بعد جنيف وأستانة، وصلنا إلى سوتشي، وكأن الأمر يتعلق بقطار يسير نحو موسكو، للقول إن روسيا هي صاحبة القرار في سورية، بعد أن استطاعت "الانتصار على الإرهاب". بمعنى أن روسيا تريد تحقيق "الانتصار السياسي"، بعد أن حققت "الانتصار العسكري"، هكذا اعتقدت، وتريد ترجمة هذا "الانتصار العسكري" إلى "انتصار سياسي".
ماذا يعني ذلك؟ من تابع مفاوضات جنيف، والموقف من مبادئ "جنيف 1"، يصل إلى "أسس" تحكم المنظور الروسي، أولها أن "جنيف 1" أتى في مرحلة قديمة، لم تكن روسيا فيها قد وطّدت وجودها العسكري في سورية، وبالتالي بات من الماضي. لهذا جرت المراوغة عبر قرارات أخرى، آخرها قرار مجلس الأمن 2254، حيث كانت المرحلة الانتقالية التي ترد في بيان "جنيف 1" تختفي خلف "الوقائع" على الأرض. وثانياً أن عدم طرح مصير الأسد الذي رافق المرحلة الأولى تمّ تجاوزه، وأصبح واضحاً أن روسيا تنطلق من أن الحل يجب أن يتحقّق في ظل الأسد، وبتوقيعه.
ليس ذلك كله مستغرباً، فروسيا لا تعتبر ما حدث في سورية ثورة، بل تمرّدا ثوريا يجب أن يتدمَّر، وهو ما صرّح به وزير الدفاع الروسي، حين قال إن بلاده كسرت موجة الثورات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولهذا راوغت طوال سنوات من المفاوضات، إلى أن وصلت إلى ما اعتقدت أنه انتصار يسمح بفرض شروطها، القائمة فعلياً على قبول من يعترف بالهزيمة، ويقبل أن يعود "تحت بسطار" النظام. هي هنا لا تريد أن يظهر أن هناك ثورة فرضت التوصّل إلى "حل وسط"، بل تريد أن تقول إن الثورة هُزمت، وعلى من يريد أن يلتحق بالنظام.
سوتشي هي المكان الذي يُفتح لمن يريد كي يلتحق بالنظام. لكن روسيا تعمل على أن يكون مؤتمر سوتشي تجمعا هلاميا، طائفيا ودينيا وإثنيا وقبليا، مع بعض الألوان السياسية، وأن ينطلق من مبدأ بقاء الأسد، وأن الهدف هو تعديل الدستور، أو صياغة دستور جديد مشابه، أو حتى أسوأ كالذي قدّموه. لهذا، هي تدعو من يوافق على منظورها هذا، وتلمّ "ممثلين" عن الطوائف والأديان والقبائل والإثنيات، الذين يقبلون بما تريد. ولا بأس من حضور معارضين وأحزاب كلها "في حضن النظام"، أو "حضن موسكو"، أو حتى من قبل بالشروط الروسية، أو يُفرض عليه من تركيا والسعودية.
إنه كرنفال احتفالي، لتكريس "انتصار" روسيا الذي يتحقق بفرض الحل الذي تقرّره، والذي يقوم على بقاء الأسد ونظامه، في مراهنةٍ على أن تجري انتخاباتٌ على أمل أن ينجح غيره في ظل سيطرته على الأجهزة الأمنية، وقدرته على التزوير، كما فعل في كل المرات السابقة. ومن ثم يُطوى الأمر، ويستقرّ الوضع في ظل وجودٍ دائم للجيش الروسي. أي في ظل الاحتلال الروسي، هكذا بكل الوضوح.
نشوة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تدفعه إلى السُّكْر، فقد "انتصر"، وعليه أن يفرض الحل الذي يأتي بعد "الانتصار". لكن ماذا لو كانت سورية هي أفغانستان جديدة؟ لا شك في أن الحل الروسي لا يقود سوى إلى ذلك، حيث إنه لا يحقق الاستقرار مطلقاً. وكما أشرت مراراً، حتى وإنْ وافقت كل المعارضة، حيث إن إنهاء الصراع يفترض تحقيق بعضٍ مما طالب به الشعب، وإلا لا حلّ ولا يحزنون. حيث لن يثق أحد من الشعب الذي ثار، والذي قُصف وتعرّض للقتل والتهجير، والحصار المميت والاعتقال الإجرامي، بأن يقبل بما جرى، أو يقبل تسليم السلاح، أو يطمئن للعودة.
ذلك كله لا يفهمه الروس، لأنهم لا يفهمون معنى الثورة، ولا يفهمون معنى أن يكون الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهم يرتعبون من الثورة، حتى أنهم يخجلون من ثورة أكتوبر التي ألهمت العالم.
سوتشي هي الصناعة الروسية لـ "سورية الجديدة"، سورية بشار الأسد. لكن سورية الثورة ستكون "أفغانسان جديدة" لروسيا الإمبريالية.
على الرغم من الهيمنة الروسية الظاهرة على الاجتماعات العسكرية والسياسية بشأن الملف السوري في أستانة وسوتشي، وحرصها على السيطرة على إيقاع اجتماعات جنيف، فإن فرض تصورها للحل في سورية ليس محسوما في ضوء الهوة الواسعة بين هدفها الاستراتيجي وقدراتها الواقعية، فالهدف الاستراتيجي الذي تعمل، بكل طاقتها، لتحقيقه هو حجز موقع قطب دولي ندٍّ للولايات المتحدة الأميركية؛ ومعالجة الجرح النفسي الذي ترتب على انهيار الاتحاد السوفييتي، والفوضى والضياع خلال فترة حكم بوريس يلتسين، بضمان أمنها الوطني. وهذا يحتاج قدراتٍ، وخوض صراعات كبيرة ومتنوعة، بدءا بكسر الطوق الذي يحيط بها (اقترب حلف الناتو من حدودها الغربية، شبكة الدرع الصاروخية الأميركية التي نشرت أجزاء منه في تركيا ورومانيا وبولندا، شبكة صواريخ "ثاد" المتطوّرة التي نشرتها الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، الصواريخ النووية المتوسطة في أوروبا واليابان)، وتحقيق توازن عسكري مع خصومها الإقليميين والدوليين، برفع قدراتها العسكرية البرية والجوية والنووية كمّا ونوعا، وضعت لنفسها هدفا تحديث 60% من أسلحتها، بما في ذلك الأسلحة النووية، وهذا يتطلب ضخ أموال كبيرة، والعمل على حماية حصتها في استثمارات دول الجوار الجغرافي التي بدأت الصين بالسيطرة عليها وامتصاص فوائضها.
تحدّيات كبيرة وصعبة في ضوء تنوعها واتساعها وضخامتها، بالقياس إلى إمكاناتها وإمكانات الخصوم المباشرين والمحتملين. ولم يكن ردها الرئيس؛ عبر الانخراط في تكتلات وتجمعات لتثقيل أوراقها في مواجهة الثقل الغربي السياسي والاقتصادي (منظمة شنغهاي، بريكس، الاتحاد الأوراسي)، تصعيدها العسكري في وجه التمدّد الغربي في دول أوروبا الشرقية (الهجوم على جورجيا وفصل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها، الضغط على دول البلطيق، التدخل في أوكرانيا وضم جزيرة القرم ودفع المقاطعات الشرقية للانفصال عنها)، واستثمار احتياطياتها الضخمة في مجال الطاقة (النفط والغاز) للضغط على الدول الأوروبية، المستورد الرئيس لهما، عبر السعي إلى التحكّم بالأسواق والأسعار وخطوط النقل، تسخين الأجواء مع "الناتو" (تحليق الطيران العسكري فوق سواحل دول البلطيق، تحليق طائرات استراتيجية بالقرب من الشواطئ الأوروبية والأميركية والكندية، نشر قوات في القطب الشمالي، نشر الغواصات في البحار والمحيطات القريبة من الدول الغربية، نشر بطاريات صواريخ إس 400 في القرم وعلى الحدود الشرقية)، للضغط من أجل دفع الخصوم إلى الجلوس حول مائدة التفاوض، لم يكن كافيا لإقناع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، بالاعتراف بها قوة عظمى، أطلق عليها الرئيس الأميركي السابق، بارك أوباما، وصف "قوة إقليمية"، فطوّرت هجومها العسكري والسياسي والدبلوماسي في شرق المتوسط وشمال أفريقيا وأميركا اللاتينية، من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية تسمح بوجود عسكري وسياسي واقتصادي؛ وإقامة قواعد ونقاط ارتكاز قرب حدود الدول الغربية ومصالحها لردعها، وردع ذراعها العسكرية (حلف الناتو). تدخلت عسكريا في سورية بشكل مباشر، وبالتنسيق مع إيران ومليشياتها المذهبية. وفي ليبيا بدعم خليفة حفتر عبر مصر. وعملت، وما تزال، على سحب تركيا بعيدا على التحالف الغربي بالاستجابة لهواجسها ومخاوفها الكردية. واتفقت مع الرئيس السوداني، عمر البشير، على إقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وسرّعت وتيرة إنتاجها العسكري لإعطاء صدقية ووزن لتكتيكاتها السياسية وخطواتها العملية.
وقد حرصت وزارة الدفاع الروسية في الذكرى 103 لانطلاق الصناعات الحربية الروسية على الإعلان عن إنجازاتها العسكرية، مرفقة بذكر نوع القطع العسكرية المنجزة وعددها. وأعلن وزير الدفاع أن القوات الروسية تسلّمت في السنوات الخمس الماضية 80 صاروخا عابرا للقارات وتسع غواصات و55 طائرة و3237 دبابة ومدرعة، وتغنّى إعلامها بقدراتها العسكرية، فقد ذكرت قناة آر تي الروسية إن مجمل الساعات التي أمضتها القاذفات الاستراتيجية الروسية في أجواء روسيا والعالم خلال العام الماضي 17 ألف ساعة، و"جابت أجواء الكرة الأرضية في الليل والنهار ومختلف الظروف الجوية".
