين، وذلك عقب تدهور العلاقات بين أنقرة والغرب بسبب شكوك حزب العدالة والتنمية وجزء كبير من المجتمع التركي في تعاطف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع المحاولة الانقلابية الفاشلة وعدم إظهار التضامن الكافي مع تركيا التي تطالب الإدارة الأمريكية بتسليم فتح الله غولن.

وقد أثار التقارب بين موسكو وأنقرة قلقا في غرب أوروبا وإدارة أوباما من أن تركيا قد تبتعد عن حلفائها التقليديين، وستمنح روسيا فرصة إضعاف حلف الناتو، خاصة وأن السياسيين الأتراك يشعرون بأن حلفاءهم الغربيين قد تخلوا عنها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، في حين يثور القلق لدى العسكريين من أن حلف شمال الأطلسي "ناتو" قد أهملهم ومارس عليهم نوعا من الابتزاز خلال السنوات الخمسة الماضية، إذ لم ينشر الحلف سوى عدد قليل جدا من بطاريات "الباتريوت" في تركيا حتى عندما تعرضت الأراضي التركية لتهديدات بالغة عقب إسقاط المقاتلة الروسية.

وتشير تقارير أمنية غربية إلى تنامي قلق دول الاتحاد الأوروبي من مخاطر سماح تركيا بتدفق أفواج اللاجئين باتجاه أوروبا، وهو أمر يرغب بوتين بالاستفادة منه في الضغط على الغرب لرفع العقوبات المفروضة على روسيا وتقديم تنازلات أساسية فيما يتعلق بالملفين : الأوكراني والسوري، وفي هذه الأثناء يثور القلق في أوساط الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من الاتصالات السرية الدائرة بين فريق ترامب والكرملين، حيث بشر ترامب خلال حملته الانتخابية بتحقيق انفراج في العلاقات بين موسكو وواشنطن، في حين بدا غير مهتم بتعزيز التحالف معهم، حيث طالب الدول الأعضاء بإجراء مراجعة شاملة لقدرات حلف الناتو وحث الدول الغربية على المزيد من الإنفاق العسكري بدلا من الاعتماد على واشنطن، ودعاهم في الوقت نفسه إلى التعاون مع روسيا في "محاربة الإرهاب".

خامسا: كبح النزعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري

دفعت السياسة الخارجية التركية خلال الأشهر الثلاثة الماضية نحو كبح النزعات الانفصالية الكردية شمال سوريا، وذلك بالتزامن مع تدشين الجيش التركي عملية عسكرية شمال سوريا، يوم الأربعاء 24 أغسطس 2016، وكان هدف العملية واضحا منذ الأيام الأولى عندما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن : " العملية العسكرية لا تقتصر على ضرب داعش، وإنما تستهدف القوات الكردية "، مما شكل ضربة قاسية لمشروع" وحدات حماية الشعب "الكردية بتأسيس كيان مستقل، في ظل وجود مؤشرات على أن التحرك التركي جاء ضمن توافقات مع موسكو، حيث جاءت العملية في أعقاب قمة أردوغان -بوتين في بطرسبرغ.

وترمي تركيا من هذه الحملة إلى تأمين حدودها مع سوريا في مسافة يبلغ طولها 100 كم وعمقها نحو 15-17كم، ومنع الانفصاليين الأكراد من الوصل بين الأقاليم الثلاثة: عفرين والقامشلي والحسكة، كما تخطط في الوقت ذاته للتوغل في الأراضي السورية وصولا إلى مدينة الباب التي تحاصرها في الوقت الحالي.

سادسا: فتح قنوات تواصل مع نظام دمشق

جاء حديث رئيس الوزارء بن علي يلدريم عن إمكانية تطبيع العلاقات مع دمشق في شهري يوليو وسبتمبر عام 2016، مؤكدا لتسريبات نشرت بشأن اتصالات سريةجرت بين ضباط أتراك ومسؤولين سوريين، حيث تحدث زعيم حزب الوطن الاشتراكي المعارض، دوغو بيرنيسيك، ونائبه الجنرال إسماعيل حقي بيكين، وهو قائد سابق للاستخبارات العسكرية التركية لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية عن تبادل رسائل بين مسؤولين أتراك وسوريين. وكشفا أنهما أجريا لقاءات مع مسؤولين من روسيا والصين وسوريا وإيران، ونقلا رسائل تلقوها خلال تلك اللقاءات إلى مسؤولين في وزارة الخارجية والجيش التركي.

وأكد تقرير مجلة "فورين بوليسي" أن قادة ذلك الحزب لا يزالون يمررون رسائل بين مسؤولي الحكومتين التركية والسورية، خاصة وأن: "أزمة اللاجئين المتصاعدة والحملة العسكرية الروسية في سوريا وسيطرة الميليشيات الكردية على الجزء الشمالي من البلاد، لا تترك لتركيا خيارا سوى التعامل مع نظام الأسد ".

وأضافت المجلة أن "بيكين" قد زار دمشق ثلاث مرات برفقة ضباط أتراك متقاعدين، والتقوابمسؤولين سوريين، بينهم محمد ديب زيتون رئيس فرع المخابرات العامة، وعلي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، ووزير الخارجية وليد المعلم ونائبه فيصل المقداد، وعبد الله الأحمر، مساعد الأمين العام لحزب البعث السوري، وركزت تلك اللقاءات على كيفية تمهيد الأرضية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والتعاون السياسي بين تركيا وسوريا، ومؤكدا أن لقاءه مع مملوك مكنه من التواصل مباشرة مع رأس السلطة في سوريا، إذ: "كان مملوك يستأذن للانتقال إلى غرفة مجاورة من أجل التحدث إلى الأسد مباشرة ".

وأوضح أنه نقل إلى مسؤولين كبار في الجيش التركي ووزارة الخارجية خلاصة محادثاته بعد كل زيارة قام بها، وأنه لمس، خلال الأشهر الأخيرة، تحولا تدريجيا في مواقف المسؤولين الأتراك.

وكان موقع "ديبكا" (يوليو 2016) قد أكد قيام مجموعة من عناصر الاستخبارات التركية بزيارة سرية إلى دمشق، في شهر يوليو الماضي للتباحث مع رئيس الأمن الوطني اللواء علي مملوك حول قضايا تتعلق بتأمين الحدود بين البلدين، كما عقدت اجتماعات سرية أخرى في إقليم " هاتاي "، وأشار التقرير إلى أن الاتصالات التركية مع النظام تجري ضمن عملية التقارب مع روسيا وتهدف إلى تحييد عوامل التوتر بين موسكو وأنقرة.

سابعا: تغلب النزعة اليمينية الدافعة باتجاه مشروع "أوراسيا"

عقب تطهير أجهزة الدولة من جماعة غولن، ارتفعت أسهم مجموعة من القوميين الذين تم تعيينهم في مناصب دبلوماسية رفيعة وفي حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وكشفت صحيفة "تايمز" البريطانية أن عملية التطهير تلك لم تقتصر على مناصب رفيعة بحلف الناتو، بل طالت أكثر من مائة ملحق عسكري في السفارات التركية في العالم، وعزت الصحيفة تلك التوجهات إلى التوافق الذي حققه أرودغان مع بوتين في الأشهر الماضية، مؤكدة أن فوز ترامب، وما أعقبه من اتصالات مع مستشاره للأمن القومي، الجنرال المتقاعد مايكل فلين، قد عزز اتجاه أنقرة للابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو مقابل التوصل إلى تفاهمات تركية-أمريكية-روسية حول الملفات الإقليمية العالقة، وخاصة فميا يتعلق بالعراق وسوريا والأكراد.

وتحدث الباحث التركي مصطفى أكيول في مقال نشره بموقع "ألمونيتور" (15 ديسمبر 2016) عن وجود "مجموعة من الأشخاص المقربين من أردوغان" لديهم "خطة مفصلة" لإعادة رسم مستقبل تركيا على أساس الانفصال الكامل عن المؤسسات الأوروبية، وأطلق على هذه المجموعة اسم: "الأوراسيويين" والتي تتكون من قوميين علمانيين تجمعهم روابط بالصقور في المؤسسة العسكرية، والذين يعارضون عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتتطلع بدلا من ذلك إلى التقارب مع روسيا والصين والتقدم باتجاه الانضمام إلى "ميثاق شنغهاي"، مشيرا إلى أن هذه المجموعة ترفع إحاطات إلى وزارة الخارجية التركية حول مسائل متنوعة، وتمارس دورا أساسيا في تطهير مؤسسات الدولة من جماعة غولن، وتحض على ترك الغرب والبحث عن مستقبل تركيا في "أوراسيا"، لا سيما من خلال العلاقات مع روسيا والصين، وكان لهذه المجموعة تأثير واسع في رأب العلاقات التركية -الروسية إبان الأزمة التي تسبب بها قيام تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية العام الماضي، وحتى في إطلاق حوار غير مباشر مع نظام بشار الأسد.

وعزا أكيول تلك التوجهات في "حزب العدالة والتنمية" إلى مكونين أساسيين هما: رجال الأعمال الذين يملكون استثمارات كبيرة في روسيا، وزمرة أكثر أيديولوجية مؤلفة من بعض مستشاري الرئيس أردوغان، وبعض الشخصيات الأساسية في البيروقراطية، والذين يعتقدون فعلا أن هناك مؤامرة غربية كبرى ضد تركيا، وأنه على أنقرة أن تتحالف مع بوتين في مواجهة الغرب، لكنها تعتقد بوجود "جانب مشرق" في الغرب يتمثل بدونالد ترامب الذين يتوقعون منه ترحيل غولن ووقف الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا.

ثامنا: التعاون مع ترامب وبوتين لإضعاف النفوذ الإيراني

تترقب أنقرة باهتمام بالغ توجهات ترامب ومجموعته نحو التصعيد مع طهران، والضغط عليها لوقف برامجها الصاروخية وسياساتها المتطرفة في المنطقة، وقد تم إعداد قائمة بالعقوبات الاقتصادية والدولية التي يمكن فرضها لدى تولي الإدارة الجديدة مقاليد الحكم في 20 يناير المقبل.

ويرى مسؤولون بوزارة الخارجية التركية في الإدارة الأمريكية المنتخبة فرصة سانحة لإضعاف النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، حيث عزز ترامب فريقه بشخصيات أمنية وعسكرية ترى ضرورة مراجعة الاتفاقية النووية التي أبرمتها إدارة أوباما معها عام 2015، وممارسة المزيد من الضغوط عليها لاستعادة التوازن في المنطقة، وذلك من خلال إنشاء علاقة تعاون مع موسكو وأنقرة للسيطرة على تصرفات إيران، حيث يعمل نائب الرئيس المنتخب مايك بنس، والمرشحين لوزارة الخارجية تيليرسون والدفاع جيمس ماتيس، والمرشح لمنصب نائب وزير الدفاع مكفرلاند، للتوصل إلى اتفاق مع موسكو وأنقرة على إخراج القوات الإيرانية والميلشيات الأجنبية التابعة لها من العراق وسوريا.

ويتحدث دبلوماسيون في أنقرة عن خلاف حقيقي بين موسكو وطهران أثناء مفاوضات إخراج المدنيين من مدينة حلب، حيث دأبت الميلشيات الإيرانية على إفساد جميع الترتيبات التي أبرمها الروس مع أنقرة، وعمدت قواتها إلى ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، مما دفع روسيا للتهديد بقصف أي طرف يخرق الاتفاق.

ولا يقتصر الخلاف بين البلدين على حيثيات الاتفاق، بل يتعدى ذلك ليشمل الجوانب العسكرية، ففي مقابل مخططات قاسم سليماني لإنشاء قوة "شيعية" في سوريا والعراق، تعمل موسكو على مشروع منافس يطلق عليه اسم: "الفيلق الخامس-اقتحام" الذي أعلن عن تأسيسه في سوريا في الأعضاء 22 نوفمبر الماضي، والذي يشرف على تشكيله العماد فلاديمير بابوف، نائب رئيس هيئة الأركان الروسية بصورة شخصية، وتهدف روسيا من خلال هذا التشكيل الجديد إلى تجنيد نحو مائة ألف من العلويين بهدف تمكين النظام من الاحتفاظ بالمناطق التي سيطر الروس عليها مؤخرا.

وفي تأكيد لتلك الخلافات، نشر موقع "يوارسيا ريفيو" دراسة (13 أكتوبر 2016) تناولت أبعاد الصراع الروسي-الإيراني في سوريا، مؤكدة أن التنافس الإيراني-الروسي الكبير على الطائفة العلوية يمثل حلقة أساسية منه، إذ إن أية تسوية سياسية مرتقبة ستقتضي وجود تقاسم طائفي للسلطة، ولا شك في أن العلويين سيشغلون مراكز سياسية ومؤسساتية هامة، مما يدفع بروسيا وإيران للتنافس على كسب الطائفة العلوية لضمان المصالح الروسية أو الإيرانية في سوريا وبقاء نفوذهم فيها.

ولاحظت الدراسة أن التنافس الإيراني-الروسي على الطائفة العلوية يشتد حينما يخبو القتال، أو عندما يتم بذل جهد حقيقي نحو المفاوضات السياسية، ولذلك فإن إيران تسعى لإفساد أية هدنة لتمنع موسكو من التوصل إلى حل لا يخدم مصالحها، وتمنع أية محاولة لدمج قوات الدفاع الوطني بجيش النظام السوري، وهذا ما وقع بالفعل لدى موافقة موسكو على الالتزام بهدنة في سوريا، بينما استمرت المليشيات الإيرانية وجيش النظام في شن المعارك دون غطاء جوي روسي.

وكشف تقرير نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية أن ما وراء إرسال موسكو لحوالي 4500 من رجالها إلى سوريا، يتجاوز خوض الحرب ضد الثورة إلى زرع أتباعها في الجيش وأجهزة المخابرات السورية، وحتى التضييق على الإيرانيين وحلفاء آخرين لبشار الأسد. ويرى كاتب التقرير أن النظام في دمشق ليس لديه خيار سوى القبول بالأمر الواقع، ونقلت الصحيفة عن خبير أجنبي في دمشق، قوله: "الروس عينوا أتباعهم في القنوات الرئيسة لاتخاذ القرار".

في هذه الأثناء يتصاعد التوتر بين أنقرة وطهران حول العديد من القضايا، أبرزها: دور ميلشيات الحشد الشعبي في الموصل، ومحاولات إيران إفساد الاتفاق التركي-الروسي في حلب، ودعم طهران لحزب العمال الكردستاني، وذلك إثر سعي أردوغان لتعزيز موقف التركمان في كركوك وتلعفر في مواجهة المد الإيراني، حيث تدعم إيران نحو مائة ألف مقاتل من الحشد الشعبي في العراق، وتحشد نحو سبعين ألف مقاتل أجنبي في سوريا في أكبر خطة انتشار تشهدها المنطقة تحت قيادة قاسم سليماني.

وتأمل أنقرة أن تسهم عملية "درع الفرات" في استعادة بعض التوازن الإستراتيجي من خلال جمع فصائل المعارضة السورية، وبعض القبائل التركمانية تحت قيادة القوات التركية بهدف حماية الحدود التركية من خطر توسع الميلشيات التابعة لإيران في تلك المناطق.

وقد اضطر أردوغان إلى تعجيل إبرام الاتفاق مع موسكو وطهران عقب تلقي أنباء استخباراتية مؤكدة تفيد إرسال إيران قوات من الحرس الثوري و "حزب الله" لمناوشة الأتراك وعرقلة عملياتهم الجارية ضد تنظيم "داعش" في بلدة الباب، وكان موقع "ألمونيتور" (10 نوفمبر 2016 ) قد تحدث عن توتر إيراني-روسي في ظل تقارب موسكو مع أنقرة، مما يؤكد مخاوف لدى الإيرانيين من أن موسكو تعمل على تحقيق مصالحها في سوريا وليست معنية بإقامة تحالف إستراتيجي معهم.

تاسعا: تعزيزدور الاستخبارات التركية في الشمال السوري

كشف موقع "إنتلجنس أون لاين" الأمني (14 سبتمبر 2016) عن خطة شاملة تنفذها أنقرة لتعزيز قدرات المؤسسة الأمنية التركية بإشراف وزير الداخلية الجديد سليمان سيولو الذي عمل كمسؤول في جهاز الأمن الوطني التركي لفترة طويلة، ورئيس جهاز الشرطة الجديد سلامي ألتينوك، وتتضمن دمج قطعات من مختلف الوكالات الاستخباراتية ووضعها تحت إشراف وزارة الداخلية، وإنشاء جهاز مركزي للتنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية.

وبموجب هذه الخطة سيتركز عمل جهاز الأمن الوطني (MIT) على الأنشطة الخارجية، حيث تم تكليف رئيس الجهاز الحالي حقان فيدان بمهمة مكافحة التجسس، والإيعاز له بتعزيز قدرات الجهاز خارج البلاد، ونشر موقع "ألمونيتور" دراسة (6 نوفمبر 2016) أكد فيها الباحث بينار تريمبلاي أنمؤسسة الاستخبارات الوطنية (MIT) التي كانت تضم أربعة مكاتب يدير كل واحد منها وكيلا عن قائد المؤسسة، سيتم توسيعها لتشمل ستة مكاتب، حيث سيتم استحداث منصب: "وكيل العمليات الخاصة" مما ينبئ بأن تركيا تستعد للقيام بعمليات خاصة في دول مجاورة، وخاصة في سوريا والعراق، حيث يتوقع أن يتولى هذا المكتب مهمة التنسيق مع القوات العسكرية التركية، وسيتعاظم دوره في الأشهر القادمة مما يجعل من جهاز الأمن التركي اللاعب الأهم في الشأنين السوري والعراقي.

وعلى الرغم مما تعرض له حقان فيدان من انتقادات إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، إلا أن الخطة التي أقرها أردوغان مطلع نوفمبر الماضي تشير إلى أن فيدان قد نجح في إصلاح علاقاته مع الرئيس التركي وحافظ على موثوقيته داخل نظام الحكم، ويبدو أن جهاز الأمن التركي سيصبح لاعبا أساسيا في الشؤون الإقليمية، ومن المتوقع أن يزيد انخراطه في الملفالسوري، وأن يتعزز دوره في التنسيق الداخلي بين مختلف الوزارات والمؤسسات التركية، وذلك ضمن منظومة جديدة يسعى أردوغان لتحقيقها ضمن ترتيبات تحويل نظام الحكم في تركيا ليصبح رئاسيا، وعندها سيصبح الجهاز خاضعا بشكل مباشر لسلطات الرئيس.

محركات السياسة الخارجية التركية في طورها الجديد:

تعتمد السياسة الخارجية التركية نهجا واقعيا يعمد إلى الاستفادة من المستجدات الإقليمية لتحقيق المصالح العليا للدولة، وتتغير مواقفها وفق المتغيرات الدولية لتحقيق توازنات مرحلية قد تختلف مع المبادئ التي تعلن عنها السلطة السياسية، ولذلك فإن العديد من القوى الإقليمية قد فشلت في استقطاب أنقرة لمنظومات أمنية أو تحالفات عسكرية صلبة، لكن ذلك الفشل لم يرتق في أية مرحلة إلى صراع عسكري مفتوح.

ويمكن ملاحظة الدهاء الدبلوماسي لأنقرة من خلال العلاقات التي احتفظ بها أردوغان مع الحكم في إيران على الرغم من التباين الواضح في السياسات إزاء الأزمة السورية، فعلى الرغم من الدعم العسكري الذي قدمته تركيا للثوار وإيوائها للجسد السياسي والعسكري للمعارضة السورية إلا أن علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع إيران لم تتأثر بذلك التباين في مواقف الدولتين.

وعلى الرغم من تدهور العلاقات مع موسكو وتل أبيب إلا أن الخلاف بقي منضبطا في إطار التصريحات الرسمية والحملات الإعلامية دون أن يرتقي إلى مستوى المواجهة.

وفي ظل التحولات الإقليمية والدولية، يمكن الحديث عن أربعة محركات رئيسة للسياسة الخارجية التركية منذ استقالة أحمد داود أوغلو وتولي بن علي يلدريم في شهر مايو عام 2016، وذلك على النحو التالي:

المحركات السياسية:

بعد رفع شعار "صفر مشاكل" مع دول الجوار، وجدت أنقرة نفسها في موقف صعب على الصعيدين: الإقليمي والدولي، حيث توترت العلاقة مع إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، في حين اشتعلت المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد عام 2015 عقب هدنة دامت عامين بين الجيش التركي والانفصاليين الأكراد، ووقفت تركيا على شفير حرب مع موسكو عقب إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر من ذلك العام، كما ساهم توتر العلاقات مع تل أبيب والقاهرة وبغداد وطهران في إضعاف موقف تركيا الإقليمي، ممادفع بأنقرة لتبني سياسة مصالحات لفتح صفحة جديدةفي علاقاتها الدولية لفك عزلتها الإقليمية والدولية.

المحركات الاقتصادية:

تم تتويج المصالحة التركية-الروسية بزيارة أردوغان لروسيا في شهر أغسطس، ومن ثم زيارة بوتين لتركيا في 10 أكتوبر، وإبرام اتفاقية تاريخية لبناء خط الأنابيب "تورك ستريم" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر البحر الأسود، وإعادة فتح الأسواق الروسية أمام البضاعة التركية، والتعهد باستئناف مشروع "أكويو" (Akkuyu)، والذي تقوم به الشركة المملوكة للحكومة الروسية "روساتوم" (روساتوم) لبناء أول محطة طاقة نووية تركية، وتزامن ذلك مع رغبة موسكو في تحسين علاقتها مع أنقرة لإدراكها أن إبعاد تركيا بصورة أكثر في هذه المرحلة سيدفعها بصورة أكبر نحو الاقتراب من "الناتو"، خاصة وأن العقوبات الروسية السابقة ضد أنقرة قد أثرت سلبا على الاقتصاد الروسي، فالكثير من التجار الروس يرغبون بالسلع التركية الرخيصة، ويعانون من العقوبات الأوروبية والأمريكية ومن انهيار أسعار النفط، ويحتاجون في النهاية إلى الحصول على الصفقات المتاحة في الأسواق التركية.

المحركات العسكرية:

بالإضافة إلى اتفاقيات بناء محطة "أق قويو" لتوليد الطاقة النووية، وخط الغاز الإستراتيجي "ترك ستريم"، شكل التقارب الروسي-التركي فرصة لأنقرة لتطوير قدراتها العسكرية، فقد كان عرض بناء منظومة للدرع الصاروخي للجيش التركي الموضوع الأبرز في لقاء الزعيمين بأنقرة في شهر أكتوبر الماضي، لما يحمله من أبعاد إستراتيجية تتعلق بعلاقة تركيا مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي يعارض بشدة استخدام تركيا لأي منظومة درع صاروخي غير منظومة "باتريوت" التابعة للحلف الذي عمل في مراحل سابقة على إفشال أي مساع تركية لشراء منظومة أخرى، حيث يفتقر الجيش التركي إلى منظومة متطورة للدرع الصاروخي، وخلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب اللقاء، أبدى بوتين استعداد بلاده للتعاون المشترك مع تركيا في مجال النظام الدفاعي، معربا عن أمله في تحويل المباحثات في هذا الصدد إلى تعاون مادي ومحسوس بين البلدين، وقد تم عقد اجتماع على مستوى رؤساء الأركان والاستخبارات من البلدين لمناقشة التفاصيل.

وعلى إثر ذلك التصريح، تحدث تقرير "جينز" العسكري (17 نوفمبر 2016) عن توجه وكالة التنسيق العسكري الروسية لتعزيز التعاون مع الجيش التركي في مجال الدفاع الجوي، وأنها قدمت عرضا لأنقرة يتضمن بيعها منظومة صواريخ (T-LORAMIDS) بصفقة تتراوح قيمتها ما بين 3.5 و 4 مليار دولار.

المحركات الأمنية:

تضمنت التفاهمات الروسية-التركية موافقة بوتين على إنشاء منطقة نفوذ تركي شمال سوريا، لتأمين حدود تركيا من تنظيم "داعش" ومن الجماعات الانفصالية الكردية، حيث ينوي أردوغان إنشاء مدن بكاملها عندما تفرغ قواته من مهمة تطهير المنطقة التي يتوقع أن تبلغ مساحتها خمسة آلاف كيلو متر مربع شمال سوريا، وتدور مباحثات مع شركة "توكي" الضخمة المسؤولة عن بناء عشرة في المائة من الوحدات السكنية التركية كل عام، لإنشاء مدارس وشققومنشآت اجتماعية، وربما تكون هذه الوسيلة الوحيدة لحمل بعض من ثلاثة ملايين سوري يقيمون في تركيا على العودة إلى بلادهم وبدء عملية إعادة بنائها.

في هذه الأثناء تحقق عملية "درع الفرات" تقدما ملحوظا إثر سيطرتها على مدينة "دابق"، وتأمين منطقة شرقي "مارع"، والتقدم على مسافة أقل من 13 كم من جنوب "اخترين"، وحصارها لمدينة "الباب"، حيث يتوقع أن تبسط سيطرتها بعد ذلك على "منبج"، ويبدو أنه بات في حكم المحتم تحقق الحلم التركي الذي طال انتظاره بإنشاء منطقة نفوذ تركية في الشمال السوري تمتد مسافة 55 ميلا من جرابلس، لتأمين حدودها من هجمات الانفصاليين الأكراد وتنظيم "داعش"، ويأمل الأتراك بإقناع واشنطن أن تمثل الفصائل السورية الموالية لها رأس الحربة في عمليات استعادة مدينة الرقة من تنظيم "داعش"، بدلامن الاعتماد على "قوات سوريا الديمقراطية".

تأثير التحولات التركية على الثورة السورية: المخاطر والفرص الكامنة

على الرغم من عمق تحولات الموقف التركي، إلا أن اعتبارها مفاجئة هو أمر مناف للحقيقة، فالسياسة الخارجية التركية تقوم على أسس براغماتية تتكيف مع المشهد الدولي الذي يمر بمرحلة تحول كبير، حيث تتجه بوصلة السلطة في الدول الغربية باتجاه اليمين، ويتحدث ترامب علنا عن دعمهلرئيس الحزب القومي البريطاني فاراج والمرشح اليميني للرئاسة الفرنسية فيون، ويعرب عن رغبته في إنشاء تحالف مع بوتين وأردوغان باعتبارهما زعميان قويان يمكن الاعتماد عليهما لاستعادة التوازن في المناطق المشتعلة بالشرق الأوسط، وذلك في ظل تضعضع الاتحاد الأوروبي، والصعوبات التي يمر بها حلف شمال الأطلسي، وحالة الشلل التي أصابت مجلس الأمن إزاء تكرر استخدام حق النقص من قبل روسيا والصين.

وفي ظل غياب الموقف الخليجي الواضح إزاء التطورات الأخيرة، والعدائية التي يبديها الحكم في مصر إزاء تركيا، تشعر أنقرة أنها مضطرة لإبرام تفاهمات مع موسكو وواشنطن وتل وأبيب وطهران في ظل غياب عربي مثير للقلق.

أما على الصعيد المحلي، فإن المشكلة الرئيسة تكمن في عجز قوى المعارضة عن استيعاب تلك التحولات فضلا عن الاستجابة لها، وخاصة بالنسبة للفصائل التي لم تتمكن من تطوير أدواتها، بل أخذت في التراجع أمام الضغوط الإقليمية والدولية، ويمكن الحديث عن أهم المؤثرات فيما يلي:

1-مشاريع إعادة التشكيل العسكري للمعارضة:

في مقابل النزعات الاستئصالية وصراعات المحاصصة العبثية التي لا تزال المعارضة السياسية تخوض غمارها، تقبع فصائل الثورة أسيرة التشكيلات السلبية التي لم تنجح في الفكاك منها، حيث تعصف بكياناتها مظاهر الخلافات المرجعية التي يذكي أوارها تباين فتاوى "الشرعيين"، وتشتت شملها الصراعات البينية التي بلغت حد الاقتتال، وتفتقد مجموعاتها ميزة الانضباط الذي تتمتع به التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية المعادية لها، وتثير تيارات الأفغنة والأدلجة والغلو الفوضى في صفوف قياداتها، وتمنع صراعات الاستئثار بالموارد فرص تطوير كياناتها نحو الاحترافأوتوحيد الجهود لمواجهة النظام وحلفائه، في حين تنشغل مكاتبها السياسية بصياغة بيانات الاندماج ومبررات الانفصال التي سئم منها السوريون.

ومثل سقوط الأحياء الشرقية لمدينة حلب مجهرا لكشف تلك المظاهر السلبية أمام الإعلام العالمي، حيث انشغلت بعض الفصائل عن "حماية المدنيين" بمهاجمة فصائل أخرى تحت وقع القصف الروسي على رؤوسهم مجتمعين، وصمت بعض القيادات آذانها عن أي نصح مخلص مؤثرة خوض معارك الفتاوى والبيانات من سراديب المدينة المدمرة.

وأسهم اختراق الاستخبارات المعادية لها في كسر شوكة فصائل حلب واضطرار بعضها لإلقاء السلاح دون قتال، ومن ثم الخروج من المدينة المنكوبة للعمل على مشروع اندماج مع خلايا تنظيم القاعدة وكأنها تعيش في كوكب آخر لا علاقة له بالتحولات الإقليمية والدولية.

ومثلت المفاوضات مع الضباط الروس اختبارا لم تبد فيه الفصائل أي مراس دبلوماسي، حيث دأبت على الاستجابة لضغوط "الأصدقاء"، ولم تحاول جمع أية أوراق تفاوضية لتعزيز موقفها التفاوضي، واضطرت لتوقيع وثيقة هدنة تختلف عن الصيغة التي وقعها النظام، وكشفت الكواليس عن خلافات مستشرية بين بعض الفصائل أثناء المفاوضات التي خاضتها في معزل عن شركائها السياسيين، واستمر بعضها في إصدار بيانات متناقضة وتصريحات متضاربة تعكس الخلافات بين السياسيين والشرعيين والعسكريين في مكوناتها دون إدراك لعمق الأزمة أو تحولات المرحلة.

وانعكست هذه المظاهر المخزية على تقارير أمنية أبرزها تقرير موقع "إنتلجنس أون لاين" (7 ديسمبر 2016) الذي تحدث عن بذل جهات خارجية جهودا مضنية للتأليف بين الفصائل، ورأب الصدع بين الفرقاء بالتزامن مع التصعيد الروسي-الإيراني-الأسدي في حلب، لكن جهودهم باءت بالفشل نتيجة الصراعات الداخلية التي دفعت بالمسؤولينلكتابة تقرير متشائم عن مستقبل الفصائل في ظل الظروف الحالية.

وأبدت هذه الجهات قلقها من حجم الاختراق المتمثل بوجودعملاء وجواسيس النظام وحلفائه في كافة البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية للفصائل التي تم اختراقها على مستويات قيادية مؤثرة، والتي كانت تزود غرف المعلومات التابعة للنظام وحلفائه بمعلومات وصور وإحداثيات مهمة، بل إنها في بعض الحالات كانت على اطلاع تفصيلي بما يجري من نقاشات داخل بعض غرف عمليات الفصائل، ما أسهم في إضعاف الثقة بين الفصائل وتبادل التهم بينها.

وفي مقابل مشاريع الاندماج المثيرة للجدل، يتردد الحديث عن مبادرة ترعاها الاستخبارات التركية لإنشاء قوة عسكرية من فصائل المعارضة بحيث تتولى مهام حماية البنى التحتية وتوفير الخدمات الأمنية ويمكن أن تشكل القوة الضاربة للمعركة المرتقبة ضد تنظيم "داعش" في الرقة.

2-إضعاف سيطرة بشار الأسد:

في ظل المداولات الإقليمية والمفاضات الجارية بدا بشار الأسد فاقدا للمبادرة تماما، حيث كانت تصريحاته تسير بصورة مغايرة لتوجهات حلفائه، وأظهرت المقاطع المصورة هيمنة الإيرانيين واللبنانيين على الأرض بينما كان بشار يتحدث من فقاعته اليوطوبية بأحد سراديب القصر الجمهوري عن فلسفة التاريخ.

وبخلاف سيناريوهات التصعيد التي تحدث عنها بشار، فإن روسيا بادرت إلى تعزيز مكتسباتها من خلال الاتفاق مع طهران وأنقرة على وقف للقتال، مدركة أن النظام لا يستطيع تعويض نقصه العددي إلا من خلال الاعتماد على الميليشيات الأجنبية، مما دفع موسكو لإرسال كتيبتي مهمات شيشانية خاصة لحماية مقراتها الإستراتيجية عقب الفشل الذريع لقوات النظام في تدمر.

وبدا من الواضح أن بشار الأسد بات أكثر ارتهانا بحلفائه الأجانب، وأشد اضطرارا إلى القبول بفقدان مساحات من سوريا ووجود جيوب لمعارضة لن يتمكن من سحقها، فالانتصارات التي تحققت في ساحة المعركةلم تؤمن حكم الأسد، وإنما عزززت النفوذ الروسي والإيراني على حساب جيشه المنهك.

وعلى الرغم من الانتصار المكلف في حلب، إلا أن المعركة قد عززت البعد الطائفي للصراع، وأسهمت في تهجير المزيد من السوريين، وفاقمت الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها نظام دمشق في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليه منذ عام 2011، في حين تقتصر سلطة بشار في دمشق على إدارة هيكل دولة فاشلة لا مستقبل لها مما يمثل خطرا على الأمن الإقليمي والأمن الدولي.

وأثارت المفاوضات الروسيةالمباشرة مع الفصائل حفيظة نظامي دمشق وطهران، خاصة وأن موسكو رفضت تمثيل النظام بأية صورة في المفاوضات التي أجراها الضباط الروس مع فصائل المعارضة في تركيا، كما أنها اعترفت رسميا بالوجود العسكري التركي وبدور فصائل المعارضة في محاربة تنظيم "داعش" ببلدة الباب، مما يؤكد أن النظام قد فقد أية قدرة على التأثير في سياسات موسكو، وأنه بات يخضع بالكامل لإملاءات الضباط الروس الذين أصبحوا يتحكمون بسير المعارك ويتفاوضون مع الأتراك والإيرانيين على مستقبل سوريا دون مشاركة الأسد.

ومثل فرار قوات النظام أمام مقاتلي داعش في 11 ديسمبر خطرا كبيرا على القواعد الجوية وأنظمة الدفاع الجوي S300 و S400 في تدمر، حيث ألقى الضباط الروس اللوم على قوات النظام التي فرت من الموقع تاركة للتنظيم حرية الحركة في المدينة وضواحيها، بعد أن أخلت فرع الأمن العسكري والقاعدة العسكرية المجاورة له دون مقاومة.

ولا يخفي المسؤولون السوريون خلافاتهم مع الروس، حيث نقل تقرير غربي عن أحد المقربين من الأسد، قوله: "نريد أن نسترجع كل سوريا، وأما الروس، يريدون سوريا المفيدة، وهذا هو الاختلاف الرئيس، فبالنسبة لموسكو، فإن الهدف هو استعادة المدن الكبيرة والضواحي المحيطة بها وشبكة خطوط أنابيب النفط والغاز في البلاد "، لكنه اعترف أنه:" ليس لدينا بديل... نحن لسنا سادة الموقف على طاولة المفاوضات حول عملية الانتقال السياسي ".

3-إضعاف النفوذ الإيراني لصالح المصريين:

يشعر الإيرانيون بالقلق من توجه روسيا لإضعاف نفوذهم في سوريا، ولا يخفي عناصر "حزب الله" امتعاضهم من تدخل الاستخبارات الروسية لمنعهم من بناء منشآت عسكرية سرية كانوا قد بدأوا في تشييدها بالقرب من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، وذلك حرصا على علاقات جيدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما يتردد الحديث عن وقوع اشتباكات بين الروس والإيرانيين نتيجة خلاف حول الحرس الشخصي للأسد، الذي يضم سوريين وإيرانيين من وحدة المهدي.

وبينما تمنع موسكو إيران وحلفاءها من تشييد المزيد من القواعد، تقوم في الوقت نفسه بتعزيز قدراتها في مناطق مختلفة من البلاد، حيث تقوم فرقة هندسة من القوات الجوية الروسية ببناء قاعدة جوية أخرى في "أخترين" شمال شرقي حلب، وتعمل على إنشاء مدرجات جديدة لمقاتلات القوات الجوية والقاذفات وبناء مرابض لبطاريات الصواريخ المتقدمة المضادة للطائرات.

وفي مقابل التعليمات المشددة لأجهزة الأمن السورية بإضعاف العنصر الثقافي الإيراني في البلاد، يكثف ضباط النظام المقربون من روسيا اتصالاتهم مع القاهرة التي تتبنى برنامج تعاون عسكري -أمني مع دمشق، حيث تم توزيع ضباطمصريين على أكثر من مركز تنسيق، بدأت في رئاسة الأركان السورية في دمشق وفي قاعدة حماه الجوية، وتوسعت مؤخرا لتشمل قاعدة حميميم الجوية ومطار "تي فور" في ريف حمص الشرقي، فضلا عن انتشار مجموعة من المستشارين في عدد من غرف العمليات العسكرية السورية، من درعا إلى حماه إلى جورين في منطقة سهل الغاب، ويتوقع أن يتم تعزيزها بإرسال قطعات بحرية مصرية وكتيبة هندسية من الجيش المصري، مهمتها نزع الألغام والعبوات الناسفة لتبدأ أولى مهماتها في أحياء مدينة حلب الشرقية بالتعاون مع القوات السورية والروسية.

