على الرغم من أن البعض اعتبر عدم ذكر تركيا في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب، "أهون الشرين"، إلا أننا نرى عند قراءة الوثيقة من أولها إلى آخرها أن هناك جهد خاص بُذل من أجل عدم الحديث عن تركيا، وهذا جهد لتجاهلها.
وكأن الهدف من الوثيقة هو توجيه إنذار لحكومة أردوغان، التي لم تخضع أمام واشنطن، والتقليل من شأنها وتلقينها درسًا.
الأمر المثير للسخرية أن الجميع في واشنطن يبدون وقد فقدوا القدرة على جس النبض، لأنه لا بد لمن يتابع السياسة أن يعلم أن مثل هذه الأساليب يكون لها مفعول عكسي لدى أردوغان.
على سبيل المثال، في القسم الخاص بأوروبا، يرد تعداد البلدان التي تعرضت لهجمات داعش، لكن لا وجود لتركيا. ألم يسقط أكثر ضحايا التنظيم في تركيا؟ ألم توجه تركيا أكبر ضربة للتنظيم عبر عملية درع الفرات؟
غير أن وثيقة الأمن القومي الأمريكي تعتبر أن تركيا مُسحت من خريطة العالم.
لنقل أن تركيا لم تُذكر في القسم الخاص بأوروبا، فكيف لا تُذكر في قسم الشرق الأوسط وهي واحد من أهم الفاعلين في الشرق الأوسط، وعضو في حلف شمال الأطلسي؟
تظهر هذه الوثيقة أن هناك موقف غير مسبوق، وخارج عن المألوف يتم تهيئته للتعامل مع تركيا.
كيف يمكن لقرار القدس أن يؤثر على هذه المعادلة؟
تم إعداد هذه الوثيقة قبل التصويت على مشروع قرار القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فكيف سيكون تأثير معارضة العالم لترامب بمبادرة تركيا، على موقف البيت الأبيض من أنقرة؟
وهل سينخفض مستوى العلاقات المتدهور أصلًا بين البلدين، أم أن واشنطن ستجري عملية محاسبة ذاتية؟
تقول مصادري المتابعة عن كثب للعلاقات التركية الأمريكية في واشنطن وأنقرة، إن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو تزايد غضب إدارة ترامب تجاه تركيا، وهذا ما سيزيد من تدهور العلاقات، ومع ذلك فإن المصادر على قناعة بأن الأحداث سيكون لها مجرى معاكس لذلك.
فقد اتضح بشكل صريح أنه لا يمكن إنكار تأثير تركيا وخصوصًا رئيسها أردوغان على العالم الإسلامي وسياساتها الحازمة والمستقلة.
وإقامة زعيم يملك هذا التأثير على شعوب المنطقة علاقات وثيقة مع روسيا يدفع البعض في واشنطن منذ الآن إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه أردوغان.
وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى العودة للشرق الأوسط، لا بد أنها ترى أن تركيا على قدر من الأهمية بحيث لا يمكن التفريط بها.
من يدري؟ ربما يكون 2018 عامًا تتعزز فيه التحالفات متعددة الاتجاهات بين البلدين..
حدثت تطورات كبيرة في سوريا، إذ لم يكن لأحد أن يتوقع أنّ الأمور ستصل إلى ما آلت إليه اليوم، فنحن أمام نتائج غير متماثلة لحرب غير متماثلة، لكن يجب أن لا ننسى أن هذا الوضع قد يتغير خلال الأيام المقبلة، لقد وقعت تغييرات شاملة في الصفوف والتحالفات اليوم في سوريا عما كانت عليه قبل عامين، وذلك يشير إلى أن المراحل القادمة ستكون أكثر صعوبة من السابق.
يرغب الجميع في اتباع سياسة أكثر صرامة في سوريا، في حين تحاول المنظمات الفكرية تجهيز الرأي العام من خلال التحليلات السياسية حول التطورات المحتملة في المستقبل، كما أفادت مؤسسة "راند" الفكرية الأمريكية بتقرير ورد خلاله أن استمرار أنقرة في توسيع نطاق الهجمات العسكرية ضد منظمات بي كي كي وحزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابية يحمل خطورةً قد تدفع الدولتين التركية-الأمريكية للدخول في حرب عسكرية مباشرة، ويشير التقرير الذي يحمل عنوان "مصالح أمريكا الاستراتيجية في الشرق الأوسط والنتائج بالنسبة إلى الجيش الأمريكي" أن اختلاف المصالح بين أنقرة وواشنطن قد يخلق صراعا بين الدولتين.
يمكننا تذكّر هذه المنظمات الفكرية من خلال التقارير التي أعدّتها مسبقاً تحت عنوان "الإسلام المعتدل"، لكنهم لم يكتفوا بتلك المشاريع التي أدت إلى زعزعة العالم الإسلامي بل بدؤوا بتجهيز التقارير فيما يخص الشرق الأوسط أيضاً، إذ يبدو مضمون هذه التقارير متناسقاً جداً مع استراتيجية الأمن الدولي التي أعدها الرئيس الأمريكي ترامب، لأن ترامب يشير خلال استراتيجيته إلى أن أمريكا تملك حق التدخل العسكري ضد أي عامل يتسبب بالضرر في الاقتصاد الأمريكي، لكن الجانب المأساوي من هذه الاستراتيجية هي مرافقة الدماء لمصالح أمريكا الاقتصادية أينما حلّت وولّت، لكن هل يوجد أي نشاط لا تنظر إليه أمريكا على أنه غير مؤثر بمصالحها الاقتصادية؟ ما هو نوع العلاقات التي يمكن لتركيا تأسيسها مع أمريكا فيما يخص مصالح الطرفين في سوريا؟ ما المواقف التي قد تواجه أنقرة إن كانت الأمور التي تعتبر مصالح اقتصادية بالنسبة إلى واشنطن تشكلّ خطراً يهدد مصالح تركيا؟
يبدو أن عفرين ليست منطقة تتضارب في المصالح بين تركيا وأمريكا، لذلك فإن تركيا ستجد أريحية في منطقة عفرين، دون غيرها من المناطق، كما يحاول الرئيس أردوغان إيجاد حل للمشاكل واحدة فواحدة لإدراكه بعدم إمكانية إيجاد حل شامل للمشاكل المتعلقة بالقضية السورية، أما الآن فيجب على تركيا الاستعداد من أجل عملية عفرين، أتوقع أن عملية عفرين ستنفّذ في إطار مختلف عن عملية درع الفرات، وأعتقد أنها ستهدف إلى تطهير نقاط معينة وليس تطهير الساحة بشكل كامل على غرار ما تمّ في عملية درع الفرات، ويبدو أن ذلك يعتبر أنسب خطوة يمكن اتخاذها نظراً إلى أن المنطقة محاصرة من جميع أطرافها.
كانت تركيا تخطط لإنشاء 12 نقطة تفتيش في ولاية إدلب السورية، لكن تم إنشاء 3 منها إلى الآن وجميعها تقع على حدود موازية مع عفرين، وكما ذكرت خلال مقالاتي السابقة أن إدلب ستكون نقطة انتقال ومصدر استخبارات فضلاً عن كونها مجرد عملية عسكرية، لذلك لن تجري هذه العملية دون تأكيد صحة جميع الخطوات قبل اتخاذها، فيما تستمر القوات المسلحة التركية في إدارة المرحلة من خلال الالتزام بالخطة المجهزة مسبقاً، ويجدر بنا ذكر الأشياء ذاتها فيما يخص عملية عفرين نظراً إلى أنها ستخضع لتغييرات داخلية ملموسة مع استمرار زيادة وحدة بي كي كي على الصعيد السياسي في سوريا، وبالتالي يتعين على تركيا إضعاف بي كي كي لفتح المجال أمام شعب المنطقة لإجراء هذا التغيير.
أصبحت الأمور في سوريا تجري بعكس مصالح الدول الخارجية، في بعض الأحيان يعتبر القليل من الدعم كافياً لزيادة السرعة في سير الأحداث، عفرين منطقة مستقلة وستتم العملية بناءً على هذا الأساس.
حسم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الشك باليقين، وأبلغنا، على لسان أحد زلمه، أن الذين يرفضون رئاسة الأسد لن يكون لهم مكان في مؤتمر سوتشي. بكلام أوضح: سيكون معيار قبول من سيدعون إلى سوتشي التخلي المسبق عن المطالبة برحيل الأسد باعتبار هذا الأمر، حسب وصفه، شعارا، وليس، حسب ثورتنا، حقا للسوريين، اعترف به العالم في وثائق رسمية، أقرّها مجلس الأمن بإجماع دوله الخمس، بما في ذلك روسيا. لن يشارك في سوتشي من يرفض قرار بوتين إبقاء "طرطوره" بشار الأسد رئيسا لنا إلى قرابة عشرين عاما مقبلة، فلا يقولن لنا أحدٌ، بعد الآن، إنه سيذهب إلى سوتشي ليطالب برحيل الطاغية، لأنه إذا كان من المطالبين حقا برحيله لن يدعى إليها، وإذا دعي سيعتبره السوريون موافقا على رئاسة بشار، وخائنا لشعبه وثورة هذا الشعب.
ـ يدّعي الروس أنهم يؤيدون قيام نظام "غير طائفي" في سورية. في الوقت نفسه، يعتبرون المحافظة على جيش الدولة الأسدية العميقة ومخابراتها لب المحافظة على الدولة السورية التي ادّعوا أنهم غزوا سورية لمنع إسقاطها الوشيك. هل يريد الروس لنا أن نصدّق أن النظام الذي سيحافظ على جهازين طائفيين، من رأسهما إلى أخمص قدميهما، سيكون نظاما "غير طائفي"؟ إذا كانت موسكو تؤيد حقا قيام نظامٍ كهذا، يكون عليها أن تكون في مقدمة مؤيدّي حل الجيش والمخابرات الأسديين، وبناء جيش وطني وجهاز أمن غير قمعي لسورية القادمة. أما أن تربط موسكو حلها ببقائهما على حالهما الراهنة، باعتبارهما الدولة التي على الثورة القبول بها، ثم تحدثنا عن النظام القادم باعتباره "غير طائفي"، فهذا مغالطةٌ تنم عن احتقارهم عقولنا، وثقتهم بأننا سذّج إلى حد نبتلع معه أي أكاذيب تقدّم لنا في سياق الضحك علينا والتلاعب بنا.
ـ لا يريد الروس الإبقاء على بشار وحده، بل هم يعتبرون جيشه ومخابراته الطائفيين أركان "النظام غير الطائفي" الذي علينا القبول المسبق به، قبل السماح لنا بالمشاركة في سوتشي، بما أن الدولة الأسدية العميقة تعتبر، في نظرهم، كيانا فوق تفاوضي، لا بد من فرضه سياسيا على السوريين، بعد أن تم إنقاذه عسكريا، يمنح من يسلم به شهادة سوتشية، تؤكد جدارته، لتوقيع صك الاستسلام الذي سيدعى إلى سوتشي للتوقيع عليه، فإن رفضه، أو رغب بمناقشته، سحبت موسكو جنسيته السورية، وحولته إلى حامل شعاراتٍ متشدّدة، لا يستحق أن يكون سوريا، أو أن يشارك في مناقشة قضايا وطنه.
ـ يكذب الروس كل من نشر أخبارا ملفقة عن علاقتهم بالأسد ونظامه، وصدّق أنه ليس خيارهم الاوحد في سورية، أو فسر بهلوانيات بوتين في قاعدة حميميم بطريقة تخمينية، يثبت كل ما يصدر من تصريحاتٍ عن أي مسؤول روسي إنها خاطئة. الأسد هو خيار الروس وأداتهم لتدمير الحل الدولي، ولفرض حلهم المناهض لما يمنحه للسوريين من حقوق، بينها رحيل قاتلهم، والمقاتل لإبقائه حاكما أبديا لشعبهم الذي يرفضه. تدوس موسكو على مليون شهيد، قدّمتهم الثورة للتخلص من السفاح، من دون ينجح أحد إلى اليوم في لي ذراعها، أو كسر إرادتها، أو يجبرها على وقف الدفاع عن حقوقها، ولن يجبرها الروس أيضا، حتى في حال وجدوا خونةً يوافقون على التخلي عن حقوق شعبهم، لن ينجو أحد منه بجلده، إن وافق على المشاركة في موتمرٍ هدفه المعلن تفريطهم بما ليس ملكهم: حق السوريين في الحياة الذي لا يحارب الروس سورية إلا من أجل انتهاكه، وحقهم في الحرية: عدو حكام موسكو التاريخي، في بلادهم وخارجها، الذي بنى بوتين استراتيجية كاملة على كسره، والتخلص من المطالبين به. خطوتها الأولى الاستيلاء على وطننا بموافقة بشار الأسد. والثانية استخدامه قاعدة عسكرية، ينتشرون منها إلى الوطن العربي خصوصا، والبلدان المجاورة بصورة عامة، بواسطة صفقاتٍ يعقدونها مع دول إقليمية، صرنا نحن السوريين مادة محاصصاتٍ بالنسبة لسياساتها. لم يبق من صداقتها المزعومة لنا غير السعي إلى مراضاة الكرملين على حسابنا، مقابل وعدٍ كاذبٍ بمساعدتهم على التحكّم بمشكلاتهم الداخلية.
ـ لا يحق لسوري بعد اليوم تبرير سلوكه بحقه في الخطأ، ما دام نجاح سوتشي يعني تسديد طعنةٍ تريدها روسيا قاتلةً لشعبه وثورته، وسيكون فشلها، في المقابل، طعنة قاتلة للحل الروسي، وفشلا لا يستهان به لكل ما عملوه ضدنا في العامين الماضيين. سيفتح من جديد باب الحل الدولي، في حال صوّبنا عملنا، وأعدنا النظر في ممارساتنا، وبنينا استراتيجيةً فاعلة حقا للدفاع عن حقوقنا المشروعة، ووفرنا مستلزمات الصمود الوطنية في وجه العواصف الحربية، التي سيطلقها الروس ضدنا.
لا بد أن نعترف أن إيران الثورة الإسلامية قد ملأت الدنيا وشغلت الناس وأحدثت قلقاً شديداً على المستويين الدولي والإقليمي وأثارت سياساتها الكثير من التساؤلات كما أدت مواقفها إلى العديد من الاستفسارات، وقد تغير المشهد في المنطقة بالكامل وهي الممتدة من غرب آسيا إلى المشرق العربي ثم إلى الخليج والجزيرة بل وتجاوزت ذلك إلى آثار أخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومنذ سقوط حكم الشاه في إيران عام 1979 ونحن نشهد تطورات تدل على أن هناك توجهاً فارسياً يسعى لاحتواء بعض الدول العربية ويخلق من المشكلات ما يجعل الحلول صعبة والأمور معقدة.
فلقد أطلت إيران الجديدة على العالمين العربي والإسلامي بعباءات الملالي وعمائم آيات الله ودست أنفها في الشؤون الداخلية لمعظم دول المنطقة فهي العراب الكبير لـ «حزب الله» في لبنان، وهي الظهير القوي لنظام الرئيس الأسد في سورية، وهي داعمة الحوثيين في اليمن وهي التي تستثمر الظروف الداخلية والنزاعات الخارجية في الدول العربية للتهيئة لوسائل السيطرة وأساليب التسلل، فلم تقنع بالثلث المعطل في لبنان بل زادت عليه محاولات خلط الأوراق والسعي إلى تصفية الحسابات ثم أصاب الخطاب السياسي الإيراني نغمة استعلاء، ويكفي أن نتذكر المقولة الاستفزازية يوم سقوط صنعاء في يد الحوثيين وكيف أعلنت طهران أن العاصمة العربية الرابعة قد سقطت في أيديهم بعد بغداد ودمشق وبيروت! وتلك دائماً هي إيران التي تعمد إلى الأساليب الملتوية والتصريحات المستفزة في محاولة للتأثير النفسي في العرب وتحطيم معنوياتهم، وقد يكون من المناسب أن نرصد الدور الإيراني ومراحله المختلفة من خلال النقاط التالية:
أولاً: عندما عاد الإمام الخميني من منفاه في باريس بالطائرة إلى مطار مهرآباد في طهران يتردد أنه قد قال أثناء الرحلة: لقد قاد العرب الأمة الإسلامية منذ فجر الدعوة لقرون عدة ثم تلاهم الأتراك لقرون عدة أخرى وقد جاء الآن دور الفرس لقيادة هذه الأمة، ويستند رواة هذا الحديث إلى رغبة إيران الثورة الإسلامية في إحكام السيطرة على دول العالم الإسلامي، بدءاً من منطقة الخليج، مرتدية قناعاً لا يمكن تجاهله وهو قناع الثورة الإسلامية في محاولة للضرب على الوتر الحساس وهو الشعور الدائم لدى المسلمين بالاضطهاد واستقواء الغرب، خصوصاً أن قيام دولة إسرائيل قد جاء تعزيزاً لهذا الشعور وتأكيداً للرغبة المتأصلة لدى الغرب في إخضاع الشرق المسلم وإذلاله، ولقد استخدم الإيرانيون ذلك أفضل استخدام وهم أصحاب الوصف المشهور عن الولايات المتحدة الأميركية بتسميتها «الشيطان الأكبر» ودمغها دائماً بصفة «التجبر»، وقد كانت أحداث الشهور الأولى بعد الثورة الإيرانية كاشفة حال التوتر التي سوف تسود المنطقة بعد اندلاع ثورة الخميني حيث جرى احتجاز عدد كبير من الأميركيين في مبنى السفارة لمدة وصلت إلى 444 يوماً، وكان ذلك في حد ذاته إيذاناً بتدشين العداء لإيران ما بعد الشاه في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها في المنطقة، وما هي إلا فترة وجيزة بعد ذلك إلا واندلعت الحرب (العراقية– الإيرانية) التي استمرت قرابة ثماني سنوات استهلكت فيها الدولتان إمكاناتهما العسكرية والاقتصادية في شكل ملحوظ، ولقد دعمت الدول العربية في الخليج وفي مصر الموقف العراقي بل إن الرئيس الراحل السادات على رغم كراهيته للرئيس العراقي صدام حسين إلا أنه أمد جيشه بالسلاح عداءً لإيران وربما انتقاماً للشاه الذي استضافته مصر ودفن في أرضها حيث أن سورية حافظ الأسد كانت داعمة لإيران لأسباب تتصل بالخلاف الحزبي بين جناحي «البعث» في دمشق وبغداد.
ثانياً: لقد ظل احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث ورفضها التفاهم حولها أو التفاوض في شأنها بمثابة دليل دامغ على سياسات إيران العدوانية ورغبتها المكتومة في السيطرة على الخليج الذي ترفض تسميته بغير عبارة الفارسي، وقد كشفت إيران الأقنعة المستترة لطموحاتها التي تخضع لأجندة توسعية تسعى من خلالها إلى الاستحواذ على المنطقة بأسرها، ولا شك أن أقنعة السيطرة كانت تسقط أحياناً كاشفة الوجه الفارسي للصراع القومي مع العرب مستتراً بالاختلاف المذهبي بين الشيعة وأهل السنة.
ثالثاً: لقد حظيت مملكة البحرين بنصيب وافر من الضغوط الإيرانية والتدخلات في شأنها الداخلي وتأليب الشيعة العرب على أشقائهم السنة داخل تلك المملكة الخليجية المسالمة، ولقد عرفت شوارع المنامة وغيرها من أجزاء المملكة ألوان الصراع والاضطرابات التي لم تكن معهودة من قبل، كأن يقال لهم إن العرش البحريني في توارث سني المذهب بينما قد يكون الشيعة هم نصف السكان أو أكثر وهكذا اضطرت إيران دولة مثل البحرين إلى الدفاع المستمر عن سلامة أراضيها واستقرار شعبها، وما أكثر التهديدات الإيرانية الصريحة الداعية إلى ابتلاع البحرين والادعاء بحقوق تاريخية فيها بينما الواقع يقول بغير ذلك تماماً، إذ لا يخفى علينا أن العرب الشيعة يسبقون في تشيعهم شيعة إيران بقرون عدة وبالتالي فليس من حق طهران الوصاية عليهم أو التحدث باسمهم أو الزج بهم في صراعات تسعي بها إيران لتحقيق طموحاتها السياسية وتنفيذ أجندتها الاستراتيجية.
رابعاً: لم يقف التدخل الإيراني عند هذا الحد بل تجاوزته إلى العبث في الشأن الداخلي لأكبر دولة خليجية وهي المملكة العربية السعودية، بحيث يوجد في شرق المملكة سكان من الشيعة العرب، فإن إيران قد سعت إلى تحريكهم ضد شرعية الدولة وعمدت إلى إذكاء الخلاف المذهبي بين الأشقاء داخل البلد الواحد، بينما الأمر في حسابنا أنه لا يوجد خلاف مذهبي حاد إنما يقف الأمر عند حدود الاختلافات التاريخية في تفسير بعض المواقف فيما يتصل بخلافتي أبي بكر وعمر ودور أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنهم جميعاً، إذ لا يمكن أن نتصور أن يكون الإله واحداً يشترك في عبادته من كان نبيهم محمداً، صلى الله عليه وسلم، وكانت قبلتهم الكعبة وأركان دينهم واحدة وقرآنهم واحداً فلا يبدو الخلاف بعد كل ذلك المشترك إلا خلافاً مصطنعاً بسبب أحداث تاريخية وليس بسبب نصوص دينية، ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات صارمة في المنطقة الشرقية لوأد الفتنة وتعزيز مظاهر الوحدة.
خامساً: لقد استخدمت إيران نغمة الخلاف المذهبي لإشعال الفتن وخلق المبررات للسيطرة والاستحواذ، ويكفي ما فعلته في العراق بعد سقوط صدام حسين ومحاولتها السيطرة على مقدرات السياسة العراقية وزيادة النفوذ الإيراني في جنوب العراق ووسطه أيضاً حتى لم يعد العراقيون الشيعة أنفسهم يقبلون تلك الوصاية الإيرانية، بل وقد ارتفعت أصوات عربية شيعية في العراق ترفض الهيمنة الإيرانية وترى في ما تفعل عدواناً على استقلال العراق وسيادته وتنظر بحذر إلى تزايد النفوذ الإيراني في «أرض الرافدين».
سادساً: لقد سيطر موضوع الملف النووي الإيراني على منطقة الشرق الأوسط وعلاقته بالولايات المتحدة الأميركية بل بالغرب عموماً، وظهرت طهران على المسرح السياسي في مشهد جديد تبدو فيه وكأنها المتحدث الرسمي باسم دول الشرق الأوسط وكأنها أيضاً حجر الزاوية في صياغة المستقبل وتحديد المسار القادم للمنطقة برمتها، وكان حرياً بالعرب أن يقولوا لواشنطن إن موضوع الملف النووي في الشرق الأوسط هو تعبير عن قضية شاملة لا تقف عند حدود إيران ولا حتى إسرائيل لأن أمن وسلامة المنطقة وحدة لا تتجزأ ولا تقبل أبداً أن تتزعم دولة بذاتها الموقف وتتصدر المشهد لكي تؤسس لمواقف جديدة نتيجة ظروف معينة حتى يصبح الملالي هم «شرطيو الخليج» بدلاً من الشاه الراحل الذي كان يلعب ذلك الدور.
سابعاً: إن وجود إسرائيل يمثل دائماً «قميص عثمان» الذي يرتديه كل من يتطلع إلى دور قيادي أو زعامة إقليمية، وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران حولت مقر القنصلية الإسرائيلية إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية وكانت تلك بادرة مشجعة للفلسطينيين والعرب والمسلمين على حد سواء، ولكن تسريبات جرت تتحدث عن اتصالات غير معلنة بين طهران وواشنطن، وأن تلك الاتصالات امتدت من خلال بعض اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل ذاتها، وقد لا يكون ذلك أمراً مؤكداً ولكن الشيء الذي ندركه تماماً هو أن إيران مثلت هاجساً أمنياً للدولة العبرية وحلفائها وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأميركية، حيث ظن الجميع أن السياسة «البرغماتية» لإيران وديبلوماسيتها الذكية تستخدم الوجود الإسرائيلي في تبرير العداء مع الغرب وفي جمع شمل المسلمين وراء السياسة الإيرانية، وربما حقق ذلك بعض الإيجابيات لطهران، ولكنه لم يعبر عن سياسة مستقرة لإيران لدى حلفائها من دول الجوار وفي المنطقة عموماً. كما أن التهديد الإيراني لإسرائيل لا يبدو حقيقة واقعة، ولكنه مبرر إسرائيلي فقط لتضخيم قضية أمنها وابتزاز حلفائها.
إذا تأملنا النقاط السالفة فإننا نضيف إليه الدور الإيراني في الأزمة السورية وكيف استخدمت طهران علاقاتها الوثيقة بسلطة الحكم في دمشق لكي تزيد من إحكام سيطرتها داخل سورية فضلاً عن دعم حزب الله الموازي لها في لبنان، ثم جاء ملف الدعم الإيراني للحوثيين وصواريخهم التي تستهدف المملكة العربية السعودية لكي يكون مؤشراً آخر عن رغبة إيران في السيطرة الدائمة للتواجد في كل مكان من دون استثناء... إن السياسة الإيرانية لدولة إسلامية كبيرة كان يجب أن تكون إضافة إيجابية للعالمين العربي والإسلامي وليست خصماً له أو عبئاً عليه، ولكنها في النهاية أقنعة إيران للسيطرة الإقليمية في غرب آسيا والشرق الأوسط.
ربما حانت لحظة الحقيقة ليعرف الأميركيون خاصة والعالم عامة، الأبعاد الخفية في العلاقات الأميركية - الإيرانية في زمن الرئيس السابق باراك أوباما، وبخاصة بعد انفجار المعلومات حول صفقة «كاسندرا» المرتبطة بـ«حزب الله» ودوره في الاتجار بالمخدرات حول العالم، وتحويل الأرباح التي تصل إلى مليار دولار سنوياً إلى جماعة ميليشياوية وثيقة الصلة بالكثير من ملامح عدم الاستقرار في لبنان والشرق الأوسط.
تفتح القضية مثار الحديث في واشنطن اليوم أبواباً ظلت مغلقة تقودنا إلى كواليس علاقة أوباما بإيران وبجماعات الإسلام السياسي والمآسي التي تعرض لها الشرق الأوسط من إقدامه العبثي في بعض الحالات على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، ودعم جماعات إرهابية للوصول إلى مقاعد السلطة، وكذا من جراء إحجامه عن التدخل في الوقت الذي كان ينبغي فيه حسم المشهد كما الحال مع الأزمة السورية.
لم يعد الحديث الآن يُهمس به في المخادع، بل يُنادى به من شرفات مجلس النواب الأميركي، حيث طالب اثنان من كبار أعضاء «لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي»؛ جيم جوردان، ورون ديسانيتس، النائب العام الأميركي جيف سيشنز بفتح تحقيق بشأن الطريقة التي تعاملت بها إدارة أوباما مع ملف اتجار «حزب الله» بالمخدرات، وبخاصة بعد التقرير الاستقصائي الذي نشرته مجلة «بوليتيكو»، وفيه من المعلومات ما هو مثير، وباختصار غير مخلّ فإنه منذ عام 2008 هناك عشرات الأجهزة الأمنية الأميركية تراقب وتتابع شبكات «حزب الله» الإجرامية التي تقوم بتهريب الكوكايين والأسلحة، وغسل الأموال، غير أن مسؤولي إدارة أوباما عرقلوا تحقيقات إدارة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA).
هل نحن أمام فضيحة كبرى يمكن أن تؤدي بباراك أوباما إلى ما وراء القضبان؟ أم أنها المكايدة السياسية من الجمهوريين وعلى رأسهم دونالد ترمب لإحداث مقايضات تحتية غير علنية فيما يتصل بأزمة «روسيا - غيت»؟
تبدو واشنطن في الأعوام الأخيرة في ارتباكها واضطرابها وأكاد أقول «لا أخلاقيتها» كجبل الثلج لا نرى إلا قمته ويبقى جسده غاطساً في الأعماق.
المشهد يحمل حال ثبوته اتهامات بتهديد حياة الأميركيين وتهديد التراب الوطني الأميركي، الأمر الذي يمكن أن يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى، ويدعو لإعادة قراءة تصريحات وأفعال فريق أوباما طوال 8 سنوات جهة إيران، وهل كان العمل على إنجاز الاتفاق النووي الإيراني يستحق التضحية بالأمن القومي للأميركيين؟
منذ أن ارتقى أوباما سدة البيت الأبيض وحديثه لم ينقطع عن تحسين العلاقة بين طهران وواشنطن، ويبدو أن هناك أجهزة أمنية استخباراتية عالية التأثير قد دعمته في هذا السياق، لأهداف ربما تظهرها التحقيقات القادمة، والتي ستُحدث ولا شك جلبة كبرى في الأرجاء.
