الجمهورية السورية الأولى.. كانتونات سبقت حالة الاتحاد
أورث سقوط الدولة العثمانية، ودخول سوريا الطبيعية ضمن دائرة التقسيمات الاستعمارية التي طالت معظم البلاد العربية، كانتونات فيدرالية دعمت نشوءها دول “الاحتلال”، واستمرت إلى ما بعد إعلان الجمهورية الأولى، لينتهي العمل بها بالتزامن مع إعلان الاستقلال.
وتطورت سوريا، من حيث التقسيمات الفيدرالية ثم الإدارية، من خمس دول إلى سبع محافظات ثم 14 محافظة، وخسرت أجزاءً سيادية من الشمال والغرب والجنوب، لكنها حافظت على استقرار حدودها وحالة الاتحاد السائدة فيها منذ سبعينيات القرن الفائت وحتى عام 2012، أي حوالي أربعة عقود سبقت اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الأسد الابن، وما تبعها من انقسام الدولة إلى مناطق نفوذ متصارعة.
ونسرد في هذا التقرير حالة سوريا الجيوسياسية، عقب ترسيم الدول الكبرى للحدود في المنطقة العربية، وما تبعها من إمعان الانتداب الفرنسي في تقسيم الدولة الواحدة إلى دول وكانتونات مستقلة، في الفترة الممتدة بين عامي 1920 و1936.
سياسة فرنسا الانتدابية
ونسلّط الضوء في هذا الباب، على ما فنّده الباحث السوري نشوان الأتاسي، في كتابه “تطور المجتمع السوري”، والذي أوضح من خلاله أن الانتداب الفرنسي، ومن أجل وقف انتشار المد القومي، كان عليه بسط هيمنته على الداخل السوري، وتحديدًا دمشق.
وفي التطبيق العملي للسياسات الفرنسية في سوريا، اعتمد الانتداب ثلاث استراتيجيات عمل على تنفيذها حينما بسط سيطرته على البلاد، وهي: التقسيم الجغرافي، وتأليب المناطق الريفية على المراكز الوطنية المدنية، ومحاولة الحكم باستخدام عناصر متعاونين من بين النخبة السياسية التقليدية، بحسب الباحث.
وعمدت فرنسا وبريطانيا معًا إلى تقسيم سوريا الطبيعية إلى انتدابات منفصلة إداريًا تحت إشرافهما، ما أدى إلى تقطيع أوصال البلاد وعزلها وإحاطتها بحدود مصطنعة وحواجز جمركية أعاقت انتقال السلع والناس بحرّية، لكن التقطيع هذا لم يكن سوى المرحلة الأولى من عملية التقسيم.
في المرحلة التالية، عمدت فرنسا فور احتلالها سوريا، إلى تجزئتها أيضًا إلى قطع أصغر، بهدف عزل الحركة القومية العربية واحتوائها، فأعلنت في أيلول 1920، نشوء دولة لبنان الكبير، بضم مدن طرابلس وصيدا وصور ومناطق ووادي البقاع وجبل عامل وسهل عكار إلى جبل لبنان، فولدت دولة بأغلبية ضئيلة كاثوليكية مارونية.
ثم سلخت فرنسا أجزاء من ولاية حلب في الشمال ومنحتها لتركيا في تشرين الأول 1921، ومنحت امتيازات خاصة لتركيا في “لواء اسكندرون” (هاتاي حاليًا)، والتي كانت واقعة ضمن ولاية حلب، ما قلص مجددًا من مساحة سوريا، إلى أن تنازلت نهائيًا عن “لواء اسكندرون” لتركيا عام 1939.
واتبعت فرنسا فيما تبقى من سوريا سياسة “فرّق تسد”، فحوّلت البلاد إلى وحدات مناطقية وعرقية صغيرة، ففي عام 1920 شرعت في تقسيمها إلى أربعة كيانات مذهبية: دولة بأغلبية سنية عاصمتها دمشق، ودولة ثانية بأغلبية سنية عاصمتها حلب، وحكم كلًا من المدينتين حاكم محلي يدعمه مستشارون فرنسيون، ثم تمّ الإعلان عن دولة علوية في الساحل السوري، ودرزية جنوب سوريا، إلى جانب كيان خاص بمنطقة الجزيرة.
أسهمت هذه الاستراتيجية في تحديد نطاق الحركة الوطنية السورية، ومنعها من الوصول إلى المناطق المأهولة بالأقليات، كما أن القوى الوطنية التي نشطت في المدن الرئيسة (دمشق وحلب وحمص وحماة) كانت غائبة في المناطق المحيطة، ولهذا واجهت صعوبات كبيرة في توسيع قاعدة نشاطها خارج المراكز الأربعة.
دولة دمشق
تولّى الجنرال هنري غورو، المندوب السامي للانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، مهمّة فصل لبنان عن سوريا، وإعلانها دولة مستقلة، ثم إتباع مناطق بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا بها في 3 آب 1920، بعدما كانت هذه المناطق تابعة لقضاء دمشق.
في تشرين الثاني 1920، رسّمت حدود دولة دمشق بشكل نهائي بفك الأردن وفلسطين عنها وإلحاقها بالانتداب البريطاني، وفقًا لاتفاقية “سايكس- بيكو”، والأقضية الأربعة التي ألحقت بدولة “جبل لبنان الكبير”، وشملت دولة دمشق: مدينة دمشق وريفها، وألوية حمص وحماة وحوران.
دولة لبنان
في 31 آب، أعلن الجنرال غورو إنشاء دولة “لبنان الكبير”، ويشمل متصرفية “جبل لبنان”، إضافة إلى سناجق بيروت وصيدا وطرابلس، والأقضية الأربعة سابقة الذكر (بعلبك، والبقاع، وراشيا، وحاصبيا)، وانفصلت لبنان منذ ذلك الوقت رسميًا عن سوريا، عملًا باتفاقية “سايكس- بيكو” ومؤتمر “سان ريمو”.
دولة حلب
وتضم محافظات حلب وإدلب ودير الزور الحالية، أعلن عنها في تشرين الثاني 1920، وعاصمتها مدينة حلب، وألحق بها سنجق “اسكندرون” عام 1923.
لواء اسكندرون
ضمت السلطات الفرنسية “لواء اسكندرون” إلى دولة حلب عام 1923، وأعطته حكمًا ذاتيًا مقرّبًا من الحكومة التركية حتى عام 1926، حينما عاد إلى الدولة السورية مجددًا.
في عام 1937 أعطي “لواء اسكندرون” حكمًا ذاتيًا مجددًا، إلى أن ضمته تركيا رسميًا عام 1939، وأصبح منذ ذلك الوقت تحت اسم “ولاية هاتاي”.
مقاطعة الجزيرة
استحدث الانتداب الفرنسي مقاطعة الجزيرة عام 1920، وتشمل المناطق الواقعة ضمن محافظة الحسكة حاليًا، وأتبعت إلى دولة حلب اسميًا، ومنحت استقلالًا ماليًا وإداريًا بإشراف فرنسي، واستمرت بذات النسق حتى إعلان الجمهورية السورية الأولى عام 1932.
دولة جبل الدروز
اعتبرت فرنسا جبل العرب (الدروز) دولة مستقلة في 3 آذار 1921، بمسمى “دولة جبل الدروز” تولى رئاستها الأمير سليم الأطرش بمعاونة مستشارين فرنسيين.
شملت الدولة محافظة السويداء الحالية، وامتد نفوذها إلى القرى الدرزية في البقاع اللبناني والجولان السوري، واستمر العمل بها حتى عام 1936، حين عادت إلى الدولة السورية.
لكنها حافظت على استقلالها المالي والإداري حتى 30 كانون الأول 1944، حين أعلن المجلس النيابي السوري ربطها بشكل نهائي بالحكومة السورية.
دولة جبل العلويين
أعلن عنها في تشرين الثاني 1920، وانفصلت بشكل كامل في أيلول 1923، وتشمل محافظتي اللاذقية وطرطوس، إلى جانب جسر الشغور التابع حاليًا لمحافظة إدلب، ومصياف التابعة لحماة، وتلكلخ والحصن التابعة لحمص.
غلب الطابع الطائفي البحت على هذه الدولة، من ناحية المسمى المرتبط بالطائفة العلوية التي هيمنت على مقاليد الحكم فيها رغم وجود نسبة سنية ليست ضئيلة في المنطقة الساحلية، وانضمت مجددًا إلى الدولة السورية في كانون الأول 1936.
لاحقًا اعتبرت سوريا مكونة من إقليمين فيدراليين رئيسيين، حلب ودمشق، باستثناء جبلي الدروز والعلويين، ثم أتبع الجبلين بالإقليمين، إلى أن انتهت حالة الفدرلة نهائيًا عام 1940، إبان الحرب العالمية الثانية.
مراحل انتداب ثم تقسيم ثم فدرلة فعودة إلى الجسم الواحد، مع فقدان أجزاء أساسية أصبحت دولًا أو انضمت إلى دول الجوار، هي حالة سوريا خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، في حين تمر الجغرافيا السورية الحالية بمخاضات عسيرة تلت ثورة شعبية، وتداخلات مصالح القوى الجديدة (أمريكا- روسيا) فيها، فهل ستتمخض عن كانتونات أو دويلات جديدة، أم ستحافظ على جغرافيتها؟
الجمهورية السورية الأولى
وهي الفترة الممتدة بين عامي 1932 و1963، تخللها فترتان رئيسيتان بدستورين، الأول أعلن عنه عام 1932، والثاني عام 1950، وعطّل الأخير إبان انقلاب حزب البعث عام 1963.
شهدت هذه الفترة أحداثًا سياسة وعسكرية مهمة، منها إعادة البلاد إلى حالة الاتحاد باندماج دولة العلويين ودولة الدروز بها عام 1936، وسلخ “لواء اسكندرون” عن سوريا عام 1939، وإعلان الاستقلال عام 1941 والجلاء الفرنسي الأخير عام 1946، وإعلان الوحدة مع مصر عام 1958.
الجمهورية السورية الأولى.. كانتونات سبقت حالة الاتحاد
وهي الفترة الممتدة من عام 1963 وحتى اليوم، أي منذ انقلاب حزب “البعث” على السلطة الشرعية، واعتقال الرئيس الأسبق ناظم القدسي ورئيس الحكومة خالد العظم.
شهدت سوريا منذ ذلك الوقت إنشاء عدة دساتير عززت من هيمنة الحزب الحاكم على مفاصل البلاد، أبرزها الدستور الذي أعده حافظ الأسد عام 1973، والدستور الذي أقره بشار الأسد عام 2012.
ومرت بأحداث سياسية وعسكرية بارزة أهمها التدخل العسكري في لبنان عام 1975، وانتفاضة جماعة “الإخوان المسلمون” عام 1979، ومجرزة حماة عام 1982، والثورة الشعبية ضد بشار الأسد عام 2011.
توالى على سدة الحكم منذ انقلاب “البعث” ستة رؤساء، أربعة منهم كان وجودهم اسميًا في ظل الهيمنة العسكرية على السلطة، وهم: لؤي الأتاسي، وأمين الحافظ، ونور الدين الأتاسي، وأحمد الحسن الخطيب، ثم حافظ الأسد، وبشار الأسد.
أبرز رؤساء سوريا خلال الجمهورية الأولى وفقًا للجدول الزمني: محمد علي العابد، هاشم الأتاسي، بهيج الخطيب، تاج الدين الحسني، حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي، فوزي سلو، مأمون الكزبري، شكري القوتلي، جمال عبد الناصر، ناظم القدسي.