مرت سبع سنوات على بدء الحراك الثوري، تحمل فيه المدنيون في المناطق المحررة ويلات الموت اليومية وعذابات القتل والتنكيل والاعتقال والملاحقات الأمنية والقصف اليومي الذي لا يكاد يتوقف بحراً وجواً وبراً وتكالب كل قوى العالم ومدعي حقوق الإنسان على قضيته الحرة المطالبة في الحرية والخلاص من الاستبداد.
زاد مرارة الحياة في المحرر قسوة الحياة والحصار الذي مورس على المدنيين والقصف المستمر، تحملوا رغم كل الظروف وفي كل المحن كل الصعوبات والعقبات وساندوا الثوار بكل ما أمكنهم من صبر وثبات وتحمل ودماء وجوع وبرد، لأجل هدف واحد هو الخلاص من الاستبداد والوصول لوطن حر ديمقراطي يسود فيه العدل والحرية والعيش بكرامة.
هذا الخلاص لابد له من فاتورة كبيرة تدفع لأجل التحرير، ولا أغلى من دماء أهلها التي باتت مدنهم وبلداتهم قبراً كبيراً تدفن فيها أشلائهم وأوجاعهم بأسماء وأصناف شتى كمحاربة الإرهاب وغير ذلك من الحجج، التي بات الحجة الرائجة والدامغة وموضة العصر لمواصلة قتل الشعب السوري الثائر وترسيخ السيطرة لوكلاء هذه الدول على الأرض.
حركة نزوح هي الأكبر تشهدها أرياف محافظتي إدلب الشرقية بدأت منذ أشهر، من مناطق عدة هرباً من الموت إلى مصير مجهول، لا تعرف نهايته، جراء ما تتعرض له مناطقهم من حملات عسكرية وقصف جوي مركز وسعي للسيطرة على الأرض يستهدف بنيتها التحتية والبشرية وكل ما يعترض طريق عملياتها، سجلت مئات الغارات الجوية خلال أيام قليلة على أرياف المحافظة تتشارك في رمي قنابل الموت طائرات روسيا والنظام وعلى الأرض تتصارع القوى والوكلاء.
تغريبة ريفي حماة وإدلب اليوم وتشرد مئات الألاف من المدنيين وكل ما يعانون من عذابات وألاف في إيجاد مأوى لصغارهم ولقمة طعام تسد رمقهم وقطعة قماش تغطي أجسادهم في هذا البرد القارس مشردين في البوادي والصحاري والمزارع والأرياف لم تعد تتسع الأرض لهم، تترافق مع الشعور بالخذلان من الفصائل التي طالما تغنت بانها تناصرهم وتدافع عنهم، لم تجد هذه الفصائل حين طلبتها للدفاع عن أرضها، خذلهم الجميع ولم يتفقوا على غرفة عمليات لصد العدوان والخطر القادم من كل اتجاه.
وبين رحلة الموت والهروب إلى المجهول تلاحق صواريخ النظام وروسيا المدنيين فتقصفهم في مناطق نزوحهم، والمخيمات التي اتخذوها مأوى لهم بعد أن فقدوا أرضهم، تقتل من سلم من قنابلها التي طالت مدنهم وبلداتهم، فيتحول الهروب إلى موت جديد، موت تختلط فيه صنوف العذاب بين التشرد والجوع والموت والخذلان.
منذ أشهر عدة وبعد انتهاء مؤتمر أستانة ما قبل الأخير ودخول محافظة إدلب كمنطقة خفض التصعيد وبدء الحديث عن نية القوات التركية الدخول والتمركز في محافظة إدلب، سربت بعض تفاصيل الاتفاق الروسي الإيراني التركي والتي مثلت دور الدول الضامنة للاتفاق في أستانة، تتحدث عن خلاف حول مصير المنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد بريفي إدلب وحماة الشرقيين.
المعلومات المسربة أخذت صدى كبير وتحدثت عن أن المنطقة اتفق على أن تكون منزوعة السلاح تسلم إدارتها للعشائر والمجالس الملحية، على اعتبارها حد فاصل بين مناطق انتشار القوات التركية في إدلب ومناطق انتشار قوات الأسد في منطقة إثريا وصولاً لخناصر، لكن في أروقة الاجتماعات كان هناك اعتراض إيراني على الاتفاق ورغبة وإصرار شديد على السيطرة على المنطقة والوصول لقاعدة أبو الظهور العسكرية لتكون قاعدة لها امتداداً لميليشياتها في ريف حلب الجنوبي.
حذر النشطاء طويلاً من الخطة وطالبوا جميع الفصائل باتخاذ كامل التدابير لقطع الطريق على تنفيذها لاسيما بعد أن ركزت الطائرات الروسية في قصف منطقة ريف حماة الشرقي ومن ثم إدخال عناصر تنظيم الدولة للمنطقة وبدء المعارك هناك، ترافقت مع حركة نزوح كبيرة للمدنيين وكان القصف بشكل دوري على كل القرى وكأنه دفع للنزوح والتهجير قسراً، حينها حذرت تقارير عدة من بوادر تهجير قسري لمنطقة ريف حماة الشرقي.
كما حذر النشطاء مراراً من أن معارك ريف حماة الشرقي وإشغال جبهات خناصر وأبو دالي وجبهات تنظيم الدولة هي معارك جس نبض وإلهاء لحين بدء المعركة الحقيقية للميليشيات الإيرانية والتي توقعنا أن تبدأ من عدة محاور بريفي حماة وإدلب الشرقيين وريف حلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وتكون متوازية مع وصول التعزيزات العسكرية للميليشيات وقوات الأسد من دير الزور بعد الانتهاء هناك، كما حذرنا مراراً من وصول تعزيزات للمنطقة والتحضيرات لعملية عسكرية كبيرة.
كل التحذيرات لم تحرك الفصائل بشكل جاد وحقيقي لمواجهة القادم للمنطقة، تزامناً مع حركة نزوح كبيرة تدمي القلوب لأكثر من 200 ألف مدني تركوا ديارهم ومناطقهم بعد ما شاهدوه من قصف وقتل يومي وبعد أن لمسوا أن الفصائل غير جادة في إرسال التعزيزات وتحصين المنطقة والتجهيز لأي عملية عسكرية، رغم كل المعارك التي اندلعت في المنطقة والتي قدمت فيها فصائل عدة أبرزها تحرير الشام وفصائل الجيش الحر مقاومة كبيرة.
مؤخراً ومع نهاية كانون الأول ومع بدء وصول التعزيزات العسكرية قادمة من دير الزور إلى مطار حماة العسكري ونقل مركز العلميات لمدرسة المجنزرات حذرنا بتقارير عديدة وعبر مواقع التواصل من اقتراب العملية العسكرية ونيتها السيطرة على شرقي سكة الحديد ومنطقة أبو دالي وطالبنا مراراً جميع الفصائل في التحرك بشكل جاد وحقيقي وبدأت المعركة فعلاً وتقدمت قوات الأسد في عدة قرى وصولاً لأبو دالي ومن ثم تل سكيك والتي شهدت مقاومة من عدة فصائل أوقعت خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة.
بعد تل سكيك والخوين غيرت قوات الأسد وجهتها بعد أن تمكنت من بناء خط دفاعي عن أبو دالي وبدأت بالتوجه باتجاه الشمال الشرقي متبعة منطقة مرور سكة الحديد غابت معها أي مقاومة كما غابت المؤازرات وغاب السلاح الثقيل على الجبهات وبقي هناك قلة قليلة من أبناء المنطقة والصادقين من عدة فصائل، يستصرخون للتحرك الجاد وإمدادهم بالسلاح الثقيل ودعم صمودهم ولا حياة لمن تنادي.
تتقدم قوات الأسد تباعاً خلال اليومين الماضيين نحو أم الخلاخيل والنيحة وأم صهريج ورسم العبد باتجاه سنجار التي باتت تفصلها عنها بضع كيلو مترات قليلة دون أي مقاومة تذكر وقوات الأسد تتحرك سريعاً في المنطقة، تمكنها السيطرة على طول سكة الحديد حصار المنطقة الشرقية للسكة وبالتالي سقوطها دون أي معارك، وربما تشهد الأيام القادمة وصول الميليشيات لسنجار وتتوسع شمالاً باتجاه أبو الظهور قد تساندها قوات من جهة ريف حلب الجنوبي في حال لم تبادل الفصائل لوقفة جادة وحقيقية في مواجهة هذا التقدم.
جميع المعطيات والمؤشرات تشير لخطة مجهزة مسبقاً ومعدة تقتضي تسليم كامل المنطقة شرقي سكة الحديد لقوات الأسد والتي لم تتوانى في السيطرة على المزيد من المناطق في حال لم تجد من يوقف زحفها بالتأكيد، مع الإشارة إلى أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد فمن يتقدم اليوم هي قوات جيش الأسد وميليشيات محلية لم تدخل الميليشيات الإيرانية وحزب الله على خط المواجهة بشكل حقيقي بعد.
لايمكننا اليوم أن نغفل عما يحصل ونراقب بصمت حركة النزوح المستمرة والمعاناة اليومية لألاف النازحين والمشردين في البوادي في هذا الجو البارد، والمجازر اليومية التي ترتكب بحق المدنيين في معرة النعمان وتل الطوكان ومناطق عدة، وسط صمت مطبق للفصائل جميعاً والحديث عن غرف علميات لم تبصر النور بعد.
بالتأكيد ليس هدفنا إعلان انتصار النظام واستباق الأحداث، ترسم الأيام القليلة القادمة صورة الخارطة العسكرية في المنطقة وربما نشهد معارك في سنجار وريف أبو الظهور ولكن هل تستعيد الفصائل زمام المبادرة وتقلب الطاولة من جديد رغم عدم وجود معطيات لذلك هذا ما تبينه الأيام القادمة ....
تملك الفصائل في إدلب لاسيما هيئة تحرير الشام التي كانت هي من تسيطر على منطقة البادية قوة عسكرية كبيرة لايستهان بها بشرياً وعسكريا من السلاح والذخيرة يمكنها في حال وضعت هذه القوة بشكل حقيقي أن تحرر المناطق التي تتقدم إليها قوات الأسد وأن تصل لمدينة حماة خلال أيام لو كانت جادة، كما أن الفصائل الأخرى يمكنها فتح جبهات في الساحل وريف حلب وسهل الغاب وضرب النظام في مناطق حساسة ولكن لا حياة لمن تنادي، فكل حركة النزوح والمجازر والدماء لم تحرك الفصائل وباتت جميعها تلتزم في اتفاقيات الدول الكبرى لنصل لما وصلنا إليه من عجز فمن يتحمل المسؤولية اليوم أمام معاناة أكثر من 250 ألف إنسان فقدوا منازلهم وديارهم وأرضهم وباتوا مشردين، ومن يتحمل مسؤولية الدماء التي أريقت ثم من يتحمل مسؤولية الدفاع عن المدنيين في المحرر إن تخلت فصائل الثورة العسكرية عن ذلك ...؟؟
لا يمكن إدراج العلاقات التركية ـ الروسية ضمن إطار التحالف الاستراتيجي، على الرغم من التقارب الكبير الحاصل بين الدولتين، فالخلافات بين الجانبين ما تزال عميقة في سورية، وفي شبه جزيرة القرم، وفي ملفات أخرى.
الجغرافيا السياسية والاقتصادية كانت سببا في التقارب، نظرا لحاجة كل طرف للآخر في ضوء موقف شبه موحد من الغرب. لكن، إذا كانت الأزمة السورية سببا رئيسا في تقارب الدولتين، فإنها يمكن أن تكون سببا في تباعدهما، مع وصول روسيا إلى أقصى قدراتها في سورية، وعجزها عن تقديم المزيد للأتراك. ومع أن تركيا حققت مكاسب مهمة في سورية عبر البوابة الروسية، فإن استكمال هذه المكاسب سيكون من البوابة الأميركية مع الحضور العسكري الأميركي على طول الحدود التركية مع محافظتي الحسكة والرقة، وأجزاء من ريف حلب الشمالي. بعبارة أخرى، سمحت البوابة الروسية لتركيا بوقف التمدّد الجغرافي الكردي في بعض المناطق، لكن حل المسألة الكردية لا يكون إلا عبر بوابة واشنطن.
قرّبت الأزمة السورية بين تركيا وروسيا لينشأ بينهما تحالف الضرورة، وباعدت الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة، لتنشأ حالة من تباعد الضرورة، هذه الضرورات هي التي أعطت لتركيا حصة جغرافية في الشمال الغربي من سورية، وهي أيضا التي وضعت حدا للاندفاعة التركية.
التقارب الروسي ـ التركي تتخلله خلافات كبيرة، وإن لم تظهر بعد على السطح، وسيكون مصير إدلب والمناطق المحيطة بها سببا لظهور هذه الخلافات. ولم يكن التصريح الذي أطلقه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من تونس تجاه الأسد اعتباطيا، أو محض مصادفة. لقد عودنا أن تصريحاته المفاجئة في سياقها السياسي تدل على أن ثمة مشكلة ما، "بشار الأسد إرهابي قام بممارسة إرهاب الدولة ضدّ شعبه، بالتالي لا يمكن أبداً مواصلة الطريق مع الأسد في سورية، لماذا؟ لأنه لا يمكن المضي مع شخص قتل قرابة مليون مواطن من شعبه". وقد استُبق هذا التصريح بمجموعة من التطورات:
تقدّم قوات النظام السوري في الريف الجنوبي الشرقي لمحافظة إدلب، وهو تقدّم يعكس الخلاف بين أنقرة وموسكو، حيث كان من المفترض، وفق اتفاق خفض التوتر، أن تنتشر قوات روسية شرقي سكة الحجاز، لكن الروس لم ينفذوا ذلك، ما يعني أنهم تركوا هذه المنطقة قصدا لكي تكون هدفا للنظام.
تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي لمح فيه إلى دعم تركيا جبهة النصرة، حين قال "الآن، بالطبع المهمة الرئيسية لمحاربة الإرهاب هي دحر جبهة النصرة التي تبدي مقاومة بفضل الحصول على دعم من الخارج، حسب معلوماتنا".
التفاف موسكو على الفيتو التركي ضد مشاركة حزب "الاتحاد الديمقراطي" (الكردي) والتابعين له في مؤتمر "الحوار الوطني السوري" المقرّر في سوتشي، فقد أعلن القائد العام لوحدات حماية الشعب( الكردية)، سيبان هيمو، عبر وكالة سبوتنيك الروسية أن موسكو وعدت بمشاركة 155 مسؤولا كرديا في المؤتمر.
وتؤكد كل هذه التطورات وجود خلاف جدي بدأ بالظهور أخيرا، ووصف الخارجية الروسية تصريحات أردوغان عن الأسد بأنه لا أساس قانونيا لها يؤكد هذه الخلافات. وبالنسبة لإدلب، لا تريد تركيا، في هذه المرحلة، إطلاق أي معركة فيها، كي لا تخسر المحافظة لصالح النظام، وكي لا تحدث موجة نزوح كبيرة نحو أراضيها. كما أنها لا تريد خسارة القوى العسكرية الموجودة في المحافظة، في وقت تسعى، شيئا فشيئا، إلى سحب البساط من تحت أقدام جبهة النصرة، ذلك أن إطلاق معركة كبيرة ضد إدلب سيوحّد الفصائل كلها مع "النصرة"، وهذا ما بدا جليا في معارك ريف حماة الشمالي، حيث انضمت فصائل من الجيش الحر وفصائل إسلامية كانت معادية لهيئة تحرير الشام، مثل حركتي أحرار الشام ونور الدين الزنكي، إلى المعركة ضد النظام.
وبالنسبة للمشاركة الكردية في مؤتمر سوتشي، فإن الأتراك يتمسّكون بموقفهم حتى النهاية، وهذا الموقف هو الذي كان سببا في تأجيل المؤتمر، حيث لا تريد موسكو إثارة غضب أنقرة، في وقتٍ هي بحاجة لها، للضغط على المعارضة لحضور المؤتمر.
المشكلة أن الأتراك لا يريدون شرعنة القوى العسكرية الكردية سياسياً، بينما تدرك موسكو أن مؤتمراً بهذا الحجم من دون المشاركة الكردية التي تمتلك قوة على الأرض سيضعفه، كما تعتقد أن مشاركة "الاتحاد الديمقراطي"، أو مقربين منه، سيرضي الولايات المتحدة، وهذا مهم لموسكو.
ثمّة نقطة خلافية أخرى، تتعلق بمصير التسوية السياسية، صحيح أن الأتراك خفّضوا من سقف خطابهم السياسي حيال الأزمة السورية، لكنهم غير راضين تماما عن المسار السياسي الذي يخطوه الروس، فمن شأن حذو تركيا وراء روسيا حذو النعل بالنعل أن يُضعف من قوتها وتأثيرها على المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري.
بناء على هذه المعطيات، ستشهد العلاقة بين الدولتين مزيدا من التوتر في المرحلة المقبلة، فروسيا مضطرة إلى التعامل مع القوى الكردية، لترتيب المشهد الداخلي على الأرض.
يبدو أن مؤتمر سوتشي الذي تنوي روسيا عقده أواخر يناير (كانون الثاني) الحالي للبحث في القضية السورية، ودفعها على طريق الحل السياسي في مشكلة كبيرة، أحد أبرز مؤشراتها رفض سوري واسع لحضور المؤتمر، أهمه ما صدر عن قوى المعارضة السياسية والعسكرية ومن شخصيات سورية مستقلة. وإذا استمر رفض حضور سوتشي - الذي ينتظر أن يتصاعد - فإن ذلك سيؤدي إلى عدم عقد المؤتمر، وإلى فشله فيما إذا أصر الروس على عقده، وهذا المصير في احتماليه إنما هو تكرار لمبادرات روسية سابقة على نحو ما صار إليه مؤتمر حميميم الذي سبق للروس الدعوة إليه، لكنه لم يعقد، ومثل آستانة الذي عقد عدة دورات دون أن تتمخض عنه نتائج جدية في سير القضية السورية نحو حل مقبول.
أساس الرفض السوري لحضور «سوتشي»، يكمن في إصرار الروس وتأكيدهم على إخراج موضوع وجود الأسد على رأس النظام من جدول أعمال المؤتمر، بمعنى أن الحاضرين فيه يوافقون على استمرار الأسد في السلطة، وهذه تشكل معضلة كبيرة، يصعب على السوريين الذين اكتووا بنيران وجود الأسد في السلطة وما ارتكبه من جرائم ابتلاعها بقبول بقائه في موقعه وعدم محاسبته وفريقه عن وصول سوريا والسوريين إلى الكارثة الراهنة.
وإن كان السبب السابق وحده كافياً لرفض حضور «سوتشي»، فإن ثمة أسباباً أخرى للرفض، بينها أنه لا جدول أعمال للمؤتمر سوى شعار عريض يمكن أن يكون بلا معنى وهو الحوار السوري – السوري، خاصة أن السوريين جربوا على مدار نحو سبع سنوات كل أنواع ومستويات الحوار وأشكاله دون أن يصلوا مع نظام الأسد إلى نتيجة، لا بسبب رفضه للحوار فقط، وإنما بإصراره على الحل الأمني – العسكري باعتباره طريقة وحيدة لإعادة السوريين إلى حظيرة النظام، وهو ما اشتغل عليه حليفا النظام الأساسيان ولا سيما روسيا بوسائل وأشكال، تفوقت على ما قام به النظام.
وثمة سبب آخر في رفض حضور «سوتشي» من جانب المعارضة، يكمن في سياسة الإغراق العددي، حيث من المقدر أن توجه دعوات إلى نحو ألف وسبعمائة شخصية لحضور المؤتمر، ووسط هذا الرقم لن يكون للمعارضة وجود عددي مناسب، يعكس وزنها الحقيقي لا بشرياً ولا سياسياً، إضافة إلى أن من السهل على الروس تمرير أي بيان أو وثيقة باسم المؤتمر وسط هذا العدد وفي فترة يومين هي مدة المؤتمر، لن تكون كافية ليسلم أعضاء المؤتمر على بعضهم بعضاً، ولا أن يناقشوا وضعهم الكارثي وكيفية الخروج منه، لو أرادوا وكانت هناك إمكانية لذلك.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، أن ثمة سبباً عميقاً للرفض السوري لمؤتمر «سوتشي»، أساسه موقف روسيا وسياساتها وممارساتها في القضية السورية. وربما كان من الممكن أن يتناسى السوريون تأييد موسكو للنظام في بداية الثورة، وأن يتجاهلوا استمرار دعمه بالأسلحة والمعدات والذخائر تحت الذريعة الروسية، بأنها في إطار الالتزامات المسبقة بين الطرفين، لكنه كان وما زال من الصعب تجاهل الموقف الروسي في المستوى الدولي وخاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حيث استخدم الروس في الأخير الفيتو إحدى عشرة مرة لمنع إصدار قرارات تدين النظام وتوقف جرائمه، وتسمح بمحاسبته عليها، ثم أضافوا مع أواخر العام 2015 تدخلهم العسكري الكثيف والعنيف الذي لم يوقف عملية إسقاط النظام وقد كانت تمضي حثيثاً، وإنما غيّر خريطة الصراع في سوريا، وأعطى النظام فرصة للتمدد تحت القبة الروسية.
وسط تلك المعطيات، بدا من الطبيعي، أن يصطدم «سوتشي» برفض سوري وخاصة من جانب المعارضة. ولو كان الروس راغبين فعلاً في إنجاح «سوتشي»، كان عليهم أن يجعلوه نقطة تحول في سياساتهم، أو مؤشراً لتعديل ممكن في هذه السياسة في الحد الأدنى في إعلان إلزامهم بشعارات رفعوها وتشدقوا طويلاً بها وأبرزها أن الحل في سوريا ينبغي أن يكون سورياً، لكنهم وبالإصرار على بقاء الأسد غصباً عن أكثرية السوريين، إنما كانوا يضعون «سوتشي» أمام واحد من خيارين؛ عدم الانعقاد، أو الفشل في الوصول إلى نتائج، إذا تم عقده، وهي المشكلة الأساسية في «سوتشي».
بينما تتالت المؤشرات الملفتة للانتباه على الصعيد السوري، شهدنا تطورات مثيرة في الأيام الأخيرة من العام الماضي. ومن المفيد النظر عن كثب إلى الجانبين الأمريكي والروسي من أجل فهم سير الأمور.
يبدو البلدان اليوم وقد وضع كل منهما خريطة طريقه حيز التطبيق في سوريا. على الرغم من وجود بعض الاعتراضات المتبادلة إلا أنه لا يخفى على عين الناظر "الانسجام الغريب" في ممارسات البلدين.
ويبدو أننا سنخصص المزيد من الوقت في الأعوام القادمة من أجل القضايا المتعلقة بسوريا مع ظهور خفايا هذه العلاقة الغريبة.
وقعت روسيا اتفاقية مع نظام الأسد لاستخدام قاعدتين بحرية وجوية لمدة 49 عامًا، لتحقق بذلك أحد أهدافها السياسية، حيث ربطت بين البحرين الأسود والمتوسط، مجسدة بذلك "التحدي"، الذي تحدثت عنه وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
وتبدو روسيا عازمة على حل آخر المشاكل العالقة في سوريا، ومنها تصفية المجموعات "الجهادية" في إدلب وجمع "المعارضة المناسبة" والمنسجمة مع المفاوضات.
ويتضح من التصريحات الروسية أن موضوع إدلب سيشغل الأجندة كثيرًا خلال الأيام القادمة. لأن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول تلقي بعض الفصائل "الجهادية" الدعم من الخارج، تشير إلى بعض الخلافات وراء الأبواب المغلقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تركيا، بحكم موقعها الجغرافي، هي الجهة الوحيدة القادرة على تقديم "الدعم" الذي ادعى الوزير الروسي وجوده.
أما الولايات المتحدة، فهي توجه رسائل إلى روسيا من خلال مواقف معارضة للأسد من جهة، بينما تنشئ إدارة جديدة مع حليفها حزب الاتحاد الديمقراطي على ربع الأراضي السورية من جهة أخرى. وربما تكون هذه الإدارة جزء صغير من مخطط يشمل العراق وسوريا.
نتحدث هنا عن نموذج لا يسمح باقتتال كردي- عربي ويتيح الفرصة لكلا الطرفين بالانفصال عن بعضهما بشكل "متحضر"، عندما يحين الوقت. فالولايات المتحدة وحلفاؤها أعلنوا أنهم لن ينفذوا عمليات عسكرية في مناطق سيطرة النظام، وتركوا غرب الفرات لروسيا.
الاتفاقية التي وقعها الأسد، الرئيس "الرمزي" لسوريا، مع روسيا يبدو أنها ستبقيه في الوقت الراهن ضمن النظام. وفي الواقع يدين الأسد في إبرام هذه الاتفاقية لوقوع القاعدتين الروسيتين الجوية والبحرية في منطقة تحيط بها أغلبية علوية، وليس لمواهبه السياسية والشخصية.
من الملفت للانتباه أن وجود "انسجام" بين الحملات الروسية الأخيرة والمخططات الأمريكية لإعادة تشكيل العراق وسوريا. ويمكننا اعتبار الأحداث التي نشهدها اليوم الإرهاصات الأولى لما سيحدث خلال العقود القادمة.
مظاهرات طهران عام 2009 كانت مفاجأة غير متوقعة، ليس لأن نظام إيران بلا خصوم في الداخل، بل المفاجأة أن المتظاهرين الذين هددوا النظام هم من صلب النظام. عشرات الآلاف، ولأيام، ولم يتم كبحها إلا بقوة السلاح والقتل.
الآن المظاهرات خرجت من الأطراف؛ من مدن مثل مشهد وانتشرت، تحمل شعارات معادية لآية الله ولسياسات الدولة، وتردد صداها في أنحاء إيران.
قد لا تقتل المظاهرات الشعبية النظام لكنها بالتأكيد تجرحه. آية الله خامنئي مع قياداته العسكرية والسياسية كانوا يعتقدون أن الترويج لانتصاراتهم في العراق، وسوريا، ولبنان سيمنحهم الشعبية ويمد في عمرهم، لكنها صارت حجة عليهم. معظم المظاهرات التي ظهرت في اليومين الماضيين كانت تستنكر التورط في الخارج وتمويلها، وتهرب الحكومة من واجباتها في الداخل.
مع بدايات التورط الإيراني في حرب سوريا، قبل نحو أربع سنوات، حذّر عدد من النواب في البرلمان الجنرال المتحمس للحروب قاسم سليماني من أن الدولة لا تستطيع أن تتحمل تكاليف مغامراته، ولن يقبل الشعب الإيراني أن يعود أبناؤه في أكفان قتلى دفاعاً عن أنظمة اخرى وفي حروب غيرهم. رد سليماني بأن حربه في العراق وسوريا هي دفاع عن أمن إيران وعن وجود النظام.
ولم يكن كلامه كافياً لتبرير الخسائر، ثم عاد سليماني يفاخر بأن الحرب للدفاع عن الجمهورية الاسلامية ونظام ولاية الفقيه لم تعد تكلف إيران الكثير. عمل على تأليف ميليشيات من الفقراء اللاجئين على أرض إيران من أفغان وباكستانيين، ومن داخل العراق، ونحو عشرين ألف لبناني من حزب الله. كان عدد العسكريين الإيرانيين بضعة آلاف قليلة، يقومون بعمليات التدريب والمخابرات والقيادة. وقال مفاخراً بأنه لم يكلف الخزينة الإيرانية كثيراً. كلّف إيران بضعة مليارات وحول معظم الفاتورة على العراق الذي أجبره على تمويل الحرب الإيرانية. دفع العراقيون فواتير الميليشيات المقاتلة، وفوقها التزامات النظام الإيراني السنوية تجاه حزب الله اللبناني، وحماس في غزة. إلا أنه بعد أن انحدرت أسعار البترول امتنع العراق عن دفع معظمها.
إيران دولة من تسعين مليون نسمة تقريباً، تعيش بشكل أساسي من مداخيل النفط، وهي تعاني الآن، مثلها مثل بقية دول المنطقة البترولية. لكن إيران بلد مغلق تماماً، ترزح تحت سلطة تشبه نظامي القدافي وصدام في الماضي، تعتمد على الأجهزة الأمنية، وتقيد استخدامات وسائل الاتصال والتحويلات البنكية، وتفرض غرامات كبيرة على السفر للخارج. لديها شبكة هائلة ومكلفة من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية في أنحاء العالم من ماليزيا إلى الأرجنتين.
نعم، إيران دولة متقدمة في الصناعات العسكرية مقارنة بدول المنطقة، لكنها تبقى من الدول الفقيرة. وهي معضلة الأنظمة المشابهة لها، مثل كوبا وكوريا الشمالية. الاتحاد السوفياتي، ويوغوسلافيا، وألمانيا الشرقية، وليبيا، واليمن الجنوبي، وسوريا، وغيرها، أنظمة انهارت لأنها اهتمت بالتفوق الأمني والعسكري دون غيره، وبقيت دولاً فقيرة في كل الجوانب الأخرى. في إيران الحرس الثوري لا يدير الأمن، بل يتحكم في كل صغيرة وكبيرة، وزاد من نفوذه في عهد الرئيس أحمدي نجاد، حيث استولى حتى على المؤسسات الاقتصادية الكبرى بما فيها مصافي البترول.
من الطبيعي أن يأتي اليوم الذي يواجه النظام في طهران غضب الأغلبية التي ساندت وصوله للحكم قبل أربعين عاماً اعتقاداً منها أن حياتها ستتحسن لكنها ساءت.
أستبعد أن يستطيع الشعب الإيراني تحدي آلة النظام القمعية في الوقت الحاضر، لكنه بانتفاضاته المتقطعة يظهر للعالم صورة مختلفة. جمهورية آية الله قد تكون ميليشياتها وصلت إلى دمشق والموصل وبيروت وغزة وصنعاء، لكنها عاجزة عن بسط سيطرتها على مشهد.
لم يجد الروس طريقة يتعاملون من خلالها مع السوريين غير الاستهانة بمشاعرهم الوطنية، والاستهانة بهم "شعوباً"، ما أن تؤمر بالقدوم إلى قاعدة عسكرهم الذي يقتل أبناءها، حتى تهرول صاغرة إليهم، والسعادة تغمر قلوبها، لأنهم منّوا عليها بلقاء تقرّر فيه أفضل شروط الاستسلام للقائد التاريخي العظيم بشار الأسد، والعودة إلى حضنه كوطن، تعمد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إهانته وإذلاله كل مرة قابله فيها، لكنه دعاهم إلى قاعدته العسكرية التي تقصفهم ليل نهار، كي يراهم وهم يقبلون حذاء من وصفته صحافته ذات يوم "ذيل الكلب"، وقد تجرّدوا من آخر ما لهم من كرامة: رأس مالهم الشخصي والجماعي الذي قاتلوا دفاعاً عنه سبعة أعوام مهلكة، غرقوا خلالها بدمائهم حتى أنوفهم، بيد أنهم لم يتخلوا عنها كي يستسلموا لبشار.
ارتبطت كرامة السوريين، على مر تاريخهم، بوطنيتهم، بشعورهم بالانتماء إلى شعبٍ متحضّرٍ أقام نموذجاً من التعايش الآمن بين أبنائه، بينما ضجّت منطقته بصراعاتٍ وتمزّقات عنيفة، أنتجها عجزها عن صياغة تفاهماتٍ توافقيةٍ حول مشتركاتٍ تتيح لهم العيش الآمن، بعضهم إلى جانب بعضهم الآخر. خلال الزلازل التي تعرّضت لها بلدان شرق أوسطية وعربية، تلاعبت القوى الخارجية بها، كان الشعب السوري يغادر حالة الملل، ويتقدّم نحو حال وطنية مكّنته من تقصير عمر الانتداب، وبناء مؤسسات دولةٍ وطنيةٍ بفضل نظام تعليمي حديث، وأحزاب سياسية مثلت مختلف شرائح السوريين، ونقابات عمالية ومهنية، ونظام قضائي التزم غالباً بالقانون، وصحافةٍ حرةٍ نسبياً ذات مستوى مهني جيد، وحياةٍ نيابيةٍ لم تخلُ من فساد، لكنها لم تخلُ أيضاً من تمثيل ومعارك التزم من خاضوها بمصالح المجتمع، وحكومات ترأس بعضها قادة العمل الوطني ضد الاستعمار.
لعبت الروح الوطنية دوراً جدّياً في رفض دعوة بوتين إلى لقاء ما أسماها "الشعوب السورية". ومن الضروري أن لا يكتفي السوريون اليوم برفض المشاركة في لقاء سوتشي، ورفض الانصياع لقرار موسكو مصادرة إرادتهم وحقهم في اختيار من يريدونه، الذي أكده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كل مرة طالب أحد فيها برحيل الأسد، وواجهه بالقول: للسوريين وحدهم الحق في تقرير مصير الأسد، وها هو نائبه يبلغهم أن على من يقرّر منهم الذهاب إلى سوتشي أن يعلن قبول رئاسته، لأنها ليست موضوع نقاش.
واليوم، وأمام تصاعد المد الوطني، وما تأكد أخيراً، وهو أن روح الوطنيّة ما زالت تخفق في قلوب أبناء شعب سورية المكلوم، وحلم الحرية ما برح يحفز ثورتهم، ولا بد أن يتجسّد، من الآن فصاعداً، في مؤسسةٍ سياسيةٍ تمثيليةٍ ينتخب أعضاؤها مباشرة في أهالي مختلف المناطق، داخل سورية وخارجها، بما في ذلك بعض الخاضعة منها للنظام، فترفد النضال الوطني بدم نقي، آتٍ من شعبٍ تغرّب ممثلوه غير المنتخبين عنه. الآن، حان الوقت لبناء مؤسسةٍ جديدةٍ، تقودهم باقتدار خلال الفترة العصيبة المقبلة، لن يكون في وسع أحد تجاهلها، لأنها منتخبة لتمثل قطاعات الثورة جميعها: من المحامين والقضاة والصحافيين والكتاب والمثقفين والمهندسين والأطباء والمسعفين، والتنسيقيات والمجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والمدرسين والأساتذة الجامعيين، ورجال الدين والأعمال، والتجار، والفصائل المقاتلة، والتنظيمات النسائية والشبابية... إلخ. بعد انتخابهم سيشكل ممثلو الشعب "الهيئة السورية الحرّة" التي ستتولى قيادة العمل الوطني في مختلف مجالاته، على أن يرشح أعضاء "الائتلاف" الحاليون أنفسهم في الدوائر التي يختارونها، وينضوي الناجحون منهم في التشكيل الجديد.
هذه الخطوة المفصلية ستعبر مؤسسياً عن النهوض الوطني الذي بدأنا نعيشه، وسيحدث اتخاذها نقلةً نوعية في العمل الثوري السوري العام، بفضل ممثليه المنتخبين الذين سيتعاملون من موقع قويٍّ مع العالم، كأصحاب شرعية شعبية مماثلة لما تتمتع به حكوماته، وسيصدرون قرارات أكثر استقلالية من كل ما عرفته الثورة، وأكثر قدرة على الإفادة من أنشطة طيف ثوري واسع من المواطنين، سيتخلى عن شكوكه المحقة بشأن تمثيل مؤسسات المعارضة الحالية للثورة التي تدخل مع "سوتشي" في لحظة مفصلية، لن يكون حالها بعدها ما كان عليه قبلها، فإما أن تقودها هيئة منتخبة، تجدّد مؤسساتها وطنياً، أو أن يزداد عجزها عن مواجهة التحدّي الروسي إلى أن تحل الهزيمة بالشعب الذي لن ينقذه من الإبادة على يد الأسدية غير ثورة جديدة، يعرف الله وحده إن كانت ستأتي، ومتى.
كان العالم، قبل 31 سبتمبر/ أيلول 2015، يتعاطى مع روسيا بوصفها قوة إقليمية متنمرة، تسعى للبروز في محيطها والمشاكسة على أدوار اللاعبين الكبار وحضورهم، أميركا واوروبا، قرب حدودها، وقد وصل حال الاستخفاف بها إلى درجة أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجد غضاضةً في توصيف روسيا دولة إقليمية، في إشارة منه إلى رفض محاولاتها، وربما عروضها، للحصول على تعامل ندّي مع القوى الكبرى.
كانت يوميات الحرب السورية، على الرغم من كارثيتها، فرصة لتندّر إعلام الغرب وساسته على أداء روسيا العسكري، وأدواتها الحربية في سورية، فقد امتلأت صفحات الكاريكاتير في الصحف الغربية بصور حاملة الطائرات الروسية ذات الدخان الأسود، كما تهكّمت التقارير على صواريخ روسيا المجنّحة التي سقطت في إيران، فضلاً عن الغمز واللمز من عشوائية السلاح الروسي.
وحدهم السوريون الذين كانوا يعيشون بدمهم ولحمهم تحت حمم الأسلحة الروسية كانوا يدركون مدى سماجة التندّر الغربي، ليس لأن الأسلحة الروسية دقيقةٌ بمقدار أكبر مما تصوّره النكتة الغربية، بل لأنها كثيفة وغزيرة، وإن تخطئ واحدة فالأخرى تصيب الهدف. ولأن التندر الغربي شكّل محرّكاً للروس، كي يثبتوا للغرب أنهم قادرون على التدمير والقتل إلى أقصى درجة، ما دام الغرب قد حصر تحدّيه روسيا بقدرتها على هزيمة السوريين.
في سبيل ذلك، كان على روسيا أن تحضر الجيوش الجرّارة إلى سورية، وقد اعترف وزير دفاعها باشتراك حوالي خمسين ألف جندي روسي في الحرب على السوريين. ويعرف الغرب أن الروس يكذبون حتى بعدد الجنود الذين يشتركون في المناورات، ففي وقتٍ يعلنون فيه عن اشتراك عشرة آلاف جندي، تؤكد مراكز الرصد الغربية أن العدد يصل إلى حدود مائة ألف جندي، هذا على مستوى مناورات، فكيف عندما يتعلق الأمر بالحروب؟ ناهيك عن أكثر من مئتي ألف مقاتل أمنتهم إيران، ومثلهم جنّدهم نظام الأسد.
على المستوى التسليحي، استخدمت روسيا كامل طقم أسلحتها، الإستراتيجية والتقليدية، باستثناء النووي، ربما بأحجامه الكبيرة، ذلك أن الأيام ربما تكشف أن روسيا قد استخدمت نماذج معينة ومخففة من هذا السلاح، إذ في حالات كثيرة، كانت أعداد القتلى نتيجة الغارات الروسية وحجم الدمار يفوق طاقة الأسلحة التقليدية على صناعته، كما حصل في مناطق في إدلب وحلب.
ولم تقصّر روسيا في استخدام طاقتها الدبلوماسية إلى أبعد الحدود، قوّة رديفة لآلتها العسكرية في سورية، سواء عبر "الفيتوهات" التي رفعتها في مجلس الأمن لمواجهة أي محاولةٍ لوقف الحرب، وتعطيل ألة القتل وضبطها، أو من خلال توضيب التسويات والتفاهمات مع الدول الإقليمية، لمحاصرة السوريين الثائرين، وقطع طرق إمدادهم، وكان ذلك كله يجري فيما الغرب كان لا يزال مستلقياً على ظهره من الضحك، على ما سماها المغامرة الروسية في سورية!
لم يطل الوقت حتى بدأت الصور تكشف حجم الدمار الرهيب الذي خلفته آلة الحرب الروسية. أجزاء من مدن مسحت من الخريطة، ومساحات واسعة من الأرياف كانت موجودة يوما، وقد كان مقدّراً أن تشكل هذه الصور والمآسي الإنسانية التي رافقتها صدمة في الغرب الذي يدّعي أنه يقف إلى جانب حق الشعوب في الحرية والحياة، غير أن المفاجأة أن هذه الصور شكلت أوراق اعتماد روسيا للعودة إلى مرتبة القوّة العظمى، وموافقة الغرب على أنها لم تعد قوّة إقليمية غير مسؤولة!.
يذكّرنا هذا المنطق بروايات الحرافيش والفتوات في الأدب العربي، وخصوصا روايات نجيب محفوظ، حيث تستلزم ترقية شخصٍ من الطبقة الدنيا إلى النخبة القريبة من الفتوّة، أو وضعه على السكّة التي توصل إلى منصب الفتوّة، قيامه بعملية قتل أحد الأشخاص اختبارا ودليلا على قوّته وقساوة قلبه وتوحّشه. وغالباً ما تكون الضحية امرأة حرّة لا ترضخ لرغبات الفتوّة، أو رجلا نظيف الكف يعتبره الفتوّة منافساً محتملاً، بمعنى أن الضحايا هم ممثلو الخير والجمال والحق في المجتمع.
وضع الغرب روسيا أمام هذا الاختبار السوري الرهيب، وحفّزها على القيام به، وجعل سورية عنوانا لمساعي روسيا للعودة إلى مرتبة القوى العظمى، وكأنه يقول، دمّروا سورية، وستفتح لكم أبواب نادي القوى العظمى، إذ ليس لدى روسيا من أرصدةٍ تؤهلها لشغل ذلك الموقع. حتى على الصعيد الدبلوماسي، أتيحت لروسيا الفرصة لاستعراض مهارات دبلوماسيين لم يكن يسمع بهم العالم، ولا أحد يعرفهم اليوم خارج حالات التشاطر على مفاوضي المعارضة السورية.
وعكس ما حاول ساسة الغرب إيهام العالم به من أنهم كانوا ينتظرون روسيا على الضفة الأخرى، تتوسلهم لإنقاذها، فقد كانوا يعرفون مدى ثقل يدها العسكرية، ويؤكد على ذلك وصف وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، روسيا بأنها "منغلقة وقبيحة وذات نزعة حربية ومناهضة للديمقراطية، مثل إسبرطة".
ثمّة مؤشرات كثيرة على قبول الغرب روسيا في موقع القوة العظمى، بعد إنجاز مهمتها السورية. وحدهم السوريون يعرفون كيف استحقت روسيا هذه الرتبة، والثمن الذي دفعوه لتظهير تلك العظمة.
خرج اجتماع أستانة، في نسخته الثامنة، متناغماً مع ما يخطط له ساسة النظام الروسي حيال القضية السورية، حيث حدّد البيان الخامتي للاجتماع يومي 29 و30 يناير/ كانون الثاني موعداً لعقد مؤتمر سوتشي، تحت مسمى "الحوار الوطني السوري"، الذي سيحاول فيه الساسة الروس وضع كل ضغوطهم على المشاركين فيه، من أجل أن تأتي مخرجاته متماهيةً مع رؤيتهم لترسيخ وجودهم الاحتلالي في سورية الذي لا يرون متحققاً مستداماً له إلّا من خلال إعادة إنتاج نظام الأسد المجرم.
ولم يتمادَ الروس في المضي لما يخططونه في سورية إلا بعد تطويع المعارضة، وتمييع مواقفها، حيث جرى تنازل كبير من المعارضة في مؤتمر الرياض 2، عبر ضم ممثلين عن منصتي موسكو والقاهرة، وخصوصاً منصة موسكو التي يعتبر رئيسها أن ليس بين السوريين، بمن فيهم النظام، سوى خصومة سياسية، على الرغم من كل ما ارتكبه النظام من جرائم بشعة بحق غالبية السوريين.
والأهم أن ما جرى في مؤتمر الرياض 2 كان تجاوزاً للهيئة العليا للتفاوض، ولم يشترك أي من السوريين في إعداده أو التحضير له، وعقد تحت ضغوط إقليمية ودولية، وكأن السوريين ليس لهم أطر سياسية ولا مرجعيات. وكان المفترض أن تجتمع الهيئة العليا للتفاوض السابقة، وتقدم جردة حسابٍ لعملها، وتحاسب على تقصيرها إن وجد.
ويكرّر الروس، في أيامنا هذه، الأمر نفسه في التحضير لمؤتمر سوتشي، حيث لم يجر التشاور مع أي طرفٍ سوري، ولم تستشر مؤسسات المعارضة وتشكيلاتها، وغاية مؤتمرهم هي تصوير الصراع في سورية، وكأنه صراع أهلي أو نزاع بين أطراف سورية، بما يعني أن ليس هناك ثورة شعب ضد نظام مستبد. لذلك سمّوه مؤتمر الشعوب السورية في البداية، فالخلاف هو بين شعوب سورية، أي أنه نزاع أهلي، والنظام جزء منه، لذلك يجب جمع كل الأطراف والطوائف والشعوب، من أجل تقديم مسوغات حل روسي، وتظهر روسيا كأنها تريد حل هذا النزاع الأهلي، بإصلاحات أو تعديلات دستورية وانتخابات يفوز بها الأسد. وبالتالي، فإنه مؤتمر سيعقد لتشويه القضية السورية وتصفيتها، بوصفها قضيةً عادلةً لشعب يريد الخلاص من الاستبداد، بالقفز فوق قرارات وبيانات دولية وأممية، وخصوصاً بيان جنيف 1 والقرارين الأممين 2118 و2245، تدعو إلى انتقال سياسي يفكّك النظام القائم، وينقل البلاد إلى ضفة التعدّدية السياسية، وهو ما يحاول النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون إفشاله بكل السبل، بما في ذلك ارتكاب المجازر وعدم إطلاق المعتقلين، واستمرار حصار مئات آلاف المدنيين، خصوصاً في الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، والهجوم على محافظة إدلب، بالتزامن مع هجوم تنظيم داعش عليها.
وسيدعى إلى مؤتمر سوتشي أعضاء من المعارضة ومن النظام وشخصيات صنعتها أجهزة الاستخبارات الروسية وسواها، والغاية الأساسية إيجاد حل روسي، وضرب مسار جنيف التفاوضي، ثم تحويل مخرجات المؤتمر إلى الأمم المتحدة، لتسويغها في مسار جنيف وإعطائها الشرعية. وللأسف هناك شخصيات تدّعي الوقوف في صف المعارضة ستهرول للمشاركة في سوتشي، ولا شك في أن النظام الروسي قادر على جمع متنطعين كثيرين، لأخذ أدوار، والتصدّر الشخصاني.
ويبدو أن مواقف الدول الغربية غير مطمئنة، على الرغم من أن الأطراف التي كانت تدعم المعارضة لا تدعم سوتشي علناً. لكن إذا هرول معارضون سوريون إلى سوتشي، فإنها لن تدافع عن الشعب السوري، على الرغم من أنها ستقول إعلامياً تعارض فيه سوتشي، لكنها في النهاية ستغض النظر عمّا قام به الروس.
ويكشف واقع الحال أن ما وصلنا إليه سببه الأساس أن أطر المعارضة، وتشكيلاتها السياسية، كانت تفتقر إلى العمل السياسي المخطط والمنظم، وكانت تتعامل، خلال الست سنوات السابقة، وفق منطق ردود الأفعال، حيث لم تقم بأي فعل يذكر، ولم تبادر، فلم يكن لديها لا خطط أو استراتيجيات. وبالتالي ليس أمام القوى الحية السورية سوى إمكانية توحيد الجهود لتعزيز العمل على تنظيم مقاومة شعبية طويلة المدى، لها مظلة سياسية، من أجل عدم التفريط بمطالب الشعب السوري وطموحاته، والدفاع عنها، حتى ولو نجح النظام الروسي بتمرير حل صوري لن يدوم طويلاً. وهنا تبرز ضرورة الاتصال بالناس على الأرض، والاتصال بالدول التي يمكن أن تساهم في هذا المجال، من أجل محاولة قلب الطاولة على الساسة الروس، والدعوة التي أطلقها الدكتور برهان غليون إلى عقد مؤتمر حوار وطني سوري بين كل أطياف الشعب السوري، بمساعدة الأمم المتحدة وإشرافها، والتشاور مع الدول غير المطمئنة لما سيفعله النظام الروسي في سوتشي، وخصوصاً الدول الغربية والعربية، التي يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً إذا رأت قيام محاولة جديدة وجدّية، للوقوف ضد مخططات الروس. وهذا يعتمد على التنظيم والمبادرة وإيصال الفكرة إلى عموم السوريين، وقطع الطريق على مؤتمر سوتشي، بعقد مؤتمرٍ ينظمه السوريون، وتبيان أن مؤتمر سوتشي ينظمه طرفٌ لا يخفي دعمه لنظام الأسد المجرم، عسكرياً وسياسياً، ولا يتوقف عن ذلك، بهدف تثبيت النظام وتلميعه.
لدى السوريين إمكانية لتشكيل تيار واسع يبلور مشروعاً سورياً جامعاً ومقاوماً، يمكنه قطع الطريق على سوتشي، ولا يكتفي بالقول إننا لن نذهب إلى سوتشي، بل يعمل على إيجاد بديل، عبر التواصل مع السوريين في الداخل وفي المهجر لبلورة الفكرة، والعمل على عقد مؤتمر حوار وطني بأيدي السوريين. وهدف هذه الطريق عدم السماح للساسة الروس كي يملوا ما يريدون على السوريين، من حيث قوائم المدعوين والمخرجات والمقرّرات.
ويمكن إحباط المخطط الروسي، وإعادة بعث المعارضة وإحيائها، عندما يحس السوريون أنه يمكنهم الأخذ بزمام الأمور، لا أن ينتظروا قرارات الأصدقاء والأعداء، وأن لا ينسوا أن الساسة الروس لم يخفوا عداءهم للمعارضة، خصوصاً وأنهم اشترطوا على من يحضر سوتشي التخلي عن مطلب رحيل الأسد، وعدم طرحه بتاتاً في المؤتمر، بل وراحوا يطالبون المعارضة بعدم استخدام مصطلح النظام السوري، بل الحكومة السورية، أي أن النظام ليس طرفاً بالنسبة إليهم بل حكومة مشروعة. وهذا كله من أجل تثبيت الاحتلال الروسي عبر القواعد العسكرية البرية والبحرية التي يرديون إبقاءها على الأرض السورية 49 سنة، قابلة للتمديد بتواطؤ من النظام. وبالتالي كيف يمكن الوثوق بالروس الذين لم يدينوا، ولو مرة، عنف النظام وعمليات القتل والتعذيب الوحشي التي ارتكبها بحق السوريين؟ وكيف يمكن أن يكون هناك اعتقاد لدى من يسمّون أنفسهم المعارضة بأن هدف سوتشي هو إيجاد حل سياسي، وليس إعادة تلميع النظام وتأهيله، وخصوصاً الأسد، بوصفه الضمانة لاستمرار آلة القمع والقتل؟
ويمكن القول إن الكرة اليوم في ملعب السوريين أنفسهم، والأمر يتوقف على مدى قدرتهم على كسر مخططات الروس والإيرانيين، من خلال محورة العمل الوطني في المرحلة الراهنة حول ضرورة إسقاط "سوتشي" أولاً.
لم يعد خافياً أن روسيا تراجعت عن بيان جنيف 1 الذي صاغته يد روسية أصلاً، كما صاغت القرارات الدولية المتلاحقة التي باتت الملاذ القانوني الوحيد للسوريين الذين باتت مطالبهم تنفيذ قرارات مجلس الأمن راضين بها، رغم أنها تدعوهم إلى شراكة مع النظام الذي طالبوا بإسقاطه، وكان مطلبهم الأهم أن يحاسب المجرمون وأن ينتحى الأسد بوصفه مسؤولاً عن الدمار الشامل الذي حل بسوريا، لكن المجتمع الدولي بدا غير مهتم بتنفيذ قراراته، مكتفياً بتصريحات إدانة فقدت حضورها العملي، بل إن بعض هذه التصريحات تغير بعدها الأخلاقي حين وجد بعض القادة أن عدوهم هو «داعش» فقط، وليس الأسد الذي يقتل شعبه، وفهم السوريون من هذه التصريحات أنها تفويض للأسد بقتل من يريد ما دام المقتول سورياً.
ونفهم أن المجتمع الدولي بعظمة حضوره بات يخاف من المارد الروسي الذي صعد عسكرياً على مبدأ عبر عنه الشاعر الجاهلي ( خلا لك الجو فبيضي واصفري )، فأمام التردد الأميركي تمكنت روسيا من إنشاء سلسلة قواعد عسكرية ضخمة في سوريا، وبات لها موقع متقدم على شاطئ المتوسط، وأمسكت بقبضة فولاذية صلبة على عنق سوريا، ومنحت حضورها شرعية (غير قانونية) عبر موافقة الأسد الذي فقد شرعيته بعد سلسة الجرائم التي ارتكبها، لكنه منح روسيا وإيران امتيازات وصلت إلى حد التخلي الكامل عن السيادة الوطنية، وقد لاحظ العالم كله هذا التخلي في طريقة استقبال بوتين له في قاعدة حميميم التي باتت روسية.
وإزاء تنامي شعور روسيا بنشوة الانتصار على الشعب السوري المنتفض، بدأت تعلن أن بيان جنيف 1 صار قديماً، وهي بذلك تنسف الرؤية الدولية التي استندت إليها قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية السورية، ولقد مارست روسيا ضغوطاً لتفكيك المعارضة السورية، وأصرت على دخول ممثلين لها سمتهم ( منصة موسكو) لأداء دور في نسف بيان جنيف، وتم ضمهم إلى هيئة التفاوض الجديدة، لكنها فوجئت بأن السوريين يتمسكون بحقوق شعبهم، وأن المملكة العربية السعودية لم تمارس ضغطاً عليهم لإجبارهم على القول ببقاء الأسد رئيساً للمرحة الانتقالية، حيث ظهر بيان الرياض 2 متماهياً مع بيان الرياض 1، وقال أشقاؤنا السعوديون بوضوح ( إنهم يدعمون خيارات الشعب السوري )، ولئن كانت الدول العربية الداعمة لهذا الشعب تريد أن ترى حلاً سريعاً للقضية السورية فإنها لا تقبل أن يظلم هذا الشعب وأن يقهر ويجر مرغماً إلى معتقل كبير سيعيد النظام إنتاجه.
وقد أدركت روسيا أن ما تطلبه من تركيع الشعب السوري هو مطلب عسير، فلم يعد لدى السوريين ما يخسرونه، وقد بات 15 مليوناً منهم مشردين بلا وطن، تكتظ بهم مخيمات اللجوء، أو هم لاجئون في أوروبا وسواها من أصقاع الأرض، أو هم ضيوف مؤقتون في الدول العربية والصديقة، وهم لا يريدون أن يكونوا عبئاً على هذه الدول، لكنهم يدركون أن العودة إلى سوريا عبر تقبيل «البوط» العسكري، كما اشترط النظام، تعني دخولهم في إذلال مريع، وأنهم سيلاقون من العقاب والتعذيب ما لا يطاق، ويدركون كذلك أن أي حل يعيد إنتاج النظام سيعني استمرار الصراع لمئة عام على الأقل، بحيث تبقى سورية ساحة دم ودمار، وستكون بالرغم عنها ساحة إنتاج جديد للإرهاب.
وقد تقصد الروس إفشال مفاوضات جنيف حين لم يضغطوا على النظام للقبول بالقرارات الدولية، وقد اشترط وفد النظام في الجولة الثامنة أن تتراجع المعارضة عن بيان الرياض 2، وعن أي حديث حول رحيل الأسد، مع أن وفد النظام ذاته لم يعلن مثل هذا الموقف في الجولات السابقة رغم كون بيان الرياض1 أعلى سقفاً وأوضح تعبيراً عن موقف المعارضة من مستقبل الأسد، فإن روسيا أرادت أن تنقل مفاوضات جنيف إلى سوتشي، وبدأت تحاول إقناع السوريين بأن سوتشي رديف لجنيف، وأنها تريد مظلة الأمم المتحدة، وكان جواب المعارضة (إذا كانت سوتشي متابعة لمفاوضات جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة فما الداعي إذن لعقد مؤتمر سوتشي؟)، لكن روسيا تريد تهميش وفد المعارضة وهيئة التفاوض عبر تظاهرة سياسية تحشد لها ألفاً وسبعمائة شخص يضيع وفد التفاوض بينهم، وجل المدعوين باسم المعارضة هم ممن تم تصنيعهم في الداخل، وسيكون هدفهم في سوتشي ترسيخ النظام والدفاع عن بقاء الأسد رئيساً، وستكون المفارقة أنهم يحسبون على المعارضة.
ويدرك العالم كله أن سوريا لن تصل إلى الاستقرار ولن يتوقف شلال الدم فيها، مادام نظام الديكتاتورية قائماً فيها، وما دامت إيران تحقق طموحها التوسعي الفارسي القديم، وما دامت روسيا تبحث عن حضور عسكري دولي على حساب حقوق الشعب السوري، ومادام المجتمع الدولي يتخلى عن دفاعه عن حقوق الإنسان وعن الشعوب التي تطمح للحرية والديموقراطية.
يقيّم وفد المعارضة السورية أداءه في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، التي لم تحدث أصلاً، وفقاً لمعايير خاصّة به، إذ يعلن نجاحه، وفق بيان له، في تحليه بالمرونة والانسجام والفاعلية، وفي الترحيب والاهتمام الدوليين به، والذي انعكس بلقاءات واتصالات مع مسؤولين عرب وغربيين، ودعوات لرئيسه إلى زيارة عدد من دول المنطقة والعالم. ورغم أهمية النظرة الإيجابية التي يسبغها الوفد على ذاته، إلا أن الوضع يتطلب طرح بعض الأسئلة المنطقية، على ضوء هذا التقييم. فمثلاً، ما هو فهم المعارضة، التي يمثلها هذا الوفد، للعملية التفاوضية؟ وهل يتمثل النجاح بالذهاب إلى المفاوضات فقط من دون النظر إلى الأهداف المحددة لكل جولة، والتي يفترض على أساسها أن يتم الإعلان عن جولات لاحقة؟ وهل الوفدان المعنيان بالصراع، أي النظام والمعارضة، يملكان مفاتيح الحل حقاً، أو هل المعارضة، على الأقل، تملك من أوراق القوة والضغط ما يمكّنها من فرض الحل الذي تريده ولو بالحدود الدنيا؟ وأخيراً هل العملية التفاوضية هي مجرد إجراء شكلي، أي لتحقيق صورة إعلامية، حتى مع غياب الوفد المقابل؟ أو هل يكفي ذلك لإعلان الوصول إلى نتائج ترفع معنويات من يحضره، وتجعله يعتبر أداءه أفضل من غيره أو أنه أدى مهمته وأن كل شيء على ما يرام؟
وبعيداً من عقلية التشكيك والاتهام وربما التخوين أحياناً، التي باتت تسود الشارع السوري المعارض، بسبب انضمام أطراف متباينة في رؤيتها للحل السوري إلى وفد التفاوض في جنيف، فإننا إزاء أسئلة حول مجمل الجولات وليس آخرها فقط، منها:
- لماذا تأخذ الدعوة الأممية للمعارضة شكل الإلزام، بينما هي عملية اختيارية غير ملزمة لوفد النظام، الذي لم يف بأي من بنود قرار مجلس الأمن 2254، بل ولا حتى القرار القاضي بإنهاء ترسانته الكيماوية، بعد أن تبين استخدامه إياها أكثر من مرة بعد صدور القرار 2118 (2013)، وبما يشمل عدم الالتزام بإطلاق سراح المعتقلين وتمكين قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المناطق المحاصرة؟ وهنا لا تكفي الإجابة بأن المعارضة تريد أن تأخذ دور الطرف الحريص على الحل السياسي الذي يجري اقراره في المسار التفاوضي في جنيف، لأن ذلك يتطلب وجود «الشريك» المتفاعل، أو الحريص، في العملية التفاوضية، كما يتطلب أن تكون موازين القوى الدافعة للطرفين متساوية، ولو نسبيا، لتنتج عن ذلك عملية تفاوضية حقيقية تصيغ حلاً عادلاً، وهو غير متوفر.
- ما هي أدوات المعارضة أصلاً لفرض عملية تفاوضية داخل أروقة جنيف، دون سواها، في ظل غياب قوة مناسبة تساندها، وتعادل القوة الروسية التي تساند النظام السوري، ومعها إيران وميلشياتها، التي تزداد على حساب تناقص أصدقاء المعارضة، ما يبرر للنظام استمراءه في تعطيل مسار جنيف، منذ الجولة الثانية وحتى الثامنة، وربما يستمر الأمر لاحقاً.
- ما هو المقصود ببيان الوفد المعارض، عن نتائج الجولة الثامنة، بأن الأطراف الدولية والوسيط الدولي لم يكونوا مستعدين لتوحيد المعارضة وفدها وتقديمها هذه «المرونة»؟ فهل يحتاج الحديث مع الوسيط الدولي إلى مرونة أكثر من تبني معظم نقاطه الـ 12 في بيان المعارضة؟ وهل الأطراف الدولية التي فرضت على المعارضة توحيد وفدها لا تزال تريد المزيد من المرونة، مقابل عجزها هي عن إلزام النظام بتنفيذ القرارات الأممية ومنها القرار 2254، الذي جاء بناء على رغبة داعمتيه روسيا وإيران أساساً؟
- هل حقاً هناك مجال للمقارنة بين السيئ والأسوأ في مسار الجولات الثماني التي حدثت دون الوصول إلى أي عملية تفاوضية يمكن البناء عليها؟
- لماذا تستمر المعارضة في القفز فوق الواقع والتملّص من مناقشة القضايا الجوهرية بين بعضها بعضاً، قبل أن تستمر في جولات كمسلسلات مكسيكية تحت مسمى تفاوضية؟
على ذلك من المفيد التذكير أن القضيتين غير المتفق عليهما بين المعارضة داخل الوفد الموحد هما المختلف عليهما مع وفد النظام: قضية مصير الأسد، والقضية الكردية، وكل طرف داخل الوفد يرى أن مناقشة هاتين القضيتين الخلافيتين مبعث تفريق، لذلك يتم تجاوز نقاشهما من مبدأ دفع المشكلة إلى لحظة حسم بعوامل غير ذاتية. فمصير الأسد تراه منصة موسكو شرطاً يفشل التفاوض، وهو وجهة نظر غير ملزمة لأعضاء من الوفد الواحد، بينما يراه النظام شرطاً مرفوضاً من شأنه أن يبقي مسار جنيف في حالة ركود، ومقتصراً على مشاورات ولقاءات بين كل من الوفدين مع الوسيط الدولي الحالي واللاحق أيضاً.
وفي الوقت الذي حسم النظام موقفه من القضية الكردية، بصورة سلبية، سواء في تسمية الجمهورية العربية السورية، أو عدم الاعتراف بالحقوق القومية لأي مكون سوري ومنهم الكرد، استمرت المعارضة بتجاهل نقاش الأمر في شكل جدي، فالمجلس الكردي يطالب بدولة كونفدرالية، وهو ما تضمنته وثيقتهم الموقعة مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عام 2013، وهي الوثيقة التي تؤكد أن الائتلاف سبق الرئيس الروسي بوتين بتقسيم الشعب السوري إلى شعوب ومنها الشعب الكردي، واختار الوفد أيضاً الاستمرار بتجاهل المناقشة الفعالة للوصول إلى تسوية يمكن أن تقنع الكرد بمشروع وطني متكامل، يضمن الحفاظ على حقوقهم، في دولة مواطنين ديموقراطية تعددية، ما يعني استمرار التعاطي بتأجيل الأولويات بدل حلها، قبل أن نصل إلى ما سبق من انقسامات وانسحابات، تؤكد أن وحدة الوفد قابلة للتصدع، وحدث ذلك فعلياً في نهاية الجولة الخامسة التي عقدت في آذار (مارس) 2017.
هكذا تستمر المعارضة في محاولة تقديم نفسها كشريك متناغم في عملية تفاوضية أقرتها الأمم المتحدة، على رغم أن التجربة أثبتت أن هذه المرونة ليست كافية لإقناع النظام بالجلوس إلى طاولة التفاوض المباشر معها، وهي طالما بدأت بالتفاخر بها فالمطلوب منها الاستمرار، حتى إعلان النظام موافقته عليها، وهو لن يفعل ذلك قبل اقتلاع آخر أظافر الرافضين بقاءه في السلطة. وكل ذلك يفيد بأن خيارات المعارضة اليوم تضيق أكثر وأكثر، مع غضب الشارع السوري المعارض حيال هذه «المرونة»، التي قد تؤدي بالوفد أو بعض مكوناته إلى التعاطي مع مؤتمر سوتشي، الذي تدعو إليه موسكو كأحد صور المرونة المطلوبة منه دولياً.
هذا هو المشهد السوري اليوم الذي رسمته روسيا بجهد واضح، خلال السنوات الثلاث الماضية منذ بدء تدخّلها العسكري رسمياً في الصراع السوري، إذ تنتقل الصورة من نظام مسلوب الإرادة السيادية على أرضه، إلى معارضة منقسمة على ذاتها بين مفاوضات جنيف وآستانة وسوتشي القادم، وفاقدة أوراق القوة، ومع وفد موحد لا يحمل أي مشروع موحد وواضح يدافع عنه، مروراً بوفود متغيّرة في مسار آستانة، تحمل أجندة من يصدر قرار تشكيلها، ما يجعل قرار المعارضة المعترف بها أممياً (وفد الهيئة العليا للتفاوض)، بمقدار صعوبته، إلا أن من شأنه أن يضيف إلى المشهد السوري مزيداً من التحديات والتعقيدات. ولعل هذا من شأنه أن يحض المعارضة على مراجعة طريقها، وإعادة تشكيل بناها، واستعادة استقلالية قرارها، عبر مؤتمر وطني غير مرتهن النتائج والمرجعيات، يستند الوفد إليه في قبول أو رفض أي عملية تفاوضية، كما يسترشد بمخرجاته في المفاوضات، سواء في جنيف أو غيرها من المدن.
وللتذكير فإن مشاركة بعض أفراد الوفد في أي مؤتمر تساوي مشاركة الوفد بكامل أعضائه، باعتبار أن النتيجة النهائية ستكون ملزمة بنتائجها للجميع، في أي مسار آخر من آستانة إلى جنيف، لذا فلدى الوفد المعارض فرصة لاختبار وحدته، ليس في الشكل، كما حدث خلال تجربته في الجولة الثامنة، ولكن في المضمون هذه المرة، وعندها يمكن للمعارضة أن تعلن هزيمة خوفها من الحقيقة المؤجلة.
يتداول السوريون بيانات وعرائض، منذ عدة أيام، لجمع مليون توقيع ضد مؤتمر سوتشي الذي حددته روسيا في نهاية يناير/ كانون الثاني المقبل، ووافقت معها إيران وتركيا بوصفها الدول الضامنة. وتم الاتفاق الثلاثي على موعد المؤتمر، وترتيباته، في ختام اجتماع أستانة 8 أعماله، الأسبوع الماضي، من دون نتائج على صعيد الإفراج عن المعتقلين لدى النظام السوري، وهم الذين يقارب عددهم 200 ألف، بينهم آلاف النساء والأطفال.
وكانت روسيا قد ضربت موعداً للمؤتمر في بداية الشهر الحالي، لكنها غيرت رأيها بعد أن لمست معارضةً من قوى الثورة والمعارضة. وقي ذلك الوقت، أعطت موسكو للملتقى الذي تريده حاشداً، ويحضره قرابة ألفيْ شخص، اسم "مؤتمر شعوب سورية"، الأمر الذي أثار ردود فعل سلبية وانتقاداتٍ في أوساط السوريين حيال تقسيمهم إلى أمم، وهم شعب واحد، على الرغم من تعدّده الإثني والطائفي. وحين أدركت الأجهزة الروسية أن الحكاية أعقد من حساباتها عادت إلى تغيير الاسم، وتأجيل الموعد من أجل ضمان نجاح المؤتمر. ومع أن أخطاء التحضيرات كثيرة لكنها ليست السبب الرئيسي وراء التأني والتأجيل الذي يعود إلى أخذ موسكو في الحسبان موقف المعارضة الرافض للحضور على أساس الأجندة الروسية لإعادة تعويم الأسد.
وعلى الرغم من أن العرس الروسي يبدو على درجة كبيرة من الاحتفالية، فإن المطلوب، من هذا المؤتمر، أمر واحد لا غير، هو رأس الثورة السورية. ويحاول الروس الضغط بشتى الوسائل من أجل أن تحضر الثورة إلى المؤتمر، وتضع رأسها تحت المقصلة الروسية، وأعلنوا أنهم أنجزوا المهام التي كانت تنتظرهم في سورية، ولم يبق لديهم سوى هذا الهدف الذي يعلو على سواه من حيث الأهمية، ويشكل السبب الأساسي لتدخلهم العسكري المباشر، إلى جانب النظام في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي بدأوا يكشفون أسراره شيئاً فشيئاً، ومن ذلك أن حجم القوات الروسية التي قاتلت من أجل منع النظام من السقوط كانت 50 ألفاً من شتى صنوف الأسلحة الجوية والبرية وحتى البحرية.
تعبّر العرائض والبيانات التي يتم تداولها عن تحرّك ضروري، من أجل حشد الرأي العام السوري لرفض المشاركة في سوتشي، لكن الأمر لا ينتهي عند عدم المشاركة وبقاء الوضع على ما هو عليه، لأن الروس لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وسيكون ردّهم، كالعادة، مزيداً من الغارات والدمار والقتل. وفي هذه الحالة، ليس أمام السوريين سوى طريق واحد، هو أن يستعيدوا الثورة التي فرّطوا بها، وأضاعوها، وانشغلوا عنها بمسائل غير جوهرية، وتشكلت من بين الفصائل إمارات حرب، وأخرى تشتغل لحساب الأطراف الخارجية ومصالحها.
ويجب عدم الاستهانة بالمواقف التي صدرت، حتى الآن، لإسقاط "سوتشي"، أو عقده حسب شروط الثورة والمعارضة لجهة رحيل الأسد، وكلما صلّبت الثورة من موقفها، وشدّت صفوفها كلما تراجع الروس. وكانت المفاجأة، يوم الإثنين الماضي، حين أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن مؤتمر سوتشي سيكون تحت رعاية الأمم المتحدة، وهذا تراجع في التفكير الروسي، لأن مسار سوتشي اخترعه الروس، أصلاً، من أجل إنهاء عملية جنيف باعتبارها مساراً أممياً، ولا تفسير لهذا التحول سوى التحرّك الذي بدأ يوم الأحد، الخامس والعشرين من الشهر الحالي، بإطلاق عرائض وإصدار مواقف تدعو إلى مقاطعة سوتشي.
لا توجد لحظة في حياة السوريين أصعب من لحظة اليوم. ويكاد الموقف يشبه في تعقيده ودقته، إلى حد كبير، البدايات، حين انطلقت الثورة في مارس/ آذار 2011، وكانت شعبيةً، ولم يكن أحد إلى جانبها، وشقّت طريقها بتضحيات الشعب الذي لا يزال واقفاً، ولم ينكسر في كل الأرض السورية من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق.