كان العالم، قبل 31 سبتمبر/ أيلول 2015، يتعاطى مع روسيا بوصفها قوة إقليمية متنمرة، تسعى للبروز في محيطها والمشاكسة على أدوار اللاعبين الكبار وحضورهم، أميركا واوروبا، قرب حدودها، وقد وصل حال الاستخفاف بها إلى درجة أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجد غضاضةً في توصيف روسيا دولة إقليمية، في إشارة منه إلى رفض محاولاتها، وربما عروضها، للحصول على تعامل ندّي مع القوى الكبرى.
كانت يوميات الحرب السورية، على الرغم من كارثيتها، فرصة لتندّر إعلام الغرب وساسته على أداء روسيا العسكري، وأدواتها الحربية في سورية، فقد امتلأت صفحات الكاريكاتير في الصحف الغربية بصور حاملة الطائرات الروسية ذات الدخان الأسود، كما تهكّمت التقارير على صواريخ روسيا المجنّحة التي سقطت في إيران، فضلاً عن الغمز واللمز من عشوائية السلاح الروسي.
وحدهم السوريون الذين كانوا يعيشون بدمهم ولحمهم تحت حمم الأسلحة الروسية كانوا يدركون مدى سماجة التندّر الغربي، ليس لأن الأسلحة الروسية دقيقةٌ بمقدار أكبر مما تصوّره النكتة الغربية، بل لأنها كثيفة وغزيرة، وإن تخطئ واحدة فالأخرى تصيب الهدف. ولأن التندر الغربي شكّل محرّكاً للروس، كي يثبتوا للغرب أنهم قادرون على التدمير والقتل إلى أقصى درجة، ما دام الغرب قد حصر تحدّيه روسيا بقدرتها على هزيمة السوريين.
في سبيل ذلك، كان على روسيا أن تحضر الجيوش الجرّارة إلى سورية، وقد اعترف وزير دفاعها باشتراك حوالي خمسين ألف جندي روسي في الحرب على السوريين. ويعرف الغرب أن الروس يكذبون حتى بعدد الجنود الذين يشتركون في المناورات، ففي وقتٍ يعلنون فيه عن اشتراك عشرة آلاف جندي، تؤكد مراكز الرصد الغربية أن العدد يصل إلى حدود مائة ألف جندي، هذا على مستوى مناورات، فكيف عندما يتعلق الأمر بالحروب؟ ناهيك عن أكثر من مئتي ألف مقاتل أمنتهم إيران، ومثلهم جنّدهم نظام الأسد.
على المستوى التسليحي، استخدمت روسيا كامل طقم أسلحتها، الإستراتيجية والتقليدية، باستثناء النووي، ربما بأحجامه الكبيرة، ذلك أن الأيام ربما تكشف أن روسيا قد استخدمت نماذج معينة ومخففة من هذا السلاح، إذ في حالات كثيرة، كانت أعداد القتلى نتيجة الغارات الروسية وحجم الدمار يفوق طاقة الأسلحة التقليدية على صناعته، كما حصل في مناطق في إدلب وحلب.
ولم تقصّر روسيا في استخدام طاقتها الدبلوماسية إلى أبعد الحدود، قوّة رديفة لآلتها العسكرية في سورية، سواء عبر "الفيتوهات" التي رفعتها في مجلس الأمن لمواجهة أي محاولةٍ لوقف الحرب، وتعطيل ألة القتل وضبطها، أو من خلال توضيب التسويات والتفاهمات مع الدول الإقليمية، لمحاصرة السوريين الثائرين، وقطع طرق إمدادهم، وكان ذلك كله يجري فيما الغرب كان لا يزال مستلقياً على ظهره من الضحك، على ما سماها المغامرة الروسية في سورية!
لم يطل الوقت حتى بدأت الصور تكشف حجم الدمار الرهيب الذي خلفته آلة الحرب الروسية. أجزاء من مدن مسحت من الخريطة، ومساحات واسعة من الأرياف كانت موجودة يوما، وقد كان مقدّراً أن تشكل هذه الصور والمآسي الإنسانية التي رافقتها صدمة في الغرب الذي يدّعي أنه يقف إلى جانب حق الشعوب في الحرية والحياة، غير أن المفاجأة أن هذه الصور شكلت أوراق اعتماد روسيا للعودة إلى مرتبة القوّة العظمى، وموافقة الغرب على أنها لم تعد قوّة إقليمية غير مسؤولة!.
يذكّرنا هذا المنطق بروايات الحرافيش والفتوات في الأدب العربي، وخصوصا روايات نجيب محفوظ، حيث تستلزم ترقية شخصٍ من الطبقة الدنيا إلى النخبة القريبة من الفتوّة، أو وضعه على السكّة التي توصل إلى منصب الفتوّة، قيامه بعملية قتل أحد الأشخاص اختبارا ودليلا على قوّته وقساوة قلبه وتوحّشه. وغالباً ما تكون الضحية امرأة حرّة لا ترضخ لرغبات الفتوّة، أو رجلا نظيف الكف يعتبره الفتوّة منافساً محتملاً، بمعنى أن الضحايا هم ممثلو الخير والجمال والحق في المجتمع.
وضع الغرب روسيا أمام هذا الاختبار السوري الرهيب، وحفّزها على القيام به، وجعل سورية عنوانا لمساعي روسيا للعودة إلى مرتبة القوى العظمى، وكأنه يقول، دمّروا سورية، وستفتح لكم أبواب نادي القوى العظمى، إذ ليس لدى روسيا من أرصدةٍ تؤهلها لشغل ذلك الموقع. حتى على الصعيد الدبلوماسي، أتيحت لروسيا الفرصة لاستعراض مهارات دبلوماسيين لم يكن يسمع بهم العالم، ولا أحد يعرفهم اليوم خارج حالات التشاطر على مفاوضي المعارضة السورية.
وعكس ما حاول ساسة الغرب إيهام العالم به من أنهم كانوا ينتظرون روسيا على الضفة الأخرى، تتوسلهم لإنقاذها، فقد كانوا يعرفون مدى ثقل يدها العسكرية، ويؤكد على ذلك وصف وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، روسيا بأنها "منغلقة وقبيحة وذات نزعة حربية ومناهضة للديمقراطية، مثل إسبرطة".
ثمّة مؤشرات كثيرة على قبول الغرب روسيا في موقع القوة العظمى، بعد إنجاز مهمتها السورية. وحدهم السوريون يعرفون كيف استحقت روسيا هذه الرتبة، والثمن الذي دفعوه لتظهير تلك العظمة.
خرج اجتماع أستانة، في نسخته الثامنة، متناغماً مع ما يخطط له ساسة النظام الروسي حيال القضية السورية، حيث حدّد البيان الخامتي للاجتماع يومي 29 و30 يناير/ كانون الثاني موعداً لعقد مؤتمر سوتشي، تحت مسمى "الحوار الوطني السوري"، الذي سيحاول فيه الساسة الروس وضع كل ضغوطهم على المشاركين فيه، من أجل أن تأتي مخرجاته متماهيةً مع رؤيتهم لترسيخ وجودهم الاحتلالي في سورية الذي لا يرون متحققاً مستداماً له إلّا من خلال إعادة إنتاج نظام الأسد المجرم.
ولم يتمادَ الروس في المضي لما يخططونه في سورية إلا بعد تطويع المعارضة، وتمييع مواقفها، حيث جرى تنازل كبير من المعارضة في مؤتمر الرياض 2، عبر ضم ممثلين عن منصتي موسكو والقاهرة، وخصوصاً منصة موسكو التي يعتبر رئيسها أن ليس بين السوريين، بمن فيهم النظام، سوى خصومة سياسية، على الرغم من كل ما ارتكبه النظام من جرائم بشعة بحق غالبية السوريين.
والأهم أن ما جرى في مؤتمر الرياض 2 كان تجاوزاً للهيئة العليا للتفاوض، ولم يشترك أي من السوريين في إعداده أو التحضير له، وعقد تحت ضغوط إقليمية ودولية، وكأن السوريين ليس لهم أطر سياسية ولا مرجعيات. وكان المفترض أن تجتمع الهيئة العليا للتفاوض السابقة، وتقدم جردة حسابٍ لعملها، وتحاسب على تقصيرها إن وجد.
ويكرّر الروس، في أيامنا هذه، الأمر نفسه في التحضير لمؤتمر سوتشي، حيث لم يجر التشاور مع أي طرفٍ سوري، ولم تستشر مؤسسات المعارضة وتشكيلاتها، وغاية مؤتمرهم هي تصوير الصراع في سورية، وكأنه صراع أهلي أو نزاع بين أطراف سورية، بما يعني أن ليس هناك ثورة شعب ضد نظام مستبد. لذلك سمّوه مؤتمر الشعوب السورية في البداية، فالخلاف هو بين شعوب سورية، أي أنه نزاع أهلي، والنظام جزء منه، لذلك يجب جمع كل الأطراف والطوائف والشعوب، من أجل تقديم مسوغات حل روسي، وتظهر روسيا كأنها تريد حل هذا النزاع الأهلي، بإصلاحات أو تعديلات دستورية وانتخابات يفوز بها الأسد. وبالتالي، فإنه مؤتمر سيعقد لتشويه القضية السورية وتصفيتها، بوصفها قضيةً عادلةً لشعب يريد الخلاص من الاستبداد، بالقفز فوق قرارات وبيانات دولية وأممية، وخصوصاً بيان جنيف 1 والقرارين الأممين 2118 و2245، تدعو إلى انتقال سياسي يفكّك النظام القائم، وينقل البلاد إلى ضفة التعدّدية السياسية، وهو ما يحاول النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون إفشاله بكل السبل، بما في ذلك ارتكاب المجازر وعدم إطلاق المعتقلين، واستمرار حصار مئات آلاف المدنيين، خصوصاً في الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، والهجوم على محافظة إدلب، بالتزامن مع هجوم تنظيم داعش عليها.
وسيدعى إلى مؤتمر سوتشي أعضاء من المعارضة ومن النظام وشخصيات صنعتها أجهزة الاستخبارات الروسية وسواها، والغاية الأساسية إيجاد حل روسي، وضرب مسار جنيف التفاوضي، ثم تحويل مخرجات المؤتمر إلى الأمم المتحدة، لتسويغها في مسار جنيف وإعطائها الشرعية. وللأسف هناك شخصيات تدّعي الوقوف في صف المعارضة ستهرول للمشاركة في سوتشي، ولا شك في أن النظام الروسي قادر على جمع متنطعين كثيرين، لأخذ أدوار، والتصدّر الشخصاني.
ويبدو أن مواقف الدول الغربية غير مطمئنة، على الرغم من أن الأطراف التي كانت تدعم المعارضة لا تدعم سوتشي علناً. لكن إذا هرول معارضون سوريون إلى سوتشي، فإنها لن تدافع عن الشعب السوري، على الرغم من أنها ستقول إعلامياً تعارض فيه سوتشي، لكنها في النهاية ستغض النظر عمّا قام به الروس.
ويكشف واقع الحال أن ما وصلنا إليه سببه الأساس أن أطر المعارضة، وتشكيلاتها السياسية، كانت تفتقر إلى العمل السياسي المخطط والمنظم، وكانت تتعامل، خلال الست سنوات السابقة، وفق منطق ردود الأفعال، حيث لم تقم بأي فعل يذكر، ولم تبادر، فلم يكن لديها لا خطط أو استراتيجيات. وبالتالي ليس أمام القوى الحية السورية سوى إمكانية توحيد الجهود لتعزيز العمل على تنظيم مقاومة شعبية طويلة المدى، لها مظلة سياسية، من أجل عدم التفريط بمطالب الشعب السوري وطموحاته، والدفاع عنها، حتى ولو نجح النظام الروسي بتمرير حل صوري لن يدوم طويلاً. وهنا تبرز ضرورة الاتصال بالناس على الأرض، والاتصال بالدول التي يمكن أن تساهم في هذا المجال، من أجل محاولة قلب الطاولة على الساسة الروس، والدعوة التي أطلقها الدكتور برهان غليون إلى عقد مؤتمر حوار وطني سوري بين كل أطياف الشعب السوري، بمساعدة الأمم المتحدة وإشرافها، والتشاور مع الدول غير المطمئنة لما سيفعله النظام الروسي في سوتشي، وخصوصاً الدول الغربية والعربية، التي يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً إذا رأت قيام محاولة جديدة وجدّية، للوقوف ضد مخططات الروس. وهذا يعتمد على التنظيم والمبادرة وإيصال الفكرة إلى عموم السوريين، وقطع الطريق على مؤتمر سوتشي، بعقد مؤتمرٍ ينظمه السوريون، وتبيان أن مؤتمر سوتشي ينظمه طرفٌ لا يخفي دعمه لنظام الأسد المجرم، عسكرياً وسياسياً، ولا يتوقف عن ذلك، بهدف تثبيت النظام وتلميعه.
لدى السوريين إمكانية لتشكيل تيار واسع يبلور مشروعاً سورياً جامعاً ومقاوماً، يمكنه قطع الطريق على سوتشي، ولا يكتفي بالقول إننا لن نذهب إلى سوتشي، بل يعمل على إيجاد بديل، عبر التواصل مع السوريين في الداخل وفي المهجر لبلورة الفكرة، والعمل على عقد مؤتمر حوار وطني بأيدي السوريين. وهدف هذه الطريق عدم السماح للساسة الروس كي يملوا ما يريدون على السوريين، من حيث قوائم المدعوين والمخرجات والمقرّرات.
ويمكن إحباط المخطط الروسي، وإعادة بعث المعارضة وإحيائها، عندما يحس السوريون أنه يمكنهم الأخذ بزمام الأمور، لا أن ينتظروا قرارات الأصدقاء والأعداء، وأن لا ينسوا أن الساسة الروس لم يخفوا عداءهم للمعارضة، خصوصاً وأنهم اشترطوا على من يحضر سوتشي التخلي عن مطلب رحيل الأسد، وعدم طرحه بتاتاً في المؤتمر، بل وراحوا يطالبون المعارضة بعدم استخدام مصطلح النظام السوري، بل الحكومة السورية، أي أن النظام ليس طرفاً بالنسبة إليهم بل حكومة مشروعة. وهذا كله من أجل تثبيت الاحتلال الروسي عبر القواعد العسكرية البرية والبحرية التي يرديون إبقاءها على الأرض السورية 49 سنة، قابلة للتمديد بتواطؤ من النظام. وبالتالي كيف يمكن الوثوق بالروس الذين لم يدينوا، ولو مرة، عنف النظام وعمليات القتل والتعذيب الوحشي التي ارتكبها بحق السوريين؟ وكيف يمكن أن يكون هناك اعتقاد لدى من يسمّون أنفسهم المعارضة بأن هدف سوتشي هو إيجاد حل سياسي، وليس إعادة تلميع النظام وتأهيله، وخصوصاً الأسد، بوصفه الضمانة لاستمرار آلة القمع والقتل؟
ويمكن القول إن الكرة اليوم في ملعب السوريين أنفسهم، والأمر يتوقف على مدى قدرتهم على كسر مخططات الروس والإيرانيين، من خلال محورة العمل الوطني في المرحلة الراهنة حول ضرورة إسقاط "سوتشي" أولاً.
لم يعد خافياً أن روسيا تراجعت عن بيان جنيف 1 الذي صاغته يد روسية أصلاً، كما صاغت القرارات الدولية المتلاحقة التي باتت الملاذ القانوني الوحيد للسوريين الذين باتت مطالبهم تنفيذ قرارات مجلس الأمن راضين بها، رغم أنها تدعوهم إلى شراكة مع النظام الذي طالبوا بإسقاطه، وكان مطلبهم الأهم أن يحاسب المجرمون وأن ينتحى الأسد بوصفه مسؤولاً عن الدمار الشامل الذي حل بسوريا، لكن المجتمع الدولي بدا غير مهتم بتنفيذ قراراته، مكتفياً بتصريحات إدانة فقدت حضورها العملي، بل إن بعض هذه التصريحات تغير بعدها الأخلاقي حين وجد بعض القادة أن عدوهم هو «داعش» فقط، وليس الأسد الذي يقتل شعبه، وفهم السوريون من هذه التصريحات أنها تفويض للأسد بقتل من يريد ما دام المقتول سورياً.
ونفهم أن المجتمع الدولي بعظمة حضوره بات يخاف من المارد الروسي الذي صعد عسكرياً على مبدأ عبر عنه الشاعر الجاهلي ( خلا لك الجو فبيضي واصفري )، فأمام التردد الأميركي تمكنت روسيا من إنشاء سلسلة قواعد عسكرية ضخمة في سوريا، وبات لها موقع متقدم على شاطئ المتوسط، وأمسكت بقبضة فولاذية صلبة على عنق سوريا، ومنحت حضورها شرعية (غير قانونية) عبر موافقة الأسد الذي فقد شرعيته بعد سلسة الجرائم التي ارتكبها، لكنه منح روسيا وإيران امتيازات وصلت إلى حد التخلي الكامل عن السيادة الوطنية، وقد لاحظ العالم كله هذا التخلي في طريقة استقبال بوتين له في قاعدة حميميم التي باتت روسية.
وإزاء تنامي شعور روسيا بنشوة الانتصار على الشعب السوري المنتفض، بدأت تعلن أن بيان جنيف 1 صار قديماً، وهي بذلك تنسف الرؤية الدولية التي استندت إليها قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية السورية، ولقد مارست روسيا ضغوطاً لتفكيك المعارضة السورية، وأصرت على دخول ممثلين لها سمتهم ( منصة موسكو) لأداء دور في نسف بيان جنيف، وتم ضمهم إلى هيئة التفاوض الجديدة، لكنها فوجئت بأن السوريين يتمسكون بحقوق شعبهم، وأن المملكة العربية السعودية لم تمارس ضغطاً عليهم لإجبارهم على القول ببقاء الأسد رئيساً للمرحة الانتقالية، حيث ظهر بيان الرياض 2 متماهياً مع بيان الرياض 1، وقال أشقاؤنا السعوديون بوضوح ( إنهم يدعمون خيارات الشعب السوري )، ولئن كانت الدول العربية الداعمة لهذا الشعب تريد أن ترى حلاً سريعاً للقضية السورية فإنها لا تقبل أن يظلم هذا الشعب وأن يقهر ويجر مرغماً إلى معتقل كبير سيعيد النظام إنتاجه.
وقد أدركت روسيا أن ما تطلبه من تركيع الشعب السوري هو مطلب عسير، فلم يعد لدى السوريين ما يخسرونه، وقد بات 15 مليوناً منهم مشردين بلا وطن، تكتظ بهم مخيمات اللجوء، أو هم لاجئون في أوروبا وسواها من أصقاع الأرض، أو هم ضيوف مؤقتون في الدول العربية والصديقة، وهم لا يريدون أن يكونوا عبئاً على هذه الدول، لكنهم يدركون أن العودة إلى سوريا عبر تقبيل «البوط» العسكري، كما اشترط النظام، تعني دخولهم في إذلال مريع، وأنهم سيلاقون من العقاب والتعذيب ما لا يطاق، ويدركون كذلك أن أي حل يعيد إنتاج النظام سيعني استمرار الصراع لمئة عام على الأقل، بحيث تبقى سورية ساحة دم ودمار، وستكون بالرغم عنها ساحة إنتاج جديد للإرهاب.
وقد تقصد الروس إفشال مفاوضات جنيف حين لم يضغطوا على النظام للقبول بالقرارات الدولية، وقد اشترط وفد النظام في الجولة الثامنة أن تتراجع المعارضة عن بيان الرياض 2، وعن أي حديث حول رحيل الأسد، مع أن وفد النظام ذاته لم يعلن مثل هذا الموقف في الجولات السابقة رغم كون بيان الرياض1 أعلى سقفاً وأوضح تعبيراً عن موقف المعارضة من مستقبل الأسد، فإن روسيا أرادت أن تنقل مفاوضات جنيف إلى سوتشي، وبدأت تحاول إقناع السوريين بأن سوتشي رديف لجنيف، وأنها تريد مظلة الأمم المتحدة، وكان جواب المعارضة (إذا كانت سوتشي متابعة لمفاوضات جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة فما الداعي إذن لعقد مؤتمر سوتشي؟)، لكن روسيا تريد تهميش وفد المعارضة وهيئة التفاوض عبر تظاهرة سياسية تحشد لها ألفاً وسبعمائة شخص يضيع وفد التفاوض بينهم، وجل المدعوين باسم المعارضة هم ممن تم تصنيعهم في الداخل، وسيكون هدفهم في سوتشي ترسيخ النظام والدفاع عن بقاء الأسد رئيساً، وستكون المفارقة أنهم يحسبون على المعارضة.
ويدرك العالم كله أن سوريا لن تصل إلى الاستقرار ولن يتوقف شلال الدم فيها، مادام نظام الديكتاتورية قائماً فيها، وما دامت إيران تحقق طموحها التوسعي الفارسي القديم، وما دامت روسيا تبحث عن حضور عسكري دولي على حساب حقوق الشعب السوري، ومادام المجتمع الدولي يتخلى عن دفاعه عن حقوق الإنسان وعن الشعوب التي تطمح للحرية والديموقراطية.
يقيّم وفد المعارضة السورية أداءه في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، التي لم تحدث أصلاً، وفقاً لمعايير خاصّة به، إذ يعلن نجاحه، وفق بيان له، في تحليه بالمرونة والانسجام والفاعلية، وفي الترحيب والاهتمام الدوليين به، والذي انعكس بلقاءات واتصالات مع مسؤولين عرب وغربيين، ودعوات لرئيسه إلى زيارة عدد من دول المنطقة والعالم. ورغم أهمية النظرة الإيجابية التي يسبغها الوفد على ذاته، إلا أن الوضع يتطلب طرح بعض الأسئلة المنطقية، على ضوء هذا التقييم. فمثلاً، ما هو فهم المعارضة، التي يمثلها هذا الوفد، للعملية التفاوضية؟ وهل يتمثل النجاح بالذهاب إلى المفاوضات فقط من دون النظر إلى الأهداف المحددة لكل جولة، والتي يفترض على أساسها أن يتم الإعلان عن جولات لاحقة؟ وهل الوفدان المعنيان بالصراع، أي النظام والمعارضة، يملكان مفاتيح الحل حقاً، أو هل المعارضة، على الأقل، تملك من أوراق القوة والضغط ما يمكّنها من فرض الحل الذي تريده ولو بالحدود الدنيا؟ وأخيراً هل العملية التفاوضية هي مجرد إجراء شكلي، أي لتحقيق صورة إعلامية، حتى مع غياب الوفد المقابل؟ أو هل يكفي ذلك لإعلان الوصول إلى نتائج ترفع معنويات من يحضره، وتجعله يعتبر أداءه أفضل من غيره أو أنه أدى مهمته وأن كل شيء على ما يرام؟
وبعيداً من عقلية التشكيك والاتهام وربما التخوين أحياناً، التي باتت تسود الشارع السوري المعارض، بسبب انضمام أطراف متباينة في رؤيتها للحل السوري إلى وفد التفاوض في جنيف، فإننا إزاء أسئلة حول مجمل الجولات وليس آخرها فقط، منها:
- لماذا تأخذ الدعوة الأممية للمعارضة شكل الإلزام، بينما هي عملية اختيارية غير ملزمة لوفد النظام، الذي لم يف بأي من بنود قرار مجلس الأمن 2254، بل ولا حتى القرار القاضي بإنهاء ترسانته الكيماوية، بعد أن تبين استخدامه إياها أكثر من مرة بعد صدور القرار 2118 (2013)، وبما يشمل عدم الالتزام بإطلاق سراح المعتقلين وتمكين قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المناطق المحاصرة؟ وهنا لا تكفي الإجابة بأن المعارضة تريد أن تأخذ دور الطرف الحريص على الحل السياسي الذي يجري اقراره في المسار التفاوضي في جنيف، لأن ذلك يتطلب وجود «الشريك» المتفاعل، أو الحريص، في العملية التفاوضية، كما يتطلب أن تكون موازين القوى الدافعة للطرفين متساوية، ولو نسبيا، لتنتج عن ذلك عملية تفاوضية حقيقية تصيغ حلاً عادلاً، وهو غير متوفر.
- ما هي أدوات المعارضة أصلاً لفرض عملية تفاوضية داخل أروقة جنيف، دون سواها، في ظل غياب قوة مناسبة تساندها، وتعادل القوة الروسية التي تساند النظام السوري، ومعها إيران وميلشياتها، التي تزداد على حساب تناقص أصدقاء المعارضة، ما يبرر للنظام استمراءه في تعطيل مسار جنيف، منذ الجولة الثانية وحتى الثامنة، وربما يستمر الأمر لاحقاً.
- ما هو المقصود ببيان الوفد المعارض، عن نتائج الجولة الثامنة، بأن الأطراف الدولية والوسيط الدولي لم يكونوا مستعدين لتوحيد المعارضة وفدها وتقديمها هذه «المرونة»؟ فهل يحتاج الحديث مع الوسيط الدولي إلى مرونة أكثر من تبني معظم نقاطه الـ 12 في بيان المعارضة؟ وهل الأطراف الدولية التي فرضت على المعارضة توحيد وفدها لا تزال تريد المزيد من المرونة، مقابل عجزها هي عن إلزام النظام بتنفيذ القرارات الأممية ومنها القرار 2254، الذي جاء بناء على رغبة داعمتيه روسيا وإيران أساساً؟
- هل حقاً هناك مجال للمقارنة بين السيئ والأسوأ في مسار الجولات الثماني التي حدثت دون الوصول إلى أي عملية تفاوضية يمكن البناء عليها؟
- لماذا تستمر المعارضة في القفز فوق الواقع والتملّص من مناقشة القضايا الجوهرية بين بعضها بعضاً، قبل أن تستمر في جولات كمسلسلات مكسيكية تحت مسمى تفاوضية؟
على ذلك من المفيد التذكير أن القضيتين غير المتفق عليهما بين المعارضة داخل الوفد الموحد هما المختلف عليهما مع وفد النظام: قضية مصير الأسد، والقضية الكردية، وكل طرف داخل الوفد يرى أن مناقشة هاتين القضيتين الخلافيتين مبعث تفريق، لذلك يتم تجاوز نقاشهما من مبدأ دفع المشكلة إلى لحظة حسم بعوامل غير ذاتية. فمصير الأسد تراه منصة موسكو شرطاً يفشل التفاوض، وهو وجهة نظر غير ملزمة لأعضاء من الوفد الواحد، بينما يراه النظام شرطاً مرفوضاً من شأنه أن يبقي مسار جنيف في حالة ركود، ومقتصراً على مشاورات ولقاءات بين كل من الوفدين مع الوسيط الدولي الحالي واللاحق أيضاً.
وفي الوقت الذي حسم النظام موقفه من القضية الكردية، بصورة سلبية، سواء في تسمية الجمهورية العربية السورية، أو عدم الاعتراف بالحقوق القومية لأي مكون سوري ومنهم الكرد، استمرت المعارضة بتجاهل نقاش الأمر في شكل جدي، فالمجلس الكردي يطالب بدولة كونفدرالية، وهو ما تضمنته وثيقتهم الموقعة مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عام 2013، وهي الوثيقة التي تؤكد أن الائتلاف سبق الرئيس الروسي بوتين بتقسيم الشعب السوري إلى شعوب ومنها الشعب الكردي، واختار الوفد أيضاً الاستمرار بتجاهل المناقشة الفعالة للوصول إلى تسوية يمكن أن تقنع الكرد بمشروع وطني متكامل، يضمن الحفاظ على حقوقهم، في دولة مواطنين ديموقراطية تعددية، ما يعني استمرار التعاطي بتأجيل الأولويات بدل حلها، قبل أن نصل إلى ما سبق من انقسامات وانسحابات، تؤكد أن وحدة الوفد قابلة للتصدع، وحدث ذلك فعلياً في نهاية الجولة الخامسة التي عقدت في آذار (مارس) 2017.
هكذا تستمر المعارضة في محاولة تقديم نفسها كشريك متناغم في عملية تفاوضية أقرتها الأمم المتحدة، على رغم أن التجربة أثبتت أن هذه المرونة ليست كافية لإقناع النظام بالجلوس إلى طاولة التفاوض المباشر معها، وهي طالما بدأت بالتفاخر بها فالمطلوب منها الاستمرار، حتى إعلان النظام موافقته عليها، وهو لن يفعل ذلك قبل اقتلاع آخر أظافر الرافضين بقاءه في السلطة. وكل ذلك يفيد بأن خيارات المعارضة اليوم تضيق أكثر وأكثر، مع غضب الشارع السوري المعارض حيال هذه «المرونة»، التي قد تؤدي بالوفد أو بعض مكوناته إلى التعاطي مع مؤتمر سوتشي، الذي تدعو إليه موسكو كأحد صور المرونة المطلوبة منه دولياً.
هذا هو المشهد السوري اليوم الذي رسمته روسيا بجهد واضح، خلال السنوات الثلاث الماضية منذ بدء تدخّلها العسكري رسمياً في الصراع السوري، إذ تنتقل الصورة من نظام مسلوب الإرادة السيادية على أرضه، إلى معارضة منقسمة على ذاتها بين مفاوضات جنيف وآستانة وسوتشي القادم، وفاقدة أوراق القوة، ومع وفد موحد لا يحمل أي مشروع موحد وواضح يدافع عنه، مروراً بوفود متغيّرة في مسار آستانة، تحمل أجندة من يصدر قرار تشكيلها، ما يجعل قرار المعارضة المعترف بها أممياً (وفد الهيئة العليا للتفاوض)، بمقدار صعوبته، إلا أن من شأنه أن يضيف إلى المشهد السوري مزيداً من التحديات والتعقيدات. ولعل هذا من شأنه أن يحض المعارضة على مراجعة طريقها، وإعادة تشكيل بناها، واستعادة استقلالية قرارها، عبر مؤتمر وطني غير مرتهن النتائج والمرجعيات، يستند الوفد إليه في قبول أو رفض أي عملية تفاوضية، كما يسترشد بمخرجاته في المفاوضات، سواء في جنيف أو غيرها من المدن.
وللتذكير فإن مشاركة بعض أفراد الوفد في أي مؤتمر تساوي مشاركة الوفد بكامل أعضائه، باعتبار أن النتيجة النهائية ستكون ملزمة بنتائجها للجميع، في أي مسار آخر من آستانة إلى جنيف، لذا فلدى الوفد المعارض فرصة لاختبار وحدته، ليس في الشكل، كما حدث خلال تجربته في الجولة الثامنة، ولكن في المضمون هذه المرة، وعندها يمكن للمعارضة أن تعلن هزيمة خوفها من الحقيقة المؤجلة.