من بين الذين برروا آيديولوجياً لأوباما هذا التقارب، كان جون برينان مدير الوكالة الأشهر في علاقاتها الخارجية بصفقات مثل التي نسمع بها مؤخراً، وقد أوصى الرئيسَ بأن «لديه الفرصة لإقامة مسار جديد بين البلدين، من خلال ليس الحوار المباشر مع طهران فحسب، بل - وهذا هو الأخطر الذيجب البحث فيما ورائياته - زيادة دمج (حزب الله) في النظام السياسي في لبنان».
لمصلحة مَن كان باراك أوباما يرسم سياساته الخارجية؟ وأيُّ فارق بين الرجل الذي رأيناه في جامعه القاهرة في يونيو (حزيران) 2009 متحدثاً عن علاقات تسودها العدالة والاحترام بين واشنطن وعواصم العالم الإسلامي السُّني تحديداً وبين ما ذهب إليه عملياً من رغبة في تصور دور جديد لـ«حزب الله» في الشرق الأوسط؟
حكماً نحن أمام إشكالية أميركية ترقى إلى مستوى الفضيحة بامتياز، ويكاد ثقات الأميركيين يقتنعون بأننا أمام «إيران - كونترا» جديدة، تلك التي جرت بها المقادير في ثمانينات القرن الماضي عندما زودت واشنطن طهران بنحو 3 آلاف صاروخ «تاو» مضادة للدروع، وصواريخ «هوك أرض – جو» مضادة للطائرات، مقابل إخلاء سبيل 5 من الأميركيين المحتجزين في لبنان.
وفي ملفات الاستخبارات الأميركية قصص عديدة عن علاقات «كارتيلات المخدرات العالمية»، وعمليات من وراء ظهر القائمين على القانون الأميركي، ومن دون علم الكونغرس.
السؤال الحيوي في هذا المقام: هل التزمت إيران بأسوأ اتفاق وقّعته أميركا المعاصرة في تاريخها؟
حريٌّ بالمحققين طرح علامة الحيرة السابقة على باراك أوباما، الذي يمكن وصفه بأنه واحد من أسوأ الذين أداروا السياسات الخارجية الأميركية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ذلك أن الحال يُغني عن السؤال، سيما أن ما أتاحه الاتفاق لطهران من فك أغلال، وتحرير أموال مجمدة، ها هي تستخدمه دون رادع أو وازع في تمويل مشروعها الصاروخي الذي بات يهدد أمن دول الجوار صباح مساء، كل يوم.
بحال من الأحوال نحن إزاء الفصل الأول من مشهد فضائحي أميركي جديد، تفقد فيه أميركا المزيد من صدقيتها الأخلاقية، غير أن ما يهمنا بنوع خاص، هو الحقيقة التي حانت ساعتها، وكيف لإدارة دونالد ترمب الاستفادة منها، بمعنى أن تضحى قصة أوباما الأخيرة دافعاً وحافزاً لأن تتخذ موقفاً جدياً من المشروع الصاروخي الإيراني، وأن يرى الحلفاء العرب والشرق أوسطيون شفافية ونزاهة بحسم وحزم للوقوف في وجه الخطر الإيراني الداهم، وإلا فإن الجميع سينظر إلى ترمب بوصفه شريكاً بالتخاذل، أو الصمت على الأقل... فانظر ماذا ترى؟
لبنان يحث الخطى نحو نموذج النظام السياسي الأمني الذي مثلته مدرسة بشار الأسد في سوريا، ولعل اللبنانيين باتوا أكثر اقتناعا هذه الأيام، بأن التحالف الذي يقود السلطة اليوم بوصاية من قبل حزب الله، غير معني بإعادة دور لبنان إلى سابق عهده، أي دولة تتسم بعلاقات خارجية متوازنة مع دول العالم، منتمية إلى محيطها العربي من دون تكلف أو تجاوز لموقع لبنان ونظام مصالحه، ودولة منفتحة على العلاقات مع الغرب من دون أن تمس هذه العلاقة بهوية لبنان العربية. والأهم من ذلك كله أن لبنان يفتقد اليوم المساحة الرحبة للتنوع بمعناه السياسي العميق، بحيث أن المعارضة التي ضاقت في النادي السياسي البرلماني باتت عرضة للإقصاء والتخوين، عرضة للملاحقة القضائية كما هو الحال اليوم بعد تحريك الادعاء العام ضد رئيس حزب الكتائب سامي الجميل وهو رسميا الحزب الوحيد المعارض للحكومة في البرلمان.
السير على خطى النظام الأسدي، يتم أيضا عبر تشديد القبضة الأمنية والإعلاء من معادلة الأمن مقابل المزيد من التضييق على الحريات، وهو ما انعكس تضييقا على وسائل الإعلام والصحافة، بحيث فقدت وسائل الإعلام القدرة على لعب دورها التاريخي بأن تشكل منبرا للرأي الآخر. وفي هذا السياق عمدت السلطة الفعلية في لبنان، والمتمثلة بالقبضة الأمنية الممسكة بمفاصل السلطة الأمنية، إلى ملاحقة عدد من الإعلاميين اللبنانيين في رسالة مكشوفة مفادها أن الاعتراض على تحالف السلطة بات مكلفا ويجب أن يأخذ الإعلام علما بذلك. وتأتي عملية الاستفراد بالإعلام اللبناني وتطويعه، في ظل غياب عربي غير مسبوق عن الساحة الإعلامية مما أتاح لتحالف السلطة، المرعيّ إيرانيا، تحويل المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى وسائل إعلامية ملتزمة بخطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها، وهذا ما لم يشهده لبنان في تاريخه.
أبرز الإعلاميين ومنهم مارسيل غانم، وأبرز المعارضين السياسيين ومن بينهم رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، تم تحريك القضاء لملاحقتهم على مواقف أو وجهات نظر اعتبرتها السلطة مخالفة للقانون، فيما إعلاميو السلطة لا يكفون عن الشتم والتهديد العلني من دون أن يتحرك القضاء، بل تجري مكافأتهم والتنويه بكفاءاتهم التي تقتصر على لغة التهديد والضرب بسيف السلطة لكل معارض لها، لكن الأكثر خطورة كان العبث بالسلطة القضائية حيث تمّ إقصاء رئيس أعلى سلطة قضائية إدارية أي مجلس شورى الدولة الذي أقيل رئيسه بسبب ملاحقته لقضية فساد في ملف النفايات، واستكمل ذلك بإجراء إداري قضائي تمّ خلاله إجراء مناقلات وتعيينات قضائية في الكثير من التجاوزات للأعراف والرتب والكثير من السياسة التي جعلت القضاء كما لم يسبق أيضا أداة طيعة بيد السلطة تستخدمه بما تقتضيه مصالح فرقائها.
القبضة البوليسية هي المقدمة الموضوعية لترسيخ مفهوم الدولة البوليسية في لبنان، ذلك أنّ المعادلة التي يجري ترسيخها والمطلوب حمايتها وعدم التعريض بها ولا الاعتراض عليها، هي معادلة طالما انتفضت في وجهها قوى الرابع عشر من آذار، وطالما كان اللبنانيون يرفضون قيامها، هذه المعادلة ترتكز على تسليم فعلي بدور حزب الله الأمني والعسكري والسياسي، وتنازل ضمني من شركائه الشكليين في السلطة عن السيادة اللبنانية لصالح مقتضيات المحور الإيراني ومتطلباته في لبنان لا سيما في السياسة الخارجية وفي إدارة الأجهزة الأمنية، في مقابل شراكة تقتصر على تقاسم الحصص ما دون السياسة الخارجية والأمن والسيادة، بحيث أن صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة وأعضائهما هي أشبه بصلاحيات المجالس المحلية أو البلدية في أي دولة في العالم، صلاحيات غير سيادية وتقتصر على شؤون إدارية واقتصادية لا تخلُّ بموقع لبنان داخل المحور الإيراني.
وإذا كان نموذج الدولة البوليسية في لبنان يحذو حذو نظام الأسد في سوريا على صعيد تقييد الحريات ومصادرة السلطة القضائية وتقييد الإعلام، فإنّ عنصرا آخر أخذه حزب الله من هذه المدرسة والتزم به، هو حماية وضعية الدولة البوليسية من خلال ذريعة العدو الإسرائيلي، ذلك أنّ إسرائيل التي اختبرت علاقاتها مع كل محيطها العربي، وجدت أن النموذج الصالح لتوفير الاستقرار على حدودها باعتبارها دولة غير راغبة بسلام فعلي مع الفلسطينيين ولا العرب عموما، هو النموذج الأسدي أو السوري منذ حكم آل الأسد سوريا، أي نظام يعلن ليل نهار أنه ضدها ويقمع شعبه بحجة الصراع مع إسرائيل، فيما يمارس أفضل الشروط لحماية حدود إسرائيل كما كان حال الجولان السوري المحتل ولا يزال منذ أربعة عقود حتى اليوم.
هذا النموذج هو الجاري تطبيقه في لبنان بإشراف حزب الله وإدارته، أي تصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي ضد إسرائيل، مقابل هدوء واستقرار على حدودها مع لبنان، ومنع أي طرف من القيام بأي عمل عسكري ضدها عبر الأراضي اللبنانية ليس بقوة القوة الدولية المنتشرة في الجنوب بل بقرار ميداني من حزب الله وهـذا ما تعرفه إسرائيل وكل المجتمع الدولي، بل هذه هي الورقة الذهبية التي تتيح لحزب الله أن يتجاوز الكثير من الحدود القانونية في الداخل والخارج، لإدراكه أن أحدا من المجتمع الدولي لا يريد أن يغامر بخسارة دور حزب الله الذي يحفظ الاستقرار على الحدود مع إسرائيل، كما يضمن حماية الجنود الدوليين في الجنوب، ويشكل عنصر ضمان لعدم تدفق أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري من لبنان نحو أوروبا.
النموذج الأسدي الذي يخطو لبنان نحوه خطوات متقدمة، هو النموذج الذي يقوم على مقايضة القوى الكبرى وإسرائيل بتأمين مصالحهما مقابل إطلاق اليد في ما لا يمس مصالحهما، أي احترام مصالح الخارج القوي وانتهاك حقوق الداخل أمنيا وسياسيا واقتصاديا، باعتبار أنّ التحكم بمفاصل السلطة هو الغاية والهدف.
شراسة حزب الله من خلال دوره في محور الممانعة تجاه سوريا وشعبها وتجاه دول عربية، لا تقاس بما هو الحال مع إسرائيل، كما مدرسة الأسد من الأب إلى الابن، فشراسة الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين عموما تشهد عليها حروب شتّى خاضها ضد المخيمات الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا بسيف الأسد في لبنان وسوريا وغيرهما، فيما إسرائيل لم ينلها من الأسد إلا الخطب الرنانة والسلام الدائم على الحدود المشتركة، أما حرب أكتوبر 1973 فقد تحولت إلى ذريعة بيد الأسد الأب والابن استخدمت ضد السوريين وكذلك لإنهاء الثورة الفلسطينية وقمعها.
حزب الله على الطريق نحو تحقيق هذا النموذج في لبنان، ونحن أمام هذه الحقيقة فهل سلّم اللبنانيون واستسلموا؟
جاءني يوما، وكنت حينها عضوا في مجلس الشعب السوري، هاتف من دمشق يبلغني دعوة القصر الجمهوري لحضور حفل افتتاح دار الأوبرا في ساحة الأمويين. قرّرت تلبية الدعوة فرحاً، وحجزت تذكرة طائرة، وكانت مجانية على نفقة المجلس أو وزارة النقل، لا أذكر.. ولكن لسوء الحظ تأخرت الطائرة، وهي واحدة من أربع طائرات لا غير، يملكها الأسطول الجوي السوري، كان ذلك قبل أن يدخل وزير النقل، مفيد عبد الكريم، السجن (مرفهاً) في صفقة الطائرات الفرنسية المعمَّرة (مجدد عمرها)، حظي منها بملايين الليرات آنذاك.. بقيت أنتظر في الكراج، عفواً قصدت المطار الذي ظلَّ يشبه الكراج، على الرغم من فضائح الفساد التي شابت متعهديه لسببين، تأخر الإنجاز وسوء التنفيذ. المهم، وكي لا أستطرد فأطيل، أقول:
فُرِجَت عليَّ بعد تأخير عدة ساعات، لكنني وصلت إلى دمشق سالماً، محاصراً بالوقت، ما اضطرني لأخذ سيارة أجرة من المطار إلى المجلس، لأخذ بطاقة الدعوة (لا أحد يستغرب ذكر سيارة الأجرة، فراتبي عضو مجلس شعب لا يزيد عن راتبي مدرسا في المرتبة الأولى. وعضو مجلس الشعب، في عرف الدولة السورية، موظف درجة أولى. أمَّا لِمَ التكالب على هذه الوظيفة، ودفع الرشاوى للوصول إليها "للبريستيج" والسمسرة) أخذت البطاقة المذهَّبة، وتوجهت إلى ساحة الأمويين. ولا بد من الاعتراف هنا بأن شعور الارتياح لديَّ ارتفع منسوبه إلى نوع من الفرح، فقد لبيت دعوة الحضور لحفلةٍ يحضرها السيد الرئيس، ما يتيح لي "تكحيل عيني برؤيته" عن قرب. ولعلِّي، من جهة ثانية، نزعت بذور الشك من نفوس بعض المتربصين، لو لم أحضر. وقد نسيت معاناتي كلَّها، وأنا أمدُّ يدي بالبطاقة إلى الضابط الذي على الباب، وأعرّف بنفسي، وبشخصيتي الاعتبارية، متجاهلاً تأخري نحو خمس دقائق، أو أكثر قليلاً.. لم أعد أذكر تماماً، فمفاجأة الضابط غير المتوقعة أنستني لحظتها كل شيء، بل أعادتني، هذه المرّة، إلى كراج العباسيين (البولمان) لأعود إلى حلب. كان الضابط برتبة عميد، وللأمانة أقول: رحب بي وابتسم، وأظنه، على الرغم من ابتسامته، كان يعد جواباً مناسباً، وهو يقلِّب نظره بين بطاقة الدعوة التي بين يديه عينيَّ اللتين تنظران إلى عمق ردهة دار الأوبرا الخارجية المكتظة بالحرس، بحثاً عن الطريق الذي سأسلكه، ثمَّ قال:
أنا آسف، يا أستاذ، فقد تأخرت، والتعليمات، كما تعلم، لا تسمح.. ثم استدرك بسؤال فيه كثير من الحذلقة والمواربة لغاية الإحراج: هل ترضى، يا أستاذ، أن تدخل بعد السيد الرئيس؟ وكدت أقول له، بما أملكه من صراحة: نعم وما الفارق، أصلاً، بيني وبينه، هو سلطة تنفيذية، وأنا سلطة تشريعية، هذا ما يقوله دستور البلاد، ثمَّ إنني قادم من حلب.. لكنني لم أفعل، واكتفيت بجواب إيجابي، إذ إنني أعي مستوى التعليمات الذي تلقاها هذا الضابط، بل أعي تماماً نظرة مثل هذا الضابط إلى مجلس الشعب بكامله، فانسحبت لاعناً في سري كل شيء.
قد تغفو الأشياء التي تحفر في روح الإنسان وذاكرته، لكنها أبداً لا تُنسى، فما إن يأتي شبيه لها أو نقيضها حتى تستيقظ بكامل قوتها. وهذا ما حصل معي، فقبل أيام، وأنا أمام شاشة التلفاز، أشاهد خبر زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قاعدة روسيا العسكرية في اللاذقية، نهضت من ذهني تلك الذكرى، لمعت مثل ومضة برق تنذر برعد مخيف. وعلى نحو لا إرادي، رحت أردد كلمة يا حيف.. والصور تترى على الشاشة أمامي. لم ترتسم "يا حيف" هكذا على لساني فحسب، بل أحسست بها تخرج من عمق روحي، وخلاصة وجداني، وأنا أرى إلى الرئيس السوري بائساً يسير خلف الرئيس الروسي تاركاً مسافة عدة أمتار، على الرغم من أنه على أرض بلاد يرأس دولتها. وليس كذلك فحسب، بل رأيت أيضاً الضابط الروسي يمد يده إلى صدره: "أن توقف.."، وقد حاول اللحاق بمن يفترض أن يكون ضيفَه، أعني الرئيس الروسي الذي مضى لتفقد ضباط جيشه في القاعدة إياها. لن أدخل في تفاصيل هذا الأمر "برتوكولياً،" فهو واضح تماماً، وليس يهم أمره في قليل أو كثير، ولا محاولة بعض الشبيحة تبريره، بل إن أكثر ما يهم ويحزُّ في نفسي المشهد الذي بدا فيه الرئيس السوري يتجرّع كأس المذلة صاغراً، فالمشهد يشير، بوضوح، إلى أنه قد استدعي إلى قاعدة حميميم التي هي قطعة من البلد الذي يحكمه، وأبوه من قبله منذ سبع وأربعين سنة، استدعي ليبلَّغ بما لدى الروس من أفكار بخصوص عملية السلام عموماً، ومؤتمر سوتشي خصوصاً، بحسب وكالات الأنباء. ولم يسمح لأيٍّ من مرافقيه الدخول معه، إذ ظلَّ جميعهم خارج القاعدة.
وبالتداعي، أخذتني هذه الحركة النشاز، ومعها كلمة "يا حيف" التي وجدتُني أردّدها، إلى أغنيّة يا حيف التي أطلقها الفنان السوري ابن جبل العرب، سميح شقير، مع بداية الثورة السورية التي جاءت رداً على استخدام الرصاص القاتل غير المتوقع من أيِّ نظام، مهما كانت سطوته، ضد شعبه بهذه القسوة.. فكانت الأغنية بما تحتويه من تراثٍ محمَّلٍ بالقيم البدوية الأصيلة، تراثٍ له أثره في الوجدان الشعبي السوري. "يا حيف، أخ، ويا حيف، زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟ كيف؟ كيف؟ وانت ابن بلادي تقتل بولادي. وظهرك للعادي وعليَّ هاجم بالسيف. يا حيف يا حيف..".
وبعد، لعلّي أتيت بالصورتين المتشابهتين المتناقضتين، للإشارة إلى أنَّ في الحياة مفاعيل آلية قد تكون غير مرئية لكنها تفعل فعلها. وفي تراثنا وآدابنا كثير مما يؤكد هذا، فمن يسلط نار الأجنبي على شعبه زيادة في طغيانه، سيذيقه ذلك الأجنبي من الكأس نفسها، إذ هو ظالم مثله، بل أشد ظلماً إذ لم يأت لـ "زرقة عيني" الداعي. ورحم الله المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، حين هدَّده يوسف بن تاشفين المسلم، أن يرعوي إلى سلوك قويم. أشار عليه بعضهم أن يستعين بالأجنبي، فقال قولة الحق الشهيرة: لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو.
ويبقى السؤال: لم هذا الإذلال ممن مكّنهم بما كانوا يحلمون وأكثر؟ أتراه يساوم من خلفهم مع جهة ما، أتراهم فعلوا كسباً لودِّ الشعب السوري، بعد أن أذاقوه الويل؟ وأسئلة أخرى كثيرة، أجوبتها في رحم الأيام المقبلة.
سوف يأتي يوم قريب أو بعيد، تنتهي فيه الحرب في سورية وعليها، وتعود الجحافل الباقية من «داعش» وأمثالها من حيث أتت، لكن سوف يبقى في سورية نظامها العسكري والسياسي، والإداري، وسوف تبقى الجيوش الإيرانية وقياداتها وأنظمتها اللوجستية وأجهزتها الإعلامية وبعثاتها الدينية. أما الباقي الأكبر والدائم فهو الوصي على سورية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومعه قاعدتان لأسلحة البحر، والجو، والبر، وجيش من نخب القيادات والعمليات والاستخبارات.
يمكن القول عن فلاديمير بوتين إنه ملأ الفراغ الذي تركه القادة السوفيات التاريخيون في قصر الكرملين، وإذ انتقلت موسكو من عاصمة الاتحاد السوفياتي إلى عاصمة جمهورية روسيا الاتحادية فقد استقبلت في الكرملين ثلاثة رؤساء قبل بوتين، هم: ميخائيل غورباتشوف، وبوريس يلتسن، وديمتري ميدفيديف.
هؤلاء القادة الثلاثة تضاءلت قاماتهم أمام قامات زعماء الكرملين التاريخيين، وكان آخرهم ليونيد بريجنيف... وإذ حاول الرئيس الجديد «الطارئ» غورباتشوف أن يلصق علامات الحرية والديموقراطية والانفتاح على واجهة الكرملين تصدى له بوريس يلتسن الطالع من عصبة قومية روسية ماركنتيلية مكبوتة، وقد جمع حوله أطيافاً من الروس الفوضويين الذين وجدوا فيه زعيماً صلباً، وهو كان قد تصدى لقافلة عسكرية متجهة إلى الكرملين، فقفز على مقدمة مصفحة وراح يصرخ بالجماهير المحتشدة، داعياً إلى ثورة على الرئيس غوباتشوف الذي لم يكن قد أكمل سنته الثانية، وقد نجح يلتسن واحتل الكرملين. لكنه ما إن تسلّم السلطة في العاشر من تموز (يوليو) 1991، حتى شرّع أبواب الدولة والمؤسسات العامة، والجيش، أمام طبقة جديدة من اليمين الناهض من تحت أعباء القمع، والكبت. ولم تمض سنتان حتى بدأ أصحاب البلايين الروس يظهرون في الولايات المتحدة وسائر دول الغرب، وراحوا ينافسون الأثرياء المشاهير في المضاربات على امتلاك العقارات والمؤسسات، والأسهم في البورصات العالمية.
لكن يلتسن هو الذي اكتشف فلاديمير بوتين، رجل جهاز المخابرات في الزمن الشيوعي الغابر، وقد وجد فيه الذكاء، والحزم، وقلّة الكلام، والشجاعة في اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية بمقدار كبير من الثقة بالنفس. وعام 1999 اختاره يلتسن رئيساً لحكومة روسيا الاتحادية، ومنها إلى رئاسة روسيا الاتحادية عام 2014.
هذه اللمحة الموجزة عن شخصية بوتين ذي الوجه الثابت، والنظرة الخارقة المعبّرة عن إدراك ما يسمع وما يرى وما يفهم، من دون أي إشارة أو تلميح لما يضمر، هي التي تحكم الرئيس الذي يتحكم في هذه المرحلة بمسار ومصير سورية، الكيان، والشعب، والدولة، والنظام.
ومن مصادفات الأحداث المتواصلة أن يتولى فلاديمير بوتين رئاسة روسيا في دورة ثانية بدأت في 7 أيار(مايو) 2012 مع بداية الثورة السورية على النظام في آذار (مارس) 2012، وهي المرحلة السورية المتفجرة التي واكبها بوتين بكل ما تملك روسيا من قرارات ونفوذ على الصعيد الإقليمي، وعلى الصعيد الدولي، فضلاً عما تملك من قوى حربية ومعدات وأسلحة متطورة وأساطيل بحرية وجوية، ومن جيوش، وقادة وخبراء، ومخابرات.
وها هي المصادفات الزمنية، والأحداث، والأحكام السورية– الروسية تمضي في مسارها، فيجد فلاديمير بوتين نفسه أمام دورة رئاسية رابعة في آذار المقبل، فيما سورية، الكيان، والدولة، والجيش، والشعب، تترنح على النار، والدمار، والدم، والفراغ، والنزوح، إلى جميع أصقاع الأرض، فيما يستمر التنقل من مؤتمر إلى مؤتمر، ومن منصة، إلى منصة، ومن مدينة إلى مدينة، وقد نزلت في التاريخ السياسي مدن جنيف، والرياض، وسوتشي، وآستانة ملتقى وفود النظام السوري مع «وفود» الشعب السوري على مدى ثلاث سنوات مضت في مناكفات، لا مفاوضات، من جانب الوفد الرسمي، والموعد الآتي قريب، ومكانه في «سوتشي» الروسية.
في مؤتمره الصحافي السنوي الذي انعقد في 14 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، أعلن بوتين أنه سيخوض معركته الرئاسية الرابعة بصفته مرشحاً مستقلاً للمرة الأولى، ولم يوضح مبادئ «استقلاليته» وبرنامجه الرامي إلى تحديث روسيا. وهو إذ أبلغ الشعب الروسي ما يهمه من أمر الحكم والرئاسة كشف له عن أن معدل الدخل القومي الإجمالي ارتفع خلال دوراته الرئاسية الثلاث بنسبة 70 في المئة، كما تطورت البنى التحتية الصناعية بنسبة متساوية مع زيادة الدخل الفردي بنحو 3.5 في المئة.
ليس من عادة الروس، ولا من ثقافتهم السياسية في العهود السابقة، أن يحاسبوا قياداتهم على ما ترتكب من أخطاء، وعلى ما تسبّب من أضرار معنوية ووطنية تلحق بشعوب دول أخرى يختار رؤساؤها الخضوع لإمرة موسكو، كما يحصل في سورية منذ خمس سنوات، على الأقل، ولو كان للشعب الروسي ذلك الحق بالمحاسبة، أو الاعتراض على الأقل، لكانت التظاهرات عمّت روسيا، وعلى الأخص مدينة سانت بطرسبورغ (ليننغراد) مسقط روسيا بوتين، للاحتجاج على ما لحق بالشعب السوري من كوارث جعلته مبعثراً في أقطار الدنيا.
قد يقول الدفاع عن الرئيس بوتين أنه حمى سورية من السقوط، دولة، وشعباً، تحت سطوة «داعش» وفروعه من فرق ومنظمات إرهابية. لكن السوري الحر يرد بمنطق أصدق وأقوى، خلاصته وفحواه: لو أن الرئيس بوتين تخلّى عن النظام السوري، بل لو أنه أمره بالانصياع لإرادة شعبه، والتنحي عن الرئاسة، لكان حفظ سلامة سورية، كياناً وشعباً، ومقومات بلاد هي عبر الأزمنة والتاريخ، مهد حضارة، ومدنية، وعروبة، وموئل جهاد، وشهامة، وفداء... لو اتخذ الرئيس بوتين ذلك القرار لكان ربح العالم العربي بأسره، ومعه احترام وتقدير العالم الأوسع. لكنه اختار أن يربح الأسد، ويخسر العالم العربي، ومعه المجتمعات والهيئات المدنية والثقافية التي تراقب وتتابع مبادرات الدول على مختلف الأصعدة والمستويات.
في الأرشيف الإعلامي والديبلوماسي صورة مكبرة بالألوان يظهر فيها مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي رافعاً يده عالياً معطلاً قراراً بإدانة النظام السوري لاستعماله أسلحة كيماوية أدّت إلى موت عشرات الأولاد السوريين بين أكوام جثث الضحايا في غارة جوية على بلدة في «الغوطة الشرقية» المحاذية للعاصمة دمشق، وكانت تلك الغارة واحدة من عشرات الجرائم التي ارتكبها النظام، ولا يزال يحتفظ بكميات من تلك المواد المحرّمة دولياً.
ومنذ بداية الثورة هناك سؤال يتردد في الأوساط السورية، وسواها في المحيط العربي المعني بنتائج تلك الثورة... السؤال هو: من يكون القائد المنقذ المؤهل لرفع سورية من محنتها والمضي بها نحو مستقبل يعوّض، بالتدرّج، ما فقدت من شعبها، ومن تراثها، ومن قيمها، ومن مخزون قواها الوطنية والثقافية والجهادية عبر المحنة التي طالت؟
وسؤال آخر: من يكون القائد الموثوق به الذي يتسنى له أن يمتلك ثقة الجماهير السورية، الباقية، والمبعثرة، فيرفع بلاد العز والأمجاد من الهاوية، ويعيد الملايين إلى المدن والأرياف والربوع التي افتقدت ظلال رجالها ونداءات أبطالها لاستعادة سورية؟
أسئلة تدور في الخواطر المنكسرة، ولعل جواباً افتراضياً عنها يمتلكه الرئيس فلاديمير بوتين ذاته، لا سواه.
الجواب: ما دام الرئيس الروسي يملك قرار خلاص سورية، وهذا ليس افتراضاً، فهل له أن «يكتشف» بين القيادات السورية الشعبية الوطنية «رجلاً» إذا لفظ اسمه سمع ثناء واحتراماً؟
عدد رجال سورية من ذلك الرعيل ما زال كبيراً، وقد صار الرئيس بوتين الخبير الأول في شؤون سورية، ولديه جهاز سياسي، قيادي، عسكري، إستراتيجي قادر على أن «يكتشف» المرشح المؤهل لأن يعيد لسورية شعبها المغيّب، وأن يعيد إليها دورها وأمجادها الوطنية والقومية، وقواها وأرصدتها السياسية والمعنوية، ومؤهلاتها وكوادرها العلمية، وطاقاتها البشرية متنوعة المهن والاختصاصات والإمكانات، ومعظمها صار في أقطار الشتات.
ليس من باب الاستسلام القول أن سورية تحتاج إلى منقذ، وليس من دواعي الضعف القول أن مصير سورية بات أمانة في عنق فلاديمير بوتين. فهذه هي الحقيقة، وهي مدعاة شرف للرئيس بوتين أن يفتح أمام سورية باباً تطل منه على العالم بهالة من الأمن والسلام، فتستعيد دورها ومكانتها بين الدول والأمم. وحيث تكون الأمانة بوزن دولة، وكيان، وشعب، يكون لحاملها الشرف الكبير.
أما السؤال، أو التساؤل، عن «الديموقراطية» و «الوطنية» و «حرية» الرأي والقرار في الانتخاب على المستوى الرئاسي، ومادون، فهو من حواضر الخواطر.
يبقى أن هناك باباً لمساعدة الشعب السوري في التعبير عن حقيقة رأيه وقراره، لو بالإمكان تنفيذه، وهو أن يعطى السوريون في أقطار شتاتهم حق الاقتراع لرئيس جديد في أماكن وجودهم برعاية وإشراف منظمة الأمم المتحدة، كما لا بدّ من رعاية المنظمة الدولية لعمليات الاقتراع في سورية... هذا، إذا أجريت انتخابات!
الحديث عن السيادة السورية لم يعد أكثر من تصريحات غير ملتصقة بالواقع من أركان النظام في دمشق تتضارب في مضمونها وتوقيتها مع وفود الميليشيات الموالية لإيران، مقاتلين أجانب مع «داعش» والنصرة وأحرار الشام وغيرهم، قوات روسية وأخرى صينية وغيرها أميركية وتركية تسرح على الأرض السورية وتمرح.
وزارة الدفاع الأميركية أقرت لأول مرة بداية هذا الشهر بوجود 2000 جندي أميركي في سورية أي أربعة أضعاف العدد المصرح به إعلامياً طوال العامين الفائتين (503). هذا الأسبوع أيضاً، أكد المبعوث الأميركي إلى الحرب ضد «داعش» بريت ماغورك أن مرحلة ما بعد «داعش» في سورية لن تخل بالترتيبات الأميركية الحالية في الأراضي المحررة من «داعش»، والتي ستبقى في مكانها «إلا في حال الوصول إلى تسوية سياسية في المدى الطويل للحرب الأهلية (في سورية) تستند إلى آلية جنيف، وأيضاً إلى التزام لإزاحة جميع القوات الأجنبية من الأراضي الحساسة في سورية».
ماغورك ربط إبقاء الترتيبات الحالية أميركياً أيضاً بوجود ميليشيات إيران في سورية، «والتي يجب أن لا تكون هناك»، ونوه بنوع من التوافق النظري مع روسيا حول ذلك. أما عن نقاط الوجود الأميركي، كان لافتاً أن المبعوث ذكر منطقة التنف الاستراتيجية بتقاطعها شرق سورية وجنوبها بين العراق والأردن، إذ قال المبعوث: «نحن موجودون في التنف وسنبقى هناك لضمان عدم عودة داعش ونشرف على الوضع الإنساني»، في رسالة ليست حقيقة حول «داعش» والوضع الإنساني، بل هي موجهة إلى النظام وإيران وبعد اشتباكات عسكرية معهما في تلك المنطقة بالذات.
من يعرف ماغورك، المسؤول الوحيد الذي شغل وعاصر مناصب شديدة الحساسية من إدارة جورج بوش الجمهورية إلى باراك أوباما الديموقراطية إلى دونالد ترامب الجمهورية، يعرف نفوذه وتمكنه من الملفين السوري والعراقي. وكلامه عن خطوط الوجود الأميركي وأفقه يجب أن يؤخذ على محمل كبير من الجدية، كما كلامه عن أي تسوية سياسية بعيدة المدى، وأن لا أموال لإعادة الإعمار للنظام قبل حدوثها.
سياسياً، تصريحات ماغورك تعني أمرين. أولاً أميركا ستحمي مصالحها ووجودها الاستراتيجي في سورية، وستدافع عن «قوات سورية الديموقراطية» وشركائها على الأرض. هذه الرسالة موجهة إلى إيران والنظام قبل أن تكون موجهة إلى موسكو. أما ثانياً فالرسالة إلى روسيا هي لكسب تعاونها في رص هذه الخطوط، بالالتزام بتفاهم فك الاشتباك، وإمكان العمل لاحقاً في شكل مشترك لإضعاف إيران في سورية. هذا الهدف يطمح إليه الأميركيون منذ وقت، وهناك مساعٍ منذ أيام أوباما للفصل بين روسيا وإيران إنما لم تترجم عملياً على الأرض.
عسكرياً، يقول مسؤول أميركي لـ ”الحياة” أن واشنطن تقوم مع شركائها على الأرض بكثير من التحركات على الحدود السورية - العراقية، لقطع جسر إيران البري من طهران إلى بيروت ويعتقد المسؤول أن الإدارة حققت نجاحات في ذلك. كلامه يعبر عن مبالغة وتفاؤل من واشنطن كون الحضور الإيراني في شكل مباشر أو غير مباشر في تزايد في كل من العراق وسورية وليس، واضحاً أن إدارة ترامب لديها استراتيجية فاعلة للتصدي له.
هناك من يتوقع اكتمال الاستراتيجية الأميركية في سورية الشهر المقبل، وأنها ستستند إلى معطيات جديدة على الأرض، بينها بقاء الأسد وعدم توقع حل سياسي قريباً، وإغواء روسيا للابتعاد من إيران والحفاظ على المكاسب الاستراتيجية. ترامب لا يأبه كثيراً بأهمية الملف السوري، وهو يأخذ بتوصيات الجيش الأميركي وماغورك، وعليه يمكن توقع استمرار السياسة والمهادنة الأميركية الحالية في سورية العام المقبل، وتثبيت واشنطن قدمها في نقاط استراتيجية بدل الانسحاب والخروج من المدن والمناطق التي سيطر عليها «داعش».
بذريعة محاربة الإرهاب، تستمر الدول الكبرى في إرسال قوات منها لدعم فصائل معينة على حساب أخرى في الحرب السورية، سواءً في صف النظام أو المعارضة. وقبل أيام، أرسلت وزارة الدفاع الصينية إلى ميناء طرطوس قوات خاصة اسمها "نمور الليل" من الجيش الصيني، لمواجهة الحزب الإسلامي التركستاني، وحركة تركستان الشرقية الإسلامية التي يدّعي إعلام الأسد وجودها في ريف دمشق، علماً أن عناصر الحركة والحزب أولئك تتركز معسكراتهم في ريف إدلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي، ولم يتم تسجيل وجود أي مقاتل من هذا الفصيل في المناطق المحرّرة في ريف دمشق.
وتعتبر الصين المقاتلين التركستان من أبرز خصومها في تركستان الشرقية. وقد سهلت لهم، عند بداية الثورة السورية، وإلى جانب القوى الدولية المتصارعة في سورية، معظم الطرقات والسبل للمشاركة في "نصرة الشعب السوري" على الطريقة الجهادية القاعدية، حسب زعمها.
كذلك الأمر بالنسبة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي كشفت عن وجود ألفي جندي أميركي شمال سورية خلف أدواتها من مليشيات قوات سورية الديمقراطية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أخيرا. وعلى الرغم من نهاية المهمة، أكد "البنتاغون" بقاء قواته إلى أجل غير مسمّى! وجنوباً أيضاً ثمة عمليات عسكرية أميركية عبر غرف الاستخبارات على الحدود الأردنية لمحاربة "داعش"، في أرياف درعا من جهة، عبر بعض فصائل الجيش الحر التي أوقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، برنامج دعمها منذ أسابيع، على الأرجح حتى لا تقاتل النظام، ومن جهة أخرى لضمان أمن إسرائيل بالتنسيق مع روسيا.
أما إيران، حليفة الأسد، فإنها ترسل مليشياتها وفصائلها الطائفية إلى "الأماكن المقدّسة" في سورية، حسب زعمها، وإلى المدن التي تحوز ثروات نفطية. وكانت لها مشاركة فاعلة في معارك دير الزور، كما كان لها حضورها في معارك تدمر وحلب قبل قوات الأسد، بحثاً عن الآثار، واستيلائها على الأراضي الزراعية الخصبة في أرياف دمشق، والمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، عبر مليشيات حزب الله اللبنانية، مدّعية مساندة "محور المقاومة" ومواجهة مشروع "الخلافة الإسلامية". ويمكن للمتابع تلمّس خصومة غير معلنة مع حليفة الأسد من جهة أخرى، روسيا، التي ترتّب أوراق الجنوب السوري، حول درعا وأرياف السويداء وبلداتها، وذلك بمنع ميليشيات إيران، على كثرتها، من الوصول إلى هناك، والبدء بزراعة وحدات عسكرية روسية بذريعة "خفض التوتر"، من أجل الهيمنة على الطيف الدرزي، واستخدامه في قتال مليشيات النظام بوسائل مختلفة، لعل أبرزها إثارة أحداث حضر، أحد الخزانات الدرزية المُستثمرة من قوات الأسد "الدفاع الوطني"، وذلك بقصف مواقع فصائل جبهة فتح الشام جنوب سورية، لترد تلك الفصائل باستهداف المناطق الدرزية على اختلاف ولائها. وبالتالي، تحقيق غاية روسيا بعدم وصول قوات النظام إلى تخوم "إسرائيل"، من دون وجود وسيط دولي متفق عليه. والمقصود هنا "التنسيق الروسي الأميركي" في اتفاقية "خفض التوتر".