وأكد تقرير أمني (7 ديسمبر 2016) أن مصر تمثل أحد أهم عناصر تغير معادلة الصراع ف

اقرأ المزيد
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦
التغير الديموغرافي في سورية


نحاول في هذا التقرير دراسة ظاهرة خطيرة للتطورات في سورية على المستوى البشري. وهناك إدراك عام بأن التغيير الديمغرافي قد يكون من أخطر ما تتعرّض له المنطقة، وذلك لأن آثاره تدوم علاوة على الفظائع التي تترافق معه. وما يجعل الأمر أكثر خطورة أن هذا التغيير هو جزء من الجهد الخارجي الذي يعبث في أرض سورية ويمزّق أسس قيامها الاجتماعي الذي هو أكبر مرتكزات استقرارها.
وعلينا ابتداءً التنبيه إلى أن البيانات والأرقام المتوافرة حول الموضوع لا يمكن الوثوق بها وثوقاً مطلقاً. غير أنّ خطورة الموضوع دعتنا إلى الخوض فيه محاولين إجراء تقاطع بين أجزاء المعلومات بحيث يعضد بعضها بعضاً، وذلك بغية تشكيل صورة تعكس الواقع بقدر الإمكان بعيداً عن التخمين ومجرد التخوّف. وما يلي ثلاث نتائج أساسية أظهرتها الدراسة:
    1.    هناك تغيرات ديمغرافية خطيرة أفسدت نسيج الاجتماع البشري في بقاع متعددة من سورية.
    2.    هناك تغيرات حاصلة نتيجة التدمير والصراع وليست مرتبطة مباشرة بالبعد الطائفي.
    3.    هناك مبالغة في الأذهان حول الاستبدال السكاني، لم نجد دلائل على حصول استبدال سكاني واسع.
نضع بين يديكم هذا التقرير الذي درس التغير الديموغرافي في مختلف مناطق سيطرة القوى العسكرية حتى مطلع شهر تشرين الثاني 2016 مؤكدين على ضرورة اتمام هذه الدراسة بجهود ميدانية لرسم صورة أدق عن الواقع الديموغرافي للبلاد.
تعريفات أساسية
قبل الولوج في استعراض عمليات التغيير الديمغرافي القائمة في سورية، لا بد من شرح تعريفات أساسية:
    •    الديموغرافية: دراسة الخصائص السكانية لرقعة جغرافية معينة من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدلات نسبية، مثل: الولادة، والوفاة، والفئة العمرية، والمرحلة الدراسية، والقوم، والجنس، والدين.

    •    معدل وفيات الأطفال: عدد وفيات الأطفال لـ 1000 طفل في السنة.

    •    متوسط العمر المتوقع: متوسط عدد السنوات التي يعشيها الفرد في البلد.

    •    معدل وفيات: معدل وفيات الأفراد لـ 1000 مواطن في السنة.

    •    مؤشر الولادة: عدد الأطفال المولودين في السنة.

    •    اللجوء: عملية مغادرة البلاد بغرض الحماية بسبب الحرب، أو الاضطهاد السياسي أو القومي أو الديني أو بفعل الكوارث الطبيعية.

    •    النزوح: عملية مغادرة المسكن الأصلي لمكان آخر ضمن حدود البلاد بغرض الحماية لنفس أسباب اللجوء.

    •    الاستيطان: عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

    •    التهجير الجماعي: ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر. ويكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل. ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم.

    •    الإبادة الجماعية: هي الجرائم المرتكبة بسبق نيّة وترصد بغرض التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو قومية أو دينية إمّا من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق ضرر جسدي أو نفسي جسيم بحقهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف عيش قاهرة، أو فرض تدابير تحول دون تكاثرهم، أو من خلال نقل أطفال الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.

    •    جريمة حرب: هي كل جريمة جنائية بحق الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي، والناتجة عن سياسة أو أوامر من القيادة والتي وفرت الحرب ظروف ارتكابها.

    •    الأمن الاقتصادي: مدى قدرة الحفاظ على معدل دخل وطني بما يدعم سبل المعيشة في الحاضر والمستقبل المنظور.

    •    المجموعة الإثنية/الملّية: مجموعة سكانية تتميّز بنسق ثقافي أو انتماء قومي ويضمّ عادة اللغة والدين. وهو في الحالة السورية ليس له تقاطع لازم مع القوم (ملاحظة: نستعمل مصطلح الملّة وفق أصله اللغوي وليس ضمن المفهوم السياسي المذهبي الشائع في لبنان).
الإطار النظري
توضيح أبعاد التنوع داخل سورية أصبح أمراً مهماً لأنه أصبح حقيقة شاخصة تهمّ أي إدارة ناضجة، ولأن ثمة جهود كثيرة تحاول استغلاله في غير صالح السوريين. ومن المعروف أن كلاً من النظام السوري والقوى الخارجية (وعلى رأسها إيران) دفعوا نحو الاستقطاب الطائفي كوسيلة في محاربة الثورة.
والمشهد اليوم يشير إلى وجود هويتين متأزمتين في أرض سورية: الهوية الكردية والهوية العلوية، وإن كانتا تختلفان في طبيعتهما اختلافاً كبيراً. الهوية الكردية طبيعتها قومية، وبعد الثورة ازداد تشابكها مع التطورات في حال الكُرد في العراق وتركيا. الهوية العلوية طبيعتها طائفية (غير مذهبية)، ورغم أن لها سياقاً تاريخياً يرتبط بتركيا، إلا أن معظم فاعلياتها ترتبط بسورية الحديثة وبحكم عائلة الأسد خصوصاً.
وإلى جانب هاتين الهويتين هناك ما يظهر وكأنه هوية سنية خاصة بالسكان العرب من السوريين. ولكن هذه الأخيرة ليست هوية متماسكة من النوع الذي يُطلق على الفرق والأقليات. ففي حين يمكن أن توصف كل من الهوية الكردية والعلوية أنها على درجة من الانسجام برغم التنوع الداخلي، تصعب الإشارة إلى أي مضمونٍ صلدٍ للهوية السنية العربية المزعومة. وإذا كانت المظالم التاريخية وشعور الغبن هما المشترك في الهوية الكردية، وإذا كان الخوف من الانتقام هو المشترك في الهوية العلوية اليوم، فإن الهوية السنية العربية هي هوية رفض التشرذم والاجتماع على المشترك الحضاري.
وضمن هذا الإطار المذكور تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن التغيرات الديمغرافية بالضبط لأنها مما يزيد في الشرذمة وتأزم قواعد العيش المشترك. وسوف نضطر إلى سرد مجموعات إثنية/ملّية برغم أن هوياتها غير متأزمة، لأن إهمال ذكرها قد يبدو وكأنه تجاهل. فمثلاً هوية المسيحيين والتركمان لم تتبلور يوماً على شكل نقيضٍ للهوية السورية وليس فيها رفض للهوية العربية، إلا أنه كان لا بدّ من إيراد هذه المجموعات والتفصيل في أعدادها من أجل اكتمال صورة التغيرات الديمغرافية الطارئة.
الواقع الديمغرافي لسورية ما قبل الحراك الثوري

قسّمت القوى الدولية بعد الحرب العالمية الأولى المشرق وفقاً لمصالحها إلى كيانات هشة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديمغرافي، وعملت جاهدة ضمن إطار مسعاها للتحكم بهذه الدول على إيجاد تناقضات بين المكونات المجتمعية من خلال استقطاب طوائف محددة ومنحها امتيازات على حساب بقية المكونات، الأمر الذي أحدث تناقضاً في المصالح والتوجهات والتعريف الهوياتي ما بين هذه المكونات. ويكفي أن ندلل على ما سبق بتجربة الدويلات المذهبية التي أسستها فرنسا أثناء انتدابها على سورية وتشكيلها لما يعرف بـ" فـرق القوات الخاصة للشرق" وتنسيب أبناء الأقليات فيها.

تمكنت القوى الوطنية في سورية من نيل الاستقلال والتأسيس لدولة مركزية تعاقب على حكمها أنظمة مدنية وعسكرية كما شهدت حالة وحدة عابرة مع مصر، وصولاً إلى الانفصال وما تبعه من انقلاب البعث 1963، وعوضاً عن هوية جمعية عابرة للطوائف، عملت قيادات البعث وخاصة "اللجنة العسكرية" على استثارة الهوّيات الطائفية من جهة وتبني أطروحات ثقافية معادية للأكثرية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى صدامات دموية مع الأكثرية في عدة مناطق سوريَة في ستينيات القرن الماضي.
طرأ تغير على طريقة تعاطي البعث مع ديمغرافيا المجتمع السوري مع تولي الأسد الأب للسلطة، حيث مارس الأخير سياسة مزدوجة في إدارة هذا الملف داخلياً، كما وظفه خارجياً في علاقاته مع دول الإقليم، فمن جهة عمل حافظ الأسد على استمالة الأكثرية من خلال تخفيف حدة التوجهات اليسارية الراديكالية للبعث، كما اهتم بمحاولات إظهار تماهيه مع هوية الأكثرية نفياً لتهم الطائفية عن نظامه. ومن جهة أخرى، استمر الأسد بالعمل على إفقاد الأكثرية مقومات التأثير عبر استهداف مراكزها في المؤسستين الأمنية والعسكرية والعمل على تعزيز حضور الأقليات في مؤسسات الدولة سيما العلويين. أمّا على الصعيد الخارجي، فلقد وظّف الأسد الورقتين الكردية والشيعية لتحصيل مكاسب سياسية لنظامه سواءً بعلاقته مع تركيا أم مع إيران. بالمحصلة يمكن القول، لم يستهدف الأسد الأب إحداث تغيير ديمغرافي جدي لكونه يدرك صعوبة ذلك، وإنما لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة هدفها إضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يضمن ترسيخ نظامه.
أدت سياسات نظام الأسد الابن إلى انهيار التوازنات المجتمعية التي أسس لها الأسد الأب، ولتتبلور تدريجياً معالم أزمة ديمغرافية ناجمة عن العوامل التالية:
    1.    الأنشطة الإيرانية الرامية لإحداث تحول في نسيج المجتمع السوري عبر نشر التشيّع وهو ما أدى إلى زيادة ملحوظة في أعداد المنتسبين للمذهب الشيعي.

    2.    موجات النزوح والهجرات التي استهدفت المنطقة الشرقية بالدرجة الأولى بحكم أزمة الجفاف التي تعرضت لها منذ 2009 والتي أدت إلى انخفاض الوجود المسيحي في تلك المنطقة نتيجة الهجرة إلى أوربا، إضافة إلى هجرات الكرد باتجاه مراكز مدن الداخل.

    3.    تزايد عدد السكان سيما في محافظات درعا وإدلب وريف دمشق مع غياب الخطط التنموية والاقتصادية المواكبة لهذا النمو.

    4.    تزايد أعدد المهاجرين إلى دول الخليج وأوربا لأسباب تتصل بالوضع الاقتصادي.

أدّت الأزمة الديمغرافية مع جملة الأزمات الاقتصادية والسياسية والتنموية والقيمية التي كانت تعاني منها سورية دولة ومجتمعاً إلى بروز حراك احتجاجي في أذار 2011 ليتطور الموقف تدريجياً إلى حرب مفتوحة مع انخراط إقليمي ودولي مباشر في الساحة السورية. ومن الطبيعي في حالات الحروب أن تحدث عمليات تغير ديمغرافية، بعضها طبيعي بفعل حالات النزوح والهجرة بحثاً عن الأمن وفرص أفضل للحياة، إضافة إلى التغيرات التي تطرأ على النمو السكاني في فترة الحرب، وبعضها الآخر تغير ممنهج يمارسه المنخرطون في الصراع بهدف إحداث أمر واقع يتم من خلال التهجير والإبادة والإحلال السكاني.
الواقع الديموغرافي لسورية ما بعد الحراك الثوري
تشير دراسات الأمم المتحدة في مطلع الألفية إلى وصول عدد سكّان سورية لـ 22.6 مليون نسمة مع نهاية عام 2015 وذلك بفضل معدل نمو سكّاني شبه ثابت يبلغ 2.5%، إلّا أننا نقف اليوم على مشهد مختلف تماماً حيث تشير الإحصائيات إلى انخفاض عدد سكّان سورية إلى ما دون 70% من الأرقام المتوقعة، وبمعدل نمو يقدّر بـ 0.3% فقط. وإذ لا يغدو سراً أن ارتفاع معدّلات الهجرة هو السبب الرئيس لتراجع عدد سكّان البلاد، إلّا أن انخفاض معدّلات الولادة، وارتفاع معدل الوفيات يشيران بدورهما إلى الأثر المباشر للحرب على معدّلات النمو السكانية في البلاد.

يظهر الرسم التوضيحي رقم 2 نسب توزّع سكّان سورية وفق الانتماء الديني والقومي ما قبل انطلاق الثورة، ويحتل العرب المركز الأول بنسبة 82% بين مختلف الأعراق، فيما يحتل المسلمون السنة المركز الأول بنسبة 79% بين الأديان يليهم العلويون بنسبة 11.5%. وفي المقابل يبيّن الرسم التوضيحي رقم 3 حجم التغيّر الديموغرافي الذي طرأ على البلاد بعد مضي خمس سنوات من الحرب، ويشير تقاطع بيانات الهجرة واللجوء مع إحصائيات الوفيات والقتلى إلى تراجع نسبة المكّون العربي السني من 62.2% إلى 60.2%، ويعتبر هذا التراجع منطقياً باعتبار العرب السنة أكثر فئة تضررت من أعمال العنف وأكثر فئة تشجعت على اللجوء إلى بلاد الجوار (انظر الرسم التوضيحي رقم 4)، فيما سجّل المكونان العلوي والشيعي ارتفاعاً، ويعود ذلك لـ :
    1.    انخفاض معدّلات الهجرة ضمن المكوّن العلوي، حيث لا يزيد عدد اللاجئين العلويين عن 1% من إجمالي اللاجئين السوريين.

    2.    نشاط حركة التشيّع ضمن الأوساط السنية والعلوية، وفي المدن على وجه الخصوص.

    3.    ارتفاع معدّلات الهجرة لدى المكوّنات الأكبر عدداً بأضعاف معدلات الوفيات لدى الأقليات رغم فداحتها لدى فئة الشباب الذكور ضمن المكوّن العلوي.


رسم توضيحي 4
لا تكشف الإحصاءات المتوفرة عن تغير كبير أصاب تركيبة البلاد القومية الطائفية، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي حدوث انزياحات سكّانية واسعة النطاق. فعلى الرغم من صعوبة الحصول على أعداد دقيقة للنازحين داخلياً، تشير البيانات المتاحة إلى نزوح 6.5 مليون سوري. ويشمل هذا العدد حوالي مليوني شخص نزحوا من مناطق سيطرة القوى الوطنية إلى مناطق سيطرة النظام، وملايين آخرون فروا من مناطق يسيطر عليها النظام إلى أخرى بسبب القتال العنيف (انظر الرسم التوضيحي رقم 5).
ولقد شهدت مناطق سيطرة القوى الوطنية معدّلات النزوح الأكبر وذلك للأسباب التالية:
    1.    أعمال العنف والقصف الجوي التي تقوم بها قوات النظام والجيش الروسي.

    2.    الحصار والاعتقال العشوائي الذي تقوم به قوات النظام.

    3.    تراجع سبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان.

    4.    تراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة.

    5.    تعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

    6.    انعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى القوى المحلية.



تشير التقارير الأممية إلى ميل المدنيين للنزوح إلى مناطق سكن أقاربهم الآمنة ولا تشكّل هوية الفصيل الذي يسيطر عليها عاملاً هاماً في خيار منطقة النزوح، فمناطق الإدارة الذاتية تستقطب النازحين الكرد وبعض العرب من سكّانها الأصليين بغض النظر عن تحكم الاتحاد الديموقراطي فيها أو ما يشاع عن أهدافه بجعل هذه المناطق متجانسة قومياً.
غالباً ما تسلّط تقارير وسائل الإعلام الرئيسة الضوء على تحكّم النظام بـ 17% من مساحة سورية فقط، فيما يتحكم تنظيم "داعش" بقرابة الـ 40% من البلاد، ويتقاسم كل من القوى الوطنية والاتحاد الديموقراطي السيطرة على بقية البلاد. إلا أن هذه الأرقام لا تراعي الكثافة والتوزع الجغرافي للسكّان حيث يسيطر النظام على ما يعادل 63% من إجمالي المقيمين في البلاد (أي ما يقارب العشرة ملايين مدني) مما يؤهله إلى استخدام ورقة التغيير الديموغرافي لصالحه دولياً وإقليمياً ولابتزاز القوى المحلية القابعة تحت سيطرته.
يدرك النظام جيّدًا أنّ قاعدته العلويّة لا تزال أقلية رغم ارتفاع معدّلات الهجرة لدى السنة ومن هنا يأتي اهتمامه في إحكام سيطرته على المناطق المسيحية والعلوية والدرزية والاسماعيلية (أو ما يسمى سورية المفيدة). ويمنحه التحكم في هذه المناطق فرصةً لإيجاد توازن سني – أقلوي لصالحه، حيث تشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة التوزع السكّاني للأقليات لـ 41% في مناطق سيطرته مقابل 24% من عددهم الكلّي على المستوى الوطني، ويساعده في تحقيق هذا "التوازن" نزوح الأقليات الدينية والقومية من مناطق سيطرة الثوار إلى مناطق نفوذه. لا تعني سيطرة النظام على مناطق متنوعة طائفياً أن الأسد أكثر انفتاحاً من الثوار أو الكرد أو داعش، فهو يعلم أنّ عليه طرد ملايين العرب السنّة ليصبح ميزان القوة لصالح الأقليّات التي تدعمه، وهذا ما تحققه استراتيجية تفريغ المناطق الحيوية بمحيط دمشق وعلى طول الطريق الواصلة بين العاصمة والساحل من الحواضن الثورية ذات الأغلبية السنية كما وضحناه سابقاً في ملف "العملية التفاوضية المحلية في الصراع السوري".
أمّا على صعيد ممارسات داعش فعلى خلاف ما بدر منه في العراق حيث خضع لسيطرته طيف أوسع من المكونات القومية والدينية المتنوعة، لم تشهد مناطق نفوذه في سورية نفس التنوع، فلقد سبق نزوح الأقليات المسيحية من دير الزور والرقة والحسكة سيطرته عليها، وكذلك الكرد الذي سريعاً ما اصطدم معهم في كوباني. وباستثناء قرار أصدره التنظيم عقب طرده من مدينة تل أبيض يقضي بخروج الكرد من الرقة تقع معظم الانتهاكات التي مارسها بحق أفراد المكوّن الكردي ضمن أعمال الحرب والقتال والتي شكّلت بدون أي أدنى شك ظروفاً قهرية دفعتهم للنزوح قسراً من مساكنهم الأصلية.
أمّا في مناطق الإدارة الذاتية فلقد فُرض على المكون العربي معادلة جديدة إما القبول بالعيش فيها كأقلية، أو الرفض والرحيل منها. ولقد دفع هذا الانقلاب في الأدوار إلى تنامي شعور المظلومية لدى العرب مما أشعر معظمهم بوجود مخطط مسبق لإفراغ المنطقة منهم. وإذ لا يبرأ الاتحاد الديموقراطي من ممارسة ضغوطات وانتهاكات بحق العرب والتركمان كما أشارت تقارير منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان، إلّا أن السماح بالعودة الجزئية لبعض من هجرّوا سابقاً إلى مناطق سكنهم الأصلية بالإضافة إلى إيواء أعدادٍ متعاظمة من النازحين العرب في منطقة عفرين ومدينة القامشلي ينفي عن الحزب تبنيه سياسةً ثابتة في هذا الصدد. بيد أن استمرار غياب آليات محاسبة الاتحاد الديموقراطي على انتهاكاته السابقة وآليات مراقبة إدارته ومؤسساته الأمنية والعسكرية يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم فيما مضى "أن على العرب الذين استوطنوا أراضينا الرحيل".
على الرغم من رغبة الكثير من اللاجئين والنازحين السوريين بالعودة إلى ديارهم عند انتهاء الحرب، إلّا أن فريقاً كبيراً منهم قد يصطدم بواقع سيمنعه من الرجوع إمّا بسبب قومهم أو انتمائهم السياسي أو الديني، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية والجهود الاقتصادية الجبارة اللازمة لإعادة البناء والتي ستتأخر لا ريب، وفي هذه الأثناء لن تتورع القوى المحلية المتنفذة عن إكمال التغيير الديموغرافي لصالحها ما لم تواجهها القوى المجتمعية بسياسات مناوئة تستدعي الحفاظ على ما تبقى من التنوع الطائفي في سورية، وهذا ما سنحاول تلمّس بعض أطرافه في آخر الملف.
يهدف هذا الملف إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافية القائمة في سورية خاصة القسرية منها من خلال التوطئة للمفاهيم ذات الصلة بالديمغرافيا والتغيير السكاني بشقيه الطبيعي والقسري، ثم الانتقال إلى استعراض عمليات التغيير الديمغرافي وتحديد الفاعلين في هذه العملية ومصالحهم والأدوات المستخدمة في هذا المجال، وصولاً إلى اقتراح مجموعة من التوصيات للقوى الوطنية بهدف إجهاض محاولات التغيير الديمغرافي الجارية، وبما يسهم في الحفاظ على الأمن المجتمعي.
التغيير الديمغرافي من قبل النظام السوري: تهجير وصمت أممي مطبق

بدأ الحراك الثوري في مناطق ذات أغلبية سنية دون أن يضفي ذلك عليه سمة مذهبية، فالشعارات المدنية والمطالب المطروحة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية محط إجماع، والأسلوب المتبع لتحقيقها سلمي، وقد ساهم ما سبق في استقطاب المزيد من المؤيدين للحراك خاصة من الأقليات وهو ما أدى إلى توسعه وحصوله على تعاطف إقليمي ودولي. أدرك النظام الخطورة التي يمثلها الحراك عليه وهو ما دفعه إلى تبني مقاربة قمع عسكري أدّت إلى عمليات تغيير ديمغرافي قسري يمكن تأطيرها ضمن المراحل التالية:
    1.    المرحلة الأولى "العقاب الجماعي": تمحورت جهود النظام في هذه الفترة على شن حملات أمنية وعسكرية للسيطرة على الموقف الميداني في مناطق الحراك، وعلى الرغم من ارتكاب قوت النظام السوري مجازر، وحدوث حالات نزوح قسري "أحداث جسر الشغور" في الفترة الممتدة من آذار إلى كانون الأول 2011، إلا أن تلك الوقائع لا تدخل ضمن استراتيجية متكاملة ومقصودة للتغيير الديموغرافي القسري، ويعود السبب في ذلك إلى اعتقاد النظام بقدرة مؤسستيه الأمنية والعسكرية على ضبط الموقف دون اللجوء إلى خيارات تصعيدية كالتهجير.
    2.    المرحلة الثانية "التطهير المكاني": انتقلت المقاومة الوطنية من العمل السلمي إلى العسكري نهاية 2011، وقد تمكنت بفعل قوتها الذاتية وشرعيتها الشعبية من إخراج القوات الأمنية للنظام من مناطقها، الأمر الذي دفع النظام مع فشل التكتيكات الأمنية المتبعة سابقاً إلى تصعيد الموقف الميداني من خلال الزج بمزيد من القوات العسكرية لقمع الحراك وفق استراتيجية التطهير المكاني وهو ما بدأ في محافظة حمص عبر تهجير أحياء بابا عمرو والسباع والخالدية وعشيرة وكرم الزيتون والرفاعي والبياضة والسبيل ووادي العرب ومنطقة جوبر والسلطانية، أحياء كرم الزيتون والرفاعي، البياضة، وادي العرب وحي السبيل.
    3.    المرحلة الثالثة "سورية المفيدة": تطورت عمليات التغيير الديمغرافي بداية 2013، حيث تم تأطيرها كأداة من جملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سورية المعروفة بــالحفاظ على "سورية المفيدة" بما يضمن تحقيق هدفين رئيسين هما:
    1.    تمكين تواجد النظام في الشريط الواصل بين دمشق والساحل باعتباره مراكز الثقل السياسي.
    2.    تمكين حزب الله في لبنان من خلال تشكيل منطقة عازلة على الحدود اللبنانية السورية تحميه من الارتدادات السلبية للصراع الدائر في سورية.
ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير في أيار 2013، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن سورية المفيدة. ووفقاً للإحصائيات المستمدة من عدة مصادر متوافرة على شبكة الإنترنت، فقد هجر النظام السوري والقوات الموالية له بشكل قسري تقريباً 125 منطقة توزعت بين 99 منطقة يغلب عليها المكون السني و26 منطقة ذات غالبية تركمانية، وفيما يلي تقسيم مناطق التهجير بحسب المحافظة.


ويجدر بالذكر أن العديد من المناطق شهدت نزوح سكانها قسراً بفعل العمليات العسكرية القائمة بين قوات النظام والميليشيات الموالية له من جهة وفصائل المقاومة الوطنية من جهة أخرى، إضافة إلى القصف الروسي، وهذه تندرج ضمن عمليات النزوح الداخلي.
استخدم النظام السوري والقوات الموالية له في عملية التهجير القسري أدوات سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية وإدارية من أهمها:
    1.    المجازر: ارتكبت قوات النظام والقوات الموالية مجموعة من المجازر على أساس طائفي بهدف ترهيب السكان ودفعهم لترك مناطقهم، ومن أمثلة تلك المجازر: مجزرة الحولة (25-5-2012)، مجزرة القبير (6-5-2012)، مجزرة البيضا ورأس النبع (2-5-2013)، مجزرة التريسمة (12-7-2012)، مجزرة الزارة (6-3-2014) .... إلخ
    2.     القصف الجوي: يلجأ النظام والقوات الموالية له إلى تكثيف القصف الجوي على المناطق المشمولة بمخطط التغيير الديمغرافي بهدف تدمير مقومات الحياة مما يدفع السكان للنزوح القسري عنها بحثاً عن الأمن والخدمات، وفي دراسة صادرة عن المجلس المحلي لمحافظة حمص-مكتب التوثيق بعنوان "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تبين وجود علاقة ارتباط طردي قوية بين القصف الجوي وتهجير السكان من الحي.
    3.    التضييق الاستخباراتي: يلجأ النظام عبر قواته الأمنية وكذلك الميليشيات الشيعية إلى التضييق الأمني على سكان المناطق المستهدفة بالتهجير القسري وذلك إما بالتضييق على حركة تنقلهم من وإلى داخل هذه المناطق، أو عبر اعتقال الشباب بذرائع أمنية أو بحجة السوق للخدمة الإلزامية الأمر الذي يدفع السكان لترك هذه المناطق.
    4.     الحصار: اتبع النظام الحصار كسياسة للتضييق على سكان المناطق المشمولة بعملية التهجير، ويظهر تحليل المناطق التي تعرضت للتهجير أنها تعرضت لفترات حصار طويلة كما حصل في داريا والمعضمية وأحياء حمص القديمة والزبداني ومضايا وغيرها من المناطق المهجرة، وتظهر دراسة "مؤشر التهجير في حي الوعر-حمص" تأثر عدد السكان بهذا المتغير بشكل طردي، بمعنى أي أن كل حالة حصار لحي الوعر تبعها انخفاض في عدد السكان في وقت الانفراج، أي لم يخرج السكان بشكل مباشر في وقت الحصار بل في الأوقات التي تلت حالة الحصار.
    5.    تغيير الملكية وإعادة الإعمار: استغل النظام الحراك الثوري ليدفع باتجاه تسريع عملية التهجير القسري من خلال طرح مخططات تنظيم عمراني جديدة تهدف إلى طرد السكان الأصليين من مناطقهم ونقل ملكية هذه المناطق إلى وافدين جدد، ومن أشهر المناطق التي شملها النظام بعملية إعادة التخطيط العمراني منطقة المزة بساتين الرازي (المرسوم التشريعي رقم /66/ تاريخ 18/9/2012) ومنطقة باب عمرو والسلطانية وجوبر بحمص (المرسوم رقم 5 لعام 1982 وتعديلاته) فيما يعرف باسم مشروع حلم حمص.
    6.    اتفاقيات الإخلاء: يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوة على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-آب 2016) بـــ 7 اتفاقيات، 4 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه_ خاصة إيران_ لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية. بالنظر إلى السياق الزمني الذي عقدت فيه اتفاقيات الإخلاء، يلاحظ أنها جرت بالتزامن مع اتفاقيات المصالحات حينما كان للنظام اليد الطولى سياسياً وعسكرياً على حساب المقاومة الوطنية.
تزامنت عملية التهجير القسري مع حدوث حالات إحلال سكاني جزئي في عدد من المناطق التي شملها التهجير ومن أبرزها: القصير وبابا عمرو والدريب والسباع والحميدية في حمص، أحياء العمارة والأمين والجورة والشاغور في دمشق، منطقة جنوب دمشق كالسيدة زينب وحجيرة والحسينية وسبينة والذيابية ويبرود وعقربا في ريف دمشق، قبر فضة والرملة في حماة. أما الأدوات المستخدمة في الإحلال السكاني فمن أبرزها: نقل الملكية للوافدين الجدد إما من خلال التنظيم العمراني أو شغل منازل المهجرين بالقوة، أو من خلال شراء العقارات السكنية والأراضي الزراعية إضافة إلى توفير الخدمات وإعادة إعمار المناطق المهجرة. أما الوافدين الجدد فيتوزعون بين الفئات التالية: علويون، ميليشيات شيعية، شيعة سوريون ومتشيعون جدد، وليس هناك أرقام موثوقة نستطيع فيها تقدير هذا الإحلال السكاني.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل داعش: انتهاكات وتهجير


تعدّدت الانتهاكات المُمارسة من قبل تنظيم داعش بحق المدنيين من إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية، مروراً بحلقات الاستتابة والدورات الشرعية التي يقيمها التنظيم للسكّان المحليين، ومعسكرات تجنيد الأطفال، وسرقة المنازل والممتلكات الخاصة. وفي حين نال المسيحيون واليزيديون قسطاً وفيراً من انتهاكات التنظيم في العراق، لم تواجه الأقليات الدينية نفس المصير في سورية، ويعود ذلك لنزوح سوادها الأعظم لمناطق النظام أو خارج سورية قبل خضوع مناطقهم لسيطرة داعش.
ارتكب داعش معظم انتهاكاته ضد أفراد ومجموعات اتّهموا بالعمالة لجهات خارجية وثورية فقام التنظيم بتهجير عشرات الآلاف من عقد المقاومة التي اعترضت تقدمه كما حصل في الشحيل وريف دير الزور الشرقي، وفي أبو حمام، والشعيطات، وغيرها من القرى والبلدات العربية في محافظة دير الزور والحسكة. وبعد القضاء على جيوب المقاومة و "المرتدين" على صعيد الجبهات الداخلية، تركّزت انتهاكات التنظيم ضد المكوّنات المحلية على أطراف مناطق سيطرته، ويأتي ضمنها كرد جنوب محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة وشمال شرق محافظة حلب. وإذ ترجع أول أحداث التوتر المتعاظم بين العرب والكرد لاشتباكات رأس العين بين جبهة النصرة وحلفائها المحليين مع وحدات الحماية الشعبية مطلع العام 2013، إلّا أن معارك التنظيم للاستيلاء على مدينة كوباني تشكّل علامة فارقة في تاريخ العلاقات العربية الكردية وما نتج عنها من إشكالات عميقة لاحقاً. ويمكن ورد جرائم التهجير التي قام بها التنظيم بحق الكرد كالتالي:
    1.    الحسكة: تل براك: تعد منطقة تل براك عقدة وصل بين الحسكة والقامشلي، ولقد شهدت قراها عام 2015 قتالاً شديداً بين التنظيم ووحدات الحماية الشعبية، اتُهم خلالها داعش بتهجير الكرد من قراهم التي خضعت لسيطرته، بالإضافة إلى ممارسات تضييق وإذعان بحقهم.
    2.    الرقة:
    ◦    تل أبيض – تموز / آب 2013: اتّهم ناشطون مدنيون تنظيم داعش وغرباء الشام ومقاتلين محليين من حركة أحرار الشام بتهجير سكّان القرى الكردية: سوسك، ويارقوي، وكري سور، وعفده كوي، وقزعلي، وملوح القمر، وتل فندر، فيما لجأ جزء منهم إلى تركيا ونزح القسم الآخر نحو كوباني وريفها.
    ◦    الرقة – حزيران 2015: أصدر تنظيم داعش قراراً يقضي بخروج الكرد من مدينة الرقة بتهمة مساندة التحالف الدولي ووحدات الحماية الشعبية، وأمهلهم يوماً واحداً للمغادرة.
    3.    حلب:
    ◦    ريف جرابلس – تموز 2014: نقلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قيام تنظيم داعش بحرق ونهب والاستيلاء على منازل مدنيين في قرى عفدكه، وملوح القمر، وأبي صرة، وكورك، وجل أوغلي، والجبنة مما دفع 2100 عائلة للنزوح باتجاه مدينة كوباني والحدود التركية القريبة.
    ◦    ريف الباب – آب 2015: نقل عن شهود عيان اعتقال مئات الكرد المدنيين ومصادرة ممتلكاتهم في قرى شدود وقبّة شيح والشيخ جراح وتل بطال وقعركلبين وبليخة وتل جرجي وشاوى والكعيبة. وتسبّبت الانتهاكات بموجات نزوح جديدة نحو القرى ذات الغالبية الكردية في مناطق سيطرة المقاومة الوطنية ومنطقتي عفرين وكوباني.
تخلو أدبيات داعش والقاعدة عموماً من تمييز الناس على أسس قومية، ويضم التنظيمان قوميات مختلفة من ضمنهم الكرد، إلّا أن القتال الدائر بينها وبين وحدات الحماية الشعبية في سورية، والبشمركة في العراق أدّى إلى تبنيهما سياسة خاصة في التعامل مع الكرد، خصوصاً بعد تدخل التحالف الدولي في المنطقة. وعلى رغم من خضوع المكونات العربية المحلية لنفس الممارسات من حيث الحجم والنوع استطاعت الحركات الكردية الراديكالية استثمار ضعف رصيد الثقة بين العرب والكرد في تعزيز سردية العداء التاريخي بين المكونين، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إذكاء النعرات القومية وفي توفير منّصة مجانية للمتطرفين من الطرفين. 

عملياتالتغيير الديمغرافي من قبل الاتحاد الديموقراطي: سيطرة وتوسع

قدّرت بعض الجهات الإعلامية أن عدد سكّان المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية 2.5 مليون نسمة وهو نفس عدد سكّانها ما قبل 2011، ويعود عدم انخفاض حجم الكتلة البشرية فيها مقارنة ببقية مناطق سورية إلى توازن معدّلات الهجرة منها وإليها. ولقد شهدت الإدارة الذاتية موجات نزوح داخلي لأمانها النسبي مقارنة ببقية المناطق في شمال سورية، فيما هاجر بعض أبنائها إلى تركيا والعراق وأروبا لأسباب اقتصادية بشكل رئيس.
تنقسم مناطق الإدارة الذاتية لثلاثة كانتونات هي الجزيرة، وكوباني (عين عرب)، وعفرين، فيما استحدث كانتون تل أبيض في الـ 21 من تشرين الأول 2015 بعد طرد تنظيم داعش من المدينة وريفها. وتشهد مناطق عفرين وكوباني أكبر كثافة للكرد في سورية، في حين يعرف كانتون الجزيرة تنوعاً أكبر حيث ينضم للكرد قوميات أخرى كالعرب، والتركمان، والآشوريين، والأرمن.
يتولى الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، وحدات الحماية الشعبية (أو الأبوجية) مهام الأمن الخارجي وينشط في محاربة داعش، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتشكيلات من الجيش الحر. وأمّا المهام الأمنية الداخلية فهي من مسؤولية قوات الأسايش التي تقوم بعمل الشرطة ومكافحة الإرهاب. ولقد اشترك حزب الاتحاد الديموقراطي مع عدد الفاعليات المحلية بإعلان مناطق الإدارة الذاتية بفيدرالية الشمال أو روجافا في الـ 17 من آذار 2016، وعلى الرغم من عدم اعتراف المعارضة أو النظام أو أي جهة دولية رسمية بإعلان الفيدرالية، يعتبر الاتحاد الديموقراطي السلطة الفعلية في هذه المناطق، مما يلزمه بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بمنح الحقوق الأساسية لجميع سكّان المناطق التي يسيطر عليها.
تلقى تصرفات وحدات الحماية الشعبية الموالية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكثير من الاهتمام من قبل المكونات السورية الأخرى ومن العرب على وجه الخصوص، ولقد انعكس هذا الاهتمام بحجم الصدى الذي أحدثته التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان والشبكة السورية لحقوق الإنسان حول انتهاكات الوحدات في مناطق سيطرتهم. ويعد ملف التهجير القسري أحد أكثر الملفات الشائكة بين الكرد والعرب في سورية، ولقد شهد طيلة الأعوام الماضية تبادل الاتهامات من قبل الطرفين.