يتداول السوريون بيانات وعرائض، منذ عدة أيام، لجمع مليون توقيع ضد مؤتمر سوتشي الذي حددته روسيا في نهاية يناير/ كانون الثاني المقبل، ووافقت معها إيران وتركيا بوصفها الدول الضامنة. وتم الاتفاق الثلاثي على موعد المؤتمر، وترتيباته، في ختام اجتماع أستانة 8 أعماله، الأسبوع الماضي، من دون نتائج على صعيد الإفراج عن المعتقلين لدى النظام السوري، وهم الذين يقارب عددهم 200 ألف، بينهم آلاف النساء والأطفال.
وكانت روسيا قد ضربت موعداً للمؤتمر في بداية الشهر الحالي، لكنها غيرت رأيها بعد أن لمست معارضةً من قوى الثورة والمعارضة. وقي ذلك الوقت، أعطت موسكو للملتقى الذي تريده حاشداً، ويحضره قرابة ألفيْ شخص، اسم "مؤتمر شعوب سورية"، الأمر الذي أثار ردود فعل سلبية وانتقاداتٍ في أوساط السوريين حيال تقسيمهم إلى أمم، وهم شعب واحد، على الرغم من تعدّده الإثني والطائفي. وحين أدركت الأجهزة الروسية أن الحكاية أعقد من حساباتها عادت إلى تغيير الاسم، وتأجيل الموعد من أجل ضمان نجاح المؤتمر. ومع أن أخطاء التحضيرات كثيرة لكنها ليست السبب الرئيسي وراء التأني والتأجيل الذي يعود إلى أخذ موسكو في الحسبان موقف المعارضة الرافض للحضور على أساس الأجندة الروسية لإعادة تعويم الأسد.
وعلى الرغم من أن العرس الروسي يبدو على درجة كبيرة من الاحتفالية، فإن المطلوب، من هذا المؤتمر، أمر واحد لا غير، هو رأس الثورة السورية. ويحاول الروس الضغط بشتى الوسائل من أجل أن تحضر الثورة إلى المؤتمر، وتضع رأسها تحت المقصلة الروسية، وأعلنوا أنهم أنجزوا المهام التي كانت تنتظرهم في سورية، ولم يبق لديهم سوى هذا الهدف الذي يعلو على سواه من حيث الأهمية، ويشكل السبب الأساسي لتدخلهم العسكري المباشر، إلى جانب النظام في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي بدأوا يكشفون أسراره شيئاً فشيئاً، ومن ذلك أن حجم القوات الروسية التي قاتلت من أجل منع النظام من السقوط كانت 50 ألفاً من شتى صنوف الأسلحة الجوية والبرية وحتى البحرية.
تعبّر العرائض والبيانات التي يتم تداولها عن تحرّك ضروري، من أجل حشد الرأي العام السوري لرفض المشاركة في سوتشي، لكن الأمر لا ينتهي عند عدم المشاركة وبقاء الوضع على ما هو عليه، لأن الروس لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وسيكون ردّهم، كالعادة، مزيداً من الغارات والدمار والقتل. وفي هذه الحالة، ليس أمام السوريين سوى طريق واحد، هو أن يستعيدوا الثورة التي فرّطوا بها، وأضاعوها، وانشغلوا عنها بمسائل غير جوهرية، وتشكلت من بين الفصائل إمارات حرب، وأخرى تشتغل لحساب الأطراف الخارجية ومصالحها.
ويجب عدم الاستهانة بالمواقف التي صدرت، حتى الآن، لإسقاط "سوتشي"، أو عقده حسب شروط الثورة والمعارضة لجهة رحيل الأسد، وكلما صلّبت الثورة من موقفها، وشدّت صفوفها كلما تراجع الروس. وكانت المفاجأة، يوم الإثنين الماضي، حين أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن مؤتمر سوتشي سيكون تحت رعاية الأمم المتحدة، وهذا تراجع في التفكير الروسي، لأن مسار سوتشي اخترعه الروس، أصلاً، من أجل إنهاء عملية جنيف باعتبارها مساراً أممياً، ولا تفسير لهذا التحول سوى التحرّك الذي بدأ يوم الأحد، الخامس والعشرين من الشهر الحالي، بإطلاق عرائض وإصدار مواقف تدعو إلى مقاطعة سوتشي.
لا توجد لحظة في حياة السوريين أصعب من لحظة اليوم. ويكاد الموقف يشبه في تعقيده ودقته، إلى حد كبير، البدايات، حين انطلقت الثورة في مارس/ آذار 2011، وكانت شعبيةً، ولم يكن أحد إلى جانبها، وشقّت طريقها بتضحيات الشعب الذي لا يزال واقفاً، ولم ينكسر في كل الأرض السورية من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق.
رغم التحذير الأميركي الذي مرّره الرئيس ترمب، وأشاد به الرئيس الروسي بوتين في حينه، عن التحضير لهجوم إرهابي بعاصمة الثقافة والتاريخ الروسية، سان بطرسبورغ، منتصف ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وقع هجوم إرهابي بمتجر من متاجر المدينة أسقط عشرات الجرحى، في خضم الاستعداد لاحتفالات رأس السنة.
بوتين كان أثناء ذلك يكرم العسكريين الروس الذين يعتقد أنهم جلبوا النصر لروسيا العظمى. وقال بوتين مستهلاً مراسم توزيع أوسمة على العسكريين الروس إن «روسيا قدمت مساهمة حيوية في هزيمة قوى الإجرام التي تحدت الحضارة برمتها، وفي تدمير جيش إرهابي وديكتاتورية همجية».
غير أنه عاد لأرض الواقع، على وقع «الجريمة» التي راح ضحيتها الأبرياء في سان بطرسبورغ، وردّ غاضباً: «يجب التحرك بحزم وعدم القيام بالاعتقال، بل تصفية اللصوص في الحال».
الواقع المرّ رسم لوحته الكئيبة مدير جهاز الاستخبارات الروسي ألكسندر بورتنيكوف الذي أشار لمعلومة خطيرة هي أن «نحو 4500 مواطن روسي غادروا البلاد للقتال لجانب الإرهابيين».
كثير من أعضاء «داعش» وغيره من الجماعات التكفيرية الإرهابية بسوريا هم من مواطني الجمهوريات الروسية أو التي كانت تابعةً لروسيا، شيشان وداغستانيون وغيرهم، ولـ«شام شريف» في ذاك الخيال الجمعي لمسلمي القوقاز مكانة وجدانية خاصة.
الدخول الروسي - شاء سيد الكرملين أم لا - في سوريا، يُنظر له، وفق ذاك الوجدان العام، ومعه طبعاً كثير من الشعب السوري الرافض لنظام بشار وأحلافه من المعسكر الخميني، على أنه انحياز صارخ للشيعة ضد السنّة.
تتفق أو تختلف مع هذه النظرة المخيفة في بساطتها ومباشرتها، غير أن هذا هو واقع الحال.
روسيا ليست جديدة على مواجهة السلاح الإرهابي المغموس بصيحات الدين والانتقام، فقط في سنة 2017 التي تغادر، لدينا تفجير 3 أبريل (نيسان) في مترو سان بطرسبورغ الذي أوقع 15 قتيلاً وعشرات الجرحى، والذي أعلن تنظيم القاعدة السوري مسؤوليته عنه، وأن الهجوم الذي نفذه شاب قرغيزي هو «رسالة إلى البلاد المنخرطة في الحرب ضد المسلمين».
نعم، كل عاقل وصاحب ضمير لا بد أن يدعم السعي الروسي لسحق القتلة في «داعش» وشبكات «القاعدة»، لأن هؤلاء معادن للجريمة والضلال، ضد الإنسانية جمعاء، غير أن الرؤية التي تسيّر هذه المجنزرات والطائرات والصواريخ الروسية، هي موضع الخلاف، والخطورة في آن.
هل يضيع الروسي بيسراه ما كسبه بيمناه من خلال هذه المقاربة الجلفة الفقيرة للمشكلة السورية؟
والسؤال الآخر: هل «داعش»، و«النصرة» التي يعد الوزير الثلجي لافروف بالقضاء عليها بعد «داعش»، عَرَض أم مرض؟
سوريا تستحق مستقبلاً أفضل من دبابات بوتين وميليشيات خامنئي وبراميل بشار وخناجر «داعش» وقنابل «القاعدة».
نهاية الشهر المقبل سيُعقد في المنتجع الروسي، سوتشي، المؤتمر الذي دعا له الرئيس فلاديمير بوتين. لن يكون ذلك المؤتمر بديلا عن مؤتمر جنيف. فهو لا ينطوي على مسار جديد لحل الأزمة السورية. كما أنه لن يتضمن كما أتوقع أي نوع من المفاوضات بين الحكومة السورية ومعارضيها.
ما سيجري في سوتشي هو أشبه بحفلة تعارف بين غرباء يحاول بوتين أن يخترع لغة مشتركة جديدة بينهم تقع خارج لغة جنيف وأستانة. وكما اتضح من المفاوضات بين طرفي الصراع السوريين عبر سنواتها الماضية أن كل واحد منهما يمتلك لغته الخاصة التي لا تصل إلى الآخر بسبب تمسك ذلك الآخر بلغته الخاصة.
وهو ما جعل كـل شيء يراوح في مكانه من غير تحقيق أي اختراق يقف بموازاة التطورات العسكرية على الأرض. اليوم وبعد أن حسمت روسـيا الأمور على الأرض لصالح الحكومة السورية، لم يعد ميزان القوى مطروحا كأساس للتفاوض.
يمكن تلخيص المسألة بأن روسيا استدعت الأطراف السورية كلها لتكاشفهم بحقيقة ما انتهوا إليه من قلة حيلة وضعف وعدم قدرة على صنع المصير أو الاستغاثة بقوى إقليمية ودولية سحبت يدها من الملف السوري.
وإذا ما كانت الحكومة السورية قد استسلمت للإملاءات الروسية لأسباب معروفة، فإن المعارضة السورية هي الأخرى تأتي إلى سوتشي صاغرة وعلى استعداد للقبول بما يقترحه الجانب الروسي من آليات لحوار مستقبلي.
لقد صار مصطلح “الدول الضامنة” متداولا بين المعارضين بطريقة تنم عن القبول به خيارا وحيدا. وهو ما يعني موافقة المعارضة على حقيقة أن روسيا ومن حولها إيران وتركيا هي كل ما تبقى من المجتمع الدولي بعد أن تبخر الآخرون.
الدول الضامنة هي اليوم المرجعية الدولية الوحيدة التي تعود إليها الحكومة السورية ومعارضوها على حد سواء. وهو ما لم يكن ممكنا تخيل وقوعه قبل سنة من الآن. يومها كان هناك شيء مما كان يُسمى بميزان القوى. ربما ستأخذ عملية البحث عن وسائل لإنهاء النزاع سياسيا في سوتشي منحى أكثر حميمية مما كانت عليه في جنيف أو أستانة.
تصرّ المعارضة على أن تذهب إلى سوتشي وقد حققت إنجازا يُحسب لها من خلال إطلاق جزء على الأقل من المعتقلين. وهو ما يجعلها في وضع مريح ييّسر لها تقديم التنازلات المطلوبة كما لو أنها تردّ الجميل إلى الروس.
وقد يكون مطلوبا من النظام من أجل أن يُنسى وبشكل نهائي شرط المعارضة في تنحّي رأسـه أن يقـدم على خطـوة استرضائية من خلال إطلاق سراح المعتقلين، وهو ما سيجعل موقفه أقوى في مفاوضات جنيف.
غير أن كل ذلك قد لا يلعب دورا في إنجاح سوتشي من وجهة نظر الروس الذين يخططون لحلّ لا يكون طرفاه النظام والمعارضة وحدهما. ولم يكن العنوان الأول لمؤتمر سوتشي عبارة عن خطأ في التعريف وقع فيه الرئيس بوتين.
بالنسبة للرئيس الروسي فإن تسليط الضوء على “شعوب سوريا” هو الأساس الذي سيؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة كلها. فمن خلاله سيتعرف طرفا الصراع التقليديان على حجمها الحقيقي بعد سبع سنوات من الحرب التي طحنتهما وجعلتهما مجرد بقايا لشيء من الماضي.
مؤتمر سوتشي هو مرآة جديدة صنعتها وقائع سبع سنوات عصيبة، سيُفاجأ النظام والمعارضة بالصورة التي يظهران من خلالها. ولو أخبرهما أحد بما انتهيا إليه فقد لا يصدقان مثلما سيفعلان وهما يقفان أمام مرآة سوتشي.
لن يكون مؤتمر سوتشي بديلا عن مفاوضات جنيف. هذا صحيح، غير أن الصحيح أيضا أن ما سيجري في سوتشي سييسر على مفاوضات جنيف القفز على كل الموانع التي كان الطرفان السوريان المهزومان يعتقدان أن القفز يقربهما من نهايتهما. بعد سوتشي سيذهب الطرفان إلى جنيف متأكدين بأن ما كانا يخشيان وقوعه قد وقع، وما عليهما سوى أن يلتحقا بالركب من غير شروط.
مشكلة الشعب السوري، أو حتى "الشعوب السورية" على الطريقة البوتينية، ليست مع بعضه بعضا. تعايش عقودا وقرونا، وما شكا يوماً من كل تلك الأمراض التي ألبسه إياها أو أسقطها عليه نظام الأسد. مشكلته ومصيبته الأساسية بنظامٍ بنى حياته على استراتيجية العداء والمواجهة والكره والاحتقار لهذا الشعب.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يبقى هذا النظام ناكرا متنكراً، ورافضاً أن يكون هناك صراع بينه وبين هذا الشعب، فالشعب بنظره لا يمكن أن يكون الند، ليكون هناك أي نزال أو مواجهة؛ فما بالك مفاوضات أو حوار! الشعب بنظره ليس إلا رعايا تسبح بحمد قائدها الرمز، الإله الذي لا يمكن لمخلوق سوري أن يرتقي لأي حالةٍ من التنافس معه، أو حتى الاعتبار من قبله. أبناء هذا الشعب لحم أكتافهم من خيره؛ تعلموا في مدارسه؛ هو من منحهم شهاداتهم، وهو من صرف على علمهم وطبابتهم وأكلهم وكسائهم. ولولاه لما توالدوا وزاد عددهم. من هنا، قال ماهر الأسد، في الشهور الأولى للانتفاضة السورية: "استلمناها ثمانية ملايين نعيدها كما استلمناها". ومن هنا كان تصريح أخي ماهر لصحيفة وول ستريت جيرنال: "في سورية لا يمكن أن يحصل كما يحصل في بلدان عربية أخرى". ما يعكس كيف ينظر النظام إلى هذا الشعب السوري. استخدم هذا النظام الكيماوي ضد الشعب، ولَم يرف له جفن؛ شرّد نصفه، ولَم يعبأ؛ قتل منه تحت التعذيب في معتقلاته الآلاف، وما خشي عقابا؛ اغتصب إناثه وحتى ذكوره، من دون التفاتةٍ أو وجل.
حتى اللحظة لم يَرَ النظام في أي شخص هتف للحرية، أو قال إن ما يرتكبه النظام بحق سورية وأهلها جريمة، إلا خائنا مرتزقا تشغّله إحدى الدول. يطالب ممثله، بشار الجعفري، "مشغلي" المعارضة أن يسحبوا له بيان مؤتمر الرياض. المعارضة ذاتها التي وضعت البيان؛ بالنسبة له غير موجودة إلا كخونة وعملاء يحرّكهم أصحاب المؤامرة على دولة الصمود والتصدّي التي تقف في وجه إسرائيل. ومعروف مدى حرص إسرائيل على بقاء منظومة الأسد، لتكون الذريعة المناسبة لاستمرار دمار سورية وآلام شعبها.
يعتقد النظام أن من غير الممكن أن يقبل الجلوس مع المعارضة، فهي من الشعب الذي اعتاد التسبيح بنعمته؛ فكيف يمكن أن تكون ندّا له، أو يسمح لها أن تكون في حضرة مقامه السامي؛ فهذا اعتداءٌ على ذاتٍ لها قداسة. وأهم ما لديها هو السيادة التي لا يمكن لأحد أن يستبيحها. ومن هنا الوجود الأميركي في الشمال الشرقي السوري غير شرعي، لأنه لم يأخذ إذن الحكومة "الشرعية". أما الوجود الروسي والإيراني فيبدو أنهما أخذا إذنا من الحكومة "الشرعية ذات السيادة"، ولهذا فهو شرعي.
الحوار الوحيد الذي يعترف به النظام، ويمكن أن يجريه، هو "المصالحات". وتتم هذه بعد أشهر على حصار منطقةٍ وقصفها على مدار الساعة، وجعل أطفالها وشيوخها يموتون جوعاً أو مرضاً، ثم تتم المصالحة مع من تبقى من أهل ذلك المكان.
النظام لا يحاور، ولا يفاوض شعبه أو من يعارضه. يرى أن هناك إشكالات بين مختلف المكونات والطوائف، وها هي روسيا تدعوها له إلى سوتشي، كي تتحاور مع بعضها بعضا. وتعود وترجوه كي يغفر لها، ويقبل الاستمرار برعايتها كقطعان. تحتاج تلك النعمة التي أسبغها الله عليها بأن خصّها بتلك القيادة الحكيمة الملهمة. ولولا التدخل الروسي والتعب الروسي من أجل هذا الحوار بين السوريين، لما قبل أو غفر النظام لتلك الرعية أن تتحاور.
الأكثر من ذلك أن النظام قبل من الروس حتى السماح لأعضاء المؤتمر أن ينظروا في الدستور، وربما يحدّدوا عهد الرئيس بولايتين جديدتين حتى العام 2035؛ إلا إذا أصر الشعب أن يمدّد له ولايتين جديدتين حتى العام 2049.
وبالعودة إلى التجرؤ على مفاوضات النظام أو الحوار معه؛ لا بد أن النظام يستغرب أن يُدعى أساساً إلى مفاوضاتٍ مع ثلة من العملاء، وهو الذي لا ند له إلا الدول الكبيرة. ألم يقل وزير خارجيته مثلا إن قارة كاملة يعتبرها ممسوحةً عن الخريطة العالمية! فكيف يفاوض أو يحاور، وهو قد طرد الإرهابيين؟ وهو قد صمد في وجه الاٍرهاب كل هذه السنوات؟ وهو الذي يوقع معاهدات مع دولة عظمى؟ وهو الذي يمتلك ترساناتٍ من مختلف صنوف الأسلحة؟
لماذا يفاوض النظام، وهو يعتبر نفسه انتصر، بغض النظر عما هي حقيقة هذا الانتصار؛ فكيف يكون انتصارا على إرهابٍ هو ساهم بوجوده؛ وتحديدا "داعش"؟ كيف يفاوض وبظهره قوتا إيران وروسيا؛ ومن يدّعون أنهم معارضة أو ثورة ليسوا إلا مرتزقة؟ يكفيه أنه يسمح لألف وخمسمئة شخص ليباركوا له انتصاراته، ويباركوا هذه العودة الحميدة، بعد كل تلك الإنجازات في وجه المؤامرة... لماذا يفاوض، وداعموه سيف بظهره، وداعمو المعارضة سكين بظهره.
من هنا لا بد من التمسك بالقرارات الدولية، ولا بد أن توضع موضع التنفيذ في انتقال سياسي، يعيد السوريين إلى بيوتهم متطهرين من سموم منظومة الاستبداد. بإرادة هذا النظام، وبإرادة داعميه، لن تكون هناك فرصة لسلام حقيقي، عبر انتقال سياسي يخلّص سورية من التوتر والاستبداد والجريمة. وإن لم يحدث ذلك، لا بد من استصدار قرار دولي تحت الفصل السابع، يريح سورية والمنطقة والعالم من وباءٍ قل نظيره. وهذا ممكن، وروسيا لن تتمكّن من عرقلة ذلك، والاستمرار بحماية الجريمة باستخدام حق النقض (الفيتو).. السؤال؛ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
تقول المادة 27 مِن ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنظم عملية التصويت في مجلس الأمن: لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوت واحد. تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الإجرائية بموافقة تسعة من أعضائه. تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة، بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون منها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة، بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقا لأحكام الفصل السادس.
وتقول المادة الثالثة من المادة 52: "يمنع من كان طرفا في النزاع عن التصويت". وهنا لا بد من وضع اسم روسيا في الشكاوى المقدمة على النظام في مجلس الأمن شريكا مع النظام؛ حيث لا يحق لها التصويت باعتبارها شريكة؛ وبذا يتم توقّي استخدامها "الفيتو". ولسنا الوحيدين في القول إنها شريك؛ بل لا ينفك النظام ذاته وممثلوه عن قول ذلك تكراراً، وحتى التباهي به؛ وروسيا ذاتها ما اعترضت يوماً؛ هذا إضافة إلى اتفاقيات الشراكة بين روسيا الاتحادية وحكومة الأسد. وتجلت تلك الشراكة، طبعا بعد كل ما فعلت روسيا من أجل سلطة الأسد، في تصريح مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بشأن مؤتمر بلاده في سوتشي، أن من يريد مناقشة رئيس سورية لا مكان له في هذا المؤتمر.
روسيا شريك لنظام الأسد في كل شيء. لا بد للأمم المتحدة أن تطبق قراراتها؛ وخصوصا المواد التي يتم التغافل عنها حتى الآن، بحسن نية أم بسوء نية. لا بد لسورية أن تعود آمنة، لكي يعود أهلها إليها آمنين.
لا أحد يعرف شيئاً عن مؤتمر «الحوار السوري» في سوتشي. لا الدول المدعوة إلى دعمه أحيطت بأهدافه ومغزاه، ولا الدول التي كانت ولا تزال على اتصال بموسكو فهمت جيداً ما ترمي إليه القيادة الروسية. ولا «الشريك» الإيراني بادي الارتياح إلى هذا المؤتمر. ولا «الحليف»، نظام بشار الأسد نفسه، عالم بسرّه، فهو حائر بين ابتهاجٍ بسوتشي كعنوان لتكريس بقائه واستمراره وانزعاجٍ منه لأنه يُغرقه في حشد يبادله كرهاً بكره ويجبره على «مصالحة» مَن استعداهم ولم ينجح بعد في قتلهم. ولا المعارضة، المدعوة - غير المدعوّة إلى «الحوار» في ضوء رضوخها للضغوط وتخلّيها عن شرط «رحيل الأسد» أو تمسّكها به. أما روسيا التي بـــدأت القول أن مؤتمر سوتشي مجرد فكرة طـــرحها فلاديمير بوتين، فبذلت جهوداً على مدى شهور لبلورة الفكرة وإلباسها أثواباً عدة، وانتقلت من احتمال دعوة خمسمئة شخص إلى الاقتناع بضرورة جلب أكثر من ألف آخرين، ومن حوار إلى مصالحة إلى إقرار مسوّدة دستور جديد نسخ «خبراؤها» معظم مواده من الدستور الروسي. وأما واشنطن فلم تخرج عن إطار تفويضها «الملف السوري» إلى الروس، ولو أنها لم تؤيد «مشروع سوتشي» ولم تعارضه.
واقعياً، سيبقى «حوار سوتشي» أقرب إلى حشد كرنفالي. عملياً، ستبني موسكو عليه الحل الذي يناسبها، وتبدو أنها تنسجه بتعاون وثيق من أنقرة. حتى أن المشاركين في مؤتمر «آستانة 8» وجدوا أن صيغة الدول الثلاث الضامنة تحوّلت خلال عام إلى «2+1» لأن ثنائي روسيا - تركيا يبدو أنه حجب إيران موقتاً، ولا يعني ذلك استبعاداً لها بل إن المراحل المتبقية من الخطط الروسية تحتاج أكثر إلى تركيا، سواء لاستكمال «مناطق خفض التصعيد» أو لاجتذاب المعارضة السورية المقيمة في تركيا إلى سوتشي، على رغم «الفيتو» التركي على أي دور أو مشاركة لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» و «وحدات حماية الشعب» الكرديَين واعتبارهما «منظمتين إرهابيتين» لارتباطهما بـ «حزب العمال الكردستاني». في المقابل، اتهمهما الأسد بـ «الخيانة» لأنهما قاتلا «داعش» بدعم من قوة خارجية هي الولايات المتحدة. ولعل هذا «التوافق» الموضوعي، بين الأسد والأتراك، هو ما جعل مولود تشاويش أوغلو يتحدث إلى وفد المعارضة السورية عن «تلازم المسارين»، الأممي جنيف والروسي سوتشي. وكان مسار جنيف نتاج بيان صدر عن مؤتمر دولي - إقليمي (30 حزيران - يونيو 2012) وتم تأكيده في سلسلة مؤتمرات مماثلة موسّعة غداة التدخّل العسكري الروسي في سورية إلى أن صيغت في القرار 2254 (18 كانون الأول - ديسمبر 2015). أما مسار سوتشي فلم يتّضح بعد وتطرحه روسيا كأمر واقع يناسب مكوثها المديد في سورية، أو احتلالها لها، لقاء رشًى متفاوتة لإيران وتركيا.
تكتمل معالم «الحظ السيئ» والظروف المعاكســـة للشعب السوري، لا لتجعل محنته الأكبـــر والأسوأ فحسب، بل لتضع مآلاتها في أيـــدٍ روسية لم يسبق أن جرّبت شيئاً آخر غـــير الحلول العسكرية الأكثر وحشيةً. لم يفهـــم الروس من مأساة سورية سوى أن نظامها الإجرامي لم يمتلك الأسلحة الفتاكة المناسبة لإخماد «تمرّد» الشعب عليه، فجاؤوا مع تلك الأسلحة لمساعدته وحليفه الإيراني في مشروعهما الدموي الذي لم يبلغ نهايته بعد، فالنهاية غير المنتهية لـ «داعش» لم تؤمّن لهما سوى عناصر «انتصارية» ودعائية لمتابعة الإجهاز على الشعب. لم تتصرف روسيا طوال عامَين ونيّف كصانعة سلام، بل كراعية لذلك المشروع، ماضية في التدمير والمجازر والتهجير إلى أقصاها، وبمقدار وضوحها في بلوغ الأهداف أياً تكن كلفتها البشرية بمقدار خداعها الجميع في ما يتعلّق بإنهاء الصراع. ليس أدلّ على ذلك من كذبة «مناطق خفض التصعيد» التي تشنّ عليها يومياً عشرات الغارات القاتلة لمؤازرة قوات النظام والإيرانيين.
فالهدف الترويجي الأول لهذه «المناطق» كان «وقف إطلاق النار» الذي واظب الروس وحلفاؤهم على خرقه وانتهاكه. والثاني «تسهيل وصول المساعدات الإنسانية» لكن حصارات التجويع استمرّت تحديداً في الغوطة الشرقية. والثالث «إطلاق المعتقلين» في سجون النظام، ولم يتحقق بعد عام كامل سوى مشروع لتشكيل لجنة لمتابعته. أما المراقبة وآلياتها والدول الأخرى المساهمة فيها فلا يزال أمرها غامضاً غموض النيات والمزاعم والخدع بالنسبة إلى حل سياسي. ولا شك في أن ذروة مسلسل الخداع الروسي تتمثّل بترك الميليشيات الإيرانية تتمكّن داخل سورية، مع التظاهر بعدم الممانعة إذا ضربتها إسرائيل، بل بالاستعداد لإبعادها عشرات الكيلومترات من الجولان لفك الاشتباك بينها وبين إسرائيل، لكن هذه المنطقة تشهد حالياً حشداً هو الأكبر لأتباع إيران بزيّ قوات النظام. وبعد تسليم الحدود السورية - العراقية إلى الميليشيات الإيرانية، في خطوة تعكس أقصى التهوّر، ها هي تلك الميليشيات تتقدّم للسيطرة على ملتقى الحدود بين لبنان وسورية وإسرائيل، ما يحقّق الربط بين الجنوبَين اللبناني والسوري، وفقاً لتخطيط إيراني يعود إلى ما قبل حرب 2006.
يريد بوتين أن يبني على «مناطق خفض التصعيد» كنهاية للصراع السوري، لذا يمضي في الإعداد لـ «مشروع سوتشي» بعناد شديد. لكنه يخشى أن يكون الموقف الأميركي غير المبالي، تغطية لـ «تخريب» قد يحصل في أي وقت. فما يسمّيه «حواراً سورياً» لا يعدو كونه مهرجاناً احتفالياً بالدور الروسي، يُستدعى إليه «أمراء حرب» و «تجار حرب» وزعماء عشائر ورجال أعمال وأشخاص لا علاقة لهم بقضية الشعب السوري لكن تحصّلوا على منافع شتّى من الأزمة بالتعامل مع الأطراف جميعاً ويتطلّعون إلى أن تمنحهم روسيا أدواراً «سياسية» ليبقوا دائرين في فلكها أيّاً ما تكون المحصّلة الأخيرة لهذه الأزمة. وكل الأفراد الذين فوتحوا حتى الآن في إمكان استدعائهم وقعوا على طلبات مذيلة بعبارة «موافق على القرارات» التي يتوصل إليها «الحوار». أما السيناريو الأكثر تداولاً للمجريات المتوقعة لمؤتمر سوتشي فهي أن يلتئم الحشد لرفع الأيدي تأييداً لمسوّدة الدستور، ويتوّج لقاؤهم ببيان تصدره الدول الثلاث «الضامنة» (روسيا وتركيا وإيران) وتعلن فيه تبنّي الدستور الجديد. أكثر من ذلك، يتطلّع بوتين إلى قوننة «مخرجات» سوتشي إما بفرضها على مفاوضات جنيف كوثيقة منجزة، أو بابتزاز الدول لاستصدارها من مجلس الأمن، كما لو أنها تطبيق للقرار 2254.
لعل النتيجة المباشرة لمسعى الرئيس الروسي أنه أشعل استنهاضاً سورياً لا يرفع الغطاء عن كل مَن يشارك في سوتشي فحسب، بل استثار وعياً عابراً للفئات لم يعد يتردّد في اعتبار روسيا «قوّة احتلال» استمدّت «شرعية» من نظام أصبح دمية في أيدي ضباطها، وتسعى من خلال مؤتمر سوتشي لانتزاع «شرعية» لهذا الاحتلال ممَن يسمّيهم بوتين «شعوب سورية». نعم، هذا هو الهدف الروسي من «الحوار السوري» وليس غرضه، كما زعمت موسكو لبعض العواصم، دعم مفاوضات جنيف التي لم تدعمها ولا مرّة في جنيف ذاتها. جميع الفرص كانت متاحة أمام الروس ليبرهنوا أن لديهم فعلاً رؤية إيجابية لمستقبل سورية وشعبها، غير أنهم انشغلوا وشغلوا الآخرين تارةً بتبنّيهم الأعمى لنظام بات من الماضي مهما دعمه الظهيران الروسي والإيراني، وطوراً بالعمل على تفتيت صفوف المعارضة عسكرية أو سياسية، وصولاً إلى تصنيفات خرقاء يعتمدها سيرغي لافروف لـ «إسقاط» من يعتبرهم راديكاليين في وفد المعارضة إلى التفاوض.
صحيح أن الدول كافة لا تستطيع إنكار أن روسيا احتوت الأزمة السورية بالقوة العسكرية، وأنها مضطرة للتعامل مع موسكو على هذا الأساس، لكن تراجع هذه الدول عن دعم الشعب السوري أو دعوتها إلى الضغط على المعارضة لا يمكن أن يحقّقا لروسيا اعترافاً بشرعية دورها طالما أنه عاجز عن طرح حل سياسي حقيقي. وكيف يمكن هذه الدول أن تصدّق الروس إذا قالوا - داخل الغرف المغلقة – أنهم يضمنون «رحيل الأسد أثناء المرحلة الانتقالية»، أو أنهم يتعهّدون لجم الجموح الإيراني، أو أنهم يسعون إلى «دولة لجميع السوريين» فيما هم يعملون على إقصاء كل مَن يرفض بقاء الأسد في السلطة، فالعالم لا يعتبر وجوده في السلطة مشكلة سياسية بل كارثة أخلاقية.
يبدو أن روسيا مصرة في أي شكل من الأشكال على إفشال مفاوضات جنيف من أجل بث الروح في محادثات آستانة التي ترعاها هناك بالتعاون مع تركيا وإيران. لقد بدا واضحاً أن روسيا تفكر في ما بعد الحرب في سورية وبالعوائد الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها كما أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي في زيارته الأخيرة إلى سورية.
لكن التحدي الرئيسي ما زال أن إعلان انتهاء الحرب في سورية ما زال بعيداً وربما بعيداً جداً في ظل الرغبة الروسية في التهدئة وعدم الحسم مع الجيوب المتبقية للمعارضة في إدلب والغوطة الشرقية وريف حماة وغيرها من المناطق، وفي الوقت ذاته إدراك روسيا إفلاس الحكومة السورية وعدم قدرتها على تحمل تبعات إعادة الإعمار، بالتالي تجد في هذا المدخل فرصة دائمة لإهانة الرئيس السوري كما حصل في زيارة الرئيس بوتين الأخيرة قاعدة حميميم الروسية في سورية حيث مُنع الأسد من جانب جندي روسي من مرافقة الرئيس الروسي خلال توجهه إلى منصة التتويج، وعليه لا ترى روسيا فائدة اقتصادية حقيقية من بقائها في سورية، لكنها تجد فيها فرصة لزيادة حضورها وتأثيرها الدولي ومنافسة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، لكن مع انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط تحت إدارة ترامب وتبني أجندة «أميركا أولاً»، لا تجد روسيا فائدة من مناكفة الولايات المتحدة دولياً وأصبحت تفكر أكثر في الجدوى الاقتصادية من تدخلها المكلف في سورية.
لذلك، فهي ترغب في إدارة المرحلة الانتقالية من خلال آستانة لا جنيف، بحيث تسيطر تماماً على مخرجاتها ولا تسمح للسوريين بقول الكلمة الفصل أو اتخاذ القرار النهائي في شأن ذلك، وهو السبب الذي دعا الرئيس بوتين إلى الدعوة إلى مؤتمر سوتشي الذي تأجل مرات عدة، وربما يعقد في عام 2018 بهدف «الحوار بين السوريين» لكن جميع المؤشرات تدل على أنه لن يضع نهاية للحرب السورية بسبب التدخلات الروسية وعدم اتضاح أجندته والمخرجات النهائية الخاصة به، لذلك فمن المؤكد أن قوى المعارضة السورية كلها ربما لن تشارك في المؤتمر.
شاركت المعارضة السورية في مفاوضات آستانة بناء على رغبة الجانب التركي، وقد توصلت إلى رؤية في ما يتعلق بالتعامل مع ملف المعتقلين السياسيين والمفقودين، لكن رفض النظام السوري التوقيع على اتفاق من أجل حل قضية المعتقلين السياسيين الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف في سجون النظام السوري، جعل المفاوضات بلا معنى ومن دون أي أجندة، وفي اليوم الأخير من المحادثات طرحت روسيا الدعوة إلى مؤتمر سوتشي الذي ترفض المعارضة السورية حضوره من دون وجود أجندة واضحة أو رؤية لمخرجات الاجتماع.
لقد بدت محادثات آستانة أشبه بالمفاوضات الدولية حول سورية من دون أن يشارك فيها السوريون، فالنتائج تبدو معدة مسبقاً والبيان الختامي غالباً يتم الاتفاق عليه مسبقاً من جانب ما يسمى الدول الضامنة وهي روسيا في شكل أساسي وتركيا وإيران، على رغم أن النظام السوري لم يحترم اتفاق وقف النار أو ما يسمى مناطق خفض التصعيد في الأماكن المتفق عليها، لا سيما في الغوطة الشرقية، حيث نرى صور الحصار والتجويع تتالى من دوما وحرستا وغيرها من المناطق التي يفرض عليها النظام حصاراً مطبقاً من دون الاكتراث بالقرارات الدولية، بخاصة القرار 2268 المتضمن السماح بالمساعدات الإغاثية والإنسانية لمناطق الحصار وللمناطق التي هي في حاجة إليها.
لذلك، لا يتوقع أن تقود الجولة الجديدة من محادثات آستانة المقبلة إلى نتيجة مختلفة مع تشدد النظام السوري ورفضه بحث مسألة المعتقلين وعدم ضغط روسيا على نظام الأسد للتعامل مع ملف المعتقلين وفك الحصار عن الغوطة بجدية.
إن جميع قوى المعارضة السورية ترفض المشاركة في مؤتمر سوتشي من دون وضوح الأجندة الخاصة به والمخرجات التي يمكن أن تنتج منه، وهو ما ليس واضحاً لدى الطرف الروسي الجهة الداعي إلى المؤتمر، وليس واضحاً ما إذا كانت روسيا متمسكة بعقد المؤتمر مهما كان الثمن ومن دون وضوح الأجندة أو قائمة المدعوين إلى المشاركة، ومن سيتحمل تكلفة عقد المؤتمر حيث إن موسكو نادراً ما تتحمل تكاليف عقد هذه المؤتمرات السياسية.
لذلك، يمكن القول أن هناك أسئلة كثيرة حول مؤتمر سوتشي وأجوبة قليلة، لذلك علينا أن ننتظر توضيحات من الجانب الروسي في شأن عقد المؤتمر من عدمه.
لكن، يجب أن تضع روسيا في ذهنها دوماً وهي تعد للتحضير لمؤتمر سوتشي أنه لن يكون نهاية الأزمة السورية ولن يتمكن اللاجئون السوريون من العودة إلى وطنهم ما دام بشار الأسد في الحكم، وجميع التغييرات في المواقف الدولية لن تغير حقيقة أن نظام الحكم الذي فرضه الأسد لن يقنع السوريين بالعودة إليه أو إقناعهم بأن كل التضحيات التي بذلوها على مدى السنوات السبع الماضية ستعود بهم إلى شكل نظام الحكم نفسه في القتل والتعذيب والاضطهاد.
يحمل عام 2018 للشعب السوري هدية لم تكن في الحسبان، وبدا التحضير لمطلع العام الجديد المفعم بالأمل بالرغم من كل ويلات عام 2017 عليهم، بعد أن انتقلت المظاهرات السلمية التي كانت في سوريا منذ حوالي سبع سنوات إلى محافظات ايران.
لم يكن بحسبان النظام الإيراني وحرسه الثوري الذي شارك في قتل الشعب السوري أن ينتفض شعبه، وتتوسع مظاهراته واحتجاجاته خلال أربعة أيام إلى معظم المحافظات الإيرانية، لتخرج مظاهرات كبرى في أكثر من 30 مدينة بحسب ما أحصت حسابات إيرانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تأهب حذر من قوات الجيش الإيراني والحرس الثوري، واطلاق رصاص حي بين المتظاهرين في الأيام الأولى من المظاهرات، وسط صرخات المتظاهرين مطالبين النظام الإيراني بالخروج من سوريا والتوقف عن دعم نظام الأسد مرددين "فكر بشأننا" "ودع سوريا وشأنها"، إضافة إلى هتافات تندد بالرئيس الإيراني تشبه تلك التي كانت في ساحات سوريا تنديداً بالأسد عام 2011، مثل "الموت للرئيس روحاني" و"الموت للديكتاتور"، ولم يكتفوا فقط بالهتافات ضد نظامهم لتمتد إلى أنصار النظام الإيراني في لبنان فهتفوا "الموت لحزب الله".
وتشهد ايران وللمرة الأولى، مهاجمة واضحة وصريحة للمرشد الأعلى، "علي الخامنئي"، والذي يمثل أعلى شخصية دينية على الأرض للمذهب الشيعي، ما يعني تفلت اللجام الديني في البلاد، وضرب الشباب الإيراني، الانتماء المذهبي الذي يزرع فيهم منذ الصغر عرض الحائط.
الأحداث في ايران اختلفت عن تلك المظاهرات التي كانت في سوريا مطلع عام 2011، بتسارع الأحداث وسط المشهد الإيراني خلال ثلاثة أيام ليحرق المتظاهرون محطة بترول بمدينة كرج، التي تقع على بعد 20 كيلومتراً غرب طهران، ليكون فتيل الثورة الإيرانية التي أنجبتها سنة 2018 سريعة الاشتعال بالنووي نفسه التي سعت ايران لتطويره، وعوضاً من أن يهدد نظام خامنئي العالم بمفاعله النووي، قلب السحر على الساحر وها هو يواجه شعب ثائر حاول أن يقمعه منذ 2009.
وما كان يُعتقد في البداية أنه مجرد احتجاجات صغيرة ضد الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة تحول في أيام إلى مظاهرات كبيرة ضد الحكومة، لتتطور إلى مشهد نادر يجسد مواجهات شعبية غاضبة تنبئ بالمزيد من الاحتجاجات، من فئة الشباب على وجه الخصوص.
ولم تكن مظاهرات الشعب الإيراني وليدة اللحظة، بل كانت بحسب محللون إيرانيون نتيجة الإحباط والغضب اللذين غذيا "الثورة الخضراء" عام 2009، والتي بقيت على قيد الحياة في صلب المجتمع الإيراني، في الوقت الذي لم تخمد أعمال القمع في التخلص من هذه المشاعر.
وساهم التضخم المالي وانتشار البطالة في تحرك الشباب الإيراني والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، بعد أن سيطر المتشددين الفاسدين وغير المؤهلين على كل ركائز الاقتصاد الإيراني، على غرار صناعة السياحة والاستيراد وقطاع الطاقة الضخم، وسط عجز الرئيس الإيراني، "حسن روحاني" من مقاومة الفساد وسط سيطرة الحرس الثوري بشكل واضح على موارد البلاد.
وفي عودة سريعة إلى بداية الثورة السورية، نسترجع كيف كان لرجال الدين دور في الوقوف إلى جانب صفوف المتظاهرين، وبنفس السيناريو بدأت مراجع مؤيدة لنظام ايران بدعم الاحتجاجات الشعبية، كان من بينهم المرجع الديني الإيراني في مدينة قم، "نوري همداني"، الذي أكد أمس السبت، أن الناس يطالبون بحقهم ويجب دعمهم، بالرغم من أنه حاول أن يحذر من مواجهة قوى الأمن.
وبالرغم من أن الشعب السوري لا يساوم على دم الأبرياء، إلا أن أمنيته مع بداية عام 2018 ستكون ولادة ايران جديدة من خاصرة ايران المذهبية، وأمله أن ينشغل نظام روحاني الذي رسم الهلال الشيعي مروراً بدمشق بعيداً عن دماء السوريين، عل حرسه الثوري وذيله حزب الله يلملم حاجياته ومدافعه ودخانه من سوريا ويعود إلى بلاده وينشغل بما شغل به السوريون سبعة أعوام.
انطلقت حرب التسوية في سوريا، والسباق على ثلاثة مسارات تبدو متوازية، أقله في الشكل، حيث يؤكد الجميع مرجعية القرار الدولي 2254، وهي خط «جنيف» المستند إلى الشرعية الدولية، وخط «آستانة» تحت ضمان تحالف الدول الراعية، روسيا وتركيا وإيران بمشاركة أممية ودولية، وخط «سوتشي» الذي سينطلق في نهاية يناير (كانون الثاني) 2018، وقد حاز «الرعاية الدولية» وفق السيد بوغدانوف الذي قال: «كل شيء يتم برعاية الأمم المتحدة»، كاشفاً عن أن موسكو تجري اتصالات مكثفة مع «الشركاء الغربيين بما في ذلك الولايات المتحدة، لدعوتهم إلى (سوتشي) إن عبّروا عن رغبة في المشاركة»، والاستعداد لدعوة أي دولة تبدي اهتماماً كي تحضر بصفة مراقب.
رغم دعوة السيد دي ميستورا إلى «جنيف 9» في 21 يناير القادم، فإن الأنظار شاخصة على «سوتشي» في 29 منه، التي ستجمع نحو 1500 مشارك؛ من هم وكيف سيتم اختيارهم وما المعايير التمثيلية التي ستعتمد، ومن يحدد هذه المعايير حتى يقال إنهم يمثلون أغلب الطيف السوري، كلها أمور مجهولة، (هذا بغياب الممثلين الحقيقيين عن الأقلية الكردية التي تسيطر على أكثر من 25 في المائة من سوريا والممثلة بـ«وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية»)، سيلتقون في محادثات غير مسبوقة، يمكن أن يُقال عنها كل شيء إلاّ صفة الجدية، فضلاً عن أنه لا معطيات بعدُ حول آليات الانعقاد والنقاش المنتج.
الآن ماذا تريد روسيا من هذا المؤتمر؟ ولماذا تحول انعقاده إلى بندٍ دائم على كل جداول أعمال القمم التي عقدها الرئيس الروسي في الأشهر الماضية؟ طبعاً يصعب على أي جهة أن تُقدم قراءة صحيحة لخطط الرئيس الروسي، وغياب المعطيات التفصيلية يزيد الأسئلة على حساب نُدرة الأجوبة، لكن المؤكد أن موسكو تسعى إلى تسوية على قياس مصالحها قبل أي شيء آخر، وتدرك أنه من دون التسوية السياسية سيتبخر كل ما أنجزته في سوريا، وتعرف موسكو أنه رغم الموافقات التركية والإيرانية على انعقاد هذا المؤتمر، فهي لم تنجح كلية بعد في تثبيت وقف النار كما لم تتمكن من فرض قناعاتها كاملة على طهران وأنقرة.
إن تحقيق روسيا مصالحها شرطه وقف كل أشكال القتال والتقدم نحو التسوية التي رسمتها، أولويتها ترسيخ نفوذها في سوريا وكل المنطقة، والإقرار العالمي، أي الأميركي، بدور مميز لها في معالجة القضايا الدولية من أوكرانيا إلى كوريا الشمالية، وهو دور كانت قد فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. من ثم التقدم أكثر فأكثر في إمساك ملف إعادة إعمار سوريا، بعدما أكدت زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي سوريا قبل أيام، أن ثمن الانتصار، الذي تطلب وفق وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو، استخدام 48 ألفاً من العسكريين الروس، هو أولوية السيطرة الروسية على النفط والغاز وخطوط النقل، المرشحة لأن تُدرَّ الأرباح على الكرملين.
ما تريده موسكو، يتعارض مع أولويات طهران ورأس النظام السوري، والافتراق بين الجانبين حتمي لكنه مؤجل إلى حين تبلور إرادة أميركية للتوافق مع روسيا، وما جرى في «جنيف 8» من جانب الوفد السوري إلى المفاوضات، حمل بداية تمرد نظام الأسد على الراعي الروسي، من خلال العودة إلى أولوية متابعة المعركة ضد الإرهاب، وشهد العالم الفيديو المسرب من الوفد السوري عن المناطق التي تقول دمشق إنها ما زالت خاضعة للإرهابيين، وهذا جوهر ما تريده طهران التي دعت سابقاً لمتابعة الحرب لاستعادة الرقة وإدلب وإنهاء الغوطة الشرقية والوضع في الأرياف وإحكام السيطرة على مناطق «خفض التصعيد». هذا يفسر المناورات التي تلجأ لها طهران والنظام السوري كلما وُجهت الدعوة إلى جولة جديدة من المحادثات. ولأن كل الأطراف «دفنوا معاً الشيخ زنكي»، يدرك الجميع أن وضع المحادثات على سكة التسوية، يعني أنه لن يكون متاحاً أن تستمر هذه السيطرة للنظام الإيراني، ولن يكون مسموحاً بقاء هذه الميليشيات المتطرفة التي تقاتل الشعب السوري، وأكثر من ذلك فإن التسوية اليوم تكسر مشروع طهران الإجرامي للسيطرة، الذي يمر حتماً عبر المزيد من الحروب والتغيير الديموغرافي، وأساساً منع النازحين من العودة لتثبيت توازنمذهبي يحمي مشروع السيطرة الدائم، والكل يذكر امتداح بشار الأسد التغيرات الديموغرافية بعد عمليات التهجير والاقتلاع الواسعة جداً في محيط دمشق.
مقابل ما تريده طهران، لا تزال أولويات أنقرة منصبة على السيطرة على عفرين والدخول إلى منبج واحتكار السيطرة على إدلب فتكون الحصة التركية من الكعكة السورية وازنة، وتنهي بذلك كل إمكانية لوصل المناطق ذات الأغلبية الكردية مباشرة، أو عبر «كوريدور» جرت الإشارة إليه أكثر من مرة. وحتى إردوغان الذي عقد سبع قِمم مع الرئيس الروسي يخشى بدوره من سرعة التسوية على ما يعتبره مصالح تركية في الشمال السوري، وهذا ما يفسر مواقف بعض المعارضة السورية السياسية والعسكرية المعترضة حيناً على مؤتمر «سوتشي» والرافضة له حيناً آخر، وما من جهة مستعدة للتخلي عن أي جزء من أوراقها.
طبعاً الأشد وجعاً في كلِّ هذه اللوحة هو أن سوريا التي باتت أشبه بحقول للقتل، يتم التعامل معها بوصفها ملفاً في أجندات الكبار، ويتم التعامل مع السوريين بـ«تمنين» كبير كثمن لوقف المقتلة العامة، والصورة أن الكل سلّم القرار للخارج وخصوصاً الروسي والأميركي؛ فكلاهما من يملك في نهاية المطاف وضع التسوية السياسية على سكة الحل النهائي أو العودة للتفجير... لكن طالما كل المؤشرات تلتقي على أن «سوتشي» سيكون رقم واحد ولن يُحقق الآن الاختراق النوعي، فلماذا الإصرار الروسي عليه؟
لنعد إلى «آستانة»، فحلقات هذا المؤتمر التي نجحت في إنجاز مناطق «خفض التصعيد»، نجحت من الزاوية الروسية بتقديم بدائل تمثيلية في وجوه المعارضة السياسية والفصائل وفي الأداء، وعلى «سوتشي» أن يُكرس كثيرا من المتغيرات بداية بمن يمثل السوريين، ومشهد المعارضة السياسية والعسكرية الدقيق جداً، إلى الدستور وشكل الحكم والانتخابات، كنتيجة للانتصار الروسي، بما فيها دور الأسد ولو بنصف أنياب، بانتظار بلورة البديل وشرطه التوافق مع الأميركيين وأخذ رضا الدول العربية الفاعلة، وهذا سيضع طهران بين الطلاق مع الروس أو القبول الطوعي بكبح نفوذها، فيكون «جنيف» لتثبيت المتغيرات التي تريد موسكو تكريسها في «سوتشي».