وقالت عن الطائرة الروسية "تو- 160"، التي سيتسلم الجيش خمسين منها حتى عام 2025، " تحمل 12 صاروخا مزوّدة برؤوس نووية ليصل إجمالي ما على متنها من ذخائر إلى 40 طنا، وقادرة على التحليق لـ14 ألف كم دون التزود بالوقود، وتستطيع بصواريخها النووية تغطية أراضٍ تعادل القارة الأوروبية بمساحتها". وعن الصاروخ الروسي المجنح الجديد أكس - 50 "يمكنه إصابة الهدف بدقة على مسافة 1500 كلم". وذلك كله ضمن تصور أن يتحقق هدف روسيا باعتراف الغرب بها قوة عظمى، ويتعاون معها في حل المشكلات الدولية. ولكن الغرب بقي على موقفه منها، وما زال يطالبها بالتوقف عن التدخل في أوكرانيا والانسحاب من جزيرة القرم، ووقف تهديداتها لدول البلطيق، ويفرض عليها عقوبات اقتصادية، بل ويفرض مزيدا منها. ووضعها ذلك كله في موقف دقيق وحرج، على خلفية كلفة التمدّد الإقليمي، فإنشاء قواعد عسكرية مكلف ماليا؛ خصوصا لدولةٍ يعاني اقتصادها من نقاط ضعف وهشاشة (معظم الناتج القومي من تصدير المواد الأولية، النفط والغاز خصوصا). والاقتصاد أساس قيام القوى العظمى. وكان المؤرخ الأميركي، بول كنيدي، قد درس تجارب نشوء القوى العظمى وسقوطها خلال 500 سنة، واستنتج القانون الذي حكم الظاهرة: "اقتصاد قوي يمول قوات منتشرة في الخارج"، مع احتمال تضاعف عجز اقتصادها إذا ما استدرجتها الولايات المتحدة إلى سباق تسلح (موازنة روسيا العسكرية 43 مليار دولار وموازنة الولايات المتحدة نحو 700 مليار).
وكان لافتا أن القيادة الروسية لم تكتف بتجاهل النتائج المتواضعة لمحاولاتها المتكرّرة لإقناع الغرب بقبول أوراق اعتمادها في قائمة القوى العظمى، بل وذهبت بعيدا في تضخيم هذه النتائج، فقد ذكرت وكالة سبوتنيك إن الاستراتيجية الكبرى لروسيا في القرن الـ21 تدور حول التحول إلى القوة العظمى لتحقيق التوازن داخل المنطقة الأورو - آسيوية، الأمر الذي يفسر السبب وراء محاولتها "تحقيق توازن" داخل منطقة الشرق الأوسط التي تتداخل مع ثلاث قارات، عبر دبلوماسية القوة العظمى مع إيران وتركيا من أجل التصدّي للعمليات المدمرة التي أطلقتها الولايات المتحدة داخل المنطقة، منذ ما أطلق عليها "الحرب الدولية ضد الإرهاب"، وحتى الآن، أحرزت المهمة متعددة الأقطاب التي أطلقتها موسكو نجاحاً هائلاً".
غير أن مكابرة موسكو لم تجد في إخفاء موقفها الدقيق والحرج الذي عكسته النتائج السورية الهزيلة لجولات أستانة الثماني، وقمة سوتشي مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، ونقاط الضعف التي تحيط بتحرّكها لعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي يومي 29 و 30 من يناير/ كانون الثاني 2018، حيث التناقض والتعارض بين أهداف الدول الراعية (روسيا، تركيا وإيران) وتصوّراتها، فروسيا تريده لاستمرار تحرّكها السياسي، لا تريد وقف محاولاتها لكي لا يظهر عجزها ونقاط ضعفها وعدم تحقيقها نتائج ملموسة. ولمواصلة الضغط على الولايات المتحدة التي لم تمنح تحرّكها في أستانة وسوتشي شرعية بإعلانها المتكرّر "إن جنيف هو المسار الوحيد الشرعي"، بإعطاء انطباع بانفرادها في قيادة عمليةٍ سياسيةٍ، بينما الولايات المتحدة، التي ليس لوجودها في سورية مشروعية، تكتفي بتدمير المدن والبلدات السورية، وإيجاد تكتل مناهض للغرب في منطقة الشرق الأوسط، وتمرير الحل عبره، يحرّرها من مشاركة دول لها تصورات مختلفة، والإبقاء على المعارضة في موقف دفاعي.
وفيما تنحني تركيا للمطالب الروسية، لعلها تكسب رضا موسكو، فتمنحها ضوءا أخضر للتحرّك ضد وحدات حماية الشعب في عفرين، تناور إيران عبر الموافقة على عقد مؤتمر سوتشي والتصعيد العسكري (في قمة سوتشي التي جمعت بوتين وأردوغان وروحاني طالب الأخير بموافقة شريكيه على احتلال مليشيا موالية لإيران بقاعا غير متصلة بين الحدود العراقية والحدود السورية مع لبنان)، كي تغطّي على رفضها الانتقال السياسي، انتقدت صحيفة كيهان موقف موسكو ودعوتها ضمنا بقولها: "الذين يرتدون ملابس الأصدقاء لا يمكنهم أن يحدّدوا مصير سورية بل سيحدده شعبها في ظل قوة محور الممانعة". ولم يقبل النظام السوري طرح دستور جديد وانتخابات رئاسية في سوتشي، في حين أعلنت المعارضة تمسكها بأهدافها في تحقيق انتقال سياسي، وتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات. وهذا بالإضافة إلى تفضيل دول أوروبية التركيز على مفاوضات جنيف، وضرورة الغطاء الدولي لأي اتفاق، ما يعني حاجة روسيا لمباركة واشنطن التي لن تمنح مباركتها من دون تحقيق أهدافها، والتي ربطت استمرار وجود قواتها في سورية بالتوصل إلى سلام دائم، جعل التحرك الروسي واحدةً من حالات مطاردة الساحرات.
أن ينتهي العام بتظاهرات في 14 مدينة إيرانية ارتفعت فيها الهتافات ضد الفساد والركود الاقتصادي، ومعها الصيحات ضد «حزب الله» والتوسع الميليشاوي الذي يقوده النظام من صنعاء إلى غزة، يعني أننا أمام حالة استثنائية في الشارع الإيراني لم يتوقع حدوثها أي من الخبراء المعنيين بتاريخ إيران وحاضرها وسيصعب على هؤلاء التكهن بمستقبلها.
ما هو واضح اليوم بامتداد التظاهرات وتقاطعها مع أزمات متداخلة محلياً وإقليمياً ودولياً لإيران، هو أن هذه اللحظة لن تكون عابرة حتى لو تم قمع التظاهرات كما حصل في 2009، ولأن الحالة الشعبية تعكس نقمة أولاً وأخيراً ضد النظام الإيراني، وما من مؤشر إلى أن النظام يمتلك أوراقاً لتغيير هذا الواقع عدا عن القمع وشراء الوقت، بانتظار الموجة المقبلة من التظاهرات.
داخلياً، يقف العامل الاقتصادي حافزاً أساسياً وراء التظاهرات إنما هذا لا يعني أنها غير سياسية أيضاً. فالارتفاع في نسب البطالة إلى ما فوق الـ12 في المئة هذا العام، والفساد المستشري وغلاء أسعار السلع الحياتية مثل المحروقات والبيض، يواكبه نقمة من المتظاهرين على صرف النظام الإيراني مئات ملايين الدولارات سنوياً لتعويم النظام السوري، وتمويل «حزب الله» وغيره من الميليشيات المتجددة المحسوبة على طهران. ولا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في إيران وبسبب نفوذ النظام على قطاعات اقتصادية حيوية منذ 1979 ودور حيوي للحرس الثوري في الاقتصاد كما هو في السياسة والتوسع الإقليمي.
في إيران اليوم، كما في سورية وقبلها تونس ومصر، هناك من يحصر التحرك بأنه اقتصادي بحت وأنه لن يتخطى هذا الحد. هؤلاء أخطأوا في قراءة المشهد العربي من دون أن يعني ذلك أن تظاهرات إيران هي تكرار للربيع العربي. فالنظام الإيراني شهد تظاهرات من هذا النوع قبلاً، ونجح في إخمادها.
ما يختلف اليوم هو أن النقمة متزايدة داخلياً، والصورة الإقليمية والدولية، خصوصاً في واشنطن تغيرت. فطهران تتصدر قائمة الدول المهددة لأمن الخليج. صاروخا الحوثيين باتجاه السعودية في غضون أربعة أسابيع عززا هذا المفهوم. كما جاء توسع إيران إلى هذا الحد في العراق وسورية، والصعود السياسي والعسكري لـ «حزب الله» في بيروت، ليزيد من نسبة القلق حول تهديدها لإسرائيل.
أميركياً، وضعت إدارة دونالد ترامب هدف التصدي لإيران نصب عينيها منذ وصولها إلى الرئاسة، والصقور المقتنعون بجدوى تغيير النظام في إيران تم تعيينهم لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية (مايكل بومبيو) أو في مجلس الأمن القومي (هربرت ماكماستر) أو حتى في الخارجية والأمم المتحدة وحيث تنهال الانتقادات من ريكس تيلرسون ونيكي هايلي على النظام في إيران منذ توليهم المنصب.
وفي مفارقة عن إدارة باراك أوباما التي التزمت الصمت عند بداية التظاهرات في إيران في 2009، سارع ترامب إلى تبني نهج معاكس بإصدار كل من الخارجية والبيت الأبيض بيانات وتغريدات يوم الجمعة تدعم التظاهرات والوصول «سلمياً إلى مرحلة حكم انتقالي» في إيران. في المقابل، أعادت وكالة الـ «سي.آي.أي» ومديرها بومبيو إحياء غرف العمل على جس نبض نشاطات وتغيير النظام في إيران وهو ما تحاشته إدارة أوباما. كل ذلك يسبق قراراً حاسماً لترامب خلال أسبوعين بفرض عقوبات جديدة على طهران توجه ضربة قاضية للاتفاق النووي، إلا في حال نجاح الكونغرس بتبني صيغة أفضل للاتفاق النووي الذي يعارضه ترامب. في تلك الحالتين هناك جهود أميركية لتشديد الضغوط الاقتصادية على طهران.
تظاهرات نهاية 2017 في إيران ووجود إدارة متشددة في هذا الملف في واشنطن يفتح احتمالات عام متقلب إيرانياً، تزيد من حدته التغييرات الكثيرة إقليمياً. فلا استقرار ولا ثبات دائم لأي لاعب في الشرق الأوسط، مهما كان طموحه وتعددت عواصمه. و ”كل السياسات هي داخلية” وفق قول رئيس مجلس النواب الأميركي السابق تيب أونيل، وخسارة الداخل تعني خسارة كل شيء.
فتحت المعارضة السورية الأبواب على مصراعيها لكل التكهنات المتعلقة بقرارها حضور مؤتمر سوتشي من عدمه، إذ هذه المرة لم تتراشق كيانات المعارضة الاتهامات فيما بينها، في مشهدٍ اعتاده الشارع السوري، قبيل كل حديث عن مؤتمر أو اجتماع يلوح في الأفق، حتى عندما لا يكون النظام طرفاً صريحاً فيه، وهو ما حصل، مثلاً، لدى تشكيل منصة موسكو، وفي مؤتمر القاهرة 2 لعام 2015، مروراً بلقاءات موسكو من العام نفسه. وكما هو معلوم، فإن الأوساط النافذة في "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" كانت رفضت الاعتراف بمنصتي القاهرة وموسكو جزءا من المعارضة، كما نظرت بتشكّكٍ إلى ورشات العمل التي أقيمت في عواصم أوروبية، وكان غرضها مناقشة قضايا الدستور والانتخابات، بل إنها أثارت الشبهات بشأن المشاركين بهذه الأنشطة، ودعت إلى محاسبتهم، ويجب أن يحاسبهم "الائتلاف" الذي ظل سنواتٍ يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة السورية.
اختارت المعارضة، في هذه المرة، أن تقدّم إجابات مرنة بشأن مؤتمر سوتشي، يمكن أن تحمل معنى القبول، بقدر ما تحمله من إمكانية الرفض. هكذا رأى فريق مسار أستانة أن الموقف سيأتي بعد التشاور مع الكيانات والمنظمات الثورية والمدنية، وبحسب ما سيوفره المؤتمر من مخرجاتٍ تسهم في دفع مفاوضات جنيف. أما وفد الهيئة العليا للمفاوضات، فإن إجابته اقتصرت على ضرورة العودة إلى رأي مكوناته، مختصراً الطريق، بدل طرح تساؤلاتٍ عن المؤتمر، من شأن إجاباتها أن تساعده في تكوين رأي موحد لكامل الأعضاء بناء على ذلك.
وهذا يعني، في إجابتي وفدي أستانة والهيئة، أن المرجعية في تحديد الموقف من مؤتمر سوتشي تتوقف على مدى تعاون الجهة الداعية إليه، وإمكانية تشاركيتها معهم، وليس من مبدأ ما طرحه الائتلاف والجيش الحر في (2 أكتوبر/ تشرين الثاني 2017) في بيان مشترك، وهما من مكونات الوفد التفاوضي، ويمثلان قرابة نصف عدده، بأن الدعوة إلى سوتشي تمثل التفافا على مفاوضات جنيف، وأنهما لن يشاركا فيه.
هكذا، ثمة أسئلة مهمة مطلوب الإجابة عليها، تسبق موافقة المعارضة على حضور مؤتمر سوتشي، أو عدم ذلك، منها: أولاً، من هي الجهة التي تقرّر أسماء المعارضين المدعوين، وما هي نسبتهم إلى كامل عدد الحضور؟ ثانياً، كيف سيتم تشكيل لجنة صياغة الدستور؟ هل بناء على التمثيل العددي للحضور من المعارضة والنظام؟ وأين يمكن تصنيف الأحزاب المرخّصة لدى النظام، والتي تعمل بتمويل منه وبرعايته، تحت مسمى معارضة الداخل؟ ثالثاً، هل سيتبنّى المؤتمر القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع السوري مرجعيةً، أم سينشئ مرجعيته الخاصة؟ وهل سيكون حضور الأمم المتحدة بهدف أخذ العلم، أم أنها ستكون ميسرة بين الأطراف، وتعيد إنشاء قرار أممي جديد على نحو ما فعلت بالقرار 2254؟
واضح أن الإجابات على كل هذه الأسئلة شبه محسومة لدى الجانب الروسي، الداعي إلى المؤتمر، لكن المعارضة تريد تجنّب الدخول في تفاصيل من شأنها أن تعكّر ما تعتبره إنجازاً لها في جولة جنيف 8، التي لم تحدث أصلاً، حيث يعتبر الوفد المعارض أنه حقق إنجازاً تمثل في مفاجأته العالم بوحدته، وأنه أنجز جولةً أكثر واقعية من سابقاتها، مع أن الجميع يعلم أن هذه الجولة فاشلة، مثل سابقاتها، وأنه لم تحدث فيها أية مفاوضات.
إذاً نحن إزاء لغة تجديدية في أوساط كيانات المعارضة السائدة، تعتمد المرونة والتروّي في اتخاذ القرارات، ليس بسبب ضبابيتها، ولكن لأن هذه القرارات اليوم لم تعد مرتبطةً بقرار الكيانات، قدر ارتباطها بالجهات الدولية والإقليمية التي ترعى هذا المؤتمر، وتتقاسم سلفاً ثمار نتائجه، لجهة مصالحها أولاً، ومن ثم إسقاط هذه النتائج على تقاطعات الكيانات التي تجمعت ضمن وفد الهيئة، أو في محيط عملها، كحال وفد أستانة، مع اختلاف الجهات الراعية لهم. ومن هنا انتقل الخلاف من بين الكيانات بعضها مع بعض، ليصبح بين الحاضنة الشعبية، من جهة، والكيانات السياسية والفصائلية، من جهة أخرى. وبناء على ذلك، انطلقت حملات شعبية ترفض مؤتمر سوتشي، وتضع المطبّعين معه في خانة المهادنين لنظام الأسد، والمتعاونين لإعادة إنتاجه من جديد.
على ذلك، يضعنا المشهد السوري "المعارضاتي" الذي يدور حول الموقف من مؤتمر سوتشي، المزمع في نهاية الشهر المقبل، أمام واقع المعارضة الذي لم يتغير من حيث المضمون، خلال السنوات السبع الماضية، مع فارق أن التراشق بالاتهامات إعلامياً لم يعد بين الكيانات (ائتلاف، منصة موسكو، منصة القاهرة)، بل في مواجهتها، كما ذكرنا، من شريحة واسعة من السوريين في الشتات والداخل، غير المسيطر عليه من النظام، لنسأل، قبل الخوض في الحديث عن القبول أو الرفض، عن حقيقة المشروع الجامع الذي تستند عليه المعارضة في قراراتها، فإذا كانت المرجعية هي بيان الرياض2، فإن هذا البيان بات موضع خلاف، ليس بين النظام الذي يطالب بسحبه، بل بين الأطراف التي يجب أن تدافع عنه، والذي تحوّل إلى مجرد وجهة نظر، برأي مشاركين في الوفد الموحد، ويتضح ذلك من التصريحات المتضاربة حوله، بواقع استمرار أحد قياديي منصة موسكو بتحميل المعارضة سبب تعثر قيام مفاوضات مع النظام، لتمسكها ببند رحيل الأسد.
يستوجب هذا الوضع عقد تفاهمات جديدة بين مكونات الوفد الموحد، على أساس الندّية بالطرح والمرجعية الشعبية، وليس مرجعية التبعية للدول، وبما يتناسب ومصداقية تمثيل المعارضة، وليس التلاعب بهذا التمثيل لإرضاء أجنداتٍ لا تتقاطع مع القرارات الدولية المكتسبة للمعارضة، ومنها بيان جنيف1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254. حيث إن ربط قرار الموافقة على حضور مؤتمر سوتشي من عدمه بقرار الكيانات المشكلة للوفد هو تهرّب من المسؤولية من جهة، ومحاولة لنسف مرجعية الوفد التي يفترض أنها المؤتمر الذي أنتجه من جهة ثانية، وهو تبرير لحضور المؤتمر، من بعض الوفد، تحت عنوان أن كيانه اختار ذلك، ما يعني أن الوفد الموحد سيحضر بعضه، وبصفته، من دون حرج، للتغطية على عدم حضور الآخرين، بسبب الضغط الشعبي على كياناتهم، وليس لأن "سوتشي" يمهد لتسوية غير عادلة مع نظام الأسد، هي أقرب، حسب التصريحات الروسية، بمصالحة "تبويس شوارب ويا دار ما دخلك شر".
خيارات المعارضة محدودة، في ظل ارتباط وجودها مع الدول المساندة للمؤتمر، وأن لاءاتهم الخافتة حتى اليوم كانت تحمل طابع ترويج نَعم مقبلة، حسب مصالح الدول الراعية، ومدى تقدّمها في إنجاز ملفاتها المشتركة التي تضمن لكل منها مصلحته في الصراع، لجهة استمراره، أو الحد منه، أو وقفه عبر حلول جانبية، (أستانة وسوتشي) من شأنها أن تجعل تقسيم الغنائم على أربعة، أفضل من جنيف الذي يقسمها على أربعين وأكثر. أما الولايات المتحدة الأميركية التي باتت تسيطر على نصف المساحة السورية، وتلتزم الصمت حين تريد المزيد لها ولمن معها، مع بعض المحفزات للمعارضة التي تقول لا لتنعم بنِعم النَعم، فما زالت لا تكشف عن أجندتها، ولا عن رؤيتها لمآلات الصراع السوري، ولا يبدو أنها مستعجلة على ذلك.
توالت في الفترة القريبة الماضية هزائم هذا التنظيم الإرهابي وبان في أكثر من موقع انكماشه وخسارته لمناطق كثيرة منها ماهو استراتيجي في سوريا والعراق والذي كان قد فرض سيطرته عليها لسنوات عديدة , ما أدى لخلخة في صفوفه وهروب الكثير من أفراده , وهذا ما تمت ملاحظته بالفعل .
دفعت هذه الإنجازات العسكرية الكبيرة بعض الدول لإعلانها النصر "المُعجّل" على مايسمى تنظيم الدولة , فكثرت الخطابات وتوالت البيانات مع عجزٍ تام من جميع الأطراف "المنتصرة" على تقديم صورة واحدة تدعم هذه الانتصارات , فداعش الذي استطاع أن يصل وينفذ إجرامه في دول عديدة منها القريب من مركز (خلافته) ومنها الذي تعدى حدود البحار والمحيطات , لكنه لم يستطع أن يصمد كثيراً في مناطق سيطرته التي حكمها بالنار والحديد , مايجعل الأمر أمام ريبة كبيرة وتساؤلات عديدة , و وضع العديد من الاحتمالات حول مصير هذا التنظيم الإرهابي الذي عاث فساداً وإجراماً في الأرض .
ولكن المفهوم الإستراتيجي يُحتّم علينا قراءةً في سطور هذا التنظيم الإرهابي
أولها فكري ومنهجي :
لاشك بأن مايسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام قد قدّم نفسه كمنتهجٍ للمنهج السني الخالص دون شوائب أو اضافات كأقرب ما يكون لنهج القاعدة (الشقيق التوأم له) والذي ما لبث أن انفصل عنه وأعلن حربه ضد القاعدة ليصبح تنظيم القاعدة ألدَّ خصومه ,وذهب تنظيم الدولة ليُطبّق فكره وينشر دعوته , فنراه تارةً يُحارب البدع ( ما ظهر منها وما بطن ) وتارةً أخرى يُحارب الصوفية وأخرى يُحارب أصحاب الأضرحة ويفجرها بالقوة ,وتارة يستهدف خطباء المساجد ويمنعهم من اعتلاء المنابر إلا بتصريحٍ وتوجيهٍ منه , واستهداف أهل الذمّة من الأديان الأخرى وتكفير كل من يُخالفهم الرأي ومصير الجميع القتل دون الاستتابة التي أجازها شرع الله تعالى , وتنوعت أساليب القتل لديهم فجاءت بصيغة الإعدام أو بقطع الأعناق أو الإغراق أو الإحراق أحياءً , مستندين على إسقاطات لأحاديث نبوية شريفة يتم تأويلها بحسب الحاجة دون النظر لصحة الحديث أو زمانه وكما يعلم الجميع أن رسالة الإسلام السماوية التي جاء بها نبي الهدى جاءت متواترة بفوارق زمنية انقطع فيها الوحي لعدة سنوات في مكة المكرمة ثم عاد بعدها الوحي الشريف , فنرى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ببداية الدعوة في مكة المكرمة جاءت ناهية لأمر معين وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة جاءت أحاديث تُلغي النهي وتُجيز نفس الأمر , كقوله صلى الله عليه وسلم : ( كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ) , "وهذا على سبيل المثال لا الحصر" فالحديث هنا "مدني" بينما كان حديث النهي "مكي" والحديثان صحيحان ولكن الثاني ألغى الأول والسبب هنا لقرب بداية الدعوة من زمن الجاهلية وخشية افتتان المسلمين بأفعال الجاهلية فجاء النهي , وبعد الهجرة واستتباب الأمن والنهج الإسلامي جاء جواز الأمر بتشريع نبوي , أما "داعش" الآخذ بالنص دون السبب ودقة التأويل , عمل ضمن مؤسسة تشريعية متعددة الجنسيات لما يخدم أهدافه الفكرية والمنهجية ليدفع بها إلى التصدير الخارجي الذي رأينا تأثيره على الكثير من البلدان التي أيدته وأدت إلى تمردات واعتناقات منهجية وفكرية انتهت بالولاء والمبايعة لهذا التنظيم أفراداً كانوا أو جماعات ... وهذا من الوجه الأول .
