أزمة المرجعية وأثرها في الثورة السورية
يتداخل مفهوم الثورة في الأدب السياسي بشدة مع مفاهيم أخرى مقاربة كالانقلاب والانتفاضة والعنف والتمرد والفتنة والفوضى، كما تمتد جذورها كظاهرة إنسانية عميقا في تاريخ الإنسانية وهي ملازمة على الدوام لنشأة النظم السياسية وتطفو على السطح كلما جنحت هذه النظم عن إطار وحدود مشروعيتها ومالت السلطة فيها إلى الاستبداد والديكتاتورية.
ومن الواضح أنه لايمكن أن نطلق صفة الثورة كثيراً على الانتفاضات الكبرى في التاريخ الإنساني إلا من خلال قياس مدى قدرتها على إحداث انتقالات نوعية عميقة في بنية المجتمع مادياً من خلال الاقتصاد والتنمية، ومعنويا من خلال نظام سياسي، ونخبة جديدة وتكريس منظومة قيم اجتماع جديدة، بمعنى آخر إمكانية هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى على اكتساب مضمونا ثوريا من خلال قدرتها على التأسيس لمتغيرات جديدة تعيد رسم خارطة موازين القوى في المجتمع وفق رؤية جديدة.
وفي هذا السياق يقول الدكتور خالد المعيني المتخصص بالفلسفة السياسية في كتابه "كي لاتُسرق الثورات": " إن الثورة الحقيقية تقوم على ثلاثة ركائز:
1- فكر خلاّق تشتقه عقول المفكرين الذين يمثلون عصارة وضمير العقل الباطن لمعاناة شعوبهم على أن يستند هذا الفكر على قضية عادلة.
2- نخبة شجاعة ومنظمة تتبنى هذا الفكر، تمتلك رؤية تنفيذية وتخطيطا سليما
3- جماهير واعية بجوهر قضيتها
ويضيف: "إن من شأن التخطيط السليم أن يزيد من فرص نجاح الثورات ويقلص من احتمالات فشلها وانكفائها، وإن عدم وجود رؤية واضحة وتحليل دقيق لكافة مستويات الصراع، أو على أقل تقدير وجود قدرة على إدارة صفحات الصراع وما هي الخطوة القادمة فإنّ ذلك سيؤدي حتما إلى ثلاث نتائج كارثية:
1- هدر الطاقات
2- هدر الزخم
3- هدر القوة
وهذا التوصيف الذي بيّنه الدكتور المعيني هو تماما ما يحدث الآن في الثورة السورية، (1)، وبناء عليه فإنّ المسؤولية الأكبر في الوصول إلى هذه الحالة الحرجة للثورة السورية تقع على عاتق النخب والمرجعيات الدينية والسياسية.. الخ .
وتتحمل المرجعية الدينية مسؤولية أكبر من تلك التي تتحملها النخب السياسية وغيرها، وذلك لأنها الأكثر تأثيرا في الواقع السوري لاعتبارات عديدة سنأتي على ذكرها في موضع آخر من البحث.
المبحث الأول : مفهوم النخبة والمرجعية
يعرّف المفكر الإسلامي عمر عبيد حسنة (2)، النخبة بأنها تلك الطليعة من الناس التي تعتبر أن الانتماء إلى النخبة تكليفا قبل أن يكون تشريفاً، والتي تعيش شعوراً وإلحاحاً داخلياً يمدها بطاقة التحمّل لمواجهة الواقع السيئ في المجتمع، وتكابد من أجل تغييره نحو الأحسن.
ولا يشترط حسنة أن تكون هذه الطليعة بالضرورة من العناصر التي تنتمي إلى تلك النخبة من العناصر المثقفة ومتولدة من نخبة المثقفين ثقافة أكاديمية فقط، فكل التخصصات المعاصرة لها نخبة متميزة ومبدعة سواء أكانت تعتمد على العقل أو قوة الساعد، والأهم أن عناصر هذه النخب يجمعها همُّ واحدٌ، وهو التغيير لتحقيق حياة أفضل لمجتمعاتها.
