التطورات التي تشهدها إيران اليوم، هي أكثر من مجرد احتجاجات على أوضاع مالية واقتصادية متردية في هذا البلد الغني بالثروات الطبيعية والنفطية. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ليست أمرا جديدا في إيران، فلقد عانى الشعب الإيراني في العقود الأربعة الماضية أزمات شبيهة، إما بسبب الحرب التي استنزفت إيران مع العراق بين العامين 1980 و1988، وإما بسبب العقوبات التي نتجت عن الحصار الأميركي والغربي خلال السنوات الماضية، وكان ذلك يجري في ظل صراع بين تياريْن واحد إصلاحي وآخر محافظ، والأخير هو المسيطر على السلطة والمتحكم بمفاصل الثروة والاقتصاد، إما عبر الحرس الثوري وإما من خلال المرشد علي خامنئي، الذي يشكل عمليا صاحب السلطة المطلقة الذي لا يمكن أن يرد له قرار فيما هو قادر على إلغاء أي قرار لا يرى فيه مصلحة لإيران.
الإصلاحيون تلقوا ضربة قوية بعد قمع الثورة الخضراء عام 2009 ووضع قادة هذا التيار وهذه الثورة في الإقامة الجبرية أو في السجون. وبعد رحيل هاشمي رفسنجاني المشوب بتساؤلات حول وفاته الغامضة، تلقى التيار الإصلاحي، والنظام ذاته، ضربة قوية انطلاقا من أنّ رفسنجاني كان حكيم الدولة والنظام وعنصر التوازن الذي يحتاجه النظام كما يستند إليه الإصلاحيون.
مظاهرات اليوم التي انطلقت من مدينة مشهد وعمّت معظم المدن الإيرانية، هي تحركات تفتقد لقيادة كما كان الحال في الثورة الخضراء، إذ خرج المحتجون هذه المرة بشعارات طالت كل أركان النظام، حتى الرئيس حسن روحاني الذي كان يُنظر إليه بأنه يحظى بتأييد التيار الإصلاحي الذي جيّر أصوات مناصريه له في الانتخابات الرئاسية في ولايته الأولى والحالية، كما أنّ الاحتجاجات طالت المرشد الذي أُحرقت صوره ورفعت شعارات غير مسبوقة بهذه العلنية التي دعت إلى إسقاطه.
ما يمكن الإشارة إليه في سياق البحث عن التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الإيراني، هو أنّ الثورة الإيرانية الإسلامية أو النظام الإسلامي الذي يحكم إيران منذ أربعة عقود، فقد ثقة فئات واسعة من الشعب الإيراني، فالتظاهرات والاحتجاجات هذه المرة انطلقت من كل الجغرافيا الإيرانية وديموغرافيتها، أي أن لا بعد إثنيا أو قوميا لها، ولا بعد مذهبيا أو إيديولوجيا، وكما أشرنا إلى أن الأزمة الاقتصادية وحتى البطالة وتراجع فرص العمل وانخفاض سعر العملة الإيرانية ليس هو الجديد رغم أنه شكل السبب المباشر في خروج المحتجين إلى الشارع، لكن الجانب المتصل بفقدان الثقة بالسلطة الحاكمة وبالنظام بدا بارزا، فهذه الاحتجاجات لا تذكر السلطة الحاكمة بشعارات قادة الثورة الأوائل كقائدها الخميني، ولا تستعيد أيا من شعاراتها في مواجهة السلطة الحاكمة، بما يوحي أن المنتفضين يعلنون القطيعة مع الثورة وقادتها وشعاراتها، وهذا أخطر ما يواجه النظام الإيراني، فالشعب لم يعد يطالب باستبدال زعيم بآخر أو مسؤول بآخر، بل يحمّل النظام مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد.
بعد أربعة عقود نجحت القيادة الإيرانية في إنجاز الاتفاق النووي، وحققت اختراقات استراتيجية في المنطقة العربية وعلى حسابها من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، لكن هذه الإنجازات للحكومة الإيرانية، لم تنعكس إيجابا في الداخل الإيراني، بل كشف واقع الشعب الإيراني اليوم، أن التمدد الخارجي تضمن محاولة تغطية على الفشل الداخلي، مثل فشل التنمية وتمدد الفساد في الدولة وانتشار ظاهرة الولاء والاستزلام على حساب الكفاءة، وهروب الكفاءات الإيرانية نحو الخارج، وعدم قدرة النظام على إقناع الشعب الإيراني بضرورة استمرار القطيعة مع الغرب، ولا سيما بعدما فشل النظام الإيراني في إيجاد موارد اقتصادية ومالية من خارج الثروة النفطية، فيما القمع الأيديولوجي والدكتاتورية، باتا العنصر الوحيد المميز للسلطة التي سقطت كل شعاراتها تجاه تقديم النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي البديل عن العولمة أو النظم الاشتراكية التي سادت خلال عقود سابقة.
من هنا لم يكن مفاجئا إطلاق شعارات تدعو الحكومة الإيرانية إلى العودة إلى الداخل، وعدم الغرق أو استنزاف طاقات الدولة في وحول سوريا والعراق ولبنان وغزة، ذلك أن ثمة اعتقادا في داخل إيران بأن الثروات الإيرانية استنزفت في حروب خارجية، وهذا إن كان يتضمن شيئا من الصحة، إلا أن عملية نهب العراق التي تمت في مرحلة حكم نوري المالكي، تمت بإشراف إيراني، إذ يؤكد أكثر من مصدر عراقي رسمي، أن عملية دعم نظام الأسد وحزب الله في لبنان في السنوات الماضية تمت من خلال العراق، الذي أفرغت خزينته بالنهب المنظم، وبالفساد في السلطة الحاكمة الذي شكل غطاء لعملية نقل عشرات المليارات من الخزينة العراقية ومن آبار نفط البصرة إلى المجهود الحربي الإيراني سواء في سوريا أو لبنان أو غزة واليمن.
التجربة الإيرانية بنموذجها الإسلامي الحاكم، هي التي تهوي اليوم في الشارع الإيراني، بسبب عجز النظام عن تقديم إجابات على أسئلة الداخل. الشعب الإيراني تحمل الكثير اقتصاديا وماليا في سبيل إنجاز الاتفاق النووي، والشعب الإيراني بخلاف الشعوب العربية ليس متحسساً من العلاقة مع الغرب، بل يتطلع إلى بناء علاقة وثيقة مع الغرب ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لذا كان إنجاز الاتفاق النووي الإيراني مصدر فرح للإيرانيين باعتباره عنوان الانفتاح على الغرب وتحديدا أميركا، وليس باعتباره عنصر تحد ومواجهة معها، لكن النظام الإيراني خيب آمال الشعب على هذا الصعيد، فتفاقمت الأزمات الداخلية مع المزيد من التشدد الأيديولوجي الذي ترافق مع هدر للثروات الوطنية، وذلك يجري من دون وعود بتغيير لصالح الشعب، وفي ظل غياب أي أفق للتغيير من داخل السلطة وضمن سيطرة آليات النظام التي تستخدم الديمقراطية ونتائجها كرسالة للخارج، فيما لا تعني في الداخل إلا انتخاب الشيء نفسه بوجوه جديدة لكن المضمون واحد مفاده أن لا تغيير إلا ما يشاؤه المرشد وذراعه الحرس الثوري.
مشكلة النظام الإيراني اليوم تكمن في مصدر قوته الوحيدة إزاء المشكلات التي تواجهه في الداخل، الدكتاتورية والقبضة الأمنية وبراعته في القمع، هذه هي مصادر قوة النظام الإسلامي وهي مقتله في آن. فهذا النظام اعتمد على الأيديولوجيا المتمثلة بولاية الفقيه، التي فقدت بريقها لدى الشعب وهي عاجزة عن تقديم أي حلول جدية لأزمات الدولة والشعب، والشعب الإيراني الذي أعطى النظام فرصا عديدة من أجل إنجاز مشروعه الإنمائي في الداخل، وصل إلى قناعة على ما تظهر الوقائع الميدانية أنّه أمام دولة فاشلة اقتصاديا وإنمائيا، ينهش شعبها الفقر والبطالة فيما تتوفر على الثروات الدفينة والظاهرة ما لا يعد ولا يحصى، وهذا ربما ما يفسر نزعة أيديولوجية السلطة الحاكمة التي ترفض توسعة دائرة المشاركة الفعلية في السلطة التي تشكل عنصرا أساسيا لإحداث التنمية وبالتالي الانفتاح الاقتصادي على الشركات الكبرى ورأس المال الوطني والخارجي، لذلك هي تدرك أن الدخول في هذا المضمار سيعني بالضرورة تغييرا سياسيا لا تريده.
إزاء فشل أيديولوجيا السلطة أو ولاية الفقيه في تقديم نموذج تنموي يلبّي حاجات الشعب ويحد من الفساد والبطالة، وإزاء رفضها اعتماد البديل بالانفتاح على الدول الخارجية بما يخرجها من عزلة نسبية تعيشها، يبدو أننا أمام انتفاضة شعبية ليس لدى النظام أي إجابة موضوعية تبدأ من التسليم بضرورة الإصلاح الجذري للنظام، قوة النظام شبه الوحيدة هي القمع وهذا يمكن أن يكبت صرخات الشعب لكن بكلفة عالية ستجعل من تغيير النظام الإسلامي جذريا قرارا شعبيا لا عودة عنه وإن بعد حين.
بداية لا يفترض أن يؤخذ هذا التحليل يقيناً بأن نظام آية الله الإيراني يتهاوى وأنه ساقط لا محالة. الحقيقة أن النظام في طهران قوي في هياكله وأجهزته، ويمثل شريحة متمكنة ليس سهلاً إزاحتها من خلال المظاهرات. لكن أهمية الحراك الشعبي، الذي باغتنا من جديد، كما فاجأنا في عام 2009، أنه عامل مساعد على التغيير الجزئي أو الكلي لاحقاً.
وقبل الحديث عن انعكاساته على منطقتنا نتساءل عن تأثيراته على إيران والنظام فيها والتي تباعاً تؤثر نتائجها علينا. هناك عدة احتمالات أولها أن ينجح الأمن في قمع المظاهرات، كما فعل قبل 8 سنوات ولم يتوان عن قتل المتظاهرين العزل أمام كاميرات الهواتف. والثاني أن يعمد إلى بعض التضحيات لاستيعاب أزمة مع القمع في الشوارع المنتفضة ضده، كأن تتم إقالة الرئيس روحاني وحكومته. والاحتمال الثالث أن تكبر المظاهرات حجماً وعنفاً وتستفيد من الأزمة القوى الداخلية المتصارعة من داخل النظام نفسه، سواء الحرس الثوري أو خصمه الجيش، للهيمنة على الحكم. والاحتمال الرابع، والمستبعد حدوثه، أن ينهار النظام ويصبح الوضع مثل سوريا وليبيا.
في كل الحالات ما حدث ويحدث من اضطرابات معادية لحكم طهران موجعة وتهز ثقة غالبية الإيرانيين والعالم كذلك فيه. وهو مضطر لأن يراجع نفسه حتى لو قضى عليها بنجاح خلال الأيام القليلة القادمة. وكلمة الرئيس روحاني كانت تصب في هذا الاتجاه، أن على الحكومة أن تستمع إلى مواطنيها. أما في الحالتين الثالثة والرابعة، استيلاء فريق على الحكم أو انهياره، فإن ذلك ستكون أبعاده خطيرة وتتجاوز إيران إلى كل المنطقة.
بالنسبة لنا، أعني دول المنطقة، خاصة العربية منها، الوضع المثالي ألا ينهار النظام تماماً بل أن يغير من سياساته الخارجية ويتوقف عن مشروعه العدواني. وقد يبدو غريباً هذا التصور، المبرر له أن المنطقة الآن تعاني من حالة تدمير لا تحتمل فوضى جديدة، وحروب أهلية إضافية، ولاجئين بالملايين. إنما لو أن انتفاضة الشعب الإيراني حققت تغيير السياسة الإيرانية وأوقفت عملياتها الخارجية، وأجبرت النظام على التحول إلى الإصلاح الداخلي والتنمية هذا هو الخيار المثالي مقارنة بالمشهد المخيف فيما لو انهار النظام. العيب في هذه الفرضية أن طبيعة النظام في طهران ليست مدنية قادرة على تغيير نفسها، بل دينية أمنية، أي دينية فاشية. ومن الصعب عليه أن يصحح من فكره وخطه ورؤيته للعالم من حوله. وهذه مسألة أمام قياداته العليا، التي لا بد أنها في حالة انعقاد دائم بسبب التطورات الخطيرة التي تهدد وجوده. إن استطاع استيعاب الأزمة والاستفادة من دروسها فإنه قد ينجو، لكن إن عاند وقرر مواجهة المتظاهرين بالرصاص وربما بأكباش فداء يضحي بهم لإسكات الغاضبين، فإن ذلك لن يمنع الانفجارات الشعبية لاحقاً. قادة الحرس الثوري، ومعها القيادة الدينية العليا، يتملكها غرور واضح بأنها قادرة على نفخ الجمهورية لتكون إمبراطورية إقليمية، تحتل جغرافياً دولاً من المنطقة، وأنها قادرة على مزاحمة القوى الدولية وتهديد مصالحها في الشرق الأوسط، وتسعى لمحاصرة السعودية وتهديد إسرائيل، وخوض عدة حروب في وقت واحد. هذا تفكير المكابرين الذين يتناسون حدود القوة الإيرانية، في بلد يعاني أهله، ويعتبر اقتصاده من أفقر الاقتصادات الإقليمية.
تكاليف الثورة في إيران باهظة على الإيرانيين وعلى المنطقة لكن نجاحها أنوار للشعب الإيراني والمنطقة وربما العالم. في حال سقط حكم الملالي بكامل (حمولته الثقافية) ستتحول إيران في السنوات العشر الأولى إلى دولة في مستوى أسبانيا وقد تتجاوزها في عشر سنوات أخرى. المعركة في إيران لن تكون بالسهولة التي نأمل بها. لن تكون ثورة على أربعين سنة من حكم حزب أو دكتاتور. ثورة على جذور ثقافية تمتد في المجتمع الإيراني مئات السنين. ثقافة قامت على تقديس رجل الدين. من يتفرج على المزار في مدينة مشهد الإيرانية على سبيل المثال سيعرف ما أعنيه. عندما تثور على الملالي في إيران فأنت لا تقتلع حكومة وإنما تقتلع ثقافة متجذرة في الأعماق يعتاش عليها ملايين من البشر.
ثورة 79 على الشاه فازت بتحالف رجال الدين مع الشعب ضد الطغيان. هذه الثورة ستكون تحالف الشعب مع الدين ضد رجال الدين. ثورة كهذه لن تؤسس لنظام ديموقراطي وحريات وحقوق دستورية فحسب. الثورة ضد رجال الدين هي ثورة ضد النفاق والاساطير والخرافة والقتل المقدس وخلط الواقع بالأوهام.. باختصار هي ثورة ضد الظلام.
لكي يحتفظ الملالي بالسلطة اخترعوا ما سموه ولاية الفقيه.. (المعادل الموضوع لأسطورة الخلافة عند دعاة السنة).
عززت ثورة الخميني شهية الحكم الديني عند رجال الدين في الدول الإسلامية الأخرى وأعادت المنظمات الدينية السياسية إلى العمل كما فرضت على حكومات إسلامية إدخال قواعد ثيوقراطية على نظام حكمها تيمناً بالثورة الإيرانية وخوفاً أن تجتاح هذه الثورة شعوبها ببريقها الزائف.
سقوط الملالي سيكون مدوياً. نهاية التأرجح الذي تعيشه الشعوب الإسلامية بين الثيوقراطية وبين العقل. منطقة عدم اليقين التي استغلها العثمانيون وأمضوا خمس مئة سنة ينهبون الشعوب المغلوبة على أمرها. حرموا ما أرادوا تحريمه وحللوا ما أرادوا تحليله وما تبقى أكملوه بسيوفهم وخوازيقهم. انهيار رجل الدين الإيراني هو القطيعة بين الدين والاسطورة وليس الفصل بين الدين والسياسة كما يردد رجال الدين عند تسويق بضاعتهم وتشويه قيم الحرية. عندما تنهار الثيوقراطية فلن يرسل أحد أحداً إلى الجنة أو النار وسيختفي الدليل السياحي الذي يحدد نسبتك من حور العين. ولن يحج مراهق إلى مناطق الصراع ليقتل رجلاً لا يعرفه. سيبحث المسلم عن آخرته من خلال عمله فقط.
الحرب الأهلية في إيران في حال اندلاعها دون رجعة سوف تكتب تاريخاً جديداً للمنطقة والعالم، أما من يحصر فرحته في سقوط الملالي بوصفه سقوط مذهب آخر لا يدرك أن السفينة التي سيغرق فيها الملالي هي نفس سفينته.
تشهد كبرى المدن مظاهرات شعبية ضد الغلاء والفساد. وتزدحم بالكثافة السكانية المتزايدة (مليون طفل رضيع كل سنة)، لأن «تخطيط الأسرة» في الدولة ممنوع بموجب العقيدة الدينية. ويموت المؤمنون في الصيف بالسرطانات وأمراض البيئة، نتيجة لِلُهاث الانبعاث الحراري في الصيف. والغبار والغيوم السامة الحاجبة للشمس في الشتاء.
وأدى ارتفاع درجة الحرارة. واستهلاك المياه المتزايد إلى جفاف البحيرات. والروافد. والأنهار. وغياب منظر الخضرة، مع ارتفاع السدود في الدول المجاورة. ولأن الناس لا يستطيعون شرب النفط الغزير بدلاً من المياه المتناقصة، فالدولة تستغله في تأمين الطاقة، لتشغيل المصانع النووية «للأغراض السلمية» كما يدعي النظام الحاكم. و«لإنتاج القنابل النووية» كما تعتقد غالبية السكان ذات الثقافة المحدودة الممزوجة بالدعاية المفروضة: «مقاومة. ممانعة. الموت لأميركا».
لا أتحدث عن إندونيسيا أكبر دولة إسلامية سنية. أو شقيقتها ماليزيا التي ارتفع معدل دخلها الوطني، بخلو مخطط التنمية من الطموح إلى دخول نادي السلاح النووي. وإنما أتحدث عن إيران الدولة الدينية التي تختلف مشاريع التنمية فيها، وفق التباين العنصري والمذهبي. فمدينة «مشهد» هي الأشد حرماناً. لأن شيعتها من أصول تركمانية. ومثلها المنطقة الكردية المجاورة لكردستان العراق. والمنطقة العربية الممتدة على طول الضفة الشرقية للخليج. وكلها تحصل على مخصصات أقل مما تحصل عليه منطقة خراسان الفارسية.
الإفقار الاجتماعي مقبول لدى «آيات» الدولة، لأنه يعرقل وعي الشباب في المناطق الريفية التي ما زالت الخزان البشري، لتغذية قوة الـ«باسيج» الحرس الاحتياطي الذي يستدعى لقمع قوى الشارع في المدن، عندما يتحول التذمر من الغلاء والفساد إلى تمرد سياسي على النظام، كما هو حادث اليوم في مدينتي مشهد وكرمنشاه...
أما «الحرس الثوري» فقد بات يتغذى بموارد مشاريع اقتصادية يديرها، إضافة للموارد التي يخصصها النظام له، لتمويل مشروع الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي. والخليج. واليمن، بالقوة المسلحة. أو الدبلوماسية. أو الاغتيال السياسي، كما حدث للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
غير أن سوريا تتمتع بعناية إيرانية فائقة، منذ أن حصل «فيلق القدس» على «ترخيص» من رئيس النظام بشار للتدخل المسلح في سوريا. فبات هو ونظامه الطائفي خطاً أحمر لدى خامنئي. والرئيس حسن فريدون روحاني. ووزير الخارجية جواد ظريف الذي يتستر في أروقة الأمم المتحدة على مشروع الهيمنة بابتسامة دبلوماسية ماكرة.
طرأ تغيير استراتيجي على مشروع التدخل الإيراني في سوريا. فتحول في العام المنصرم إلى مشروع إقامة دائمة، واحتلال عبر إنشاء قواعد عسكرية للحرس الثوري، في مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية السورية في المدن، لإخفاء ظاهرة الاستيطان. ولردع الوجود الأميركي العسكري في حوض الفرات، والمناطق الكردية في الشمال والشمال الشرقي. ولإحباط أي محاولة تدخل تركية. وتقوم حالياً قوات إيرانية بجس النبض، لاجتياح محافظة إدلب المجاورة لتركيا، وذلك كقوات نظامية سورية.
ويقضي المشروع الإيراني بعرقلة عودة اللاجئين والنازحين إلى سوريا من لبنان (مليون سوري). والأردن (1.5 مليون). وتركيا (3 ملايين). ومليون من ألمانيا. ومليون آخر هاجروا إلى أوروبا. وأميركا الجنوبية. وكندا. والولايات المتحدة. والعمل على إقناع الأمم المتحدة والدول الغربية بتوطين النازحين السوريين حيث هم، خصوصاً في لبنان. والأردن. وتركيا.
وتشكل سوريا منطقة إغراء جغرافية بديلة للتخمة السكانية في إيران. فهناك مناطق زراعية مروية بالأنهار (الفرات. العاصي. بردى). وأخرى بمياه الأمطار (الساحل. إدلب. القلمون. الجولان. وربما سهل حوران في الجنوب بين دمشق والأردن). وتم احتلال معظم هذه المناطق وإجلاء المدنيين إلى محافظة إدلب (التي بدأت ملامح حملة نظامية لاستعادتها من التنظيمات السنية المتزمتة). وهناك إغراء كبير لإيران لإقامة مستوطنات سكانية شيعية في سهل الغاب، قبالة مدينتي حماة وحمص (السنيتين).
كذلك، تم إنشاء معابر على الحدود السورية - العراقية، لتسهيل عبور الميليشيات الشيعية إلى سوريا. والقادمة من إيران. وأفغانستان. والعراق. أما الحدود مع لبنان، فتكاد تتلاشى باحتلال قوات «حزب الله» لمعظم منطقة القلمون الممتدة من وسط سوريا إلى الجولان. وإجلاء معظم سكانها التقليديين من السنة إلى إدلب. وتسهيل إجراءات مغادرة سوريا إلى المهاجر الأميركية.
ويُعنى المشروع الإيراني في سوريا، وفق مصادر «فيلق القدس»، بتسهيل حركة الانتقال بين إيران والمشرق العربي، بإنشاء خطوط للسكك الحديدية. ومطارات متوسطة للنقل الداخلي. وإلغاء فيزا العبور، تحت شعار إنشاء دولة إسلامية كبرى تضم إيران. والعراق. وسوريا. وإغراء الأردن ولبنان بالانضمام إليها. والهدف قطع الطريق على دول الخليج (السنية) للتدخل في سوريا، بعد إحباط تمويلها للتنظيمات الدينية التي خسرت فرصة إسقاط النظام، بتقاعسها عن القتال كقوة موحدة.
لا شك أن بشار في رفضه مغادرة السلطة أوقع سوريا في حرب أهلية. فقضى على القوى الديمقراطية. وأحل محلها القوى «الداعشية والقاعدية». الفراغ السياسي استدعى تدخل القوى الإقليمية والدولية. فنشأ صراع دولي على استقطاب التنظيمات السياسية والمسلحة، كمرتزقة مستأجرة للاقتتال في الداخل السوري.
وهكذا، بات بشار فصيلاً من هذه القوى المستأجرة، ليقاتل بما تبقى من جيشه لصالح روسيا حيناً. وإيران حيناً آخر، ريثما يحين أوان ترحيله عندما تتوصل أميركا وروسيا إلى حل لإنهاء المأساة. فلا مكان لبشار في التسوية السياسية الدائمة، لتورطه مع إيران وروسيا في إبادة شعبه.
هل أمام المشروع الإيراني فرصة حقيقية للنجاح، في تحويل مشروع الهيمنة إلى إمبراطورية إسلامية في المشرق العربي، في ظلال الهلال الشيعي؟ لا يمكن قيام دولة بلا شعب. هل تستطيع إيران مواصلة تجنيد الشيعة العراقية؟ هناك الآن نفور شيعي هائل في الجنوب من التدخل الإيراني المتمادي في شؤون العراق. وليس هناك شيعة في سوريا، بما يكفي، لإخضاع الغالبية السنية.
أما في لبنان فيتعين على إيران إقناع موارنة «حزب الله» (تيار عون) بتشكيل أقلية مسيحية مع الأقلية الآشورية والكلدانية لتعيشا كأهل ذمة داخل إطار إمبراطورية كاريكاتيرية.
علي خامنئي شاه وخميني في آن واحد. ففي محاولته استقطاب شيعة الشرق الأوسط، فهو يكرر محاولة الشاه المخلوع في إنشاء إمبراطورية شاهنشاهية تمتد من بحر الخليج إلى البحر المتوسط. لكن مشروعه يبدو حلماً. فهو بحاجة إلى مال قارون لا تملكه دولة مفلسة يطالبها اليوم شعبها الجائع بالتخلي عن أحلام الهيمنة. وعن إنشاء إمبراطورية كرتونية فوق رمال متحركة.
كنت على ثقة أن دولة الملالي (الثورية) في إيران ستصطدم بممانعات العصر، فما لم تنتقل من الثورة إلى الدولة المدنية فإنها حتما ستنهار، وأشرت إلى ذلك في مقالات سابقة. ورغم أن هذا الانتقال بالنسبة لرجال الدين هناك، كان خطًا أحمر، إلا أنه الآن أصبح ضرورة ملحة، وإن رَغِمَ أنف الولي الفقيه، أو (الديكتاتور) كما يُحب أن يصفه الإيرانيون، فقد سبق له أن وقف بقوة ضد رمزي الإصلاحيين حسين مولوي ومهدي كروبي في ثورة 2009 الخضراء هناك، عندما فاز في الانتخابات بالتزوير أحمدي نجاد، وكان مرشح المتشددين في المؤسسة الحاكمة.
الانتفاضة الحالية، أو هي بلغة أدق (ثورة الجياع)، التي جعلت إيران على فوهة بركان، تختلف عن الثورة التي كانوا يصفونها بالخضراء، فهذه الانتفاضة ليست بين تيارين متصارعين داخل مؤسسة الملالي الحاكمة، كما كانت انتفاضة 2009، وإنما هي ثورة حقيقية، ليس لها توجه أيديولوجي محدد، وليس لها قيادة يمكن اعتقالها أو قمعها، فهي انتفاضة شعبية على مؤسسة الملالي الحاكمة، بدأت أول ما بدأت كثورة جياع في مدينة مشهد، بمطالب شعبية معيشية، لكنها تحولت إلى ثورة سياسية على النظام، واتسعت رقعتها إلى أغلب المدن الإيرانية في كل الولايات، حتى وصلت إلى معقل رجال الدين، مدينة (قم) نفسها.
وبعيدا عن التكهنات بنجاح هذه الثورة أو فشلها، ومهما كانت النتيجة، فإن هذا الحدث التاريخي والمفصلي في مسيرة الثورة من شأنه أن يُحدث تغيّرات جوهرية حقيقية في المجتمع الإيراني، بالشكل الذي لا بد وأن يُرغم الملالي على مراجعة أطروحاتهم السياسية التي استقوها -كما هي عادتهم- من القرون الوسطى، وبالذات تبذيرهم الثروات الإيرانية لتحقيق طموحات طائفية إمبريالية، ونسيان معاناة الإنسان الإيراني وشظف العيش الذي يكتنفه، ومعروف أن حلم تصدير الثورة إلى دول الجوار كان أولوية لا ترتقي إليها أولوية، منذ أن سيطر الخميني على مقاليد الحكم في إيران، قبل قرابة الأربعين سنة. هذا الحلم الذي هو بمعايير عصرنا (مستحيل) هو من أوصل إيران إلى هذا المأزق الاقتصادي، وأشعل ثورة الجياع التي أشعلت الانتفاضة الحالية في أغلب مدن إيران، ووضعت الخامنئي لأول مرة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التخلي عن العمل على تصدير الثورة، أو أن النظام نفسه سينهار انهيارًا كاملاً.
أن يتخلى نظام الملالي عن تصدير الثورة، ويتحول إلى دولة مدنية، لن تكون في تقديري الخطوة القادمة، فهذا يعني إلغاءً فعليًا لثورة الخميني، ولفكرة أن يكون حاكم إيران الأول هو (الولي الفقيه)، وليس لدي أدنى شك أن النخبة الحاكمة في إيران، وكذلك الحرس الثوري، سيرفضون ذلك رفضًا كاملاً. لذلك فإنني أرجح أن الولي الفقيه علي خامنئي، سيلجأ إلى التيار الديني الإصلاحي كما يصفونه، وسيهمش التيار المتشدد، في خطوة تكتيكية لامتصاص غضب الشارع، الذي يهدد بانتفاضته وجود نظام الملالي برمته.
وعلى أية حال، فإن انتفاضة الإيرانيين، مفتوحة على كل الاحتمالات، فسقوط النظام يبقى احتمالا واردا، وبالذات إذا ما أخفقت قوى الأمن في قمع هذه الانتفاضة، كما أن نجاح النظام في احتوائها، والسيطرة عليها، هو أيضا احتمال قائم؛ غير أن الذي أنا شبه متأكد منه، أن عربدات إيران، وتصرفاتها، لن تستمر قطعا كما كانت، فقد اتضح الآن أنها تلقى معارضة شعبية شرسة داخل إيران، الأمر الذي يؤكد لنا، مهما كانت تطورات الانتفاضة، وسواء فشلت أو نجحت، أن إيران 2018 لا يمكن أن تبقى كما كانت.
مرت سبع سنوات على بدء الحراك الثوري، تحمل فيه المدنيون في المناطق المحررة ويلات الموت اليومية وعذابات القتل والتنكيل والاعتقال والملاحقات الأمنية والقصف اليومي الذي لا يكاد يتوقف بحراً وجواً وبراً وتكالب كل قوى العالم ومدعي حقوق الإنسان على قضيته الحرة المطالبة في الحرية والخلاص من الاستبداد.
زاد مرارة الحياة في المحرر قسوة الحياة والحصار الذي مورس على المدنيين والقصف المستمر، تحملوا رغم كل الظروف وفي كل المحن كل الصعوبات والعقبات وساندوا الثوار بكل ما أمكنهم من صبر وثبات وتحمل ودماء وجوع وبرد، لأجل هدف واحد هو الخلاص من الاستبداد والوصول لوطن حر ديمقراطي يسود فيه العدل والحرية والعيش بكرامة.
هذا الخلاص لابد له من فاتورة كبيرة تدفع لأجل التحرير، ولا أغلى من دماء أهلها التي باتت مدنهم وبلداتهم قبراً كبيراً تدفن فيها أشلائهم وأوجاعهم بأسماء وأصناف شتى كمحاربة الإرهاب وغير ذلك من الحجج، التي بات الحجة الرائجة والدامغة وموضة العصر لمواصلة قتل الشعب السوري الثائر وترسيخ السيطرة لوكلاء هذه الدول على الأرض.
حركة نزوح هي الأكبر تشهدها أرياف محافظتي إدلب الشرقية بدأت منذ أشهر، من مناطق عدة هرباً من الموت إلى مصير مجهول، لا تعرف نهايته، جراء ما تتعرض له مناطقهم من حملات عسكرية وقصف جوي مركز وسعي للسيطرة على الأرض يستهدف بنيتها التحتية والبشرية وكل ما يعترض طريق عملياتها، سجلت مئات الغارات الجوية خلال أيام قليلة على أرياف المحافظة تتشارك في رمي قنابل الموت طائرات روسيا والنظام وعلى الأرض تتصارع القوى والوكلاء.
تغريبة ريفي حماة وإدلب اليوم وتشرد مئات الألاف من المدنيين وكل ما يعانون من عذابات وألاف في إيجاد مأوى لصغارهم ولقمة طعام تسد رمقهم وقطعة قماش تغطي أجسادهم في هذا البرد القارس مشردين في البوادي والصحاري والمزارع والأرياف لم تعد تتسع الأرض لهم، تترافق مع الشعور بالخذلان من الفصائل التي طالما تغنت بانها تناصرهم وتدافع عنهم، لم تجد هذه الفصائل حين طلبتها للدفاع عن أرضها، خذلهم الجميع ولم يتفقوا على غرفة عمليات لصد العدوان والخطر القادم من كل اتجاه.
وبين رحلة الموت والهروب إلى المجهول تلاحق صواريخ النظام وروسيا المدنيين فتقصفهم في مناطق نزوحهم، والمخيمات التي اتخذوها مأوى لهم بعد أن فقدوا أرضهم، تقتل من سلم من قنابلها التي طالت مدنهم وبلداتهم، فيتحول الهروب إلى موت جديد، موت تختلط فيه صنوف العذاب بين التشرد والجوع والموت والخذلان.
منذ أشهر عدة وبعد انتهاء مؤتمر أستانة ما قبل الأخير ودخول محافظة إدلب كمنطقة خفض التصعيد وبدء الحديث عن نية القوات التركية الدخول والتمركز في محافظة إدلب، سربت بعض تفاصيل الاتفاق الروسي الإيراني التركي والتي مثلت دور الدول الضامنة للاتفاق في أستانة، تتحدث عن خلاف حول مصير المنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد بريفي إدلب وحماة الشرقيين.
المعلومات المسربة أخذت صدى كبير وتحدثت عن أن المنطقة اتفق على أن تكون منزوعة السلاح تسلم إدارتها للعشائر والمجالس الملحية، على اعتبارها حد فاصل بين مناطق انتشار القوات التركية في إدلب ومناطق انتشار قوات الأسد في منطقة إثريا وصولاً لخناصر، لكن في أروقة الاجتماعات كان هناك اعتراض إيراني على الاتفاق ورغبة وإصرار شديد على السيطرة على المنطقة والوصول لقاعدة أبو الظهور العسكرية لتكون قاعدة لها امتداداً لميليشياتها في ريف حلب الجنوبي.
حذر النشطاء طويلاً من الخطة وطالبوا جميع الفصائل باتخاذ كامل التدابير لقطع الطريق على تنفيذها لاسيما بعد أن ركزت الطائرات الروسية في قصف منطقة ريف حماة الشرقي ومن ثم إدخال عناصر تنظيم الدولة للمنطقة وبدء المعارك هناك، ترافقت مع حركة نزوح كبيرة للمدنيين وكان القصف بشكل دوري على كل القرى وكأنه دفع للنزوح والتهجير قسراً، حينها حذرت تقارير عدة من بوادر تهجير قسري لمنطقة ريف حماة الشرقي.
كما حذر النشطاء مراراً من أن معارك ريف حماة الشرقي وإشغال جبهات خناصر وأبو دالي وجبهات تنظيم الدولة هي معارك جس نبض وإلهاء لحين بدء المعركة الحقيقية للميليشيات الإيرانية والتي توقعنا أن تبدأ من عدة محاور بريفي حماة وإدلب الشرقيين وريف حلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وتكون متوازية مع وصول التعزيزات العسكرية للميليشيات وقوات الأسد من دير الزور بعد الانتهاء هناك، كما حذرنا مراراً من وصول تعزيزات للمنطقة والتحضيرات لعملية عسكرية كبيرة.
كل التحذيرات لم تحرك الفصائل بشكل جاد وحقيقي لمواجهة القادم للمنطقة، تزامناً مع حركة نزوح كبيرة تدمي القلوب لأكثر من 200 ألف مدني تركوا ديارهم ومناطقهم بعد ما شاهدوه من قصف وقتل يومي وبعد أن لمسوا أن الفصائل غير جادة في إرسال التعزيزات وتحصين المنطقة والتجهيز لأي عملية عسكرية، رغم كل المعارك التي اندلعت في المنطقة والتي قدمت فيها فصائل عدة أبرزها تحرير الشام وفصائل الجيش الحر مقاومة كبيرة.
مؤخراً ومع نهاية كانون الأول ومع بدء وصول التعزيزات العسكرية قادمة من دير الزور إلى مطار حماة العسكري ونقل مركز العلميات لمدرسة المجنزرات حذرنا بتقارير عديدة وعبر مواقع التواصل من اقتراب العملية العسكرية ونيتها السيطرة على شرقي سكة الحديد ومنطقة أبو دالي وطالبنا مراراً جميع الفصائل في التحرك بشكل جاد وحقيقي وبدأت المعركة فعلاً وتقدمت قوات الأسد في عدة قرى وصولاً لأبو دالي ومن ثم تل سكيك والتي شهدت مقاومة من عدة فصائل أوقعت خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة.
بعد تل سكيك والخوين غيرت قوات الأسد وجهتها بعد أن تمكنت من بناء خط دفاعي عن أبو دالي وبدأت بالتوجه باتجاه الشمال الشرقي متبعة منطقة مرور سكة الحديد غابت معها أي مقاومة كما غابت المؤازرات وغاب السلاح الثقيل على الجبهات وبقي هناك قلة قليلة من أبناء المنطقة والصادقين من عدة فصائل، يستصرخون للتحرك الجاد وإمدادهم بالسلاح الثقيل ودعم صمودهم ولا حياة لمن تنادي.
تتقدم قوات الأسد تباعاً خلال اليومين الماضيين نحو أم الخلاخيل والنيحة وأم صهريج ورسم العبد باتجاه سنجار التي باتت تفصلها عنها بضع كيلو مترات قليلة دون أي مقاومة تذكر وقوات الأسد تتحرك سريعاً في المنطقة، تمكنها السيطرة على طول سكة الحديد حصار المنطقة الشرقية للسكة وبالتالي سقوطها دون أي معارك، وربما تشهد الأيام القادمة وصول الميليشيات لسنجار وتتوسع شمالاً باتجاه أبو الظهور قد تساندها قوات من جهة ريف حلب الجنوبي في حال لم تبادل الفصائل لوقفة جادة وحقيقية في مواجهة هذا التقدم.
جميع المعطيات والمؤشرات تشير لخطة مجهزة مسبقاً ومعدة تقتضي تسليم كامل المنطقة شرقي سكة الحديد لقوات الأسد والتي لم تتوانى في السيطرة على المزيد من المناطق في حال لم تجد من يوقف زحفها بالتأكيد، مع الإشارة إلى أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد فمن يتقدم اليوم هي قوات جيش الأسد وميليشيات محلية لم تدخل الميليشيات الإيرانية وحزب الله على خط المواجهة بشكل حقيقي بعد.
لايمكننا اليوم أن نغفل عما يحصل ونراقب بصمت حركة النزوح المستمرة والمعاناة اليومية لألاف النازحين والمشردين في البوادي في هذا الجو البارد، والمجازر اليومية التي ترتكب بحق المدنيين في معرة النعمان وتل الطوكان ومناطق عدة، وسط صمت مطبق للفصائل جميعاً والحديث عن غرف علميات لم تبصر النور بعد.
بالتأكيد ليس هدفنا إعلان انتصار النظام واستباق الأحداث، ترسم الأيام القليلة القادمة صورة الخارطة العسكرية في المنطقة وربما نشهد معارك في سنجار وريف أبو الظهور ولكن هل تستعيد الفصائل زمام المبادرة وتقلب الطاولة من جديد رغم عدم وجود معطيات لذلك هذا ما تبينه الأيام القادمة ....
تملك الفصائل في إدلب لاسيما هيئة تحرير الشام التي كانت هي من تسيطر على منطقة البادية قوة عسكرية كبيرة لايستهان بها بشرياً وعسكريا من السلاح والذخيرة يمكنها في حال وضعت هذه القوة بشكل حقيقي أن تحرر المناطق التي تتقدم إليها قوات الأسد وأن تصل لمدينة حماة خلال أيام لو كانت جادة، كما أن الفصائل الأخرى يمكنها فتح جبهات في الساحل وريف حلب وسهل الغاب وضرب النظام في مناطق حساسة ولكن لا حياة لمن تنادي، فكل حركة النزوح والمجازر والدماء لم تحرك الفصائل وباتت جميعها تلتزم في اتفاقيات الدول الكبرى لنصل لما وصلنا إليه من عجز فمن يتحمل المسؤولية اليوم أمام معاناة أكثر من 250 ألف إنسان فقدوا منازلهم وديارهم وأرضهم وباتوا مشردين، ومن يتحمل مسؤولية الدماء التي أريقت ثم من يتحمل مسؤولية الدفاع عن المدنيين في المحرر إن تخلت فصائل الثورة العسكرية عن ذلك ...؟؟
لا يمكن إدراج العلاقات التركية ـ الروسية ضمن إطار التحالف الاستراتيجي، على الرغم من التقارب الكبير الحاصل بين الدولتين، فالخلافات بين الجانبين ما تزال عميقة في سورية، وفي شبه جزيرة القرم، وفي ملفات أخرى.
الجغرافيا السياسية والاقتصادية كانت سببا في التقارب، نظرا لحاجة كل طرف للآخر في ضوء موقف شبه موحد من الغرب. لكن، إذا كانت الأزمة السورية سببا رئيسا في تقارب الدولتين، فإنها يمكن أن تكون سببا في تباعدهما، مع وصول روسيا إلى أقصى قدراتها في سورية، وعجزها عن تقديم المزيد للأتراك. ومع أن تركيا حققت مكاسب مهمة في سورية عبر البوابة الروسية، فإن استكمال هذه المكاسب سيكون من البوابة الأميركية مع الحضور العسكري الأميركي على طول الحدود التركية مع محافظتي الحسكة والرقة، وأجزاء من ريف حلب الشمالي. بعبارة أخرى، سمحت البوابة الروسية لتركيا بوقف التمدّد الجغرافي الكردي في بعض المناطق، لكن حل المسألة الكردية لا يكون إلا عبر بوابة واشنطن.
قرّبت الأزمة السورية بين تركيا وروسيا لينشأ بينهما تحالف الضرورة، وباعدت الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة، لتنشأ حالة من تباعد الضرورة، هذه الضرورات هي التي أعطت لتركيا حصة جغرافية في الشمال الغربي من سورية، وهي أيضا التي وضعت حدا للاندفاعة التركية.
التقارب الروسي ـ التركي تتخلله خلافات كبيرة، وإن لم تظهر بعد على السطح، وسيكون مصير إدلب والمناطق المحيطة بها سببا لظهور هذه الخلافات. ولم يكن التصريح الذي أطلقه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من تونس تجاه الأسد اعتباطيا، أو محض مصادفة. لقد عودنا أن تصريحاته المفاجئة في سياقها السياسي تدل على أن ثمة مشكلة ما، "بشار الأسد إرهابي قام بممارسة إرهاب الدولة ضدّ شعبه، بالتالي لا يمكن أبداً مواصلة الطريق مع الأسد في سورية، لماذا؟ لأنه لا يمكن المضي مع شخص قتل قرابة مليون مواطن من شعبه". وقد استُبق هذا التصريح بمجموعة من التطورات:
تقدّم قوات النظام السوري في الريف الجنوبي الشرقي لمحافظة إدلب، وهو تقدّم يعكس الخلاف بين أنقرة وموسكو، حيث كان من المفترض، وفق اتفاق خفض التوتر، أن تنتشر قوات روسية شرقي سكة الحجاز، لكن الروس لم ينفذوا ذلك، ما يعني أنهم تركوا هذه المنطقة قصدا لكي تكون هدفا للنظام.
تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي لمح فيه إلى دعم تركيا جبهة النصرة، حين قال "الآن، بالطبع المهمة الرئيسية لمحاربة الإرهاب هي دحر جبهة النصرة التي تبدي مقاومة بفضل الحصول على دعم من الخارج، حسب معلوماتنا".
التفاف موسكو على الفيتو التركي ضد مشاركة حزب "الاتحاد الديمقراطي" (الكردي) والتابعين له في مؤتمر "الحوار الوطني السوري" المقرّر في سوتشي، فقد أعلن القائد العام لوحدات حماية الشعب( الكردية)، سيبان هيمو، عبر وكالة سبوتنيك الروسية أن موسكو وعدت بمشاركة 155 مسؤولا كرديا في المؤتمر.
وتؤكد كل هذه التطورات وجود خلاف جدي بدأ بالظهور أخيرا، ووصف الخارجية الروسية تصريحات أردوغان عن الأسد بأنه لا أساس قانونيا لها يؤكد هذه الخلافات. وبالنسبة لإدلب، لا تريد تركيا، في هذه المرحلة، إطلاق أي معركة فيها، كي لا تخسر المحافظة لصالح النظام، وكي لا تحدث موجة نزوح كبيرة نحو أراضيها. كما أنها لا تريد خسارة القوى العسكرية الموجودة في المحافظة، في وقت تسعى، شيئا فشيئا، إلى سحب البساط من تحت أقدام جبهة النصرة، ذلك أن إطلاق معركة كبيرة ضد إدلب سيوحّد الفصائل كلها مع "النصرة"، وهذا ما بدا جليا في معارك ريف حماة الشمالي، حيث انضمت فصائل من الجيش الحر وفصائل إسلامية كانت معادية لهيئة تحرير الشام، مثل حركتي أحرار الشام ونور الدين الزنكي، إلى المعركة ضد النظام.
وبالنسبة للمشاركة الكردية في مؤتمر سوتشي، فإن الأتراك يتمسّكون بموقفهم حتى النهاية، وهذا الموقف هو الذي كان سببا في تأجيل المؤتمر، حيث لا تريد موسكو إثارة غضب أنقرة، في وقتٍ هي بحاجة لها، للضغط على المعارضة لحضور المؤتمر.
المشكلة أن الأتراك لا يريدون شرعنة القوى العسكرية الكردية سياسياً، بينما تدرك موسكو أن مؤتمراً بهذا الحجم من دون المشاركة الكردية التي تمتلك قوة على الأرض سيضعفه، كما تعتقد أن مشاركة "الاتحاد الديمقراطي"، أو مقربين منه، سيرضي الولايات المتحدة، وهذا مهم لموسكو.
ثمّة نقطة خلافية أخرى، تتعلق بمصير التسوية السياسية، صحيح أن الأتراك خفّضوا من سقف خطابهم السياسي حيال الأزمة السورية، لكنهم غير راضين تماما عن المسار السياسي الذي يخطوه الروس، فمن شأن حذو تركيا وراء روسيا حذو النعل بالنعل أن يُضعف من قوتها وتأثيرها على المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري.
بناء على هذه المعطيات، ستشهد العلاقة بين الدولتين مزيدا من التوتر في المرحلة المقبلة، فروسيا مضطرة إلى التعامل مع القوى الكردية، لترتيب المشهد الداخلي على الأرض.
يبدو أن مؤتمر سوتشي الذي تنوي روسيا عقده أواخر يناير (كانون الثاني) الحالي للبحث في القضية السورية، ودفعها على طريق الحل السياسي في مشكلة كبيرة، أحد أبرز مؤشراتها رفض سوري واسع لحضور المؤتمر، أهمه ما صدر عن قوى المعارضة السياسية والعسكرية ومن شخصيات سورية مستقلة. وإذا استمر رفض حضور سوتشي - الذي ينتظر أن يتصاعد - فإن ذلك سيؤدي إلى عدم عقد المؤتمر، وإلى فشله فيما إذا أصر الروس على عقده، وهذا المصير في احتماليه إنما هو تكرار لمبادرات روسية سابقة على نحو ما صار إليه مؤتمر حميميم الذي سبق للروس الدعوة إليه، لكنه لم يعقد، ومثل آستانة الذي عقد عدة دورات دون أن تتمخض عنه نتائج جدية في سير القضية السورية نحو حل مقبول.
أساس الرفض السوري لحضور «سوتشي»، يكمن في إصرار الروس وتأكيدهم على إخراج موضوع وجود الأسد على رأس النظام من جدول أعمال المؤتمر، بمعنى أن الحاضرين فيه يوافقون على استمرار الأسد في السلطة، وهذه تشكل معضلة كبيرة، يصعب على السوريين الذين اكتووا بنيران وجود الأسد في السلطة وما ارتكبه من جرائم ابتلاعها بقبول بقائه في موقعه وعدم محاسبته وفريقه عن وصول سوريا والسوريين إلى الكارثة الراهنة.
وإن كان السبب السابق وحده كافياً لرفض حضور «سوتشي»، فإن ثمة أسباباً أخرى للرفض، بينها أنه لا جدول أعمال للمؤتمر سوى شعار عريض يمكن أن يكون بلا معنى وهو الحوار السوري – السوري، خاصة أن السوريين جربوا على مدار نحو سبع سنوات كل أنواع ومستويات الحوار وأشكاله دون أن يصلوا مع نظام الأسد إلى نتيجة، لا بسبب رفضه للحوار فقط، وإنما بإصراره على الحل الأمني – العسكري باعتباره طريقة وحيدة لإعادة السوريين إلى حظيرة النظام، وهو ما اشتغل عليه حليفا النظام الأساسيان ولا سيما روسيا بوسائل وأشكال، تفوقت على ما قام به النظام.
وثمة سبب آخر في رفض حضور «سوتشي» من جانب المعارضة، يكمن في سياسة الإغراق العددي، حيث من المقدر أن توجه دعوات إلى نحو ألف وسبعمائة شخصية لحضور المؤتمر، ووسط هذا الرقم لن يكون للمعارضة وجود عددي مناسب، يعكس وزنها الحقيقي لا بشرياً ولا سياسياً، إضافة إلى أن من السهل على الروس تمرير أي بيان أو وثيقة باسم المؤتمر وسط هذا العدد وفي فترة يومين هي مدة المؤتمر، لن تكون كافية ليسلم أعضاء المؤتمر على بعضهم بعضاً، ولا أن يناقشوا وضعهم الكارثي وكيفية الخروج منه، لو أرادوا وكانت هناك إمكانية لذلك.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، أن ثمة سبباً عميقاً للرفض السوري لمؤتمر «سوتشي»، أساسه موقف روسيا وسياساتها وممارساتها في القضية السورية. وربما كان من الممكن أن يتناسى السوريون تأييد موسكو للنظام في بداية الثورة، وأن يتجاهلوا استمرار دعمه بالأسلحة والمعدات والذخائر تحت الذريعة الروسية، بأنها في إطار الالتزامات المسبقة بين الطرفين، لكنه كان وما زال من الصعب تجاهل الموقف الروسي في المستوى الدولي وخاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حيث استخدم الروس في الأخير الفيتو إحدى عشرة مرة لمنع إصدار قرارات تدين النظام وتوقف جرائمه، وتسمح بمحاسبته عليها، ثم أضافوا مع أواخر العام 2015 تدخلهم العسكري الكثيف والعنيف الذي لم يوقف عملية إسقاط النظام وقد كانت تمضي حثيثاً، وإنما غيّر خريطة الصراع في سوريا، وأعطى النظام فرصة للتمدد تحت القبة الروسية.
وسط تلك المعطيات، بدا من الطبيعي، أن يصطدم «سوتشي» برفض سوري وخاصة من جانب المعارضة. ولو كان الروس راغبين فعلاً في إنجاح «سوتشي»، كان عليهم أن يجعلوه نقطة تحول في سياساتهم، أو مؤشراً لتعديل ممكن في هذه السياسة في الحد الأدنى في إعلان إلزامهم بشعارات رفعوها وتشدقوا طويلاً بها وأبرزها أن الحل في سوريا ينبغي أن يكون سورياً، لكنهم وبالإصرار على بقاء الأسد غصباً عن أكثرية السوريين، إنما كانوا يضعون «سوتشي» أمام واحد من خيارين؛ عدم الانعقاد، أو الفشل في الوصول إلى نتائج، إذا تم عقده، وهي المشكلة الأساسية في «سوتشي».
بينما تتالت المؤشرات الملفتة للانتباه على الصعيد السوري، شهدنا تطورات مثيرة في الأيام الأخيرة من العام الماضي. ومن المفيد النظر عن كثب إلى الجانبين الأمريكي والروسي من أجل فهم سير الأمور.
يبدو البلدان اليوم وقد وضع كل منهما خريطة طريقه حيز التطبيق في سوريا. على الرغم من وجود بعض الاعتراضات المتبادلة إلا أنه لا يخفى على عين الناظر "الانسجام الغريب" في ممارسات البلدين.
ويبدو أننا سنخصص المزيد من الوقت في الأعوام القادمة من أجل القضايا المتعلقة بسوريا مع ظهور خفايا هذه العلاقة الغريبة.
وقعت روسيا اتفاقية مع نظام الأسد لاستخدام قاعدتين بحرية وجوية لمدة 49 عامًا، لتحقق بذلك أحد أهدافها السياسية، حيث ربطت بين البحرين الأسود والمتوسط، مجسدة بذلك "التحدي"، الذي تحدثت عنه وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
وتبدو روسيا عازمة على حل آخر المشاكل العالقة في سوريا، ومنها تصفية المجموعات "الجهادية" في إدلب وجمع "المعارضة المناسبة" والمنسجمة مع المفاوضات.
ويتضح من التصريحات الروسية أن موضوع إدلب سيشغل الأجندة كثيرًا خلال الأيام القادمة. لأن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول تلقي بعض الفصائل "الجهادية" الدعم من الخارج، تشير إلى بعض الخلافات وراء الأبواب المغلقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تركيا، بحكم موقعها الجغرافي، هي الجهة الوحيدة القادرة على تقديم "الدعم" الذي ادعى الوزير الروسي وجوده.
أما الولايات المتحدة، فهي توجه رسائل إلى روسيا من خلال مواقف معارضة للأسد من جهة، بينما تنشئ إدارة جديدة مع حليفها حزب الاتحاد الديمقراطي على ربع الأراضي السورية من جهة أخرى. وربما تكون هذه الإدارة جزء صغير من مخطط يشمل العراق وسوريا.
نتحدث هنا عن نموذج لا يسمح باقتتال كردي- عربي ويتيح الفرصة لكلا الطرفين بالانفصال عن بعضهما بشكل "متحضر"، عندما يحين الوقت. فالولايات المتحدة وحلفاؤها أعلنوا أنهم لن ينفذوا عمليات عسكرية في مناطق سيطرة النظام، وتركوا غرب الفرات لروسيا.
الاتفاقية التي وقعها الأسد، الرئيس "الرمزي" لسوريا، مع روسيا يبدو أنها ستبقيه في الوقت الراهن ضمن النظام. وفي الواقع يدين الأسد في إبرام هذه الاتفاقية لوقوع القاعدتين الروسيتين الجوية والبحرية في منطقة تحيط بها أغلبية علوية، وليس لمواهبه السياسية والشخصية.
من الملفت للانتباه أن وجود "انسجام" بين الحملات الروسية الأخيرة والمخططات الأمريكية لإعادة تشكيل العراق وسوريا. ويمكننا اعتبار الأحداث التي نشهدها اليوم الإرهاصات الأولى لما سيحدث خلال العقود القادمة.
مظاهرات طهران عام 2009 كانت مفاجأة غير متوقعة، ليس لأن نظام إيران بلا خصوم في الداخل، بل المفاجأة أن المتظاهرين الذين هددوا النظام هم من صلب النظام. عشرات الآلاف، ولأيام، ولم يتم كبحها إلا بقوة السلاح والقتل.
الآن المظاهرات خرجت من الأطراف؛ من مدن مثل مشهد وانتشرت، تحمل شعارات معادية لآية الله ولسياسات الدولة، وتردد صداها في أنحاء إيران.
قد لا تقتل المظاهرات الشعبية النظام لكنها بالتأكيد تجرحه. آية الله خامنئي مع قياداته العسكرية والسياسية كانوا يعتقدون أن الترويج لانتصاراتهم في العراق، وسوريا، ولبنان سيمنحهم الشعبية ويمد في عمرهم، لكنها صارت حجة عليهم. معظم المظاهرات التي ظهرت في اليومين الماضيين كانت تستنكر التورط في الخارج وتمويلها، وتهرب الحكومة من واجباتها في الداخل.
مع بدايات التورط الإيراني في حرب سوريا، قبل نحو أربع سنوات، حذّر عدد من النواب في البرلمان الجنرال المتحمس للحروب قاسم سليماني من أن الدولة لا تستطيع أن تتحمل تكاليف مغامراته، ولن يقبل الشعب الإيراني أن يعود أبناؤه في أكفان قتلى دفاعاً عن أنظمة اخرى وفي حروب غيرهم. رد سليماني بأن حربه في العراق وسوريا هي دفاع عن أمن إيران وعن وجود النظام.
ولم يكن كلامه كافياً لتبرير الخسائر، ثم عاد سليماني يفاخر بأن الحرب للدفاع عن الجمهورية الاسلامية ونظام ولاية الفقيه لم تعد تكلف إيران الكثير. عمل على تأليف ميليشيات من الفقراء اللاجئين على أرض إيران من أفغان وباكستانيين، ومن داخل العراق، ونحو عشرين ألف لبناني من حزب الله. كان عدد العسكريين الإيرانيين بضعة آلاف قليلة، يقومون بعمليات التدريب والمخابرات والقيادة. وقال مفاخراً بأنه لم يكلف الخزينة الإيرانية كثيراً. كلّف إيران بضعة مليارات وحول معظم الفاتورة على العراق الذي أجبره على تمويل الحرب الإيرانية. دفع العراقيون فواتير الميليشيات المقاتلة، وفوقها التزامات النظام الإيراني السنوية تجاه حزب الله اللبناني، وحماس في غزة. إلا أنه بعد أن انحدرت أسعار البترول امتنع العراق عن دفع معظمها.
إيران دولة من تسعين مليون نسمة تقريباً، تعيش بشكل أساسي من مداخيل النفط، وهي تعاني الآن، مثلها مثل بقية دول المنطقة البترولية. لكن إيران بلد مغلق تماماً، ترزح تحت سلطة تشبه نظامي القدافي وصدام في الماضي، تعتمد على الأجهزة الأمنية، وتقيد استخدامات وسائل الاتصال والتحويلات البنكية، وتفرض غرامات كبيرة على السفر للخارج. لديها شبكة هائلة ومكلفة من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية في أنحاء العالم من ماليزيا إلى الأرجنتين.
نعم، إيران دولة متقدمة في الصناعات العسكرية مقارنة بدول المنطقة، لكنها تبقى من الدول الفقيرة. وهي معضلة الأنظمة المشابهة لها، مثل كوبا وكوريا الشمالية. الاتحاد السوفياتي، ويوغوسلافيا، وألمانيا الشرقية، وليبيا، واليمن الجنوبي، وسوريا، وغيرها، أنظمة انهارت لأنها اهتمت بالتفوق الأمني والعسكري دون غيره، وبقيت دولاً فقيرة في كل الجوانب الأخرى. في إيران الحرس الثوري لا يدير الأمن، بل يتحكم في كل صغيرة وكبيرة، وزاد من نفوذه في عهد الرئيس أحمدي نجاد، حيث استولى حتى على المؤسسات الاقتصادية الكبرى بما فيها مصافي البترول.
من الطبيعي أن يأتي اليوم الذي يواجه النظام في طهران غضب الأغلبية التي ساندت وصوله للحكم قبل أربعين عاماً اعتقاداً منها أن حياتها ستتحسن لكنها ساءت.
أستبعد أن يستطيع الشعب الإيراني تحدي آلة النظام القمعية في الوقت الحاضر، لكنه بانتفاضاته المتقطعة يظهر للعالم صورة مختلفة. جمهورية آية الله قد تكون ميليشياتها وصلت إلى دمشق والموصل وبيروت وغزة وصنعاء، لكنها عاجزة عن بسط سيطرتها على مشهد.
لم يجد الروس طريقة يتعاملون من خلالها مع السوريين غير الاستهانة بمشاعرهم الوطنية، والاستهانة بهم "شعوباً"، ما أن تؤمر بالقدوم إلى قاعدة عسكرهم الذي يقتل أبناءها، حتى تهرول صاغرة إليهم، والسعادة تغمر قلوبها، لأنهم منّوا عليها بلقاء تقرّر فيه أفضل شروط الاستسلام للقائد التاريخي العظيم بشار الأسد، والعودة إلى حضنه كوطن، تعمد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إهانته وإذلاله كل مرة قابله فيها، لكنه دعاهم إلى قاعدته العسكرية التي تقصفهم ليل نهار، كي يراهم وهم يقبلون حذاء من وصفته صحافته ذات يوم "ذيل الكلب"، وقد تجرّدوا من آخر ما لهم من كرامة: رأس مالهم الشخصي والجماعي الذي قاتلوا دفاعاً عنه سبعة أعوام مهلكة، غرقوا خلالها بدمائهم حتى أنوفهم، بيد أنهم لم يتخلوا عنها كي يستسلموا لبشار.
ارتبطت كرامة السوريين، على مر تاريخهم، بوطنيتهم، بشعورهم بالانتماء إلى شعبٍ متحضّرٍ أقام نموذجاً من التعايش الآمن بين أبنائه، بينما ضجّت منطقته بصراعاتٍ وتمزّقات عنيفة، أنتجها عجزها عن صياغة تفاهماتٍ توافقيةٍ حول مشتركاتٍ تتيح لهم العيش الآمن، بعضهم إلى جانب بعضهم الآخر. خلال الزلازل التي تعرّضت لها بلدان شرق أوسطية وعربية، تلاعبت القوى الخارجية بها، كان الشعب السوري يغادر حالة الملل، ويتقدّم نحو حال وطنية مكّنته من تقصير عمر الانتداب، وبناء مؤسسات دولةٍ وطنيةٍ بفضل نظام تعليمي حديث، وأحزاب سياسية مثلت مختلف شرائح السوريين، ونقابات عمالية ومهنية، ونظام قضائي التزم غالباً بالقانون، وصحافةٍ حرةٍ نسبياً ذات مستوى مهني جيد، وحياةٍ نيابيةٍ لم تخلُ من فساد، لكنها لم تخلُ أيضاً من تمثيل ومعارك التزم من خاضوها بمصالح المجتمع، وحكومات ترأس بعضها قادة العمل الوطني ضد الاستعمار.
لعبت الروح الوطنية دوراً جدّياً في رفض دعوة بوتين إلى لقاء ما أسماها "الشعوب السورية". ومن الضروري أن لا يكتفي السوريون اليوم برفض المشاركة في لقاء سوتشي، ورفض الانصياع لقرار موسكو مصادرة إرادتهم وحقهم في اختيار من يريدونه، الذي أكده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كل مرة طالب أحد فيها برحيل الأسد، وواجهه بالقول: للسوريين وحدهم الحق في تقرير مصير الأسد، وها هو نائبه يبلغهم أن على من يقرّر منهم الذهاب إلى سوتشي أن يعلن قبول رئاسته، لأنها ليست موضوع نقاش.
واليوم، وأمام تصاعد المد الوطني، وما تأكد أخيراً، وهو أن روح الوطنيّة ما زالت تخفق في قلوب أبناء شعب سورية المكلوم، وحلم الحرية ما برح يحفز ثورتهم، ولا بد أن يتجسّد، من الآن فصاعداً، في مؤسسةٍ سياسيةٍ تمثيليةٍ ينتخب أعضاؤها مباشرة في أهالي مختلف المناطق، داخل سورية وخارجها، بما في ذلك بعض الخاضعة منها للنظام، فترفد النضال الوطني بدم نقي، آتٍ من شعبٍ تغرّب ممثلوه غير المنتخبين عنه. الآن، حان الوقت لبناء مؤسسةٍ جديدةٍ، تقودهم باقتدار خلال الفترة العصيبة المقبلة، لن يكون في وسع أحد تجاهلها، لأنها منتخبة لتمثل قطاعات الثورة جميعها: من المحامين والقضاة والصحافيين والكتاب والمثقفين والمهندسين والأطباء والمسعفين، والتنسيقيات والمجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والمدرسين والأساتذة الجامعيين، ورجال الدين والأعمال، والتجار، والفصائل المقاتلة، والتنظيمات النسائية والشبابية... إلخ. بعد انتخابهم سيشكل ممثلو الشعب "الهيئة السورية الحرّة" التي ستتولى قيادة العمل الوطني في مختلف مجالاته، على أن يرشح أعضاء "الائتلاف" الحاليون أنفسهم في الدوائر التي يختارونها، وينضوي الناجحون منهم في التشكيل الجديد.
هذه الخطوة المفصلية ستعبر مؤسسياً عن النهوض الوطني الذي بدأنا نعيشه، وسيحدث اتخاذها نقلةً نوعية في العمل الثوري السوري العام، بفضل ممثليه المنتخبين الذين سيتعاملون من موقع قويٍّ مع العالم، كأصحاب شرعية شعبية مماثلة لما تتمتع به حكوماته، وسيصدرون قرارات أكثر استقلالية من كل ما عرفته الثورة، وأكثر قدرة على الإفادة من أنشطة طيف ثوري واسع من المواطنين، سيتخلى عن شكوكه المحقة بشأن تمثيل مؤسسات المعارضة الحالية للثورة التي تدخل مع "سوتشي" في لحظة مفصلية، لن يكون حالها بعدها ما كان عليه قبلها، فإما أن تقودها هيئة منتخبة، تجدّد مؤسساتها وطنياً، أو أن يزداد عجزها عن مواجهة التحدّي الروسي إلى أن تحل الهزيمة بالشعب الذي لن ينقذه من الإبادة على يد الأسدية غير ثورة جديدة، يعرف الله وحده إن كانت ستأتي، ومتى.