وتشير التقارير الآنف ذكرها قيام وحدات الحماية الشعبية بحملات تهجير في ريفي تل أبيض، وتل حميس طالت كل من قرى وبلدات عبدي كوي، وتل أبيض، والمغات، وسلوك، ورنين، والحصوية الكبرى، والحصوية الصغرى، وأم كبير، وأم كهيف، والناعم، والحنوة الكبرى، والحنوة الصغرى، والفسطاط، والخولة، وتل الشوك، والحسينية، وعكاظ، والجزعة، والبكارية والهلالية، والعشرة، وتل مجدل، والأغبيش. كما ساقت صور من مواقع البلدات وأخرى صناعية تدل على هدم وجرف منازل المدنيين فيها.
تعامل حزب الاتحاد الديموقراطي مع هذه التهم بتحفظه على الأدلة التي سيقت في التقارير، وبطعنه في أهلية شهود العيان، وبشكل رئيس من خلال تبريره هذه العمليات تحت بند الأعمال العسكرية ضد تنظيم داعش. وفي الوقت الذي تصر فيه الإدارة الذاتية على رفض هذه التهم جملة وتفصيلاً ثمّة ما يشير إلى أن تنفيذها جاء انتقاماً ممن افترضتهم حاضنة اجتماعية لداعش، بما يضفي على هذه الممارسات طابع العقاب الجماعي بما يخالف أحكام القانون الإنساني الدولي. كما أن غياب آليات المحاسبة والرقابة يبقي الخوف من قيامه باستخدام ورقة التغيير الديموغرافي مشروعاً، خصوصاً وقد صرّح صالح مسلم في بداية أحداث الثورة "أن على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل".
يلاحظ أن معظم هذه الممارسات حصلت في محيط الحسكة وتل أبيض حيث يشكّل ضعف الوجود الكردي فيها خطراً على مشروع الإدارة الذاتية، الأمر الذي يفسر اندفاع وحدات الحماية الشعبية في تعزيز وجودها العسكري فيها إبعاداً لأي تهديد ديموغرافي سكّاني مستقبلي. ولقد شهدت منطقة الخابور سياسة مشابهة في نزع سلاح ميليشيا Sootoro الآشورية، وكذلك مدينة الحسكة في طرد مليشيا الدفاع الوطني الموالية للنظام رغم تعايشها مع الإدارة الذاتية. تفيد القراءة السابقة لتحركات وحدات الحماية الشعبية بتبنيها سياسة تغليب قوتها في حيزها الحيوي وأن التهجير القسري لبعض القرى والبلدات العربية والتركمانية جاء نتيجة لهذه السياسات وليست بالضرورة سياسة قائمة بحد ذاتها، فالهاجس الأول للاتحاد الديموقراطي هو بسط نفوذه في مناطق الإدارة الذاتية واحتكار القوة ريثما ينتهي من التحكم في مفاصل النظام المحلي الذي يعمل على إنشائه.
ويجدر بالذكر أن الإدارة الذاتية قد سمحت بعودة جزئية لعدد من العرب الذي هجروا من قراهم في ريف الحسكة، كما حصل في منطقة الهول وتل براك في ريف الحسكة، وبلدة سلوك في ريف تل أبيض، كما أن مناطق سيطرتها تأوي ما يقارب الـ250 ألف نازح عربي مما ينفي عنها تبنيها سياسة تهجير العرب من كامل مناطقها.
عمليات التغيير الديمغرافي من قبل فصائل المقاومةالوطنية: نزوح وعودة

اتهم النظام وعدد من المنظمات الحقوقية فصائل المقاومة الوطنية بممارسة التغيير الديمغرافي من خلال ارتكابها لأعمال عدائية بحق الأقليات كشن العمليات العسكرية في مناطق تواجدهم (معان والكبارية في أيلول 2016، قرى ريف اللاذقية أب 2013، معلولا أيلول 2013، الطليسية أيلول 2016، صدد تشرين الأول 2013)، أو من خلال الترهيب الأمني الموجه ضد الأقليات المتواجدة في مناطق سيطرتها كما حصل في معرة مصرين وفي الغوطة الشرقية وفي إدلب المدينة على سبيل المثال لا للحصر.
ووفقاً لمصادر النظام فإن المناطق التي تتهم فصائل المقاومة الوطنية بتهجير سكّانها هي: معلولا وعدرا العمالية وقرية مغر المير في ريف دمشق، كفريا والفوعة وحلوز والقنية واشتبرق والجديدة واليعقوبية والغسانية "أنزيك" وقرية زرزور في إدلب، نبل والزهراء في حلب، محردة وجدرين وكفربو وقسطل البرج وتل سكين والصفصافية وحي الميدان وجورين وشطحة وقرية الزيارة في حماة، قرية أبو مكة والبادروة والحمبوشية وعرامو والبلوطة وجب الأحمر والخوارات والخميلة وكسب وبج القصب والغسانية "كشيش" وصلنفة في اللاذقية، ربلة والغسانية وصدد في حمص، نامر وخربة وطيسيا ومعربة وشقرا في درعا. عند التدقيق في توزع المناطق السابقة يتضح أنها تتركز في منطقة الغاب وجسر الشغور وناحية القصير وفي المنطقة الواقعة بين الحدود الإدارية لدرعا والسويداء، بمعنى أنها تتركز في نقاط التداخل بين النطاقات الجغرافية ذات الانتماءات المتباينة مذهبياً. إن اتهام فصائل المقاومة الوطنية بممارسة عملية تغيير ديمغرافية قسرية بشكل ممنهج ليس عليه دلائل كافية وذلك للأسباب التالية:
    1.    الجهات التي تصدرت تنفيذ الأعمال الانتقامية التي أدت إلى حدوث عملية نزوح قسري في أغلب المناطق المذكورة سابقاً، هي جبهة النصرة وتنظيم داعش.
    2.    غالباً ما كان يلجأ سكان المناطق السابقة للنزوح عنها مع اقتراب فصائل المقاومة الوطنية، وذلك خوفاً على أنفسهم من ممارسات انتقامية قد تطالهم لموقفهم المؤيد للنظام وهرباً من الاشتباكات العسكرية وبحثاً

اقرأ المزيد
٩ نوفمبر ٢٠١٦
حدود ممزقة ... هل تحتفظ سوريا بحدودها الإدارية أم باتت من التاريخ؟

لا ثابت في الحدود السورية منذ مطلع القرن العشرين، فسوريا الطبيعية خسرت مناطق وولايات تعادل مساحتها الحالية بضعفين، منذ انتهاء عهد الدولة العثمانية، ودخول منطقة الشرق الأوسط مرحلة الانتداب البريطاني والفرنسي، وهو ما يطرح سؤالًا جديًّا حول مستقبل سوريا وحدودها الحالية، هل تحافظ عليها أم تتقلص ثانية، في ظل الحرب المستمرة منذ آذار 2011؟
كانت توصية رئيس الوزراء الفرنسي، أريستد بريان، في التاسع من تشرين الأول 1915، ضمن المراسلات البريطانية الفرنسية التي أدت إلى اتفاقية "سايكس بيكو"، هي "تثبيت الحدود الإدارية الحالية لسوريا، وتشتمل أرضها على ولايات أو متصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب، وفي الشمال الغربي على الجزء الكامل من ولاية أضنة الواقع جنوب طوروس".
بعد توصية بريان، خسرت سوريا القدس وبيروت وأضنة ومناطق كثيرة أخرى، تحاول عنب بلدي تسليط الضوء عليها، وتلخيص الواقع الميداني والجغرافي في سوريا، واستشراف مستقبل البلاد، في ضوء الصراع المحلي والدولي المعقد.

سوريا الطبيعية
سوريا الطبيعية، أو سوريا الكبرى، هو مصطلح جيوسياسي، أطلق على الدول التي تشكل حاليًا بلاد الشام، وهي سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، بما فيها المناطق الخاضعة حاليًا للكيان الإسرائيلي، وتضم أيضًا المناطق الواقعة في الجنوب التركي، وأبرزها أضنة ومرسين وعنتاب ومرعش ولواء اسكندرون، وصولًا إلى ديار بكر وأورفة وماردين، وظلت هذه المناطق كتلة واحدة حتى أعلنت كلٌ من فرنسا وبريطانيا انتدابها للمنطقة عام 1920.
اتفاقيات مزّقت سوريا الكبرى          
منذ عام 1916 وحتى عام 1939، عقدت اتفاقيات على أنقاض الدولة العثمانية المتلاشية، فتت سوريا الكبرى إلى أربع دول فرضت عليها صكوك الانتداب الفرنسي البريطاني، واقتطعت أقاليمها الشمالية لصالح تركيا الأتاتوركية فيما بعد.

اتفاقية سايكس بيكو 1916
في وقت كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة بين الألمان والحلفاء، انتدبت كل من لندن وباريس (عاصمتا القرار في العالم آنذاك)، “السير مارك سايكس” ممثلًا عن بريطانيا، و”مسيو جورج بيكو” ممثل فرنسا، على اعتبارهما من أكثر دبلوماسيي البلدين حنكة وتدبيرًا.
عقب محادثات ومباحثات سرية استمرت من أواخر عام 1915 وحتى أيار 1916، خرج الرجلان باتفاقية عرضت آنذاك على روسيا القيصرية، فوافقت عليها، مقابل اتفاق تعترف فيه بريطانيا وفرنسا بحقها في ضم مناطق معينة من آسيا الصغرى بعد الحرب.
نصت اتفاقية “سايكس بيكو” على تقسيم بلاد الشام وبلاد الرافدين إلى ثلاث مناطق: العراق وتخضع للإدارة البريطانية، سوريا وتخضع للسيادة الفرنسية، فلسطين وتخضع لإدارة دولية كمقدمة لاحتلالها من قبل اليهود بعد أعوام وفقًا لـ "وعد بلفور".
تمتد الأراضي السورية الخاضعة للسلطة الفرنسية من السواحل الشرقية للبحر المتوسط وحتى مدينة الموصل، التي كانت تتبع لسوريا وفقًا للمعاهدة، كذلك فإنها تشمل الأراضي الجنوبية لتركيا حاليًا، بما فيها لواء اسكندرون، في حين تشمل الأراضي العراقية الخاضعة للسلطة البريطانية الضفاف الغربية والجنوبية للخليج العربي، بما فيها الكويت، وتمتد إلى الأردن.
استغلت الدول صاحبة القرار آنذاك المرض الذي ألم بجسم السلطنة العثمانية، فكانت المعاهدة التي رسمت الحدود بين الدول العربية، والتي نراها اليوم متزعزعة في ضوء الصراع في الشرق الأوسط، والذي ربما تنتج عنه حدود جديدة تزيد من عمق التقسيم.

معاهدة سيفر 1920
وقعت هذه المعاهدة في العاشر من آب عام 1920، في منطقة سيفر بفرنسا، بين العثمانيين والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وكانت بمثابة المسمار الأخير في نعش تفكك وانهيار الدولة العثمانية، إذ تضمنت تخلي الحكومة العثمانية عن جميع الأراضي التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، بما فيها المنطقة العربية.
وخرجت منذ ذلك الوقت سوريا والعراق ومصر والحجاز عن التبعية للدولة العثمانية بشكل رسمي، لتكون منطلقًا لتشكيل حدود جديدة لدويلات متعددة في المنطقة.

معاهدة أنقرة 1921
لاحقًا وعقب معاهدة سيفر، وخلال حرب "الاستقلال" التي قادها مصطفى كمال أتاتورك لاستعادة هيبة تركيا، وإسقاط الحكومة العثمانية في اسطنبول، واسترجاع الأراضي التي انتدبتها بريطانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا، وقّع في 29 تشرين الأول 1921 معاهدة "أنقرة" التي أعطت المناطق الشمالية من سوريا لحكومة أتاتورك.
وقعت المعاهدة في العاصمة التركية الحديثة أنقرة، بين فرنسا وتركيا، وأعادت ترسيم الحدود لتركيا لتمنح لها كلًا من: أضنة، العثمانية، مرعش، عنتاب، كلّس، أورفة، ماردين، ديار بكر، نصيبين، وجزيرة ابن عمر (جزرة)، بعد سلخها عن سوريا.

مؤتمر لوزان 1922- 1923
لم يؤثر هذا المؤتمر الذي استضافته مدينة لوزان السويسرية على الحدود السورية بشكل مباشر، بعدما اقتطعتها فرنسا لصالح تركيا عام 1920، إلا أنه أعطى شرعية دولية لتركيا بحدودها الحالية، بما فيها الإقليم السوري الشمالي المقتطع.
تعثّر المؤتمر الأول في تشرين الثاني 1922، والذي جاء بعد 20 يومًا على إعلان إلغاء السلطنة العثمانية، لفرض شروط بريطانية تقضي بإعلان العلمانية وحرية الملاحة المائية في المضائق وطرد السلطان العثماني وعائلته، وإعلان أنقرة تخليها عن الموصل (الغنية بالنفط).
إلا أن المؤتمر الثاني في لوزان، تشرين الثاني 1923، شهد مرونة من أنقرة وقبولها بالتوقيع على الاتفاقية التي تنازلت من خلالها عن سوريا والعراق ومصر والسودان وامتيازاتها في ليبيا، وأعطاها شكلها الحالي بحدودها البرية والبحرية بشكل تقريبي، فيما لو استثنينا لواء اسكندرون، الذي دخل ضمن أراضيها فيما بعد.

سلخ لواء اسكندرون 1939                  
يقع لواء اسكندرون شمال غرب سوريا على البحر الأبيض المتوسط، وتبلغ مساحته 4800 كيلومتر مربع، تبع خلال الحقبة العثمانية لولاية حلب، ويضم حاليًا عددًا من المدن والبلدات، أهمها: أنطاكية، اسكندرون، الريحانية، قراخان.
يعد لواء اسكندرون أحد أبرز القضايا الإشكالية بين سوريا وتركيا، بين عامي 1916 و1939، إذ حظيت هذه المنطقة عقب انهيار الدولة العثمانية بحكم ذاتي يتبع للحكومة السورية، وما لبث أن أعيد ربطه بالدولة السورية عام 1926، في عهد الرئيس السوري أحمد نامي.
استصدرت فرنسا قرارًا من عصبة الأمم المتحدة عام 1937، أعطى لواء اسكندرون حكمًا ذاتيًا، وربطه شكليًا بالحكومة السورية في دمشق، لكن ما لبثت أن دخلته القوات التركية عام 1938، وانسحبت فرنسا منه.
في عام 1939 أجرت تركيا استفتاءً في اللواء، أشرفت عليه فرنسا، وأظهرت نتائجه قبولًا شعبيًا بضمه رسميًا إلى تركيا، وهو ما حدث فعلًا رغم السخط العربي من هذا الإجراء والتشكيك بنتائج الاستفتاء، ومايزال حتى يومنا هذا ضمن الأراضي التركية، تحت مسمى "إقليم هاتاي".
شكّل سلخ اللواء صدمة للسوريين، فخرجت المظاهرات الغاضبة في شوارع دمشق وحلب وباقي المحافظات السورية، أطاحت بحكومة جميل مردم، وكانت سببًا مباشرًا لاستقالة الرئيس هاشم الأتاسي، وشكّلت قضيته صدامًا مباشرًا بين تركيا وسوريا طيلة عقود مضت.

"نكسة حزيران" واحتلال الجولان 1967
تقع هضبة الجولان جنوب غرب سوريا، إلى الغرب من العاصمة دمشق، وتبلغ مساحتها حوالي 1800 كيلومتر مربع، وتتبع إداريًا لمحافظة القنيطرة، قبل احتلال معظم مساحتها من قبل الكيان الإسرائيلي، في حزيران عام 1967، في حرب انتصرت فيها إسرائيل على القوات السورية والمصرية، وسميت بـ "نكسة حزيران".
حاول الجيش السوري استرجاع الجولان في حرب تشرين الأول 1973، إلا أنه فشل في ذلك، وانسحبت القوات الإسرائيلية من مساحة قدرها 60 كيلومترًا شملت مدينة القنيطرة المهدمة ومحيطها، لتبقي تل أبيب سيطرتها على ثلثي مساحة الهضبة فعليًا، وقرر الكنسيت الإسرائيلي ضم المناطق المحتلة للكيان، في قرار أحادي الجانب، صدر عام 1981.
نزحت آلاف العوائل من الجولان إلى الداخل السوري، فيما آثر نحو 40 ألف مواطن البقاء في منازلهم، وأصبحت قضية المطالبة بالجولان بعد حرب 1973 إعلامية بحتة، دون تحرك فعلي لاسترداد الأراضي المحتلة، ووسط ترجيح معارضي الأسد الأب تنازله عن هذه الرقعة الجغرافية الغنية بالمياه  والأراضي الزراعية الخصبة في اتفاقيات سرية مع تل أبيب.

الثورة وواقع الحدود "المهترئة"

الحدود الحالية لسوريا
تبلغ مساحة سوريا الحالية 185 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ طول حدودها مع الجوار نحو 2250 كيلومترًا، ويحدها من الشرق دولة العراق بحدود يصل طولها إلى 605 كيلومترات، ومن الجنوب الغربي دولة فلسطين بحدود طولها 76 كيلومترًا، ومن الجنوب مملكة الأردن بحدود طولها 375 كيلومترًا، ومن الغرب جمهورية لبنان بحدود طولها 370 كيلومترًا، ومن الشمال الجمهورية التركية بحدود تبلغ 822 كيلومترًا.
حافظت سوريا على استقرار حدودها الإدارية طيلة أربعة عقود سبقت الثورة ضد بشار الأسد، فشهدت العلاقات بين سوريا وتركيا تحسنًا تدريجيًا، لا سيما أواخر عهد حافظ الأسد حينما وقع الجانبان اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998، عززتها العلاقات التجارية والسياسية المميزة بين حكومة رجب طيب أردوغان وبشار الأسد مطلع الألفية الثانية إلى ما قبل آذار 2011.
وتزامن ذلك مع تهدئة الجبهات إلى نسبة صفر مئوية مع "العدو" الإسرائيلي، وهو ما اندرج أيضًا على الحدود البرية مع الأردن والعراق، والتي لم تشهد أي متغيرات منذ ترسيمها من قبل لندن وباريس، رغم القطيعة الدبلوماسية والمواقف الندية بين الأسد الأب وصدام حسين.
في العام الثالث للثورة ضد النظام السوري، بدأت الحدود الإدارية لسوريا تشهد ارتخاءً وضعفًا متزايدًا، كان سببه الجوهري فقدان حكومة الأسد سيطرتها على معظم المنافذ الحدودية، إلى جانب حركة اللجوء إلى دول الجوار هربًا من الحرب، ودخول التنظيمات والميليشيات المسلحة إلى ساحة الصراع، والتدخل الدولي المباشر فيها، ما ينذر بمتغيرات في جغرافية سوريا في المستقبل القريب.

تركيا تشرف من الداخل على "درع الفرات"  
تشرف تركيا بشكل مباشر على غرفة عمليات "درع الفرات" منذ آب الماضي، ونجحت فصائل "الجيش الحر" المدعومة من أنقرة بالسيطرة على مساحات واسعة من مدينة جرابلس وحتى مدينة اعزاز شمال حلب، في استراتيجية تشمل مدينتي الباب ومنبج، بحسب التصريحات التركية، وهو ما يشكل "المنطقة الآمنة" التي طرحتها تركيا مرارًا خلال العام الفائت والجاري.
وباتت الحدود السورية- التركية في محافظتي حلب وإدلب تحت الهيمنة التركية، عدا عن منطقتي كوباني وعفرين، وساهمت في طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" منها بشكل كامل، وعززت النفوذ التركي في الشمال السوري.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أشار في 22 تشرين الأول الماضي، إلى أن "بعض الجهات تطلب من تركيا عدم السيطرة على بلدة الباب، إلا أن قوات المعارضة السورية المدعومة تركيًا عاقدة العزم على السيطرة على البلدة، من أجل إنشاء منطقة خالية من الإرهاب هناك"، مضيفًا "نحن نحترم الحدود السياسية الموجودة، رغم الغصة التي في قلوبنا.. ليس لدينا أدنى مشكلة مع سيادة أي دولة من دول الجوار، همنا الأول هو حماية إخواننا وتراثنا".

حدود شاسعة لـ "الإدارة الذاتية" مع تركيا وكردستان
تسيطر "الإدارة الذاتية" المعلنة من حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي على معظم المناطق الحدودية مع تركيا، في محافظات الحسكة والر قة وحلب، وتتهم تركيا الجماعات الكردية المسلحة هناك بالتبعية المباشرة لحزب "العمال الكردستاني"، والتعاون العسكري المشترك بينهما.
كما أعلنت أنقرة مطلع تشرين الثاني الجاري تفجير نفق يمتد من نصيبين التركية إلى القامشلي السورية، في إشارة إلى التعاون العسكري بين المنظمتين الكرديتين، لكن تركيا ورغم ذلك مازالت تسيطر بشكل فعال على الشريط الحدودي، وتضبط حركة المرور فيها.
من جهة أخرى، تسيطر "الإدارة الذاتية" على المنطقة الحدودية مع العراق، من الجهة الشرقية لمحافظة الحسكة، ويقابلها في الطرف المقابل مناطق تتبع حاليًا لإقليم كردستان العراق، وتشهد الحدود بين الجانبين نشاطات تجارية متبادلة، وتضمن تنقل الأفراد والشاحنات عبر معبر "سيمالكا" الحدودي.

تنظيم "الدولة" يصل سوريا بالعراق
كسر تنظيم "الدولة الإسلامية" الحدود بين سوريا والعراق، في محافظة دير الزور والأجزاء الجنوبية الشرقية من محافظة الحسكة، وأصبحت هذه المساحة بين البلدين كتلة واحدة دون حدود إدارية منذ مطلع عام 2014.
وأسهمت الحدود المكسورة بتسهيل حركة المقاتلين العرب والأجانب في صفوف التنظيم بين البلدين بديناميكية عالية، عدا عن التبادل التجاري، وخصوصًا في مجال المشتقات النفطية، والتي توفر النقد الأجنبي لخزينة التنظيم، وأعطت هذه السيطرة الذريعة للولايات المتحدة ودول التحالف بالتغلغل بريًا وجويًا في سوريا، وإنشاء قواعد عسكرية في منطقة الرميلان بمحافظة الحسكة، وتسليح فصائل محلية لمحاربة التنظيم.

إسرائيل تتحرك على الحدود الجنوبية
شهدت الحدود الجنوبية الغربية المتاخمة للأراضي المحتلة من قبل الكيان الإسرائيلي توترًا وقصفًا مدفعيًا متقطعًا من قبل الجيش الإسرائيلي، في إطار الرد على القذائف التي تتساقط بين الحين والآخر على مستوطناته في الجولان المحتل، كما رصدت المؤسسات الحقوقية استيعاب المستشفيات الإسرائيلية لعشرات من الجرحى السوريين، في ظل غياب سلطة النظام السوري عن معظم الأراضي المتاخمة للكيان، عدا عن ناحية حضر التابعة لمحافظة القنيطرة.
في تموز الماضي، أقدمت قوات إسرائيلية على اجتياز الشريط الحدودي الفاصل مع سوريا، وتوغلت عدد من المدرعات بالقرب من تل عكاشة في محافظة القنيطرة بمسافة 400 متر، وأقامت دشمًا عسكرية وأسلاكًا شائكة في المناطق التي دخلتها، بحسب المجلس المحلي التابع للمعارضة، في خطوة هي الأولى من نوعها، وكانت هذه المنطقة تحت إشراف قوات الفصل التابعة للأمم المتحدة.
وينظر باحثون إلى هذه الخطوة كونها استغلالًا واضحًا للأوضاع والحرب في سوريا، وتعزيز نفوذ الجيش الإسرائيلي في الجولان المحتل، وسط ترجيحات بخطوات مماثلة قد تلجأ لها إسرائيل مستقبلًا، وتخسر من خلالها سوريا مساحات أخرى من أراضيها.

الأردن سيطرة حدودية من جانب واحد
مع إغلاق الأردن منافذها الحدودية مع سوريا، واقتصارها على إجلاء المصابين ودخول القوافل الإنسانية، باتت هي المتحكم الفعلي بالشريط الحدودي، دون وجود للنظام السوري في الطرف المقابل، رغم احتفاظ النظام بالشريط الحدودي في محافظة السويداء.
تستثمر الأردن الحدود مع سوريا بدعم فصائل الجبهة الجنوبية في الجيش الحر، عن طريق غرفة تنسيق الدعم (موك)، كذلك ساهمت في إنشاء مراكز تدريب لفصيل "جيش سوريا الجديد" في ريفي المنطقة الحدودية من البادية السورية، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

الحدود مع لبنان تحت تصرف "حزب الله"
إلى الحدود الغربية مع لبنان، والتي بات الوجود الرسمي السوري واللبناني فيها شكليًا، لهيمنة ميليشيا "حزب الله" على المنطقة الممتدة من ريف حمص الغربي وحتى جنوب القلمون في ريف دمشق.
تجاوز "حزب الله" مسألة الحدود، وسيطر فعليًا على عدد من المدن والبلدات في المحافظتين، أبرزها مدينة القصير الحدودية وريفها المجاور، ومدينة يبرود القلمونية والقرى المحيطة فيها مثل فليطة وعسال الورد.
ضمن "حزب الله" بعد هيمنته على الحدود، برضا من حكومة النظام، تدفق مقاتليه من وإلى سوريا، كونه أبرز الميليشيات الأجنبية الرديفة لقوات الأسد، وعزز بذلك سطوته محليًا، في ظل انكفاء فصائل المعارضة عن المنطقة.

استشراف المرحلة المقبلة: هل تبقى سوريا أم تزول؟

 


هل تبقى سوريا أم تزول؟ هل تشهد تقسيمًا أم فدرلة؟ هل تحافظ على حدودها الإدارية أم تتآكل مجددًا؟ هي مجموعة أسئلة طرحتها عنب بلدي على الباحث السياسي ساشا العلو، في حوار رأى من خلاله الباحث أن جميع الاستفسارات يحددها ويجيب عليها شكل النظام السياسي المقبل.
عن التقسيم والفدرلة                              
الفدرلة، فيما لو حدثت في سوريا، فستكون في سياق غير طبيعي، إذ لا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة إلا بعد قطع مراحل المركزية الإدارية إلى المركزية السياسية، وفق اقتصاد حر ونظام اقتصادي يتماشى مع الفدرالية، أما في الحالة الراهنة فالمنطقة تسير وفق نظرية الأمريكيين، والتي باتت تسمى بـ "الفوضى الخلّاقة"، بحسب العلو.
وأوضح الباحث أن "الفوضى الخلّاقة"، تنص على تصارع القوى المحلية في المنطقة، والناجي والأقوى يتم تحضيره وتنظيفه، ومن ثم تسليمه زمام الأمور، وبالتالي هي شرعنة للفوضى، وأضاف "إذا لم نستطع السيطرة على هذه الفوضى، وطال أمد الصراع، فالشمال بفصائله سيحظى بشرعية، والجنوب كذلك الأمر، وسوريا المفيدة أيضًا، والإدارة الذاتية ستحظى بقبول كذلك، وستكون الفدرالية ضمن هذا السياق، ولن يكون لها أي تراتبية سياسية أو إدارية أو اقتصادية".
ورأى الباحث العلو، أن معركة الموصل الحالية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" لها حساسية خاصة بالنسبة لسوريا، فما بعد الموصل لن يكون كما قبله، والوضع العراقي بعد طرد التنظيم من المدينة قد ينسحب على سوريا، عدا عن عبور مقاتليه إلى الأراضي السورية.
لكنه، رغم ذلك، لم يرجّح الباحث ساشا العلو فرضيتي التقسيم والفدرلة في المستقبل، ففعليًا الخيارات في سوريا هي رهينة توافقات دولية وإقليمية، وليس للأطراف أي مصلحة بالتقسيم، رغم أنه مشروع إسرائيلي لطالما دفعت باتجاهه، إلا أنه في الحالة السورية قد ينعسك عليهم سلبًا، لا سيما أن الأمريكيين حذّروا تل أبيب من أن فدرلة أو تقسيم المنطقة، وسحب هذا المشروع على العراق وسوريا والأردن ولبنان، قد ينتقل إلى إسرائيل ويدعم خيار الدولتين، وهو ما لا تريده تل أبيب.
الإيرانيون ليس من صالحهم هذان المشروعان أيضًا، بحسب الباحث، فطهران تريد سوريا كاملة، ومنافذ سليمة على  البحر الأبيض المتوسط، وهو قاسم مشترك مع تركيا، إذ تسعى الأخيرة إلى إيقاف الطموحات الكردية، ومن الممكن أن يؤدي التقسيم إلى هوامش تولد فيها كيانات قومية تكون أنقرة الخاسر الأكبر فيها، وبالتالي فإن من يناهض مشروع التقسيم الإسرائيلي فعليًا هم الإيرانيون والأتراك.
كما سيضعف خيار الفدرلة حكومة النظام (الحكومة المركزية)، ويجعلها في موقف صعب، كما ترجح التحليلات أن الأسد قد ينكفئ إلى الساحل ويكتفي بدويلة علوية فيما لو تم التقسيم، لكن الخيارين يرفضهما بشكل قطعي، لأنهما يفقدانه المبرر لوجوده كرئيس، ويحرجانه أمام طائفته ومؤيديه.
وقال الباحث علو إن "الجغرافيا السورية، بقدر ما هي لعنة على سوريا، بقدر ما هي حامية وضامنة لها، وهذه الانزياحات التي نراها كونها مجاورة لإسرائيل وتركيا، وعقدة توازن وسياسة"، وأوضح أن دور سوريا في عهد حافظ الأسد تمارسه تركيا الآن، بعدما أصبحت عقدة توازنات في المنطقة، وتقاطع مصالح مع الفاعلين الدوليين.

حدود هشة تفتح باب الاحتمالات
وبخصوص الحدود السورية، أشار العلو إلى أن لا أحد يضمن ضبطها اليوم، لكن من الممكن تثبيت نقاط تمركز، كالحالة الإسرائيلية، إذ تسعى إسرائيل خلال السنوات الخمس الماضية لانتهاز الفرصة وانتزاع قرار دولي لتثبيت الحدود، وتضم الجولان بشكل قانوني، فالحدود مرسومة قبل عام 1967 وهي تحاول إعادة رسمها من جديد.
أما الأتراك، وفق الباحث، فالجميع يعلم أن تدخلهم جاء لحماية الأمن القومي التركي، وقال إن "الأتراك بطبيعة تفكيرهم، وطبيعة الحزب الحاكم القائم على تركيا، لديه ميول تجاري جدًا، وتوجههم للمناطق هو توجه استثمارات، فعلى سبيل المثال تمنع أي منظمة سورية من الدخول إلى جرابلس، فجميع المنظمات العاملة هناك تركية حصرًا".
واستبعد العلو أن يكون دخول تركيا من الشمال بهدف السيطرة على أراضٍ جديدة، بقدر ما هي تحالفات جاءت لملء فراغ الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ودخول روسيا وإيران بدلًا عنها "دور تركيا هنا اللعب على المحورين، إذ تتطور العلاقات الروسية التركية بشكل ملحوظ، بينما تبدو العلاقات التركية الإيرانية غير صفرية، فمن الممكن الاختلاف في الموصل والتنسيق في سوريا".
لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحدود السورية باتت رخوة، منذ كسرها عام 2014 من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو ما أدى إلى استحالة عزل سوريا عن باقي المتغيرات في المنطقة، فعلى سبيل المثال يعاني المسلمون السنة في سوريا من حالة اضطهاد عالية، يشاركهم بذلك سنّة العراق، وقال "لو أعطيت الفدرلة لسنة سوريا في حالة حدود جغرافية معينة، من الممكن أن يلتحموا على المدى البعيد مع العراقيين، وهو مشروع نادى فيه شخصيات مرموقة من كلا البلدين".
وشدد العلو على أن النظام السياسي المقبل في سوريا، هو من يحدد الهوية السيادية والحدود الإدارية، وتابع "نحن أمام خيارات متعددة، منها إمكانية الذهاب إلى نظام "كوتا"، وهو قائم على محاصصة طائفية مثل لبنان والعراق، ويكمن الخطر على الحدود في هذا النظام، في التجارب الناجزة سياسيًا في الدول المجاورة، فدروز سوريا سيكون قرارهم عند دروز لبنان، كذلك فإن قرار أكراد الإدارة الذاتية سيخرج من أربيل أو قنديل، حسب الاستقطاب السياسي، ليس لأنهم تابعون، وإنما لوجود تجارب جاهزة".
ومما يضعف الحدود ويمزقها، قانون "مكافحة الإرهاب"، وطالما بقيت المنظمات المصنفة "إرهابية" في سوريا، فستكون مظلة لعبور الحدود لكل الجهات، وكسرها في أي لحظة، وبالتالي فإن "الإرهاب" يعطي شرعية سياسية لأي جهة تريد التدخل في سوريا، تحت ذريعة مكافحته، بحسب الباحث.

المنطقة العازلة وسلبياتها
وفيما يخص المنطقة العازلة (الآمنة) والدور التركي الكبير في إنجازها، رجّح العلو أن قرار إنشائها بات واقعًا، حتى لو لم يصدر بشكل رسمي، مشيرًا، وفق معلومات حصل عليها، إلى أن منظمة "الفاو" التابعة للأمم المتحدة بدأت تجتمع مع منظمات بهدف زراعة مساحات واسعة في المنطقة التي باتت تحت سيطرة فصائل "درع الفرات" شمال سوريا، وقال "باعتبار أن الفاو دخلت هذه المنطقة، فإن قرار المنطقة العازلة أنجز".
وأشار الباحث إلى أن سكان المنطقة الشمالية خليط من عرب وأكراد وتركمان، وتجميعهم في المنطقة العازلة واقتطاعها لصالح تركيا مستقبلًا هو احتمال ضئيل، كونها خليطًا غير متجانس، وأضاف "لا أستطيع أن أخمن إن اقتطعتها تركيا أو لا، بقدر ما أؤكد أن هذه المنطقة لها مضار، فستؤدي إلى انكفاء الدور التركي في سوريا، باعتبارها أنجزت وأمنت بجدار بشري ثم عسكري ثم الحدود، كما من الوارد أن تشرعن استهداف باقي المناطق بالنسبة للنظام، فأي منطقة خارجها هي ليست آمنة بالمفهوم المحلي".
ولفت العلو إلى أن عقلية الأتراك تجارية بحتة، فهم لا يطمحون بأكثر من استثمار نفوذ وليس سيطرة على الأرض "من الممكن أن يغرقوا حلب بمنتجاتهم في المستقبل، كما من الممكن أن يحافظوا على بعض آبار النفط تحت سيطرة التركمان، ما يضمن نفوذهم السياسي في سوريا مستقبلًا، كما أنهم لا يملكون مشروعًا أيديولوجيًا متبلورًا في المنطقة كالإيرانيين، الذين يدعمون النظام ويريدون السيطرة على الأرض.. الأتراك لا يتجاوز مشروعهم الاقتصاد، فهو محرك النهضة لديهم”.

لا ريب أن مستقبل سوريا بات غامضًا، يصعب التكهن فيه، حول الحكم الجديد لها وشكل البلاد بعد الحرب، إلا أن المعطيات الحالية المعقدة، والتداخلات الإقليمية غير المسبوقة فيها، تنذر بتصدع الوحدة السورية مرة أخرى، وربما نشهد اتفاقيات كتلك التي حدثت مطلع القرن العشرين، تفتتها إلى دويلات أو أقاليم يحددها الدين أوالقومية، في ظل انعدام الحالة الوطنية الجامعة.

اقرأ المزيد
٥ نوفمبر ٢٠١٦
مدخل إلى النظام السياسي في إيران


لا يمكن فهم النظام السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية من غير الرجوع إلى السياقات العامة التي اندلعت من خلالها الثورة الإيرانية في العام 1979، والتي بدورها أسست لنظام سياسي متميز في شكله ومضمونه عن غيره. وبالعودة إلى الوراء قليلا، من المهم التأكيد على أن الثورة الإسلامية في إيران التي وقعت في نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين قد اتخذت لها مساراً مغايراً عن النموذج الثوري الذي كان سائداً في العالم الثالث آنذاك والذي تمثل بالثورة على الأنظمة الرأسمالية الموالية للغرب وإحلال أنظمة حكم شمولية اشتراكية. لم تكن الثورة الإسلامية بتدبير من المعسكر الشرقي الاشتراكي ضد المعسكر الغربي الرأسمالي، بل كانت ثورة نابعة من عمق المجتمع الإيراني؛ والديني منه على وجه الخصوص، ومتجهة بمشروع معد مسبقاً إلى إحلال نظام إسلامي، يقوم على نظرية الولي الفقيه التي تعتبر التمظهر الأكثر تطوراً في بنية العقل السياسي الشيعي.

لم يكن  الخميني – وهو الأب الروحي لنظرية الولي الفقيه – يقصد من ثورته الاكتفاء بالاطاحة بنظام ملكي موالي للغرب فقط، بل كان يهدف إلى تأسيس دولة، ونظام سياسي يقوم على نظرية سياسية ثيوقراطية، والتي شهدت مسارات من التطور عبر التاريخ حتى وصلت إلى شكلها الناضج والعملي على يديه. فقد تم الدمج ولأول مرة في تاريخ المذهب الشيعي بين المنصب السياسي والمقام الديني في منصب واحد، وبيد رجل واحد. ومن هنا يمكن الاطمئنان إلى الافتراض الذي يقول: بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحديثة هي امتداد للدولة الصفوية مع اختلاف بسيط هو أن الفقيه كان يقوم بدور مانح الشرعية للحاكم في الدولة الصفوية بينما أصبح هو الحاكم ذاته في الجمهورية الإسلامية.