أمّا تركيا، فقد ضمنت مناطق "درع الفرات" باعتبارها نقاط تقسيم لمواجهة "المشروع الكردي" شمال سورية. ومن جهة أخرى، للهيمنة على قوات المعارضة السورية، سواء "الجيش الحر" أو "هيئة تحرير الشام". ولعل الأخيرة أبدت وضوحاً في التفاهم مع القوات التركية في أثناء تنفيذ توزّع نقاط المراقبة العسكرية التي دخلت، وانتشرت تحت حماية عناصر من "تحرير الشام". كما تستخدم تركيا حلفاءها من المعارضة في المحافل الدولية للتفاوض مع روسيا وإيران على المحاصصة، وتوزيع توازن القوة الدولية. ويحدث ذلك كله فوق جثث السوريين، وبفضل تعدّد الكيانات الهائل بين مكونات الصراع الذي لم يعد للسوريين فيه سوى الدمار والتقسيم الطائفي والاحتلال البطيء وإنشاء القواعد العسكرية "الضامنة"، كما فعلت روسيا في الساحل السوري، والولايات المتحدة في مطار الطبقة العسكرية في الرقة ورعاية المخابرات التركية المجالس المحلية والشرطة في مناطق "درع الفرات".
وعبر استعراض سريع لحركة المليشيات على الأرض السورية، وتقسيم الولاءات، وتعدّد الكيانات الطائفية والعقائدية من جهة، والدولية "المحتلة" من جهة أخرى، نستنتج أن أغلبية ما يحدث في الواقع هو توزيع ثروات، برعاية "النظام والمعارضة"، إلى جانب صراع المرجعية الدينية المفجعة التي راحت تلوث معالم المدن بالأعلام الطائفية، وأعلام الدول "الحليفة – المحتلة"، وذلك كله لتعزيز حضور الكيانات وتعدّدها، واستخراج الحجج الدولية المناسبة للدخول في تقسيم الكعكة السورية الطافحة بالدماء والتهجير، تاركين التخلف الاجتماعي يتسع، وأحلام إعادة الإعمار تتساقط، لاستثمار الذاكرة السورية وجرفها أكثر نحو الاستقرار بأي ثمن!
ها هم المتصارعون اليوم يساهمون في تأسيس التقسيم، وتبادل تحيات "الإهانة" على حساب غياب معظم السوريين في المنافي، وعذابات البقية في الداخل بين قرارات دولية خبيثة وتفاهمات ضمنية لا تهتم لثورةٍ تديّنت وتسلحت وضلّت الطريق، بعد شهورها الأولى، لأنها لم تكن تعرف ماذا تعني السياسة في حكم الإجرام الأسدي.
وبالتوازي مع مسرحيات التفاوض، والاستقالات التي تعصف في صفوف "المعارضات" السورية، ربما لم ينتبه هؤلاء على ما سوف يفاوضون عليه، والجزء الأكبر من البلاد بات تحت سيطرة حلفاء النظام، والجزء الذي يليه بيد الولايات المتحدة، وما تبقى هو بين جبهة النصرة و"فصائل المعارضة" يتصارعون عليه بين حين وآخر، وبطاقة تنظيم الدولة الإسلامية هي كلمة السر التي تلطخ كيانات الدول المتدافعة في سورية على "محاربة الإرهاب"، واستقطاع قواعد عسكرية محتلة، بتفويضٍ سوري توقع عليه المعارضة حيناً، ويباركه النظام أحياناً أخرى، وكلٌّ على طرف شرعيته يرى قضيته في المقدمة، وتبقى الثورة تلهث، بحثاً عن هوية موحدة فوق أرض واحدة.
كثر الجدل حول إسقاط الطائرة الحربية لام 39 بريف حماة الشرقي اليوم، بعد أن تبنت أكثر من أربعة فصائل إسقاطها بشكل متتابع، وسط تبادل الاتهامات بين الفصائل عبر المعرفات غير الرسمية، ومن خلال مواقع التواصل وغرف التلغرام.
كان جيش إدلب الحر أول من تبنى إسقاط الطائرة قال إنها سقطت بعد استهدافها بالمضادات الأرضية من قبل فوج الدفاع الجوي، تلا ذلك تبني حركة أحرار الشام رسمياً إسقاط الطائرة خلال استهدافها بالمضادات الأرضية، جاء الرد سريعاً من هيئة تحرير الشام بأن سرايا الدفاع الجوي في الهيئة استطاعت إسقاط طائرة حربية نوع (L39) في ريف حماة الشمالي، وطالب مسؤول عسكري عبر وكالة "إباء" الصفحات والقنوات الإخبارية تحري الدّقة والمصداقية في النقل.
ومع تصاعد الجدل فيمن أسقط الطائرة نشرت حسابات غير رسمية مقطع فيديو بدون أي لوغو أو شعار لأي فصيل يقول إن حركة أحرار الشام أسقطت الطائرة باستخدام صاروخ كوبرا معدل، ولم ينشر عبر أي حساب رسمي للحركة، ثم نشرت وكالة "إباء" الفيديو ذاته عبر موقعها الرسمي بشعارها وقالت إن سرايا الدفاع الجوي في هيئة تحرير الشام هي من أسقطتها بصاروخ مضاد للطائرات.
هذا الجدل الحاصل بين فصائل الثورة فيمن أسقط الـ "لام 39" يكشف عن عمق الشقاق والبعد في عدم التنسيق بينها، والذي يرسم تساؤلات كبيرة عن مدى جاهزية جميع هذه الفصائل للتنسيق في غرفة مشتركة في مواجهة الحملة العسكرية التي تحضرها قوات الأسد وإيران وروسيا للمنطقة، ومدى قدرتها على المواجهة والوقوف سداً منيعاً دون النظر للتبني ومن يسبق الآخر في إثبات وجوه إعلامياً والتغني أمام الداعم أو الحاضنة الشعبية بأنه من أسقطها.
يهمنا اليوم من يثبت نفسه ويبذل الغالي والنفيس بصدق في سبيل الزود عن المدنيين والمناطق المحررة ولو بدون أن يظهر فليس همنا أن نعرف أسقط اللام 39 بقدر أن نعرف أن هناك جنوداً لا يهابون الموت مستعدون للدفاع عن المناطق المحررة صفاً واحداً دون النظر للفصائلية التي فرقت صفوفنا والتحزبات التي دمرتنا والتبني الذي فرق كلمتنا ... سقطت لام 39 ونأمل أن تسقط ورائها الحملة العسكرية على إدلب وحماة وترفع الفصائل جميعاً راية النصر على مشروع تقسم المنطقة وسلخ المنطقة الشرقية عنها لصالح إيران وسوريا وحصار ما تبقى من إدلب وحماة والويل لمن يخذل عذابات المدنيين ودماء الشهداء.
تشتد شراسة الحملة العسكرية لقوات الأسد وميليشيات إيران على بلدات الغوطة الغربية في منطقة بيت جن، وتشتد حدة القصف التي تطال عدد من البلدات المحاصرة في بقعة جغرافية تضيق بأهلها وثوارها يوماً بعد يوم، لم تنفع كل حملات النفير ودعوات الفزعة لتحرك فصائل الجنوب وتقدم الإسناد اللازم لفك الحصار عن هذه المنطقة وتخفيف الضغط عنها.
مراحل متشابهة مرت بها داريا أسطورة الثورة جنوب العاصمة دمشق باتت تواجهها كما هي بذات السياسيات والخذلان، بدأت بالحصار والتضييق وحشد الجيوش والقصف المركز من الطيران المروحي والصواريخ وشتى أنواع الأسلحة وتسليط الميليشيات والفرقة الرابعة وقواتها، قاوم فيها ثوار داريا لأشهر بل لأعوام وتحدوا فيها كل آلة القصف والموت التي سلطت ضدهم، ولكن طول آمد المعركة وخذلان من انتظروا لنصرتهم وتخفيف الضغط لعيهم قد طال فاضطروا للحفاظ على ماتبقى من رجال ومدنيين والخروج من مدينتهم بعد صمود أسطوري.
خذلان داريا يتكرر اليوم في بيت جن، نداءات ونداءات يومية ودعوات للنفير والفزعة ولا مجيب، لم تتحرك أي من فصائل الجنوب لتقديم المساعدة وتخفيف الضغط على ثوار بيت جن وماحولها، في الوقت الذي يسطر فيه الثوار أروع البطولات ضد قوات الفرقة الرابعة وميليشيات فوج الحرمون والعديد من الميليشيات الإيرانية.
اليوم باتت بيت جن أمام محطة تاريخية مهمة في الثبات وتحمل المحرقة التي يواجهونها وسط صمت الجميع عن معاناتهم ومايتعرضون له من حصار وتضييق، أو القبول بالتسويات التي لات تفتأ قوات الأسد في عرضها للتسليم والخروج من المنطقة لتفريغ كامل الجبهة الغربية لدمشق بعد النيل من القلمون الغربي وتسليمه لإيران وحزب الله، والتضييق بالمصالحات على الكسوة وماحولها وباتت بيت جن المخرز الذي يقلقهم والذي تريد كسره.
فصائل الجنوب اليوم أمام اختبار أخير لتثبت فيها وقوفها إلى جانب المناطق الثائرة وفيهن الأشراف والثوار الأشاوس الذين قدموا التضحيات على ثرى أرض الجنوب، فهي الوحيدة القادرة على عدم تكرار سيناريوا داريا والوصول لمنطقة الغوطة الغربية لما وصلت إليه داريا، لأن الدور لامحال قادم على الجنوب والغوطة الشرقية وكل من يقف متفرجاً دون حراك.