وفي هذا الإطار يتفق الكثير من منظري علم الاجتماع والسياسة على تقسيم النخب إلى أربعة أقسام
1- نخب سياسية: وتتمثل بالسلطة الحاكمة التي بيدها مقاليد الحكم
2- نخب دينية: وتتمثل إسلامياً بالعلماء والمراجع ومسيحياً برجال الكنيسة ويهودياً بالحاخامات.
3- نخب اجتماعية: وهم قادة الرأي العام في المجتمع والمؤثرون فيه
4- نخب ثقافية: وتمثل المفكرين والعلماء بمختلف المجالات والنشطاء السياسيين
وبهذا المعنى تكون النخب الدينية "المرجعية اصطلاحاً" المقصودة من البحث أحد أقسام النخب الرئيسة في المجتمع، ويزيد دورها وينقص بحسب طبيعة المجتمع، وبالتالي فهي تكتسب أهمية كبيرة جدا في المجتمعات المتدينة، كالبلدان العربية ومنها سورية طبعا.(3).
المبحث الثاني : أزمة المرجعية وأثرها في الثورة السورية
عانت الثورة السورية ومنذ انطلاقتها من أزمة حادة تمثلت في غياب دور النخب بشكل عام في قيادة الحراك الثوري السوري السلمي، تاركة الجماهير وحدها دون إرشاد أو توجيه، فريسة لقبضة النظام الأمنية من جهة وهم - النخب- إما خائفون أو حائرون، ومن جهة أخرى فريسة لأسماء وهمية غير معروفة في معظمها كانت تقود ما سمي بالتنسيقيات المحلية التي كان لها دور كبير في الحراك عبر صفحات الفيس ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقد كانت هذه التنسيقيات تدعو إلى التظاهر وتحرّض عليه وتضع أسماء "الجمعات" والهتافات وتحدد ما سيكتب على اللوحات ..الخ.
ولو سألت اليوم أيا من الأفراد الذين كانوا يعملون في الكثير من هذه التنسيقيات عن المؤسسين الحقيقيين لها لما عرفوا أكثرهم، كتنسيقية دوما على سبيل المثال، كما أن كثيراً من ممثلي التنسيقيات كانوا لا يعرفون بعضهم أيضا إلا عبر أسماء وهمية لا يمكن التأكد منها، وهذا ليس بشكل عام وإنما في الغالب، وقد ذكر ذلك غير ذي واحد من جماعة التنسيقيات.(4)
وليس هنا المقصود لوم "الثوار" على وجود مثل هكذا تجاوزات أو اختراقات، بقدر الإشارة إلى التقصير على مستوى النخب السورية المعروفة في إدارة الثورة بالشكل الصحيح والابتعاد بها عن "مجاهيل" أرادوا لها التيه والضلال مستغلين قضيتها العادلة لتحقيق مصالح وغايات مشبوهة.
وبعد فترة صراع سلمي خاضته جماهير الثورة بشكل شبه منفرد لمدة تسعة أشهر أو تزيد، ونتيجة لظروف كثيرة داخلية وخارجية، ليس هنا مقام بحثها، تحولت الثورة إلى الصراع المسلح مع النظام وهنا بدت الحاجة مضاعفة لوجود نخبة (مرجعية) لتوجيه هذا الصراع وتأطيره ضمن الأهداف العامة للثورة السورية للخروج بالبلاد إلى بر الآمان.
والواقع أن هذه المرحلة شهدت ظهور نخب ومرجعيات كثيرة، إلا أنها لم تكن معروفة بشكل واضح لدى كثير من شرائح المجتمع السوري، بينما كان هناك تراجع لنخب كثيرة معروفة دينية وسياسية وحتى عسكرية، جهرت أخيراً بخلع عباءة الخوف من النظام وبطشه إذا صح التعبير، لتقف إلى صف الجماهير السورية المطالبة بحقوقها المشروعة بشكل واضح، لكنها بقيت مشتتة ولم تأخذ دورها المطلوب.