ومن هناك لم يكن مفهوم الدولة وفق نظرية الولي الفقيه مقتصراً على الإدارة الوظيفية لمؤسسات الدولة الشرعية بل تعداه إلى فرض حالة من الوصاية الوجدانية على الشعب، والتحكم في تصوراته ومنطلقاته الدينية والشخصية، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يتم النص في دستور الجمهورية الإسلامية على أن يكون الرئيس الإيراني منتمياً لمذهب الدولة الرسمي وليس دينها الرسمي، فالرئيس يجب أن يكون شيعياً اثنى عشرياً وليس مسلماً فقط. وفي ذات السياق، فالوالي الفقيه الذي تعود إليه كل السلطات يعتبر الحاكم السياسي والمرشد الديني في الوقت ذاته، فهو نائب الإمام المعصوم الغائب وفق العقيدة الاثنى عشرية، والنيابة رغم أنها نيابة وظيفة لا نيابة مقام إلا أنه تمنح الولي الفقيه سلطة الإمام في كافة المجالات، ولذلك يكتسب موقعه نوعاً من القداسة تجعل من أحكامه ذات صفة ألوهية.

ومع ذلك لم يكتف الولي الفقيه بقداسة موقعه لاحكام قبضته على مقاليد الحكم؛ ففي نهاية المطاف فإن الدول لا تحكم فقط بكلمة الله بل بأنظمة ومؤسسات قادرة على ضبط النظام وتسير عجلة الاقتصاد والتنمية، ومن هنا كان تميز النظام الإيراني الإسلامي في إنشاء وتكوين المؤسسات والأجهزة الشرعية الكثيرة والمتداخلة فيما بينها والتي من شأنها أن تعمل على تركيز السلطة في يد طبقة واحدة هي طبقة الفقهاء، وتحصن موقع الولي الفقيه، وتضمن استمرار واستقرار نظام الحكم والثورة. فعلى سبيل المثال تم إنشاء الحرس الثوري كقوة عسكرية موازية بل ومتفوقه على القوات العسكرية النظامية؛ وإنشاء مجلس صيانة الدستور ليكون وصياً على مجلس الشورى (البرلمان)، ثم إنشاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ليبت في الخلافات التي قد تقع بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور.


مجلس خبراء القيادة في إيران - عام 2014
أما من حيث موقع إيران على خريطة النظام الدولي، فقد حاول الخميني أن يرسم لإيران خطاً مغايراً بعيداً عن التنافس بين المعكسرين الشرقي – السوفيتي، والغربي – الأمريكي، حيث كان شعار الثورة الإيرانية منذ البداية :"لا شرقية ولا غربية بل حكومة إسلامية"؛ وفي حين جعل من الولايات المتحدة العدو الأول لإيران والثورة، ونعتها بالشيطان الأكبر، حاول أن يحافظ على مسافة أمان من الاتحاد السوفيتي دون العمل على استفزازه، فقد كان للمعسكر الشرقي أهمية خاصة لإيران، فبعيد المقاطعة الغربية للنظام الثوري الإسلامي، وجدت إيران في الأسواق الاشتراكية متنفساً اقتصادياً لها. إن الحياد، وعدم الدوران في فلك أي من العسكرين الشرقي والغربي، كان من أهم ركائز السياسة الخارجية للإمام الخميني.

آمنت إيران الثورة بأن النظام الدولي القائم على القطبين لا بدَّ وأنه قد وصل لنهايته، فمع ظهور الجمهورية الإسلامية كان هناك قطب ثالث قائم على النموذج الإسلامي (الشيعي) قد أخذ في الظهور والتمدد. ومن هنا تبنت إيران مبدأ تصدير الثورة كواحد من الركائز الرئيسية الأخرى في سياستها الخارجية، فقد جادل الإيرانيون بأن الأنظمة القائمة على مبدأ الثورة الإسلامية قادرة على تشكيل نموذج موازي للنموذجين السائدين آنذاك في النظام الدولي، بالاضافة إلى أن الدول التي سوف تتبنى هذا النموذج من شأنها أن تتعايش بسلام. فمن حيث المبدأ فكما أن الدول الديمقراطية لا تتحارب فيما بينها، رأى الإيرانيون أن الدول الثورية أيضا لا تتحارب فيما بينها.

في النهاية علينا التأكيد بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر دولة وثورة في آمن واحد، وهي وإن لم تتخل عن الثورة فإنها لم تهمل بناء الدولة. كما أنها كيان له مشروع يسعى لتحقيقه. وبالرغم من تداخل المنطلقات الدينية والسياسية في تحديد سلوكها السياسي سواء مع الفاعلين الخارجيين أم الداخليين، فإن إيران لا شك تبقى دولة لا يمكن تجاهلها في أي ترتيبات إقليمية، وهي كغيرها من اللاعبين تسعى لتعزيز قوتها ونفوذها بما يضمن لها أمنها واستقرارها، فهي بذلك لا تشذ عن غيرها من الدول في النظام الدولي القائم، ولا بدَّ من التعامل معها ضمن هذه المحددات الواقعية للوصول ربما لتفاهمات أو صيغ يمكن أن تعيد الاستقرار إلى المنطقة من جديد.

تتميز تركيبة منظومة صنع القرار الإيراني بثنائية المؤسسات والاستراتيجيات، حيث يقابل كل مؤسسة للدولة مؤسسة للثورة ولاؤها الأول والأخير للولي الفقيه.

أولاً: المؤسسات السياسية

فيما يلي تفصيل صلاحيات ومسؤوليات أهم المناصب في النظام السياسي الإيراني وفق حجم السلطات.

1- المرشد الأعلى (غير منتخب)

الولي الفقيه أو المرشد الأعلى منصب أحدثه الخميني بعد انتصار الثورة الإيرانية، ويعدّ المنصب السياسي الديني الأعلى في البلاد حيث يقوم من يشغره بنيابة "الإمام المهدي" حتى خروجه في آخر الزمان. مهامه الدينية هي الإفتاء والبتّ في الأحكام، أمّا سياسياً فلديه كافة الصلاحيات الدستورية التي تخوّله تخطي وتعطيل كافة المناصب والقرارات الرسمية عدا قرار عزله الصادر عن مجلس الخبراء.

يتمّ انتخاب المرشد الأعلى من مجلس الخبراء، وتمتد ولايته مدى الحياة نظرياً وفقاً للمادة (111) من الدستور. ويحقّ للمجلس عزله إذا ثبت عجزه عن أداء وظائفه القانونية، أو فقده لأحد مكونات أهليته المنصوص عليها في الدستور.

يحدّد الدستور مسؤوليات وصلاحيات المرشد الأعلى كالتالي:

تنصيب وعزل وقبول استقالة كل من:
فقهاء مجلس صيانة الدستور.
رئيس السلطة القضائية.
رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية.
رئيس أركان القيادة المشتركة.
القائد العام لقوات حرس الثورة الإيرانية.
القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
تنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث.
المصادقة على تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب.
تحديد السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجتمع تشخيص مصلحة النظام.
الإشراف على تنفيذ السياسات العامة.
تعيين ستة أعضاء ستة من مجلس خبراء القيادة المكون من اثني عشر شخصاً.
إصدار الأمر بالاستفتاء العام.
قيادة القوات المسلحة.
إعلان الحرب والسلام والنفير العام.
عزل رئيس الجمهورية.
العفو العام وإلغاء عقوبات الإعدام.
2- الرئاسة (منتخب)

يعتبر رئيس الجمهورية أعلى مسؤول رسمي في البلاد بعد مقام المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. وهو صاحب المسؤولية عن تنفيذ الدستور ورئاسة السلطة التنفيذية، إلا فيما يتعلق بمسؤوليات المرشد الأعلى. ويُنتخب رئيس الجمهورية لفترة مدتها أربع سنوات بوسيلة التصويت المباشر من الشعب، وليس لديه الحق في تولّي منصبه أكثر من مرتين.

صلاحيات رئيس الجمهورية:

رئاسة السلطة التنفيذية، وهذا يعني أنه يقوم مقام منصب رئيس الوزراء وحصر صلاحيات السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية فقط.
تعيين وعزل الوزراء، بشرط موافقة مجلس الشورى.
الإشراف على هيئة التخطيط والميزانية.
قيادة مجلس الأمن القومي.
تنص المادة 115 من الدستور على ضرورة توافر الشروط التالية في منصب الرئيس:

إيراني الجنسية
ذو إدارة وحنكة وافية
حسن السلوك والأمانة
مؤمن بالمبادئ الأساسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية
يعتنق المذهب الرسمي للبلاد
3- السلطة القضائية (غير منتخب)

لا تخرج السلطة القضائية عن السياق العام لآلية الحكم في إيران وتبعيتها المباشرة للولي الفقيه، ومهمة السلطة القضائية بحسب الدستور إحقاق العدالة، ويرأسها شخص مجتهد وعادل ومطلع على الأمور القضائية يعينه المرشد الأعلى لمدة خمس سنوات. وتطبّق السلطة القضائية الأحكام الشرعية وفق المذهب الشيعي الجعفري، وتمّ ذلك في سنة 1984 بعد إلغاء كافة القوانين الوضعية السابقة انسجاماً مع المرسوم الذي أصدره الخميني عام 1982.

صلاحيات رئيس السلطة القضائية:

تنصيب وعزل القضاة،
نقل وتحديد وظائف وترفيع القضاة،
تشكيل المحكمة العليا للبلاد
الإشراف على صحة تنفيذ القوانين في المحاكم وتوحيد المسيرة القضائية وأدائها لمسؤولياتها القضائية.
4- السلطة التشريعية (منتخب)
ا. مجلس الشورى:(البرلمان)
وينص الدستور على المهام التالية للبرلمان:

إعداد التشريعات،
إعلان الحرب،
منح الحقوق الخاصة بإقامة قواعد عسكرية،
المصادقة على المعاهدات الدولية،
الموافقة على إعلان حالة الطوارئ في البلاد،
الموافقة على القروض ودراسة الموازنة السنوية وإجازتها،
عزل رئيس الجمهورية ووزرائه المعينين من قبله.
تتجدد ولاية البرلمان كل أربعة أعوام، ويضم 290 عضواً منتخبين عن طريق الاقتراع الحر المباشر، ويجب أن تتوفر شروط التالية في المرشح:

إيراني الجنسية
ألا يقل عمره عن 25 عاماً، وألا يزيد عن 85 عاماً
الحصول على أغلبية مطلقة
الحصول على موافقة مجلس صيانة الدستور
 ب. مجلس خبراء القيادة:

مجلس خبراء القيادة الإيرانية هو أحد الأفرع التشريعية في البلاد من صلاحيته صيانة الدستور وتعيين المرشد الأعلى الثورة الإسلامية في إيران، ويتألف حالياً من 86 عضواً يتمّ انتخابهم عن طريق اقتراع شعبي مباشر لدورة واحدة مدتها ثماني سنوات. عين أول مجلس خبراء عام 1979 من 70 عضواً بأمر من الخميني لمراجعة مسودات الدستور تجهيزاً لطرحه لاستفتاء شعبي. ارتفع عدد أعضائه إلى 83 عضواً عام 1982 ليعكس عدد السكّان حيث يحق لكل محافظة انتخاب عضو إضافي لكل 500 ألف نسمة فيما لو زاد عدد سكّانها عن المليون، ورفع مؤخراً إلى 86 عضواً ليس فيهم امرأة واحدة، وغالبية هؤلاء الأعضاء من رجال الدين.

يتمّ انتخاب أعضاء مجلس الخبراء بواسطة اقتراع شعبي عام ويجتمع أعضاؤه في دورة عادية مرة واحدة كل سنة. وتبلغ مدة مجلس الخبراء ثماني سنوات. وأعضاؤه غير ممنوعين من تولّي المناصب الحكومية المختلفة.

 
آية الله أحمد جنتي الرئيس الحالي لمجلس صيانة الدستور
أحد أفرع السلطة التشريعية وأقواها لما يتمتع به من حق نقض القوانين الصادرة عن البرلمان إذا تنافت مع مبادئ الشريعة الإسلامية، أو مبادئ الثورة الإيرانية وفق المادة 98 من الدستور. يعين المرشد الأعلى نصف أعضائه المكونين من 12 فرداً فيما يعين رئيس السلطة القضائية نصفها الآخر، علماً أنه رئيس السلطة القضائية يرشحه رئيس الجمهورية ويصادق على تعيينه المرشد الأعلى.

5- مجمع تشخيص مصلحة النظام (غير منتخب)

هيئة استشارية يتم تعيين أعضائها الـ 39 من قبل المرشد الأعلى ويسند إليها مهمتين رئيسيتين وفق المادة 112 من الدستور الإيراني وهي حل الخلافات والأزمات الواقعة بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور، وتقديم النصح والمشورة للمرشد الأعلى.

6- مجلس الأمن القومي الإيراني (غير منتخب)

مهمته الدفاع عن الثورة الإسلامية ومصالح البلاد الاستراتيجية ويترأسه رئيس الجمهورية، ويضم كبار القيادات العسكرية والسياسية والقضائية. ويختص مجلس الأمن الوطني الأعلى بتعيين السياسات الدفاعية والأمنية للبلاد في إطار السياسات العامة التي يحددها المرشد الأعلى، فينا ينسق النشاطات السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ذات العلاقة بالأمن والدفاع وفق المادة 176 من الدستور.

عدد أعضائه 13 عضواً وهم رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الدفاع، رئيس الأركان، القائد العام لقوات الحرس الثوري، رئيس السلطة القضائية، رئيس مجلس صيانة الدستور، وزير الخارجية، وزير الاستخبارات، وزير الداخلية، وزير المال، ومستشارين يعينهما المرشد الأعلى. ورغم سيطرة المرشد الأعلى العملية على المجلس من خلال تبعية 6 أعضاء له، إلّا أنه يمتلك حق نقد قراراته بالإضافة إلى حق تعيين سكرتير المجلس.

7- المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية (غير منتخب)

شكل المجلس عام 2006 ومهامه تقديم المشورة ومراقبة أداء الحكومة الخارجي، والاستفادة من خبرة الدبلوماسيين القدامى.

ثانياً: المؤسسة العسكرية
كسائر المؤسسات الرسمية الإيرانية تتسم المؤسسة العسكرية بثنائية مؤسسات الدولة المتمثلة بالجيش الإيراني، ومؤسسات الثورة المتمثلة بالحرس الثوري.

1-الجيش الإيراني

يعتبر الجيش الإيراني أو Artesh "العسكرية التقليدية لإيران" وجزء من القوات المسلحة لجمهورية إيران الإسلامية. ومهمة الجيش حماية وحدة أراضي الدولة الإيرانية من التهديدات الخارجية والداخلية.

اعتبر الجيش الإيراني ما قبل اندلاع الثورة الإسلامية الطفل المدلّل للولايات المتحدة في المنطقة، حيث قامت الحكومات الأمريكية المتتالية بدعمه وتسليحه بأحدث التقنيات لمواجهة خطر تمدد الاتحاد السوفيتي في بحر قزوين وللحدّ من الطموحات القومية العربية في المشرق العربي. اعتمد الشاه على الجيش الإيراني في توطيد أركان وحكمه وفي قمع معارضيه، ولقد ارتكب الضباط الإيرانيين في هذا الصدد العديد من الجرائم بحق المدنيين مما أورث كرهاً بين شرائح واسعة من الشعب. شهد الجيش الإيراني أبان انتصار الثورة الإسلامية انشقاق 60٪ من عناصره، ولقد سعت حكومة الخميني لتعزيز قوتها على الصعيد الداخلي من خلال شن عملية تطهير الجيش من الضباط على صلة وثيقة مع أسرة بهلوي. وعلى الرغم من نجاح الثورة في تطهير الجيش وفي تطويعه بشكل كامل لخدمة النظام الجديد، لم يحظَ الجيش بدرجة الاهتمام بنظيره الثوري (الحرس الثوري)، وينعكس ذلك بشكل واضح في ميزانيته التي تبلغ ثلث ميزانية الحرس الثوري.

ينقسم الجيش الإيراني إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: القوات البرية، البحرية، والجوية، ويبلغ عدد المجندين فيه 420 ألف مجند.


2- الحرس الثوري

تأسست قوات الحرس الثوري عقب الثورة في 5 مايو/ أيار عام 1979 بهدف حماية الثورة ومكتسباتها. وتفصّل المادة 150 من الدستور مهام الحرس كالتالي: يحافظ حرس الثورة الإسلامية الإيرانية على منجزات ودور الثورة وفي نطاق واجبات هذه الهيئة، ومجالات مسؤوليتها يوازي الواجبات التي تقع على القوات المسلحة الأخرى التي يحددها القانون، مع التركيز على التعاون الأخوي والانسجام فيما بينها. وتكمن أهمية الحرس الثوري في بنائه العقائدي القائم على الطاعة العمياء للمرشد الأعلى، ويقوم الأخير بتعيين كوادره الإدارية والقيادية حسب معيار الولاء والوفاء له.

ساعدت قوات الحرس الثوري جبهة الخميني في صراعه ضد حلفائه الثوريين، كجماعة مجاهدي خلق، كما عملت كثقل مضاد للمؤسسة العسكرية النظامية الموالية للشاه. وبعد زوال الأسباب الداعية لإنشاء الحرس شكّل الخميني لجنة بهدف دمج الحرس بمؤسسات الجيش، ولكن لم يتسنّ متابعة أعمال اللجنة إلى وفاة الخميني. وقام علي خامنئي إثر تعيينه بمنصب المرشد الأعلى للثورة بحلّ اللجنة للحفاظ على حليف ونصير قوي على الصعيد الداخلي. والجدير بالذكر أن رفسنجاني كان أكبر المساندين لعمل اللجنة التي كانت ستقضي إلى تحويل الحرس إلى جيش محترف، وإلغاء الثنائية الموجودة بينه وبين الجيش، وبالتالي ترسيخ دور مؤسسات الدولة على حساب مؤسسات الثورة.

يعتبر الحرس الثوري الإيراني الذراع الأقوى لصناعة وتنفيذ السياسة الخارجية الإيرانية، ولقد مكنه دوره في تصدير الثورة الإيرانية من تأكيد مكانته وأهميته في الأمن القومي الإيراني. وتحظى وزارة الخارجية باهتمام خاص لدى الحرس الثوري، لكونها أحد أهم مراكز صنع قرار السياسة الخارجية. وقد كان لبعض مسؤولي الخارجية الإيرانية من المحسوبين على الحرس الثوري بصمات واضحة فيما آلت إليه علاقات إيران الخارجية.

يقارب عدد قوات الحرس الثوري الإيراني حوالي 125 ألف مجند و90 ألف متطوع و300 ألف احتياطي، وينفذون مهماتهم في أسلحة البر والجو، ويمتلكون أسلحة نوعية وحديثة، ويتكون من خمس فيالق أو وحدات رئيسية، يرأسها حالياً مجتمعةً اللواء محمد على جعفري، وهي:

أ. قوات التعبئة (الباسيج):
 
متطوعين في قوات الباسيح
أسست قوات الباسيج إثر انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1980 تلبية لنداء الخميني لإنشاء جيش الـ 20 مليون رجل. تتميز الباسيج بكونها الجهاز الأساس لاستقطاب الشباب وتجنيدهم في خدمة المرشد الأعلى ومؤسسات الثورة، ويحظى المنتسبين إليها بامتيازات خاصة على مستوى مؤسسات الدولة. تضم الباسيج 90 ألف متطوع، و300 ألف مجند احتياطي، وتنشط في تجنيد أعداد أكبر أبان الحرب ليصل عدد المتطوعين فيها للملايين، ويقودها حالياً اللواء محمد رضا نقدي (عراقي المولد).

تساهم الباسيج في ضبط الأمن الداخلي من خلال تسيير دوريات في المدن بالإضافة إلى قيامها بمهام شرطة الآداب، ولقد تمّ استدعاها النظام في عدّة مناسبات لقمع المعارضة، كان أحدثها أثناء أحداث 2009، إثر انتصار أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية.

لا يقتصر نشاط الباسيج على الصعيد الداخلي، بل لها نشاطات خارج البلاد خصوصاً في تجنيد الأجانب المليشياوية، فلقد تدخلت على سبيل المثال لا الحصر في تشكيل قوات محلية في العراق بدعوى حماية المراقد، وكذلك في سورية حيث أرسل عشرات آلاف الشيعة الأفغان الهزارة للدفاع عن نظام الأسد.

ب. فيلق القدس:

تعتبر قوات فيلق القدس بمثابة القوات الخاصة للحرس الثوري، وهي الجهة الرئيسية المسؤولة عن العمليات العسكرية خارج حدود البلاد. تولى اللواء قاسم سليماني قيادة الفيلق في العام 2011 وينوبه حسين همداني، وعدد المنجدين فيه 5000 وفق مصادرٍ إعلامية.

أُنشِئ فيلق القدس في حرب الخليج الأولى لمواجهة العراق، ونشط لاحقاً في تدريب وتسليح المليشيات المناوئة لأعداء النظام الإيراني إقليمياً ودولياً، وقد دعم الفيلق عبد العلي مزاري رئيس حزب الوحدة الشيعي ضد حكومة محمد نجيب الله في أفغانستان، والتحالف الشمالي بقيادة أحمد شاه مسعود ضد حركة طالبان، وطالبان والقاعدة لاحقاً ضد الغزو الأمريكي، كما لها علاقات شبه رسمية مع كل من حزب الله اللبناني، وحماس والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ينقسم الفيلق إلى عدّة وحدات جميعها ينشط خارج إيران، أشهرها الوحدة 400، وهي وحدة العمليات الخاصة يقودها حامد عبد الإله، والوحدة 190 اللوجستية المسؤولية عن تسليح أذرع الحرس الثوري في العالم ويقودها بهنام شهرياري.

ثالثاً: الأحزاب السياسية الإيرانية
لا تجيز النسخة الأولى للدستور الإيراني إنشاء الأحزاب السياسية في البلاد، فيما سمحت المادة 26 بتشكيل منظمات وجمعيات واتحادات مهنية بموجب "الحرية النقابية" شريطة ألا تنتهك مبادئ الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية ومبادئ الإسلام والجمهورية الإسلامية. ولقد شرّع لاحقاً قانون الأحزاب في سبتمبر 1981 للسماح بتشكيل الأحزاب ولتنظيم الحياة السياسية، ويشترط القانون الحصول على تصريح من وزارة الداخلية ليبدأ الحزب بممارسة نشاطاته.

فيما يلي قائمة قصيرة من الكيانات والمجموعات الرئيسية التي تعتبر أحزاباً سياسية:

1- المحافظون:
الأحزاب: الجمعية الإسلامية للمهندسين، حزب الائتلاف الإسلامي، جمعية رجال الدين، أنصار حزب الله، حزب المفكرين العصريين الإسلامي الإيراني، جمعية أنصار الثورة الإسلامية

التحالفات الانتخابية: ائتلاف بناة إيران الإسلامية، ائتلاف المتطوعين المستقلين الإيرانيين.

الجمعية الإسلامية للمهندسين
حزب الائتلاف الإسلامي
جمعية رجال الدين
ائتلاف بناة إيران الإسلامية
 
الجمعية الإسلامية للمهندسين منظمة سياسية أصولية إيرانية، قريبة من حزب الائتلاف الإسلامي، وغالباً ما تتبع قرارته. شكّلت الجمعية في نهاية حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق بهدف رفع سوية الشعب الإيراني على الصعيد المعرفي والسياسي والعلمي والتقني، وللدفاع عن حقوقه الأساسية في الحريات مثل حرية التعبير والتجمعات، وتنشط في محاربة التأثير الغربي على المجتمع الإيراني.

معلومات عامة:

الأمين العام: محمد رضا باهنر
التأسيس: 1988
الترخيص: 28 أيار/ مايو 1991
المقر: طهران، إيران
وسائل الإعلام المملوكة: صحيفة جام الأسبوعية
التصنيف الأيديولوجي: محافظ
التحالفات الوطنية: جبهة أتباع خط الإمام والقائد
التحالفات الانتخابية: تحالف بناة إيران الإسلامي (2004)، الجبهة الأصولية المتحدة (2008، 2012)، الائتلاف الأصولي الأكبر (2016)
الموقع الالكتروني: mohandesin.ir
أبرز الأعضاء:

محمود أحمدي نجاد، الرئيس السادس لإيران، انقلب على الحزب بعد الفوز بالرئاسة.
محمد رضا باهنر، الأمين العام الحالي ونائب الرئيس السابق للبرلمان الإيراني
منوشهر متكي وزير خارجية سابق
محمد ناظمي أردكاني وزير سابق
2- الإصلاحيون:

الأحزاب: درب الأمل الأخضر، حزب جبهة المشاركة الإسلامي، مجمع علماء الدين المجاهدين، جمعية نساء الجمهورية الإسلامية، حزب الثقة الوطني، الحزب الديموقراطي، منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية، مكتب تعزيز الوحدة، حزب العمّال الإسلامي، شبكة تكافل العمّال الإيرانيون، الجبهة الوطنية.

التحالفات الانتخابية: الائتلاف الشعبي للإصلاح، مجلس تنسيق جبهة الإصلاح.

جبهة المشاركة الإسلامي
مجمع علماء الدين المجاهدين
درب الأمل الأخضر
 
أول الأحزاب الإيرانية المشكلة بعد انتخاب الرئيس الإيراني محمد خاتمي، ويضم العناصر الأساسية للمجموعة الطلابية المسماة بـ " دانشجویان پیرو خط امام" (الجامعيين التابعين لخط الامام) وهي الكتلة التي اقتحمت السفارة الأمريكية في بعد انتصار الثورة الإسلامية. يعتبر الحزب الأكثر تحرراً في إطار الحكومة الإسلامية والفكر الإسلامي في إيران، وسياساته وآراءه التنظيمية والعقائدية مشتقة من اراء الدكتور علي شريعتي.

الأمين العام: محسن ميردامادي
المتحدث الرسمي: حسين كاشفي
التأسيس: 5 ديسمبر 1998
تاريخ الحظر: 2009
المقر: طهران، إيران
وسائل الإعلام: صحيفة مشاركت (الرسمية)
التصنيف الأيديولوجية: ديمقراطي، ليبرالي
الشعار: إيران لجميع الإيرانيين
أبرز الأعضاء:

محمد رضا خاتمي، أخو الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي
سعید حجاریان، صحفي وناشط سياسي
الهه کولایی، أستاذة علوم سياسية في جامعة طهران
 3- البراغماتيون:

حزب تنفيذيون لبناء إيران
حزب الاعتدال والتنمية
حزب الاعتدال والتنمية
 
حزب سياسي براغماتي وسطي عقد مؤتمره الأول في عام 2002. جزء من الائتلاف الشعبي للإصلاح. للحزب علاقات جيدة مع محمد خاتمي وأكبر هاشمي رفسنجاني.

الرئاسة: حسن روحاني
الأمين العام: محمدباقر نوبخت حقیقی
التأسيس: عام 1999
المقر: طهران، إيران
التصنيف الأيديولوجي: وسطي، براغماتي
أبرز الأعضاء:

حسن روحاني، رئيس إيران الحالي
محمدباقر نوبخت حقیقی، سياسي واقتصادي إيراني
فاطمة هاشمي رفسنجاني، ابنة الرئيس رافسنجاني
4 - الأحزاب والحركات المحظورة:

تنظيم العمال الثوري الإيراني
حزب توده
حزب العمال
الحركة الخضراء
حركة الخضر من أجل حرية إيران
الجبهة الوطنية الإيرانية
حركة مجاهدي خلق
الرابطة الآرية
الحزب الشيوعي
الحزب الدستوري
حزب الأمة الإيرانية
حزب الحركة الفارسية
منظمة مجاهدي خلق إيران
 
أكبر وأنشط حركة معارضة إيرانية. تأسست المنظمة عام 1965 على أيدي مثقفين إيرانيين أكاديميين بهدف إسقاط نظام الشاه. ظهرت خلافات بينها وبين نظام الحكم الإيراني الجديد بعد سقوط نظام الشاه، وصلت بعد عامين ونصف العام إلى حد الاقتتال بين الجانبين في صراع محتدم يستمر حتى الآن. قامت الحكومة الإيرانية بإعدام عشرات الآلاف من أعضائها والمنتمين إليها ولكن لا تزال المنظمة مستمرة في نشاطاتها داخل إيران وخارجها حتى إسقاط السلطة الإيرانية الحالية عل حد تعبيرها.

تعدّ حركة مجاهدي خلق الإيرانية جزءاً من ائتلاف واسع شامل يسمى بـ «المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية» الذي يعمل كبرلمان إيراني في المنفى، والذي يضم 5 منظمات وأحزاب و550 عضواً بارزاً وشهيرًا من الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية والخبراء والفنانين والمثقفين والعلماء والضباط إضافة إلى قادة ما يسمى بـ «جيش التحرير الوطني الإيراني» الذراع المسلح لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية.

رئيس الحركة: مريم رجوي ومسعود رجوي
الأمين العام: زهرة أخياني
التأسيس: سبتمبر 1965
المقر: باريس، فرنسا، معسكر الحرية في العراق (2012-2016)، معسكر في العراق (1986-2013)
وسائل الإعلام: صحيفة مجاهد
الجناح العسكري: جيش التحرير الوطني
التصنيف الأيديولوجي: ماركسي قومي
الشعار: فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٦
حرب الهوامش الحلبية

هجرة مركبة، مناطقية وطبقية وإثنية، رسمت شكل مدينة حلب المعاصرة. وعدا عن التقسيم الواضح بين حَلَبين؛ شرقية وغربية، يبدو أن أكثر من حلب أخرى نمت خلال الأعوام الستين الماضية على تخوم الانتماءات الأهلية المتنوعة للوافدين الجدد إلى أطراف المدينة الكبرى.

شرقية وغربية

حلب الشرقية، التي تسيطر عليها المعارضة حالياً، لم تكن سوى حزام فقر، بدأ مع "دولة الوحدة"، وتسارع نموه منذ انقلاب حزب "البعث العربي الاشتراكي" مطلع الستينيات من القرن الماضي. فمراسيم الإصلاح الزراعي التي توجهت لإضعاف الأرستقراطية الإقطاعية، وهي الطبقة السياسية الحاكمة السابقة على "البعث"، تسببت في تضاؤل الحيازات الشخصية وانخفاض مردود الزراعة، وشكّلت مدخلاً لبداية تهميش الريف وقواه السياسية، لمصلحة تحالف النظام والبرجوازية المدينية.
وفي حين وجدت الأقليات الريفية/الطائفية، مدخلاً أوسع إلى "الدولة" عبر الشبكات الزبائنية والقرابية، بقيت الأكثرية السنية الريفية الأكثر تضرراً وتهميشاً، وسط معدلات نموها السكانية العالية جداً. الأمر الذي دفع بها إلى أحزمة الفقر والعشوائيات، والتوسعات السرطانية على أطراف المدن الكبرى. وبحسب تقريرٍ سابق لـ"الأمم المتحدة"، في أواخر الثمانينيات، فالريف الحلبي الجنوبي هو من أشد المناطق فقراً في العالم، وقامت المنظمة الدولية بتمويل مشروع "جلّ الحص" الإنمائي للمساعدة فيه.
وحلب منذ ما قبل دخولها الثورة، كانت تعيش انقسامها الخاص؛ الشرقية للطبقات الفقيرة، والغربية للشرائح الوسطى والطبقات العليا. الشرقية، للوافدين من الأرياف القريبة، على تلاوينهم الثقافية والإثنية، ومن "المُفقرين الجدد" الهابطين إلى حدود الفقر من غير القادرين على تحمل تكاليف البقاء في الغربية. والغربية، للشرائح العليا من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصناعية والتجارية الحلبية، وللصاعدين طبقياً من الشرقية والأرياف.

مع الثورة، ودخول العمل المسلح إلى حلب، صار الفرز واضحاً؛ حلب الأغنياء تحت سيطرة النظام، وحلب الفقراء مع المعارضة. لكن، هل هذه صورة كاملة؟

حَلَبان: معارضة وموالية

منذ منتصف العام 2012 دخلت المعارضة مدينة حلب، ومع الوقت سيطرت على 80 حيّاً فيها يقطن فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون شخص، وتشمل معظم أحياء حلب الشرقية، ونسبة 65 في المئة من كامل المدينة. ففصائل المعارضة المنتمية والمتشكلة في أرياف حلب، امتدت إلى حيث الحواضن الاجتماعية لها، بالمعنى المناطقي، في حلب الشرقية.

والشرقية في معظمها، هي مناطق توسع وعشوائيات، نَمَت على الطرف الشرقي للمدينة القديمة، وتوسعت شمالاً وجنوباً، خلال أكثر من نصف عقدٍ مضى. وغالبية سكان الشرقية، ما عدا حلب القديمة، هم من أبناء الريف. ومعظم أحياء الشرقية تُعتبر مناطق فقيرة بالمقارنة مع الغربية، حتى أن بعض المواقع في مساكن هنانو والأرض الحمرا افتقرت إلى الشوراع الإسفلتية. هذا عدا عن غياب الخدمات الرئيسة لمعظم أحياء الشرقية، وغياب حضور الدولة "الخدمي" لمصلحة التركيز على حلب الغربية، مدينة الأغنياء.
الصحافي عقيل حسين، أوضح أن الهجرة من الريف إلى المدينة، بدأت مع تأميمات "دولة الوحدة" في عهد جمال عبدالناصر، وفتح باب التعليم للفقراء، الأمر الذي ترافق مع بداية نهاية المهن والحرف التقليدية في الأرياف القريبة.
وتركزت هجرات أهل الريف في مناطق محددة ضمن أحياء الشرقية، رسمت خطوطاً متمايزة للمنشأ المناطقي لكل مجموعة. فسكن أبناء الريف الجنوبي في أحياء السكري والصالحين والشيخ سعيد والفردوس. في حين استقطبت كرم الميسر والشعار وطريق الباب والصاخور والمواصلات أبناء الريف الشرقي. واستقر أبناء الريف الشمالي في الحيدرية والهلك وبعيدين والشيخ فارس والشيخ خضر.
المنشأ المناطقي لهجرة الريف إلى المدينة، حمل معه أيضاً بصمات المهاجرين الإثنية؛ مع التركمان والأكراد والماردلية والعشائر العربية، بالإضافة طبعاً إلى مخيمين فلسطينيين؛ حندرات والنيرب.
الهجرة إلى الشرقية، شهدت عمليات تفارق وتمايز طبقي بدورها، وتمايزت أحياء عن الأخرى، وكلما اقتربت المنطقة من حلب القديمة ارتفع مستوى العيش فيها. كما أن هجرة داخلية أشد التباساً ظلت تحدث بين الشرقية الغربية؛ فالأغنياء الجدد الصاعدون في الشرقية سرعان ما وجدوا طريقهم إلى الغربية، في حين أن مَن يفقد منزلته الطبقية في الغربية يجد ملاذاً له في الشرقية.
وكانت حلب الغربية قد شهدت هجرة ريفية، منخفضة الحدّة، من أغنياء ووجهاء الريفين الغربي والشمالي. وحتى الثمانينيات كان شارع النيل وحي سيف الدولة في الغربية، مستقراً لموظفي الدولة، ممن يعتبرون من الشرائح الوسطى. بعد الثمانينيات أصبح تكيّف الموظفين مع تكاليف المنطقة أكثر صعوبة، بالتزامن مع تدني قيمة صرف العملة وسقف الدخل المحدود، الأمر الذي دفع موظفي القطاع العام الوافدين من الريف للبحث عن سكن لهم في الشرقية.
في حلب الغربية 300 ألف مسيحي وأرمني، بعضهم مهاجرٌ من الحسكة، يقطن موسروهم وأغنياؤهم السليمانية والعزيزية، في حين يسكن فقراؤهم الميدان وامتداده في بستان الباشا بالتشارك مع التركمان والأكراد. "بستان باشا" التركمان صارت في يد المعارضة، في حين بقيت أجزاؤه المسيحية والكردية في يد النظام.
الصحافي خالد الخطيب، قال إن كل شيء كان مختلفاً بين الشرقية والغربية، وعلى جميع الأصعدة، منذ ما قبل الثورة. وإذا خلت الشرقية من الطبقات العليا بفعل الفرز التاريخي المستمر، ففي الأجزاء التابعة للمعارضة من حلب القديمة، وبعد المعارك التي شهدتها بين العامين 2012 و2013، هاجر أثرياؤها إلى الغربية، ومَن بقي فيها هم من الشرائح الدنيا في الطبقات الوسطى والفقراء.
لكن، لماذا لم تنتشر العشوائيات على الأطراف الغربية لحلب الغربية؟ الجواب يبدو كامناً في تركز انتشار المناطق الصناعية والمعامل على أطراف الشرقية. وعلى الرغم من وجود حزام معامل شمالي حلب، من الليرمون إلى حريتان، إلا أن تلك المناطق لم تصبح سكنية كما هو الحال في جوار معامل الشرقية. وإذا كان إنجاز "المنطقة الصناعية" في الشيخ نجار قد تأخر حتى أواخر التسعينيات، إلا أن أطراف الشرقية كانت موطناً للكثير من المعامل والمحالج والمطاحن ومعامل الزيوت والنسيج، البعيدة نسبياً من مركز المدينة. وغالباً ما عمل سكان الشرقية في تلك المعامل، وقطنوا قربها، وقاموا بحراستها. البرجوازية الصناعية من حلب الغربية، أقامت صناعاتها في الشرقية حيث العمالة الرخيصة.
حتى "معامل الدفاع" التابعة لوزارة الدفاع، أقيمت جنوبي حلب الشرقية. والمعامل استخدمت عمالة مدنية من حلب الشرقية في صناعاتها غير القتالية، كالصابون والزيت. وغالباً ما تهكم الحلبيون بالقول إن موظفي "معامل الدفاع" من الغربية، وعمالها من الشرقية.
 
حلبيو حلب

التقسيم الاجتماعي/الطبقي لسكان المدينة، بما يتوافق مع خطوط الصراع معارضة/موالاة، يبدو زائفاً قليلاً؛ فالعقبات أمام هذا التفسير، تظهر مع تتبع خطوط الانقسام الإثني والثقافي.
وإذا رصدنا الأطراف المحلية المشاركة في الصراع الراهن، نجد بالإضافة إلى العرب السنة، ثلاث جماعات متمايزة: الفلسطينيون قاطنو مخيم النيرب جنوب شرقي حلب ومخيم حندرات شمال شرقي حلب، والأكراد سكان حي الشيخ مقصود شمالي حلب، وخليط من العشائر العربية والماردلية الموزعين في مناطق مختلفة من حلب الشرقية.
 
فلسطينيو حلب

مسيرة اللجوء الفلسطيني كانت قد وصلت ريف حلب الشرقي منذ العام 1949، عندما أُعطيت لهم ثكنةٌ عسكرية فرنسية قديمة في النيرب، سكنوا مهاجعها واستخدموا حماماتها الجماعية. كل مجموعة عائلات أعطيت "براكس"، تقاسمته بتقطيعه ببطانيات ثم بجدران بلوك، قبل أن يبيع البعض حصصهم للبعض الآخر. ويعتبر مخيم النيرب من أفقر المخيمات في سوريا، وهو على خلاف مخيمات دمشق وحمص، بعيدٌ من مركز المدينة، إذ أقيم بالقرب من منطقة عسكرية أنشئ فيها مطار النيرب، ولم تفصله عن المخيم سوى الأسلاك الشائكة.
في دراسة بعنوان "أثر المتغيرات في سوريا على فلسطينيي سوريا وكياناتهم السياسية" يُميّزُ الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، بين مرحلتين للنشاط السياسي للاجئين؛ الأولى تشمل بدايات اللجوء، وافتقد فيها الفلسطينيون الكيانات السياسية، فانخرطوا في الحركات والأحزاب الموجودة في مناطق اللجوء. حالة مخيم النيرب، تبدو مطابقة لهذا التمييز الأولي، الأمر الذي ساعد الأنظمة السورية المتعاقبة على اختراق النسيج الاجتماعي والسياسي لمخيم النيرب، تاريخياً. كما أن بُعد المخيم من حلب وفقر سكانه، جعله أشبه بمعسكرٍ معزول عن العالم المحيط به، ما ساهم في المراحل التالية، في إضعاف نفوذ الفصائل الفلسطينية فيه، وسيطرة المخابرات السورية وحزب "البعث" عليه. حتى "حركة فتح" كانت ضعيفة الحضور، في حين أن تنظيمات سورية كـ"الحرس القومي" كان لها دورٌ كبير فيه.
قُبيل الثورة السورية كان 300 ألف شخص يقطنون مخيم النيرب، ضمن مساحة لم تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، انتشرت فيها أربع مفارز أمنية.
على العكس من النيرب كان مخيم حندرات أفضل حالاً لسكانه، فجبل حندرات المشرف على نهر قويق بالقرب من المشفى والسجن، كان أملاك دولة استأجرتها "وكالة الغوث" نهاية الستينيات، وعرضت على سكان النيرب أن يستلموا الأرض ويعمروا فيها بيوتاً صغيرة من الحجر. وسرعان ما حوّل اللاجئون، وهم في الأصل فلاحو الشمال الفلسطيني، الجبل الصخري الأجرد، إلى منطقة خضراء، بعدما نقلت النسوة الماء من نهر قويق المجاور إلى المخيم، على أكتافهنّ.
حندرات أقيم ضمن المرحلة الثانية من فترة النشاط السياسي للاجئين، أي بعدما ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية، ما جعل الكيانات السياسية الفلسطينية فيه أكثر تمايزاً عن نظيراتها السورية، وأكثر تعلقاً بقضيتها الفلسطينية. كما أن قرب حندرات النسبي من مناطق التوسع السكاني في حلب الشرقية، خفف عزلته، وساهم في رفع المستوى المعيشي لسكانه، بالإضافة إلى وجود نسبة كبيرة من المغتربين منه، ممن ساهمت تحويلاتهم المالية في تحسين وضع أهل المخيم. قبيل الثورة كان يقطن مخيم حندرات 7000 شخص يعملون في وظائف حكومية والقطاع الخاص.

أكراد حلب

يقطن الأكراد حي الشيخ مقصود شمال شرقي مدينة حلب، وهو حيٌ مُحدث كتوسع وعشوائية في الستينيات، وفي الأصل كان منطقة مسيحية اسمها "جبل السيدة" وفيه "كنيسة السيدة". الحي أخذ اسم "الشيخ مقصود" في السبعينيات، مع تركز الهجرات الكردية إلى مدينة حلب، من عفرين وكوباني، فيه. والحي يقع على مدخل حلب الشمالي الشرقي على طريق حلب-عفرين، ويتصل بمدينة حلب عبر الأشرفية ومحطة بغداد، وتفصله عن المدينة مقبرتان مسيحيتان قديمتان.
الهجرة في البداية إلى الشيخ مقصود كانت من الطلاب وموظفي الدولة، في الستينيات، بالتزامن مع تضخم بيروقراطية الدولة السورية. وكما معظم أحياء الأطراف والأحزمة حول المدن الكبرى، يمثل الشيخ مقصود، حالة تمركز لجماعة بشرية ذات جذر مناطقي أو إثني واحد. ولا ينفي ذلك أن أغنياء و"آغوات" الأكراد كانوا قد استقروا في أحياء حلب الغربية الغنية كالسبيل والسريان، في حين بقي الفقراء في الشيخ مقصود الذي تمدد باتجاه الكاستيللو ووصل عدد سكانه، مطلع الألفية الثانية، إلى 150 ألف شخص معظمهم من الأكراد، وذلك بحسب ما قاله مسؤول المركز الإعلامي في حزب "الاتحاد الديموقراطي" في الخارج إبراهيم إبراهيم.
كما يمكن ملاحظة تمايز اجتماعي آخر في الأجزاء الغربية من "الشيخ مقصود" الأقرب إلى بني زيد، حيث تسود حالة من الفقر الأشد بين السكان ومنهم أكراد وعشائر عربية من الأرناؤوط والبقارة، ولا يوجد مخطط تنظيمي للمنطقة. وتسود في هذا الجزء العمالة الرخيصة، ويعمل جزءٌ مهم من السكان في مهن تغلب عليها الموسمية، كالعمل في المطاعم والفنادق في حلب الغربية. ولشعبيته وفقره، انجذب له طلاب الجامعات والثانوية القادمون من عفرين وكوباني.
في حين تحظى الأجزاء الشرقية من الحي، باهتمامٍ أكبر، نتيجة سكنه من قبل موظفي الدولة والطبقات الوسطى الكردية. والحي الشرقى كان يقطنه قبل الأكراد، ومنذ الخمسينيات، "المارديل" المهاجرون من الحسكة.
كما أن تجمعات كردية أصغر وتعود إلى أكراد كوباني، ظهرت في الحيدرية ومساكن هنانو المحاذية لطريق حلب-كوباني.

هوياتٌ معقدة

ورغم أن الجماعات البشرية السابقة، تشاركت ظروف التهميش والإفقار، طيلة عهد "البعث"، إلا أن مواقفها كانت مختلفة تجاه الثورة. فالنظام من جهته، تمكّن من استغلال الهويات المختلفة، لإثارة صراعات بين أصحابها، كما أن عوامل داخلية ضمن هذه الجماعات ساهمت بدورها في تظهير ما يشبه موقف عمومي لكل جماعةٍ منها؛ مع النظام أو ضده، أو حافظت على مسافة من الالتباس كانت كافية لتطوير مطالب خاصة بها.
الصراعات بدورها، وكعادتها، أضافت عوامل تمايز جديدة إلى الهويات الأصلية القائمة على الانتماءات الثقافية والإثنية. وصارت عملية تخليق سمات جديدة للمجموعات البشرية المتصارعة، منوطة بأحزاب أو قوى عسكرية. فهل بات ممكناً الحديث عن "كتل تاريخية" تصوغ الخطاب المهيمن لجماعاتها، وتضيف عوامل افتراق لها عن بقية المكونات؟

فلسطينيو "لواء القدس"

انشدّ انتباه النظام إلى فلسطينيي حلب، بعد رصد اتجاهٍ مساند للثورة في مخيم النيرب، الأمر الذي اعتُبر شديد الخطورة أمنياً. المحامي أيمن أبو هاشم، قال إن الأجهزة الأمنية بالتعاون مع المخبرين والمرتبطين بها مثل محمد السعيد، سعوا بعد ذلك إلى تأليب الرأي العام الفلسطيني في المخيمات، فكانت عملية "مجندي جيش التحرير" في منتصف العام 2012.
وخُطِفت حافلة مبيت تُقلّ 17 مجنداً من "جيش التحرير الفلسطيني" كانت تُقلهم من مركز تدريبهم في مصياف إلى حلب، في 28 حزيران/يونيو 2012. عملية الخطف التي اتُّهمَ بها مباشرة "الجيش الحر" تمت في سهل الغاب بالقرب من كفريا والفوعة، واستمرت أسبوعين، قبل أن تظهر جثث 14 شاباً منهم في مشفى إدلب العسكري، وآثار التعذيب والقتل بالبلطات والسكاكين بادية عليها.
اتهام "الجيش الحر" بالعملية من قبل فلسطينيي النظام في مخيمي النيرب وحندرات، لاقى آذاناً صاغية لدى الأوساط الشعبية الفلسطينية، وبدت العملية لحظةً تأسيسية في اصطفاف فلسطينيي حندرات والنيرب مع النظام ضد الثورة. ورغم عثور المعارضة على صورتين للمجندين محمد أبو الليل وأنس كريم، المخطوفين والمقتولين، وعليهما أرقام خاصة بالقتلى تحت التعذيب، في مبنى الأمن الجنائي في إدلب، في آذار/مارس 2015، أثناء "تحرير" المدينة، إلا أن أثر العملية كان قد أُنجز نهائياً، ولم يعد في الإمكان عكسُهُ.
رعى النظام تشكيل "لجان شعبية" فلسطينية للدفاع عن المخيمات، واستخدمها لقمع مظاهرات مدينة حلب وجامعتها، والعمل على ضبط الأمن في مخيمي حندرات والنيرب، وملاحقة واعتقال الفلسطينيين المتعاطفين مع الثورة.
المعارضة المسلحة كانت قد سيطرت مطلع العام 2013 على مخيم حندرات شمال شرقي حلب، بعد سلسة مضايقات نفذها 50 مقاتلاً من "اللجان الشعبية" ضد مواقع المعارضة المجاورة للمخيم، وضد سكان المخيم. عناصر "اللجان" سلموا أسلحتهم للمعارضة، وبقي سكان المخيم فيه. وسرعان ما نكثت "اللجان" بالاتفاق مع المعارضة، وساعدت قوات النظام في استرداد المخيم، ما تسبب في قتل عددٍ كبير من مقاتلي المعارضة السورية.
"اللجان الشعبية" الفلسطينية كانت قد بدأت عملية تحوّلٍ بنيوي ووظيفي، خلال هذه الفترة، وتطورت إلى ما سيُعرف منذ تشرين الأول/أكتوبر 2013 بـ"لواء القدس الفلسطيني".
في نيسان/إبريل 2014 عادت المعارضة وسيطرت على المخيم الذي نزح سكانه عنه هذه المرة؛ الموالون للنظام انتقلوا إلى مخيم النيرب والسكن الجامعي ومساكن الصناعة في مدينة حلب، في حين فضّل المعارضون النزوح إلى ريف حلب الشمالي.
النظام بدأ بدعم "لواء القدس" بالسلاح، ليتحول تدريجياً إلى أبرز مليشيا رديفة لقوات النظام في حلب، بقوام 2000 مقاتل، رُبعهم من فلسطينيي مخيمي النيرب وحندرات، والبقية من السوريين. ويقاتل نصف فلسطينيي "لواء القدس" في المخيمات، في حين أن نصفهم الآخر شارك في العمليات القتالية خارجها في جبهات حلب الساخنة؛ في الزهراء وصلاح الدين والحمدانية وحلب الجديدة والمنطقة الصناعية. وتوكّل اللواء بالمرابطة على جبهة الراشدين في مدينة حلب.

 
وينتشر اللواء في مخيم النيرب وجنوبي مطار النيرب حيث "كتيبة أسود القدس"، وفي مخيم حندرات، وفي قرى عزيزة والشيخ لطفي وحيلان، وحول مبنى "المخابرات الجوية" وجامع "الرسول الأعظم" في مدينة حلب حيث "كتيبة أسود الشهباء"، وغربي السجن المركزي، وفي "جمعية الود" جنوبي نبل والزهراء حيث "كتيبة الردع".
ويُشكّلُ "لواء القدس" الفلسطيني خليطاً من بعثيين وفتحاويين وقيادة عامة، ولأعضائه سمعةٌ سيئة كأصحاب سوابق وشبيحة ومتعاونين مع المخابرات. ويطلق مقاتلو "القدس" على أنفسهم لقب: "فدائيو الجيش العربي السوري".
محمد السعيد، زعيم "لواء القدس"، كان قد فتح خطاً أمنياً مبكراً مع النظام قبل الثورة، من خلال الجمعية الإنسانية الفلسطينية "بيت الذاكرة" التي ساهمت في تأمين مِنح للحجاج، وحل مشاكل الفلسطينيين في المخيمات مع النظام. وعمل محمد السعيد مع "المخابرات الجوية" في حلب لاحتواء الحراك الثوري في ريف حلب، وتأمين لقاءات بين الأهالي والوجهاء مع القيادات السورية، وحل مشاكل الموقوفين لدى النظام مقابل تعهدات خطية. مهمة السعيد للتهدئة بين الناس والنظام، تُمثّلُ دوراً أُوكِل للأعيان الجدد، القادمين من مهن مرتبطة بالدولة كالتعهدات والمقاولات. والسعيد مهندس ميكانيك من سكان مدينة حلب، لديه أقارب في مخيم النيرب، وأصله من ترشيحا في قضاء عكا. كما يحمل السعيد دبلوماً في الدراسات التراثية العربية والإسلامية، وكان عضواً في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة"، القوية تاريخياً في النيرب.
عاش "لواء القدس" تحولاً إضافياً، منذ بدأ القتال خارج المخيمات، بالتزامن مع اتخاذ "الحرس الثوري" و"حزب الله" من مطار النيرب منطلقاً لعملياتهم في حلب. ومنذ مطلع العام 2015، بدأ الدعم الإيراني للواء، عبر فتح قناة اتصال مباشرة معه. ومع ذلك ظلت بندقية "القدس" متأرجحة بين كتفي "الحرس الثوري" و"المخابرات الجوية". ورغم ما يقال عن إن جزءاً كبيراً من أعمال اللواء استعراضية، إلا أن انخراط اللواء في عمليات "الحرس الثوري" زودت قيادته بفرصة الانتماء إلى شبكة مليشيات "الحرس الثوري" الإقليمية.

أكراد "وحدات الحماية"

وعلى غرار مجتمعات الأكراد السوريين، كان "الشيخ مقصود" مركزاً سياسياً ناشطاً، خصوصاً من "يكيتي" و"الحزب الشيوعي" و"القومي السوري" و"اتحاد الشعب الكردي". إلا أن "العمال الكردستاني" وجناحه السوري "الاتحاد الديموقراطي" كانا قد هيمنا على الساحة السياسية في الحي، وجميع مناطق الأكراد في سوريا، منذ بداية الثورة السورية.
الحي الذي سيطرت عليه "وحدات الحماية" رغم وجود قوات النظام فيه، كان قد شهد تنسيقاً نادراً بين "الوحدات" والمعارضة في آذار/مارس 2013، تُوّج بخروج قوات النظام منه. إلا أن إشراف "الشيخ مقصود" على طريق الكاستيللو ودوار الجندول، كان مصدر الأزمة المتجددة بين "وحدات الحماية"-الذراع العسكري لـ"الاتحاد الديموقراطي"، والمعارضة السورية. فالكاستيللو ظلّ شريان إمداد الحياة إلى حلب الشرقية، قبل أن تقوم قوات النظام، بدعمٍ روسي إيراني، بإغلاقه، منتصف العام 2016.
العلاقة بين المعارضة التي دخلت حلب منتصف العام 2012، وبين "وحدات الحماية"، بدأت بالتأزم منذ أيلول/سبتمبر 2015، إلى درجة الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، وذلك بعد فتح معبر بين حي "الشيخ مقصود" ومناطق سيطرة النظام في حلب الغربية. أنهت الأزمة علاقة "اللاحرب-اللاسلم" بين المعارضة والوحدات، خصوصاً بعدما بدأت الأخيرة قصفاً على طريق الكاستيللو، ردت عليه الفصائل بقصف الحي. الأمر الذي ظل يتكرر عندما نفّذت "وحدات الحماية" هجمات متزامنة مع قوات النظام والمليشيات الشيعية، تسببت في إغلاق الكاستيللو نهائياً. إبراهيم إبراهيم نفى أن تكون عمليات "الوحدات" بالتنسيق مع قوات النظام، وإن لم ينفِ تزامنهما. فالغرض بالنسبة لـ"الاتحاد الديموقراطي" هو إبعاد خطر قصف "الشيخ مقصود" بسكانه المتبقين (حوالى 40 ألفاً)، من منطقة دوار الجندول.


الفصائل بدورها ترفض ادعاء "الوحدات" عدم تنسيقها مع النظام، خصوصاً مع ظهور قادة المليشيات الشيعية في الشيخ مقصود بعد إحكام حصار حلب مؤخراً. وإن يكن، فالواضح أن أجندة "الوحدات" ليست متطابقة تماماً مع تلك الخاصة بالنظام، وإن كان تحالف مؤقت يجمعهم ضد المعارضة.

حلب الماردلية والعشائرية

الماردلية، وصف يطلق على من يعود أصلهم إلى ماردين التركية، ممن نزحوا بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك السلطنة العثمانية، إلى الحسكة في سوريا، ومنها وجدوا طريقهم إلى حلب.
ورغم أن هناك خلطاً بين "المحليمية" و"المارديلية"، نتيجة وجود أكراد ومسيحيين وأرمن وعرب بين نازحي ماردين، إلا أن كثيراً من مارديلية حلب هم في الأساس من "المحيلمية". وسكن الماردلية الجابرية والسيد علي والنيال، وهي مناطق حديثة نسبياً، أنشئت في أواخر أربعينيات القرن الماضي. ويقال إنهم سيطروا على الجابرية بعدما زاحموا سكانها المسيحيين الذين فضلوا الانتقال والسكن في العزيزية والسريان.
تقاسم زعماء "الماردلية" تجارة الممنوعات في حلب، مع زعماء العشائر، بالتعاون مع النظام. وبلغوا من القوة أن نشروا بسطاتهم وأكشاكهم في باب الفرج، وفَرضوا أتاوات على التجار.
لم يشكل الماردلية فصائل خاصة بهم، بل قاتلوا في مناطقهم، وتوزعوا في مليشيات النظام التي تقاتل في السليمانية والتلفون الهوائي والأشرفية والشيخ مقصود. وكانت "كتائب أبو عمارة" قد أعلنت في كانون أول/ديسمبر 2014، اغتيالها "زعيم شبيحة الماردل" حبيب مردلي، في الحمدانية في حلب الغربية.
وعشيرة بري المشهورة، هي في الأصل عربية سنّية من ريف حلب الجنوبي، ويردوّن انتماءهم إلى قبيلة "قيس" في الرقة ودير الزور. عشيرة بري انتشرت في باب النيرب، وشكّلت عصابات تشبيح تاريخية، وعملت في تجارة الممنوعات، وكانت مشهورة بعلاقاتها الأمنية. منذ منتصف السبعينيات، أصبح آل بري بمثابة وكلاء للنظام، وحازوا حصة الأسد من اهتمامه ورعايته، حتى أصبح بعضهم من أغنياء حلب، وشكلوا عصابات فرضت نفسها بالقوة على بقية العشائر في مدينة حلب، وأرهبتهم.
كبار عشيرة بري، كانوا قد تشيّعوا قبل الثورة، وافتتحوا حسينيات في باب النيرب. مع الثورة، انخرط آل بري في أعمال التشبيح ضد مظاهرات حلب السلمية. وحين دخلت المعارضة حلب في آب/أغسطس 2012، كانت أول مواجهة لها مع آل بري، الذين انهزموا ونزحوا من باب النيرب إلى مناطق النظام في الحمدانية.
شكلت عشيرة بري مع مجموعات عشائرية وقبلية من العساسنة والبقارة، ما يُعرف باسم "لواء محمد الباقر". ومجموعة البقارة المشاركة في "لواء الباقر" هي بزعامة أحد شيوخ آل مرعي.
كما أن قسماً من العشائر السابقة، كان قد انضم للمعارضة، وكما يقول خالد الخطيب، الفئة المستفيدة من تجار الأغنام والمخدرات تحالفت مع النظام، في حين أن الفئات الفقيرة و"العتالة" انضمت إلى صفوف الثورة، وشكّلت فوجاً في "لواء التوحيد" السابق بقيادة حسن مخيبر.

صراعات على خطوط الهوية

من أصل 35 فصيلاً معارضاً مسلحاً في حلب الشرقية، ينشط 11 منهم في صد هجمات المليشيات الشيعية عن الأحياء المحاصرة. وبقية الفصائل كانت قد نقلت معظم قواتها للمشاركة في عمليات "درع الفرات" المدعومة تركياً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" شمال شرقي حلب. فصائل المعارضة الحلبية، يمكن ردّ معظمها إلى "لواء التوحيد" الذي كان سباقاً في دخول الشرقية في العام 2012. مقتل قائد "لواء التوحيد" ومؤسسه، عبدالقادر صالح "حجي مارع"، في غارةٍ جوية، تسبب في تفكك التحالف الذي مثّله اللواء، إلى مكونات مسلحة أكثر تنوعاً تتبع روابط مناطقية أو عقائدية. وجميع فصائل المعارضة المسلحة في حلب، تنهل عقائدياً من مدراس "الإسلام الشامي"، وإن استجد على قلةٍ قليلة منها مزيج يجمع "السلفية الجهادية" مع "الإسلام الشامي".
وكانت الصوفية هي الأكثر انتشاراً في أرياف حلب، قبل أن يغلق النظام الزوايا والتكايا، خلال العام 2003، ويبدأ بدعم محموم لـ"السلفية الجهادية" لتأمين المقاتلين في المعركة ضد الأميركيين بعد غزو العراق. العملية لم تلقَ رواجاً شعبياً، وظلت "السلفية الجهادية" محصورةً في أوساط ضيقة، وسط التشكيك الأهلي في رموزها وارتباطاتهم بالنظام. في المحصلة، لم تزدهر "السلفية الجهادية" في حلب، إلا أن الصوفية وطرقها كانت قد تراجعت بشدة، بعد تجاهل النظام لدعمها.
أما فصائل الشرقية المسلحة، على تعددها، فقد بدأت تواجه معضلةً عويصة، في ظل الحصار والقصف الروسي، لتأزيم العلاقة مع حواضنها الشعبية. إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالشرقية التي يقطنها اليوم ما يقارب 250 ألف إنسان، في ظروف لا إنسانية، وسط حصار تفرضه مليشيات شيعية تدور في فلك "الحرس الثوري" الإيراني، تجد نفسها أمام خياراتٍ صعبة للغاية. وقد تكون أولى المؤشرات هي انضمام "حركة نور الدين زنكي" إلى غرفة عمليات "فتح حلب" وسط حديث عن قرب اندماجها و"فيلق الشام" مع "حركة أحرار الشام الإسلامية".
الأعمال العسكرية المحمومة، لعسكر إيران، على أطراف حلب الشرقية، بالتعاون مع قصف جوي روسي، بات عاملاً إضافياً لزيادة التصاق أهل الشرقية بهويتهم العقائدية. الأمر الذي بات يفصلهم، جوهرياً، عن مواطنيهم الذين فضلوا الاصطفاف مع المحور الإيراني-الروسي. فـ"لواء القدس" و"لواء الباقر" وإلى حدّ ما "وحدات الحماية"، بات يُنظر إليها كقوى متحالفة مع "الاحتلال" الإيراني/الروسي.
عملية "الأَجنَبة" لفصائل محلية تُقاتل مع قوى أجنبية غازية، قد تكون فصلاً حاسماً، في تفتيت المكونات المحلية، وأقلمة الصراع. الأمر غير المسبوق، هو انتماء هذه الفصائل "المتأجنبة" إلى المنشأ الطبقي ذاته لمَن يعادونهم اليوم.
وإذا كانت نسبة الفصائل "المتأجنبة" في مجريات حصار الشرقية، بسيطة وغير مؤثرة في الأعمال القتالية، بالمقارنة مع أعداد الفصائل الشيعية الإيرانية والأفغانية واللبنانية والعراقية والباكستانية، إلا أن أثرها المعنوي أقوى.
 فالحرب التي تخوضها فصائل طرفية "متأجنبة" ضد حلب الشرقية وأهلها، ليست حرب المُهمشين ضد طغاتهم، بل حرب هوامش ضد هوامش، حرب أطراف ضد أطراف، يتم خلالها تخليق أسباب مستوردة للعداء، وتحويل جزء من قوى المجتمعات المحلية إلى وكلاء للقوى الغازية. في حروبٍ كهذه، تُفتقد فيها الأسباب الإقتصادية والاجتماعية للنزاع، لمصلحة بُعدٍ "ثقافي" تفرضه القوى الغازية الأجنبية، تكون الإبادة والتهجير، هي الوسيلة الوحيدة لإرضاخ الخصم. فالحرب هنا، لم تعد وسيلة، بل صارت هي الغاية. لذلك، فهي في أحد أخطر وجوهها: حرب إبادة "الحلبيين الأجانب" للحلبيين المحليين.

اقرأ المزيد
٨ أكتوبر ٢٠١٦
دراسة حول : العملية التفاوضية المحلية في الصراع السوري

ظهرت إرهاصات العملية التفاوضية المحلية الأولى مع بداية 2012، لتتطور لاحقاً إلى مسار موازٍ للمسار السياسي الأممي ومتفاعل مع السياق العسكري الميداني، ليشهد هذا المسار تحولات من حيث طبيعة المخرجات والأدوار والنتائج. نعرض في هذا الملف أهم التطورات السياسية والعسكرية التي أسهمت في تشكّل هذا المسار، كما نسعى لتسليط الضوء عليه عبر تناول العملية التفاوضية المحلية من حيث المخرجات الناجمة عنها والأطراف المشاركين فيها وغاياتهم ومآلاتها المستقبلية.
مدخل تاريخي لتطور المفاوضات بين النظام والمقاومة الوطنية
هيمنت المعادلة الصفرية على حسابات كل من النظام والقوى الوطنية في بداية الحراك الثوري، وهو ما تجسد بسيطرة منطق الحسم على خطابهما. وقد أسهمت التوقعات العالية والحسابات غير الدقيقة لطرفي الصراع في تعزيز هذه المقاربة، حيث راهن النظام على قدرة مؤسستيه العسكرية والأمنية ودعم حلفائه في احتواء المظاهرات والفعاليات الثورية، في حين سيطر الاندفاع الثوري والاعتبارات الأخلاقية على أداء القوى الوطنية وفي تسويق مشروعها السياسي. ويمكن اختصار قراءة كل منهما للصراع كالتالي:
قراءة النظام لحل أزمته السيادية:
    1    الثورة تمرد على شرعية الحكومة، ونيل من سيادة الدولة.
    2    التمرد على الحكومة إرهاب إسلامي بدعم إقليمي وتواطؤ دولي.
    3    طريقة التعامل الوحيدة مع الإرهاب هو القضاء عليه وعلى حواضنه الشعبية.
    4    إصلاح الحكومة ممكن ولكن من خلال الحوار تحت "سقف الوطن".
قراءة القوى الوطنية لشكل ونوع التغيير السياسي:
    1    لا بد من إسقاط النظام السوري لاسترداد الدولة السورية ومؤسساتها.
    2    لا بد من محاكمة رؤوس النظام لاسترداد حقوق الشعب.
    3    لا بد من حل الأجهزة الأمنية الاستخباراتية لاسترداد حقوق المعتقلين.
    4    المشاركة والعدالة هي أساس النظام الجديد ويقتضي ذلك إصلاح مؤسسات الدولة كافة.
يكمن الاختلاف الرئيس بين قراءتي النظام والقوى الوطنية للحل النهائي للصراع في النطاق الزمني وتأثير أداء أدوات الحسم على النظام الإقليمي. فلقد طالب الثوار من جهة بتغيير سريع ذي أثر عميق على النظام الإقليمي، في حين دعا النظام إلى معالجة أزمته من خلال تبني عملية طويلة دون إحداث أي خلل في النظام الإقليمي القائم. ولقد أدّى هذا الاختلاف بالإضافة إلى ظهور تعقيدات على المشهد الميداني في سورية إلى تبني المجتمع الدولي مقاربة النظام في حل الأزمة السياسية والأمنية الناتجة عن استمرار الصراع، رغم إظهار دعمه للتغيير السياسي في سوريا
مظاهرات حماة
المرحلة الأولى: غياب الرؤية الدولية لحل الصراع
لم يتخلل هذه المرحلة، وهي سلمية بطابعها العام، أي جهود تفاوضية باستثناء بعض محاولات النظام المبكرة لإملاء شروط وشكل ومحتوى التسوية السياسية في سورية كان أهمها مؤتمر الحوار الوطني (سميراميس) في 27 حزيران 2011. ولقد دفعت عوامل موضوعية عدة إلى عدم تشكّل عملية سياسية تفاوضية في هذه المرحلة، كان أهمها عدم وجود مخاطب يمكنه ادّعاء تمثيل مجموع القوى الوطنية المعارضة للنظام، بالإضافة إلى غياب دور الوسيط الأممي أو الإقليمي الفعّال بسبب عدم تبلور رؤية المجتمع الدولي للحل النهائي للصراع بعد.

المرحلة الثانية: بداية تشكّل الوساطة الدولية وجنيف
شكّل ظهور التنظيمات العسكرية الشعبية في نهاية 2011 انعطافاً في مسيرة الثورة السورية، حيث انتقلت المقاومة الوطنية من بعدها السلمي إلى العسكري وتطورت بهذا الانتقال أدوات التغيير والحسم. وفي حين نجحت فصائل المقاومة الوطنية في توظيف شرعيتها الشعبية بتحرير أجزاء واسعة من البلاد، شرع النظام في تعزيز عملياته العسكرية بالطيران العسكري وباستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وعلى رأسها الأسلحة الكيميائية والعشوائية.
ترافق مع ظهور هذه المتغيرات العسكرية تفعيل وساطة الأمم المتحدة في فرض رؤية القوى الدولية في الحل النهائي للصراع وذلك من خلال تنشيط المسار السياسي وإصدار بيان جنيف في الـ 30 من حزيران 2012. وتنطلق المقاربة الدولية للمسار التفاوضي وفق الثوابت التالية:
    1    تعريف الصراع الدائر بين النظام السوري والحاضنة الشعبية للمقاومة الوطنية بالنزاع الأهلي، ويقتضي حله قبول طرفي الصراع بمبدأ التسوية.
    2    ضرورة وقف الأعمال القتالية والعنف غير الشرعي.
    3    تأسيس التسوية السياسية على مبدأ المشاركة في هيئات الحكم السورية.
    4    احتكار تمثيل نظام الأسد للدولة السورية، مع استمرار الطعن في شرعية تمثيل الهيئات الائتلافية للمعارضة للشعب السوري.
شهدت هذه مرحلة أول اتفاق وقف إطلاق نار محلي وذلك في مدينة الزبداني عند إبرام أول اتفاق هدنة في كانون الثاني 2012 يفضي إلى خروج الجيش السوري من المدينة مقابل تعهد الجيش الحر بعدم استهداف أبراج الاتصالات والكهرباء التي تغذّي لبنان. وتشير بنود هذا الاتفاق إلى طبيعة العلاج الطارئة، وإلى عدم تشكّله إلى مسار تفاوضي مستقل بعد.


المرحلة الثالثة: ظهور التنظيمات العابرة للحدود وجنيف 2
سادت في هذه المرحلة من الثورة السورية ظاهرة المراوحة السياسية وتعزيز فرضية عدم إمكانية الحسم العسكري في سورية، بدأت بصفقة أجريت بين الخارجية الروسية والخارجية الأمريكية سلّم بموجبها النظام السوري سلاحه الكيماوي، مقابل وقف أي عمل عسكري أمريكي في حقه عقب هجوم 21 آب 2013. تلا الصفقة الكيماوية جهود دولية مكّثفة لدفع دمشق والمعارضة السورية إلى الجلوس على طاولة المفاوضات وأسفرت بنهاية المطاف عن انعقاد مؤتمر جنيف 2 للسلام في سويسرا، ولكن كتب له الفشل بعد جولتين في شهر كانون الثاني وشباط 2014. ترافق تعثر المسار السياسي في جنيف مع تكثيف جهود النظام في إبرام اتفاقات هدن محلية في محيط دمشق أبرزها اتفاقات قدسيا والهامة (2-11-2013)، ومعضمية الشام (25-12-2013)، وبرزة (5-1-2014)، والقابون (26-1-2014)، وحرستا/القسم الغربي (2014)، ويلدا وببيلا (17-2-2014)، والتل (25-4-2014).
شهدت هذه المرحلة فعالية أكبر لأذرع إيران العسكرية في سورية حيث كثّف حزب الله اللبناني وجوده وانضمت إليه 13 مليشيا عراقية شيعية، وتولت هذه القوات بغطاء جوي من النظام مهمة تعزيز سيطرته في الجبهة الوسطى، ومحاصرة قوى المقاومة الوطنية في حلب ودمشق. وأوجد التدخل الإيراني المباشر في البلاد، بالإضافة للتراخي الدولي في التعامل مع النظام، المناخ المناسب لنمو تنظيم الدولة. فانتهز التنظيم تراجع أداء قوى المقاومة الوطنية في فرض نفسه ميدانياً في المناطق المحررة.
برر توسع داعش في سورية استجابة المجتمع الدولي لمطلب النظام في أولوية محاربة الإرهاب فتم فصل مسار محاربة التنظيم عن المسار السياسي ونتائجه. أوجد هذا الفصل هوامش جديدة للنظام وحلفائه استطاعوا من خلالها اكتساب شرعية دولية في استهداف القوى الوطنية بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية.
المرحلة الرابعة: فيينا وإدارة الاستثناءات
مثّل التدخل الروسي إلى جانب الأسد أهم عامل في انهيار العملية السياسية (العقيمة أصلاً) في سورية، ونتج عنه بيان فيينا الشهير المؤسس لقرار مجلس الأمن 2254 القاضي باستئناف المفاوضات بين النظام والمقاومة الوطنية على نفس أسس بيان جنيف ولكن مع فصل وقف إطلاق النار عن نتائج المسار السياسي، وهو ما يسلب قوى المقاومة آخر أوراق ضغط على النظام أو المجتمع الدولي لإلزامهم بأي مخرجات منطقية وواقعية للعملية التفاوضية. ولقد أثمر التعاون الروسي الأمريكي عن رؤية مشتركة لوقف إطلاق نار غير مشروط يستثني تنظيم داعش وجبهة النصرة، وهو ما يبيح للنظام استهداف المقاومة الوطنية بذريعة التصدي لخطر الارهاب.

مباحثات فيينا للسلام بغياب الأطراف السورية 15 تشرين الثاني 2016
التوظيف المصلحي للعملية التفاوضية المحلية
لعبت العوامل العسكرية والسياسية الآنف ذكرها دوراً هاماً في تغيير مقاربة طرفي الصراع للتفاوض، حيث أصبح ممثلو الحراك الثوري أكثر جرأة لتقبل الطرح باعتباره الفعل السياسي المكمل لمعركة إسقاط النظام عبر الإقرار بشرعيتهم وتحقيق مطالبهم المرحلية وصولاً إلى إسقاط النظام، في حين كان لفصائل المقاومة الوطنية اعتباراتها الخاصة للقبول بالتفاوض ومنها:
    1    شرعنة دورها والحفاظ على المكتسبات التي تحققت لها
    2    ضمان استمراريتها كقوى فاعلة في أي ترتيبات سياسية أو عسكرية تفترضها المرحلة الانتقالية
    3    احتواء الضغط الناجم عن صعود الجماعات العابرة للحدود
    4    ترميم علاقاتها بالمجتمع المحلي من خلال تمثيل مطالبه.
بالمقابل وظف النظام التفاوض المحلي كتكتيك لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية على المدى القصير والبعيد عبر ربطه باستراتيجية أشمل تهدف إلى:
    1    استعادة التوازن الميداني المفقود بحكم انتشار رقعة الاحتجاجات وعجز المؤسستين العسكرية والأمنية المترهلتين عن حسم الموقف
    2    إحكام السيطرة على سورية المفيدة عبر تكتيكات دفاعية (تسكين الجبهات) وأخرى هجومية (عمليات عسكرية) تتكامل فيما بينها، وتسهم في تعزيز تموضع النظام في أي عملية تفاوضية
    3    تعميق إشكالية تمثيل المقاومة الوطنية من خلال تقسيمها إلى محلية يمكن التفاوض معها وأخرى خارجية يتعذر التعامل معها على اعتبار أن لا وزن سياسياً لها على الأرض
    4    ضرب وحدة المقاومة الوطنية محلياً من خلال تأجيج التناقضات داخلها بين تيار يقبل بالتفاوض وآخر رافض له، وهو ما يتيح للنظام احتواء التيار الأول وضرب الثاني عبر وسمه بالإرهاب.
ويكتمل المشهد المحلي ببروز طرف ثالث يقوم بدور الوساطة بين النظام والمقاومة لتكتمل العملية التفاوضية، وهو ما قامت به لجان الوساطة المحلية المكونة من شخصيات حزبية ورجال دين وتكنوقراط وتجار، مدفوعة برغبتها في استعادة دورها المتآكل أمام صعود قوى مجتمعية جديدة، إضافة إلى استعادة شرعيتها التي فُقدت بحكم موقفها تجاه الحراك الثوري، كما لعبت دول إقليمية (إيران) ودولية (روسيا) ومنظمات إقليمية (IHH, HD) وأممية (الأمم المتحدة) دور الوسيط والضامن للعملية التفاوضية المحلية.
اتفاقيات الهدن
يعرّف اتفاق الهدنة بأنه: عملية تفاوضية يتم بموجبها التوصل لوقف مؤقت للعمليات القتالية، مفتوح على احتمالات عدة كالتوصل إلى اتفاق سلام أو تمديد وقف إطلاق النار أو تجدد العمليات القتالية. تم التوصل إلى أول اتفاق معلن لوقف إطلاق النار في سورية في مدينة الزبداني (كانون الثاني 2012)، ليشهد عاما 2013-2014 العدد الأكبر من اتفاقيات الهدن التي تم التوصل إليها والمقدر عددها بين كانون الثاني 2012 إلى تموز 2016 بـــ 24 اتفاق بين معلن وغير معلن.
لعبت الجهات الثلاث الرئيسة، النظام، والمقاومة الوطنية، والوسطاء أدوراً متفاوتة في عملية التوصل لاتفاقيات وقف إطلاق النار كالتالي:
    •    النظام: لعب المركز المتمثل بالأسد والحكومة دوراً ضعيفاً في عقد اتفاقيات الهدن، في حين تصدرت قوى عسكرية وأمنية محلية لهذه المهمة، الفرقة الرابعة في هدن محيط العاصمة، الفرقة الثالثة في منطقة القلمون الشرقي، الأمن السياسي والحرس الجمهوري في مدينة التل.
    •    المقاومة الوطنية: لعبت الفصائل العسكرية المحلية والإسلامية دوراً رئيساً في عقد اتفاقيات الهدن، يضاف إليها ممثلي الفاعليات المدنية كالمجالس المحلية والحراك الثوري والوجهاء المحليين ورجال الدين.
    •    الوسطاء: لعبت لجان المصالحة المحلية المكونة من وجهاء محليين وشخصيات حزبية ورجال دين وتجار محسوبين على التيار الرمادي دوراً تمهيدياً في إجراء محادثات غير مباشرة بين الطرفين قبل أن يتولى مسؤولو النظام إدارة المراحل المتقدمة من التفاوض. كما تم تسجيل وساطة دول إيران روسيا بالإضافة إلى منظمات إقليمية وأممية في عدد من الاتفاقيات.
أما بخصوص ملفات التفاوض فتشمل:
    1    الترتيبات الأمنية المتعلقة بوقف إطلاق النار وتحديد طبيعة القوى المسيطرة وتنظيم مهامها وعلاقاتها،
    2    الملف الخدمي فيما يتصل بتوفير الخدمات وإدارتها،
    3    الملف الحقوقي المتمثل بمعالجة قضية المعتقلين والأسرى،
    4    الملف الإنساني/الاجتماعي المتصل برفع الحصار وتسهيل عودة السكان لمناطق الهدن.


المصالحات المحلية
يمكن تعريف المصالحة المحلية القائمة في سورية بأنها: عملية تفاوضية محلية تتم بين ممثلي كل من النظام والمجتمعات المحلية، يتم بموجبها استعادة النظام السيطرة على المناطق التي خسرها في وقت سابق مع إدارتها بشكل حصري عبر مؤسساته، بالتزامن مع تسوية وضع مناصري المقاومة الوطنية وممثليه عبر عمليات تسوية فردية، ومنح سكان تلك المناطق الإذن بالعودة لمنازلهم. بلغ عدد اتفاقيات المصالحة التي تم التوصل إليها منذ تاريخ تشكيل وزارة الدولة "لشؤون المصالحة الوطنية" في حزيران 2012 ولغاية نيسان 2016 ما عدده 50 اتفاق وذلك بحسب تصريحات وزير المصالحة علي حيدر. ومن أبرز تلك الاتفاقيات: قارة وحوش عرب وعرسال والجبة وحفير الفوقا ومعضمية القلمون والبويضة والذيابية في محافظة ريف دمشق، قرى في الريف الشرقي لمحافظة حمص منها: سكرة، الريان، أحمر، شلوح، المضابع، قرى ومزارع في ريف ناحية الحمراء الشرقي والغربي ومنطقة صوران إضافة إلى قريتي السمرة وكوكب في محافظة حماة، قرى ومزارع في ريف محافظة اللاذقية منها: البلاطة وبلوطة واوبيم ووطى الخان وتلا وبيت الشكوحي وكفرية وحكوم والمريج ومرج خوخة وعين الجوزة وترتياح وسلمى والقرامة والسفكون وسولاس وخربة سولاس والروضة والدرة والعالية والوادي وعطيرة والقصب. قرى ومزارع في ريف محافظة القنيطرة منها: جباتا الخشب وطرنجة وأوفانيا ومزارع عين البيضا وجورة الشيخ وأم باطنة وممتة والصمدانية الشرقية..
بدأت اتفاقيات المصالحة بالظهور منتصف 2014، ليتصاعد زخمها في عامي 2015-2016 كترجمة للتحول في الموقف العسكري والسياسي الذي بدأ يميل لصالح النظام السوري، ويمكن إيجاز أبرز عناصر المشهد العام المحفز لعقد اتفاقيات المصالحة بــ:
    1    غلبة الاعتبارات الأمنية ومتطلبات مكافحة الإرهاب على الإدارة الدولية للملف السوري،
    2    تآكل مسار جنيف للحل السياسي، تحسن تموضع النظام العسكري والانتقال من حالة الدفاع إلى الهجوم مدعوماً بقدرات إيرانية وروسية،
    3    تآكل مناطق سيطرة المقاومة الوطنية ومحاصرتها من قبل تحالف أعداء يضم كلاً من النظام السوري وتنظيم "الدولة الإسلامية" ووحدات الحماية الشعبية،
    4    انكفاء المعسكر الإقليمي والدولي الداعم للمعارضة في ظل حضور مكثف ومباشر لحلفاء النظام في المشهد السوري لاسيما روسيا التي انخرطت بشكل مكثف في تفاصيل المشهد الداخلي عقب تأسيسها لمركز التنسيق الروسي في حميميم.
وتغيرت طبيعة أدوار الجهات الثلاث الرئيسة كالتالي:
    •    النظام: استمرت الفرق العسكرية والفروع الأمنية في لعب دور المحرك الرئيس والمقيم الأساس لترتيب أولويات المصالحات، ولكن أضيف إليها كل من وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية، لجنة المصالحة الوطنية في مجلس الشعب، حزب البعث العربي الاشتراكي. أفرزت هذه التعددية تضارباً في الأدوار وتنافساً سلبياً، وهو ما عبّر عنه رئيس لجنة المصالحة في مجلس الشعب خير الدين السيد حينما اشتكى من غياب التعاون بين وزارة المصالحة واللجنة التي يرأسها. وكذلك أكد جابر عيسى رئيس لجان المصالحة الشعبية هذه الإشكالية حينما قال: "يوجد العديد من الجهات العاملة في مجال المصالحة، وتعود هذه الأعمال إلى جهات مختلفة في الدولة لجنة هنا وأخرى هناك ولجان الوزارة ولجنة مجلس الشعب ولجان المحافظين ولجان أمناء الفروع ولجان العشائر ولجان شيوخ الدين ولجان المكاتب الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت الجهود ولتصبح المصالحة محط خلاف ونزاع وتخوين.
    •    المقاومة الوطنية: انحصر دور المقاومة الوطنية في الفصائل العسكرية المحلية، والفاعليات المدنية المحلية المكونة من وجهاء ورجال دين، فيما لوحظ تراجع تأثير القوى ذات الانتماء الأوسع.
    •    الوسطاء: تعددت لجان المصالحة المحلية ليبلغ عددها 30 مبادرة أهلية بحسب تصريح علي حيدر، ومن أهمها: اللجنة المركزية للمصالحة الشعبية "المبادرة الأهلية للمصالحة الوطنية" ويترأسها جابر العيسى وعدد أعضائها 1000 فرد. ويضاف إلى لجان المصالحة المحلية، روسيا التي تلعب دوراً مباشر في عمليات المصالحة كوسيط وضامن من خلال التواصل مع ممثلي المقاومة المحلية عبر ممثل مركز التنسيق الروسي المتواجد في كل محافظة، وبالتنسيق مع القوى المعنية بالأمر من جانب النظام.
مراحل عقد اتفاق المصالحة المحلية
شهدت اتفاقات المصالحات المحلية تدخل طرف رابع بالإضافة للجهات الثلاث الرئيسة تُمثله دول تعمل على توفير الدعم السياسي لعملية المصالحة ومنها: مصر، اليمن، العراق، اندونيسيا، الصين، جنوب أفريقيا، جمهورية التشيك، السودان.
أما بخصوص ملفات التفاوض فتشمل:
    1    الملف الأمني الذي يشتمل على ترتيبات تسليم السلاح وتسوية وضع مقاتلي الفصائل المحلية إما بتركهم أو ترحيلهم أو دمجهم في قوات الأسد والميليشيات المتحالفة معه،
    2    الملف الخدمي من حيث مسؤولية النظام عن توفير الخدمات الأساسية وتأهيل البنية التحتية وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة،
    3    الملف الإنساني: فك الحصار وتسهيل عودة المهجرين إلى مناطقهم.
اتفاقيات الإخلاء
يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوة على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-آب 2016) بـــ 7 اتفاقيات، 4 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه خاصة إيران لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة فيها، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية. بالنظر إلى السياق الزمني الذي عقدت فيه اتفاقيات الإخلاء، يلاحظ أنها جرت بالتزامن مع اتفاقيات المصالحات حينما كان للنظام اليد الطولى سياسياً وعسكرياً على حساب المقاومة الوطنية.
يشير تحديد أطراف اتفاقيات الإخلاء إلى حجم الدور الخارجي اللازم لإنضاج هكذا اتفاقيات نظراً إلى تعقيدات الملف وحساسيته، حيث كان لإيران دور رئيس في التوصل لاتفاقي حمص القديمة والزبداني، كما تمت معظم الاتفاقيات برعاية أممية وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول حيادية ونزاهة الأمم المتحدة في الملف السوري، ومدى نجاح النظام وحلفائه في تطويعها خدمةً لأهدافهم. أما من جانب النظام فيغلب على ممثليه الصفة الأمنية والعسكرية (اللجنة الأمنية، المخابرات، الحرس الجمهوري) باعتبارهم القوى المعنية بتنفيذ الاتفاق. بالمقابل لجأت أغلب الفصائل المحلية إلى تحالف أوسع مع الفاعليات المدنية عبر تشكيل لجان تفاوض تتولى إدارة المفاوضات، ويمكن تفسير هذا التوجه بحساسية موضوع التفاوض وعدم رغبة الفصائل في تحمل تبعات هذا القرار لوحدها، إضافة لرغبتها في الحصول على أكبر تأييد ممكن للاتفاق، وفي جانب آخر تفويت الفرصة على النظام لاستغلال أي حالة انقسام داخلية لإضعاف الموقف التفاوضي للفصائل.


توسع دائرة المصالحات في سوريا


تقارير إعلامية للنظام وحلفائه حول المصالحات واتفاقاقات الاخلاء
تقييم مخرجات العملية التفاوضية المحلية ومآلاتها المستقبلية
أحدثت العملية التفاوضية المحلية أثراً لا يمكن تجاهله في المشهد السوري، وفي حين يدعي النظام مع حلفائه بأنها عملية تراكمية تؤسس لسلام مستدام عبر حوار داخلي، فإن تقييم المخرجات الناجمة عنها يشير إلى أثرها المحدود في معالجة الملفات الرئيسة المهيئة للاستقرار والسلام في سورية وهي: العملية السياسية الانتقالية، الإدارة المحلية، الأمن المجتمعي، الملف الإنساني، الملف الأمني، الملف الاقتصادي والخدمي. كما أنها كعملية تفاوضية مسيسة وغير مكتملة في ظل غياب آليات للتحقق والمراقبة وافتقارها إلى ضمانات جدية نتيجة رعايتها من قبل أطراف يشك في حيادهم، إضافة إلى وجود تضارب في أدوار القوى المنخرطة فيها وتباين مصالحهم وتوقعاتهم وهو ما يهدد الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها أو يؤخر عملية تنفيذها أو يشوهها، وفيما يلي تقييم لمخرجات العملية التفاوضية مع توقع مآلات كل منها.
اتفاقيات الهدن: مسار متآكل لاتفاقيات هشة
لا يزال 20 اتفاق هدنة قائم من أصل 24 رغم تعرضها لخروقات مستمرة من قبل النظام، مع وجود مساعٍ حثيثة لتطويرها إلى اتفاقيات مصالحة أو إخلاء. أما عن تأثير الهدن على معاش وأحوال السكان فلا توجد وقائع كافية تؤيد القول بتحسن الوضع المعيشي والخدمي والحقوقي للسكان في تلك المناطق وهو ما لاحظته عدة دراسات تناولت هذا الجانب.
المصالحات المحلية: مسار متنامٍ برعاية روسية
يلحظ من خلال المعطيات المتوفرة حول اتفاقيات المصالحات وجود علاقة طردية بين زيادة حدة التدخل الروسي وعدد المصالحات التي تم التوصل إليها، إضافة إلى توزع معظم المصالحات في أرياف المحافظات، ومن المتوقع في هذا السياق ارتفاع عدد المناطق التي ستنضم إلى اتفاق المصالحات خاصة مع استمرار الضغط العسكري من قبل النظام وحلفائه وتعطيل مسار الحل السياسي، وغياب أي جهد فعال ومؤثر لإعادة التوازن العسكري بين النظام والمقاومة الوطنية.
أما المناطق المرشحة بالدرجة الأولى لعقد اتفاقيات مصالحة محلية فتشمل: قدسيا/الهامة، التل، وادي بردى، مدن وبلدات ريف حمص الشمالي، بلدات ريف القنيطرة، الغارية الشرقية والغربية، أم ولد، مزيريب، تل شهاب، داعل، نصيب، الطيبة، بصر الحرير، النعيمة، اليادودة، نمر، الحارة، جاسم، داعل، ابطع، انخل، وهو ما يفسر التصعيد العسكري وسياسة الحصار الممارس بحق المدن السابقة.
وفيما يتعلق بتأثير اتفاقيات المصالحة المحلية على أحوال ومعاش السكان المحليين فهي كالتالي:
    1    عدم عودة المهجرين إلى مدنهم الأصلية رغم انقضاء مدة طويلة على عقد اتفاق المصالحة.
    2    عدم وفاء النظام بوعوده في توفير الخدمات للمهجرين.
    3    ضعف ثقة السكان بالمصالحة وتعرضهم لحالات ابتزاز من قبل لجان المصالحة وهو ما أكده علي حيدر.
    4    تجاهل معالجة ملف المعتقلين وعدم الالتزام بأي بند يتعلق بإخراج أبناء المناطق من سجون النظام.
    5    استمرار التمييز السلبي والطائفي بحق أهالي مناطق المصالحة من قبل مؤسسات الدولة.
اتفاقيات الإخلاء: التهجير المستمر
تميل المؤشرات الراهنة لدعم السيناريو القائل بازدياد عدد المناطق المشمولة باتفاقيات الإخلاء لاسيما مع استمرار سياسة التجويع والحصار والضغط العسكري التي يمارسها النظام مدعوماً من حلفائه بحق مناطق المقاومة المحلية. أما المناطق التي يتوقع أن تستهدفها اتفاقيات الإخلاء في المرحلة المقبلة فتشمل جيوب المقاومة المتبقية في محيط العاصمة وفي المنطقة الحدودية بين سورية ولبنان باعتبارها مناطق مشمولة بالاستراتيجية الإيرانية الساعية لإحكام السيطرة على مراكز التأثير في سورية المفيدة. أما فيما يتعلق بالتأثيرات الناجمة عن اتفاقيات الإخلاء فمتعددة ومنها:
    •    تآكل الموقف التفاوضي للمعارضة مع خسارتها لمواقعها في محيط العاصمة وعلى طول سورية المفيدة،
    •    إحداث تغير ديمغرافي مقصود من خلال استبدال مكون محلي أصيل بمكونات مجتمعية متشيعة من مناطق أخرى وبما يؤثر على المعادلات الأمنية والسياسية لسورية المستقبل،
    •    تعزيز تمثيل نظام الأسد للدولة السورية من خلال القضاء على نماذج متقدمة في الإدارة المحلية للمعارضة كما حصل في داريا.
ملاحظات
1. لا يمكن اعتبار العملية التفاوضية المحلية مرتكزاً لبناء سلام مستدام كما يسوق بذلك النظام وحلفائه، وذلك لأثرها المحدود في حلحلة الملفات الإشكالية المحركة للصراع في سورية، وأصدق توصيف يمكن أن يطلق عليها بكونها تكتيك مصلحي منفعل بمعطيات الواقع السياسي والعسكري؛

2. من المتوقع أن يشهد مسار العملية التفاوضية المحلية حراكاً متنامياً في الفترة المقبلة لاسيما لجهة اتفاقيات الإخلاء والمصالحات، مدفوعةً بتعهد روسيا المباشر لها من جهة وممارستها من جهة أخرى لضغوط عسكرية وسياسية على المعارضة المحلية التي تجد نفسها أمام خيارات محدودة في ظل الزهد الأمريكي وضيق هامش مناورة حلفائها الإقليميين؛

3. إن تتبع الأطراف المشاركة في صياغة الاتفاقيات المحلية من جانب النظام ليظهر مقدار تشظي القوة داخله وتوزعها على قوى أمنية وعسكرية مناطقية متنافسة ومستقطبة من قبل قوى إقليمية (إيران) ودولية (روسيا)، كما يظهر محاولة قوى مجتمعية محلية استثمار العملية التفاوضية لترميم دورها الذي تآكل في ظل الحراك الثوري؛

4. لم يلحظ دور لهيئات المعارضة السياسية المعترف بها في عمليات التفاوض المحلي، الأمر الذي يتطلب منها تبني مقاربة أشمل وتكاملية للتفاوض على المستويين المحلي والكلي وتفويت الفرصة على النظام لضرب مصداقيتها وشرعيتها؛

5. تتمثل خطورة اتفاقيات الإخلاء بالنوايا المحركة لها من حيث رغبة إيران إحداث تغييرات ديمغرافية برعاية أممية في مناطق مفتاحية في دمشق ومحطيها باتجاه حمص، أي إعادة تجربة الضاحية الجنوبية في سورية، علماً أن الوافدين الجدد لهذه المناطق سيكونون من شيعة سورية والمتشيعين الجدد خاصة من العلويين.

اقرأ المزيد
٢١ سبتمبر ٢٠١٦
تركيا في سورية بعد درع الفرات

شهدت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وسورية تطوراً ملحوظاً بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، واتّسقت هذه العلاقة حتى انطلاقة الربيع العربي بالصداقة تنفيذاً لسياسة تصفير المشاكل مع الجيران. وفي حين أبدت أنقرة مرونةً مع النظام في بداية الثورة، إلا أنه كان من البديهي أن تنتهز الفرصة التي قدمتها الأزمة السياسة السورية في تعزيز موقعها الجديد في المنطقة.ولقد شهدت طريقة تعامل الحكومة التركية مع الثورة الليبية نسقاً شبيهاً، حيث تلكأت في إظهار دعمها للثوار قبل أن تسرع في تقديم الدعم لهم سواءً من خلال استضافة معارضي القذافي أو من خلال إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الليبي، ويظهر نهج الخارجية التركية في التفاعل مع ثورات الربيع العربي درجة عالية من الواقعية السياسية فيما يحقق أهدافها الاستراتيجية ومما يفسر بدوره أيضاً التراجع الأخير في سياسة مواجهة الخصوم الدوليين والإقليميين وعلى رأسهم روسيا وإيران.

فيما يلي عرض لثوابت الخارجية التركية وطرق تأقلمها مع الظروف الدولية والاقليمية، يليها تطور الأزمة السياسية والعسكرية مع نظام الأسد وأخيراً محاكاة لأهم سيناريوهات دخول الجيش التركي في شمال سورية.

السياسة الخارجية التركية
تحتل تركيا موقعاً جيوسياسياً مهماً يؤهلها للعب دور أكبر من مجرد وسيط أو وكيل في المنطقة، ولكن يدرك الساسة الأتراك عجزهم عن التحول إلى قوة دولية كبرى حالياً، وذلك يعود لعدّة أسباب أهمها:

وجود تيارات متصارعة ضمن مؤسسات الدولة مما يعطل من سرعة اتخاذ القرارات الحاسمة وتنفيذها.
اعتمادها على مصادر طاقة خارجية مما يسهل ضربها اقتصادياً.
استمرار القلاقل الداخلية التي تهدر طاقات الدولة وتشّرعن في التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للبلاد.

ولذا تعتمد أنقرة إلى بناء شراكات إقليمية تمكنّها لحين من تفويض جزء من العبء الواقع عليها في قيادة المنطقة، فيما تعمل على تحرير كمونها الذي قد يؤهلها للعودة إلى مقدمة المسرح الدولي مستقبلاً. ولقد عبّر الدكتور أحمد داوود أوغلو عن الجزء الأخير من هذه الرؤية في كتابه "العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" والذي يدعو فيه لإخراج تركيا من دورها الهامشي أثناء الحرب الباردة ونقلها إلى بلد محوري ومؤثر دولياً. وينطلق داوود أوغلو في رؤيته من مبدأ أهمية استثمار بعد تركيا الاستراتيجي في المشرق لتأكيد دورها القيادي فيه بما يعزز دورها الدولي، معتبراً أن تركيا تمثل الوريث التاريخي لآخر كيان جامع في المنطقة مما يؤهلهاللإحاطة بالمنطقة وتجاوز انقساماتها الأيديولوجية والعرقية والعقدية، مع عدم إغفال أي فاعل داخل التوازنات الدولية والإقليمية.

قدّم الربيع العربي فرصة سانحة لتركيا من أجل تحقيق هذه الرؤية، وإذ لا يوجد شك في تبني العدالة والتنمية مواقف أخلاقية ومبدئية في دعم طموح الشعوب العربية إلّا أن ذلك لا ينفي بالضرورة تعارضها مع تحقيق مصالح تركيا كما يراها كثير من الساسة الحزب، والجدير بالذكر في هذا الصدد بأن موقف الحكومة التركية لم يتناقض مع مواقف الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة. وعملاً بهذه الرؤية سعت أنقرة إلى إقامة حلف مع الدوحة والقاهرة للارتكاز عليه في إعادة بناء النظام الإقليمي الجديد، إلّا أن موجة الثورات المضادة التي عصفت ببلاد الربيع العربي والاستقطاب الإقليمي الحاد الذي شهدته المنطقة أدّى في المحصلة إلى وقوع تركيا في عزلة دولية وصلت قمتها في الخامس عشر من تموز ومحاولة الانقلاب الفاشلة. أدّت الأحداث الأخيرة إلى تبني الحكومة التركية مجموعة من الإجراءات التكتيكية الجديدة تبدو في مجملها غير متسقة مع نهجها الأول في دعم الربيع العربي إلّا أنها لم تخرج عن الإطار الأوسع للسياسة الخارجية التركية وما توصف به من واقعية في التعامل مع المجتمع الدولي.

ومن أجل تفسير أداء السياسة الخارجية التركية لا بد من الوقوف يسيراً على الظروف التي شكّلت وعي الساسة الأتراك، فلقد أنشئت الدولة التركية الحديثة على أطلال إمبراطورية عكفت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على تفكيكها، ولم تحصل على اعترافها إلّا بعد حرب انتصرت بفعل سياسي ومجموعة من المعاهدات الدولية. وعلى الرغم من القيود التي فرضتها معاهدات باريس ولوزان على أنقرة، فلقد آثرت الوقوف إلى جانب لندن وواشنطن أثناء الحرب العالمية الثانية، كما أنها انضمت إلى حلف الشمال الأطلسي في عام 1952 وذلك لمواجهة المخاوف المشتركة مع الولايات المتحدة من التوسع السوفيتي في دول القوقاز.

يسود إيمان لدى الساسة الأتراك أن أمان واستقرار تركيا يعتمد بشكل رئيس على حسن علاقة البلاد بالقوى الكبرى، فاللبيراليون من جهة يؤمنون بضرورة استمرار سياسات التحديث والتغريب، فيما يسعى الإسلاميون من جهة أخرى للتخلص من شبح الانقلابات. وبخلاف ما نادى إليه أربكان من ضرورة التصدي للغرب قام تلميذه أردوغان بصيانة علاقة بلاده معها كما أنه اتّكأ عليها بشكل كبير في الحصول على الدعم الدولي اللازم لاستقرار حكوماته المتعاقبة. ولقد عمد حزب العدالة والتنمية إلى عدم الاصطدام بواشنطن، واحدى تجليات هذه السياسة حرصه على عدم التحرك في سورية دون وجود غطاء دولي وأمريكي، وبمسايرة مخرجات المسار السياسي في سورية رغم تضاربها مع مصالح الحزب الاستراتيجية في المنطقة.

ويجدر بالذكر في هذا السياق أن حزب العدالة والتنمية لا يحتكر بالضرورة رسم السياسة الخارجية التركية، حيث يتوجب عليه التعامل مع التوجهات الكمالية في السلك الدبلوماسي. وإذ يصعب وصف علاقتهما بالتصادمية حيث يلتقيا مثلاً على ضرورة الحفاظ على حسن العلاقات الدبلوماسية مع الغرب، إلّا أنه من غير الدقيق وصفها بالمتصالحة كذلك. فنظرة سواد السلك الدبلوماسي اتجاه الربيع العربي متضاربة مع رؤية الحكومة التي تجد فيه فرصةً للاستثمار فيه. لذا من السليم الخلوص إلى وجود معوّقات أمام الحكومة في تنفيذ كامل رؤاها وخطاها على صعيد السياسة الخارجية.

ويمكن حصر ثوابت السياسة الخارجية التركية بعدّة نقاط كالتالي:

إخراج تركيا من دورها الهامشي أثناء الحرب الباردة ونقلها إلى بلد محوري ومؤثر دوليًا مستفيدة من موقعها الجيوسياسي المميز.
صيانة العلاقات الاستراتيجية التي تربط تركيا بالغرب من خلال الحفاظ على دورها في حلف الشمال الأطلسي.
بناء شراكات استراتيجية مع الدول التي تشترك معها في مواجهة التنظيمات الانفصالية.
بناء علاقات متينة مع الدول المنتجة للطاقة وتعدد مصادر النفط والغاز.
البحث عن أسواق جديدة للسلع التركية والحفاظ على سلام وأمن جيرانها الإقليمين من أجل تحسين شروط تجارتها الخارجية.
قد نتسرع في الحكم على دخول الجيش التركي الأخير في سورية وتقييمه كتحول في السياسة الخارجية للبلاد، وإذ أنه وبحسب بعض المعلومات الواردة من واشنطن قد فاجأ البنتاغون، إلّا أنه لا يتعارض حقيقة مع قواعد اللعب التي حددها السقف الأمريكي. وإذا ما أردنا أن ننظر إلى المشهد السياسي الإقليمي بانورامياً فإن التغير الحقيقي قد أصاب السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تبنت حزم من القرارات تخالف أسس تحالفاتها في المنطقة، فكان أبرز نتائج هذا التحول توغل روسيا في المشرق على حساب ما يبدو انحساراً أمريكياً فيه.

تأزم المشهد السياسي بين تركيا ونظام الأسد

لم تسرع تركيا في ابداء موقف حاسم من النظام مع بداية الثورة، بل بادرت بالقيام بعدّة زيارات بهدف أقناع بشار الأسد بالاستجابة لمطالب الإصلاح، إلّا أن إصرار النظام على اتّباع النهج الأمني في التعامل مع المظاهرات أدّى إلى تصعيد مطالب الثوار وتأزم المشهد السياسي في البلاد. وردّاً على سلوك النظام دعت تركيا بالتزامن مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى لتنحي الأسد نزولاً عند رغبة الشعب، وتأزمت تباعاً علاقة البلدين حتى حادثة اسقاط المقاتلة التركية فوق المياه الإقليمية التي اعتبرتها أنقرة بمثابة إعلان حرب عليها. فيما يلي أهم الأحداث السياسية بين البلدين بعد بداية الثورة.

زيارة داود أوغلو الأخيرة لدمشق: قام وزير الخارجية التركي في التاسع من آب بآخر زيارة له لدمشق ومعه رسالة "قوية" أكدّت ضيق ذرع أنقرة بوحشية حكومة بشار الأسد وتلاها إعلان بتعليق لعلاقات التجارية بين البلدين، وكافة الاتفاقات الأخرى.
هجوم على حافلة حجاج أتراك: أطلق عدد من الجنود السوريين في 21 تشرين الثاني عام 2011 النار على قافلة حجاج أتراك عند نقطة تفتيش قرب حمص، وأسفرت الحادثة عن جرح شخصين وأحد سائقي الباصات.
استدعاء السفير السوري في تركيا: تم استدعاء السفير السوري الى تركيا في 9 نيسان 2012 بعد أن أطلقت قوات النظام النار على مدنيين في الطرف التركي.
بدء التعاون الأمريكي التركي: شرعت تركيا في أغسطس 2012 لعقد عدد من اجتماعات رفيعة المستوى مع الولايات المتحدة لإيجاد بدائل سياسية للأسد.
دعوة لإقامة منطقة عازلة في سورية: دعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السابع عشر من شباط 2016 إلى إقامة منطقة عازلة في شمال سورية فيما قوبلت هذه الدعوة بالرفض من قبل حلف الشمال الأطلسي والولايات المتحدة،
تأزم المشهد العسكري بين تركيا ونظام الأسد
لم تشهد طيلة الأعوام الست الأولى للثورة السورية صداماً عسكرياً بين النظام وتركيا، إلّا أنها لم تخلو من تحرش الأول ضد المدن الحدودية التركية، كما أنها دعمت عدد من المنظمات الإرهابية التركية التي نشطت في جنوب البلاد، وفي المقابل نشطت تركيا في تقديم الدعم اللوجستي لقوى المقاومة الوطنية في حربها ضد النظام، كما اتهمتها دمشق بالتدبير لعدد من التفجيرات التي هزت العاصمة ومدن الساحل. فيما يلي أهم الأحداث العسكرية بين البلدين بعد بداية الثورة:

2011 واستضافة مؤتمرات المعارضة السورية: لم يشهد العام الأول للثورة تصعيداً عسكرياً بين البلدين، باستثناء اتهامات دمشق لأنقرة بانطلاق أعمال عسكرية ضد قوات النظام من الأراضي التركية، في المقابل عرف المشهد السياسي نشاطاً تركياً ملحوظاً كان أبرزه استضافة مؤتمر انطاليا في الثاني من حزيران، ومؤتمر الإنقاذ الوطني السوري في السادس عشر من تموز، وارهاصات تشكل المجلس الوطني فيما بعد.
حادثة طائرة فانتوم الحربية في حزيران عام 2012: قام الدفاع الجوي السوري بإسقاط طائرة فانتوم حربية فجاء الرد على لسان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردوغان الذي أعلن عن تغير قواعد الاشتباك مع قوات الأسد.
اشتباكات الحدود في تشرين الاول 2012: سقط عدد من صواريخ هاون على الاراضي التركية في الثالث من تشرين الاول مما أدّى الى مقتل خمسة مدنين في مدينة أقجة وردّ الجيش التركي بقصف مواقع جيش النظام على طول بجموع 87 مرة خلفت مقتل 12 جندي سوري وتدمير عدد من آليات النظام. واستمرت تحرش قوات الأسد بمدن وقرى الشريط الحدودي طيلة شتاء عام 2013.
تفجيرات الريحانية: انفجرت سيارتين مفخختين في 11 مايو 2013 في بلدة الريحانية، وقتل على أثرها 43 مدنياً فيما أصيب 140 اخرون في الهجوم. ولقد اتهمت الحكومة التركية دمشق بالتدبير للهجوم ودعم تحرير لواء الاسكندرون في العملية الإرهابية.
الغارات الجوية في اب 2013: قام طيران النظام السوري في الثلاثين آب بقصف مخيمات اللاجئين على الحدود السورية التركية مما أدّى الى استشهاد خمسة مدنيين سوريين، وقد أشارت تقارير النشطاء السوريين إلى احتمالية استخدام غاز الكلور في الهجوم حيث ظهرت مشاكل في التنفس عند عدد من المصابين.
حادثة المروحية في 2013: أسقطت طائرات تركية في السادس عشر من حزيران مروحية سورية على الحدود السورية التركية ووفقاً لتصريحات الرسمية التركية قامت المقاتلات التركية بإسقاط المروحية بعد دخولها المجال الجوي التركي وعدم امتثالها للتحذير التركي.
إسقاط مقاتلة سورية في اذار عام 2014: أسقطت طائرة حربية تركية طائرة سورية طراز ميغ 23 في الثالث والعشرين من آذار بعد انتهاكها المجال الجوي التركي.
نقل ضريح سليمان شاه: قامت قوات الجيش التركي في ليلة 21-22 شباط بالتوغل في سورية من خلال كوباني لاجلاء 38 عسكري في الحامية العسكرية التركية التي تحرس ضريج سليمان شاه ونقل رفاته لموقع مختلف، وقد نددت وزارة الخارجية السورية العملية معتبرته اعتداءً على سيادة البلاد.
إسقاط طائرة بدون طيار سورية في ايار عام 2015: قامت مقاتلة تركية من نوع اف16 في السادس عشر من أيار بإسقاط طائرة بدون طيار إيرانية الصنع باسم مهاجر بعد أن انتهكت المجال الجوي التركي في محافظة هاتاي.

أسباب دخول الجيش التركي في سورية

وقف العمليات داعش الإرهابية في تركيا والقضاء على آخر وجود له على الحدود السورية التركية. (انظر إلى التسلسل الزمني لأهم العمليات الإرهابية التي عصفت بتركيا منذ عام 2015)
إيقاف تمدد حزب الاتحاد الديموقراطي غربي النهر ومنعه من وثل كانتون عرفين ببقية نفوذه إلى شرق النهر.
استعادة هيبة الجيش التركي بعد فشل انقلاب الخامس عشر من تموز وإلهائه بذات الوقت عن مجريات العملية السياسية التركية.
تهيئة الظرف الأمني المناسب لإقامة منطقة عازلة في شمال سورية.
استعادة زمام المبادرة في الملف السوري وانتهاز التقارب مع روسيا في تثبيت قدم تركية في الجغرافيا السورية.

سيناريوهات دخول الجيش التركي في سورية
 
أعلنت تركيا في الرابع والعشرين من آب أوغسطس عن انطلاق عملية عسكرية لتحرير مدينة جرابلس من "داعش"، حيث رصد عبور عدد من الآليات التركية من مدينة قرقميش الحدودية إلى داخل الأراضي السورية. ولقد أمّن الجيش التركي الغطاء الجوي والدعم اللوجستي لـ "درع الفرات" الذي تولّى بدوره مهمة العمليات البرية. وإذ أن حدود تدخل الجيش التركي سترسمه ردود أفعال كل من روسيا إلّا إنه يشكّل منعطفاً مهماً في الأحداث التي تشهدها الساحة السورية.

لا يمكن اعتبار هذا التدخل نتيجة لاتفاق نهائي في سورية، بل هو مقدمة لمرحلة جديدة يتحتم على جميع الأطراف الفاعلة فيها التعامل بعضها مع بعض بطريقة مختلفة، كما أنها تضيف ثابتاً جديداً على المعادلة الدولية والإقليمية للصراع السوري التي لا تفتأ أن تزداد تشعباً وتعقيداً. فيما يلي محاكاة لأهم السناريوهات التي قد تواجه دخول الجيش التركي في سورية.

