بعد إطاحته بالشاه نجح آية الله الخميني في شيء واحد، قضى على الدولة الأقوى والأغنى والأكثر نجاحاً في منطقة الشرق الأوسط. جاء النظام الذي بناه على أنقاض دولة الشاهنشاهية الحديثة، دولة دينية متخلفة بفكر اقتصادي يساري عتيق. كانت إيران دولة تمثل نموذجاً ناجحاً في نظر الغرب، وقد تقدمت على غيرها بمسافة بعيدة.
ثم خيّب الخميني كل من أيده أو ظن فيه أحسن ما يتمناه. كان الشباب يتطلعون لخليفة الشاه إلى نظام ديمقراطي كامل. والأقليات الإثنية ظنّت أن خروج الشاه سينهي القومية الفارسية الطاغية ويقيم دولة إيران الجامعة، والشيوعيون يعتقدون أنه سيكون حليفهم ضد الأميركيين حلفاء الشاه. واعتقد الأميركيون أن وصول رجال الدين أفضل من وصول حزب توده الشيوعي، وسيسد الطريق على دبابات السوفيات التي استولت على الجارة أفغانستان، ويمكنهم العمل معهم لاحقاً. وصدقت الجماهير العربية تعهدات الخميني بتحرير القدس من الإسرائيليين، وتمنى عرب الخليج من خروج الشاه نهاية النزاع على الجزر والبحرين والعراق.
كلهم كانوا مخطئين.
بعد وصول الخميني للحكم كان أكثر من دفع الثمن هم الشباب. وضعت الجامعات تحت إدارة رجال الدين وقمعت النساء. وأول ضحايا النظام كانوا اليساريين فبطش بهم نظام الملالي، رغم أنهم ساندوه في ميدان أزادي، التحرير. وضيق على الأقليات الإثنية.
واكتشف الأميركيون أن اليمين الديني في المنطقة لا تنطبق عليه مواصفات اليمين في الغرب. كان أكثر عداءً لهم من حزب توده. وحصرت طهران خلافها مع إسرائيل في النزاع معها على مناطق النفوذ العربية. أما عرب الخليج فقد اكتشفوا أن الخميني يعتبرهم عدوه الرئيسي وهدفه الدائم ضمن استحضاره للصراع الديني الطائفي القديم.
والذين يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية هي دافع الناس للانقضاض على نظام المرشد الأعلى يهونون من العوامل الأكثر تجذراً وخطورة. فمظاهرات عام 2009 كانت أضخم، وقادها أناس من صلب النظام والمستمتعين بامتيازاتهم المعيشية. جذور أزمة النظام هي كل ما ذكرته أعلاه. فقد أقصى كل القوى المحلية، وميّز نفسه عن البقية، وعندما فشل كان سهلاً على الجميع أن يلتقوا على مطلب واحد وهو إسقاطه. ليس الخبز وحده مشكلتهم مع حكومة حسن روحاني، ولا سعر الوقود يمثل خلافهم مع نظام المرشد الأعلى، بل يعارضون كل شيء يمثله النظام. غالبية الإيرانيين ليست متدينة، وذات اعتزاز قومي ترفض من رجال الدين تهميشه. وإيران بلد كان أكثر حضارة وأكثر انفتاحاً وتعايشاً في ظل حكم الشاه، وأكثر تقدما في العلوم والصناعة. كله تبخر بعد أن تسلم الحكم مجموعة من الدراويش التي تعتقد أن واجبها الوحيد تسخير الدولة لخدمة آية الله ونشر تعاليمه، والقتال من أجلها في أنحاء العالم. هذا الفكر الأناني الساذج ليس مقنعاً لغالبية الشباب الإيراني الذي ينتج أفضل الأفلام ويلقي أعذب القصائد، ويحيي الحفلات في الأقبية خارج أنظار مخبري الباسيج. لأشهر عديدة استمرت الفتيات الإيرانيات يظهرن يوماً في كل أسبوع وينشرن صورهن من دون حجاب تحدياً للملالي. توجد كراهية حقيقية عند الشعب الإيراني للنظام الذي كان من شعاراته يافطات تستنكر دعم الحركات الدينية في لبنان وسوريا والعراق. هذا شعور أعظم وأخطر من المطالبة بسعر خبز أرخص.
وأعداء نظام ولاية الفقيه في الخارج أيضاً كثر، حتى الذين يظهرون حرصهم عليه، مثل روسيا التي لها خلافات معه حول تقسيم بحر قزوين وملفات أخرى. هذا ما سيجعل وضع طهران في الفترة التالية مضغوطاً بشكل عليه أن يتحول إلى الواقعية السياسية والتعامل مع مواطنيه كما يتمنونه، ويتوقف عن مغامراته في الخارج، وإن لم يفعل فستنجح الكثرة الكارهة له في الداخل والخارج في إسقاطه.
لليوم السادس على التوالي تتواصل تظاهرات الاحتجاج في عشرات المدن الإيرانية، بينها العاصمة الإدارية طهران والعاصمة الروحية قم، بعد أن كانت قد انطلقت أصلاً من مشهد، مسقط رأس المرشد الأعلى علي خامنئي، والمدينة ذات المكانة الدينية البارزة. وحتى الساعة كانت التقارير تشير إلى سقوط 12 ضحية، بعضهم قتل مباشرة برصاص الشرطة، فضلاً عن عشرات الجرحى ومئات المعتقلين، بالرغم من أن وحدات «الحرس الثوري» المعروفة بالبطش والشدة لم تتدخل بعد في قمع المتظاهرين.
وكانت أولى التظاهرات قد بدأت احتجاجاً على رفع أسعار المحروقات، والسياسات العامة لحكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني وعجزها عن إيجاد حلول ناجعة لمشكلات البطالة والغلاء، وفشلها في الوفاء بالوعود التي قطعتها حول تحسين مستوى معيشة المواطن بعد توقيع الاتفاق النووي والبدء في رفع العقوبات الاقتصادية التي كان الغرب يفرضها على إيران. لكن اللافتات المطلبية سرعان ما أخلت المكان أمام شعارات أخرى سياسية وراديكالية، تمس شخص خامنئي ذاته وتطلق عليه صفة «الديكتاتور»، ولا تمزق صوره في الشوارع والساحات العامة وتطالب برحيله فقط، بل تنادي بإسقاط مبدأ ولاية الفقيه تحديداً.
وهذا تطور جوهري لافت تماماً، لأن تولية الفقيه سلطات هائلة في إدارة شؤون الدين والدنيا، والاجتماع والاقتصاد والجيش والأمن، ليست من استحداثات المرشد الراهن خامنئي، بل تعود إلى الإمام الخميني نفسه، وبالتالي فإن رفع شعار إسقاط المبدأ اليوم يحمل مفعولاً رجعياً أيضاً، ويستهدف ركائزه الفقهية ذاتها كما صاغها الخميني في النجف سنة 1971.
ليس أقل أهمية أن شعارات الاحتجاج تطورت في اتجاه الربط بين تدهور معيشة المواطن الإيراني داخل البلد، ومغامرات التدخل الخارجي المكلفة التي ينخرط فيها النظام الحاكم، والمكاتب الأمنية والعسكرية والسياسية المرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى على وجه التحديد. ذلك يعني أن إحساس المتظاهرين بوطأة الأسعار وغائلة البطالة وانحطاط المعيشة، أخذ يتنامى على نقيض مباشر مع عقيدة شبه رسمية في تصدير الثورة، اعتنقتها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها سنة 1979 على أنقاض نظام الشاه.
من هنا تبدو تظاهرات أواخر العام 2017 مختلفة نوعياً عن تظاهرات عارمة سبق أن شهدتها العاصمة طهران سنة 2009، احتجاجاً على مؤشرات تزوير الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها محمود أحمدي نجاد. ورغم أن تلك التظاهرات نجحت في استقطاب الملايين، مقابل الآلاف فقط في التظاهرات الحالية، فإن شعاراتها ظلت إصلاحية عموماً ولم تبلغ مستوى المطالبة برحيل «الديكتاتور» وإسقاط ولاية الفقيه.
وحتى الساعة يبدو رد فعل السلطات الإيرانية كلاسيكياً يحتذي بالأنظمة العربية التي شهدت اندلاع تظاهرات احتجاج شعبية، فبدأت بحجب منصات التواصل الاجتماعية، وانتقلت إلى اتهام المتظاهرين بإثارة الشغب، ثم استخدمت وسائل قمع تراوحت بين الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي،
قبل أن يعلن الرئيس روحاني أن انتقاد السلطة حق يكفله الدستور ولكن دون مخالفة القانون وتخريب الممتلكات العامة!
ويبقى أن من المبكر التكهن بالمسارات التي سوف يتخذها هذا الحراك الشعبي المتعاظم، ولكن ليس من المبكر أن تستخلص السلطات الإيرانية الدرس الأهم والأبكر: أن نيراناً اشعلتها محروقات الشعب، لا تطفئها خراطيم المياه وحدها!
هناك خصوصية جوهرية في الحالة الإيرانية تبدو غائبة في قراءة ما يحدث من احتجاجات غير مسبوقة كماً نوعاً، وحتى على المستوى الجهوي- المناطقي، وطبيعة الخلفية السيوسيولوجية للناقمين على إخفاقات نظام الملالي المؤدلج والقمعي الذي لم يعد يحتمله الإيرانيون.
هناك تداخل كبير في طبيعة الاحتجاجات في الحالة الإيرانية حسب المعطيات الأوليات الشحيحة التي نشرتها وكالات الأنباء والتقارير الصحافية، فهي مزيج بين غضب واستهجان المجموعات والكتل ذات الطابع المدني والعلماني من جيل الشباب الناقمين على سياسات التدخل الإيرانية في قضايا عربية كلفت الكثير من الأموال الطائلة والجنود، هذه الاحتجاجات استعادت لحظة الشاشة والاهتمام لدى هؤلاء، وأنها كانت الأفضل للقومية الإيرانية التي هي في نظرهم امتداد تاريخي انقطع مع ثورة الملالي، كما أفرزت تلك الاحتجاجات طبقات جديدة من الفقراء الناقمين على انهيار الأوضاع الاقتصادية، وغلاء المعيشة، وإهمال البنى التحتية، وكل تبعات انخفاض أسعار النفط، واختناق فرص العمل حتى بعد حالة التسوية على المشروع الإيراني النووي... الاحتجاجات الأولى ركزت على سلطوية وقمع الحرس الثوري، وتدخل إيران في سوريا واليمن، وشعارات الفقراء من الشعب الإيراني ذهبت إلى أبعد من ذلك بالهجوم على خامنئي، وكلا الحراكين يفقد الناظم الحزبي والشخصيات الموجهة، على عكس الثورات العكسية شكلاً ومضموناً إبان الربيع العربي الذي قدر على إسقاط عدد من الأنظمة العربية بسبب أنها واجهت جماهير محمولة بخبرة الإسلام السياسي الذي وإن جاء متأخراً إلا أنه استطاع بسهولة خطف المشهد بسبب قدرته على التحشيد وخبرته في بناء شعارات وتحريكها كأدوات فعل سياسي احتجاجي.
المعارضة الإيرانية العلمانية أيضاً لم تجد، وهذه مفارقة، ذات الدعم والتأييد من الخارج.
على المستوى المناطقي بدأت الاحتجاجات خارج العاصمة على خلاف سابقاتها، فتصدرت مشهد، معقل نظام الملالي المدينة المحافظة ذات الأهمية الدينية والشعائرية، التمرد، وهو ما يعني أن حالة الإخفاق لنظام الملالي قد أصابت جغرافية نفوذهم واشتغالهم بشكل غير مسبوق حتى في عام 2009، كما أصابت من جهة أخرى مشروعهم التوسعي، فحسب عدد من التقارير الإخبارية ردد المتظاهرون عبارات تنادي بترك سوريا وشأنها، بل واستعادة نوستالجيّة لحكم الشاه، ورفع صوره في مدينة قُم، ومطالبة بإسقاط الجمهورية الإسلامية.
لا شك أن هذه الثورة أيضاً تلعب على عامل المناخ العام، حيث بات العالم مرهوناً للحداثة التكنولوجية التي تخدم المعارضين، كما هو الحال مع كل مكونات المجتمع، وهو ما يفسر سرعة رد النظام باستهداف منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الدردشة والفعاليات الإلكترونية الجمعية، والتي تتفوق في تأثيرها وطريقتها في الحشد على الطرق التقليدية كالنزول إلى الشارع، والتي يملك الحرس الثوري خبرة طويلة في قمعها وإخمادها.
وعلى ذات التباين مع مواجهة الربيع العربي فيما يخص تدخل الخارج وتأثيراته على السياسة الخارجية الإيرانية، فإن جزءاً من أزمة فشل الملالي هو قدرته على استثمار وكلائه في المنطقة وأذرعه من ميليشيات «حزب الله» إلى الحوثي، لتعزيز مكانته في الداخل لدى النخب والشرائح الموالية.
الاستثمار في الحالة الإيرانية يجب ألا يكون رهاناً على مآلات الثورة التي، كعادة موجات التنديد، لا تعبر عن حراك مجتمعي ولا عن سياق سياسي أو انتماء حزبي، بل على ضرورة حشد الرأي العام العالمي تجاه التجاوزات الإيرانية في حق القضية السورية، وفي هيمنة «حزب الله» السياسية في لبنان، وصولاً إلى ميليشيا الحوثي الذي يمده النظام الإيراني بالأسلحة.
الاحتجاجات الإيرانية باختصار تريد استرجاع مفهوم الدولة من اختطاف الملالي لجهة الثورة، وهو ما عكس قلق النظام الإيراني من هذه الاحتجاجات وتصريحات مسؤوليه تجاه المتظاهرين وعموم الشعب بالوعيد بالملاحقة والسجن وتطبيق اشتراطات تصحيحية مرهونة بوقف تدفق المظاهرات ذات الزخم الحاد للاحتجاجات والغضب الشعبي الذي استبدل بعبارة «الموت لأميركا»، «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى المرشد.
على المستوى الخارجي، فالاتفاق النووي أتاح لإيران بسط نفوذها في المنطقة، ليس عبر الاستفادة من المتنفس الاقتصادي بعد رفع الحصار، بل بإخراجها من محور الشر إلى دولة ذات نفوذ إقليمي من المفترض استثماره في الحرب على الإرهاب.
فتح باب النقد الذي دعا إليه روحاني قبل حتى هذه الاحتجاجات هو معضلة إيران مع الداخل، أو ما كان يطلق عليه «اقتصاديات المقاومة»، والذي عارضته الجماهير العريضة من الشعب الإيراني من مختلف الاتجاهات والمكونات، فالاتفاق النووي والتدخل السافر في سوريا لم يسهما في مسار التنمية أو تغيير الحالة الاقتصادية المتردية، والتي أسهمت في باب الاضطرابات والاحتجاجات الجمعية من شرائح متعددة من الإيرانيين.
الاستثمار في فشل الملالي وإخفاقهم يكمن في تعرية خطابهم وقناعهم السياسي الذي يخفي رغبة في هيمنة طائفية، فالشعارات التي يطلقها الساسة ذات الطابع الديني ليست إلا أدوات للتعبئة ولا تعبر عن أهداف نهائية غائية، خصوصاً ما يتصل منها بسيادة الدول وأمنها الذي يقوّض أبسط مفاهيم السياسة الدولية، فمن يقول إن تدخله في سيادة الدول وبناء أذرع وميليشيات عسكرية له يعني أنه إعلان عدم إيمانه بمفهوم الدولة والأمن الإقليمي والمؤسسات الدولية، فضلاً عن أن يكون حريصاً على أمن وازدهار ورفاه مواطنيه.
أصبحت تكنولوجيا الإعلام والاتصال في متناول الكثير من الناس، ووفرت الفرصة لأي شخص أن يكتب وينشر ما يشاء على شبكة الإنترنت من صور وآراء وأخبار جمعها من مصادره الخاصة.
ومع تزايد اعتماد السوريين على شبكات التواصل الاجتماعي كان لا بد لهم من أن يأخذوا دورهم في نشر التنمية والمساهمة في بناء وطنهم في المناطق الآمنة، فممارسة الصحافة في شكلها الجديد (إعلام المواطن) أو (صحافة المواطن) أصبحت ظاهرة اتصالية لها دورها الكبير إذا اتسمت بالصدق والنزاهة والموضوعية، واتسم هذا المواطن بالوعي ومعرفة الحقوق والواجبات، فبع الإعلام السائد غابت الثقة عنه لاعتماده على أجندات معينة تخدم بها مصالحه بحسب ما يراه داعمه، والمؤسسات الإعلامية بوضعها الحالي غير مؤهلة لمواكبة التغييرات الحاصلة في سورية، فهي نفسها بحاجة إلى ما يسمى بـ (تنمية الإعلام)، والمنتج الإعلامي عند الكثير لم يعد أهلًا للثقة، والجمهور المستقبل والمواطن الواعي كذلك لم يعد كائنا معلبًا.
وفي ظل عدم وجود كليات للإعلام، وغياب التخصص الإعلامي كعلم ومهنة عن الكثير من الإعلاميين في المؤسسات الإعلامية، كان لابد من أن يلعب المواطن الصحفي دوره في تنمية وطنه، ويعد ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺍﻟﺘﻨﻤﻭﻱ أساسًا للنشاط الإعلامي في الدول النامية، فهو هادف وشامل وواقعي، ويشتمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن هنا تكمل أهمية ديمقراطية الإعلام في إيصال السياسات الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى المواطنين حتى يكون على اطلاع بكل ما يجري حوله في البلد، ولكن مع ضعف الإعلام والثقافة الإعلامية عند المجالس المحلية القائمة على خدمة الناس في هذه المناطق، كان لابد من المواطن الصحفي من أخذ دوره في هذا المجال حتى يستطيع بلوغ الهدف التنموي في الرقي بالإنسان والمجتمعات المحلية ويصبح هذا المواطن أداة فعالة للمشاركة الشعبية وتحقيق ديمقراطية الإعلام.
فالمواطن الصحفي هو المنبر الإعلامي المشجع والداعم للتنمية بكافة أبعادها و مجالاتها سواءً الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لذلك عليه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تدعيم مسار التنمية التي تقوم بها المجالس المحلية، عبر التوعية المستمرة والهادفة بمتطلبات التنمية، وما تمليه على كل مواطن من ضرورة بذل الجهد من أجل المساهمة بكافة مجالاتها وقطاعاتها عن طريق التعاون والتشاركية إلى أن نصل إلى تغير العادات وأنماط السلوك، ورصد حركة الشباب والحياة اليومية، وكذا متابعة نشاطات المدارس والجمعيات والمنظمات، بالإضافة إلى مناقشة المشكلات والحقائق المتعلقة بالواقع التنموي الذي يعيشه المجتمع المحلي، مع فتح قنوات الحوار الدائمة مع صانعي القرار لتحديد أنسب السبل لمواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع المحلي، ودفع عجلة التقدم حتى نصل إلى المطلوب.
ويتضح دور المواطن الصحفي في التنمية بالآتي:
- المواطن الصحفي يشجع المجتمع على المشاركة الفعالة في كافة خطط التنمية مع المجالس المحلية وغيرها، وتتبع سيرها من خلال مختلف الأنشطة والأشكال الإعلامية.
- يظهر دور المواطن الصحفي عند الأزمات المفاجئة من قصف أو دمار أو اعتداء من خلال الاعتماد على تحريض الناس على التفاعل مع الضحايا والمتضررين.
- يساهم المواطن الصحفي في تعليم الناس عدم السكوت عن الخطأ، وفي انتقاد المسؤولين بأدب وعدم الخوف منهم والحوار معهم.
- يشارك المواطن الصحفي المثقف الواعي في تنمية مجتمعه وبيئته من خلال أنشطة محو الأمية، والتثقيف النسائي، والتوعية والتربية، وغير ذلك.
- ألا يقتصر دور المواطن الصحفي بتوصيل المعلومات فقط بل يجب أن يحدد المشكلات التنموية في منطقته، ويقترح الحلول لها ويقرر بذلك الأولويات التنموية للمجتمع المحلي، ويحدد البدائل الملائمة للمساهمة في تلبية الاحتياجات الفعلية للمواطنين.
وهنا أوصي القائمين على المجالس المحلية بالآتي:
- تسهيل الحصول على المعلومة للمواطنين الصحفيين وغيرهم من الإعلاميين، فمعركة الحصول على الخبر صعبة جدًا والحس الإعلامي عند الكثير ضعيف.
- ضرورة نشر الخطط التنموية وتنظيم حملات إعلامية ﺘﻨﻤﻭﻴﺔ ﻟﺩﻋﻡ ﻤﻴﻭل ﺍﻟﺠﻤﻬﻭﺭ ﻭﺘﻨﺸﻴﻁﻬﺎ ﻨﺤـﻭ ﺃﻫـﺩﺍﻑ ﺍﺠﺘﻤﺎﻋﻴـﺔ ﻤﺤﺩﺩﺓ.
- تحديد الجمهور المستهدف من هذه الحملات عبر دراسة الواقع وتقسيم شرائح الجمهور.
- الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي لما لها من دور في التأثير على الرأي العام وتوجيهه نحو تطوير التنمية وتنوير المجتمع.
وأخيرًا تنمية بلادنا ومناطقنا الآمنة هي مسؤولية الجميع، عبر المجالس المحلية ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنين، وتسليط الضوء على القضايا الإعلامية التنموية في غاية الأهمية، فالتنمية تحتاج لوعي جماهيري شعبي، وهذا الوعي هو من صنائع الإعلام فإذا قصرت المؤسسات الإعلامية في أداء دورها فالبديل هو المواطن الصحفي الذي يحمل هم بلده ووطنه ويسعى لخدمته.
القراءة الصحيحة للوضع الداخلي، والمعادلات الإقليمية والدولية المتشابكة معه، المؤثرة فيه، تمكّن السياسي من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، تماماً مثلما يكون الحال مع التشخيص السليم بالنسبة إلى الطبيب. أما إذا كانت القراءة خاطئة، فستكون النتائج المترتبة إليها هي الأخرى خاطئة، أو غير منتجة. وهذا ما حصل مع القيادة السياسية التي تصدّرت المشهد في بدايات ثورة الشعب السوري على نظام الاستبداد والإفساد.
فقد تصورت القيادة المعنية أن التغيير آتٍ إلى سورية، وأن العالم قد تغيّر، وبات مصير الديكتاتوريات في منطقتنا محسوماً لمصلحة شعوبها، لتتمكّن هذه الأخيرة من إعادة بناء مجتمعاتها من أجل مستقبل أفضل لأجيالها المقبلة، يضمن الفرص العادلة في ميادين التعليم والعمل والإبداع. وكان التصور هو أن كل ذلك سيكون في مصلحة الأمن والاستقرار والازدهار على المستويين الإقليمي والدولي.
ولكن ما تبين لاحقاً أن هذه القراءة كانت متفائلة أكثر من اللازم، لأنها لم تأخذ في الاعتبار موقع ودور سورية وأهميتها على صعيد ضبط المعادلات بين القوى الإقليمية والدولية، هذه القوى المتصارعة على المزيد من التحكّم بتوجهات المنطقة ومقدراتها.
ومن بين ما أدّت إليه القراءة الخاطئة تلك أن القيادة السياسية للثورة غضت النظر عن الأخطاء والممارسات غير السوية التي كانت تتمّ سواء ضمن المؤسسات السياسية، أم على المستوى الميداني العسكري الذي كان في واقع الحال خارج نطاق نفوذ السياسيين، وذلك لأسباب كثيرة لسنا بصدد تناولها الآن.
ومع الوقت تراكمت الأخطاء المعنية، وأصبحت ظاهرة لتؤدي بدورها إلى تحوّلات نوعية تراجعية، مهدت الطريق أمام تدخلات إقليمية ودولية استهدفت هندسة كيان جديد تحت اسم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليكون البديل عن المجلس الوطني السوري الذي كان يعبر عن أهداف الثورة السورية. فأصبح الكيان الجديد يجمع بين قوى الثورة والمعارضة من دون أن ينتبه أحدنا إلى أن الخطوة المعنية كانت مقدمة لإنهاء قوى الثورة، والإبقاء على قوى المعارضة بأطيافها المختلفة، لتختزل المسألة إلى مجرد خلاف بين نظام ومعارضة حول تقاسم السلطة. هذا في حين أن الثورة السورية جسّدت تبايناً وجودياً بين مشروعين: مشروع النظام المستبد الفاسد المفسد. ومشروع الشعب الثائر المتحور حول قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ومع الوقت، غاب مصطلح قوى الثورة نهائياً عن المشهد، ليصبح مصطلح قوى المعارضة السياسية والعسكرية أو الميدانية هو المهيمن.
ومع تبدّل أولويات القوى الإقليمية، وتحكّم روسي شبه كامل بالملف السوري، بدأنا نرى معالم خطة مبرمجة، استهدفت إجراء تغييرات بنيوية ضمن هيكلية المعارضة السورية، وكان الهدف هو تغيير وظيفتها ودورها. فقد بات المطلوب منها التعايش مع النظام، إن لم نقل الاندماج فيه بهذه الصيغة أو تلك، وذلك بموجب رتوش دستورية، ستكون غالباً مجرد حبر على ورق، في ظل وجود نظام أمني قمعي مهيمن، متحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع. على أن تكون التغييرات المعنية مقدمة لانتخابات عامة تحت إشراف دولي، يتم التسويق له منذ الآن. واللافت في الأمر أن القائمين على هذا التسويق يتجاهلون عن سابق قصد وتصميم عجز المجتمع الدولي، إن لم نقل تخاذله، عن إدانة جرائم هذا النظام الصارخة مثل الكيماوي والتصفية المبرمجة للمعتقلين، واستخدام سلاح الاغتصاب، وقصف المدن والبلدات السورية بنحو 70 ألف برميل على مدى سنوات وغير ذلك من الجرائم التي يبدو أنها قد باتت جزءاً من المألوف اليومي لعالم المصالح والحسابات.
ومن الواضح أن جرعات التخفيف، بالمعنى الكيماوي، التي تعرضت لها المعارضة السورية قد ساهمت في تضييق نطاق المناورة لديها، وأضعفت من قدرتها على رفض ما يعرض عليها من أشباه حلول، تتقاطع كلها حول شرعنة النظام القائم، مقابل فتات سلطوي لن يستفيد منه السوريون شيئاً.
اللحظة التي تواجه السوريين المعارضين، الذين يرفضون علناً، على الأقل، القبول بفكرة استمرارية نظام بشار، حاسمة ومفصلية. فهم إما سيسيرون مع قافلة المهللين لـ «الحل» الروسي، أو أنهم سيتخذون الموقف المناسب المنسجم مع تضحيات وتطلعات الشعب السوري، وسيرفضون الخنوع لما يُفرض عليهم، وهم يدركون قبل غيرهم طبيعته ومآلاته.
سوتشي على الأبواب. ومن المفروض أن يعقد بإشراف وتحكّم مباشرين من الجانب الروسي، وبالتفاهم مع النظام، وبمشاورة مع القوى الإقليمية التي أرغمها الغياب الأميركي على التواصل غير التقليدي مع الروس، حتى تكون بمنأى عن الموجات الارتدادية للزلزال الذي تشهده المنطقة بفعل التدخل الإيراني بمختلف الأشكال والأدوات.
هل سنقنع أنفسنا، ونشارك من باب ضرورة التعاطي الإيجابي مع المبادرات السلمية، ونلوذ بذريعة أخطار الكرسي الفارغ. وهذا فحواه ليس الإقرار بالهزيمة وحدها، بل الاعتراف بأحقية النظام، والتسليم بشرعيته، وتحميل من ثار عليه من السويين مسؤولية ما حدث.
علينا أن نميز في هذا السياق بين الموقف الشجاع الذي يعترف بعدم الانتصار، وبين الموقف الإنهزامي الاستسلامي الذي يروّج له بعضهم بهدف، شرعنة النظام، وإعادة تجديده.
ففي الحالة الأولى، لا بد أن نبحث في الأسباب والمقدمات التي كانت وراء الإخفاق من أجل تلافي السلبيات التي كانت، بصغيرها وكبيرها، ونؤسس لحركة وطنية شاملة، تمثل إطاراً يستوعب طاقات شبابنا الهائلة في الداخل والخارج، طاقات النخب السورية الثقافية والفنية والإعلامية والاقتصادية والمجتمعية، لتكون جميعها متفاعلة، مشاركة في حركة عامة، تلتزم المشروع الوطني المدني الديموقراطي الذي يكون بكل السوريين ولكل السوريين.
ومن نافل القول هنا أن نؤكد أن مشروعاً كهذا سيستغرق الكثير من الوقت والجهد، ويستوجب الكثير من التحمّل والتضحيات، ولهذا لن يكون جذاباً بالنسبة إلى المستعجلين اللاهثين بعقلية سحرية خلف ما يشبع عقدهم، ويستجيب نزواتهم ونزعاتهم.
لقد قدم السوريون تضحيات تعجز الأرقام والعبارات عن تحديدها وتوصيفها. ولكنهم مع ذلك لم ينتصروا، وليس في ذلك أي عيب أو نقيصة. لأن قوى الشر جميعها تكالبت عليهم. أما القوى الأخرى التي أعلنت صداقتها للشعب السوري، فقد لاذت بالصمت المريب.
لقاء سوتشي المقترح، المرتقب، لن يربك السوريين الرافضين لأي دور للنظام القائم، فهؤلاء قد اتخذوا قرارهم برفض المشاركة، وهذا القرار سيعيد اللحمة في ما بينهم، وتسترجع قضيتهم ألقها الأصيل؛ بعد تحررها من كل الشوائب والقيود المؤلمة.
الأمور كلها في منطقتنا في حالة غليان وتفاعل، ومن يدري، فقد يكون التحرك الشعبي الإيراني مقدمة للتحوّل الأكبر المنتظر.
التطورات التي تشهدها إيران اليوم، هي أكثر من مجرد احتجاجات على أوضاع مالية واقتصادية متردية في هذا البلد الغني بالثروات الطبيعية والنفطية. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ليست أمرا جديدا في إيران، فلقد عانى الشعب الإيراني في العقود الأربعة الماضية أزمات شبيهة، إما بسبب الحرب التي استنزفت إيران مع العراق بين العامين 1980 و1988، وإما بسبب العقوبات التي نتجت عن الحصار الأميركي والغربي خلال السنوات الماضية، وكان ذلك يجري في ظل صراع بين تياريْن واحد إصلاحي وآخر محافظ، والأخير هو المسيطر على السلطة والمتحكم بمفاصل الثروة والاقتصاد، إما عبر الحرس الثوري وإما من خلال المرشد علي خامنئي، الذي يشكل عمليا صاحب السلطة المطلقة الذي لا يمكن أن يرد له قرار فيما هو قادر على إلغاء أي قرار لا يرى فيه مصلحة لإيران.
الإصلاحيون تلقوا ضربة قوية بعد قمع الثورة الخضراء عام 2009 ووضع قادة هذا التيار وهذه الثورة في الإقامة الجبرية أو في السجون. وبعد رحيل هاشمي رفسنجاني المشوب بتساؤلات حول وفاته الغامضة، تلقى التيار الإصلاحي، والنظام ذاته، ضربة قوية انطلاقا من أنّ رفسنجاني كان حكيم الدولة والنظام وعنصر التوازن الذي يحتاجه النظام كما يستند إليه الإصلاحيون.
مظاهرات اليوم التي انطلقت من مدينة مشهد وعمّت معظم المدن الإيرانية، هي تحركات تفتقد لقيادة كما كان الحال في الثورة الخضراء، إذ خرج المحتجون هذه المرة بشعارات طالت كل أركان النظام، حتى الرئيس حسن روحاني الذي كان يُنظر إليه بأنه يحظى بتأييد التيار الإصلاحي الذي جيّر أصوات مناصريه له في الانتخابات الرئاسية في ولايته الأولى والحالية، كما أنّ الاحتجاجات طالت المرشد الذي أُحرقت صوره ورفعت شعارات غير مسبوقة بهذه العلنية التي دعت إلى إسقاطه.
ما يمكن الإشارة إليه في سياق البحث عن التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الإيراني، هو أنّ الثورة الإيرانية الإسلامية أو النظام الإسلامي الذي يحكم إيران منذ أربعة عقود، فقد ثقة فئات واسعة من الشعب الإيراني، فالتظاهرات والاحتجاجات هذه المرة انطلقت من كل الجغرافيا الإيرانية وديموغرافيتها، أي أن لا بعد إثنيا أو قوميا لها، ولا بعد مذهبيا أو إيديولوجيا، وكما أشرنا إلى أن الأزمة الاقتصادية وحتى البطالة وتراجع فرص العمل وانخفاض سعر العملة الإيرانية ليس هو الجديد رغم أنه شكل السبب المباشر في خروج المحتجين إلى الشارع، لكن الجانب المتصل بفقدان الثقة بالسلطة الحاكمة وبالنظام بدا بارزا، فهذه الاحتجاجات لا تذكر السلطة الحاكمة بشعارات قادة الثورة الأوائل كقائدها الخميني، ولا تستعيد أيا من شعاراتها في مواجهة السلطة الحاكمة، بما يوحي أن المنتفضين يعلنون القطيعة مع الثورة وقادتها وشعاراتها، وهذا أخطر ما يواجه النظام الإيراني، فالشعب لم يعد يطالب باستبدال زعيم بآخر أو مسؤول بآخر، بل يحمّل النظام مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد.
بعد أربعة عقود نجحت القيادة الإيرانية في إنجاز الاتفاق النووي، وحققت اختراقات استراتيجية في المنطقة العربية وعلى حسابها من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، لكن هذه الإنجازات للحكومة الإيرانية، لم تنعكس إيجابا في الداخل الإيراني، بل كشف واقع الشعب الإيراني اليوم، أن التمدد الخارجي تضمن محاولة تغطية على الفشل الداخلي، مثل فشل التنمية وتمدد الفساد في الدولة وانتشار ظاهرة الولاء والاستزلام على حساب الكفاءة، وهروب الكفاءات الإيرانية نحو الخارج، وعدم قدرة النظام على إقناع الشعب الإيراني بضرورة استمرار القطيعة مع الغرب، ولا سيما بعدما فشل النظام الإيراني في إيجاد موارد اقتصادية ومالية من خارج الثروة النفطية، فيما القمع الأيديولوجي والدكتاتورية، باتا العنصر الوحيد المميز للسلطة التي سقطت كل شعاراتها تجاه تقديم النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي البديل عن العولمة أو النظم الاشتراكية التي سادت خلال عقود سابقة.
من هنا لم يكن مفاجئا إطلاق شعارات تدعو الحكومة الإيرانية إلى العودة إلى الداخل، وعدم الغرق أو استنزاف طاقات الدولة في وحول سوريا والعراق ولبنان وغزة، ذلك أن ثمة اعتقادا في داخل إيران بأن الثروات الإيرانية استنزفت في حروب خارجية، وهذا إن كان يتضمن شيئا من الصحة، إلا أن عملية نهب العراق التي تمت في مرحلة حكم نوري المالكي، تمت بإشراف إيراني، إذ يؤكد أكثر من مصدر عراقي رسمي، أن عملية دعم نظام الأسد وحزب الله في لبنان في السنوات الماضية تمت من خلال العراق، الذي أفرغت خزينته بالنهب المنظم، وبالفساد في السلطة الحاكمة الذي شكل غطاء لعملية نقل عشرات المليارات من الخزينة العراقية ومن آبار نفط البصرة إلى المجهود الحربي الإيراني سواء في سوريا أو لبنان أو غزة واليمن.
التجربة الإيرانية بنموذجها الإسلامي الحاكم، هي التي تهوي اليوم في الشارع الإيراني، بسبب عجز النظام عن تقديم إجابات على أسئلة الداخل. الشعب الإيراني تحمل الكثير اقتصاديا وماليا في سبيل إنجاز الاتفاق النووي، والشعب الإيراني بخلاف الشعوب العربية ليس متحسساً من العلاقة مع الغرب، بل يتطلع إلى بناء علاقة وثيقة مع الغرب ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لذا كان إنجاز الاتفاق النووي الإيراني مصدر فرح للإيرانيين باعتباره عنوان الانفتاح على الغرب وتحديدا أميركا، وليس باعتباره عنصر تحد ومواجهة معها، لكن النظام الإيراني خيب آمال الشعب على هذا الصعيد، فتفاقمت الأزمات الداخلية مع المزيد من التشدد الأيديولوجي الذي ترافق مع هدر للثروات الوطنية، وذلك يجري من دون وعود بتغيير لصالح الشعب، وفي ظل غياب أي أفق للتغيير من داخل السلطة وضمن سيطرة آليات النظام التي تستخدم الديمقراطية ونتائجها كرسالة للخارج، فيما لا تعني في الداخل إلا انتخاب الشيء نفسه بوجوه جديدة لكن المضمون واحد مفاده أن لا تغيير إلا ما يشاؤه المرشد وذراعه الحرس الثوري.
مشكلة النظام الإيراني اليوم تكمن في مصدر قوته الوحيدة إزاء المشكلات التي تواجهه في الداخل، الدكتاتورية والقبضة الأمنية وبراعته في القمع، هذه هي مصادر قوة النظام الإسلامي وهي مقتله في آن. فهذا النظام اعتمد على الأيديولوجيا المتمثلة بولاية الفقيه، التي فقدت بريقها لدى الشعب وهي عاجزة عن تقديم أي حلول جدية لأزمات الدولة والشعب، والشعب الإيراني الذي أعطى النظام فرصا عديدة من أجل إنجاز مشروعه الإنمائي في الداخل، وصل إلى قناعة على ما تظهر الوقائع الميدانية أنّه أمام دولة فاشلة اقتصاديا وإنمائيا، ينهش شعبها الفقر والبطالة فيما تتوفر على الثروات الدفينة والظاهرة ما لا يعد ولا يحصى، وهذا ربما ما يفسر نزعة أيديولوجية السلطة الحاكمة التي ترفض توسعة دائرة المشاركة الفعلية في السلطة التي تشكل عنصرا أساسيا لإحداث التنمية وبالتالي الانفتاح الاقتصادي على الشركات الكبرى ورأس المال الوطني والخارجي، لذلك هي تدرك أن الدخول في هذا المضمار سيعني بالضرورة تغييرا سياسيا لا تريده.
إزاء فشل أيديولوجيا السلطة أو ولاية الفقيه في تقديم نموذج تنموي يلبّي حاجات الشعب ويحد من الفساد والبطالة، وإزاء رفضها اعتماد البديل بالانفتاح على الدول الخارجية بما يخرجها من عزلة نسبية تعيشها، يبدو أننا أمام انتفاضة شعبية ليس لدى النظام أي إجابة موضوعية تبدأ من التسليم بضرورة الإصلاح الجذري للنظام، قوة النظام شبه الوحيدة هي القمع وهذا يمكن أن يكبت صرخات الشعب لكن بكلفة عالية ستجعل من تغيير النظام الإسلامي جذريا قرارا شعبيا لا عودة عنه وإن بعد حين.
بداية لا يفترض أن يؤخذ هذا التحليل يقيناً بأن نظام آية الله الإيراني يتهاوى وأنه ساقط لا محالة. الحقيقة أن النظام في طهران قوي في هياكله وأجهزته، ويمثل شريحة متمكنة ليس سهلاً إزاحتها من خلال المظاهرات. لكن أهمية الحراك الشعبي، الذي باغتنا من جديد، كما فاجأنا في عام 2009، أنه عامل مساعد على التغيير الجزئي أو الكلي لاحقاً.
وقبل الحديث عن انعكاساته على منطقتنا نتساءل عن تأثيراته على إيران والنظام فيها والتي تباعاً تؤثر نتائجها علينا. هناك عدة احتمالات أولها أن ينجح الأمن في قمع المظاهرات، كما فعل قبل 8 سنوات ولم يتوان عن قتل المتظاهرين العزل أمام كاميرات الهواتف. والثاني أن يعمد إلى بعض التضحيات لاستيعاب أزمة مع القمع في الشوارع المنتفضة ضده، كأن تتم إقالة الرئيس روحاني وحكومته. والاحتمال الثالث أن تكبر المظاهرات حجماً وعنفاً وتستفيد من الأزمة القوى الداخلية المتصارعة من داخل النظام نفسه، سواء الحرس الثوري أو خصمه الجيش، للهيمنة على الحكم. والاحتمال الرابع، والمستبعد حدوثه، أن ينهار النظام ويصبح الوضع مثل سوريا وليبيا.
في كل الحالات ما حدث ويحدث من اضطرابات معادية لحكم طهران موجعة وتهز ثقة غالبية الإيرانيين والعالم كذلك فيه. وهو مضطر لأن يراجع نفسه حتى لو قضى عليها بنجاح خلال الأيام القليلة القادمة. وكلمة الرئيس روحاني كانت تصب في هذا الاتجاه، أن على الحكومة أن تستمع إلى مواطنيها. أما في الحالتين الثالثة والرابعة، استيلاء فريق على الحكم أو انهياره، فإن ذلك ستكون أبعاده خطيرة وتتجاوز إيران إلى كل المنطقة.
بالنسبة لنا، أعني دول المنطقة، خاصة العربية منها، الوضع المثالي ألا ينهار النظام تماماً بل أن يغير من سياساته الخارجية ويتوقف عن مشروعه العدواني. وقد يبدو غريباً هذا التصور، المبرر له أن المنطقة الآن تعاني من حالة تدمير لا تحتمل فوضى جديدة، وحروب أهلية إضافية، ولاجئين بالملايين. إنما لو أن انتفاضة الشعب الإيراني حققت تغيير السياسة الإيرانية وأوقفت عملياتها الخارجية، وأجبرت النظام على التحول إلى الإصلاح الداخلي والتنمية هذا هو الخيار المثالي مقارنة بالمشهد المخيف فيما لو انهار النظام. العيب في هذه الفرضية أن طبيعة النظام في طهران ليست مدنية قادرة على تغيير نفسها، بل دينية أمنية، أي دينية فاشية. ومن الصعب عليه أن يصحح من فكره وخطه ورؤيته للعالم من حوله. وهذه مسألة أمام قياداته العليا، التي لا بد أنها في حالة انعقاد دائم بسبب التطورات الخطيرة التي تهدد وجوده. إن استطاع استيعاب الأزمة والاستفادة من دروسها فإنه قد ينجو، لكن إن عاند وقرر مواجهة المتظاهرين بالرصاص وربما بأكباش فداء يضحي بهم لإسكات الغاضبين، فإن ذلك لن يمنع الانفجارات الشعبية لاحقاً. قادة الحرس الثوري، ومعها القيادة الدينية العليا، يتملكها غرور واضح بأنها قادرة على نفخ الجمهورية لتكون إمبراطورية إقليمية، تحتل جغرافياً دولاً من المنطقة، وأنها قادرة على مزاحمة القوى الدولية وتهديد مصالحها في الشرق الأوسط، وتسعى لمحاصرة السعودية وتهديد إسرائيل، وخوض عدة حروب في وقت واحد. هذا تفكير المكابرين الذين يتناسون حدود القوة الإيرانية، في بلد يعاني أهله، ويعتبر اقتصاده من أفقر الاقتصادات الإقليمية.
تكاليف الثورة في إيران باهظة على الإيرانيين وعلى المنطقة لكن نجاحها أنوار للشعب الإيراني والمنطقة وربما العالم. في حال سقط حكم الملالي بكامل (حمولته الثقافية) ستتحول إيران في السنوات العشر الأولى إلى دولة في مستوى أسبانيا وقد تتجاوزها في عشر سنوات أخرى. المعركة في إيران لن تكون بالسهولة التي نأمل بها. لن تكون ثورة على أربعين سنة من حكم حزب أو دكتاتور. ثورة على جذور ثقافية تمتد في المجتمع الإيراني مئات السنين. ثقافة قامت على تقديس رجل الدين. من يتفرج على المزار في مدينة مشهد الإيرانية على سبيل المثال سيعرف ما أعنيه. عندما تثور على الملالي في إيران فأنت لا تقتلع حكومة وإنما تقتلع ثقافة متجذرة في الأعماق يعتاش عليها ملايين من البشر.
ثورة 79 على الشاه فازت بتحالف رجال الدين مع الشعب ضد الطغيان. هذه الثورة ستكون تحالف الشعب مع الدين ضد رجال الدين. ثورة كهذه لن تؤسس لنظام ديموقراطي وحريات وحقوق دستورية فحسب. الثورة ضد رجال الدين هي ثورة ضد النفاق والاساطير والخرافة والقتل المقدس وخلط الواقع بالأوهام.. باختصار هي ثورة ضد الظلام.
لكي يحتفظ الملالي بالسلطة اخترعوا ما سموه ولاية الفقيه.. (المعادل الموضوع لأسطورة الخلافة عند دعاة السنة).
عززت ثورة الخميني شهية الحكم الديني عند رجال الدين في الدول الإسلامية الأخرى وأعادت المنظمات الدينية السياسية إلى العمل كما فرضت على حكومات إسلامية إدخال قواعد ثيوقراطية على نظام حكمها تيمناً بالثورة الإيرانية وخوفاً أن تجتاح هذه الثورة شعوبها ببريقها الزائف.
سقوط الملالي سيكون مدوياً. نهاية التأرجح الذي تعيشه الشعوب الإسلامية بين الثيوقراطية وبين العقل. منطقة عدم اليقين التي استغلها العثمانيون وأمضوا خمس مئة سنة ينهبون الشعوب المغلوبة على أمرها. حرموا ما أرادوا تحريمه وحللوا ما أرادوا تحليله وما تبقى أكملوه بسيوفهم وخوازيقهم. انهيار رجل الدين الإيراني هو القطيعة بين الدين والاسطورة وليس الفصل بين الدين والسياسة كما يردد رجال الدين عند تسويق بضاعتهم وتشويه قيم الحرية. عندما تنهار الثيوقراطية فلن يرسل أحد أحداً إلى الجنة أو النار وسيختفي الدليل السياحي الذي يحدد نسبتك من حور العين. ولن يحج مراهق إلى مناطق الصراع ليقتل رجلاً لا يعرفه. سيبحث المسلم عن آخرته من خلال عمله فقط.
الحرب الأهلية في إيران في حال اندلاعها دون رجعة سوف تكتب تاريخاً جديداً للمنطقة والعالم، أما من يحصر فرحته في سقوط الملالي بوصفه سقوط مذهب آخر لا يدرك أن السفينة التي سيغرق فيها الملالي هي نفس سفينته.
تشهد كبرى المدن مظاهرات شعبية ضد الغلاء والفساد. وتزدحم بالكثافة السكانية المتزايدة (مليون طفل رضيع كل سنة)، لأن «تخطيط الأسرة» في الدولة ممنوع بموجب العقيدة الدينية. ويموت المؤمنون في الصيف بالسرطانات وأمراض البيئة، نتيجة لِلُهاث الانبعاث الحراري في الصيف. والغبار والغيوم السامة الحاجبة للشمس في الشتاء.
وأدى ارتفاع درجة الحرارة. واستهلاك المياه المتزايد إلى جفاف البحيرات. والروافد. والأنهار. وغياب منظر الخضرة، مع ارتفاع السدود في الدول المجاورة. ولأن الناس لا يستطيعون شرب النفط الغزير بدلاً من المياه المتناقصة، فالدولة تستغله في تأمين الطاقة، لتشغيل المصانع النووية «للأغراض السلمية» كما يدعي النظام الحاكم. و«لإنتاج القنابل النووية» كما تعتقد غالبية السكان ذات الثقافة المحدودة الممزوجة بالدعاية المفروضة: «مقاومة. ممانعة. الموت لأميركا».
لا أتحدث عن إندونيسيا أكبر دولة إسلامية سنية. أو شقيقتها ماليزيا التي ارتفع معدل دخلها الوطني، بخلو مخطط التنمية من الطموح إلى دخول نادي السلاح النووي. وإنما أتحدث عن إيران الدولة الدينية التي تختلف مشاريع التنمية فيها، وفق التباين العنصري والمذهبي. فمدينة «مشهد» هي الأشد حرماناً. لأن شيعتها من أصول تركمانية. ومثلها المنطقة الكردية المجاورة لكردستان العراق. والمنطقة العربية الممتدة على طول الضفة الشرقية للخليج. وكلها تحصل على مخصصات أقل مما تحصل عليه منطقة خراسان الفارسية.
الإفقار الاجتماعي مقبول لدى «آيات» الدولة، لأنه يعرقل وعي الشباب في المناطق الريفية التي ما زالت الخزان البشري، لتغذية قوة الـ«باسيج» الحرس الاحتياطي الذي يستدعى لقمع قوى الشارع في المدن، عندما يتحول التذمر من الغلاء والفساد إلى تمرد سياسي على النظام، كما هو حادث اليوم في مدينتي مشهد وكرمنشاه...
أما «الحرس الثوري» فقد بات يتغذى بموارد مشاريع اقتصادية يديرها، إضافة للموارد التي يخصصها النظام له، لتمويل مشروع الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي. والخليج. واليمن، بالقوة المسلحة. أو الدبلوماسية. أو الاغتيال السياسي، كما حدث للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
غير أن سوريا تتمتع بعناية إيرانية فائقة، منذ أن حصل «فيلق القدس» على «ترخيص» من رئيس النظام بشار للتدخل المسلح في سوريا. فبات هو ونظامه الطائفي خطاً أحمر لدى خامنئي. والرئيس حسن فريدون روحاني. ووزير الخارجية جواد ظريف الذي يتستر في أروقة الأمم المتحدة على مشروع الهيمنة بابتسامة دبلوماسية ماكرة.
طرأ تغيير استراتيجي على مشروع التدخل الإيراني في سوريا. فتحول في العام المنصرم إلى مشروع إقامة دائمة، واحتلال عبر إنشاء قواعد عسكرية للحرس الثوري، في مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية السورية في المدن، لإخفاء ظاهرة الاستيطان. ولردع الوجود الأميركي العسكري في حوض الفرات، والمناطق الكردية في الشمال والشمال الشرقي. ولإحباط أي محاولة تدخل تركية. وتقوم حالياً قوات إيرانية بجس النبض، لاجتياح محافظة إدلب المجاورة لتركيا، وذلك كقوات نظامية سورية.
ويقضي المشروع الإيراني بعرقلة عودة اللاجئين والنازحين إلى سوريا من لبنان (مليون سوري). والأردن (1.5 مليون). وتركيا (3 ملايين). ومليون من ألمانيا. ومليون آخر هاجروا إلى أوروبا. وأميركا الجنوبية. وكندا. والولايات المتحدة. والعمل على إقناع الأمم المتحدة والدول الغربية بتوطين النازحين السوريين حيث هم، خصوصاً في لبنان. والأردن. وتركيا.
وتشكل سوريا منطقة إغراء جغرافية بديلة للتخمة السكانية في إيران. فهناك مناطق زراعية مروية بالأنهار (الفرات. العاصي. بردى). وأخرى بمياه الأمطار (الساحل. إدلب. القلمون. الجولان. وربما سهل حوران في الجنوب بين دمشق والأردن). وتم احتلال معظم هذه المناطق وإجلاء المدنيين إلى محافظة إدلب (التي بدأت ملامح حملة نظامية لاستعادتها من التنظيمات السنية المتزمتة). وهناك إغراء كبير لإيران لإقامة مستوطنات سكانية شيعية في سهل الغاب، قبالة مدينتي حماة وحمص (السنيتين).
كذلك، تم إنشاء معابر على الحدود السورية - العراقية، لتسهيل عبور الميليشيات الشيعية إلى سوريا. والقادمة من إيران. وأفغانستان. والعراق. أما الحدود مع لبنان، فتكاد تتلاشى باحتلال قوات «حزب الله» لمعظم منطقة القلمون الممتدة من وسط سوريا إلى الجولان. وإجلاء معظم سكانها التقليديين من السنة إلى إدلب. وتسهيل إجراءات مغادرة سوريا إلى المهاجر الأميركية.
ويُعنى المشروع الإيراني في سوريا، وفق مصادر «فيلق القدس»، بتسهيل حركة الانتقال بين إيران والمشرق العربي، بإنشاء خطوط للسكك الحديدية. ومطارات متوسطة للنقل الداخلي. وإلغاء فيزا العبور، تحت شعار إنشاء دولة إسلامية كبرى تضم إيران. والعراق. وسوريا. وإغراء الأردن ولبنان بالانضمام إليها. والهدف قطع الطريق على دول الخليج (السنية) للتدخل في سوريا، بعد إحباط تمويلها للتنظيمات الدينية التي خسرت فرصة إسقاط النظام، بتقاعسها عن القتال كقوة موحدة.
لا شك أن بشار في رفضه مغادرة السلطة أوقع سوريا في حرب أهلية. فقضى على القوى الديمقراطية. وأحل محلها القوى «الداعشية والقاعدية». الفراغ السياسي استدعى تدخل القوى الإقليمية والدولية. فنشأ صراع دولي على استقطاب التنظيمات السياسية والمسلحة، كمرتزقة مستأجرة للاقتتال في الداخل السوري.
وهكذا، بات بشار فصيلاً من هذه القوى المستأجرة، ليقاتل بما تبقى من جيشه لصالح روسيا حيناً. وإيران حيناً آخر، ريثما يحين أوان ترحيله عندما تتوصل أميركا وروسيا إلى حل لإنهاء المأساة. فلا مكان لبشار في التسوية السياسية الدائمة، لتورطه مع إيران وروسيا في إبادة شعبه.
هل أمام المشروع الإيراني فرصة حقيقية للنجاح، في تحويل مشروع الهيمنة إلى إمبراطورية إسلامية في المشرق العربي، في ظلال الهلال الشيعي؟ لا يمكن قيام دولة بلا شعب. هل تستطيع إيران مواصلة تجنيد الشيعة العراقية؟ هناك الآن نفور شيعي هائل في الجنوب من التدخل الإيراني المتمادي في شؤون العراق. وليس هناك شيعة في سوريا، بما يكفي، لإخضاع الغالبية السنية.
أما في لبنان فيتعين على إيران إقناع موارنة «حزب الله» (تيار عون) بتشكيل أقلية مسيحية مع الأقلية الآشورية والكلدانية لتعيشا كأهل ذمة داخل إطار إمبراطورية كاريكاتيرية.
علي خامنئي شاه وخميني في آن واحد. ففي محاولته استقطاب شيعة الشرق الأوسط، فهو يكرر محاولة الشاه المخلوع في إنشاء إمبراطورية شاهنشاهية تمتد من بحر الخليج إلى البحر المتوسط. لكن مشروعه يبدو حلماً. فهو بحاجة إلى مال قارون لا تملكه دولة مفلسة يطالبها اليوم شعبها الجائع بالتخلي عن أحلام الهيمنة. وعن إنشاء إمبراطورية كرتونية فوق رمال متحركة.
كنت على ثقة أن دولة الملالي (الثورية) في إيران ستصطدم بممانعات العصر، فما لم تنتقل من الثورة إلى الدولة المدنية فإنها حتما ستنهار، وأشرت إلى ذلك في مقالات سابقة. ورغم أن هذا الانتقال بالنسبة لرجال الدين هناك، كان خطًا أحمر، إلا أنه الآن أصبح ضرورة ملحة، وإن رَغِمَ أنف الولي الفقيه، أو (الديكتاتور) كما يُحب أن يصفه الإيرانيون، فقد سبق له أن وقف بقوة ضد رمزي الإصلاحيين حسين مولوي ومهدي كروبي في ثورة 2009 الخضراء هناك، عندما فاز في الانتخابات بالتزوير أحمدي نجاد، وكان مرشح المتشددين في المؤسسة الحاكمة.
الانتفاضة الحالية، أو هي بلغة أدق (ثورة الجياع)، التي جعلت إيران على فوهة بركان، تختلف عن الثورة التي كانوا يصفونها بالخضراء، فهذه الانتفاضة ليست بين تيارين متصارعين داخل مؤسسة الملالي الحاكمة، كما كانت انتفاضة 2009، وإنما هي ثورة حقيقية، ليس لها توجه أيديولوجي محدد، وليس لها قيادة يمكن اعتقالها أو قمعها، فهي انتفاضة شعبية على مؤسسة الملالي الحاكمة، بدأت أول ما بدأت كثورة جياع في مدينة مشهد، بمطالب شعبية معيشية، لكنها تحولت إلى ثورة سياسية على النظام، واتسعت رقعتها إلى أغلب المدن الإيرانية في كل الولايات، حتى وصلت إلى معقل رجال الدين، مدينة (قم) نفسها.
وبعيدا عن التكهنات بنجاح هذه الثورة أو فشلها، ومهما كانت النتيجة، فإن هذا الحدث التاريخي والمفصلي في مسيرة الثورة من شأنه أن يُحدث تغيّرات جوهرية حقيقية في المجتمع الإيراني، بالشكل الذي لا بد وأن يُرغم الملالي على مراجعة أطروحاتهم السياسية التي استقوها -كما هي عادتهم- من القرون الوسطى، وبالذات تبذيرهم الثروات الإيرانية لتحقيق طموحات طائفية إمبريالية، ونسيان معاناة الإنسان الإيراني وشظف العيش الذي يكتنفه، ومعروف أن حلم تصدير الثورة إلى دول الجوار كان أولوية لا ترتقي إليها أولوية، منذ أن سيطر الخميني على مقاليد الحكم في إيران، قبل قرابة الأربعين سنة. هذا الحلم الذي هو بمعايير عصرنا (مستحيل) هو من أوصل إيران إلى هذا المأزق الاقتصادي، وأشعل ثورة الجياع التي أشعلت الانتفاضة الحالية في أغلب مدن إيران، ووضعت الخامنئي لأول مرة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التخلي عن العمل على تصدير الثورة، أو أن النظام نفسه سينهار انهيارًا كاملاً.
أن يتخلى نظام الملالي عن تصدير الثورة، ويتحول إلى دولة مدنية، لن تكون في تقديري الخطوة القادمة، فهذا يعني إلغاءً فعليًا لثورة الخميني، ولفكرة أن يكون حاكم إيران الأول هو (الولي الفقيه)، وليس لدي أدنى شك أن النخبة الحاكمة في إيران، وكذلك الحرس الثوري، سيرفضون ذلك رفضًا كاملاً. لذلك فإنني أرجح أن الولي الفقيه علي خامنئي، سيلجأ إلى التيار الديني الإصلاحي كما يصفونه، وسيهمش التيار المتشدد، في خطوة تكتيكية لامتصاص غضب الشارع، الذي يهدد بانتفاضته وجود نظام الملالي برمته.
وعلى أية حال، فإن انتفاضة الإيرانيين، مفتوحة على كل الاحتمالات، فسقوط النظام يبقى احتمالا واردا، وبالذات إذا ما أخفقت قوى الأمن في قمع هذه الانتفاضة، كما أن نجاح النظام في احتوائها، والسيطرة عليها، هو أيضا احتمال قائم؛ غير أن الذي أنا شبه متأكد منه، أن عربدات إيران، وتصرفاتها، لن تستمر قطعا كما كانت، فقد اتضح الآن أنها تلقى معارضة شعبية شرسة داخل إيران، الأمر الذي يؤكد لنا، مهما كانت تطورات الانتفاضة، وسواء فشلت أو نجحت، أن إيران 2018 لا يمكن أن تبقى كما كانت.
مرت سبع سنوات على بدء الحراك الثوري، تحمل فيه المدنيون في المناطق المحررة ويلات الموت اليومية وعذابات القتل والتنكيل والاعتقال والملاحقات الأمنية والقصف اليومي الذي لا يكاد يتوقف بحراً وجواً وبراً وتكالب كل قوى العالم ومدعي حقوق الإنسان على قضيته الحرة المطالبة في الحرية والخلاص من الاستبداد.
زاد مرارة الحياة في المحرر قسوة الحياة والحصار الذي مورس على المدنيين والقصف المستمر، تحملوا رغم كل الظروف وفي كل المحن كل الصعوبات والعقبات وساندوا الثوار بكل ما أمكنهم من صبر وثبات وتحمل ودماء وجوع وبرد، لأجل هدف واحد هو الخلاص من الاستبداد والوصول لوطن حر ديمقراطي يسود فيه العدل والحرية والعيش بكرامة.
هذا الخلاص لابد له من فاتورة كبيرة تدفع لأجل التحرير، ولا أغلى من دماء أهلها التي باتت مدنهم وبلداتهم قبراً كبيراً تدفن فيها أشلائهم وأوجاعهم بأسماء وأصناف شتى كمحاربة الإرهاب وغير ذلك من الحجج، التي بات الحجة الرائجة والدامغة وموضة العصر لمواصلة قتل الشعب السوري الثائر وترسيخ السيطرة لوكلاء هذه الدول على الأرض.
حركة نزوح هي الأكبر تشهدها أرياف محافظتي إدلب الشرقية بدأت منذ أشهر، من مناطق عدة هرباً من الموت إلى مصير مجهول، لا تعرف نهايته، جراء ما تتعرض له مناطقهم من حملات عسكرية وقصف جوي مركز وسعي للسيطرة على الأرض يستهدف بنيتها التحتية والبشرية وكل ما يعترض طريق عملياتها، سجلت مئات الغارات الجوية خلال أيام قليلة على أرياف المحافظة تتشارك في رمي قنابل الموت طائرات روسيا والنظام وعلى الأرض تتصارع القوى والوكلاء.
تغريبة ريفي حماة وإدلب اليوم وتشرد مئات الألاف من المدنيين وكل ما يعانون من عذابات وألاف في إيجاد مأوى لصغارهم ولقمة طعام تسد رمقهم وقطعة قماش تغطي أجسادهم في هذا البرد القارس مشردين في البوادي والصحاري والمزارع والأرياف لم تعد تتسع الأرض لهم، تترافق مع الشعور بالخذلان من الفصائل التي طالما تغنت بانها تناصرهم وتدافع عنهم، لم تجد هذه الفصائل حين طلبتها للدفاع عن أرضها، خذلهم الجميع ولم يتفقوا على غرفة عمليات لصد العدوان والخطر القادم من كل اتجاه.
وبين رحلة الموت والهروب إلى المجهول تلاحق صواريخ النظام وروسيا المدنيين فتقصفهم في مناطق نزوحهم، والمخيمات التي اتخذوها مأوى لهم بعد أن فقدوا أرضهم، تقتل من سلم من قنابلها التي طالت مدنهم وبلداتهم، فيتحول الهروب إلى موت جديد، موت تختلط فيه صنوف العذاب بين التشرد والجوع والموت والخذلان.
منذ أشهر عدة وبعد انتهاء مؤتمر أستانة ما قبل الأخير ودخول محافظة إدلب كمنطقة خفض التصعيد وبدء الحديث عن نية القوات التركية الدخول والتمركز في محافظة إدلب، سربت بعض تفاصيل الاتفاق الروسي الإيراني التركي والتي مثلت دور الدول الضامنة للاتفاق في أستانة، تتحدث عن خلاف حول مصير المنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد بريفي إدلب وحماة الشرقيين.
المعلومات المسربة أخذت صدى كبير وتحدثت عن أن المنطقة اتفق على أن تكون منزوعة السلاح تسلم إدارتها للعشائر والمجالس الملحية، على اعتبارها حد فاصل بين مناطق انتشار القوات التركية في إدلب ومناطق انتشار قوات الأسد في منطقة إثريا وصولاً لخناصر، لكن في أروقة الاجتماعات كان هناك اعتراض إيراني على الاتفاق ورغبة وإصرار شديد على السيطرة على المنطقة والوصول لقاعدة أبو الظهور العسكرية لتكون قاعدة لها امتداداً لميليشياتها في ريف حلب الجنوبي.
حذر النشطاء طويلاً من الخطة وطالبوا جميع الفصائل باتخاذ كامل التدابير لقطع الطريق على تنفيذها لاسيما بعد أن ركزت الطائرات الروسية في قصف منطقة ريف حماة الشرقي ومن ثم إدخال عناصر تنظيم الدولة للمنطقة وبدء المعارك هناك، ترافقت مع حركة نزوح كبيرة للمدنيين وكان القصف بشكل دوري على كل القرى وكأنه دفع للنزوح والتهجير قسراً، حينها حذرت تقارير عدة من بوادر تهجير قسري لمنطقة ريف حماة الشرقي.
كما حذر النشطاء مراراً من أن معارك ريف حماة الشرقي وإشغال جبهات خناصر وأبو دالي وجبهات تنظيم الدولة هي معارك جس نبض وإلهاء لحين بدء المعركة الحقيقية للميليشيات الإيرانية والتي توقعنا أن تبدأ من عدة محاور بريفي حماة وإدلب الشرقيين وريف حلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وتكون متوازية مع وصول التعزيزات العسكرية للميليشيات وقوات الأسد من دير الزور بعد الانتهاء هناك، كما حذرنا مراراً من وصول تعزيزات للمنطقة والتحضيرات لعملية عسكرية كبيرة.
كل التحذيرات لم تحرك الفصائل بشكل جاد وحقيقي لمواجهة القادم للمنطقة، تزامناً مع حركة نزوح كبيرة تدمي القلوب لأكثر من 200 ألف مدني تركوا ديارهم ومناطقهم بعد ما شاهدوه من قصف وقتل يومي وبعد أن لمسوا أن الفصائل غير جادة في إرسال التعزيزات وتحصين المنطقة والتجهيز لأي عملية عسكرية، رغم كل المعارك التي اندلعت في المنطقة والتي قدمت فيها فصائل عدة أبرزها تحرير الشام وفصائل الجيش الحر مقاومة كبيرة.
مؤخراً ومع نهاية كانون الأول ومع بدء وصول التعزيزات العسكرية قادمة من دير الزور إلى مطار حماة العسكري ونقل مركز العلميات لمدرسة المجنزرات حذرنا بتقارير عديدة وعبر مواقع التواصل من اقتراب العملية العسكرية ونيتها السيطرة على شرقي سكة الحديد ومنطقة أبو دالي وطالبنا مراراً جميع الفصائل في التحرك بشكل جاد وحقيقي وبدأت المعركة فعلاً وتقدمت قوات الأسد في عدة قرى وصولاً لأبو دالي ومن ثم تل سكيك والتي شهدت مقاومة من عدة فصائل أوقعت خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة.
بعد تل سكيك والخوين غيرت قوات الأسد وجهتها بعد أن تمكنت من بناء خط دفاعي عن أبو دالي وبدأت بالتوجه باتجاه الشمال الشرقي متبعة منطقة مرور سكة الحديد غابت معها أي مقاومة كما غابت المؤازرات وغاب السلاح الثقيل على الجبهات وبقي هناك قلة قليلة من أبناء المنطقة والصادقين من عدة فصائل، يستصرخون للتحرك الجاد وإمدادهم بالسلاح الثقيل ودعم صمودهم ولا حياة لمن تنادي.
تتقدم قوات الأسد تباعاً خلال اليومين الماضيين نحو أم الخلاخيل والنيحة وأم صهريج ورسم العبد باتجاه سنجار التي باتت تفصلها عنها بضع كيلو مترات قليلة دون أي مقاومة تذكر وقوات الأسد تتحرك سريعاً في المنطقة، تمكنها السيطرة على طول سكة الحديد حصار المنطقة الشرقية للسكة وبالتالي سقوطها دون أي معارك، وربما تشهد الأيام القادمة وصول الميليشيات لسنجار وتتوسع شمالاً باتجاه أبو الظهور قد تساندها قوات من جهة ريف حلب الجنوبي في حال لم تبادل الفصائل لوقفة جادة وحقيقية في مواجهة هذا التقدم.
جميع المعطيات والمؤشرات تشير لخطة مجهزة مسبقاً ومعدة تقتضي تسليم كامل المنطقة شرقي سكة الحديد لقوات الأسد والتي لم تتوانى في السيطرة على المزيد من المناطق في حال لم تجد من يوقف زحفها بالتأكيد، مع الإشارة إلى أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد فمن يتقدم اليوم هي قوات جيش الأسد وميليشيات محلية لم تدخل الميليشيات الإيرانية وحزب الله على خط المواجهة بشكل حقيقي بعد.
لايمكننا اليوم أن نغفل عما يحصل ونراقب بصمت حركة النزوح المستمرة والمعاناة اليومية لألاف النازحين والمشردين في البوادي في هذا الجو البارد، والمجازر اليومية التي ترتكب بحق المدنيين في معرة النعمان وتل الطوكان ومناطق عدة، وسط صمت مطبق للفصائل جميعاً والحديث عن غرف علميات لم تبصر النور بعد.
بالتأكيد ليس هدفنا إعلان انتصار النظام واستباق الأحداث، ترسم الأيام القليلة القادمة صورة الخارطة العسكرية في المنطقة وربما نشهد معارك في سنجار وريف أبو الظهور ولكن هل تستعيد الفصائل زمام المبادرة وتقلب الطاولة من جديد رغم عدم وجود معطيات لذلك هذا ما تبينه الأيام القادمة ....
تملك الفصائل في إدلب لاسيما هيئة تحرير الشام التي كانت هي من تسيطر على منطقة البادية قوة عسكرية كبيرة لايستهان بها بشرياً وعسكريا من السلاح والذخيرة يمكنها في حال وضعت هذه القوة بشكل حقيقي أن تحرر المناطق التي تتقدم إليها قوات الأسد وأن تصل لمدينة حماة خلال أيام لو كانت جادة، كما أن الفصائل الأخرى يمكنها فتح جبهات في الساحل وريف حلب وسهل الغاب وضرب النظام في مناطق حساسة ولكن لا حياة لمن تنادي، فكل حركة النزوح والمجازر والدماء لم تحرك الفصائل وباتت جميعها تلتزم في اتفاقيات الدول الكبرى لنصل لما وصلنا إليه من عجز فمن يتحمل المسؤولية اليوم أمام معاناة أكثر من 250 ألف إنسان فقدوا منازلهم وديارهم وأرضهم وباتوا مشردين، ومن يتحمل مسؤولية الدماء التي أريقت ثم من يتحمل مسؤولية الدفاع عن المدنيين في المحرر إن تخلت فصائل الثورة العسكرية عن ذلك ...؟؟