وقد أولينا في هذا البحث المرجعية الدينية في سورية الأهمية القصوى عن غيرها من النخب دون التقليل من دور تلك النخب، وذلك لعدة أسباب أهمها:
1- كل الشعب السوري الذي شارك بالصراع المسلح ضد "نظام الأسد في سورية" من أهل السنة والمتدينين في سورية.
2- معظم الفصائل العسكرية السورية ذات توجه إسلامي على اختلاف مناهجها ومدارسها الفكرية.
3- عدم وجود أحزاب سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة لحشد قوى الجماهير وتوجيه طاقاتها في سورية قبل الثورة.
4- الزخم الأكبر للثورة خرج من المساجد وذلك قبل تحولها إلى مسلحة.
5- معظم المشاكل والمطبات التي تعرضت لها الثورة جاءت من "القوى الإسلامية" إذا صح التعبير، نتيجة خلافات استشرت فيما بينها لأسباب مختلفة.
وبعد هذا التفصيل لابد من الإشارة هنا إلى نقطة غاية في الأهمية وهي أن أزمة المرجعية في الثورة السورية ليست غيابها وإنما تعددها واختلافها وتضاربها فيما بينها، وقد استفاد أعداء الثورة من هذا الواقع أيّما إفادة، الأمر الذي أطال عمر نظام الأسد في سورية وزاد من مأساة الشعب السوري.
إذا لدينا خطان نسير بهما في هذا البحث وهما:
1- المقصود بالمرجعية هنا هو فقط المرجعية الدينية وليس السياسية أو العسكرية أو..الخ .
2- أزمة المرجعية في الثورة السورية ليست عدم وجودها، وإنما بتعددها واختلافها وعدم توحدها أو قدرتها على إيجاد صيغة للتنسيق تضمن من خلالها حلّ الملفات الثورية بما يخدم الثورة والشعب السوري.
وبناء على ماذُكِر ونظراً إلى واقع الحال يمكن تقسيم المرجعية الدينية في سورية إلى قسمين:
1- المرجعية القديمة التقليدية ومنها من كان خارج سورية لأسباب متنوعة، ومنها من كان داخل البلاد، وقد تأخر معظمهم بالانضمام لركب الثورة لأسباب مختلفة وكثيرة أيضا.
2- المرجعية الحديثة التي أفرزتها الثورة، وكان معظم رموز هذه المرجعية في سجون النظام، وكان لأنصارهم المساحة الأكبر من المشهد العسكري السوري.
أولا - أزمة المرجعية وأثرها على المستوى السياسي
تشكل مجالس الشعب أو ما يسمى "البرلمانات" في جميع الدول صمام الأمان والضمان المزدوج للأمن والسلم المجتمعي في جميع الدول الحديثة.
ويعتبر بعض فقهاء القانون أن البرلمان هو تعبير عن أسلوب لمشاركة المواطنين في الحياة السياسية، ويعتبره البعض الآخر مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع الديمقراطي الذي يقوم على حرية المشاركة السياسية والتعددية الحزبية.
وفى الحقيقة، فإن كلا المعنيين يكمل الآخر، ولكنهما غير متلازمين. فمشاركة المواطنين في الحياة السياسية قد تأخذ صوراً متعددة، حسب الظروف الثقافية والتقاليد الاجتماعية وطبيعة الدولة.
وبرغم أن أهم وأحدث صور تلك المشاركة هي اختيار المواطنين مجموعة من النواب الذين يمثلونهم ويعبرون عن آرائهم، أي تكوين البرلمانات المنتخبة، إلا أن بعض المجتمعات قد تستعيض عن ذلك بأساليب أخرى لذلك فتعمد الى تشكيل مجالس استشارية تضم مجموعة من القيادات الاجتماعية والرموز والشخصيات العامة بغرض التشاور في شؤون الحكم.