أما الوجه الثاني فهو عسكري وسياسي :
فمن الناحية العسكرية التي صال بها هذا التنظيم وجال حتى جعل نفسه محطَّ أنظارٍ ودراسةٍ لأجهزة استخباراتٍ عالمية عدة , فداعش الذي اتقن فنَّ معارك الاستنزاف للخصوم المدعومة عسكرياً بشكل مهول , ومعركة الموصل كانت خير دليل على اتقان داعش لهذا النوع من المعارك , ولا أبالغ هنا إذا قلت أن داعش قادرٌ على استعادة الموصل وغيرها من المناطق بزمن قياسي إذا انخفض الدعم الجوي (فقط) للمليشيات الشيعية والكردية لأسباب عديدة أهمها :
- أنّ هذا التنظيم يعتمد في أكثر معاركه مفاهيم "الكتلة العسكرية المرنة" التي تنسحب بسلالة ثم تًهاجم بسرعة البرق ثم تنسحب ثم تعاود الهجوم , ويعتمد التنظيم في هذا على سرعة مقاتليه وسهولة حركتهم مستخدماً آليات رباعية الدفع تضمن له الحركة بشتى أنواع الظروف والطرقات وأسلحة خفيفة ومتوسطة, مبتكراً بذلك مفهوماً عسكرياً جديداً يستطيع من خلاله إرباك صفوف خصومه , مايعني أنه قادر على تغيير مفهوم الهجوم العسكري الكلاسيكي .
- يعتمد هذا التنظيم على الأفخاخ العسكرية أو ما يُعرف بالانسحابات التكتيكية , وهو بذلك يوجه خصومه للمسار الذي يريده بغية الإيقاع بهم مستفيداً من رغبتهم بتحقيق تقدمٍ جغرافي على حساب داعش الذي يقوم بزرع الألغام في المناطق التي ينسحب منها ما يجعلها نقاط استنزافٍ جديدة تستوجب على الطرف المهاجم البطء بالتقدم وتمشيط المنطقة مع تعطيل كبير لقوته الهجومية , ما يجعل تلك القوات عرضةً لهجمات ارتدادية أو إلتفافية يُتقنها داعش جيداً .
أما من الناحية السياسية :
فهذا التنظيم يعرف تماماً كيف يختار خصومه , موظفاً بذلك المتغيرات العسكرية الميدانية , فبعض الانسحابات التي يقوم بها يكون هدفها سياسيٌّ وليس عسكري , إذ أنه يضع خصومه (المتنازعين أصلاً) ,يضعهم وجهاً لوجه على خط الاشتباك , وقد نجح إلى حدٍ كبير في خلق تغيراتٍ وتحالفاتٍ جديدة , فهو الذي وضع القوات الكردية ( الراغبة بإنشاء دولتها ) , وضعها بمواجهة مباشرة مع الميلشيات الشيعية والإيرانية ( المتقدمة أصلاً على حساب داعش ميدانياً والرافضة لفكرة المشروع الكردي ) في كركوك والسليمانية والموصل في العراق , ووضع قوات "قسد" المدعومة أمريكياً بمواجهة مباشرة أيضاً مع قوات النظام الأسدي المدعومة روسياً , موجداً بذلك نقطة تماس عسكري بين روسيا وأمريكا وجميع فصائل الطرفين العاملة على الأرض , وأوجد داعش أيضاً نقطة تماس عسكري أخرى بانسحابه من منطقة الباب السورية لحساب قوات درع الفرات المدعومة تركياً والتي وجدت نفسها أمام قوات النظام الأسدي المُهجّنة روسياً من جهة ومن جهة أخرى أمام قوات الميليشيات الكردية المسيطرة على عين العرب ومنبج وتل رفعت وتحلم بالوصول الى جرابلس السورية , وبهذا يكون تنظيم الدولة قد أعفى نفسه من عناء المواجهة العسكرية آخذاً بذلك قسطاً من الراحة ومزيداً من الوقت لرأب الصدع الذي أصاب جسده التنظيمي .
داعش وإستراتيجية المستقبل :
داعش الذي لم ينتهي كما صوره الكثير "إعلامياً" ,وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الأول , فخطره مازال قائماً وقد يقوم على تغيير سياسته العسكرية الهجومية في المستقبل , مُعتمداً في ذلك على مقاتليه الذين انسحبوا عائدين إلى أوطناهم ومازالوا يُدينون له بالولاء المُطلق كخلاياه النشطة أو النائمة في كثير من البلدان العربية والأوروبية , وقد تُساعده في ذلك الأوضاع الأمنية من ناحية والاقتصادية من ناحية أخرى , وهذا ما قد يُساهم في إعادة بناء صفوف مقاتليه وعودة خطره بسرعة هائلة .
ويبقى الاحتمال الأغرب قائماً إذا ما اعتبرنا أن داعش نأى بنفسه عن صراعات القوى العالمية والإقليمية واضعاً نفسه بمكان "المتفرج" , منتظراً عرضاً مُغرياً من إحدى الأطراف المتصارعة للاستفادة من خدماته , فداعش صاحب الميزات العظيمة , حيث أنَّ مُقاتليه يتبخرون ولا يُقتلون أو يُؤسرون والمليارات التي ينهبها من البنوك أو التي يجنيها من بيع النفط والغاز والآثار لا تظهر أبداً ...!!!
ستكون السنة 2018 حبلى بالأحداث الكبيرة. من أحب 2017 سيعشق 2018، تماما مثلما أنّ من أحبّ 2016 وقع في عشق 2017. يسير الوضع الإقليمي من سيء إلى أسوأ. كيف تستطيع كلّ دولة عربية حماية نفسها بات أبرز التحديات التي تواجه رغبة قوى عدة إقليمية ودولية في إعادة النظر في خريطة سايكس- بيكو.
بعيدا عن التكهنات التي لا تستند إلى الواقع، ستكون 2018 فصلا آخر في المواجهة ذات الطابع المذهبي التي بدأت في المنطقة في العام 2003 عندما بدأ الزلزال العراقي الذي لا تزال أصداء تردداته تتفاعل إلى اليوم. هناك دول تفتتت ولن تقوم لها قيامة. هذا ما كشفته السنة 2017 وهذا ما ستؤكّده 2018. من يتصور أن العراق ستقوم له قيامة في يوم من الأيام كدولة عربية مستقلة لعبت دورها في تأسيس جامعة الدول العربية؟
من يستطيع التكهنّ بمصير سوريا التي تعيش في ظل خمسة احتلالات وفي ظل الإصرار الإيراني على إيجاد موطئ قدم دائم فيها؟
من لا يزال يعتقد أن لليمن الموحد مستقبلا ما باستثناء الحاجة إلى بضع سنوات كي ترسم بالدم والنار حدود الكيانات أو الدول التي ستلد من رحم سقوط نظام مركزي بقي حتّى العام 2011 يدير شؤون البلد كله انطلاقا من مدينة صنعاء؟ كان علي عبدالله صالح الذي اغتاله الحوثيون في منزله أول رئيس لليمن الموحد وآخر رئيس له.
على الرغم من مرور أقل من خمسة عشر عاما بقليل على تقديم الولايات المتحدة العراق على صحن من فضة إلى إيران، لا يزال الشرق الأوسط وكل المنطقة المحيطة به في حال من اللا توازن انعكست على مصير كل دولة من دولها. استغلت إيران الزلزال العراقي الذي تسبب به الغزو الأميركي من أجل السير بخطى سريعة في اتجاه تنفيذ مشروعها التوسّعي الذي يقوم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية وصولا إلى تشكيل ميليشيات خاصة بها تعمل في أرجاء المنطقة من دون حسيب أو رقيب.
إذا كان من عنوان عريض ميّز 2017، فهذا العنوان هو صعود دور الميليشيات الإيرانية في ظلّ سياسة أميركية محيرة كان آخر تعبير عنها موقف الرئيس دونالد ترامب من القدس. هناك استخدام إيراني فعّال للميليشيات المذهبية وتكريس لدور هذه الميليشيات في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. لم يعد “حزب الله” مجرّد لاعب في لبنان بصفة كونه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. صار لاعبا إقليميا بعدما صارت له فروع في العراق وسوريا واليمن. هناك طموح إيراني واضح كي تغطي تجربة الميليشيا المذهبية التي تحل مكان الدولة ومؤسساتها كلّ بلد عربي مع تركيز خاص على البحرين حيث لا تزال هناك دولة ومؤسسات وطنية.
لعل أخطر ما في الأمر أن التوسع الإيراني، الذي تعبر عنه الميليشيات المذهبية التي باتت جزءا لا يتجزأ من التركيبة التي تطمح إيران إلى فرضها في المنطقة، يواجه بميوعة أميركية، في جو تكتنفه الحيرة. ليس من يستطيع القول في الراهن ما الذي تريده الإدارة الأميركية وأيّ دور تنوي لعبه.
باستثناء الوجود العسكري الأميركي القوي والواسع في الشمال السوري الذي ليس معروفا كيف ستوظفه الإدارة الأميركية في المستقبل، هناك موقف أميركي محير من كل ما له علاقة بنشاط الميليشيات الإيرانية.
على الرغم من القمم الثلاث ذات الطابع الاستثنائي التي انعقدت في الرياض وشارك فيها الرئيس دونالد ترامب، وعلى الرغم من خطابه الشامل الذي عرض فيه بدقة ليس بعدها دقة النشاط التخريبي لإيران في المنطقة، منذ العام 1979، ليس ما يشير إلى اليوم إلى رغبة حقيقية في التصدي لإيران. ليس كافيا نشر تقارير عن تواطؤ إدارة باراك أوباما مع إيران وتغطيتها لنشاطات “حزب الله” كي يمكن القول إن هناك تغييرا أميركيا على أرض الواقع. هل يتبلور هذا التغيير في 2018؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في وقت بدأت واشنطن، ومعها العواصم الأوروبية، على رأسها باريس، تعي أهمية الفصل بين الملف النووي الإيراني والاتفاق الذي تم التوصل إليه صيف العام 2015 من جهة، والصواريخ الإيرانية من جهة أخرى.
لم تكن السنة 2017 عادية بأي مقياس من المقاييس، خصوصا مع القضاء على “داعش” في معظم أنحاء العراق وبدء تراجعه في سوريا. الملفت أن إيران استغلت الانتصارات على “داعش” للإعلان عن أنها شريك في الحرب على الإرهاب، في حين اعتبرت روسيا أنه بات في استطاعتها التصرف من منطلق أنها الطرف القادر على التحكم وحده بمصير سوريا وتحديد مستقبلها وتوزيع الحصص فيها على هذا الطرف أو ذاك، بما في ذلك إيران وتركيا.
إلى متى يظل الغياب الأميركي الذي أدّى إلى حال إرباك على الصعيد الإقليمي؟ تجلّى الإرباك في قيام نوع من التحالف بين روسيا وتركيا وإيران وفي تقارب روسي- مصري وفي جسور بين دول الخليج، على رأسها السعودية والإمارات من جهة وروسيا من جهة أخرى.
ليس أمام كل دولة تريد المحافظة على مصالحها وعلى مصالح شعبها سوى أن تأخذ في الاعتبار أن عليها سد الثغرات الداخلية. هذا ما يفسّر ذلك الإصرار السعودي بقيادة الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان على الذهاب إلى النهاية في إصلاحات داخلية، التي تشبه ثورة حقيقية أكثر من أي شيء آخر، مع التنبّه في الوقت ذاته إلى أن الأحداث في المنطقة وطبيعة التحديات الجديدة تفرض نوعا جديدا من التماسك والعلاقات السليمة داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية. تنبهت الكويت إلى هذا الأمر ونجحت في المحافظة على صيغة مجلس التعاون على الرغم من الأزمة القائمة مع قطر. استضافت القمة الخليجية بعد جهود مضنية لأمير الدولة الشيخ صُباح الأحمد. أي مستقبل لمجلس التعاون في ظل الأزمة المستمرّة مع قطر؟
لا شكّ أن 2018 ستكون سنة مفصلية يتحدد من خلالها هل من مستقبل لمجلس تجاوز عمره الـ36 عاما؟
كانت 2017 سنة النكسة الكردية. لم يكن رهان رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على الاستفتاء في شأن الاستقلال خيارا موفقا، خصوصا في ظل الاعتراض الأميركي عليه. كشف هذا الاستفتاء وجود حلف تركي- إيراني ضدّ الأكراد، سمح للحكومة المركزية في بغداد، التي صارت تحت رحمة “الحشد الشعبي” بصفة كونه من مكونات العراق الجديد، بالاستقواء على الأكراد الذين وجدوا أنفسهم منقسمين في ما بينهم أكثر من أي وقت.
انعقدت القمّة العربية في البحر الميّت وكانت ناجحة من الناحية النظرية بفضل الجهود التي بذلها الملك عبدالله الثاني. لكنّ الأردن وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها وبسبب مجموعة من التحديات. زاد من التحديات الإصرار الإسرائيلي على بقاء الاحتلال للضفة الغربية وسياسة عامة لبنيامين نتنياهو تقوم على ترك سوريا تتفتت أكثر بفضل بقاء بشار الأسد في دمشق وانتشار الميليشيات الإيرانية وتعزيز دورها في هلهلة نسيج المجتمع السوري.
نقاط مضيئة قليلة في 2017. هناك في شمال أفريقيا بلد عربي يعرف أهمية المحافظة على مصالح شعبه اسمه المملكة المغربية التي حققت نجاحا تلو النجاح على صعيد العودة لاعبا فاعلا في أفريقيا. وهناك بداية مصالحة فلسطينية لعبت مصر دورا في تحقيقها، لكنها بقيت مجرد بداية في غياب قدرة “حماس” على الاعتراف بفشل مشروع “إمارة غزّة” الذي عاش عشر سنوات. ما يقلق بالفعل هو أحوال الجزائر التي دخلت حال إفلاس سياسي واقتصادي في ظلّ رئيس مريض لا يريد الاعتراف بذلك.
خلاصة الأمر أن الغياب الأميركي الذي توّج بموقف سلبي من القدس يوحي بأن 2018 ستشهد مزيدا من الصعود لدور الميليشيات الإيرانية في المنطقة في ظلّ الحيرة التي تهيمن على مواقف إدارة ترامب. لم يكن اغتيال علي عبدالله صالح في صنعاء سوى دليل آخر على الرغبة الإيرانية في الذهاب بعيدا في تعزيز دور ميليشياتها حيث استطاعت ذلك. يلعب الحوثيون في اليمن الدور المطلوب منهم لتأكيد أن طهران تتحكم بمجموعة من العواصم العربية بدءا ببغداد وصولا إلى صنعاء، مرورا بدمشق وبيروت.
لم تنتهِ الحرب السورية بعد، لكن موسكو مصّرة على إنهاء الفصل الأول منها - على الأرجح - منتصرة، وهو انتصار يعول عليه شخصياً سيد الكرملين كورقة يستثمرها في الداخل ضد معارضيه رغم قلتهم، وخارجياً في مواجهة خصومه التقليديين رغم تراجعهم، لذلك عملت آلة الحرب الروسية بكل طاقتها منذ سنتين من أجل تفصيل الانتصار وفقاً للمقاسات التي حدّدها القيصر، آخذين بعين الاعتبار، أثناء القيام بواجبهم الاستراتيجي، أن مقاسات الحل في مجلس الأمن وجولات جنيف وحتى آستانة لم تعد تليق بالهيبة الروسية، لذلك بات المطلوب استسلام جميع الأطراف المحليين، والإقليميين، والدوليين وحتى واشنطن للإرادة الروسية، التي تريد أن تفرض بالقوة نظام الأسد على الشعب السوري.
من سوتشي يريد الرئيس فلاديمير بوتين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ليس إلى ما قبل 18 مارس (آذار) 2011، بل إلى ما قبل الثورة البرتقالية في أوكرانيا والبنفسجية في جورجيا والخضراء في إيران والأرز في لبنان، بالنسبة له فإن من يطالب بإسقاط النظام في كييف وتبليسي وطهران والقاهرة وتونس وليبيا ودمشق، سيطالب مستقبلاً بإسقاطه في باكو وياربفان وطشقند وعشق آباد ودوشنبه وآستانة ومنسك وموسكو. ففي عقيدة القيصر السياسية محاكمة صدام حسين جريمة ضد هيبة من يعتبرهم قادة في بلادهم، ولن يسمح بعد الآن بأن يغادر أي رئيس بلاده تحت ضغط الشارع، كما حدث مع زين العابدين بن علي، أو أن يتنازل عن السلطة كحسني مبارك، أو يحل به ما حل بالقذافي، أو يفرّ تحت جنح الظلام كشفرنادزه (جورجيا) وينكوفيتش (أوكرانيا). لذلك عملت موسكو دون مواربة منذ قرارها التدخل السياسي بداية في سوريا على حماية الأسد ونظامه في المحافل الدولية، وتعمدت فعل أي شيء في سبيل ذلك، فعارضت التحقيقات بخصوص الإبادات الجماعية بالسلاح الكيماوي كأنها تفتتح عهداً جديداً من الصراعات الدولية قائماً على معادلة القوة بوجه العدالة، وساعدت نظام الأسد ممّا مكنها من حسم هذه المرحلة من الصراع على سوريا لصالحها مبدئياً، فنجحت في تمرير رسالة مفادها أن إسقاط الأنظمة بالقوة خط أحمر لم يعد مسموحاً تجاوزه لأي كان، وأن ما جرى في العراق وليبيا لم يعد ممكناً تكراره. فمن سوريا أعلن فلاديمير بوتين إعادة الاعتبار للمفاهيم السوفيو - روسية في فرض الاستقرار الدولي وحماية المصالح القومية للدول الروسية، في استعادة واضحة وصريحة للخيارات السوفياتية في التعامل مع الأزمات السياسية في مرحلة الحرب الباردة، التي تمكنت حينها من القضاء على ربيع براغ 1968، وانتفاضة بودابست 1956، وغروزني 2000، وسوريا 2015. وعاقبت الشعوب المنتفضة من خلال إعادة إنتاج النظام ذاته الذي خرجت عليه.
وعليه، ففي لحظة استشعار قوة فائضة قرّر صناع القرار الروس الذهاب بالتحدي حتى النهاية، ووضع مؤتمر سوتشي عنواناً لنهاية مسارات وبداية أخرى جديدة، وبات واضحاً أن المطلوب في مؤتمر سوتشي إنجاز اتفاق على مقاس الكرملين يلغي فكرة العودة نهائياً إلى مقررات بيان «جنيف 1» والقفز فوق القرار الأممي 2254، والالتفاف على بيان «الرياض 2»، والإعلان عن استسلام الائتلاف السوري المعارض وإلغاء الهيئة العليا للمفاوضات، باعتبار أن الوقائع الميدانية الفعلية على الأرض جردت المعارضة من أوراق القوة التي كانت تتمتع بها سابقاً، فالروس الممسكون مع شركائهم في طهران بالقرار السوري، غير معنيين بعد بإنجاح اتفاقات خفض التصعيد التي وقعت في آستانة، حيث لم تلتزم بها موسكو ولا النظام ولا طهران بصورة دائمة، واستمر التصعيد العسكري على العديد من الجبهات.
من سوتشي يريد فلاديمير بوتين التأكيد على أن المقيم في قصر المهاجرين لم يزل رئيساً لسوريا، وسيبقى لأمد بعيد، وبأن قتله لهذه الأعداد الهائلة وتشريده لأكثر من 9 ملايين آخرين، لا يخول الداخل ولا الخارج المطالبة برحيله، فالأسد الذي تحول إلى بيدق في رقعة الشطرنج الروسية لم يعد بقاؤه في مكانه رمزاً لانتصار آلة الحرب الروسية والإيرانية فقط، بل أصبح الحفاظ عليه في منصبه وحمايته من كل القرارات الدولية، وتدمير خصومه، هو السلوك الذي تعمل به روسيا، في سبيل تعويم الرئيس بوتين في المحافل الدولية، بصفته القائد الذي استعاد هيبة الدولة الكبرى من خلال القوة التي أعفته من أي التزامات.
يسير فلاديمير بوتين على شاطئ سوتشي مستمتعاً بالقوة التي منحته هذا الحضور، مرسخاً قاعدة سياسية تقليدية بأن الإمبراطوريات بحاجة إلى التضحيات لكي تستمر، وليس إلى حسابات الربح والخسارة، كما تفعل واشنطن الآن مع حلفائها قبل خصومها.
على الرغم من أن البعض اعتبر عدم ذكر تركيا في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب، "أهون الشرين"، إلا أننا نرى عند قراءة الوثيقة من أولها إلى آخرها أن هناك جهد خاص بُذل من أجل عدم الحديث عن تركيا، وهذا جهد لتجاهلها.
وكأن الهدف من الوثيقة هو توجيه إنذار لحكومة أردوغان، التي لم تخضع أمام واشنطن، والتقليل من شأنها وتلقينها درسًا.
الأمر المثير للسخرية أن الجميع في واشنطن يبدون وقد فقدوا القدرة على جس النبض، لأنه لا بد لمن يتابع السياسة أن يعلم أن مثل هذه الأساليب يكون لها مفعول عكسي لدى أردوغان.
على سبيل المثال، في القسم الخاص بأوروبا، يرد تعداد البلدان التي تعرضت لهجمات داعش، لكن لا وجود لتركيا. ألم يسقط أكثر ضحايا التنظيم في تركيا؟ ألم توجه تركيا أكبر ضربة للتنظيم عبر عملية درع الفرات؟
غير أن وثيقة الأمن القومي الأمريكي تعتبر أن تركيا مُسحت من خريطة العالم.
لنقل أن تركيا لم تُذكر في القسم الخاص بأوروبا، فكيف لا تُذكر في قسم الشرق الأوسط وهي واحد من أهم الفاعلين في الشرق الأوسط، وعضو في حلف شمال الأطلسي؟
تظهر هذه الوثيقة أن هناك موقف غير مسبوق، وخارج عن المألوف يتم تهيئته للتعامل مع تركيا.
كيف يمكن لقرار القدس أن يؤثر على هذه المعادلة؟
تم إعداد هذه الوثيقة قبل التصويت على مشروع قرار القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فكيف سيكون تأثير معارضة العالم لترامب بمبادرة تركيا، على موقف البيت الأبيض من أنقرة؟
وهل سينخفض مستوى العلاقات المتدهور أصلًا بين البلدين، أم أن واشنطن ستجري عملية محاسبة ذاتية؟
تقول مصادري المتابعة عن كثب للعلاقات التركية الأمريكية في واشنطن وأنقرة، إن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو تزايد غضب إدارة ترامب تجاه تركيا، وهذا ما سيزيد من تدهور العلاقات، ومع ذلك فإن المصادر على قناعة بأن الأحداث سيكون لها مجرى معاكس لذلك.
فقد اتضح بشكل صريح أنه لا يمكن إنكار تأثير تركيا وخصوصًا رئيسها أردوغان على العالم الإسلامي وسياساتها الحازمة والمستقلة.
وإقامة زعيم يملك هذا التأثير على شعوب المنطقة علاقات وثيقة مع روسيا يدفع البعض في واشنطن منذ الآن إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه أردوغان.
وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى العودة للشرق الأوسط، لا بد أنها ترى أن تركيا على قدر من الأهمية بحيث لا يمكن التفريط بها.
من يدري؟ ربما يكون 2018 عامًا تتعزز فيه التحالفات متعددة الاتجاهات بين البلدين..
حدثت تطورات كبيرة في سوريا، إذ لم يكن لأحد أن يتوقع أنّ الأمور ستصل إلى ما آلت إليه اليوم، فنحن أمام نتائج غير متماثلة لحرب غير متماثلة، لكن يجب أن لا ننسى أن هذا الوضع قد يتغير خلال الأيام المقبلة، لقد وقعت تغييرات شاملة في الصفوف والتحالفات اليوم في سوريا عما كانت عليه قبل عامين، وذلك يشير إلى أن المراحل القادمة ستكون أكثر صعوبة من السابق.
يرغب الجميع في اتباع سياسة أكثر صرامة في سوريا، في حين تحاول المنظمات الفكرية تجهيز الرأي العام من خلال التحليلات السياسية حول التطورات المحتملة في المستقبل، كما أفادت مؤسسة "راند" الفكرية الأمريكية بتقرير ورد خلاله أن استمرار أنقرة في توسيع نطاق الهجمات العسكرية ضد منظمات بي كي كي وحزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابية يحمل خطورةً قد تدفع الدولتين التركية-الأمريكية للدخول في حرب عسكرية مباشرة، ويشير التقرير الذي يحمل عنوان "مصالح أمريكا الاستراتيجية في الشرق الأوسط والنتائج بالنسبة إلى الجيش الأمريكي" أن اختلاف المصالح بين أنقرة وواشنطن قد يخلق صراعا بين الدولتين.
يمكننا تذكّر هذه المنظمات الفكرية من خلال التقارير التي أعدّتها مسبقاً تحت عنوان "الإسلام المعتدل"، لكنهم لم يكتفوا بتلك المشاريع التي أدت إلى زعزعة العالم الإسلامي بل بدؤوا بتجهيز التقارير فيما يخص الشرق الأوسط أيضاً، إذ يبدو مضمون هذه التقارير متناسقاً جداً مع استراتيجية الأمن الدولي التي أعدها الرئيس الأمريكي ترامب، لأن ترامب يشير خلال استراتيجيته إلى أن أمريكا تملك حق التدخل العسكري ضد أي عامل يتسبب بالضرر في الاقتصاد الأمريكي، لكن الجانب المأساوي من هذه الاستراتيجية هي مرافقة الدماء لمصالح أمريكا الاقتصادية أينما حلّت وولّت، لكن هل يوجد أي نشاط لا تنظر إليه أمريكا على أنه غير مؤثر بمصالحها الاقتصادية؟ ما هو نوع العلاقات التي يمكن لتركيا تأسيسها مع أمريكا فيما يخص مصالح الطرفين في سوريا؟ ما المواقف التي قد تواجه أنقرة إن كانت الأمور التي تعتبر مصالح اقتصادية بالنسبة إلى واشنطن تشكلّ خطراً يهدد مصالح تركيا؟
يبدو أن عفرين ليست منطقة تتضارب في المصالح بين تركيا وأمريكا، لذلك فإن تركيا ستجد أريحية في منطقة عفرين، دون غيرها من المناطق، كما يحاول الرئيس أردوغان إيجاد حل للمشاكل واحدة فواحدة لإدراكه بعدم إمكانية إيجاد حل شامل للمشاكل المتعلقة بالقضية السورية، أما الآن فيجب على تركيا الاستعداد من أجل عملية عفرين، أتوقع أن عملية عفرين ستنفّذ في إطار مختلف عن عملية درع الفرات، وأعتقد أنها ستهدف إلى تطهير نقاط معينة وليس تطهير الساحة بشكل كامل على غرار ما تمّ في عملية درع الفرات، ويبدو أن ذلك يعتبر أنسب خطوة يمكن اتخاذها نظراً إلى أن المنطقة محاصرة من جميع أطرافها.
كانت تركيا تخطط لإنشاء 12 نقطة تفتيش في ولاية إدلب السورية، لكن تم إنشاء 3 منها إلى الآن وجميعها تقع على حدود موازية مع عفرين، وكما ذكرت خلال مقالاتي السابقة أن إدلب ستكون نقطة انتقال ومصدر استخبارات فضلاً عن كونها مجرد عملية عسكرية، لذلك لن تجري هذه العملية دون تأكيد صحة جميع الخطوات قبل اتخاذها، فيما تستمر القوات المسلحة التركية في إدارة المرحلة من خلال الالتزام بالخطة المجهزة مسبقاً، ويجدر بنا ذكر الأشياء ذاتها فيما يخص عملية عفرين نظراً إلى أنها ستخضع لتغييرات داخلية ملموسة مع استمرار زيادة وحدة بي كي كي على الصعيد السياسي في سوريا، وبالتالي يتعين على تركيا إضعاف بي كي كي لفتح المجال أمام شعب المنطقة لإجراء هذا التغيير.
أصبحت الأمور في سوريا تجري بعكس مصالح الدول الخارجية، في بعض الأحيان يعتبر القليل من الدعم كافياً لزيادة السرعة في سير الأحداث، عفرين منطقة مستقلة وستتم العملية بناءً على هذا الأساس.
حسم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الشك باليقين، وأبلغنا، على لسان أحد زلمه، أن الذين يرفضون رئاسة الأسد لن يكون لهم مكان في مؤتمر سوتشي. بكلام أوضح: سيكون معيار قبول من سيدعون إلى سوتشي التخلي المسبق عن المطالبة برحيل الأسد باعتبار هذا الأمر، حسب وصفه، شعارا، وليس، حسب ثورتنا، حقا للسوريين، اعترف به العالم في وثائق رسمية، أقرّها مجلس الأمن بإجماع دوله الخمس، بما في ذلك روسيا. لن يشارك في سوتشي من يرفض قرار بوتين إبقاء "طرطوره" بشار الأسد رئيسا لنا إلى قرابة عشرين عاما مقبلة، فلا يقولن لنا أحدٌ، بعد الآن، إنه سيذهب إلى سوتشي ليطالب برحيل الطاغية، لأنه إذا كان من المطالبين حقا برحيله لن يدعى إليها، وإذا دعي سيعتبره السوريون موافقا على رئاسة بشار، وخائنا لشعبه وثورة هذا الشعب.
ـ يدّعي الروس أنهم يؤيدون قيام نظام "غير طائفي" في سورية. في الوقت نفسه، يعتبرون المحافظة على جيش الدولة الأسدية العميقة ومخابراتها لب المحافظة على الدولة السورية التي ادّعوا أنهم غزوا سورية لمنع إسقاطها الوشيك. هل يريد الروس لنا أن نصدّق أن النظام الذي سيحافظ على جهازين طائفيين، من رأسهما إلى أخمص قدميهما، سيكون نظاما "غير طائفي"؟ إذا كانت موسكو تؤيد حقا قيام نظامٍ كهذا، يكون عليها أن تكون في مقدمة مؤيدّي حل الجيش والمخابرات الأسديين، وبناء جيش وطني وجهاز أمن غير قمعي لسورية القادمة. أما أن تربط موسكو حلها ببقائهما على حالهما الراهنة، باعتبارهما الدولة التي على الثورة القبول بها، ثم تحدثنا عن النظام القادم باعتباره "غير طائفي"، فهذا مغالطةٌ تنم عن احتقارهم عقولنا، وثقتهم بأننا سذّج إلى حد نبتلع معه أي أكاذيب تقدّم لنا في سياق الضحك علينا والتلاعب بنا.
ـ لا يريد الروس الإبقاء على بشار وحده، بل هم يعتبرون جيشه ومخابراته الطائفيين أركان "النظام غير الطائفي" الذي علينا القبول المسبق به، قبل السماح لنا بالمشاركة في سوتشي، بما أن الدولة الأسدية العميقة تعتبر، في نظرهم، كيانا فوق تفاوضي، لا بد من فرضه سياسيا على السوريين، بعد أن تم إنقاذه عسكريا، يمنح من يسلم به شهادة سوتشية، تؤكد جدارته، لتوقيع صك الاستسلام الذي سيدعى إلى سوتشي للتوقيع عليه، فإن رفضه، أو رغب بمناقشته، سحبت موسكو جنسيته السورية، وحولته إلى حامل شعاراتٍ متشدّدة، لا يستحق أن يكون سوريا، أو أن يشارك في مناقشة قضايا وطنه.
ـ يكذب الروس كل من نشر أخبارا ملفقة عن علاقتهم بالأسد ونظامه، وصدّق أنه ليس خيارهم الاوحد في سورية، أو فسر بهلوانيات بوتين في قاعدة حميميم بطريقة تخمينية، يثبت كل ما يصدر من تصريحاتٍ عن أي مسؤول روسي إنها خاطئة. الأسد هو خيار الروس وأداتهم لتدمير الحل الدولي، ولفرض حلهم المناهض لما يمنحه للسوريين من حقوق، بينها رحيل قاتلهم، والمقاتل لإبقائه حاكما أبديا لشعبهم الذي يرفضه. تدوس موسكو على مليون شهيد، قدّمتهم الثورة للتخلص من السفاح، من دون ينجح أحد إلى اليوم في لي ذراعها، أو كسر إرادتها، أو يجبرها على وقف الدفاع عن حقوقها، ولن يجبرها الروس أيضا، حتى في حال وجدوا خونةً يوافقون على التخلي عن حقوق شعبهم، لن ينجو أحد منه بجلده، إن وافق على المشاركة في موتمرٍ هدفه المعلن تفريطهم بما ليس ملكهم: حق السوريين في الحياة الذي لا يحارب الروس سورية إلا من أجل انتهاكه، وحقهم في الحرية: عدو حكام موسكو التاريخي، في بلادهم وخارجها، الذي بنى بوتين استراتيجية كاملة على كسره، والتخلص من المطالبين به. خطوتها الأولى الاستيلاء على وطننا بموافقة بشار الأسد. والثانية استخدامه قاعدة عسكرية، ينتشرون منها إلى الوطن العربي خصوصا، والبلدان المجاورة بصورة عامة، بواسطة صفقاتٍ يعقدونها مع دول إقليمية، صرنا نحن السوريين مادة محاصصاتٍ بالنسبة لسياساتها. لم يبق من صداقتها المزعومة لنا غير السعي إلى مراضاة الكرملين على حسابنا، مقابل وعدٍ كاذبٍ بمساعدتهم على التحكّم بمشكلاتهم الداخلية.
ـ لا يحق لسوري بعد اليوم تبرير سلوكه بحقه في الخطأ، ما دام نجاح سوتشي يعني تسديد طعنةٍ تريدها روسيا قاتلةً لشعبه وثورته، وسيكون فشلها، في المقابل، طعنة قاتلة للحل الروسي، وفشلا لا يستهان به لكل ما عملوه ضدنا في العامين الماضيين. سيفتح من جديد باب الحل الدولي، في حال صوّبنا عملنا، وأعدنا النظر في ممارساتنا، وبنينا استراتيجيةً فاعلة حقا للدفاع عن حقوقنا المشروعة، ووفرنا مستلزمات الصمود الوطنية في وجه العواصف الحربية، التي سيطلقها الروس ضدنا.
لا بد أن نعترف أن إيران الثورة الإسلامية قد ملأت الدنيا وشغلت الناس وأحدثت قلقاً شديداً على المستويين الدولي والإقليمي وأثارت سياساتها الكثير من التساؤلات كما أدت مواقفها إلى العديد من الاستفسارات، وقد تغير المشهد في المنطقة بالكامل وهي الممتدة من غرب آسيا إلى المشرق العربي ثم إلى الخليج والجزيرة بل وتجاوزت ذلك إلى آثار أخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومنذ سقوط حكم الشاه في إيران عام 1979 ونحن نشهد تطورات تدل على أن هناك توجهاً فارسياً يسعى لاحتواء بعض الدول العربية ويخلق من المشكلات ما يجعل الحلول صعبة والأمور معقدة.
فلقد أطلت إيران الجديدة على العالمين العربي والإسلامي بعباءات الملالي وعمائم آيات الله ودست أنفها في الشؤون الداخلية لمعظم دول المنطقة فهي العراب الكبير لـ «حزب الله» في لبنان، وهي الظهير القوي لنظام الرئيس الأسد في سورية، وهي داعمة الحوثيين في اليمن وهي التي تستثمر الظروف الداخلية والنزاعات الخارجية في الدول العربية للتهيئة لوسائل السيطرة وأساليب التسلل، فلم تقنع بالثلث المعطل في لبنان بل زادت عليه محاولات خلط الأوراق والسعي إلى تصفية الحسابات ثم أصاب الخطاب السياسي الإيراني نغمة استعلاء، ويكفي أن نتذكر المقولة الاستفزازية يوم سقوط صنعاء في يد الحوثيين وكيف أعلنت طهران أن العاصمة العربية الرابعة قد سقطت في أيديهم بعد بغداد ودمشق وبيروت! وتلك دائماً هي إيران التي تعمد إلى الأساليب الملتوية والتصريحات المستفزة في محاولة للتأثير النفسي في العرب وتحطيم معنوياتهم، وقد يكون من المناسب أن نرصد الدور الإيراني ومراحله المختلفة من خلال النقاط التالية:
أولاً: عندما عاد الإمام الخميني من منفاه في باريس بالطائرة إلى مطار مهرآباد في طهران يتردد أنه قد قال أثناء الرحلة: لقد قاد العرب الأمة الإسلامية منذ فجر الدعوة لقرون عدة ثم تلاهم الأتراك لقرون عدة أخرى وقد جاء الآن دور الفرس لقيادة هذه الأمة، ويستند رواة هذا الحديث إلى رغبة إيران الثورة الإسلامية في إحكام السيطرة على دول العالم الإسلامي، بدءاً من منطقة الخليج، مرتدية قناعاً لا يمكن تجاهله وهو قناع الثورة الإسلامية في محاولة للضرب على الوتر الحساس وهو الشعور الدائم لدى المسلمين بالاضطهاد واستقواء الغرب، خصوصاً أن قيام دولة إسرائيل قد جاء تعزيزاً لهذا الشعور وتأكيداً للرغبة المتأصلة لدى الغرب في إخضاع الشرق المسلم وإذلاله، ولقد استخدم الإيرانيون ذلك أفضل استخدام وهم أصحاب الوصف المشهور عن الولايات المتحدة الأميركية بتسميتها «الشيطان الأكبر» ودمغها دائماً بصفة «التجبر»، وقد كانت أحداث الشهور الأولى بعد الثورة الإيرانية كاشفة حال التوتر التي سوف تسود المنطقة بعد اندلاع ثورة الخميني حيث جرى احتجاز عدد كبير من الأميركيين في مبنى السفارة لمدة وصلت إلى 444 يوماً، وكان ذلك في حد ذاته إيذاناً بتدشين العداء لإيران ما بعد الشاه في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها في المنطقة، وما هي إلا فترة وجيزة بعد ذلك إلا واندلعت الحرب (العراقية– الإيرانية) التي استمرت قرابة ثماني سنوات استهلكت فيها الدولتان إمكاناتهما العسكرية والاقتصادية في شكل ملحوظ، ولقد دعمت الدول العربية في الخليج وفي مصر الموقف العراقي بل إن الرئيس الراحل السادات على رغم كراهيته للرئيس العراقي صدام حسين إلا أنه أمد جيشه بالسلاح عداءً لإيران وربما انتقاماً للشاه الذي استضافته مصر ودفن في أرضها حيث أن سورية حافظ الأسد كانت داعمة لإيران لأسباب تتصل بالخلاف الحزبي بين جناحي «البعث» في دمشق وبغداد.
ثانياً: لقد ظل احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث ورفضها التفاهم حولها أو التفاوض في شأنها بمثابة دليل دامغ على سياسات إيران العدوانية ورغبتها المكتومة في السيطرة على الخليج الذي ترفض تسميته بغير عبارة الفارسي، وقد كشفت إيران الأقنعة المستترة لطموحاتها التي تخضع لأجندة توسعية تسعى من خلالها إلى الاستحواذ على المنطقة بأسرها، ولا شك أن أقنعة السيطرة كانت تسقط أحياناً كاشفة الوجه الفارسي للصراع القومي مع العرب مستتراً بالاختلاف المذهبي بين الشيعة وأهل السنة.
ثالثاً: لقد حظيت مملكة البحرين بنصيب وافر من الضغوط الإيرانية والتدخلات في شأنها الداخلي وتأليب الشيعة العرب على أشقائهم السنة داخل تلك المملكة الخليجية المسالمة، ولقد عرفت شوارع المنامة وغيرها من أجزاء المملكة ألوان الصراع والاضطرابات التي لم تكن معهودة من قبل، كأن يقال لهم إن العرش البحريني في توارث سني المذهب بينما قد يكون الشيعة هم نصف السكان أو أكثر وهكذا اضطرت إيران دولة مثل البحرين إلى الدفاع المستمر عن سلامة أراضيها واستقرار شعبها، وما أكثر التهديدات الإيرانية الصريحة الداعية إلى ابتلاع البحرين والادعاء بحقوق تاريخية فيها بينما الواقع يقول بغير ذلك تماماً، إذ لا يخفى علينا أن العرب الشيعة يسبقون في تشيعهم شيعة إيران بقرون عدة وبالتالي فليس من حق طهران الوصاية عليهم أو التحدث باسمهم أو الزج بهم في صراعات تسعي بها إيران لتحقيق طموحاتها السياسية وتنفيذ أجندتها الاستراتيجية.
رابعاً: لم يقف التدخل الإيراني عند هذا الحد بل تجاوزته إلى العبث في الشأن الداخلي لأكبر دولة خليجية وهي المملكة العربية السعودية، بحيث يوجد في شرق المملكة سكان من الشيعة العرب، فإن إيران قد سعت إلى تحريكهم ضد شرعية الدولة وعمدت إلى إذكاء الخلاف المذهبي بين الأشقاء داخل البلد الواحد، بينما الأمر في حسابنا أنه لا يوجد خلاف مذهبي حاد إنما يقف الأمر عند حدود الاختلافات التاريخية في تفسير بعض المواقف فيما يتصل بخلافتي أبي بكر وعمر ودور أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنهم جميعاً، إذ لا يمكن أن نتصور أن يكون الإله واحداً يشترك في عبادته من كان نبيهم محمداً، صلى الله عليه وسلم، وكانت قبلتهم الكعبة وأركان دينهم واحدة وقرآنهم واحداً فلا يبدو الخلاف بعد كل ذلك المشترك إلا خلافاً مصطنعاً بسبب أحداث تاريخية وليس بسبب نصوص دينية، ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات صارمة في المنطقة الشرقية لوأد الفتنة وتعزيز مظاهر الوحدة.
خامساً: لقد استخدمت إيران نغمة الخلاف المذهبي لإشعال الفتن وخلق المبررات للسيطرة والاستحواذ، ويكفي ما فعلته في العراق بعد سقوط صدام حسين ومحاولتها السيطرة على مقدرات السياسة العراقية وزيادة النفوذ الإيراني في جنوب العراق ووسطه أيضاً حتى لم يعد العراقيون الشيعة أنفسهم يقبلون تلك الوصاية الإيرانية، بل وقد ارتفعت أصوات عربية شيعية في العراق ترفض الهيمنة الإيرانية وترى في ما تفعل عدواناً على استقلال العراق وسيادته وتنظر بحذر إلى تزايد النفوذ الإيراني في «أرض الرافدين».
سادساً: لقد سيطر موضوع الملف النووي الإيراني على منطقة الشرق الأوسط وعلاقته بالولايات المتحدة الأميركية بل بالغرب عموماً، وظهرت طهران على المسرح السياسي في مشهد جديد تبدو فيه وكأنها المتحدث الرسمي باسم دول الشرق الأوسط وكأنها أيضاً حجر الزاوية في صياغة المستقبل وتحديد المسار القادم للمنطقة برمتها، وكان حرياً بالعرب أن يقولوا لواشنطن إن موضوع الملف النووي في الشرق الأوسط هو تعبير عن قضية شاملة لا تقف عند حدود إيران ولا حتى إسرائيل لأن أمن وسلامة المنطقة وحدة لا تتجزأ ولا تقبل أبداً أن تتزعم دولة بذاتها الموقف وتتصدر المشهد لكي تؤسس لمواقف جديدة نتيجة ظروف معينة حتى يصبح الملالي هم «شرطيو الخليج» بدلاً من الشاه الراحل الذي كان يلعب ذلك الدور.
سابعاً: إن وجود إسرائيل يمثل دائماً «قميص عثمان» الذي يرتديه كل من يتطلع إلى دور قيادي أو زعامة إقليمية، وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران حولت مقر القنصلية الإسرائيلية إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية وكانت تلك بادرة مشجعة للفلسطينيين والعرب والمسلمين على حد سواء، ولكن تسريبات جرت تتحدث عن اتصالات غير معلنة بين طهران وواشنطن، وأن تلك الاتصالات امتدت من خلال بعض اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل ذاتها، وقد لا يكون ذلك أمراً مؤكداً ولكن الشيء الذي ندركه تماماً هو أن إيران مثلت هاجساً أمنياً للدولة العبرية وحلفائها وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأميركية، حيث ظن الجميع أن السياسة «البرغماتية» لإيران وديبلوماسيتها الذكية تستخدم الوجود الإسرائيلي في تبرير العداء مع الغرب وفي جمع شمل المسلمين وراء السياسة الإيرانية، وربما حقق ذلك بعض الإيجابيات لطهران، ولكنه لم يعبر عن سياسة مستقرة لإيران لدى حلفائها من دول الجوار وفي المنطقة عموماً. كما أن التهديد الإيراني لإسرائيل لا يبدو حقيقة واقعة، ولكنه مبرر إسرائيلي فقط لتضخيم قضية أمنها وابتزاز حلفائها.
إذا تأملنا النقاط السالفة فإننا نضيف إليه الدور الإيراني في الأزمة السورية وكيف استخدمت طهران علاقاتها الوثيقة بسلطة الحكم في دمشق لكي تزيد من إحكام سيطرتها داخل سورية فضلاً عن دعم حزب الله الموازي لها في لبنان، ثم جاء ملف الدعم الإيراني للحوثيين وصواريخهم التي تستهدف المملكة العربية السعودية لكي يكون مؤشراً آخر عن رغبة إيران في السيطرة الدائمة للتواجد في كل مكان من دون استثناء... إن السياسة الإيرانية لدولة إسلامية كبيرة كان يجب أن تكون إضافة إيجابية للعالمين العربي والإسلامي وليست خصماً له أو عبئاً عليه، ولكنها في النهاية أقنعة إيران للسيطرة الإقليمية في غرب آسيا والشرق الأوسط.
ربما حانت لحظة الحقيقة ليعرف الأميركيون خاصة والعالم عامة، الأبعاد الخفية في العلاقات الأميركية - الإيرانية في زمن الرئيس السابق باراك أوباما، وبخاصة بعد انفجار المعلومات حول صفقة «كاسندرا» المرتبطة بـ«حزب الله» ودوره في الاتجار بالمخدرات حول العالم، وتحويل الأرباح التي تصل إلى مليار دولار سنوياً إلى جماعة ميليشياوية وثيقة الصلة بالكثير من ملامح عدم الاستقرار في لبنان والشرق الأوسط.
تفتح القضية مثار الحديث في واشنطن اليوم أبواباً ظلت مغلقة تقودنا إلى كواليس علاقة أوباما بإيران وبجماعات الإسلام السياسي والمآسي التي تعرض لها الشرق الأوسط من إقدامه العبثي في بعض الحالات على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، ودعم جماعات إرهابية للوصول إلى مقاعد السلطة، وكذا من جراء إحجامه عن التدخل في الوقت الذي كان ينبغي فيه حسم المشهد كما الحال مع الأزمة السورية.
لم يعد الحديث الآن يُهمس به في المخادع، بل يُنادى به من شرفات مجلس النواب الأميركي، حيث طالب اثنان من كبار أعضاء «لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي»؛ جيم جوردان، ورون ديسانيتس، النائب العام الأميركي جيف سيشنز بفتح تحقيق بشأن الطريقة التي تعاملت بها إدارة أوباما مع ملف اتجار «حزب الله» بالمخدرات، وبخاصة بعد التقرير الاستقصائي الذي نشرته مجلة «بوليتيكو»، وفيه من المعلومات ما هو مثير، وباختصار غير مخلّ فإنه منذ عام 2008 هناك عشرات الأجهزة الأمنية الأميركية تراقب وتتابع شبكات «حزب الله» الإجرامية التي تقوم بتهريب الكوكايين والأسلحة، وغسل الأموال، غير أن مسؤولي إدارة أوباما عرقلوا تحقيقات إدارة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA).
هل نحن أمام فضيحة كبرى يمكن أن تؤدي بباراك أوباما إلى ما وراء القضبان؟ أم أنها المكايدة السياسية من الجمهوريين وعلى رأسهم دونالد ترمب لإحداث مقايضات تحتية غير علنية فيما يتصل بأزمة «روسيا - غيت»؟
تبدو واشنطن في الأعوام الأخيرة في ارتباكها واضطرابها وأكاد أقول «لا أخلاقيتها» كجبل الثلج لا نرى إلا قمته ويبقى جسده غاطساً في الأعماق.
المشهد يحمل حال ثبوته اتهامات بتهديد حياة الأميركيين وتهديد التراب الوطني الأميركي، الأمر الذي يمكن أن يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى، ويدعو لإعادة قراءة تصريحات وأفعال فريق أوباما طوال 8 سنوات جهة إيران، وهل كان العمل على إنجاز الاتفاق النووي الإيراني يستحق التضحية بالأمن القومي للأميركيين؟
منذ أن ارتقى أوباما سدة البيت الأبيض وحديثه لم ينقطع عن تحسين العلاقة بين طهران وواشنطن، ويبدو أن هناك أجهزة أمنية استخباراتية عالية التأثير قد دعمته في هذا السياق، لأهداف ربما تظهرها التحقيقات القادمة، والتي ستُحدث ولا شك جلبة كبرى في الأرجاء.
من بين الذين برروا آيديولوجياً لأوباما هذا التقارب، كان جون برينان مدير الوكالة الأشهر في علاقاتها الخارجية بصفقات مثل التي نسمع بها مؤخراً، وقد أوصى الرئيسَ بأن «لديه الفرصة لإقامة مسار جديد بين البلدين، من خلال ليس الحوار المباشر مع طهران فحسب، بل - وهذا هو الأخطر الذيجب البحث فيما ورائياته - زيادة دمج (حزب الله) في النظام السياسي في لبنان».
لمصلحة مَن كان باراك أوباما يرسم سياساته الخارجية؟ وأيُّ فارق بين الرجل الذي رأيناه في جامعه القاهرة في يونيو (حزيران) 2009 متحدثاً عن علاقات تسودها العدالة والاحترام بين واشنطن وعواصم العالم الإسلامي السُّني تحديداً وبين ما ذهب إليه عملياً من رغبة في تصور دور جديد لـ«حزب الله» في الشرق الأوسط؟
حكماً نحن أمام إشكالية أميركية ترقى إلى مستوى الفضيحة بامتياز، ويكاد ثقات الأميركيين يقتنعون بأننا أمام «إيران - كونترا» جديدة، تلك التي جرت بها المقادير في ثمانينات القرن الماضي عندما زودت واشنطن طهران بنحو 3 آلاف صاروخ «تاو» مضادة للدروع، وصواريخ «هوك أرض – جو» مضادة للطائرات، مقابل إخلاء سبيل 5 من الأميركيين المحتجزين في لبنان.
وفي ملفات الاستخبارات الأميركية قصص عديدة عن علاقات «كارتيلات المخدرات العالمية»، وعمليات من وراء ظهر القائمين على القانون الأميركي، ومن دون علم الكونغرس.
السؤال الحيوي في هذا المقام: هل التزمت إيران بأسوأ اتفاق وقّعته أميركا المعاصرة في تاريخها؟
حريٌّ بالمحققين طرح علامة الحيرة السابقة على باراك أوباما، الذي يمكن وصفه بأنه واحد من أسوأ الذين أداروا السياسات الخارجية الأميركية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ذلك أن الحال يُغني عن السؤال، سيما أن ما أتاحه الاتفاق لطهران من فك أغلال، وتحرير أموال مجمدة، ها هي تستخدمه دون رادع أو وازع في تمويل مشروعها الصاروخي الذي بات يهدد أمن دول الجوار صباح مساء، كل يوم.
بحال من الأحوال نحن إزاء الفصل الأول من مشهد فضائحي أميركي جديد، تفقد فيه أميركا المزيد من صدقيتها الأخلاقية، غير أن ما يهمنا بنوع خاص، هو الحقيقة التي حانت ساعتها، وكيف لإدارة دونالد ترمب الاستفادة منها، بمعنى أن تضحى قصة أوباما الأخيرة دافعاً وحافزاً لأن تتخذ موقفاً جدياً من المشروع الصاروخي الإيراني، وأن يرى الحلفاء العرب والشرق أوسطيون شفافية ونزاهة بحسم وحزم للوقوف في وجه الخطر الإيراني الداهم، وإلا فإن الجميع سينظر إلى ترمب بوصفه شريكاً بالتخاذل، أو الصمت على الأقل... فانظر ماذا ترى؟