رغم التحذير الأميركي الذي مرّره الرئيس ترمب، وأشاد به الرئيس الروسي بوتين في حينه، عن التحضير لهجوم إرهابي بعاصمة الثقافة والتاريخ الروسية، سان بطرسبورغ، منتصف ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وقع هجوم إرهابي بمتجر من متاجر المدينة أسقط عشرات الجرحى، في خضم الاستعداد لاحتفالات رأس السنة.
بوتين كان أثناء ذلك يكرم العسكريين الروس الذين يعتقد أنهم جلبوا النصر لروسيا العظمى. وقال بوتين مستهلاً مراسم توزيع أوسمة على العسكريين الروس إن «روسيا قدمت مساهمة حيوية في هزيمة قوى الإجرام التي تحدت الحضارة برمتها، وفي تدمير جيش إرهابي وديكتاتورية همجية».
غير أنه عاد لأرض الواقع، على وقع «الجريمة» التي راح ضحيتها الأبرياء في سان بطرسبورغ، وردّ غاضباً: «يجب التحرك بحزم وعدم القيام بالاعتقال، بل تصفية اللصوص في الحال».
الواقع المرّ رسم لوحته الكئيبة مدير جهاز الاستخبارات الروسي ألكسندر بورتنيكوف الذي أشار لمعلومة خطيرة هي أن «نحو 4500 مواطن روسي غادروا البلاد للقتال لجانب الإرهابيين».
كثير من أعضاء «داعش» وغيره من الجماعات التكفيرية الإرهابية بسوريا هم من مواطني الجمهوريات الروسية أو التي كانت تابعةً لروسيا، شيشان وداغستانيون وغيرهم، ولـ«شام شريف» في ذاك الخيال الجمعي لمسلمي القوقاز مكانة وجدانية خاصة.
الدخول الروسي - شاء سيد الكرملين أم لا - في سوريا، يُنظر له، وفق ذاك الوجدان العام، ومعه طبعاً كثير من الشعب السوري الرافض لنظام بشار وأحلافه من المعسكر الخميني، على أنه انحياز صارخ للشيعة ضد السنّة.
تتفق أو تختلف مع هذه النظرة المخيفة في بساطتها ومباشرتها، غير أن هذا هو واقع الحال.
روسيا ليست جديدة على مواجهة السلاح الإرهابي المغموس بصيحات الدين والانتقام، فقط في سنة 2017 التي تغادر، لدينا تفجير 3 أبريل (نيسان) في مترو سان بطرسبورغ الذي أوقع 15 قتيلاً وعشرات الجرحى، والذي أعلن تنظيم القاعدة السوري مسؤوليته عنه، وأن الهجوم الذي نفذه شاب قرغيزي هو «رسالة إلى البلاد المنخرطة في الحرب ضد المسلمين».
نعم، كل عاقل وصاحب ضمير لا بد أن يدعم السعي الروسي لسحق القتلة في «داعش» وشبكات «القاعدة»، لأن هؤلاء معادن للجريمة والضلال، ضد الإنسانية جمعاء، غير أن الرؤية التي تسيّر هذه المجنزرات والطائرات والصواريخ الروسية، هي موضع الخلاف، والخطورة في آن.
هل يضيع الروسي بيسراه ما كسبه بيمناه من خلال هذه المقاربة الجلفة الفقيرة للمشكلة السورية؟
والسؤال الآخر: هل «داعش»، و«النصرة» التي يعد الوزير الثلجي لافروف بالقضاء عليها بعد «داعش»، عَرَض أم مرض؟
سوريا تستحق مستقبلاً أفضل من دبابات بوتين وميليشيات خامنئي وبراميل بشار وخناجر «داعش» وقنابل «القاعدة».
نهاية الشهر المقبل سيُعقد في المنتجع الروسي، سوتشي، المؤتمر الذي دعا له الرئيس فلاديمير بوتين. لن يكون ذلك المؤتمر بديلا عن مؤتمر جنيف. فهو لا ينطوي على مسار جديد لحل الأزمة السورية. كما أنه لن يتضمن كما أتوقع أي نوع من المفاوضات بين الحكومة السورية ومعارضيها.
ما سيجري في سوتشي هو أشبه بحفلة تعارف بين غرباء يحاول بوتين أن يخترع لغة مشتركة جديدة بينهم تقع خارج لغة جنيف وأستانة. وكما اتضح من المفاوضات بين طرفي الصراع السوريين عبر سنواتها الماضية أن كل واحد منهما يمتلك لغته الخاصة التي لا تصل إلى الآخر بسبب تمسك ذلك الآخر بلغته الخاصة.
وهو ما جعل كـل شيء يراوح في مكانه من غير تحقيق أي اختراق يقف بموازاة التطورات العسكرية على الأرض. اليوم وبعد أن حسمت روسـيا الأمور على الأرض لصالح الحكومة السورية، لم يعد ميزان القوى مطروحا كأساس للتفاوض.
يمكن تلخيص المسألة بأن روسيا استدعت الأطراف السورية كلها لتكاشفهم بحقيقة ما انتهوا إليه من قلة حيلة وضعف وعدم قدرة على صنع المصير أو الاستغاثة بقوى إقليمية ودولية سحبت يدها من الملف السوري.
وإذا ما كانت الحكومة السورية قد استسلمت للإملاءات الروسية لأسباب معروفة، فإن المعارضة السورية هي الأخرى تأتي إلى سوتشي صاغرة وعلى استعداد للقبول بما يقترحه الجانب الروسي من آليات لحوار مستقبلي.
لقد صار مصطلح “الدول الضامنة” متداولا بين المعارضين بطريقة تنم عن القبول به خيارا وحيدا. وهو ما يعني موافقة المعارضة على حقيقة أن روسيا ومن حولها إيران وتركيا هي كل ما تبقى من المجتمع الدولي بعد أن تبخر الآخرون.
الدول الضامنة هي اليوم المرجعية الدولية الوحيدة التي تعود إليها الحكومة السورية ومعارضوها على حد سواء. وهو ما لم يكن ممكنا تخيل وقوعه قبل سنة من الآن. يومها كان هناك شيء مما كان يُسمى بميزان القوى. ربما ستأخذ عملية البحث عن وسائل لإنهاء النزاع سياسيا في سوتشي منحى أكثر حميمية مما كانت عليه في جنيف أو أستانة.
تصرّ المعارضة على أن تذهب إلى سوتشي وقد حققت إنجازا يُحسب لها من خلال إطلاق جزء على الأقل من المعتقلين. وهو ما يجعلها في وضع مريح ييّسر لها تقديم التنازلات المطلوبة كما لو أنها تردّ الجميل إلى الروس.
وقد يكون مطلوبا من النظام من أجل أن يُنسى وبشكل نهائي شرط المعارضة في تنحّي رأسـه أن يقـدم على خطـوة استرضائية من خلال إطلاق سراح المعتقلين، وهو ما سيجعل موقفه أقوى في مفاوضات جنيف.
غير أن كل ذلك قد لا يلعب دورا في إنجاح سوتشي من وجهة نظر الروس الذين يخططون لحلّ لا يكون طرفاه النظام والمعارضة وحدهما. ولم يكن العنوان الأول لمؤتمر سوتشي عبارة عن خطأ في التعريف وقع فيه الرئيس بوتين.
بالنسبة للرئيس الروسي فإن تسليط الضوء على “شعوب سوريا” هو الأساس الذي سيؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة كلها. فمن خلاله سيتعرف طرفا الصراع التقليديان على حجمها الحقيقي بعد سبع سنوات من الحرب التي طحنتهما وجعلتهما مجرد بقايا لشيء من الماضي.
مؤتمر سوتشي هو مرآة جديدة صنعتها وقائع سبع سنوات عصيبة، سيُفاجأ النظام والمعارضة بالصورة التي يظهران من خلالها. ولو أخبرهما أحد بما انتهيا إليه فقد لا يصدقان مثلما سيفعلان وهما يقفان أمام مرآة سوتشي.
لن يكون مؤتمر سوتشي بديلا عن مفاوضات جنيف. هذا صحيح، غير أن الصحيح أيضا أن ما سيجري في سوتشي سييسر على مفاوضات جنيف القفز على كل الموانع التي كان الطرفان السوريان المهزومان يعتقدان أن القفز يقربهما من نهايتهما. بعد سوتشي سيذهب الطرفان إلى جنيف متأكدين بأن ما كانا يخشيان وقوعه قد وقع، وما عليهما سوى أن يلتحقا بالركب من غير شروط.
مشكلة الشعب السوري، أو حتى "الشعوب السورية" على الطريقة البوتينية، ليست مع بعضه بعضا. تعايش عقودا وقرونا، وما شكا يوماً من كل تلك الأمراض التي ألبسه إياها أو أسقطها عليه نظام الأسد. مشكلته ومصيبته الأساسية بنظامٍ بنى حياته على استراتيجية العداء والمواجهة والكره والاحتقار لهذا الشعب.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يبقى هذا النظام ناكرا متنكراً، ورافضاً أن يكون هناك صراع بينه وبين هذا الشعب، فالشعب بنظره لا يمكن أن يكون الند، ليكون هناك أي نزال أو مواجهة؛ فما بالك مفاوضات أو حوار! الشعب بنظره ليس إلا رعايا تسبح بحمد قائدها الرمز، الإله الذي لا يمكن لمخلوق سوري أن يرتقي لأي حالةٍ من التنافس معه، أو حتى الاعتبار من قبله. أبناء هذا الشعب لحم أكتافهم من خيره؛ تعلموا في مدارسه؛ هو من منحهم شهاداتهم، وهو من صرف على علمهم وطبابتهم وأكلهم وكسائهم. ولولاه لما توالدوا وزاد عددهم. من هنا، قال ماهر الأسد، في الشهور الأولى للانتفاضة السورية: "استلمناها ثمانية ملايين نعيدها كما استلمناها". ومن هنا كان تصريح أخي ماهر لصحيفة وول ستريت جيرنال: "في سورية لا يمكن أن يحصل كما يحصل في بلدان عربية أخرى". ما يعكس كيف ينظر النظام إلى هذا الشعب السوري. استخدم هذا النظام الكيماوي ضد الشعب، ولَم يرف له جفن؛ شرّد نصفه، ولَم يعبأ؛ قتل منه تحت التعذيب في معتقلاته الآلاف، وما خشي عقابا؛ اغتصب إناثه وحتى ذكوره، من دون التفاتةٍ أو وجل.
حتى اللحظة لم يَرَ النظام في أي شخص هتف للحرية، أو قال إن ما يرتكبه النظام بحق سورية وأهلها جريمة، إلا خائنا مرتزقا تشغّله إحدى الدول. يطالب ممثله، بشار الجعفري، "مشغلي" المعارضة أن يسحبوا له بيان مؤتمر الرياض. المعارضة ذاتها التي وضعت البيان؛ بالنسبة له غير موجودة إلا كخونة وعملاء يحرّكهم أصحاب المؤامرة على دولة الصمود والتصدّي التي تقف في وجه إسرائيل. ومعروف مدى حرص إسرائيل على بقاء منظومة الأسد، لتكون الذريعة المناسبة لاستمرار دمار سورية وآلام شعبها.
يعتقد النظام أن من غير الممكن أن يقبل الجلوس مع المعارضة، فهي من الشعب الذي اعتاد التسبيح بنعمته؛ فكيف يمكن أن تكون ندّا له، أو يسمح لها أن تكون في حضرة مقامه السامي؛ فهذا اعتداءٌ على ذاتٍ لها قداسة. وأهم ما لديها هو السيادة التي لا يمكن لأحد أن يستبيحها. ومن هنا الوجود الأميركي في الشمال الشرقي السوري غير شرعي، لأنه لم يأخذ إذن الحكومة "الشرعية". أما الوجود الروسي والإيراني فيبدو أنهما أخذا إذنا من الحكومة "الشرعية ذات السيادة"، ولهذا فهو شرعي.
الحوار الوحيد الذي يعترف به النظام، ويمكن أن يجريه، هو "المصالحات". وتتم هذه بعد أشهر على حصار منطقةٍ وقصفها على مدار الساعة، وجعل أطفالها وشيوخها يموتون جوعاً أو مرضاً، ثم تتم المصالحة مع من تبقى من أهل ذلك المكان.
النظام لا يحاور، ولا يفاوض شعبه أو من يعارضه. يرى أن هناك إشكالات بين مختلف المكونات والطوائف، وها هي روسيا تدعوها له إلى سوتشي، كي تتحاور مع بعضها بعضا. وتعود وترجوه كي يغفر لها، ويقبل الاستمرار برعايتها كقطعان. تحتاج تلك النعمة التي أسبغها الله عليها بأن خصّها بتلك القيادة الحكيمة الملهمة. ولولا التدخل الروسي والتعب الروسي من أجل هذا الحوار بين السوريين، لما قبل أو غفر النظام لتلك الرعية أن تتحاور.
الأكثر من ذلك أن النظام قبل من الروس حتى السماح لأعضاء المؤتمر أن ينظروا في الدستور، وربما يحدّدوا عهد الرئيس بولايتين جديدتين حتى العام 2035؛ إلا إذا أصر الشعب أن يمدّد له ولايتين جديدتين حتى العام 2049.
وبالعودة إلى التجرؤ على مفاوضات النظام أو الحوار معه؛ لا بد أن النظام يستغرب أن يُدعى أساساً إلى مفاوضاتٍ مع ثلة من العملاء، وهو الذي لا ند له إلا الدول الكبيرة. ألم يقل وزير خارجيته مثلا إن قارة كاملة يعتبرها ممسوحةً عن الخريطة العالمية! فكيف يفاوض أو يحاور، وهو قد طرد الإرهابيين؟ وهو قد صمد في وجه الاٍرهاب كل هذه السنوات؟ وهو الذي يوقع معاهدات مع دولة عظمى؟ وهو الذي يمتلك ترساناتٍ من مختلف صنوف الأسلحة؟
لماذا يفاوض النظام، وهو يعتبر نفسه انتصر، بغض النظر عما هي حقيقة هذا الانتصار؛ فكيف يكون انتصارا على إرهابٍ هو ساهم بوجوده؛ وتحديدا "داعش"؟ كيف يفاوض وبظهره قوتا إيران وروسيا؛ ومن يدّعون أنهم معارضة أو ثورة ليسوا إلا مرتزقة؟ يكفيه أنه يسمح لألف وخمسمئة شخص ليباركوا له انتصاراته، ويباركوا هذه العودة الحميدة، بعد كل تلك الإنجازات في وجه المؤامرة... لماذا يفاوض، وداعموه سيف بظهره، وداعمو المعارضة سكين بظهره.
من هنا لا بد من التمسك بالقرارات الدولية، ولا بد أن توضع موضع التنفيذ في انتقال سياسي، يعيد السوريين إلى بيوتهم متطهرين من سموم منظومة الاستبداد. بإرادة هذا النظام، وبإرادة داعميه، لن تكون هناك فرصة لسلام حقيقي، عبر انتقال سياسي يخلّص سورية من التوتر والاستبداد والجريمة. وإن لم يحدث ذلك، لا بد من استصدار قرار دولي تحت الفصل السابع، يريح سورية والمنطقة والعالم من وباءٍ قل نظيره. وهذا ممكن، وروسيا لن تتمكّن من عرقلة ذلك، والاستمرار بحماية الجريمة باستخدام حق النقض (الفيتو).. السؤال؛ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
تقول المادة 27 مِن ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنظم عملية التصويت في مجلس الأمن: لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوت واحد. تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الإجرائية بموافقة تسعة من أعضائه. تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة، بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون منها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة، بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقا لأحكام الفصل السادس.
وتقول المادة الثالثة من المادة 52: "يمنع من كان طرفا في النزاع عن التصويت". وهنا لا بد من وضع اسم روسيا في الشكاوى المقدمة على النظام في مجلس الأمن شريكا مع النظام؛ حيث لا يحق لها التصويت باعتبارها شريكة؛ وبذا يتم توقّي استخدامها "الفيتو". ولسنا الوحيدين في القول إنها شريك؛ بل لا ينفك النظام ذاته وممثلوه عن قول ذلك تكراراً، وحتى التباهي به؛ وروسيا ذاتها ما اعترضت يوماً؛ هذا إضافة إلى اتفاقيات الشراكة بين روسيا الاتحادية وحكومة الأسد. وتجلت تلك الشراكة، طبعا بعد كل ما فعلت روسيا من أجل سلطة الأسد، في تصريح مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بشأن مؤتمر بلاده في سوتشي، أن من يريد مناقشة رئيس سورية لا مكان له في هذا المؤتمر.
روسيا شريك لنظام الأسد في كل شيء. لا بد للأمم المتحدة أن تطبق قراراتها؛ وخصوصا المواد التي يتم التغافل عنها حتى الآن، بحسن نية أم بسوء نية. لا بد لسورية أن تعود آمنة، لكي يعود أهلها إليها آمنين.
لا أحد يعرف شيئاً عن مؤتمر «الحوار السوري» في سوتشي. لا الدول المدعوة إلى دعمه أحيطت بأهدافه ومغزاه، ولا الدول التي كانت ولا تزال على اتصال بموسكو فهمت جيداً ما ترمي إليه القيادة الروسية. ولا «الشريك» الإيراني بادي الارتياح إلى هذا المؤتمر. ولا «الحليف»، نظام بشار الأسد نفسه، عالم بسرّه، فهو حائر بين ابتهاجٍ بسوتشي كعنوان لتكريس بقائه واستمراره وانزعاجٍ منه لأنه يُغرقه في حشد يبادله كرهاً بكره ويجبره على «مصالحة» مَن استعداهم ولم ينجح بعد في قتلهم. ولا المعارضة، المدعوة - غير المدعوّة إلى «الحوار» في ضوء رضوخها للضغوط وتخلّيها عن شرط «رحيل الأسد» أو تمسّكها به. أما روسيا التي بـــدأت القول أن مؤتمر سوتشي مجرد فكرة طـــرحها فلاديمير بوتين، فبذلت جهوداً على مدى شهور لبلورة الفكرة وإلباسها أثواباً عدة، وانتقلت من احتمال دعوة خمسمئة شخص إلى الاقتناع بضرورة جلب أكثر من ألف آخرين، ومن حوار إلى مصالحة إلى إقرار مسوّدة دستور جديد نسخ «خبراؤها» معظم مواده من الدستور الروسي. وأما واشنطن فلم تخرج عن إطار تفويضها «الملف السوري» إلى الروس، ولو أنها لم تؤيد «مشروع سوتشي» ولم تعارضه.
واقعياً، سيبقى «حوار سوتشي» أقرب إلى حشد كرنفالي. عملياً، ستبني موسكو عليه الحل الذي يناسبها، وتبدو أنها تنسجه بتعاون وثيق من أنقرة. حتى أن المشاركين في مؤتمر «آستانة 8» وجدوا أن صيغة الدول الثلاث الضامنة تحوّلت خلال عام إلى «2+1» لأن ثنائي روسيا - تركيا يبدو أنه حجب إيران موقتاً، ولا يعني ذلك استبعاداً لها بل إن المراحل المتبقية من الخطط الروسية تحتاج أكثر إلى تركيا، سواء لاستكمال «مناطق خفض التصعيد» أو لاجتذاب المعارضة السورية المقيمة في تركيا إلى سوتشي، على رغم «الفيتو» التركي على أي دور أو مشاركة لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» و «وحدات حماية الشعب» الكرديَين واعتبارهما «منظمتين إرهابيتين» لارتباطهما بـ «حزب العمال الكردستاني». في المقابل، اتهمهما الأسد بـ «الخيانة» لأنهما قاتلا «داعش» بدعم من قوة خارجية هي الولايات المتحدة. ولعل هذا «التوافق» الموضوعي، بين الأسد والأتراك، هو ما جعل مولود تشاويش أوغلو يتحدث إلى وفد المعارضة السورية عن «تلازم المسارين»، الأممي جنيف والروسي سوتشي. وكان مسار جنيف نتاج بيان صدر عن مؤتمر دولي - إقليمي (30 حزيران - يونيو 2012) وتم تأكيده في سلسلة مؤتمرات مماثلة موسّعة غداة التدخّل العسكري الروسي في سورية إلى أن صيغت في القرار 2254 (18 كانون الأول - ديسمبر 2015). أما مسار سوتشي فلم يتّضح بعد وتطرحه روسيا كأمر واقع يناسب مكوثها المديد في سورية، أو احتلالها لها، لقاء رشًى متفاوتة لإيران وتركيا.
تكتمل معالم «الحظ السيئ» والظروف المعاكســـة للشعب السوري، لا لتجعل محنته الأكبـــر والأسوأ فحسب، بل لتضع مآلاتها في أيـــدٍ روسية لم يسبق أن جرّبت شيئاً آخر غـــير الحلول العسكرية الأكثر وحشيةً. لم يفهـــم الروس من مأساة سورية سوى أن نظامها الإجرامي لم يمتلك الأسلحة الفتاكة المناسبة لإخماد «تمرّد» الشعب عليه، فجاؤوا مع تلك الأسلحة لمساعدته وحليفه الإيراني في مشروعهما الدموي الذي لم يبلغ نهايته بعد، فالنهاية غير المنتهية لـ «داعش» لم تؤمّن لهما سوى عناصر «انتصارية» ودعائية لمتابعة الإجهاز على الشعب. لم تتصرف روسيا طوال عامَين ونيّف كصانعة سلام، بل كراعية لذلك المشروع، ماضية في التدمير والمجازر والتهجير إلى أقصاها، وبمقدار وضوحها في بلوغ الأهداف أياً تكن كلفتها البشرية بمقدار خداعها الجميع في ما يتعلّق بإنهاء الصراع. ليس أدلّ على ذلك من كذبة «مناطق خفض التصعيد» التي تشنّ عليها يومياً عشرات الغارات القاتلة لمؤازرة قوات النظام والإيرانيين.
فالهدف الترويجي الأول لهذه «المناطق» كان «وقف إطلاق النار» الذي واظب الروس وحلفاؤهم على خرقه وانتهاكه. والثاني «تسهيل وصول المساعدات الإنسانية» لكن حصارات التجويع استمرّت تحديداً في الغوطة الشرقية. والثالث «إطلاق المعتقلين» في سجون النظام، ولم يتحقق بعد عام كامل سوى مشروع لتشكيل لجنة لمتابعته. أما المراقبة وآلياتها والدول الأخرى المساهمة فيها فلا يزال أمرها غامضاً غموض النيات والمزاعم والخدع بالنسبة إلى حل سياسي. ولا شك في أن ذروة مسلسل الخداع الروسي تتمثّل بترك الميليشيات الإيرانية تتمكّن داخل سورية، مع التظاهر بعدم الممانعة إذا ضربتها إسرائيل، بل بالاستعداد لإبعادها عشرات الكيلومترات من الجولان لفك الاشتباك بينها وبين إسرائيل، لكن هذه المنطقة تشهد حالياً حشداً هو الأكبر لأتباع إيران بزيّ قوات النظام. وبعد تسليم الحدود السورية - العراقية إلى الميليشيات الإيرانية، في خطوة تعكس أقصى التهوّر، ها هي تلك الميليشيات تتقدّم للسيطرة على ملتقى الحدود بين لبنان وسورية وإسرائيل، ما يحقّق الربط بين الجنوبَين اللبناني والسوري، وفقاً لتخطيط إيراني يعود إلى ما قبل حرب 2006.
يريد بوتين أن يبني على «مناطق خفض التصعيد» كنهاية للصراع السوري، لذا يمضي في الإعداد لـ «مشروع سوتشي» بعناد شديد. لكنه يخشى أن يكون الموقف الأميركي غير المبالي، تغطية لـ «تخريب» قد يحصل في أي وقت. فما يسمّيه «حواراً سورياً» لا يعدو كونه مهرجاناً احتفالياً بالدور الروسي، يُستدعى إليه «أمراء حرب» و «تجار حرب» وزعماء عشائر ورجال أعمال وأشخاص لا علاقة لهم بقضية الشعب السوري لكن تحصّلوا على منافع شتّى من الأزمة بالتعامل مع الأطراف جميعاً ويتطلّعون إلى أن تمنحهم روسيا أدواراً «سياسية» ليبقوا دائرين في فلكها أيّاً ما تكون المحصّلة الأخيرة لهذه الأزمة. وكل الأفراد الذين فوتحوا حتى الآن في إمكان استدعائهم وقعوا على طلبات مذيلة بعبارة «موافق على القرارات» التي يتوصل إليها «الحوار». أما السيناريو الأكثر تداولاً للمجريات المتوقعة لمؤتمر سوتشي فهي أن يلتئم الحشد لرفع الأيدي تأييداً لمسوّدة الدستور، ويتوّج لقاؤهم ببيان تصدره الدول الثلاث «الضامنة» (روسيا وتركيا وإيران) وتعلن فيه تبنّي الدستور الجديد. أكثر من ذلك، يتطلّع بوتين إلى قوننة «مخرجات» سوتشي إما بفرضها على مفاوضات جنيف كوثيقة منجزة، أو بابتزاز الدول لاستصدارها من مجلس الأمن، كما لو أنها تطبيق للقرار 2254.
لعل النتيجة المباشرة لمسعى الرئيس الروسي أنه أشعل استنهاضاً سورياً لا يرفع الغطاء عن كل مَن يشارك في سوتشي فحسب، بل استثار وعياً عابراً للفئات لم يعد يتردّد في اعتبار روسيا «قوّة احتلال» استمدّت «شرعية» من نظام أصبح دمية في أيدي ضباطها، وتسعى من خلال مؤتمر سوتشي لانتزاع «شرعية» لهذا الاحتلال ممَن يسمّيهم بوتين «شعوب سورية». نعم، هذا هو الهدف الروسي من «الحوار السوري» وليس غرضه، كما زعمت موسكو لبعض العواصم، دعم مفاوضات جنيف التي لم تدعمها ولا مرّة في جنيف ذاتها. جميع الفرص كانت متاحة أمام الروس ليبرهنوا أن لديهم فعلاً رؤية إيجابية لمستقبل سورية وشعبها، غير أنهم انشغلوا وشغلوا الآخرين تارةً بتبنّيهم الأعمى لنظام بات من الماضي مهما دعمه الظهيران الروسي والإيراني، وطوراً بالعمل على تفتيت صفوف المعارضة عسكرية أو سياسية، وصولاً إلى تصنيفات خرقاء يعتمدها سيرغي لافروف لـ «إسقاط» من يعتبرهم راديكاليين في وفد المعارضة إلى التفاوض.
صحيح أن الدول كافة لا تستطيع إنكار أن روسيا احتوت الأزمة السورية بالقوة العسكرية، وأنها مضطرة للتعامل مع موسكو على هذا الأساس، لكن تراجع هذه الدول عن دعم الشعب السوري أو دعوتها إلى الضغط على المعارضة لا يمكن أن يحقّقا لروسيا اعترافاً بشرعية دورها طالما أنه عاجز عن طرح حل سياسي حقيقي. وكيف يمكن هذه الدول أن تصدّق الروس إذا قالوا - داخل الغرف المغلقة – أنهم يضمنون «رحيل الأسد أثناء المرحلة الانتقالية»، أو أنهم يتعهّدون لجم الجموح الإيراني، أو أنهم يسعون إلى «دولة لجميع السوريين» فيما هم يعملون على إقصاء كل مَن يرفض بقاء الأسد في السلطة، فالعالم لا يعتبر وجوده في السلطة مشكلة سياسية بل كارثة أخلاقية.
يبدو أن روسيا مصرة في أي شكل من الأشكال على إفشال مفاوضات جنيف من أجل بث الروح في محادثات آستانة التي ترعاها هناك بالتعاون مع تركيا وإيران. لقد بدا واضحاً أن روسيا تفكر في ما بعد الحرب في سورية وبالعوائد الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها كما أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي في زيارته الأخيرة إلى سورية.
لكن التحدي الرئيسي ما زال أن إعلان انتهاء الحرب في سورية ما زال بعيداً وربما بعيداً جداً في ظل الرغبة الروسية في التهدئة وعدم الحسم مع الجيوب المتبقية للمعارضة في إدلب والغوطة الشرقية وريف حماة وغيرها من المناطق، وفي الوقت ذاته إدراك روسيا إفلاس الحكومة السورية وعدم قدرتها على تحمل تبعات إعادة الإعمار، بالتالي تجد في هذا المدخل فرصة دائمة لإهانة الرئيس السوري كما حصل في زيارة الرئيس بوتين الأخيرة قاعدة حميميم الروسية في سورية حيث مُنع الأسد من جانب جندي روسي من مرافقة الرئيس الروسي خلال توجهه إلى منصة التتويج، وعليه لا ترى روسيا فائدة اقتصادية حقيقية من بقائها في سورية، لكنها تجد فيها فرصة لزيادة حضورها وتأثيرها الدولي ومنافسة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، لكن مع انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط تحت إدارة ترامب وتبني أجندة «أميركا أولاً»، لا تجد روسيا فائدة من مناكفة الولايات المتحدة دولياً وأصبحت تفكر أكثر في الجدوى الاقتصادية من تدخلها المكلف في سورية.
لذلك، فهي ترغب في إدارة المرحلة الانتقالية من خلال آستانة لا جنيف، بحيث تسيطر تماماً على مخرجاتها ولا تسمح للسوريين بقول الكلمة الفصل أو اتخاذ القرار النهائي في شأن ذلك، وهو السبب الذي دعا الرئيس بوتين إلى الدعوة إلى مؤتمر سوتشي الذي تأجل مرات عدة، وربما يعقد في عام 2018 بهدف «الحوار بين السوريين» لكن جميع المؤشرات تدل على أنه لن يضع نهاية للحرب السورية بسبب التدخلات الروسية وعدم اتضاح أجندته والمخرجات النهائية الخاصة به، لذلك فمن المؤكد أن قوى المعارضة السورية كلها ربما لن تشارك في المؤتمر.
شاركت المعارضة السورية في مفاوضات آستانة بناء على رغبة الجانب التركي، وقد توصلت إلى رؤية في ما يتعلق بالتعامل مع ملف المعتقلين السياسيين والمفقودين، لكن رفض النظام السوري التوقيع على اتفاق من أجل حل قضية المعتقلين السياسيين الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف في سجون النظام السوري، جعل المفاوضات بلا معنى ومن دون أي أجندة، وفي اليوم الأخير من المحادثات طرحت روسيا الدعوة إلى مؤتمر سوتشي الذي ترفض المعارضة السورية حضوره من دون وجود أجندة واضحة أو رؤية لمخرجات الاجتماع.
لقد بدت محادثات آستانة أشبه بالمفاوضات الدولية حول سورية من دون أن يشارك فيها السوريون، فالنتائج تبدو معدة مسبقاً والبيان الختامي غالباً يتم الاتفاق عليه مسبقاً من جانب ما يسمى الدول الضامنة وهي روسيا في شكل أساسي وتركيا وإيران، على رغم أن النظام السوري لم يحترم اتفاق وقف النار أو ما يسمى مناطق خفض التصعيد في الأماكن المتفق عليها، لا سيما في الغوطة الشرقية، حيث نرى صور الحصار والتجويع تتالى من دوما وحرستا وغيرها من المناطق التي يفرض عليها النظام حصاراً مطبقاً من دون الاكتراث بالقرارات الدولية، بخاصة القرار 2268 المتضمن السماح بالمساعدات الإغاثية والإنسانية لمناطق الحصار وللمناطق التي هي في حاجة إليها.
لذلك، لا يتوقع أن تقود الجولة الجديدة من محادثات آستانة المقبلة إلى نتيجة مختلفة مع تشدد النظام السوري ورفضه بحث مسألة المعتقلين وعدم ضغط روسيا على نظام الأسد للتعامل مع ملف المعتقلين وفك الحصار عن الغوطة بجدية.
إن جميع قوى المعارضة السورية ترفض المشاركة في مؤتمر سوتشي من دون وضوح الأجندة الخاصة به والمخرجات التي يمكن أن تنتج منه، وهو ما ليس واضحاً لدى الطرف الروسي الجهة الداعي إلى المؤتمر، وليس واضحاً ما إذا كانت روسيا متمسكة بعقد المؤتمر مهما كان الثمن ومن دون وضوح الأجندة أو قائمة المدعوين إلى المشاركة، ومن سيتحمل تكلفة عقد المؤتمر حيث إن موسكو نادراً ما تتحمل تكاليف عقد هذه المؤتمرات السياسية.
لذلك، يمكن القول أن هناك أسئلة كثيرة حول مؤتمر سوتشي وأجوبة قليلة، لذلك علينا أن ننتظر توضيحات من الجانب الروسي في شأن عقد المؤتمر من عدمه.
لكن، يجب أن تضع روسيا في ذهنها دوماً وهي تعد للتحضير لمؤتمر سوتشي أنه لن يكون نهاية الأزمة السورية ولن يتمكن اللاجئون السوريون من العودة إلى وطنهم ما دام بشار الأسد في الحكم، وجميع التغييرات في المواقف الدولية لن تغير حقيقة أن نظام الحكم الذي فرضه الأسد لن يقنع السوريين بالعودة إليه أو إقناعهم بأن كل التضحيات التي بذلوها على مدى السنوات السبع الماضية ستعود بهم إلى شكل نظام الحكم نفسه في القتل والتعذيب والاضطهاد.
يحمل عام 2018 للشعب السوري هدية لم تكن في الحسبان، وبدا التحضير لمطلع العام الجديد المفعم بالأمل بالرغم من كل ويلات عام 2017 عليهم، بعد أن انتقلت المظاهرات السلمية التي كانت في سوريا منذ حوالي سبع سنوات إلى محافظات ايران.
لم يكن بحسبان النظام الإيراني وحرسه الثوري الذي شارك في قتل الشعب السوري أن ينتفض شعبه، وتتوسع مظاهراته واحتجاجاته خلال أربعة أيام إلى معظم المحافظات الإيرانية، لتخرج مظاهرات كبرى في أكثر من 30 مدينة بحسب ما أحصت حسابات إيرانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تأهب حذر من قوات الجيش الإيراني والحرس الثوري، واطلاق رصاص حي بين المتظاهرين في الأيام الأولى من المظاهرات، وسط صرخات المتظاهرين مطالبين النظام الإيراني بالخروج من سوريا والتوقف عن دعم نظام الأسد مرددين "فكر بشأننا" "ودع سوريا وشأنها"، إضافة إلى هتافات تندد بالرئيس الإيراني تشبه تلك التي كانت في ساحات سوريا تنديداً بالأسد عام 2011، مثل "الموت للرئيس روحاني" و"الموت للديكتاتور"، ولم يكتفوا فقط بالهتافات ضد نظامهم لتمتد إلى أنصار النظام الإيراني في لبنان فهتفوا "الموت لحزب الله".
وتشهد ايران وللمرة الأولى، مهاجمة واضحة وصريحة للمرشد الأعلى، "علي الخامنئي"، والذي يمثل أعلى شخصية دينية على الأرض للمذهب الشيعي، ما يعني تفلت اللجام الديني في البلاد، وضرب الشباب الإيراني، الانتماء المذهبي الذي يزرع فيهم منذ الصغر عرض الحائط.
الأحداث في ايران اختلفت عن تلك المظاهرات التي كانت في سوريا مطلع عام 2011، بتسارع الأحداث وسط المشهد الإيراني خلال ثلاثة أيام ليحرق المتظاهرون محطة بترول بمدينة كرج، التي تقع على بعد 20 كيلومتراً غرب طهران، ليكون فتيل الثورة الإيرانية التي أنجبتها سنة 2018 سريعة الاشتعال بالنووي نفسه التي سعت ايران لتطويره، وعوضاً من أن يهدد نظام خامنئي العالم بمفاعله النووي، قلب السحر على الساحر وها هو يواجه شعب ثائر حاول أن يقمعه منذ 2009.
وما كان يُعتقد في البداية أنه مجرد احتجاجات صغيرة ضد الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة تحول في أيام إلى مظاهرات كبيرة ضد الحكومة، لتتطور إلى مشهد نادر يجسد مواجهات شعبية غاضبة تنبئ بالمزيد من الاحتجاجات، من فئة الشباب على وجه الخصوص.
ولم تكن مظاهرات الشعب الإيراني وليدة اللحظة، بل كانت بحسب محللون إيرانيون نتيجة الإحباط والغضب اللذين غذيا "الثورة الخضراء" عام 2009، والتي بقيت على قيد الحياة في صلب المجتمع الإيراني، في الوقت الذي لم تخمد أعمال القمع في التخلص من هذه المشاعر.
وساهم التضخم المالي وانتشار البطالة في تحرك الشباب الإيراني والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، بعد أن سيطر المتشددين الفاسدين وغير المؤهلين على كل ركائز الاقتصاد الإيراني، على غرار صناعة السياحة والاستيراد وقطاع الطاقة الضخم، وسط عجز الرئيس الإيراني، "حسن روحاني" من مقاومة الفساد وسط سيطرة الحرس الثوري بشكل واضح على موارد البلاد.
وفي عودة سريعة إلى بداية الثورة السورية، نسترجع كيف كان لرجال الدين دور في الوقوف إلى جانب صفوف المتظاهرين، وبنفس السيناريو بدأت مراجع مؤيدة لنظام ايران بدعم الاحتجاجات الشعبية، كان من بينهم المرجع الديني الإيراني في مدينة قم، "نوري همداني"، الذي أكد أمس السبت، أن الناس يطالبون بحقهم ويجب دعمهم، بالرغم من أنه حاول أن يحذر من مواجهة قوى الأمن.
وبالرغم من أن الشعب السوري لا يساوم على دم الأبرياء، إلا أن أمنيته مع بداية عام 2018 ستكون ولادة ايران جديدة من خاصرة ايران المذهبية، وأمله أن ينشغل نظام روحاني الذي رسم الهلال الشيعي مروراً بدمشق بعيداً عن دماء السوريين، عل حرسه الثوري وذيله حزب الله يلملم حاجياته ومدافعه ودخانه من سوريا ويعود إلى بلاده وينشغل بما شغل به السوريون سبعة أعوام.
انطلقت حرب التسوية في سوريا، والسباق على ثلاثة مسارات تبدو متوازية، أقله في الشكل، حيث يؤكد الجميع مرجعية القرار الدولي 2254، وهي خط «جنيف» المستند إلى الشرعية الدولية، وخط «آستانة» تحت ضمان تحالف الدول الراعية، روسيا وتركيا وإيران بمشاركة أممية ودولية، وخط «سوتشي» الذي سينطلق في نهاية يناير (كانون الثاني) 2018، وقد حاز «الرعاية الدولية» وفق السيد بوغدانوف الذي قال: «كل شيء يتم برعاية الأمم المتحدة»، كاشفاً عن أن موسكو تجري اتصالات مكثفة مع «الشركاء الغربيين بما في ذلك الولايات المتحدة، لدعوتهم إلى (سوتشي) إن عبّروا عن رغبة في المشاركة»، والاستعداد لدعوة أي دولة تبدي اهتماماً كي تحضر بصفة مراقب.
رغم دعوة السيد دي ميستورا إلى «جنيف 9» في 21 يناير القادم، فإن الأنظار شاخصة على «سوتشي» في 29 منه، التي ستجمع نحو 1500 مشارك؛ من هم وكيف سيتم اختيارهم وما المعايير التمثيلية التي ستعتمد، ومن يحدد هذه المعايير حتى يقال إنهم يمثلون أغلب الطيف السوري، كلها أمور مجهولة، (هذا بغياب الممثلين الحقيقيين عن الأقلية الكردية التي تسيطر على أكثر من 25 في المائة من سوريا والممثلة بـ«وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية»)، سيلتقون في محادثات غير مسبوقة، يمكن أن يُقال عنها كل شيء إلاّ صفة الجدية، فضلاً عن أنه لا معطيات بعدُ حول آليات الانعقاد والنقاش المنتج.
الآن ماذا تريد روسيا من هذا المؤتمر؟ ولماذا تحول انعقاده إلى بندٍ دائم على كل جداول أعمال القمم التي عقدها الرئيس الروسي في الأشهر الماضية؟ طبعاً يصعب على أي جهة أن تُقدم قراءة صحيحة لخطط الرئيس الروسي، وغياب المعطيات التفصيلية يزيد الأسئلة على حساب نُدرة الأجوبة، لكن المؤكد أن موسكو تسعى إلى تسوية على قياس مصالحها قبل أي شيء آخر، وتدرك أنه من دون التسوية السياسية سيتبخر كل ما أنجزته في سوريا، وتعرف موسكو أنه رغم الموافقات التركية والإيرانية على انعقاد هذا المؤتمر، فهي لم تنجح كلية بعد في تثبيت وقف النار كما لم تتمكن من فرض قناعاتها كاملة على طهران وأنقرة.
إن تحقيق روسيا مصالحها شرطه وقف كل أشكال القتال والتقدم نحو التسوية التي رسمتها، أولويتها ترسيخ نفوذها في سوريا وكل المنطقة، والإقرار العالمي، أي الأميركي، بدور مميز لها في معالجة القضايا الدولية من أوكرانيا إلى كوريا الشمالية، وهو دور كانت قد فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. من ثم التقدم أكثر فأكثر في إمساك ملف إعادة إعمار سوريا، بعدما أكدت زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي سوريا قبل أيام، أن ثمن الانتصار، الذي تطلب وفق وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو، استخدام 48 ألفاً من العسكريين الروس، هو أولوية السيطرة الروسية على النفط والغاز وخطوط النقل، المرشحة لأن تُدرَّ الأرباح على الكرملين.
ما تريده موسكو، يتعارض مع أولويات طهران ورأس النظام السوري، والافتراق بين الجانبين حتمي لكنه مؤجل إلى حين تبلور إرادة أميركية للتوافق مع روسيا، وما جرى في «جنيف 8» من جانب الوفد السوري إلى المفاوضات، حمل بداية تمرد نظام الأسد على الراعي الروسي، من خلال العودة إلى أولوية متابعة المعركة ضد الإرهاب، وشهد العالم الفيديو المسرب من الوفد السوري عن المناطق التي تقول دمشق إنها ما زالت خاضعة للإرهابيين، وهذا جوهر ما تريده طهران التي دعت سابقاً لمتابعة الحرب لاستعادة الرقة وإدلب وإنهاء الغوطة الشرقية والوضع في الأرياف وإحكام السيطرة على مناطق «خفض التصعيد». هذا يفسر المناورات التي تلجأ لها طهران والنظام السوري كلما وُجهت الدعوة إلى جولة جديدة من المحادثات. ولأن كل الأطراف «دفنوا معاً الشيخ زنكي»، يدرك الجميع أن وضع المحادثات على سكة التسوية، يعني أنه لن يكون متاحاً أن تستمر هذه السيطرة للنظام الإيراني، ولن يكون مسموحاً بقاء هذه الميليشيات المتطرفة التي تقاتل الشعب السوري، وأكثر من ذلك فإن التسوية اليوم تكسر مشروع طهران الإجرامي للسيطرة، الذي يمر حتماً عبر المزيد من الحروب والتغيير الديموغرافي، وأساساً منع النازحين من العودة لتثبيت توازنمذهبي يحمي مشروع السيطرة الدائم، والكل يذكر امتداح بشار الأسد التغيرات الديموغرافية بعد عمليات التهجير والاقتلاع الواسعة جداً في محيط دمشق.
مقابل ما تريده طهران، لا تزال أولويات أنقرة منصبة على السيطرة على عفرين والدخول إلى منبج واحتكار السيطرة على إدلب فتكون الحصة التركية من الكعكة السورية وازنة، وتنهي بذلك كل إمكانية لوصل المناطق ذات الأغلبية الكردية مباشرة، أو عبر «كوريدور» جرت الإشارة إليه أكثر من مرة. وحتى إردوغان الذي عقد سبع قِمم مع الرئيس الروسي يخشى بدوره من سرعة التسوية على ما يعتبره مصالح تركية في الشمال السوري، وهذا ما يفسر مواقف بعض المعارضة السورية السياسية والعسكرية المعترضة حيناً على مؤتمر «سوتشي» والرافضة له حيناً آخر، وما من جهة مستعدة للتخلي عن أي جزء من أوراقها.
طبعاً الأشد وجعاً في كلِّ هذه اللوحة هو أن سوريا التي باتت أشبه بحقول للقتل، يتم التعامل معها بوصفها ملفاً في أجندات الكبار، ويتم التعامل مع السوريين بـ«تمنين» كبير كثمن لوقف المقتلة العامة، والصورة أن الكل سلّم القرار للخارج وخصوصاً الروسي والأميركي؛ فكلاهما من يملك في نهاية المطاف وضع التسوية السياسية على سكة الحل النهائي أو العودة للتفجير... لكن طالما كل المؤشرات تلتقي على أن «سوتشي» سيكون رقم واحد ولن يُحقق الآن الاختراق النوعي، فلماذا الإصرار الروسي عليه؟
لنعد إلى «آستانة»، فحلقات هذا المؤتمر التي نجحت في إنجاز مناطق «خفض التصعيد»، نجحت من الزاوية الروسية بتقديم بدائل تمثيلية في وجوه المعارضة السياسية والفصائل وفي الأداء، وعلى «سوتشي» أن يُكرس كثيرا من المتغيرات بداية بمن يمثل السوريين، ومشهد المعارضة السياسية والعسكرية الدقيق جداً، إلى الدستور وشكل الحكم والانتخابات، كنتيجة للانتصار الروسي، بما فيها دور الأسد ولو بنصف أنياب، بانتظار بلورة البديل وشرطه التوافق مع الأميركيين وأخذ رضا الدول العربية الفاعلة، وهذا سيضع طهران بين الطلاق مع الروس أو القبول الطوعي بكبح نفوذها، فيكون «جنيف» لتثبيت المتغيرات التي تريد موسكو تكريسها في «سوتشي».
بعد جنيف وأستانة، وصلنا إلى سوتشي، وكأن الأمر يتعلق بقطار يسير نحو موسكو، للقول إن روسيا هي صاحبة القرار في سورية، بعد أن استطاعت "الانتصار على الإرهاب". بمعنى أن روسيا تريد تحقيق "الانتصار السياسي"، بعد أن حققت "الانتصار العسكري"، هكذا اعتقدت، وتريد ترجمة هذا "الانتصار العسكري" إلى "انتصار سياسي".
ماذا يعني ذلك؟ من تابع مفاوضات جنيف، والموقف من مبادئ "جنيف 1"، يصل إلى "أسس" تحكم المنظور الروسي، أولها أن "جنيف 1" أتى في مرحلة قديمة، لم تكن روسيا فيها قد وطّدت وجودها العسكري في سورية، وبالتالي بات من الماضي. لهذا جرت المراوغة عبر قرارات أخرى، آخرها قرار مجلس الأمن 2254، حيث كانت المرحلة الانتقالية التي ترد في بيان "جنيف 1" تختفي خلف "الوقائع" على الأرض. وثانياً أن عدم طرح مصير الأسد الذي رافق المرحلة الأولى تمّ تجاوزه، وأصبح واضحاً أن روسيا تنطلق من أن الحل يجب أن يتحقّق في ظل الأسد، وبتوقيعه.
ليس ذلك كله مستغرباً، فروسيا لا تعتبر ما حدث في سورية ثورة، بل تمرّدا ثوريا يجب أن يتدمَّر، وهو ما صرّح به وزير الدفاع الروسي، حين قال إن بلاده كسرت موجة الثورات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولهذا راوغت طوال سنوات من المفاوضات، إلى أن وصلت إلى ما اعتقدت أنه انتصار يسمح بفرض شروطها، القائمة فعلياً على قبول من يعترف بالهزيمة، ويقبل أن يعود "تحت بسطار" النظام. هي هنا لا تريد أن يظهر أن هناك ثورة فرضت التوصّل إلى "حل وسط"، بل تريد أن تقول إن الثورة هُزمت، وعلى من يريد أن يلتحق بالنظام.
سوتشي هي المكان الذي يُفتح لمن يريد كي يلتحق بالنظام. لكن روسيا تعمل على أن يكون مؤتمر سوتشي تجمعا هلاميا، طائفيا ودينيا وإثنيا وقبليا، مع بعض الألوان السياسية، وأن ينطلق من مبدأ بقاء الأسد، وأن الهدف هو تعديل الدستور، أو صياغة دستور جديد مشابه، أو حتى أسوأ كالذي قدّموه. لهذا، هي تدعو من يوافق على منظورها هذا، وتلمّ "ممثلين" عن الطوائف والأديان والقبائل والإثنيات، الذين يقبلون بما تريد. ولا بأس من حضور معارضين وأحزاب كلها "في حضن النظام"، أو "حضن موسكو"، أو حتى من قبل بالشروط الروسية، أو يُفرض عليه من تركيا والسعودية.
إنه كرنفال احتفالي، لتكريس "انتصار" روسيا الذي يتحقق بفرض الحل الذي تقرّره، والذي يقوم على بقاء الأسد ونظامه، في مراهنةٍ على أن تجري انتخاباتٌ على أمل أن ينجح غيره في ظل سيطرته على الأجهزة الأمنية، وقدرته على التزوير، كما فعل في كل المرات السابقة. ومن ثم يُطوى الأمر، ويستقرّ الوضع في ظل وجودٍ دائم للجيش الروسي. أي في ظل الاحتلال الروسي، هكذا بكل الوضوح.
نشوة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تدفعه إلى السُّكْر، فقد "انتصر"، وعليه أن يفرض الحل الذي يأتي بعد "الانتصار". لكن ماذا لو كانت سورية هي أفغانستان جديدة؟ لا شك في أن الحل الروسي لا يقود سوى إلى ذلك، حيث إنه لا يحقق الاستقرار مطلقاً. وكما أشرت مراراً، حتى وإنْ وافقت كل المعارضة، حيث إن إنهاء الصراع يفترض تحقيق بعضٍ مما طالب به الشعب، وإلا لا حلّ ولا يحزنون. حيث لن يثق أحد من الشعب الذي ثار، والذي قُصف وتعرّض للقتل والتهجير، والحصار المميت والاعتقال الإجرامي، بأن يقبل بما جرى، أو يقبل تسليم السلاح، أو يطمئن للعودة.
ذلك كله لا يفهمه الروس، لأنهم لا يفهمون معنى الثورة، ولا يفهمون معنى أن يكون الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهم يرتعبون من الثورة، حتى أنهم يخجلون من ثورة أكتوبر التي ألهمت العالم.
سوتشي هي الصناعة الروسية لـ "سورية الجديدة"، سورية بشار الأسد. لكن سورية الثورة ستكون "أفغانسان جديدة" لروسيا الإمبريالية.
على الرغم من الهيمنة الروسية الظاهرة على الاجتماعات العسكرية والسياسية بشأن الملف السوري في أستانة وسوتشي، وحرصها على السيطرة على إيقاع اجتماعات جنيف، فإن فرض تصورها للحل في سورية ليس محسوما في ضوء الهوة الواسعة بين هدفها الاستراتيجي وقدراتها الواقعية، فالهدف الاستراتيجي الذي تعمل، بكل طاقتها، لتحقيقه هو حجز موقع قطب دولي ندٍّ للولايات المتحدة الأميركية؛ ومعالجة الجرح النفسي الذي ترتب على انهيار الاتحاد السوفييتي، والفوضى والضياع خلال فترة حكم بوريس يلتسين، بضمان أمنها الوطني. وهذا يحتاج قدراتٍ، وخوض صراعات كبيرة ومتنوعة، بدءا بكسر الطوق الذي يحيط بها (اقترب حلف الناتو من حدودها الغربية، شبكة الدرع الصاروخية الأميركية التي نشرت أجزاء منه في تركيا ورومانيا وبولندا، شبكة صواريخ "ثاد" المتطوّرة التي نشرتها الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، الصواريخ النووية المتوسطة في أوروبا واليابان)، وتحقيق توازن عسكري مع خصومها الإقليميين والدوليين، برفع قدراتها العسكرية البرية والجوية والنووية كمّا ونوعا، وضعت لنفسها هدفا تحديث 60% من أسلحتها، بما في ذلك الأسلحة النووية، وهذا يتطلب ضخ أموال كبيرة، والعمل على حماية حصتها في استثمارات دول الجوار الجغرافي التي بدأت الصين بالسيطرة عليها وامتصاص فوائضها.
تحدّيات كبيرة وصعبة في ضوء تنوعها واتساعها وضخامتها، بالقياس إلى إمكاناتها وإمكانات الخصوم المباشرين والمحتملين. ولم يكن ردها الرئيس؛ عبر الانخراط في تكتلات وتجمعات لتثقيل أوراقها في مواجهة الثقل الغربي السياسي والاقتصادي (منظمة شنغهاي، بريكس، الاتحاد الأوراسي)، تصعيدها العسكري في وجه التمدّد الغربي في دول أوروبا الشرقية (الهجوم على جورجيا وفصل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها، الضغط على دول البلطيق، التدخل في أوكرانيا وضم جزيرة القرم ودفع المقاطعات الشرقية للانفصال عنها)، واستثمار احتياطياتها الضخمة في مجال الطاقة (النفط والغاز) للضغط على الدول الأوروبية، المستورد الرئيس لهما، عبر السعي إلى التحكّم بالأسواق والأسعار وخطوط النقل، تسخين الأجواء مع "الناتو" (تحليق الطيران العسكري فوق سواحل دول البلطيق، تحليق طائرات استراتيجية بالقرب من الشواطئ الأوروبية والأميركية والكندية، نشر قوات في القطب الشمالي، نشر الغواصات في البحار والمحيطات القريبة من الدول الغربية، نشر بطاريات صواريخ إس 400 في القرم وعلى الحدود الشرقية)، للضغط من أجل دفع الخصوم إلى الجلوس حول مائدة التفاوض، لم يكن كافيا لإقناع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، بالاعتراف بها قوة عظمى، أطلق عليها الرئيس الأميركي السابق، بارك أوباما، وصف "قوة إقليمية"، فطوّرت هجومها العسكري والسياسي والدبلوماسي في شرق المتوسط وشمال أفريقيا وأميركا اللاتينية، من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية تسمح بوجود عسكري وسياسي واقتصادي؛ وإقامة قواعد ونقاط ارتكاز قرب حدود الدول الغربية ومصالحها لردعها، وردع ذراعها العسكرية (حلف الناتو). تدخلت عسكريا في سورية بشكل مباشر، وبالتنسيق مع إيران ومليشياتها المذهبية. وفي ليبيا بدعم خليفة حفتر عبر مصر. وعملت، وما تزال، على سحب تركيا بعيدا على التحالف الغربي بالاستجابة لهواجسها ومخاوفها الكردية. واتفقت مع الرئيس السوداني، عمر البشير، على إقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وسرّعت وتيرة إنتاجها العسكري لإعطاء صدقية ووزن لتكتيكاتها السياسية وخطواتها العملية.
وقد حرصت وزارة الدفاع الروسية في الذكرى 103 لانطلاق الصناعات الحربية الروسية على الإعلان عن إنجازاتها العسكرية، مرفقة بذكر نوع القطع العسكرية المنجزة وعددها. وأعلن وزير الدفاع أن القوات الروسية تسلّمت في السنوات الخمس الماضية 80 صاروخا عابرا للقارات وتسع غواصات و55 طائرة و3237 دبابة ومدرعة، وتغنّى إعلامها بقدراتها العسكرية، فقد ذكرت قناة آر تي الروسية إن مجمل الساعات التي أمضتها القاذفات الاستراتيجية الروسية في أجواء روسيا والعالم خلال العام الماضي 17 ألف ساعة، و"جابت أجواء الكرة الأرضية في الليل والنهار ومختلف الظروف الجوية".
وقالت عن الطائرة الروسية "تو- 160"، التي سيتسلم الجيش خمسين منها حتى عام 2025، " تحمل 12 صاروخا مزوّدة برؤوس نووية ليصل إجمالي ما على متنها من ذخائر إلى 40 طنا، وقادرة على التحليق لـ14 ألف كم دون التزود بالوقود، وتستطيع بصواريخها النووية تغطية أراضٍ تعادل القارة الأوروبية بمساحتها". وعن الصاروخ الروسي المجنح الجديد أكس - 50 "يمكنه إصابة الهدف بدقة على مسافة 1500 كلم". وذلك كله ضمن تصور أن يتحقق هدف روسيا باعتراف الغرب بها قوة عظمى، ويتعاون معها في حل المشكلات الدولية. ولكن الغرب بقي على موقفه منها، وما زال يطالبها بالتوقف عن التدخل في أوكرانيا والانسحاب من جزيرة القرم، ووقف تهديداتها لدول البلطيق، ويفرض عليها عقوبات اقتصادية، بل ويفرض مزيدا منها. ووضعها ذلك كله في موقف دقيق وحرج، على خلفية كلفة التمدّد الإقليمي، فإنشاء قواعد عسكرية مكلف ماليا؛ خصوصا لدولةٍ يعاني اقتصادها من نقاط ضعف وهشاشة (معظم الناتج القومي من تصدير المواد الأولية، النفط والغاز خصوصا). والاقتصاد أساس قيام القوى العظمى. وكان المؤرخ الأميركي، بول كنيدي، قد درس تجارب نشوء القوى العظمى وسقوطها خلال 500 سنة، واستنتج القانون الذي حكم الظاهرة: "اقتصاد قوي يمول قوات منتشرة في الخارج"، مع احتمال تضاعف عجز اقتصادها إذا ما استدرجتها الولايات المتحدة إلى سباق تسلح (موازنة روسيا العسكرية 43 مليار دولار وموازنة الولايات المتحدة نحو 700 مليار).
وكان لافتا أن القيادة الروسية لم تكتف بتجاهل النتائج المتواضعة لمحاولاتها المتكرّرة لإقناع الغرب بقبول أوراق اعتمادها في قائمة القوى العظمى، بل وذهبت بعيدا في تضخيم هذه النتائج، فقد ذكرت وكالة سبوتنيك إن الاستراتيجية الكبرى لروسيا في القرن الـ21 تدور حول التحول إلى القوة العظمى لتحقيق التوازن داخل المنطقة الأورو - آسيوية، الأمر الذي يفسر السبب وراء محاولتها "تحقيق توازن" داخل منطقة الشرق الأوسط التي تتداخل مع ثلاث قارات، عبر دبلوماسية القوة العظمى مع إيران وتركيا من أجل التصدّي للعمليات المدمرة التي أطلقتها الولايات المتحدة داخل المنطقة، منذ ما أطلق عليها "الحرب الدولية ضد الإرهاب"، وحتى الآن، أحرزت المهمة متعددة الأقطاب التي أطلقتها موسكو نجاحاً هائلاً".
غير أن مكابرة موسكو لم تجد في إخفاء موقفها الدقيق والحرج الذي عكسته النتائج السورية الهزيلة لجولات أستانة الثماني، وقمة سوتشي مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، ونقاط الضعف التي تحيط بتحرّكها لعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي يومي 29 و 30 من يناير/ كانون الثاني 2018، حيث التناقض والتعارض بين أهداف الدول الراعية (روسيا، تركيا وإيران) وتصوّراتها، فروسيا تريده لاستمرار تحرّكها السياسي، لا تريد وقف محاولاتها لكي لا يظهر عجزها ونقاط ضعفها وعدم تحقيقها نتائج ملموسة. ولمواصلة الضغط على الولايات المتحدة التي لم تمنح تحرّكها في أستانة وسوتشي شرعية بإعلانها المتكرّر "إن جنيف هو المسار الوحيد الشرعي"، بإعطاء انطباع بانفرادها في قيادة عمليةٍ سياسيةٍ، بينما الولايات المتحدة، التي ليس لوجودها في سورية مشروعية، تكتفي بتدمير المدن والبلدات السورية، وإيجاد تكتل مناهض للغرب في منطقة الشرق الأوسط، وتمرير الحل عبره، يحرّرها من مشاركة دول لها تصورات مختلفة، والإبقاء على المعارضة في موقف دفاعي.
وفيما تنحني تركيا للمطالب الروسية، لعلها تكسب رضا موسكو، فتمنحها ضوءا أخضر للتحرّك ضد وحدات حماية الشعب في عفرين، تناور إيران عبر الموافقة على عقد مؤتمر سوتشي والتصعيد العسكري (في قمة سوتشي التي جمعت بوتين وأردوغان وروحاني طالب الأخير بموافقة شريكيه على احتلال مليشيا موالية لإيران بقاعا غير متصلة بين الحدود العراقية والحدود السورية مع لبنان)، كي تغطّي على رفضها الانتقال السياسي، انتقدت صحيفة كيهان موقف موسكو ودعوتها ضمنا بقولها: "الذين يرتدون ملابس الأصدقاء لا يمكنهم أن يحدّدوا مصير سورية بل سيحدده شعبها في ظل قوة محور الممانعة". ولم يقبل النظام السوري طرح دستور جديد وانتخابات رئاسية في سوتشي، في حين أعلنت المعارضة تمسكها بأهدافها في تحقيق انتقال سياسي، وتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات. وهذا بالإضافة إلى تفضيل دول أوروبية التركيز على مفاوضات جنيف، وضرورة الغطاء الدولي لأي اتفاق، ما يعني حاجة روسيا لمباركة واشنطن التي لن تمنح مباركتها من دون تحقيق أهدافها، والتي ربطت استمرار وجود قواتها في سورية بالتوصل إلى سلام دائم، جعل التحرك الروسي واحدةً من حالات مطاردة الساحرات.
أن ينتهي العام بتظاهرات في 14 مدينة إيرانية ارتفعت فيها الهتافات ضد الفساد والركود الاقتصادي، ومعها الصيحات ضد «حزب الله» والتوسع الميليشاوي الذي يقوده النظام من صنعاء إلى غزة، يعني أننا أمام حالة استثنائية في الشارع الإيراني لم يتوقع حدوثها أي من الخبراء المعنيين بتاريخ إيران وحاضرها وسيصعب على هؤلاء التكهن بمستقبلها.
ما هو واضح اليوم بامتداد التظاهرات وتقاطعها مع أزمات متداخلة محلياً وإقليمياً ودولياً لإيران، هو أن هذه اللحظة لن تكون عابرة حتى لو تم قمع التظاهرات كما حصل في 2009، ولأن الحالة الشعبية تعكس نقمة أولاً وأخيراً ضد النظام الإيراني، وما من مؤشر إلى أن النظام يمتلك أوراقاً لتغيير هذا الواقع عدا عن القمع وشراء الوقت، بانتظار الموجة المقبلة من التظاهرات.
داخلياً، يقف العامل الاقتصادي حافزاً أساسياً وراء التظاهرات إنما هذا لا يعني أنها غير سياسية أيضاً. فالارتفاع في نسب البطالة إلى ما فوق الـ12 في المئة هذا العام، والفساد المستشري وغلاء أسعار السلع الحياتية مثل المحروقات والبيض، يواكبه نقمة من المتظاهرين على صرف النظام الإيراني مئات ملايين الدولارات سنوياً لتعويم النظام السوري، وتمويل «حزب الله» وغيره من الميليشيات المتجددة المحسوبة على طهران. ولا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في إيران وبسبب نفوذ النظام على قطاعات اقتصادية حيوية منذ 1979 ودور حيوي للحرس الثوري في الاقتصاد كما هو في السياسة والتوسع الإقليمي.
في إيران اليوم، كما في سورية وقبلها تونس ومصر، هناك من يحصر التحرك بأنه اقتصادي بحت وأنه لن يتخطى هذا الحد. هؤلاء أخطأوا في قراءة المشهد العربي من دون أن يعني ذلك أن تظاهرات إيران هي تكرار للربيع العربي. فالنظام الإيراني شهد تظاهرات من هذا النوع قبلاً، ونجح في إخمادها.
ما يختلف اليوم هو أن النقمة متزايدة داخلياً، والصورة الإقليمية والدولية، خصوصاً في واشنطن تغيرت. فطهران تتصدر قائمة الدول المهددة لأمن الخليج. صاروخا الحوثيين باتجاه السعودية في غضون أربعة أسابيع عززا هذا المفهوم. كما جاء توسع إيران إلى هذا الحد في العراق وسورية، والصعود السياسي والعسكري لـ «حزب الله» في بيروت، ليزيد من نسبة القلق حول تهديدها لإسرائيل.
أميركياً، وضعت إدارة دونالد ترامب هدف التصدي لإيران نصب عينيها منذ وصولها إلى الرئاسة، والصقور المقتنعون بجدوى تغيير النظام في إيران تم تعيينهم لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية (مايكل بومبيو) أو في مجلس الأمن القومي (هربرت ماكماستر) أو حتى في الخارجية والأمم المتحدة وحيث تنهال الانتقادات من ريكس تيلرسون ونيكي هايلي على النظام في إيران منذ توليهم المنصب.
وفي مفارقة عن إدارة باراك أوباما التي التزمت الصمت عند بداية التظاهرات في إيران في 2009، سارع ترامب إلى تبني نهج معاكس بإصدار كل من الخارجية والبيت الأبيض بيانات وتغريدات يوم الجمعة تدعم التظاهرات والوصول «سلمياً إلى مرحلة حكم انتقالي» في إيران. في المقابل، أعادت وكالة الـ «سي.آي.أي» ومديرها بومبيو إحياء غرف العمل على جس نبض نشاطات وتغيير النظام في إيران وهو ما تحاشته إدارة أوباما. كل ذلك يسبق قراراً حاسماً لترامب خلال أسبوعين بفرض عقوبات جديدة على طهران توجه ضربة قاضية للاتفاق النووي، إلا في حال نجاح الكونغرس بتبني صيغة أفضل للاتفاق النووي الذي يعارضه ترامب. في تلك الحالتين هناك جهود أميركية لتشديد الضغوط الاقتصادية على طهران.
تظاهرات نهاية 2017 في إيران ووجود إدارة متشددة في هذا الملف في واشنطن يفتح احتمالات عام متقلب إيرانياً، تزيد من حدته التغييرات الكثيرة إقليمياً. فلا استقرار ولا ثبات دائم لأي لاعب في الشرق الأوسط، مهما كان طموحه وتعددت عواصمه. و ”كل السياسات هي داخلية” وفق قول رئيس مجلس النواب الأميركي السابق تيب أونيل، وخسارة الداخل تعني خسارة كل شيء.
فتحت المعارضة السورية الأبواب على مصراعيها لكل التكهنات المتعلقة بقرارها حضور مؤتمر سوتشي من عدمه، إذ هذه المرة لم تتراشق كيانات المعارضة الاتهامات فيما بينها، في مشهدٍ اعتاده الشارع السوري، قبيل كل حديث عن مؤتمر أو اجتماع يلوح في الأفق، حتى عندما لا يكون النظام طرفاً صريحاً فيه، وهو ما حصل، مثلاً، لدى تشكيل منصة موسكو، وفي مؤتمر القاهرة 2 لعام 2015، مروراً بلقاءات موسكو من العام نفسه. وكما هو معلوم، فإن الأوساط النافذة في "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" كانت رفضت الاعتراف بمنصتي القاهرة وموسكو جزءا من المعارضة، كما نظرت بتشكّكٍ إلى ورشات العمل التي أقيمت في عواصم أوروبية، وكان غرضها مناقشة قضايا الدستور والانتخابات، بل إنها أثارت الشبهات بشأن المشاركين بهذه الأنشطة، ودعت إلى محاسبتهم، ويجب أن يحاسبهم "الائتلاف" الذي ظل سنواتٍ يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة السورية.
اختارت المعارضة، في هذه المرة، أن تقدّم إجابات مرنة بشأن مؤتمر سوتشي، يمكن أن تحمل معنى القبول، بقدر ما تحمله من إمكانية الرفض. هكذا رأى فريق مسار أستانة أن الموقف سيأتي بعد التشاور مع الكيانات والمنظمات الثورية والمدنية، وبحسب ما سيوفره المؤتمر من مخرجاتٍ تسهم في دفع مفاوضات جنيف. أما وفد الهيئة العليا للمفاوضات، فإن إجابته اقتصرت على ضرورة العودة إلى رأي مكوناته، مختصراً الطريق، بدل طرح تساؤلاتٍ عن المؤتمر، من شأن إجاباتها أن تساعده في تكوين رأي موحد لكامل الأعضاء بناء على ذلك.
وهذا يعني، في إجابتي وفدي أستانة والهيئة، أن المرجعية في تحديد الموقف من مؤتمر سوتشي تتوقف على مدى تعاون الجهة الداعية إليه، وإمكانية تشاركيتها معهم، وليس من مبدأ ما طرحه الائتلاف والجيش الحر في (2 أكتوبر/ تشرين الثاني 2017) في بيان مشترك، وهما من مكونات الوفد التفاوضي، ويمثلان قرابة نصف عدده، بأن الدعوة إلى سوتشي تمثل التفافا على مفاوضات جنيف، وأنهما لن يشاركا فيه.
هكذا، ثمة أسئلة مهمة مطلوب الإجابة عليها، تسبق موافقة المعارضة على حضور مؤتمر سوتشي، أو عدم ذلك، منها: أولاً، من هي الجهة التي تقرّر أسماء المعارضين المدعوين، وما هي نسبتهم إلى كامل عدد الحضور؟ ثانياً، كيف سيتم تشكيل لجنة صياغة الدستور؟ هل بناء على التمثيل العددي للحضور من المعارضة والنظام؟ وأين يمكن تصنيف الأحزاب المرخّصة لدى النظام، والتي تعمل بتمويل منه وبرعايته، تحت مسمى معارضة الداخل؟ ثالثاً، هل سيتبنّى المؤتمر القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع السوري مرجعيةً، أم سينشئ مرجعيته الخاصة؟ وهل سيكون حضور الأمم المتحدة بهدف أخذ العلم، أم أنها ستكون ميسرة بين الأطراف، وتعيد إنشاء قرار أممي جديد على نحو ما فعلت بالقرار 2254؟
واضح أن الإجابات على كل هذه الأسئلة شبه محسومة لدى الجانب الروسي، الداعي إلى المؤتمر، لكن المعارضة تريد تجنّب الدخول في تفاصيل من شأنها أن تعكّر ما تعتبره إنجازاً لها في جولة جنيف 8، التي لم تحدث أصلاً، حيث يعتبر الوفد المعارض أنه حقق إنجازاً تمثل في مفاجأته العالم بوحدته، وأنه أنجز جولةً أكثر واقعية من سابقاتها، مع أن الجميع يعلم أن هذه الجولة فاشلة، مثل سابقاتها، وأنه لم تحدث فيها أية مفاوضات.
إذاً نحن إزاء لغة تجديدية في أوساط كيانات المعارضة السائدة، تعتمد المرونة والتروّي في اتخاذ القرارات، ليس بسبب ضبابيتها، ولكن لأن هذه القرارات اليوم لم تعد مرتبطةً بقرار الكيانات، قدر ارتباطها بالجهات الدولية والإقليمية التي ترعى هذا المؤتمر، وتتقاسم سلفاً ثمار نتائجه، لجهة مصالحها أولاً، ومن ثم إسقاط هذه النتائج على تقاطعات الكيانات التي تجمعت ضمن وفد الهيئة، أو في محيط عملها، كحال وفد أستانة، مع اختلاف الجهات الراعية لهم. ومن هنا انتقل الخلاف من بين الكيانات بعضها مع بعض، ليصبح بين الحاضنة الشعبية، من جهة، والكيانات السياسية والفصائلية، من جهة أخرى. وبناء على ذلك، انطلقت حملات شعبية ترفض مؤتمر سوتشي، وتضع المطبّعين معه في خانة المهادنين لنظام الأسد، والمتعاونين لإعادة إنتاجه من جديد.
على ذلك، يضعنا المشهد السوري "المعارضاتي" الذي يدور حول الموقف من مؤتمر سوتشي، المزمع في نهاية الشهر المقبل، أمام واقع المعارضة الذي لم يتغير من حيث المضمون، خلال السنوات السبع الماضية، مع فارق أن التراشق بالاتهامات إعلامياً لم يعد بين الكيانات (ائتلاف، منصة موسكو، منصة القاهرة)، بل في مواجهتها، كما ذكرنا، من شريحة واسعة من السوريين في الشتات والداخل، غير المسيطر عليه من النظام، لنسأل، قبل الخوض في الحديث عن القبول أو الرفض، عن حقيقة المشروع الجامع الذي تستند عليه المعارضة في قراراتها، فإذا كانت المرجعية هي بيان الرياض2، فإن هذا البيان بات موضع خلاف، ليس بين النظام الذي يطالب بسحبه، بل بين الأطراف التي يجب أن تدافع عنه، والذي تحوّل إلى مجرد وجهة نظر، برأي مشاركين في الوفد الموحد، ويتضح ذلك من التصريحات المتضاربة حوله، بواقع استمرار أحد قياديي منصة موسكو بتحميل المعارضة سبب تعثر قيام مفاوضات مع النظام، لتمسكها ببند رحيل الأسد.
يستوجب هذا الوضع عقد تفاهمات جديدة بين مكونات الوفد الموحد، على أساس الندّية بالطرح والمرجعية الشعبية، وليس مرجعية التبعية للدول، وبما يتناسب ومصداقية تمثيل المعارضة، وليس التلاعب بهذا التمثيل لإرضاء أجنداتٍ لا تتقاطع مع القرارات الدولية المكتسبة للمعارضة، ومنها بيان جنيف1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254. حيث إن ربط قرار الموافقة على حضور مؤتمر سوتشي من عدمه بقرار الكيانات المشكلة للوفد هو تهرّب من المسؤولية من جهة، ومحاولة لنسف مرجعية الوفد التي يفترض أنها المؤتمر الذي أنتجه من جهة ثانية، وهو تبرير لحضور المؤتمر، من بعض الوفد، تحت عنوان أن كيانه اختار ذلك، ما يعني أن الوفد الموحد سيحضر بعضه، وبصفته، من دون حرج، للتغطية على عدم حضور الآخرين، بسبب الضغط الشعبي على كياناتهم، وليس لأن "سوتشي" يمهد لتسوية غير عادلة مع نظام الأسد، هي أقرب، حسب التصريحات الروسية، بمصالحة "تبويس شوارب ويا دار ما دخلك شر".
خيارات المعارضة محدودة، في ظل ارتباط وجودها مع الدول المساندة للمؤتمر، وأن لاءاتهم الخافتة حتى اليوم كانت تحمل طابع ترويج نَعم مقبلة، حسب مصالح الدول الراعية، ومدى تقدّمها في إنجاز ملفاتها المشتركة التي تضمن لكل منها مصلحته في الصراع، لجهة استمراره، أو الحد منه، أو وقفه عبر حلول جانبية، (أستانة وسوتشي) من شأنها أن تجعل تقسيم الغنائم على أربعة، أفضل من جنيف الذي يقسمها على أربعين وأكثر. أما الولايات المتحدة الأميركية التي باتت تسيطر على نصف المساحة السورية، وتلتزم الصمت حين تريد المزيد لها ولمن معها، مع بعض المحفزات للمعارضة التي تقول لا لتنعم بنِعم النَعم، فما زالت لا تكشف عن أجندتها، ولا عن رؤيتها لمآلات الصراع السوري، ولا يبدو أنها مستعجلة على ذلك.
توالت في الفترة القريبة الماضية هزائم هذا التنظيم الإرهابي وبان في أكثر من موقع انكماشه وخسارته لمناطق كثيرة منها ماهو استراتيجي في سوريا والعراق والذي كان قد فرض سيطرته عليها لسنوات عديدة , ما أدى لخلخة في صفوفه وهروب الكثير من أفراده , وهذا ما تمت ملاحظته بالفعل .
دفعت هذه الإنجازات العسكرية الكبيرة بعض الدول لإعلانها النصر "المُعجّل" على مايسمى تنظيم الدولة , فكثرت الخطابات وتوالت البيانات مع عجزٍ تام من جميع الأطراف "المنتصرة" على تقديم صورة واحدة تدعم هذه الانتصارات , فداعش الذي استطاع أن يصل وينفذ إجرامه في دول عديدة منها القريب من مركز (خلافته) ومنها الذي تعدى حدود البحار والمحيطات , لكنه لم يستطع أن يصمد كثيراً في مناطق سيطرته التي حكمها بالنار والحديد , مايجعل الأمر أمام ريبة كبيرة وتساؤلات عديدة , و وضع العديد من الاحتمالات حول مصير هذا التنظيم الإرهابي الذي عاث فساداً وإجراماً في الأرض .
ولكن المفهوم الإستراتيجي يُحتّم علينا قراءةً في سطور هذا التنظيم الإرهابي
أولها فكري ومنهجي :
لاشك بأن مايسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام قد قدّم نفسه كمنتهجٍ للمنهج السني الخالص دون شوائب أو اضافات كأقرب ما يكون لنهج القاعدة (الشقيق التوأم له) والذي ما لبث أن انفصل عنه وأعلن حربه ضد القاعدة ليصبح تنظيم القاعدة ألدَّ خصومه ,وذهب تنظيم الدولة ليُطبّق فكره وينشر دعوته , فنراه تارةً يُحارب البدع ( ما ظهر منها وما بطن ) وتارةً أخرى يُحارب الصوفية وأخرى يُحارب أصحاب الأضرحة ويفجرها بالقوة ,وتارة يستهدف خطباء المساجد ويمنعهم من اعتلاء المنابر إلا بتصريحٍ وتوجيهٍ منه , واستهداف أهل الذمّة من الأديان الأخرى وتكفير كل من يُخالفهم الرأي ومصير الجميع القتل دون الاستتابة التي أجازها شرع الله تعالى , وتنوعت أساليب القتل لديهم فجاءت بصيغة الإعدام أو بقطع الأعناق أو الإغراق أو الإحراق أحياءً , مستندين على إسقاطات لأحاديث نبوية شريفة يتم تأويلها بحسب الحاجة دون النظر لصحة الحديث أو زمانه وكما يعلم الجميع أن رسالة الإسلام السماوية التي جاء بها نبي الهدى جاءت متواترة بفوارق زمنية انقطع فيها الوحي لعدة سنوات في مكة المكرمة ثم عاد بعدها الوحي الشريف , فنرى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ببداية الدعوة في مكة المكرمة جاءت ناهية لأمر معين وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة جاءت أحاديث تُلغي النهي وتُجيز نفس الأمر , كقوله صلى الله عليه وسلم : ( كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ) , "وهذا على سبيل المثال لا الحصر" فالحديث هنا "مدني" بينما كان حديث النهي "مكي" والحديثان صحيحان ولكن الثاني ألغى الأول والسبب هنا لقرب بداية الدعوة من زمن الجاهلية وخشية افتتان المسلمين بأفعال الجاهلية فجاء النهي , وبعد الهجرة واستتباب الأمن والنهج الإسلامي جاء جواز الأمر بتشريع نبوي , أما "داعش" الآخذ بالنص دون السبب ودقة التأويل , عمل ضمن مؤسسة تشريعية متعددة الجنسيات لما يخدم أهدافه الفكرية والمنهجية ليدفع بها إلى التصدير الخارجي الذي رأينا تأثيره على الكثير من البلدان التي أيدته وأدت إلى تمردات واعتناقات منهجية وفكرية انتهت بالولاء والمبايعة لهذا التنظيم أفراداً كانوا أو جماعات ... وهذا من الوجه الأول .
أما الوجه الثاني فهو عسكري وسياسي :
فمن الناحية العسكرية التي صال بها هذا التنظيم وجال حتى جعل نفسه محطَّ أنظارٍ ودراسةٍ لأجهزة استخباراتٍ عالمية عدة , فداعش الذي اتقن فنَّ معارك الاستنزاف للخصوم المدعومة عسكرياً بشكل مهول , ومعركة الموصل كانت خير دليل على اتقان داعش لهذا النوع من المعارك , ولا أبالغ هنا إذا قلت أن داعش قادرٌ على استعادة الموصل وغيرها من المناطق بزمن قياسي إذا انخفض الدعم الجوي (فقط) للمليشيات الشيعية والكردية لأسباب عديدة أهمها :
- أنّ هذا التنظيم يعتمد في أكثر معاركه مفاهيم "الكتلة العسكرية المرنة" التي تنسحب بسلالة ثم تًهاجم بسرعة البرق ثم تنسحب ثم تعاود الهجوم , ويعتمد التنظيم في هذا على سرعة مقاتليه وسهولة حركتهم مستخدماً آليات رباعية الدفع تضمن له الحركة بشتى أنواع الظروف والطرقات وأسلحة خفيفة ومتوسطة, مبتكراً بذلك مفهوماً عسكرياً جديداً يستطيع من خلاله إرباك صفوف خصومه , مايعني أنه قادر على تغيير مفهوم الهجوم العسكري الكلاسيكي .
- يعتمد هذا التنظيم على الأفخاخ العسكرية أو ما يُعرف بالانسحابات التكتيكية , وهو بذلك يوجه خصومه للمسار الذي يريده بغية الإيقاع بهم مستفيداً من رغبتهم بتحقيق تقدمٍ جغرافي على حساب داعش الذي يقوم بزرع الألغام في المناطق التي ينسحب منها ما يجعلها نقاط استنزافٍ جديدة تستوجب على الطرف المهاجم البطء بالتقدم وتمشيط المنطقة مع تعطيل كبير لقوته الهجومية , ما يجعل تلك القوات عرضةً لهجمات ارتدادية أو إلتفافية يُتقنها داعش جيداً .
أما من الناحية السياسية :
فهذا التنظيم يعرف تماماً كيف يختار خصومه , موظفاً بذلك المتغيرات العسكرية الميدانية , فبعض الانسحابات التي يقوم بها يكون هدفها سياسيٌّ وليس عسكري , إذ أنه يضع خصومه (المتنازعين أصلاً) ,يضعهم وجهاً لوجه على خط الاشتباك , وقد نجح إلى حدٍ كبير في خلق تغيراتٍ وتحالفاتٍ جديدة , فهو الذي وضع القوات الكردية ( الراغبة بإنشاء دولتها ) , وضعها بمواجهة مباشرة مع الميلشيات الشيعية والإيرانية ( المتقدمة أصلاً على حساب داعش ميدانياً والرافضة لفكرة المشروع الكردي ) في كركوك والسليمانية والموصل في العراق , ووضع قوات "قسد" المدعومة أمريكياً بمواجهة مباشرة أيضاً مع قوات النظام الأسدي المدعومة روسياً , موجداً بذلك نقطة تماس عسكري بين روسيا وأمريكا وجميع فصائل الطرفين العاملة على الأرض , وأوجد داعش أيضاً نقطة تماس عسكري أخرى بانسحابه من منطقة الباب السورية لحساب قوات درع الفرات المدعومة تركياً والتي وجدت نفسها أمام قوات النظام الأسدي المُهجّنة روسياً من جهة ومن جهة أخرى أمام قوات الميليشيات الكردية المسيطرة على عين العرب ومنبج وتل رفعت وتحلم بالوصول الى جرابلس السورية , وبهذا يكون تنظيم الدولة قد أعفى نفسه من عناء المواجهة العسكرية آخذاً بذلك قسطاً من الراحة ومزيداً من الوقت لرأب الصدع الذي أصاب جسده التنظيمي .
داعش وإستراتيجية المستقبل :
داعش الذي لم ينتهي كما صوره الكثير "إعلامياً" ,وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الأول , فخطره مازال قائماً وقد يقوم على تغيير سياسته العسكرية الهجومية في المستقبل , مُعتمداً في ذلك على مقاتليه الذين انسحبوا عائدين إلى أوطناهم ومازالوا يُدينون له بالولاء المُطلق كخلاياه النشطة أو النائمة في كثير من البلدان العربية والأوروبية , وقد تُساعده في ذلك الأوضاع الأمنية من ناحية والاقتصادية من ناحية أخرى , وهذا ما قد يُساهم في إعادة بناء صفوف مقاتليه وعودة خطره بسرعة هائلة .
ويبقى الاحتمال الأغرب قائماً إذا ما اعتبرنا أن داعش نأى بنفسه عن صراعات القوى العالمية والإقليمية واضعاً نفسه بمكان "المتفرج" , منتظراً عرضاً مُغرياً من إحدى الأطراف المتصارعة للاستفادة من خدماته , فداعش صاحب الميزات العظيمة , حيث أنَّ مُقاتليه يتبخرون ولا يُقتلون أو يُؤسرون والمليارات التي ينهبها من البنوك أو التي يجنيها من بيع النفط والغاز والآثار لا تظهر أبداً ...!!!