والمهم أن للبرلمان ثلاثة وظائف رئيسة وهي: (5)
1- التشريع
2- الرقابة على الحكومة
3- تمثيل الشعب أمام الحكومة
والبرلمانات تكون في ظل دول مستقرة، بينما في الحالة السورية التي تشهد ثورة واضطرابات وصراع دموي مستمر منذ سنوات، فإنّ المرجعية تأخذ دور البرلمان لناحية المهام التي تضطلع بها أمام من يمثل الثورة السورية في المحافل السياسية، وبالتالي فإن تعدد المرجعيات واختلافها وعدم إيجاد ألية مناسبة تجمعها في جبهة واحدة، الأمر الذي يؤدي إلى عدم استقرار الكيانات السياسية الممثلة للثورة السورية وانقسامها ما ينعكس سلبا على الشعب السوري وثورته.
فمجلس الشعب مثلا يتشكل من تيارات وأحزاب مختلفة ومتناحرة فيما بينها ولكن تواجد هذه الأطراف المتناحرة في جبهة واحدة، ضمن الآلية المتفق عليها دولياً للمجلس، تجعل منه جسماً واحداً يمثل الأمة ويحميها من التفكك، ناقلاً الصراع من الشارع إلى قبة المجلس، ومحولاً إياه إلى آلية بناء بدلا من بقاءه في الشارع منتجا الفوضى والدمار.
وحتى ندخل في الإطار العملي نطرح مثالا واقعيا، ففي الفقرة الثالثة من بيان حركة أحرار الشام الإسلامية بتاريخ 2016/04/16 تحت عنوان "بيان بشأن محادثات التفاوض في جنيف" جاء الآتي:
"إنّ الأداء الضعيف والمتخبط للهيئة -المقصود هيئة التفاوض العليا- مع ضعف الشفافية وغياب آلية اتخاذ القرار المنضبطة بمرجعية واضحة يزيد الهوة بين الهيئة وبين الشارع الثوري بجميع مكوناته المدنية والعسكرية"*
وفي 2016/04/19 أعلن السيد رياض حجاب رئيس هيئة التفاوض العليا تعليق المفاوضات، وفي نفس اليوم أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانا يثمن دور هيئة التفاوض ويثني على انسحابها**.
من جهة ثانية فقد كان هناك تفاجؤٌ واضحٌ من قبل كبير المفاوضين في هيئة التفاوض، محمد علوش من بيان "الأحرار" حيث رد بقوله:" شكرًا لإخواننا، أنتم موجودون في غرفة يوجد ممثل لكم فيها، ويتم إطلاعكم على كل التفاصيل مع بقية الفصائل واستشارتكم فيها".
وتابع: "أعلنت لكم قبل ذلك بطلب إشعال الجبهات، وقد اشتعلت، فلا ترقبوا في النظام إلًا، ولا تنتظروا منه رحمة، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان".
وختم قوله “نحن معكم جميعًا، ولن نقبل بأي تنازل عن أهداف الثورة، أنا شخصيًا مؤيد لأي موقف تجمع عليه الفصائل مهما كان هذا الموقف، اتفقوا على موقف وأنا خادم لكم".(6)
وبناء على ما سبق يتم لحظ ثلاثة أمور:
1- لم يكن هناك تنسيق بين مرجعية أحرار الشام الإسلامية ومرجعية المجلس الإسلامي السوري من جهة، وبين مرجعية الحركة والكيان السياسي الممثل للمعارضة والثورة السورية في جنيف من جهة أخرى.
2- عدم نية الكيان السياسي للثورة السورية الانسحاب من مفاوضات جنيف قبل بيان حركة أحرار الشام، وردّ علوش كان واضحاً ومفاده لاتتذرعوا بخروقات النظام لعرقلة العملية السياسية، فلم يطالبكم أحد بالالتزام إن لم يلتزم النظام، وهناك آخرون غيره أكدوا ذلك.
3- يحُسب لرئيس هيئة التفاوض السيد رياض حجاب تدارك الموقف وتعليق المشاركة بدلاً من الانسحاب تاركا الباب موارباً للعودة، ومفسِحاً المجال لتفاهم المرجعيات.
و هناك أمثلة كثيرة يمكن طرحها وتحليلها تبين تأثير أزمة المرجعية على استمرار تخبط الواقع السياسي للثورة السورية، وخلال جميع مراحل الثورة، من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة، ولكن لا تتسع هذه الورقة البحثية لسرد تفاصيل كل ذلك.
ثانيا: أزمة المرجعية وأثرها على المستوى العسكري
رغم خطورة تعدد المرجعيات في الثورة السورية كما ذكرنا على الجانب السياسي للثورة، إلا أن خطورتها على الجانب العسكري أخطر وأكبر، لأنّ هذا التعدد والاختلاف الناجم من أسباب مركبة (منهجية داخلية وسياسية خارجية) زاد من حدة الاختلاف وانتقل به من الفكر إلى السلوك؛ الأمر الذي أهدر الكثير من الدماء والطاقات التي كان من الممكن تكييفها واستثمارها في خدمة الثورة السورية وتحقيق أهدافها.
أهم وأبرز المرجعيات الدينية (الثورية) المؤثرة على الساحة السورية
بالطبع فإن بحثنا هذا لن يتطرق إلى المرجعيات الدينية غير السورية (العابرة للقارات) وإن كان لها ارتباط قوي بالبحث، ولكن لم يتم دراستها لسببين:
1- لأن عنوان البحث هو أزمة المرجعية في الثورة السورية، وتلك المرجعيات لاتعترف بثورة سورية ولا يوجد مفهوم للثورات في معظم أدبياتها، وهذا لايعني المواجهة العنيفة معها، وإنما هناك أساليب كثيرة للتعامل معها ليس هذا مجال الحديث عنها.
2-جميع المرجعيات الدينية السورية، يمكن أن تلتقي حول عدد كبير من النقاط المشتركة ولأسباب كثيرة، منها البيئة الاجتماعية والأرض والمجتمع ..الخ.
وبناء على ما تقدم يمكن تقسيم المرجعيات الدينية الثورية في سورية إلى مرجعيات فكرية حركية ومرجعيات فكرية غير حركية .
أولاً- المرجعيات الفكرية الحركية
1- مرجعية جيش الإسلام
2- مرجعية أحرار الشام
3- مرجعية فيلق الشام
4- الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام
ثانياً: فكرية غير حركية
1- المجلس الإسلامي السوري ككيان وليس كمكونات
2- الأخوان المسلمين
3- حزب التحرير
وبالطبع فإن هناك مدارس مختلفة أيضا ضمن هذه المرجعيات، ولكن اكتفينا بالتصنيف العام لإيصال فكرة الاختلافات وتبسيطها والوقوف على أبرز نتائجها.
وقد تعددت مستويات الاختلاف والخلاف بين المرجعيات الدينية المختلفة وقد أخذ ثلاثة أشكال:
1- الاختلاف بين المرجعيات الدينية الحركية
2- الاختلاف بين المرجعيات الدينية غير الحركية
3- اختلاف المرجعيات الحركية مع المرجعيات غير الحركية
هذا التعدد والاختلاف كان له نتائج خطيرة على المستوى العسكري للثورة السورية منها
1- إعاقة تشكيل جيش وطني سوري واحد يكون ذراعاً قويا للثورة السورية
2- اقتتال بشكل متقطع بين مختلف المرجعيات الحركية بين بعضها من جهة وبين فصائل عسكرية ثورية محسوبة على الجيش الحر وأخرى محسوبة على تلك التنظيمات.
3- تململ الحاضنة الشعبية وانفضاض الناس عن الثورة
4- خروج القرار الثوري السوري من أيدي السوريين إلى لاعبين إقليميين ودوليين بشكل كبير
وماذكر يؤيده ويؤكده غير واحدٍ من المسؤولين العسكريين في الجيش الحر الذين عايشوا ذلك وجربوه في الميدان، وخاصة فيما يتعلق بتململ الحاضنة الشعبية وعدم القدرة على تشكيل جيش وطني حتى الآن.
وفي هذا الصدد نذكر مقتطفات من تجارب بعض من قابلناهم في هذا المضمار:
العقيد فاتح حسون قائد "حركة تحرير الوطن" أكد أنّ الاختلاف والتناحر بين المرجعيات الدينية ينعكس على الحاضن الشعبي سلباً، مع عدم نكران أن لكل من التيارات العاملة في سوريا حاضنته الشعبية، وبالتالي ستنعكس مشاكل كل تيار على الحاضنة الشعبية للتيار الآخر".
كما بيّن أنّ الحديث عن تشكيل جيش وطني يعتبر هدفاً استراتيجياً يحتاج لكثير من تباحث واتفاق وتذليل للعقبات التي تزداد يوماً بعد يوم.
في حين يذكر العميد أحمد بري قائد المجلس العسكري في حماة أنّ الكثير من الممارسات ومنها إطلاق النظام لما يسمى الإسلاميين و"داعش" وبعض ممارسات الجيش الحر أيضا أدت إلى انخفاض الحاضنة الشعبية للثورة وتململها.(7)
ويضيف الأستاذ إبراهيم الحسون "عضو المجلس الإسلامي السوري" أنّ تعدد المرجعيات واختلافها قد ساهم أيضا بعرقلة الحل السياسي الذي قد يكون مخرجا ومختصرا لوقت كثير قد تستمر فيه الثورة، كما أدى إلى تغيير الدور الحقيقي للدين من شحذ الهمم والصبر إلى بث التفرقة. (8)
المبحث الثالث : رؤية في بناء مرجعية واحدة للثورة السورية
من خلال استعراض تاريخ الثورة السورية بأحداثها ومؤسساتها وشخوصها ومخاضها العسير خلال ست سنوات خلت، إلا أنّه لايزال هناك طيف واسع شعبي ونخبوي يتفق على مبادئ ثورية عليا مشتركة تشكل الإطار العام لمعظم القوى السورية بشقيها الثوري والمعارض، وتجد هذه المبادئ واضحة في:
1 - المبادئ العامة للهيئة العامة للثورة السورية
2- الميثاق العام للائتلاف الوطني السوري
3- ميثاق الشرف الثوري الذي وقعت عليه كبرى فصائل الثورة السورية
4- المبادئ الثورية الخمسة التي أعلن عنها المجلس الإسلامي السوري.
وجميع هذه القوى السورية التي تشمل السياسي والعسكري والديني اتفقت على مبادئ عامة متقاربة كثيرا، ثمّ أتت مؤخرا المبادئ الثورية الخمسة التي أعلن عنها المجلس الإسلامي السوري وقد حازت على إجماع كبير من غالبية قوى الثورة والمعارضة السورية وهذه المبادئ هي: (9)
1- إسقاط بشار الأسد وكافة أركان نظامه، وتقديمهم للمحاكمة العادلة.
2- تفكيك أجهزة القمع الاستخباراتية والعسكرية، وبناء أجهزة أمنية وعسكرية على أسس وطنية نزيهة، مع المحافظة على مؤسسات الدولة الأخرى.
3- خروج كافة القوى الأجنبية والطائفية الإرهابية من سورية، ممثلة بالحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، وميليشيا أبي الفضل العباس، وتنظيم الدولة.
4- الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً واستقلالها وسيادتها وهوية شعبها.
5- رفض المحاصصة السياسية والطائفية
ورغم تقديم المجلس الإسلامي السوري خدمة جليلة للشعب السوري وقواه الثورية ومعارضته السياسية عبر تمكنه من جمعهم على مبادئ شاملة وواضحة ومساهمته في تقديم خدمات كبيرة أخرى للشعب السوري وقضيته العادلة ليس آخرها المساهمة في إنجاح مؤتمر الرياض إلى حد ما، والذي انبثقت عنه الهيئة العليا للتفاوض، الأمر الذي يؤهله أن يمارس دور المرجعية الدينية والمرشد الرئيس للثورة السورية حتى وصولها إلى برّ الآمان وتحقيق أهدافها المنشودة.
ولكن هذه المرجعية رغم أهميتها فقد ظهر عجزها في عدد من المواضيع نذكر منها
1- عدم قدرتها على إيقاف سيل الدم والاقتتال المؤسف الذي جرى بين فصيلين يعترفان بمرجعيتها وموقعان على مبادئها الثورية الخمسة وهما؛ فيلق الرحمن وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية، رغم الجهد الذي بذله المجلس الإسلامي كمؤسسة للحؤول دون وقوع الاقتتال وتطوره إلى أنّ ذلك باء بالفشل.(10)
2- البعد الجغرافي الذي يبعدها عن الأرض السورية كمؤسسة وليس كأعضاء يضعف كثيراً من تأثيرها على الواقع الميداني المعاش على جميع المستويات وبالأخص على مستوى الفصائل العسكرية مما يجعل شرعي الكتيبة أكثر تأثيراً في كثير من الأحيان من مؤسسة المجلس الإسلامي السوري (11).
3- عدم تمثيل المرجعيات الحركية ضمن مؤسسة المجلس بشكل مباشر وحقيقي.
4- تأثير الدعم الخارجي من قبل الدول الداعمة للثورة بشكل غير متسق، تبعا لاختلاف المرجعيات والمدارس الدينية التي تعتمدها تلك الدول.
وبتجاوز هذه المعوقات يمكن لمؤسسة المجلس الإسلامي أن تلعب الدور الأكبر في ترشيد الثورة وضبط الثوار وصولاً إلى تحقيق أهداف وطموحات الشعب السوري، بدلا من أن تضيع ثورته وأبنائه بين إفراط مرجعية النظام الدينية وتفريط مرجعية تنظيم "الدولة الإسلامية".
المبحث الرابع: توصيات البحث
بداية تقصّد الباحث أن لا يدخل في أسباب الاختلاف بين المرجعيات والمدارس الدينية والفكرية لسببين:
1- معظم هذه الأسباب أصبحت معروفة ولاتخفى على أحد، وهي ستبقى موجودة وليس محل بحثنا هو توحيد هذه المرجعية وهذه المدارس، لأنّ ذلك سيكون ضرباً من المستحيل، وإنما الهدف هو البحث عن نقاط مشتركة تجمعها وهي كثيرة تمّ التطرق إلى بعضها آنفاً، وغاية سامية تسعى من أجلها تعود بالنفع الكبير عليها جميعا وعلى عموم الشعب السوري، الذي لاتعنيه هذه الخلافات بقدر ما يبحث عن هوية وانتماء جامع ومظلة كبيرة يركن إليها لتحميه من الدمار والانهيار.
2- معظم هذه المرجعيات اتفقت واجتمعت على مبادئ عامة - المبادئ الثورية الخمسة- وجدير بنا البحث عن أسباب تزيد من فرص استكمال البناء على ما تمّ الوصول إليه بدلا من الرجوع القهقرى، والبحث في الأسباب الخلافية التي أثبت الواقع قبل التاريخ أنّ بحثها يأتي في إطار المنطق السفسطائي الجدلي.
وهذا المنطق يمكن أن تفيد مناقشته وبحثه في أوقات قوة الأمة ومنعتها، لافي أوقات تتعرض فيه الأمّة والدين إلى خطر كبير وأعداء كثر يتربصون؛ الذين إذا ما انتصروا - لاقدر الله- فقد لا تستطيع الأمةّ النهوض من جديد لعشرات السنين وربما أكثر.
- توصيات البحث
1- عقد ورش عمل مغلقة ومستمرة تضم جميع المرجعيات الدينية (الحركية وغير الحركية) التي وقعت على المبادئ الثورية الخمسة لتوسيع مرجعية المجلس الإسلامي وتقويتها، والاتفاق على ميثاق وآليات محاسبة تجعل من مرجعية المجلس؛ مرجعية مؤسسية وليست شخصية، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العصمة للأمة وليس لأحد من أفرادها مهما علا شأنّه حيث قال:" (إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ")، رواه الترمذي وصححه الألباني .
2- بعد هذه الخطوة وتحقيقها يتم التوافق على إنشاء مراكز رئيسة للمرجعية الدينية (مؤسسة المجلس الإسلامي بحلتها الجديدة على سبيل المثال) في داخل الأراضي السورية المحررة.
3- تقوم المرجعية الجديدة بالإشراف الفكري والعقائدي على جميع الفصائل العسكرية المعارضة والثورية في أرض سورية والممثلة في المرجعية الدينية، بحيث تقوم هذه المرجعية الجديدة بتعين المسؤولين الشرعيين لدى جميع الفصائل، بمعنى أن يصبح الجانب الشرعي للفصائل من مسؤولية المرجعية بشكل مباشر.
4- عدم إقصاء شرعييّ الفصائل المحليين بل الاستفادة منهم وتأهيلهم من جديد بما يتناسب والحال الجديد وربطهم بالمرجعية الجديدة بشكل مباشر.
5- سعي المرجعية الجديدة إلى إقامة علاقات تعاون داخلية وخارجية انطلاقا من مبادئ الثورة الثورية وبالتعاون والتنسيق مع المكاتب السياسية والعسكرية لجميع فصائل وقوى الثورة، إضافة إلى سعي هذه المرجعية إلى إصلاح الشأن السياسي والعسكري للثورة السورية، بحيث نصل في وقت قصير نسبياً إلى ما يطمح إليه الشعب السوري الثائر عبر بناء مؤسسات ثورية قوية وقادرة على حمل مسؤولياتها تجاه جميع أبناء الوطن.
خلاصة
لا يخفى على أحد أنّ المرجعية الثورية السورية تضم أعلاماً وقامات كبيرة معروفة على مستوى العالم الإسلامي وليس السوري فحسب، ومع ذلك فإنّها تمارس الكثير من الأدوار السلبية لناحية تفرقها وعدم اتفاقها وتصلب البعض برأيه ومذهبه ضد الآخر على حساب مصلحة الشعب والوطن وكل يدعي أنّه الصواب وأنّه الحارس الأمثل للوطن والدين.
ويبدو أننا في عصر لا يمكن الوثوق به إلا بالمؤسسات وليس بالأشخاص كحراس للوطن والدين، فليس من أحد معصوم مهما علا شأنّه.
لذلك فإننا اليوم بحاجة إلى مؤسسة دينية مرجعية، تكون كمجلس شعب مؤقت يضم في داخله تيارات وأحزاب متناحرة ومختلفة، بحيث يتمّ حصر الاختلاف والتناحر تحت قبة المجلس، ليثمر خارج المجلس بناءاً للوطن وصوناً لكرامة المواطنين وهويتهم الجامعة.
وقد دخلت الثورة السورية عامها السادس لتثبت أمرين؛ الأول أنها يتيمة إلا من إرادتها لأنها تنتصر اليوم على محاولات كسرها، وكشفت أن نظام الأسد هو صورة لتقاطع مصالح دولية واقليمية لا وطنية سورية ولا عربية.
أما الأمر الثاني فهي بيضاء لم يستطع أحد تلويثها حتى الآن على الرغم من محاولات شيطنتها، وإلباسها ثوب الإرهاب تارة، وعدم الكفاءة تارة أخرى إلا أنها تثبت يومياً إصرارها على تحقيق أهدافها الحضارية الضاربة في جذور تاريخ شعبها الثائر.
وتأتي هذه المعطيات لتزيد بدورها من حجم المسؤولية الملقاة على كاهل المرجعية الدينية بالدرجة الأولى وتضعها أمام اختبار جدي لتجاوز خلافاتها البينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ سورية والارتقاء إلى مستوى نضال وتضحيات هذا الشعب العظيم.