امتحان للمعارضة السورية

تجد المعارضة السورية بشقيها السياسي والمقاومة الوطنية في ميدان المعركة أمام العديد من التحديات والفرص بعد دخول الجيش التركي شمال البلاد، ويأتي على رأس هذه الفرص:

تمكينها عسكرياً من طرد تنظيم داعش خارج المناطق التي حررتها قبل 4 أعوام.
الاستفادة من الغطاء الجوي لسلاح الجو التركي وما ينتج عنه تلقائياً من حظر جوي في مناطق وجود عناصر الجيش التركي.
الاستفادة من الخبرات العسكرية التركية في قيادة المعارك وتدريب الكوادر العسكرية لدى قوى المقاومة الوطنية.
استثمار دخول الجيش التركي في تعزيز المطالب المنادية بإقامة منطقة عازلة في الشمال.
استثمار تلبية الأولوية الأمريكية في محاربة تنظيم داعش لتحسين تموضع المعارضة السورية دولياً.

أمّا على صعيد التحديات:

خفض الطاقة التعبوية على جبهات حلب والساحل لقوى المقاومة الوطنية.
إدارة العلاقات البينية مع المكون الكردي في ظل غياب قنوات تواصل فعّالة مع مكوناته السياسية عدا الاتحاد الديموقراطي.
إدارة المناطق المحررة وإنشاء مجالس الإدارة المحلية وعودة الخدمات الأساسية للمواطنين.
الحفاظ على الشراكة مع تركيا دون الوقوع في فخ القيام بدور الوكيل المحلي لها.
ويكتمل المشهد السياسي والميداني بتوصل الولايات المتحدة وروسيا إلى إقامة غرفة عمليات مشتركة، ووقف إطلاق نار، وإدخال مساعدات إنسانية عاجلة إلى المناطق المحاصرة، بالإضافة لإلزام سلاح جو النظام بعدم قصف مواقع القوى المهادنة. وإذ تشمل الصيغة الحالية جميع القوى المقاتلة في سورية باستثناء داعش وجبهة فتح الشام، إلا أن تطوره الطبيعي سيفضي إلى ضم كل القوات الخارجة عنه في المستقبل وعلى رأسها قوى المقاومة الوطنية التي لا تحظى بظهير دولي يحميها من بطش الروس وتهاون الأمريكان.

ملاحظات
من المبكر جداً الخلوص إلى توصل تركيا وروسيا إلى اتفاق نهائي في سورية، فالهوامش التي يخلقها استمرار وجود داعش في سورية يتيح الفرصة لتركيا في إعادة تموضع نفسها في الملف السوري،
لا يوجد ما يدفع أنقرة للاتفاق مع دمشق، حيث لا يوجد للنظام ما يقدمه لتركيا في محاربة الاتحاد الديموقراطي، كما أن أي اتفاق بينهما يقتضي استمرار الأسد في الحكم وهو ما يتعارض مع رؤية حكومة العدالة والتنمية لمستقبل جارتها.
لم يطرأ تغيير جذري على السياسة الخارجية التركية فالتصريح بقبول ببقاء الأسد حتى إنتهاء المرحلة الانتقالية ليس جديداً، وهو بمثابة مجاراة للتوافق الدولي حول القضية.
لا يوجد خلاف أكبر بين تركيا وروسيا وإيران من مستقبل سورية ولكن لكل منها مصلحة في تهدئة التوتر الحاصل بينها ومناطق التقاء خارج سورية، فلأنقرة وموسكو مصالح اقتصادية مشتركة لا تفترض بالضرورة التوصل إلى تفاهم في سورية لأجل تحقيقها، وكذلك الأمر مع طهران.
لم تعد ترى تركيا الملف السوري إلا من منظار حل القضية الكردية، إلّا أنه من المبكر على روسيا مقايضتها عليها، خصوصاً مع ورود بند كامل حول عدم التعرض للاتحاد الديموقراطي في الاتفاق الأمريكي الروسي.
ستقوم تركيا بتقديم بعض التنازلات في سورية كإثبات حسن نية وقد تسبق طهران وموسكو بذلك ولكن دون وجود ضمانات أن تقوم الأخيرتان بتقديم أي تنازلات في المقابل.
الأولوية الأمريكية في سورية محاربة تنظيم داعش والقاعدة، ولا ترى في دخول الجيش التركي تهديداً لتحقيق هذه الأولوية ما دام ينحصرفي محاربة التنظيم.
لا يثق أوباما بأهداف تركيا، إلّا أنه غير قادر على الإخلال بعلاقة بلاده بشكل كامل معها، وبالتالي من المتوقع أن يعمد إلى أساليب غير مباشرة في التضييق على أنقرة كدعم الاتحاد الديموقراطي بما يحد من تحركات الجيش التركي في سورية
لا يوجد توافق كامل ضمن مؤسسات الإدارة الأمريكية حول أهدافها في الملف السوري، وإذ لا يوجد شك حول تغلب رؤية البيت الأبيض على باقي الرؤى، إلّا ان اختلاف وجهات النظر يتيح بعض الفرص لتركيا للتحرك داخل سورية.

اقرأ المزيد
٣ سبتمبر ٢٠١٦
أزمة المرجعية وأثرها في الثورة السورية

يتداخل مفهوم الثورة في الأدب السياسي بشدة مع مفاهيم أخرى مقاربة كالانقلاب والانتفاضة والعنف والتمرد والفتنة والفوضى، كما تمتد جذورها كظاهرة إنسانية عميقا في تاريخ الإنسانية وهي ملازمة على الدوام لنشأة النظم السياسية وتطفو على السطح كلما جنحت هذه النظم عن إطار وحدود مشروعيتها ومالت السلطة فيها إلى الاستبداد والديكتاتورية.
ومن الواضح أنه لايمكن أن نطلق صفة الثورة كثيراً على الانتفاضات الكبرى في التاريخ الإنساني إلا من خلال قياس مدى قدرتها على إحداث انتقالات نوعية عميقة في بنية المجتمع مادياً من خلال الاقتصاد والتنمية، ومعنويا من خلال نظام سياسي، ونخبة جديدة وتكريس منظومة قيم اجتماع جديدة، بمعنى آخر إمكانية هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى على اكتساب مضمونا ثوريا من خلال قدرتها على التأسيس لمتغيرات جديدة تعيد رسم خارطة موازين القوى في المجتمع وفق رؤية جديدة.
وفي هذا السياق يقول الدكتور خالد المعيني المتخصص بالفلسفة السياسية في كتابه "كي لاتُسرق الثورات": " إن الثورة الحقيقية تقوم على ثلاثة ركائز:
1- فكر خلاّق تشتقه عقول المفكرين الذين يمثلون عصارة وضمير العقل الباطن لمعاناة شعوبهم على أن يستند هذا الفكر على قضية عادلة.
2- نخبة شجاعة ومنظمة تتبنى هذا الفكر، تمتلك رؤية تنفيذية وتخطيطا سليما
3- جماهير واعية بجوهر قضيتها
ويضيف: "إن من شأن التخطيط السليم أن يزيد من فرص نجاح الثورات ويقلص من احتمالات فشلها وانكفائها، وإن عدم وجود رؤية واضحة وتحليل دقيق لكافة مستويات الصراع، أو على أقل تقدير وجود قدرة على إدارة صفحات الصراع وما هي الخطوة القادمة فإنّ ذلك سيؤدي حتما إلى ثلاث نتائج كارثية:
1- هدر الطاقات
2- هدر الزخم
3- هدر القوة
وهذا التوصيف الذي بيّنه الدكتور المعيني هو تماما ما يحدث الآن في الثورة السورية، (1)، وبناء عليه فإنّ المسؤولية الأكبر في الوصول إلى هذه الحالة الحرجة للثورة السورية تقع على عاتق النخب والمرجعيات الدينية والسياسية.. الخ .
وتتحمل المرجعية الدينية مسؤولية أكبر من تلك التي تتحملها النخب السياسية وغيرها، وذلك لأنها الأكثر تأثيرا في الواقع السوري لاعتبارات عديدة سنأتي على ذكرها في موضع آخر من البحث.

المبحث الأول : مفهوم النخبة والمرجعية
يعرّف المفكر الإسلامي عمر عبيد حسنة (2)، النخبة بأنها تلك الطليعة من الناس التي تعتبر أن الانتماء إلى النخبة تكليفا قبل أن يكون تشريفاً، والتي تعيش شعوراً وإلحاحاً داخلياً يمدها بطاقة التحمّل لمواجهة الواقع السيئ في المجتمع، وتكابد من أجل تغييره نحو الأحسن.
ولا يشترط حسنة أن تكون هذه الطليعة بالضرورة من العناصر التي تنتمي إلى تلك النخبة من العناصر المثقفة ومتولدة من نخبة المثقفين ثقافة أكاديمية فقط، فكل التخصصات المعاصرة لها نخبة متميزة ومبدعة سواء أكانت تعتمد على العقل أو قوة الساعد، والأهم أن عناصر هذه النخب يجمعها همُّ واحدٌ، وهو التغيير لتحقيق حياة أفضل لمجتمعاتها.
وفي هذا الإطار يتفق الكثير من منظري علم الاجتماع والسياسة على تقسيم النخب إلى أربعة أقسام
1- نخب سياسية: وتتمثل بالسلطة الحاكمة التي بيدها مقاليد الحكم
2- نخب دينية: وتتمثل إسلامياً بالعلماء والمراجع ومسيحياً برجال الكنيسة ويهودياً بالحاخامات.
3- نخب اجتماعية: وهم قادة الرأي العام في المجتمع والمؤثرون فيه
4- نخب ثقافية: وتمثل المفكرين والعلماء بمختلف المجالات والنشطاء السياسيين
وبهذا المعنى تكون النخب الدينية "المرجعية اصطلاحاً" المقصودة من البحث أحد أقسام النخب الرئيسة في المجتمع، ويزيد دورها وينقص بحسب طبيعة المجتمع، وبالتالي فهي تكتسب أهمية كبيرة جدا في المجتمعات المتدينة، كالبلدان العربية ومنها سورية طبعا.(3).
المبحث الثاني : أزمة المرجعية وأثرها في الثورة السورية
عانت الثورة السورية ومنذ انطلاقتها من أزمة حادة تمثلت في غياب دور النخب بشكل عام في قيادة الحراك الثوري السوري السلمي، تاركة الجماهير وحدها دون إرشاد أو توجيه، فريسة لقبضة النظام الأمنية من جهة وهم - النخب- إما خائفون أو حائرون، ومن جهة أخرى فريسة لأسماء وهمية غير معروفة في معظمها كانت تقود ما سمي بالتنسيقيات المحلية التي كان لها دور كبير في الحراك عبر صفحات الفيس ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقد كانت هذه التنسيقيات تدعو إلى التظاهر وتحرّض عليه وتضع أسماء "الجمعات" والهتافات وتحدد ما سيكتب على اللوحات ..الخ.
ولو سألت اليوم أيا من الأفراد الذين كانوا يعملون في الكثير من هذه التنسيقيات عن المؤسسين الحقيقيين لها لما عرفوا أكثرهم، كتنسيقية دوما على سبيل المثال، كما أن كثيراً من ممثلي التنسيقيات كانوا لا يعرفون بعضهم أيضا إلا عبر أسماء وهمية لا يمكن التأكد منها، وهذا ليس بشكل عام وإنما في الغالب، وقد ذكر ذلك غير ذي واحد من جماعة التنسيقيات.(4)
وليس هنا المقصود لوم "الثوار" على وجود مثل هكذا تجاوزات أو اختراقات، بقدر الإشارة إلى التقصير على مستوى النخب السورية المعروفة في إدارة الثورة بالشكل الصحيح والابتعاد بها عن "مجاهيل" أرادوا لها التيه والضلال مستغلين قضيتها العادلة لتحقيق مصالح وغايات مشبوهة.
وبعد فترة صراع سلمي خاضته جماهير الثورة بشكل شبه منفرد لمدة تسعة أشهر أو تزيد، ونتيجة لظروف كثيرة داخلية وخارجية، ليس هنا مقام بحثها، تحولت الثورة إلى الصراع المسلح مع النظام وهنا بدت الحاجة مضاعفة لوجود نخبة (مرجعية) لتوجيه هذا الصراع وتأطيره ضمن الأهداف العامة للثورة السورية للخروج بالبلاد إلى بر الآمان.
والواقع أن هذه المرحلة شهدت ظهور نخب ومرجعيات كثيرة، إلا أنها لم تكن معروفة بشكل واضح لدى كثير من شرائح المجتمع السوري، بينما كان هناك تراجع لنخب كثيرة معروفة دينية وسياسية وحتى عسكرية، جهرت أخيراً بخلع عباءة الخوف من النظام وبطشه إذا صح التعبير، لتقف إلى صف الجماهير السورية المطالبة بحقوقها المشروعة بشكل واضح، لكنها بقيت مشتتة ولم تأخذ دورها المطلوب.
وقد أولينا في هذا البحث المرجعية الدينية في سورية الأهمية القصوى عن غيرها من النخب دون التقليل من دور تلك النخب، وذلك لعدة أسباب أهمها:
1- كل الشعب السوري الذي شارك بالصراع المسلح ضد "نظام الأسد في سورية" من أهل السنة والمتدينين في سورية.
2- معظم الفصائل العسكرية السورية ذات توجه إسلامي على اختلاف مناهجها ومدارسها الفكرية.
3- عدم وجود أحزاب سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة لحشد قوى الجماهير وتوجيه طاقاتها في سورية قبل الثورة.
4- الزخم الأكبر للثورة خرج من المساجد وذلك قبل تحولها إلى مسلحة.
5- معظم المشاكل والمطبات التي تعرضت لها الثورة جاءت من "القوى الإسلامية" إذا صح التعبير، نتيجة خلافات استشرت فيما بينها لأسباب مختلفة.
وبعد هذا التفصيل لابد من الإشارة هنا إلى نقطة غاية في الأهمية وهي أن أزمة المرجعية في الثورة السورية ليست غيابها وإنما تعددها واختلافها وتضاربها فيما بينها، وقد استفاد أعداء الثورة من هذا الواقع أيّما إفادة، الأمر الذي أطال عمر نظام الأسد في سورية وزاد من مأساة الشعب السوري.
إذا لدينا خطان نسير بهما في هذا البحث وهما:
1- المقصود بالمرجعية هنا هو فقط المرجعية الدينية وليس السياسية أو العسكرية أو..الخ .
2- أزمة المرجعية في الثورة السورية ليست عدم وجودها، وإنما بتعددها واختلافها وعدم توحدها أو قدرتها على إيجاد صيغة للتنسيق تضمن من خلالها حلّ الملفات الثورية بما يخدم الثورة والشعب السوري.
وبناء على ماذُكِر ونظراً إلى واقع الحال يمكن تقسيم المرجعية الدينية في سورية إلى قسمين:
1- المرجعية القديمة التقليدية ومنها من كان خارج سورية لأسباب متنوعة، ومنها من كان داخل البلاد، وقد تأخر معظمهم بالانضمام لركب الثورة لأسباب مختلفة وكثيرة أيضا.
2- المرجعية الحديثة التي أفرزتها الثورة، وكان معظم رموز هذه المرجعية في سجون النظام، وكان لأنصارهم المساحة الأكبر من المشهد العسكري السوري.
أولا - أزمة المرجعية وأثرها على المستوى السياسي
تشكل مجالس الشعب أو ما يسمى "البرلمانات" في جميع الدول صمام الأمان والضمان المزدوج للأمن والسلم المجتمعي في جميع الدول الحديثة.
ويعتبر بعض فقهاء القانون أن البرلمان هو تعبير عن أسلوب لمشاركة المواطنين في الحياة السياسية، ويعتبره البعض الآخر مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية.
وفى الحقيقة، فإن كلا المعنيين يكمل الآخر، ولكنهما غير متلازمين. فمشاركة المواطنين في الحياة السياسية قد تأخذ صوراً متعددة، حسب الظروف الثقافية والتقاليد الاجتماعية وطبيعة الدولة.
وبرغم أن أهم وأحدث صور تلك المشاركة هي اختيار المواطنين مجموعة من النواب الذين يمثلونهم ويعبرون عن آرائهم، أي تكوين البرلمانات المنتخبة، إلا أن بعض المجتمعات قد تستعيض عن ذلك بأساليب أخرى لذلك فتعمد الى تشكيل مجالس استشارية تضم مجموعة من القيادات الاجتماعية والرموز والشخصيات العامة بغرض التشاور في شؤون الحكم.
والمهم أن للبرلمان ثلاثة وظائف رئيسة وهي: (5)
1- التشريع
2- الرقابة على الحكومة
3- تمثيل الشعب أمام الحكومة
والبرلمانات تكون في ظل دول مستقرة، بينما في الحالة السورية التي تشهد ثورة واضطرابات وصراع دموي مستمر منذ سنوات، فإنّ المرجعية تأخذ دور البرلمان لناحية المهام التي تضطلع بها أمام من يمثل الثورة السورية في المحافل السياسية، وبالتالي فإن تعدد المرجعيات واختلافها وعدم إيجاد ألية مناسبة تجمعها في جبهة واحدة، الأمر الذي يؤدي إلى عدم استقرار الكيانات السياسية الممثلة للثورة السورية وانقسامها ما ينعكس سلبا على الشعب السوري وثورته.
فمجلس الشعب مثلا يتشكل من تيارات وأحزاب مختلفة ومتناحرة فيما بينها ولكن تواجد هذه الأطراف المتناحرة في جبهة واحدة، ضمن الآلية المتفق عليها دولياً للمجلس، تجعل منه جسماً واحداً يمثل الأمة ويحميها من التفكك، ناقلاً الصراع من الشارع إلى قبة المجلس، ومحولاً إياه إلى آلية بناء بدلا من بقاءه في الشارع منتجا الفوضى والدمار.
وحتى ندخل في الإطار العملي نطرح مثالا واقعيا، ففي الفقرة الثالثة من بيان حركة أحرار الشام الإسلامية بتاريخ 2016/04/16 تحت عنوان "بيان بشأن محادثات التفاوض في جنيف" جاء الآتي:
"إنّ الأداء الضعيف والمتخبط للهيئة -المقصود هيئة التفاوض العليا- مع ضعف الشفافية وغياب آلية اتخاذ القرار المنضبطة بمرجعية واضحة يزيد الهوة بين الهيئة وبين الشارع الثوري بجميع مكوناته المدنية والعسكرية"*
وفي 2016/04/19 أعلن السيد رياض حجاب رئيس هيئة التفاوض العليا تعليق المفاوضات، وفي نفس اليوم أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانا يثمن دور هيئة التفاوض ويثني على انسحابها**.
من جهة ثانية فقد كان هناك تفاجؤٌ واضحٌ من قبل كبير المفاوضين في هيئة التفاوض، محمد علوش من بيان "الأحرار" حيث رد بقوله:" شكرًا لإخواننا، أنتم موجودون في غرفة يوجد ممثل لكم فيها، ويتم إطلاعكم على كل التفاصيل مع بقية الفصائل واستشارتكم فيها".
وتابع: "أعلنت لكم قبل ذلك بطلب إشعال الجبهات، وقد اشتعلت، فلا ترقبوا في النظام إلًا، ولا تنتظروا منه رحمة، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان".
وختم قوله “نحن معكم جميعًا، ولن نقبل بأي تنازل عن أهداف الثورة، أنا شخصيًا مؤيد لأي موقف تجمع عليه الفصائل مهما كان هذا الموقف، اتفقوا على موقف وأنا خادم لكم".(6)
وبناء على ما سبق يتم لحظ ثلاثة أمور:
1- لم يكن هناك تنسيق بين مرجعية أحرار الشام الإسلامية ومرجعية المجلس الإسلامي السوري من جهة، وبين مرجعية الحركة والكيان السياسي الممثل للمعارضة والثورة السورية في جنيف من جهة أخرى.
2- عدم نية الكيان السياسي للثورة السورية الانسحاب من مفاوضات جنيف قبل بيان حركة أحرار الشام، وردّ علوش كان واضحاً ومفاده لاتتذرعوا بخروقات النظام لعرقلة العملية السياسية، فلم يطالبكم أحد بالالتزام إن لم يلتزم النظام، وهناك آخرون غيره أكدوا ذلك.
3- يحُسب لرئيس هيئة التفاوض السيد رياض حجاب تدارك الموقف وتعليق المشاركة بدلاً من الانسحاب تاركا الباب موارباً للعودة، ومفسِحاً المجال لتفاهم المرجعيات.
و هناك أمثلة كثيرة يمكن طرحها وتحليلها تبين تأثير أزمة المرجعية على استمرار تخبط الواقع السياسي للثورة السورية، وخلال جميع مراحل الثورة، من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة، ولكن لا تتسع هذه الورقة البحثية لسرد تفاصيل كل ذلك.

ثانيا: أزمة المرجعية وأثرها على المستوى العسكري
رغم خطورة تعدد المرجعيات في الثورة السورية كما ذكرنا على الجانب السياسي للثورة، إلا أن خطورتها على الجانب العسكري أخطر وأكبر، لأنّ هذا التعدد والاختلاف الناجم من أسباب مركبة (منهجية داخلية وسياسية خارجية) زاد من حدة الاختلاف وانتقل به من الفكر إلى السلوك؛ الأمر الذي أهدر الكثير من الدماء والطاقات التي كان من الممكن تكييفها واستثمارها في خدمة الثورة السورية وتحقيق أهدافها.

أهم وأبرز المرجعيات الدينية (الثورية) المؤثرة على الساحة السورية
بالطبع فإن بحثنا هذا لن يتطرق إلى المرجعيات الدينية غير السورية (العابرة للقارات) وإن كان لها ارتباط قوي بالبحث، ولكن لم يتم دراستها لسببين:
1- لأن عنوان البحث هو أزمة المرجعية في الثورة السورية، وتلك المرجعيات لاتعترف بثورة سورية ولا يوجد مفهوم للثورات في معظم أدبياتها، وهذا لايعني المواجهة العنيفة معها، وإنما هناك أساليب كثيرة للتعامل معها ليس هذا مجال الحديث عنها.
2-جميع المرجعيات الدينية السورية، يمكن أن تلتقي حول عدد كبير من النقاط المشتركة ولأسباب كثيرة، منها البيئة الاجتماعية والأرض والمجتمع ..الخ.
وبناء على ما تقدم يمكن تقسيم المرجعيات الدينية الثورية في سورية إلى مرجعيات فكرية حركية ومرجعيات فكرية غير حركية .
أولاً- المرجعيات الفكرية الحركية
1- مرجعية جيش الإسلام
2- مرجعية أحرار الشام
3- مرجعية فيلق الشام
4- الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام
ثانياً: فكرية غير حركية
1- المجلس الإسلامي السوري ككيان وليس كمكونات
2- الأخوان المسلمين
3- حزب التحرير
وبالطبع فإن هناك مدارس مختلفة أيضا ضمن هذه المرجعيات، ولكن اكتفينا بالتصنيف العام لإيصال فكرة الاختلافات وتبسيطها والوقوف على أبرز نتائجها.
وقد تعددت مستويات الاختلاف والخلاف بين المرجعيات الدينية المختلفة وقد أخذ ثلاثة أشكال:
1- الاختلاف بين المرجعيات الدينية الحركية
2- الاختلاف بين المرجعيات الدينية غير الحركية
3- اختلاف المرجعيات الحركية مع المرجعيات غير الحركية
هذا التعدد والاختلاف كان له نتائج خطيرة على المستوى العسكري للثورة السورية منها
1- إعاقة تشكيل جيش وطني سوري واحد يكون ذراعاً قويا للثورة السورية
2- اقتتال بشكل متقطع بين مختلف المرجعيات الحركية بين بعضها من جهة وبين فصائل عسكرية ثورية محسوبة على الجيش الحر وأخرى محسوبة على تلك التنظيمات.
3- تململ الحاضنة الشعبية وانفضاض الناس عن الثورة
4- خروج القرار الثوري السوري من أيدي السوريين إلى لاعبين إقليميين ودوليين بشكل كبير
وماذكر يؤيده ويؤكده غير واحدٍ من المسؤولين العسكريين في الجيش الحر الذين عايشوا ذلك وجربوه في الميدان، وخاصة فيما يتعلق بتململ الحاضنة الشعبية وعدم القدرة على تشكيل جيش وطني حتى الآن.
وفي هذا الصدد نذكر مقتطفات من تجارب بعض من قابلناهم في هذا المضمار:
العقيد فاتح حسون قائد "حركة تحرير الوطن" أكد أنّ الاختلاف والتناحر بين المرجعيات الدينية ينعكس على الحاضن الشعبي سلباً، مع عدم نكران أن لكل من التيارات العاملة في سوريا حاضنته الشعبية، وبالتالي ستنعكس مشاكل كل تيار على الحاضنة الشعبية للتيار الآخر".
كما بيّن أنّ الحديث عن تشكيل جيش وطني يعتبر هدفاً استراتيجياً يحتاج لكثير من تباحث واتفاق وتذليل للعقبات التي تزداد يوماً بعد يوم.
في حين يذكر العميد أحمد بري قائد المجلس العسكري في حماة أنّ الكثير من الممارسات ومنها إطلاق النظام لما يسمى الإسلاميين و"داعش" وبعض ممارسات الجيش الحر أيضا أدت إلى انخفاض الحاضنة الشعبية للثورة وتململها.(7)
ويضيف الأستاذ إبراهيم الحسون "عضو المجلس الإسلامي السوري" أنّ تعدد المرجعيات واختلافها قد ساهم أيضا بعرقلة الحل السياسي الذي قد يكون مخرجا ومختصرا لوقت كثير قد تستمر فيه الثورة، كما أدى إلى تغيير الدور الحقيقي للدين من شحذ الهمم والصبر إلى بث التفرقة. (8)

المبحث الثالث : رؤية في بناء مرجعية واحدة للثورة السورية
من خلال استعراض تاريخ الثورة السورية بأحداثها ومؤسساتها وشخوصها ومخاضها العسير خلال ست سنوات خلت، إلا أنّه لايزال هناك طيف واسع شعبي ونخبوي يتفق على مبادئ ثورية عليا مشتركة تشكل الإطار العام لمعظم القوى السورية بشقيها الثوري والمعارض، وتجد هذه المبادئ واضحة في:
1 - المبادئ العامة للهيئة العامة للثورة السورية
2- الميثاق العام للائتلاف الوطني السوري
3- ميثاق الشرف الثوري الذي وقعت عليه كبرى فصائل الثورة السورية
4- المبادئ الثورية الخمسة التي أعلن عنها المجلس الإسلامي السوري.
وجميع هذه القوى السورية التي تشمل السياسي والعسكري والديني اتفقت على مبادئ عامة متقاربة كثيرا، ثمّ أتت مؤخرا المبادئ الثورية الخمسة التي أعلن عنها المجلس الإسلامي السوري وقد حازت على إجماع كبير من غالبية قوى الثورة والمعارضة السورية وهذه المبادئ هي: (9)
1- إسقاط بشار الأسد وكافة أركان نظامه، وتقديمهم للمحاكمة العادلة.
2- تفكيك أجهزة القمع الاستخباراتية والعسكرية، وبناء أجهزة أمنية وعسكرية على أسس وطنية نزيهة، مع المحافظة على مؤسسات الدولة الأخرى.
3- خروج كافة القوى الأجنبية والطائفية الإرهابية من سورية، ممثلة بالحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، وميليشيا أبي الفضل العباس، وتنظيم الدولة.
4- الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً واستقلالها وسيادتها وهوية شعبها.
5- رفض المحاصصة السياسية والطائفية
ورغم تقديم المجلس الإسلامي السوري خدمة جليلة للشعب السوري وقواه الثورية ومعارضته السياسية عبر تمكنه من جمعهم على مبادئ شاملة وواضحة ومساهمته في تقديم خدمات كبيرة أخرى للشعب السوري وقضيته العادلة ليس آخرها المساهمة في إنجاح مؤتمر الرياض إلى حد ما، والذي انبثقت عنه الهيئة العليا للتفاوض، الأمر الذي يؤهله أن يمارس دور المرجعية الدينية والمرشد الرئيس للثورة السورية حتى وصولها إلى برّ الآمان وتحقيق أهدافها المنشودة.
ولكن هذه المرجعية رغم أهميتها فقد ظهر عجزها في عدد من المواضيع نذكر منها
1- عدم قدرتها على إيقاف سيل الدم والاقتتال المؤسف الذي جرى بين فصيلين يعترفان بمرجعيتها وموقعان على مبادئها الثورية الخمسة وهما؛ فيلق الرحمن وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية، رغم الجهد الذي بذله المجلس الإسلامي كمؤسسة للحؤول دون وقوع الاقتتال وتطوره إلى أنّ ذلك باء بالفشل.(10)
2- البعد الجغرافي الذي يبعدها عن الأرض السورية كمؤسسة وليس كأعضاء يضعف كثيراً من تأثيرها على الواقع الميداني المعاش على جميع المستويات وبالأخص على مستوى الفصائل العسكرية مما يجعل شرعي الكتيبة أكثر تأثيراً في كثير من الأحيان من مؤسسة المجلس الإسلامي السوري (11).
3- عدم تمثيل المرجعيات الحركية ضمن مؤسسة المجلس بشكل مباشر وحقيقي.
4- تأثير الدعم الخارجي من قبل الدول الداعمة للثورة بشكل غير متسق، تبعا لاختلاف المرجعيات والمدارس الدينية التي تعتمدها تلك الدول.
وبتجاوز هذه المعوقات يمكن لمؤسسة المجلس الإسلامي أن تلعب الدور الأكبر في ترشيد الثورة وضبط الثوار وصولاً إلى تحقيق أهداف وطموحات الشعب السوري، بدلا من أن تضيع ثورته وأبنائه بين إفراط مرجعية النظام الدينية وتفريط مرجعية تنظيم "الدولة الإسلامية".

المبحث الرابع: توصيات البحث
بداية تقصّد الباحث أن لا يدخل في أسباب الاختلاف بين المرجعيات والمدارس الدينية والفكرية لسببين:
1- معظم هذه الأسباب أصبحت معروفة ولاتخفى على أحد، وهي ستبقى موجودة وليس محل بحثنا هو توحيد هذه المرجعية وهذه المدارس، لأنّ ذلك سيكون ضرباً من المستحيل، وإنما الهدف هو البحث عن نقاط مشتركة تجمعها وهي كثيرة تمّ التطرق إلى بعضها آنفاً، وغاية سامية تسعى من أجلها تعود بالنفع الكبير عليها جميعا وعلى عموم الشعب السوري، الذي لاتعنيه هذه الخلافات بقدر ما يبحث عن هوية وانتماء جامع ومظلة كبيرة يركن إليها لتحميه من الدمار والانهيار.
2- معظم هذه المرجعيات اتفقت واجتمعت على مبادئ عامة - المبادئ الثورية الخمسة- وجدير بنا البحث عن أسباب تزيد من فرص استكمال البناء على ما تمّ الوصول إليه بدلا من الرجوع القهقرى، والبحث في الأسباب الخلافية التي أثبت الواقع قبل التاريخ أنّ بحثها يأتي في إطار المنطق السفسطائي الجدلي.
وهذا المنطق يمكن أن تفيد مناقشته وبحثه في أوقات قوة الأمة ومنعتها، لافي أوقات تتعرض فيه الأمّة والدين إلى خطر كبير وأعداء كثر يتربصون؛ الذين إذا ما انتصروا - لاقدر الله- فقد لا تستطيع الأمةّ النهوض من جديد لعشرات السنين وربما أكثر.
- توصيات البحث
1- عقد ورش عمل مغلقة ومستمرة تضم جميع المرجعيات الدينية (الحركية وغير الحركية) التي وقعت على المبادئ الثورية الخمسة لتوسيع مرجعية المجلس الإسلامي وتقويتها، والاتفاق على ميثاق وآليات محاسبة تجعل من مرجعية المجلس؛ مرجعية مؤسسية وليست شخصية، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العصمة للأمة وليس لأحد من أفرادها مهما علا شأنّه حيث قال:" (إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ")، رواه الترمذي وصححه الألباني .
2- بعد هذه الخطوة وتحقيقها يتم التوافق على إنشاء مراكز رئيسة للمرجعية الدينية (مؤسسة المجلس الإسلامي بحلتها الجديدة على سبيل المثال) في داخل الأراضي السورية المحررة.
3- تقوم المرجعية الجديدة بالإشراف الفكري والعقائدي على جميع الفصائل العسكرية المعارضة والثورية في أرض سورية والممثلة في المرجعية الدينية، بحيث تقوم هذه المرجعية الجديدة بتعين المسؤولين الشرعيين لدى جميع الفصائل، بمعنى أن يصبح الجانب الشرعي للفصائل من مسؤولية المرجعية بشكل مباشر.
4- عدم إقصاء شرعييّ الفصائل المحليين بل الاستفادة منهم وتأهيلهم من جديد بما يتناسب والحال الجديد وربطهم بالمرجعية الجديدة بشكل مباشر.
5- سعي المرجعية الجديدة إلى إقامة علاقات تعاون داخلية وخارجية انطلاقا من مبادئ الثورة الثورية وبالتعاون والتنسيق مع المكاتب السياسية والعسكرية لجميع فصائل وقوى الثورة، إضافة إلى سعي هذه المرجعية إلى إصلاح الشأن السياسي والعسكري للثورة السورية، بحيث نصل في وقت قصير نسبياً إلى ما يطمح إليه الشعب السوري الثائر عبر بناء مؤسسات ثورية قوية وقادرة على حمل مسؤولياتها تجاه جميع أبناء الوطن.

خلاصة
لا يخفى على أحد أنّ المرجعية الثورية السورية تضم أعلاماً وقامات كبيرة معروفة على مستوى العالم الإسلامي وليس السوري فحسب، ومع ذلك فإنّها تمارس الكثير من الأدوار السلبية لناحية تفرقها وعدم اتفاقها وتصلب البعض برأيه ومذهبه ضد الآخر على حساب مصلحة الشعب والوطن وكل يدعي أنّه الصواب وأنّه الحارس الأمثل للوطن والدين.
ويبدو أننا في عصر لا يمكن الوثوق به إلا بالمؤسسات وليس بالأشخاص كحراس للوطن والدين، فليس من أحد معصوم مهما علا شأنّه.
لذلك فإننا اليوم بحاجة إلى مؤسسة دينية مرجعية، تكون كمجلس شعب مؤقت يضم في داخله تيارات وأحزاب متناحرة ومختلفة، بحيث يتمّ حصر الاختلاف والتناحر تحت قبة المجلس، ليثمر خارج المجلس بناءاً للوطن وصوناً لكرامة المواطنين وهويتهم الجامعة.
وقد دخلت الثورة السورية عامها السادس لتثبت أمرين؛ الأول أنها يتيمة إلا من إرادتها لأنها تنتصر اليوم على محاولات كسرها، وكشفت أن نظام الأسد هو صورة لتقاطع مصالح دولية واقليمية لا وطنية سورية ولا عربية.
أما الأمر الثاني فهي بيضاء لم يستطع أحد تلويثها حتى الآن على الرغم من محاولات شيطنتها، وإلباسها ثوب الإرهاب تارة، وعدم الكفاءة تارة أخرى إلا أنها تثبت يومياً إصرارها على تحقيق أهدافها الحضارية الضاربة في جذور تاريخ شعبها الثائر.
وتأتي هذه المعطيات لتزيد بدورها من حجم المسؤولية الملقاة على كاهل المرجعية الدينية بالدرجة الأولى وتضعها أمام اختبار جدي لتجاوز خلافاتها البينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ سورية والارتقاء إلى مستوى نضال وتضحيات هذا الشعب العظيم.

اقرأ المزيد
٣١ مارس ٢٠١٦
حلم الفدرالية الكردي تنقضه وقائع الجغرافيا في سورية وديموغرافيتها

تزامنًا مع تصريحات روسية وأميركية ملتبسة بإمكان إقامة دولة فدرالية (اتحادية) في سورية، واستفادةً من حال الإنهاك التي أصابت أطراف الصراع السوريين، أعلنت قوًى سياسية كردية، في مقدّمتها حزب الاتحاد الديمقراطي "الكردي"، في اجتماع عُقد بمدينة الرميلان، بمحافظة الحسكة، في 17 آذار/ مارس 2016، قيامَ "الاتحاد الفدرالي" بين ما سُمِّيَ أقاليم "روج آفا" (غرب كردستان) و"أقاليم شمال سورية". وانتخب المجتمعون لجنةً من 31 شخصًا لوضع أُسس "الفدرالية" خلال ستة أشهر في مؤتمر تأسيسي يُعقد من أجل تصديقها. وأعلن زعيم الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، أنّ الكيان الفدرالي المذكور لن يقوم على أساس جغرافي، بل على أساس ديموغرافي (إثني). ويغطي الإقليم المنشود نحو 10% من أراضي سورية وثلاثة أرباع حدودها مع تركيا، وتسيطر عليه فعليًّا مجموعات تابعة للاتحاد الديمقراطي.


الطريق إلى الفدرالية

مع انطلاق الثورة السورية واتساع نطاقها، انضمّ جزء من الأكراد السوريين إلى الثورة وهيئات المعارضة، في حين انصرف جزء آخر إلى استغلال الوضع خدمةً لأجندات مختلفة. فقد أعلن الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب يساري - قومي متطرف أُسِّس عام 2003 ليكون بمنزلة فرع سوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، إنشاءَ "مجلس شعب غرب كردستان"، في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2011، وشرع في بناء جسم أمني وعسكري تضمّن "وحدات حماية الشعب" وجهاز شرطة (الأسايش)، فضلًا عن وحدات حماية المرأة. ويبلغ عدد هذه القوات مجتمعةً في الوقت الراهن نحو 50 ألف مقاتل. وقد سمح تشكيل هذه الأذرع الأمنية والعسكرية للحزب ببسط سيطرته على المناطق التي أخلاها النظام في أقصى شمال شرق سورية، ابتداءً من عام 2012.

استغل الحزب حالة الفراغ الناشئة عن انسحاب النظام، وأعلن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، إنشاءَ مناطق إدارة ذاتية في ثلاث مناطق هي: الجزيرة في أقصى شمال شرق البلاد، وعين العرب شمالًا، وعفرين في الشمال الغربي. وأقام في كلّ منها مجالس تحاكي الوزارات وقوّةً شرطيةً، في خطوة أثارت شكوكًا كثيرةً في الهدف النهائي الذي يسعى له أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي.

وبعد صعود تنظيم الدولة وتمدّده بين الموصل والرقة، لفت الأكراد انتباه الولايات المتحدة الأميركية التي قرّرت استخدامهم في مواجهة تنظيم الدولة، وأوجدت لهم دعمًا كبيرًا مكّنهم من الصمود في معركة عين العرب طوال أكثر من ثلاثة أشهر، ومن دحْر التنظيم بعيدًا عن المدينة في مطلع عام 2015. ومنذ ذلك الوقت، تحوّل الأكراد إلى طرف محلّي رئيس في الإستراتيجية الأميركية الخاصة بمواجهة تنظيم الدولة، كما أنهم استفادوا من التدخل العسكري الروسي ضدّ المعارضة السورية في أواخر عام 2015، وسيطروا على مناطق لا يقطنها الأكراد ولا مزاعم تاريخية لهم فيها؛ وذلك في إطار سعيهم لتحقيق تواصل جغرافي يُمكّنهم من إعلان إقليم فدرالي على أساسٍ جغرافي، أو على أساسٍ ديموغرافي، مثلما أعلن صالح مسلم. ويسعى الاتحاد الديموقراطي حالياً إلى بناء قوة عسكرية ضاربة (تصل إلى 100 ألف مقاتل) نتيجة توافر موارد اقتصادية مهمّة؛ وذلك بعد سيطرته على الحقول النفطية في الرميلان، ومعامل غاز في السويدية، ومحالج قطن في ريف الحسكة، إضافةً إلى سهول القمح وتجارة المواشي.


مأزق جغرافية الأكراد السوريين

على خلاف وضعهم في العراق، لا يقطن أكراد سورية منطقةً جغرافيةً محددةً، بل يتوزعون في مناطق واسعة من الجزيرة السورية التي استقطبت في مطلع القرن الماضي آلاف اللاجئين الأكراد الفارّين من تركيا بعد تمرّد الشيخ سعيد بيران عام 1925. وبلغ عدد المُهجّرين الأكراد إلى الجزيرة السورية خلال الفترة 1925 - 1943 نحو 130 ألف نسمة، أنشؤوا فيها مجتمعًا محليًّا يختلف جذريًّا عن "بنية المجتمع الكردي السوري التاريخية الشامية، والمندمجة في دورة حياة البلد، مثل الأكراد الأيوبيين في دمشق"[1]. لذلك اعتمدت الحكومات السورية، في العهد الوطني، سياسة مراقبةٍ حذرةٍ في تسجيل المهاجرين، وقامت حكومة خالد العظم بإحصاء استثنائي في محافظة الحسكة في تشرين الأول/ أكتوبر 1962، استند إلى سجلات قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945، واشترطت تلك الحكومات أن يكون المواطن مقيمًا في سورية منذ ذلك الوقت، فسجّلت 85 ألف مقيم في محافظة الحسكة، وجرّدت 25 ألف نسمةٍ جنسيتَهم. ثمّ ارتفع عددهم بمرور الوقت وبسبب الزيادة الطبيعية[2]. وقد استقر أغلب أكراد سورية على طول الحدود مع تركيا في ثلاث مناطق متباعدة عن بعضها هي المرتفعات الشمالية الغربية حول عفرين، وعين العرب في الشمال، والجزيرة في الشمال الشرقي.

ويفصل كانتون الجزيرة، الممتد بين المالكية ورأس العين، برزخ سكاني عربي واسع على امتداد 130 كيلومترًا عن الكانتون الكردي الثاني الواقع في عين العرب، تتوسطه مدينة تل أبيض ذات الأغلبية السكانية العربية. في حين يفصل الكانتونين الواقعين إلى الشرق من نهر الفرات شريطٌ من المدن والمناطق العربية الممتدة غربًا حتى شمال حلب، وصولًا إلى الكانتون الثالث في عفرين. ويضيق القوميون الأكراد ذرعًا بتناثر مناطق إقامة الأكراد السوريين، وتوزُّعهم في ثلاث مناطق على امتداد نحو 800 كيلومتر على الحدود مع تركيا ضمن عمقٍ ضحلٍ لا يتجاوز أحيانًا 3 كيلومترات[3]. غير أنّ التصوّر الرئيس لـحزب الاتحاد الديمقراطي وقوى قومية كردية أخرى يؤكّد ضرورة أن يكون هناك تواصل جغرافي بين المناطق الكردية[4]. وقد بدأ القوميون الأكراد يتداولون مصطلح "روج آفا" (أي كردستان الغربية) مؤخرًا للدلالة على مناطق سيطرة الأكراد السوريين؛ وذلك في محاولة للالتفاف على وجود الأغلبية العربية بين مناطقهم، بوصفها جزءًا من "كردستان الكبرى"، علمًا أنّ مصطلح "كردستان الغربية" لم يَرد له ذكرٌ في أرشيف الحركة القومية الكردية قبل أن يبدأ "الاتحاد الديمقراطي" استخدامه في الفترة 2003 - 2004[5].

لقد أوجدت الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضدّ تنظيم الدولة للقوى الكردية المغالية فرصةً على غاية من الأهمّية؛ وذلك في ما يتعلّق بتطلعاتها القومية لتحقيق التواصل الجغرافي المنشود بين كانتونات الإدارة الذاتية شرق نهر الفرات. فقد بذلت "قوات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ما في وسعها للسيطرة على مدينة تل أبيض لتجاوز الوجود العربي الذي يفصل بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، وشرع الحزب منذ سيطرته على المدينة، في منتصف عام 2015، في إنشاء مؤسسات إدارة محلّية فيها؛ مثل بيت الشعب، وقوات الأسايش، مقدّمةً لوضعها في قلب الإدارة الكردية، على الرغم من أنّ تل أبيض لم تظهر في الخرائط الكردية إلا مؤخرًا، إذ ظهرت أوّل مرة في خريطة نوري بريمو أحد قادة حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد شملت هذه الخريطة كامل الشريط الشمالي لسورية الممتد بمحاذاة الحدود التركية من المالكية شرقًا، حتى لواء إسكندرون غربًا (محافظة هاتاي التركية)[6].

أمّا غرب الفرات، فقد حاولت "قوات سوريا الديمقراطية" التي جرى تشكيلها كواجهة للتمويه على هويتها الكردية القومية بالتحالف مع عشائر عربية صغيرة، والتي تشكّل وحدات حماية الشعب عماد قوّتها، الاستفادة من التدخل العسكري الروسي الذي استهدف هزيمة قوات المعارضة السورية في ريف حلب الشمالي؛ وذلك من خلال التقدم شرقًا من عفرين والتمدد للاتصال بكانتون عين العرب الواقع شرق النهر. إلا أنّ هذا المخطط الطموح الذي يتطلب تنفيذه السيطرة على المنطقة الممتدة بين إعزاز وجرابلس تحول دونه عوائق عديدة أهمها المعارضة التركية الشديدة، ووجود تنظيم الدولة، فضلًا عن أنّه يتطلّب سيطرة القوات الكردية على كامل الحدود الشمالية لسورية التي تشمل مدنًا كبيرة يسكنها العرب؛ على غرار جرابلس ومنبج والباب ومسكنة ودير حافر، والسيطرة على مدن إعزاز وتل رفعت ومارع وأريافها في ريف حلب الشمالي، وهي معاقل مهمّة لقوات المعارضة السورية.


خاتمة

لا شك في أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي نجح، نتيجةً لسيطرته على بلدة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي الغربي، في تحقيق وصلٍ جغرافي بين كانتوني الجزيرة وعين العرب، وسوف يجهد مستقبلًا في وصل هاذين الكانتونين بكانتون عفرين شمال حلب، عندما يتراءى له أنّ الأوضاع الميدانية والسياسية مواتية، بخاصة في ظلّ حُظوته بدعم مشترك روسي - أميركي شجّعه على إعلان الفدرالية من جانبٍ واحدٍ.

وإذْ يحاول الحزب استغلال الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها سورية وسط التدافعات الإقليمية والدولية؛ لتحويل مطالب الأكراد السوريين من مطالب خاصة بحقوقهم الديمقراطية الثقافية والإدارية التي لا يختلف أكثر السوريون عليها اليوم - وخصوصًا أنّ الظلم وقع على الجميع في عهد النظام الزائل - إلى مطالب فدرالية قد تكون مقدّمة للتقسيم، فإنّ عليه أن يتجاوز مسألتين أساسيتين؛ أولاهما التعامل مع الوجود الديموغرافي العربي الكثيف في الخريطة الكردية المنشودة، وهذه المهمّة تبدو لنا صعبة التحقيق، زيادةً على تكلفتها التي قد تكون متمثّلة بمواصلة التطهير الإثني ضدّ العرب. وثانيتهما مرتبطة بمعارضة أكثر السوريين لأيّ محاولات لتقسيم بلادهم، ما يعني أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي، والقوى القومية الكردية التي تلفّ لفّه، بصدد تقديم وصفة لصراع عربي كردي طويل لن تكون الأزمة الحالية، من دون شكّ، سقفَه الزمني. وإذا أضفنا إلى ذلك وجود معارضة إقليمية قوية لأيّ مشروع انفصالي كردي، فضلًا عن معارضة مختلف الأطراف السورية له، فإنّ أمل نجاح هذا المشروع يغدو ضئيلًا، حتى لو توافرت له إمكانات الدعم الدولي (روسي- أميركي) وأيدته معادلات القوة القائمة حاليًّا؛ لأنّ الجغرافيا هي الأمر الثابت الوحيد في السياسة، في حين أنّ القوة متغيرة.

لقد كانت نقطة الضعف الكردية منذ بداية القرن متمثّلةً باستغلالها من جهة قوًى دولية في صراعاتها في الشرق الأوسط قبل التخلي عنها عند أول منعطف؛ ولذلك ينبغي عدم الاعتماد على ذلك اللقاء الأميركي - الروسي في دعم حزب قومي كردي متطرف لمحاربة داعش. وفي المقابل، تكون المواطنة الديمقراطية هي الضامنة لحقوق العرب والأكراد في سورية، ولكن لا يجوز انتقاد الأكثرية العربية بسبب أيديولوجيةٍ قوميةٍ لأحزاب حاكمة عاناها العرب وغيرهم، ولا يجوز كذلك الإصرار على صيغة أيديولوجية متطرفة من جهة القومية الكردية والتخلّي عن الوطنية السورية. فهذا ممّا لا يصلح أساسًا لتعايش عربي - كردي في إطار مواطنة سورية ديمقراطية شاملة. وإنّ هذه المواطنة هي الخيار الوحيد البديل من حربٍ مستدامةٍ يخسر فيها الجميع.


==================================================

[1] جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 282 - 284.

[2] المرجع نفسه، ص 721-724.                             

[3] حسين جمو، "أكراد 'جنوب السكة' سوريون يجرفهم الحنين إلى الشمال"، الحياة، 26/10/2013، في:

http://alhayat.com/Details/586213

[4] محمد ديبو، "تهجير عرقي أم انتهاكات؟ تل أبيض أم كري سبي!"، حكاية ما انحكت، 25/6/2015، في:

bit.ly/1dlnyd8

[5] باسم دباغ، "مفصل تل أبيض في الحرب السورية: رباعيّة تغيّر الخرائط"، العربي الجديد، 23/6/2015، في:

bit.ly/22JAdPv

[6] المرجع نفسه.

اقرأ المزيد
١١ نوفمبر ٢٠١٥
اجتماعات فيينا تدافع روسي للخروج من الورطة

 

أتى التصعيد الروسي الأخير في سورية كرد فعل وتكتيك سياسي وعسكري لإنقاذ النظام بعد أن توالت خسارته على الأرض، وقُوّض عمل مؤسساته الحكومية لصالح أجهزة الحرس الثوري الإيراني، وبات الأخير متفرداً وراضياً بنفوذه في مناطق ما يسمى سورية المفيدة. وعلى رغم من طبيعة تدخلها الطارئ وما يكشف من عورات للمنظومة الداعمة والموالية للنظام إلّا أن موسكو لن توفر جهداً في استثمار واقتناص الفرص المتاحة من أجل تحويل تدافعها الأخير إلى استراتيجية تمكّنها من الحضور بقوة في أي تسوية سياسية مستقبلية في سورية وإعادة نفوذها في المشرق العربي.

يُدرك الروس جيداً أن تدخلهم المباشر في ميدان المعركة دفع بشار الأسد للارتماء في أحضانهم بعد أن أعياه تدخل طهران المستمر والعنيف في شؤون إدارة مؤسساته الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يُفضي بطبيعة الحال إلى إمساك القيادة الروسية بشكل كامل بمصيره لأول مرة منذ بداية الأزمة السورية، وبالتالي إمساكهم بورقة تفاوض مهمة للغاية رغم رمزيتها. تقوم الاستراتيجية الدبلوماسية الروسية بشكل رئيس على تلويحهم وتلميحهم لاستعدادهم التخلي عنه نزولاً عند رغبة أطراف عديدة في المجتمع الدولي مقابل تحقيق مكاسب مستدامة تمكّنها من التحكم في مصير سورية ما بعد الأسد.

أهداف التدخل الروسي في سورية

تسعى روسيا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التالية في سورية:

1.      المحافظة على مؤسسة الجيش السوري ومحاولة إنقاذ استثمارها القديم والكبير في ضباطه وهيكلياته إضافة لعتاده ومنظوماته، وعلى رأسهم التركيبة الأقلّوية المؤسسة العسكرية.

2.      محاربة تنظيم "الدولة" الذي بات يشكل مهدداً حقيقياً لأمنها القومي لكُمونه الهائل في منطقة القوقاز ودول الجوار الروسي الجنوبي.

3.      الحفاظ على منفذها الأخير على البحر الأبيض المتوسط.

4.      التحكم في مستقبل خطوط الطاقة من غاز ونفط في المنطقة التي يُمكن أن تعبُر من الأراضي السورية.

5.      مُزاحمة الولايات المتحدة في إدارة شؤون المشرق العربي وما يترتب عليها من تخفيف الضغوط الاقتصادية عليها بهدف:

‌أ.       التخفيف من الحصار الاقتصادي الأوروبي والأمريكي عليها.

‌ب.     إيجاد اتفاق مع الفاعلين الرئيسيين لتحديد سعر النفط عالمياً.

اجتماعات فيينا

بدأت اجتماعات فيننا تحت عنوان "محادثات حول السلام في سورية" بدعوة روسية وأمريكية في الـ 23 من تشرين الأول 2015 حضره وزراء خارجية أمريكا وروسيا وتركيا والسعودية، واتفق فيه الحضور على تكثيف الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة السورية وعقد اجتماع دولي موسع يضم كافة الأطراف المؤثرة في الملف السوري بعد أسبوع. وبناءً عليه اجتمعت 17 دولة في الـ 30 من تشرين الأول، وأبرزها قطر، وإيران، وفرنسا، وبريطانيا، ومصر، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والمبعوث الدولي استيفان دي مستورا. وتمخض عن الاجتماع وثيقة جديدة باتت تعرف باسم بيان فيينا للسلام في سورية، وتنص الوثيقة المكوّنة من تسع نقاط على ضرورة إيجاد حل سياسي يحافظ على وحدة أراضي سورية وينهي أعمال العنف الدائرة فيها، كما أنها تدعو إلى تسهيل حوار سوري -سوري يفضي إلى نظام سياسي علماني يحمي حقوق جميع السوريين ويحافظ على مؤسسات الدولة السورية ويوحد الجهود "الوطنية" في محاربة الإرهاب.

اعترت اجتماعات فيينا غياب طرفي الصراع عنه، رغم حرص الدول الموقعة على بيانه الختامي على ضرورة اتكاء الحل السياسي على جهود سورية صرفه، كما أنّه أسس لمنطلق دولي جديد بديل عن بيان جنيف الذي اتخذه المجتمع الدولي قاعدةً لإتمام أي تسوية مستقبلية في سورية منذ عام 2012. وإذ تشير النقطة السابعة في البيان إلى استمرار العمل بموجب بيان جنيف ( )، إلّا أن السلوك الأمريكي والروسي يشيران بشكل واضح إلى تجاوزه لصالح بيان فيينا، ويظهر هذا التوجه بفجاجة في التصريحات الروسية ( ) في حين تدعي الولايات المتحدة ومعها الأمم المتحدة أن بيان جنيف لا يزال الهدف المنشود تحقيقه ولكن انطلاقا من محادثات فيينا هذه المرة.

كشف الاجتماع عن تشكّل ثلاثة فرق اتجاه موقفها من الأزمة، فريق تترأسه روسيا وفيه إيران ومصر وتؤيد الخلوص إلى نتائج تصب لصالح النظام السوري، وفريق تترأسه السعودية وفيه تركيا وقطر وفرنسا وتعترض بشكل واضح على سياسة موسكو وطهران في سورية، وفريق ثالث وعلى رأسه الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتتنطع للعب دور الوساطة بين الفريقين الأولين. وأوضح ما ترّشح عن الاجتماع نشوء توجه جديد للفصل في آليات التعامل مع المعارضة على معيار الاعتدال والإرهاب يحدده انصياع الكتائب لرغبة الروس والأمريكان في المشاركة في وقف إطلاق نار شامل وعدمه. وإذ تشير المعطيات الأولية لعدم رضوخ الفريق المناوئ للتدخل الروسي والإيراني في سورية لهذا التوجه حالياً، فإن موقفه سيزداد ضعفاً في حال أصرّت الولايات المتحدة على تبني هذا المعيار في تصنيف المعارضة السورية، خصوصاً إن فشل مجموع القوى الوطنية في اتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة للتعامل معه.

لم يعد خفياً كما وصفنا في هذه الورقة سابقاً أن عملية تصنيف المعارضة إلى معتدلة وإرهابية تريح موسكو وتطلق لها العنان في تدخلها العسكري في سورية، وأن الولايات المتحدة راضية عما قد يسفر عنه من نتائج ما دامت تصب في "أولوية محاربة تنظيم الدولة والقاعدة" في سورية والعراق، إلّا أن الخطر الأعظم يكمن في اشتراك دي مستورا في هذه العملية وما ينتج عن حضوره هذه الاجتماعات من التزامه في مخرجاتها أيّاً تكن، وإن جاءت عكس قرارات مجلس الأمن 2169 و2170 والتي حددت تنظيم الدولة وجبهة النصرة فقط كمجموعات إرهابية. وإذ يعتبر هذا التوجه الناشئ خرقاً عما تم الاتفاق عليه سابقاً فإنه بالإضافة إلى ذلك يقيض دي مستورا في أداء مهامه في الوساطة، حيث تكشف المعطيات المتوفرة حالياً إلى سعي روسيا لضم كل من حركة أحرار الشام وجيش الإسلام إلى قوائم الإرهاب الدولية. وفي حين لا يشكل الفصيلان الأخيران جل من تصدى لمهمة مقاومة النظام وقوى الاحتلال الأجنبية في سورية، فإنهما يثملان عمادين ومحركين رئيسيين للمعارضة السورية في شمال وجنوب البلاد. لذا يمكن الخلوص: أن نجاح المساعي الروسية في تصنيف المعارضة سينتج عنه بضرورة الحال إلى تفكك قوى المعارضة ومقاومة النظام والاحتلال، وبالنتيجة استقرار الأمر لموسكو وحلفائها في سورية.

مسعى موسكو في سورية

لتحقيق ما سلف تسعى موسكو لخلق مناخ يشبه إلى حد كبير المناخ الذي أتاح لها التحكم في صيغة الحل النهائي في الشيشان، وذلك من خلال الإجراءات التالية:

1.      تصدير نفسها أمام المجتمع الدولي كمفتاحٍ وراعٍ للحل، ويتجلى ذلك من خلال دعوتها إلى اجتماعات فيينا وتهدف فيها للوصول إلى صيغة توافق يلزم الحاضرين بقرارات تُمليها بشكل رئيسي المصالح الروسية، أو تتفق على أقل تقدير مع أهدافها العامة. وفي هذا السياق نجد أن دور أمريكا الوسيط في نقاشات فيينا يشير إلى قبول الإدارة الأمريكية المبدئي لهذه الصيغة.

2.      إعادة بث الروح في مؤسسات الجيش العسكرية وترميمها بغية الاعتماد عليها بشكل كلي في حكم البلاد وضبط مظاهر التسلح، فالجيش كمؤسسة يُسيطر عليها ضباط متعاونون معها يضمن استمرارية مصالحها. ولذا تسعى روسيا اليوم إلى حل أجهزة الدفاع الوطني واللجان الشعبية للتحكم أولاً في عسكرة المجتمع الموالي. علماً أن الميليشيات غير التابعة لوزارة الدفاع والأجهزة الأمنية الرسمية للنظام يُسيطر عليها حالياً الحرس الثوري الإيراني.

3.      تقديم تصور عن إطلاق المرحلة السياسية وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ينطلق من إجراء إصلاحات دستورية تضمن التوازن بين الحقوق والالتزامات المترتبة على جميع الجماعات العرقية والطائفية من حيث هيكلة القوة والمؤسسات الحكومية، ثم عرض الدستور للاستفتاء الشعبي وبعدها يتم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق الدستور الموافق شعبياً، ويلاحظ غياب الحديث عن الأسد وموقعه في هذا التصور وتركه مسألةً للتفاوض.

4.      استمالة معارضة سياسية وعسكرية حقيقية للنظام، وخلق خرق حقيقي في جبهة المقاومة الوطنية لقوى الاحتلال والاستبداد في سورية، حيث يدرك الروس جيداً أن استراتيجيتهم السابقة في الاتكّاء على هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة وبعض شخصيات المعارضة الداخلية وما شابهها لن تُحقق شرعية شعبية كافية من شأنها إرضاء قطاعات هامة من المجتمع السوري المعارض، وبالتالي تسعى موسكو إلى تكوين كتلة حرجة في أوساط المعارضة التقليدية تخلق حالة الشك في أوساط المعارضة وتشرعن تدخلها بالحد الأدنى.

سياسات المواجهة والتعامل مع الاستراتيجية الروسية

تعمل روسيا على استخدام قوى محلية معارضة بهدف إضعاف الدور الفعّال للدول الرافضة لتدخلها في سورية، ويبدو أن الحلقة المستهدفة وفق الرؤية الروسية كل ما يقع على يسار حركة الأحرار وجيش الإسلام. وتسعى موسكو في هذا الصدد لفتح قنوات تواصل مع هذه القوى من خلال وسطاء محليين وآخرين دوليين. وبناءً عليه يتوجب على مجموع القوى الوطنية خلق مظلة سياسية موحدة، تُفوَض بشكل كامل لقيادة العملية التفاوضية مع روسيا والمجتمع الدولي، ويلتزم فيها الطيف الأوسع من قوى الجيش الحر والقوى الإسلامية. كما ينبغي على هذه الهيئة السياسية الموحدة أن تتمتع بالمتانة الداخلية والتنظيمية الكافية لدرء أي تصدُّع يُمكِّن الفريق الذي يترأسه الروس من استثماره مستقبلاً، ويُشكل مانعاً قوياً يحول دون الوقوع ضحيةً لأجندات أجنبية لا تتقاطع مع المصلحة الوطنية العليا.

وعليه يتوجب على الهيئة السياسية الموحدة الخروج بنقاط عملية وسياسات واضحة للتعامل مع هذه التحديات:

1.      التصور حول هيئة الحكم الانتقالي وبلورة رؤية ومشروع المعارضة السورية لتشكيلها وآليات عملها.

2.      تحديد تعريف السوريين للإرهاب والموقف تجاه المجموعات الإرهابية، وتأكيد إدراج الميليشيات العابرة للحدود المناصرة للنظام على لوائح الإرهاب مثل حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس وغيرها.

3.      التصور من وقف إطلاق النار على المستوى الوطني وآليات تطبيقه.

4.      حدود وآليات التعامل مع دي مستورا.

لقد أثبتت التجربة الحديثة في الثورة السورية أن الطريق الأمثل لتحقيق القدر الأكبر من التماسك يتحقق من خلال الإنجازات العسكرية، وعليه لابد من تحريك جبهة دمشق وريفها إضافة إلى جبهة الساحل وتمكين جبهة حلب الجنوبية.

يجب العمل على إيصال روسيا إلى نفس نتائج التدخل الإيراني السابق وذلك خلال الثلاثة أشهر القادمة، حيث ستُواجه في النهاية طريقاً مسدوداً لتجد نفسها حبيسة هوامش تحرك بسيطة. إن الوصول إلى تسوية مع الروس من خلال التفاوض قبل أن تصل لهذه المرحلة خطأ استراتيجي ويُمكّنها من الخروج من المأزق التي وقعت فيه دون تحقيق أهداف الثورة السورية. إن الرد والسياسة المثلى للتعامل معها حتى ذاك الحين يقتضي بالضرورة خلق جبهة داخلية متينة ومنفتحة للجميع تمكن مجموع القوة الوطنية من التعامل مع تحديات المرحلة المقبلة وتساهم في استمرار الدول الداعمة في موقفها الرافض للتدخل الروسي.

 

اقرأ المزيد
٦ نوفمبر ٢٠١٥
اجتماعات فيينا: تلازم المسارين السياسي والعسكري في الصراع السوري

بعد ثلاثة أسابيع فقط على التدخل العسكري الروسي، تحرّك المسار السياسي المجمّد في المسألة السوريّة منذ فشل مؤتمر "جنيف 2" مطلع عام 2014؛ فقد شهدت العاصمة النمساوية فيينا في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 اجتماعًا يعدّ الأول الذي يجمع الدول الأربع الفاعلة في المسألة السورية، وهي: الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا. وأسفر هذا الاجتماع، الذي فشل أطرافه في التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا الأكثر استعصاءً وعلى رأسها مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد، عن توافقٍ على عقد اجتماعٍ موسعٍ آخر في فيينا في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 يضمّ جميع الدول الفاعلة أو ذات العلاقة بالمسألة السوريّة، بما فيها إيران. كما تمّ التوصّل إلى بيانٍ من تسع نقاطٍ عدّه بعضهم تطورًا مهمًا باتجاه ظهور إجماعٍ دولي وإقليمي على أسس الحل السياسي، فيما عدّه آخرون غير ذي قيمةٍ لأنه لم يتمكن من حسم مصير الأسد؛ إذ جرى تأجيل البحث في شأنه إلى اجتماعٍ ثالث يعقد في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.


تحريك المسار السياسي

مع التصعيد الميداني الذي رافق التدخل العسكري الروسي في سورية، ازدادت المخاوف من تداعيات تحوّل المسألة السورية إلى صراع إرادات إقليمي ودولي قد يخرج عن نطاق السيطرة مع تعدّد الفاعلين من دول وتنظيمات وميليشيات. فالغطاء الجوي الروسي الداعم للنظام السوري والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه ذات الإدارة والإرادة الإيرانية، قابلهما زيادة في مستوى الدعم العسكري لقوات المعارضة على الأرض؛ ما أفشل الخطط الروسية في استعادة نقاط إستراتيجية في جبهات الشمال الغربي أو في محيط العاصمة دمشق. وكانت معارك ريف حماة التي اندلعت بعد أسبوع فقط من التدخل العسكري الروسي واستخدمت فيها صواريخ تاو (الأميركية الصنع) المضادة للدبابات على نطاق واسع أبرز دليل على مدى إصرار المعارضة السورية والدول الداعمة لها على إفشال أهداف موسكو الرامية إلى فرض معادلات ميدانية جديدة وحلٍ سياسي يبنى عليها. وهكذا اختزل أثر التدخل الروسي في هدفه الأصلي وهو إنقاذ النظام من السقوط.

وزادت المخاوف من حصول صدامات غير مقصودة بين قوات جوية لدول عديدة تحلّق في الأجواء السورية تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" احتمالات التصعيد، وبخاصة بعد أن وقعت بعض الحوادث مثل إسقاط تركيا طائرة من دون طيار (يعتقد أنها روسية) على حدودها مع سورية، واختراق الطائرات الروسية الأجواء التركية أكثر من مرة؛ ما زاد الحاجة إلى فتح مسارٍ سياسي يمنح جميع الأطراف فرصةَ التواصل لاحتواء أي تصعيد محتمل.

وربما دفعت خشية موسكو أيضًا من الانجرار إلى حرب استنزاف غير واضحة الأفق في سورية نحو تحريك مسار التسوية، في وقت بدأ فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السعي لإظهار مدى النفوذ والتأثير الذي بات يتمتع به في الشأن السوري نتيجة وجوده عسكريًا في قلب الصراع. وقد اتضح ذلك من الطريقة التي استدعى بها بوتين رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى موسكو لاطلاعه على أفكاره حول التسوية قبل أيام من اجتماع فيينا الرباعي.


تفاعلات اجتماع فيينا الموسّع

اتضحت خلال اجتماع فيينا الأخير ملامح جديدة لتفاعلات الصراع السوري، يمكن إجمالها بالآتي:

    في ظل غياب أي طرفٍ سوري عن اجتماعات فيينا، سواء من النظام أو المعارضة، بدا واضحًا أنّ الحلّ لم يعد في متناول السوريين، بل أصبح شانًا إقليميًا ودوليًا. ويُرجّح أن ينتج هذا الحلّ، إن جرى التوصّل إليه، من توافق إرادات بين المحورين اللذين تكرّس وجودهما خلال الاجتماع. ويضم المحور الأول السعودية وتركيا وقطر، ويصرّ على وثيقة "جنيف 1" كإطار وحيد للحل، وعلى تسوية "عادلة" تفضي إلى هيئة أو إدارة انتقالية تقصي الأسد من المشهد السياسي ومن مستقبل سورية، وتبدأ بإعادة الإعمار. ويضم الثاني كل من روسيا وإيران، ويقترح وقفًا لإطلاق النار، ومفاوضات تفضي إلى حكومة تضم النظام وشخصيات معارضة تتولى إجراء انتخابات برلمانية، وأخرى رئاسية تضمن للأسد الترشّح فيها. إنّ إجراء أي انتخابات بوجود الأسد وهو يتحكم بأجهزة الأمن، وتقتصر على المناطق التي يسيطر عليها النظام، لن تختلف كثيرًا عن سابقاتها.
     اضطلعت الولايات المتحدة خلال اجتماع "فيينا 2" بدور "الوسيط" بين المحوريين السابقين. وبخلاف موقفها المعلن، نأت بنفسها عن السجالات أو ممارسة الضغط على روسيا لإقناعها إبداء مرونة تجاه القضايا الخلافية. وعلى المنوال ذاته، سارت أغلبية الدول العربية المشاركة؛ إذ تنتظر أية تسوية تتمخض عن مفاوضات الجانبين، بغض النظر عن شكل التسوية النهائية وتفاصيلها.
    تمكّن حلفاء المعارضة من انتزاع تنازلٍ مهم في فيينا؛ إذ نص البيان الختامي الذي وقع عليه ممثلون عن سبع عشرة دولة على تسع نقاط، كان أبرزها الاتفاق على إجراء انتخابات "بإشراف الأمم المتحدة"، على أن يكون لكلّ السوريين، في الداخل والخارج، حقّ المشاركة فيها. وقد أثار هذا البند قلق النظام بعد أن وافق عليه أبرز حلفائه؛ أي روسيا وإيران والصين، الذين كانوا من الدول الموقعة على البيان، لأنّ مشاركة الأغلبية العظمى من السوريين الموجودين في الخارج في الانتخابات سوف تساهم في ترجيح كفة المعارضة إذا جرى الاتفاق على إجراء انتخابات. وتشير معظم التقديرات إلى أنّ نصف السوريين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حين يعيش النصف الآخر في مناطق المعارضة أو في بلاد اللجوء.
    أظهر اجتماع فيينا مواقف أوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) أكثر حدّة تجاه التدخل العسكري الروسي مقارنة بمواقفها السابقة، أو بالموقف الأميركي التي اعتادت الدول الأوروبية السير على خطاه. ويعود ذلك إلى اقتناعٍ أوروبي بأنّ غارات موسكو لا تستهدف تنظيم الدولة، ولن تساهم إلا في إطالة أمد الصراع، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وفي هذا السياق، تشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ الضربات الروسية أجبرت أكثر من 120 ألف سوري معظمهم من ريف حلب على النزوح من مناطقهم إلى الحدود السورية – التركية، وينتظر كثير من هؤلاء فتح المعابر مع تركيا للانتقال إلى أوروبا والاستقرار فيها.

عودة إلى فيينا من بوابة حلب

بالتوازي مع المسار السياسي في فيينا، استمر حلفاء النظام في محاولة تحسين مواقعهم التفاوضية قبل العودة للاجتماع مجددًا منتصف هذا الشهر؛ وذلك عبر التصعيد ميدانيًا في حلب. ويعدّ ازدياد عدد القتلى من الضباط الإيرانيين وعناصر الحرس الثوري في ريف حلب الجنوبي مؤشرًا على شدة المعارك وضراوتها، واندفاع طهران وموسكو لتحقيق حسم عسكري في المحافظة بأي ثمن للاستفادة من الواقع الميداني الجديد وفرض رؤيتهما للحل في فيينا. وكان لافتًا تزامن هجوم تنظيم الدولة على ريف حلب الجنوبي ضد قوى المعارضة السورية، مع الهجوم الروسي - الإيراني في محافظة حلب نفسها.

تنبهت الدول المناوئة للمحور الروسي - الإيراني لأهداف الحملة العسكرية على حلب، وقدّمت دعمًا نوعيًا لفصائل المعارضة مكّنتها من إيقاف القوات المهاجمة عند خان طومان، واستعادت عددًا من القرى التي خسرتها في ريف حلب الجنوبي. كما وفّر سلاح الجو التركي، لأول مرة، غطاءً جويًا لبعض فصائل ريف حلب الشمالي، مثل جيش الشام وحركة نور الدين الزنكي وكتائب السلطان مراد، لصدّ هجمات تنظيم الدولة واستعادة بعض المواقع المهمة التي خسرتها مؤخرًا أمامه. وأكسب الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنميّة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فصائل المعارضة في إدلب وريف حماة الشمالي زخمًا معنويًا وسياسيًا دفعها إلى البدء بهجوم مضادّ ألحق خسائر كبيرة بقوات النظام، وأجبرها على الانسحاب من مواقع عديدة سيطرت عليها خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي مستفيدة من دعم ناري كبير قدمته روسيا عبر الجو والبحر.


خاتمة

على الرغم من الصعوبات التي تكتنف المفاوضات، يمكن أن يمثل مسار فيينا إطارًا جديًا لحل الأزمة يحظى بإجماع دولي وإقليمي، وبخاصة بسبب الصعوبات التي يواجهها المحور الإيراني - الروسي في تحقيق أي نتائج مهمة على الأرض بعد أكثر من شهر على بدء عمليات القصف الروسي، وبعد أن أرسلت إيران أعدادًا كبيرة من قوات الحرس الثوري للمشاركة في المعارك، خاصة في حلب. لكنّ الدول الرئيسة الداعمة للمعارضة تواجه تحديات بسبب محاولة روسيا وإيران زجّ مزيد من القوات لتغيير الوقائع على الأرض استباقًا للتسوية المحتملة، وكذلك بسبب "حيادية" الإدارة الأميركيّة ونزوعها لقبول أي حل يتماشى مع سياساتها في سورية وحربها ضد تنظيم الدولة؛ وهو ما يمنح روسيا وإيران هامش مناورة أكبر خلال جولات التفاوض القادمة. وحتى لا تصبح المفاوضات غطاءً سياسيًا لاستمرار العمليات العسكرية الروسية والإيرانية في سورية، لا بدّ من التوافق على نقاط أوليّة ضرورية أقلها تحييد المدنيين عن القصف خلال مرحلة التفاوض. من جهة أخرى، يبدو جليًا أنّ التدخل العسكري الروسي قد نجح في إحداث تقارب سعودي - تركي كبير، وهو معطى يمكن البناء عليه خاصة بعد فوز حزب العدالة والتنمية، لمساعدة المعارضة السوريّة بشقيها السياسي والعسكري على تنظيم صفوفها وتنسيق جهودها لمواجهة التدخل الروسي - الإيراني. ويمكن أن يكون الردّ الوحيد على مطلب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخير بتعريف "من هي المعارضة المعتدلة؟" هو توحيد المعارضة السورية المسلحة والسياسية باتجاهاتها كافة في قوة واحدة، تمنع عزل أي من مكوناتها، وتغيّر موازين القوى على الأرض، وتشكّل طرفًا يمثل الشعب السوري في أي مفاوضات قادمة.

اقرأ المزيد
0 1 2 3

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال