لبنان يحث الخطى نحو نموذج النظام السياسي الأمني الذي مثلته مدرسة بشار الأسد في سوريا، ولعل اللبنانيين باتوا أكثر اقتناعا هذه الأيام، بأن التحالف الذي يقود السلطة اليوم بوصاية من قبل حزب الله، غير معني بإعادة دور لبنان إلى سابق عهده، أي دولة تتسم بعلاقات خارجية متوازنة مع دول العالم، منتمية إلى محيطها العربي من دون تكلف أو تجاوز لموقع لبنان ونظام مصالحه، ودولة منفتحة على العلاقات مع الغرب من دون أن تمس هذه العلاقة بهوية لبنان العربية. والأهم من ذلك كله أن لبنان يفتقد اليوم المساحة الرحبة للتنوع بمعناه السياسي العميق، بحيث أن المعارضة التي ضاقت في النادي السياسي البرلماني باتت عرضة للإقصاء والتخوين، عرضة للملاحقة القضائية كما هو الحال اليوم بعد تحريك الادعاء العام ضد رئيس حزب الكتائب سامي الجميل وهو رسميا الحزب الوحيد المعارض للحكومة في البرلمان.
السير على خطى النظام الأسدي، يتم أيضا عبر تشديد القبضة الأمنية والإعلاء من معادلة الأمن مقابل المزيد من التضييق على الحريات، وهو ما انعكس تضييقا على وسائل الإعلام والصحافة، بحيث فقدت وسائل الإعلام القدرة على لعب دورها التاريخي بأن تشكل منبرا للرأي الآخر. وفي هذا السياق عمدت السلطة الفعلية في لبنان، والمتمثلة بالقبضة الأمنية الممسكة بمفاصل السلطة الأمنية، إلى ملاحقة عدد من الإعلاميين اللبنانيين في رسالة مكشوفة مفادها أن الاعتراض على تحالف السلطة بات مكلفا ويجب أن يأخذ الإعلام علما بذلك. وتأتي عملية الاستفراد بالإعلام اللبناني وتطويعه، في ظل غياب عربي غير مسبوق عن الساحة الإعلامية مما أتاح لتحالف السلطة، المرعيّ إيرانيا، تحويل المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى وسائل إعلامية ملتزمة بخطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها، وهذا ما لم يشهده لبنان في تاريخه.
أبرز الإعلاميين ومنهم مارسيل غانم، وأبرز المعارضين السياسيين ومن بينهم رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، تم تحريك القضاء لملاحقتهم على مواقف أو وجهات نظر اعتبرتها السلطة مخالفة للقانون، فيما إعلاميو السلطة لا يكفون عن الشتم والتهديد العلني من دون أن يتحرك القضاء، بل تجري مكافأتهم والتنويه بكفاءاتهم التي تقتصر على لغة التهديد والضرب بسيف السلطة لكل معارض لها، لكن الأكثر خطورة كان العبث بالسلطة القضائية حيث تمّ إقصاء رئيس أعلى سلطة قضائية إدارية أي مجلس شورى الدولة الذي أقيل رئيسه بسبب ملاحقته لقضية فساد في ملف النفايات، واستكمل ذلك بإجراء إداري قضائي تمّ خلاله إجراء مناقلات وتعيينات قضائية في الكثير من التجاوزات للأعراف والرتب والكثير من السياسة التي جعلت القضاء كما لم يسبق أيضا أداة طيعة بيد السلطة تستخدمه بما تقتضيه مصالح فرقائها.
القبضة البوليسية هي المقدمة الموضوعية لترسيخ مفهوم الدولة البوليسية في لبنان، ذلك أنّ المعادلة التي يجري ترسيخها والمطلوب حمايتها وعدم التعريض بها ولا الاعتراض عليها، هي معادلة طالما انتفضت في وجهها قوى الرابع عشر من آذار، وطالما كان اللبنانيون يرفضون قيامها، هذه المعادلة ترتكز على تسليم فعلي بدور حزب الله الأمني والعسكري والسياسي، وتنازل ضمني من شركائه الشكليين في السلطة عن السيادة اللبنانية لصالح مقتضيات المحور الإيراني ومتطلباته في لبنان لا سيما في السياسة الخارجية وفي إدارة الأجهزة الأمنية، في مقابل شراكة تقتصر على تقاسم الحصص ما دون السياسة الخارجية والأمن والسيادة، بحيث أن صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة وأعضائهما هي أشبه بصلاحيات المجالس المحلية أو البلدية في أي دولة في العالم، صلاحيات غير سيادية وتقتصر على شؤون إدارية واقتصادية لا تخلُّ بموقع لبنان داخل المحور الإيراني.
وإذا كان نموذج الدولة البوليسية في لبنان يحذو حذو نظام الأسد في سوريا على صعيد تقييد الحريات ومصادرة السلطة القضائية وتقييد الإعلام، فإنّ عنصرا آخر أخذه حزب الله من هذه المدرسة والتزم به، هو حماية وضعية الدولة البوليسية من خلال ذريعة العدو الإسرائيلي، ذلك أنّ إسرائيل التي اختبرت علاقاتها مع كل محيطها العربي، وجدت أن النموذج الصالح لتوفير الاستقرار على حدودها باعتبارها دولة غير راغبة بسلام فعلي مع الفلسطينيين ولا العرب عموما، هو النموذج الأسدي أو السوري منذ حكم آل الأسد سوريا، أي نظام يعلن ليل نهار أنه ضدها ويقمع شعبه بحجة الصراع مع إسرائيل، فيما يمارس أفضل الشروط لحماية حدود إسرائيل كما كان حال الجولان السوري المحتل ولا يزال منذ أربعة عقود حتى اليوم.
هذا النموذج هو الجاري تطبيقه في لبنان بإشراف حزب الله وإدارته، أي تصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي ضد إسرائيل، مقابل هدوء واستقرار على حدودها مع لبنان، ومنع أي طرف من القيام بأي عمل عسكري ضدها عبر الأراضي اللبنانية ليس بقوة القوة الدولية المنتشرة في الجنوب بل بقرار ميداني من حزب الله وهـذا ما تعرفه إسرائيل وكل المجتمع الدولي، بل هذه هي الورقة الذهبية التي تتيح لحزب الله أن يتجاوز الكثير من الحدود القانونية في الداخل والخارج، لإدراكه أن أحدا من المجتمع الدولي لا يريد أن يغامر بخسارة دور حزب الله الذي يحفظ الاستقرار على الحدود مع إسرائيل، كما يضمن حماية الجنود الدوليين في الجنوب، ويشكل عنصر ضمان لعدم تدفق أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري من لبنان نحو أوروبا.
النموذج الأسدي الذي يخطو لبنان نحوه خطوات متقدمة، هو النموذج الذي يقوم على مقايضة القوى الكبرى وإسرائيل بتأمين مصالحهما مقابل إطلاق اليد في ما لا يمس مصالحهما، أي احترام مصالح الخارج القوي وانتهاك حقوق الداخل أمنيا وسياسيا واقتصاديا، باعتبار أنّ التحكم بمفاصل السلطة هو الغاية والهدف.
شراسة حزب الله من خلال دوره في محور الممانعة تجاه سوريا وشعبها وتجاه دول عربية، لا تقاس بما هو الحال مع إسرائيل، كما مدرسة الأسد من الأب إلى الابن، فشراسة الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين عموما تشهد عليها حروب شتّى خاضها ضد المخيمات الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا بسيف الأسد في لبنان وسوريا وغيرهما، فيما إسرائيل لم ينلها من الأسد إلا الخطب الرنانة والسلام الدائم على الحدود المشتركة، أما حرب أكتوبر 1973 فقد تحولت إلى ذريعة بيد الأسد الأب والابن استخدمت ضد السوريين وكذلك لإنهاء الثورة الفلسطينية وقمعها.
حزب الله على الطريق نحو تحقيق هذا النموذج في لبنان، ونحن أمام هذه الحقيقة فهل سلّم اللبنانيون واستسلموا؟
جاءني يوما، وكنت حينها عضوا في مجلس الشعب السوري، هاتف من دمشق يبلغني دعوة القصر الجمهوري لحضور حفل افتتاح دار الأوبرا في ساحة الأمويين. قرّرت تلبية الدعوة فرحاً، وحجزت تذكرة طائرة، وكانت مجانية على نفقة المجلس أو وزارة النقل، لا أذكر.. ولكن لسوء الحظ تأخرت الطائرة، وهي واحدة من أربع طائرات لا غير، يملكها الأسطول الجوي السوري، كان ذلك قبل أن يدخل وزير النقل، مفيد عبد الكريم، السجن (مرفهاً) في صفقة الطائرات الفرنسية المعمَّرة (مجدد عمرها)، حظي منها بملايين الليرات آنذاك.. بقيت أنتظر في الكراج، عفواً قصدت المطار الذي ظلَّ يشبه الكراج، على الرغم من فضائح الفساد التي شابت متعهديه لسببين، تأخر الإنجاز وسوء التنفيذ. المهم، وكي لا أستطرد فأطيل، أقول:
فُرِجَت عليَّ بعد تأخير عدة ساعات، لكنني وصلت إلى دمشق سالماً، محاصراً بالوقت، ما اضطرني لأخذ سيارة أجرة من المطار إلى المجلس، لأخذ بطاقة الدعوة (لا أحد يستغرب ذكر سيارة الأجرة، فراتبي عضو مجلس شعب لا يزيد عن راتبي مدرسا في المرتبة الأولى. وعضو مجلس الشعب، في عرف الدولة السورية، موظف درجة أولى. أمَّا لِمَ التكالب على هذه الوظيفة، ودفع الرشاوى للوصول إليها "للبريستيج" والسمسرة) أخذت البطاقة المذهَّبة، وتوجهت إلى ساحة الأمويين. ولا بد من الاعتراف هنا بأن شعور الارتياح لديَّ ارتفع منسوبه إلى نوع من الفرح، فقد لبيت دعوة الحضور لحفلةٍ يحضرها السيد الرئيس، ما يتيح لي "تكحيل عيني برؤيته" عن قرب. ولعلِّي، من جهة ثانية، نزعت بذور الشك من نفوس بعض المتربصين، لو لم أحضر. وقد نسيت معاناتي كلَّها، وأنا أمدُّ يدي بالبطاقة إلى الضابط الذي على الباب، وأعرّف بنفسي، وبشخصيتي الاعتبارية، متجاهلاً تأخري نحو خمس دقائق، أو أكثر قليلاً.. لم أعد أذكر تماماً، فمفاجأة الضابط غير المتوقعة أنستني لحظتها كل شيء، بل أعادتني، هذه المرّة، إلى كراج العباسيين (البولمان) لأعود إلى حلب. كان الضابط برتبة عميد، وللأمانة أقول: رحب بي وابتسم، وأظنه، على الرغم من ابتسامته، كان يعد جواباً مناسباً، وهو يقلِّب نظره بين بطاقة الدعوة التي بين يديه عينيَّ اللتين تنظران إلى عمق ردهة دار الأوبرا الخارجية المكتظة بالحرس، بحثاً عن الطريق الذي سأسلكه، ثمَّ قال:
أنا آسف، يا أستاذ، فقد تأخرت، والتعليمات، كما تعلم، لا تسمح.. ثم استدرك بسؤال فيه كثير من الحذلقة والمواربة لغاية الإحراج: هل ترضى، يا أستاذ، أن تدخل بعد السيد الرئيس؟ وكدت أقول له، بما أملكه من صراحة: نعم وما الفارق، أصلاً، بيني وبينه، هو سلطة تنفيذية، وأنا سلطة تشريعية، هذا ما يقوله دستور البلاد، ثمَّ إنني قادم من حلب.. لكنني لم أفعل، واكتفيت بجواب إيجابي، إذ إنني أعي مستوى التعليمات الذي تلقاها هذا الضابط، بل أعي تماماً نظرة مثل هذا الضابط إلى مجلس الشعب بكامله، فانسحبت لاعناً في سري كل شيء.
قد تغفو الأشياء التي تحفر في روح الإنسان وذاكرته، لكنها أبداً لا تُنسى، فما إن يأتي شبيه لها أو نقيضها حتى تستيقظ بكامل قوتها. وهذا ما حصل معي، فقبل أيام، وأنا أمام شاشة التلفاز، أشاهد خبر زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قاعدة روسيا العسكرية في اللاذقية، نهضت من ذهني تلك الذكرى، لمعت مثل ومضة برق تنذر برعد مخيف. وعلى نحو لا إرادي، رحت أردد كلمة يا حيف.. والصور تترى على الشاشة أمامي. لم ترتسم "يا حيف" هكذا على لساني فحسب، بل أحسست بها تخرج من عمق روحي، وخلاصة وجداني، وأنا أرى إلى الرئيس السوري بائساً يسير خلف الرئيس الروسي تاركاً مسافة عدة أمتار، على الرغم من أنه على أرض بلاد يرأس دولتها. وليس كذلك فحسب، بل رأيت أيضاً الضابط الروسي يمد يده إلى صدره: "أن توقف.."، وقد حاول اللحاق بمن يفترض أن يكون ضيفَه، أعني الرئيس الروسي الذي مضى لتفقد ضباط جيشه في القاعدة إياها. لن أدخل في تفاصيل هذا الأمر "برتوكولياً،" فهو واضح تماماً، وليس يهم أمره في قليل أو كثير، ولا محاولة بعض الشبيحة تبريره، بل إن أكثر ما يهم ويحزُّ في نفسي المشهد الذي بدا فيه الرئيس السوري يتجرّع كأس المذلة صاغراً، فالمشهد يشير، بوضوح، إلى أنه قد استدعي إلى قاعدة حميميم التي هي قطعة من البلد الذي يحكمه، وأبوه من قبله منذ سبع وأربعين سنة، استدعي ليبلَّغ بما لدى الروس من أفكار بخصوص عملية السلام عموماً، ومؤتمر سوتشي خصوصاً، بحسب وكالات الأنباء. ولم يسمح لأيٍّ من مرافقيه الدخول معه، إذ ظلَّ جميعهم خارج القاعدة.
وبالتداعي، أخذتني هذه الحركة النشاز، ومعها كلمة "يا حيف" التي وجدتُني أردّدها، إلى أغنيّة يا حيف التي أطلقها الفنان السوري ابن جبل العرب، سميح شقير، مع بداية الثورة السورية التي جاءت رداً على استخدام الرصاص القاتل غير المتوقع من أيِّ نظام، مهما كانت سطوته، ضد شعبه بهذه القسوة.. فكانت الأغنية بما تحتويه من تراثٍ محمَّلٍ بالقيم البدوية الأصيلة، تراثٍ له أثره في الوجدان الشعبي السوري. "يا حيف، أخ، ويا حيف، زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟ كيف؟ كيف؟ وانت ابن بلادي تقتل بولادي. وظهرك للعادي وعليَّ هاجم بالسيف. يا حيف يا حيف..".
وبعد، لعلّي أتيت بالصورتين المتشابهتين المتناقضتين، للإشارة إلى أنَّ في الحياة مفاعيل آلية قد تكون غير مرئية لكنها تفعل فعلها. وفي تراثنا وآدابنا كثير مما يؤكد هذا، فمن يسلط نار الأجنبي على شعبه زيادة في طغيانه، سيذيقه ذلك الأجنبي من الكأس نفسها، إذ هو ظالم مثله، بل أشد ظلماً إذ لم يأت لـ "زرقة عيني" الداعي. ورحم الله المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، حين هدَّده يوسف بن تاشفين المسلم، أن يرعوي إلى سلوك قويم. أشار عليه بعضهم أن يستعين بالأجنبي، فقال قولة الحق الشهيرة: لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو.
ويبقى السؤال: لم هذا الإذلال ممن مكّنهم بما كانوا يحلمون وأكثر؟ أتراه يساوم من خلفهم مع جهة ما، أتراهم فعلوا كسباً لودِّ الشعب السوري، بعد أن أذاقوه الويل؟ وأسئلة أخرى كثيرة، أجوبتها في رحم الأيام المقبلة.
سوف يأتي يوم قريب أو بعيد، تنتهي فيه الحرب في سورية وعليها، وتعود الجحافل الباقية من «داعش» وأمثالها من حيث أتت، لكن سوف يبقى في سورية نظامها العسكري والسياسي، والإداري، وسوف تبقى الجيوش الإيرانية وقياداتها وأنظمتها اللوجستية وأجهزتها الإعلامية وبعثاتها الدينية. أما الباقي الأكبر والدائم فهو الوصي على سورية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومعه قاعدتان لأسلحة البحر، والجو، والبر، وجيش من نخب القيادات والعمليات والاستخبارات.
يمكن القول عن فلاديمير بوتين إنه ملأ الفراغ الذي تركه القادة السوفيات التاريخيون في قصر الكرملين، وإذ انتقلت موسكو من عاصمة الاتحاد السوفياتي إلى عاصمة جمهورية روسيا الاتحادية فقد استقبلت في الكرملين ثلاثة رؤساء قبل بوتين، هم: ميخائيل غورباتشوف، وبوريس يلتسن، وديمتري ميدفيديف.
هؤلاء القادة الثلاثة تضاءلت قاماتهم أمام قامات زعماء الكرملين التاريخيين، وكان آخرهم ليونيد بريجنيف... وإذ حاول الرئيس الجديد «الطارئ» غورباتشوف أن يلصق علامات الحرية والديموقراطية والانفتاح على واجهة الكرملين تصدى له بوريس يلتسن الطالع من عصبة قومية روسية ماركنتيلية مكبوتة، وقد جمع حوله أطيافاً من الروس الفوضويين الذين وجدوا فيه زعيماً صلباً، وهو كان قد تصدى لقافلة عسكرية متجهة إلى الكرملين، فقفز على مقدمة مصفحة وراح يصرخ بالجماهير المحتشدة، داعياً إلى ثورة على الرئيس غوباتشوف الذي لم يكن قد أكمل سنته الثانية، وقد نجح يلتسن واحتل الكرملين. لكنه ما إن تسلّم السلطة في العاشر من تموز (يوليو) 1991، حتى شرّع أبواب الدولة والمؤسسات العامة، والجيش، أمام طبقة جديدة من اليمين الناهض من تحت أعباء القمع، والكبت. ولم تمض سنتان حتى بدأ أصحاب البلايين الروس يظهرون في الولايات المتحدة وسائر دول الغرب، وراحوا ينافسون الأثرياء المشاهير في المضاربات على امتلاك العقارات والمؤسسات، والأسهم في البورصات العالمية.
لكن يلتسن هو الذي اكتشف فلاديمير بوتين، رجل جهاز المخابرات في الزمن الشيوعي الغابر، وقد وجد فيه الذكاء، والحزم، وقلّة الكلام، والشجاعة في اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية بمقدار كبير من الثقة بالنفس. وعام 1999 اختاره يلتسن رئيساً لحكومة روسيا الاتحادية، ومنها إلى رئاسة روسيا الاتحادية عام 2014.
هذه اللمحة الموجزة عن شخصية بوتين ذي الوجه الثابت، والنظرة الخارقة المعبّرة عن إدراك ما يسمع وما يرى وما يفهم، من دون أي إشارة أو تلميح لما يضمر، هي التي تحكم الرئيس الذي يتحكم في هذه المرحلة بمسار ومصير سورية، الكيان، والشعب، والدولة، والنظام.
ومن مصادفات الأحداث المتواصلة أن يتولى فلاديمير بوتين رئاسة روسيا في دورة ثانية بدأت في 7 أيار(مايو) 2012 مع بداية الثورة السورية على النظام في آذار (مارس) 2012، وهي المرحلة السورية المتفجرة التي واكبها بوتين بكل ما تملك روسيا من قرارات ونفوذ على الصعيد الإقليمي، وعلى الصعيد الدولي، فضلاً عما تملك من قوى حربية ومعدات وأسلحة متطورة وأساطيل بحرية وجوية، ومن جيوش، وقادة وخبراء، ومخابرات.
وها هي المصادفات الزمنية، والأحداث، والأحكام السورية– الروسية تمضي في مسارها، فيجد فلاديمير بوتين نفسه أمام دورة رئاسية رابعة في آذار المقبل، فيما سورية، الكيان، والدولة، والجيش، والشعب، تترنح على النار، والدمار، والدم، والفراغ، والنزوح، إلى جميع أصقاع الأرض، فيما يستمر التنقل من مؤتمر إلى مؤتمر، ومن منصة، إلى منصة، ومن مدينة إلى مدينة، وقد نزلت في التاريخ السياسي مدن جنيف، والرياض، وسوتشي، وآستانة ملتقى وفود النظام السوري مع «وفود» الشعب السوري على مدى ثلاث سنوات مضت في مناكفات، لا مفاوضات، من جانب الوفد الرسمي، والموعد الآتي قريب، ومكانه في «سوتشي» الروسية.
في مؤتمره الصحافي السنوي الذي انعقد في 14 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، أعلن بوتين أنه سيخوض معركته الرئاسية الرابعة بصفته مرشحاً مستقلاً للمرة الأولى، ولم يوضح مبادئ «استقلاليته» وبرنامجه الرامي إلى تحديث روسيا. وهو إذ أبلغ الشعب الروسي ما يهمه من أمر الحكم والرئاسة كشف له عن أن معدل الدخل القومي الإجمالي ارتفع خلال دوراته الرئاسية الثلاث بنسبة 70 في المئة، كما تطورت البنى التحتية الصناعية بنسبة متساوية مع زيادة الدخل الفردي بنحو 3.5 في المئة.
ليس من عادة الروس، ولا من ثقافتهم السياسية في العهود السابقة، أن يحاسبوا قياداتهم على ما ترتكب من أخطاء، وعلى ما تسبّب من أضرار معنوية ووطنية تلحق بشعوب دول أخرى يختار رؤساؤها الخضوع لإمرة موسكو، كما يحصل في سورية منذ خمس سنوات، على الأقل، ولو كان للشعب الروسي ذلك الحق بالمحاسبة، أو الاعتراض على الأقل، لكانت التظاهرات عمّت روسيا، وعلى الأخص مدينة سانت بطرسبورغ (ليننغراد) مسقط روسيا بوتين، للاحتجاج على ما لحق بالشعب السوري من كوارث جعلته مبعثراً في أقطار الدنيا.
قد يقول الدفاع عن الرئيس بوتين أنه حمى سورية من السقوط، دولة، وشعباً، تحت سطوة «داعش» وفروعه من فرق ومنظمات إرهابية. لكن السوري الحر يرد بمنطق أصدق وأقوى، خلاصته وفحواه: لو أن الرئيس بوتين تخلّى عن النظام السوري، بل لو أنه أمره بالانصياع لإرادة شعبه، والتنحي عن الرئاسة، لكان حفظ سلامة سورية، كياناً وشعباً، ومقومات بلاد هي عبر الأزمنة والتاريخ، مهد حضارة، ومدنية، وعروبة، وموئل جهاد، وشهامة، وفداء... لو اتخذ الرئيس بوتين ذلك القرار لكان ربح العالم العربي بأسره، ومعه احترام وتقدير العالم الأوسع. لكنه اختار أن يربح الأسد، ويخسر العالم العربي، ومعه المجتمعات والهيئات المدنية والثقافية التي تراقب وتتابع مبادرات الدول على مختلف الأصعدة والمستويات.
في الأرشيف الإعلامي والديبلوماسي صورة مكبرة بالألوان يظهر فيها مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي رافعاً يده عالياً معطلاً قراراً بإدانة النظام السوري لاستعماله أسلحة كيماوية أدّت إلى موت عشرات الأولاد السوريين بين أكوام جثث الضحايا في غارة جوية على بلدة في «الغوطة الشرقية» المحاذية للعاصمة دمشق، وكانت تلك الغارة واحدة من عشرات الجرائم التي ارتكبها النظام، ولا يزال يحتفظ بكميات من تلك المواد المحرّمة دولياً.
ومنذ بداية الثورة هناك سؤال يتردد في الأوساط السورية، وسواها في المحيط العربي المعني بنتائج تلك الثورة... السؤال هو: من يكون القائد المنقذ المؤهل لرفع سورية من محنتها والمضي بها نحو مستقبل يعوّض، بالتدرّج، ما فقدت من شعبها، ومن تراثها، ومن قيمها، ومن مخزون قواها الوطنية والثقافية والجهادية عبر المحنة التي طالت؟
وسؤال آخر: من يكون القائد الموثوق به الذي يتسنى له أن يمتلك ثقة الجماهير السورية، الباقية، والمبعثرة، فيرفع بلاد العز والأمجاد من الهاوية، ويعيد الملايين إلى المدن والأرياف والربوع التي افتقدت ظلال رجالها ونداءات أبطالها لاستعادة سورية؟
أسئلة تدور في الخواطر المنكسرة، ولعل جواباً افتراضياً عنها يمتلكه الرئيس فلاديمير بوتين ذاته، لا سواه.
الجواب: ما دام الرئيس الروسي يملك قرار خلاص سورية، وهذا ليس افتراضاً، فهل له أن «يكتشف» بين القيادات السورية الشعبية الوطنية «رجلاً» إذا لفظ اسمه سمع ثناء واحتراماً؟
عدد رجال سورية من ذلك الرعيل ما زال كبيراً، وقد صار الرئيس بوتين الخبير الأول في شؤون سورية، ولديه جهاز سياسي، قيادي، عسكري، إستراتيجي قادر على أن «يكتشف» المرشح المؤهل لأن يعيد لسورية شعبها المغيّب، وأن يعيد إليها دورها وأمجادها الوطنية والقومية، وقواها وأرصدتها السياسية والمعنوية، ومؤهلاتها وكوادرها العلمية، وطاقاتها البشرية متنوعة المهن والاختصاصات والإمكانات، ومعظمها صار في أقطار الشتات.
ليس من باب الاستسلام القول أن سورية تحتاج إلى منقذ، وليس من دواعي الضعف القول أن مصير سورية بات أمانة في عنق فلاديمير بوتين. فهذه هي الحقيقة، وهي مدعاة شرف للرئيس بوتين أن يفتح أمام سورية باباً تطل منه على العالم بهالة من الأمن والسلام، فتستعيد دورها ومكانتها بين الدول والأمم. وحيث تكون الأمانة بوزن دولة، وكيان، وشعب، يكون لحاملها الشرف الكبير.
أما السؤال، أو التساؤل، عن «الديموقراطية» و «الوطنية» و «حرية» الرأي والقرار في الانتخاب على المستوى الرئاسي، ومادون، فهو من حواضر الخواطر.
يبقى أن هناك باباً لمساعدة الشعب السوري في التعبير عن حقيقة رأيه وقراره، لو بالإمكان تنفيذه، وهو أن يعطى السوريون في أقطار شتاتهم حق الاقتراع لرئيس جديد في أماكن وجودهم برعاية وإشراف منظمة الأمم المتحدة، كما لا بدّ من رعاية المنظمة الدولية لعمليات الاقتراع في سورية... هذا، إذا أجريت انتخابات!
الحديث عن السيادة السورية لم يعد أكثر من تصريحات غير ملتصقة بالواقع من أركان النظام في دمشق تتضارب في مضمونها وتوقيتها مع وفود الميليشيات الموالية لإيران، مقاتلين أجانب مع «داعش» والنصرة وأحرار الشام وغيرهم، قوات روسية وأخرى صينية وغيرها أميركية وتركية تسرح على الأرض السورية وتمرح.
وزارة الدفاع الأميركية أقرت لأول مرة بداية هذا الشهر بوجود 2000 جندي أميركي في سورية أي أربعة أضعاف العدد المصرح به إعلامياً طوال العامين الفائتين (503). هذا الأسبوع أيضاً، أكد المبعوث الأميركي إلى الحرب ضد «داعش» بريت ماغورك أن مرحلة ما بعد «داعش» في سورية لن تخل بالترتيبات الأميركية الحالية في الأراضي المحررة من «داعش»، والتي ستبقى في مكانها «إلا في حال الوصول إلى تسوية سياسية في المدى الطويل للحرب الأهلية (في سورية) تستند إلى آلية جنيف، وأيضاً إلى التزام لإزاحة جميع القوات الأجنبية من الأراضي الحساسة في سورية».
ماغورك ربط إبقاء الترتيبات الحالية أميركياً أيضاً بوجود ميليشيات إيران في سورية، «والتي يجب أن لا تكون هناك»، ونوه بنوع من التوافق النظري مع روسيا حول ذلك. أما عن نقاط الوجود الأميركي، كان لافتاً أن المبعوث ذكر منطقة التنف الاستراتيجية بتقاطعها شرق سورية وجنوبها بين العراق والأردن، إذ قال المبعوث: «نحن موجودون في التنف وسنبقى هناك لضمان عدم عودة داعش ونشرف على الوضع الإنساني»، في رسالة ليست حقيقة حول «داعش» والوضع الإنساني، بل هي موجهة إلى النظام وإيران وبعد اشتباكات عسكرية معهما في تلك المنطقة بالذات.
من يعرف ماغورك، المسؤول الوحيد الذي شغل وعاصر مناصب شديدة الحساسية من إدارة جورج بوش الجمهورية إلى باراك أوباما الديموقراطية إلى دونالد ترامب الجمهورية، يعرف نفوذه وتمكنه من الملفين السوري والعراقي. وكلامه عن خطوط الوجود الأميركي وأفقه يجب أن يؤخذ على محمل كبير من الجدية، كما كلامه عن أي تسوية سياسية بعيدة المدى، وأن لا أموال لإعادة الإعمار للنظام قبل حدوثها.
سياسياً، تصريحات ماغورك تعني أمرين. أولاً أميركا ستحمي مصالحها ووجودها الاستراتيجي في سورية، وستدافع عن «قوات سورية الديموقراطية» وشركائها على الأرض. هذه الرسالة موجهة إلى إيران والنظام قبل أن تكون موجهة إلى موسكو. أما ثانياً فالرسالة إلى روسيا هي لكسب تعاونها في رص هذه الخطوط، بالالتزام بتفاهم فك الاشتباك، وإمكان العمل لاحقاً في شكل مشترك لإضعاف إيران في سورية. هذا الهدف يطمح إليه الأميركيون منذ وقت، وهناك مساعٍ منذ أيام أوباما للفصل بين روسيا وإيران إنما لم تترجم عملياً على الأرض.
عسكرياً، يقول مسؤول أميركي لـ ”الحياة” أن واشنطن تقوم مع شركائها على الأرض بكثير من التحركات على الحدود السورية - العراقية، لقطع جسر إيران البري من طهران إلى بيروت ويعتقد المسؤول أن الإدارة حققت نجاحات في ذلك. كلامه يعبر عن مبالغة وتفاؤل من واشنطن كون الحضور الإيراني في شكل مباشر أو غير مباشر في تزايد في كل من العراق وسورية وليس، واضحاً أن إدارة ترامب لديها استراتيجية فاعلة للتصدي له.
هناك من يتوقع اكتمال الاستراتيجية الأميركية في سورية الشهر المقبل، وأنها ستستند إلى معطيات جديدة على الأرض، بينها بقاء الأسد وعدم توقع حل سياسي قريباً، وإغواء روسيا للابتعاد من إيران والحفاظ على المكاسب الاستراتيجية. ترامب لا يأبه كثيراً بأهمية الملف السوري، وهو يأخذ بتوصيات الجيش الأميركي وماغورك، وعليه يمكن توقع استمرار السياسة والمهادنة الأميركية الحالية في سورية العام المقبل، وتثبيت واشنطن قدمها في نقاط استراتيجية بدل الانسحاب والخروج من المدن والمناطق التي سيطر عليها «داعش».
بذريعة محاربة الإرهاب، تستمر الدول الكبرى في إرسال قوات منها لدعم فصائل معينة على حساب أخرى في الحرب السورية، سواءً في صف النظام أو المعارضة. وقبل أيام، أرسلت وزارة الدفاع الصينية إلى ميناء طرطوس قوات خاصة اسمها "نمور الليل" من الجيش الصيني، لمواجهة الحزب الإسلامي التركستاني، وحركة تركستان الشرقية الإسلامية التي يدّعي إعلام الأسد وجودها في ريف دمشق، علماً أن عناصر الحركة والحزب أولئك تتركز معسكراتهم في ريف إدلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي، ولم يتم تسجيل وجود أي مقاتل من هذا الفصيل في المناطق المحرّرة في ريف دمشق.
وتعتبر الصين المقاتلين التركستان من أبرز خصومها في تركستان الشرقية. وقد سهلت لهم، عند بداية الثورة السورية، وإلى جانب القوى الدولية المتصارعة في سورية، معظم الطرقات والسبل للمشاركة في "نصرة الشعب السوري" على الطريقة الجهادية القاعدية، حسب زعمها.
كذلك الأمر بالنسبة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي كشفت عن وجود ألفي جندي أميركي شمال سورية خلف أدواتها من مليشيات قوات سورية الديمقراطية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أخيرا. وعلى الرغم من نهاية المهمة، أكد "البنتاغون" بقاء قواته إلى أجل غير مسمّى! وجنوباً أيضاً ثمة عمليات عسكرية أميركية عبر غرف الاستخبارات على الحدود الأردنية لمحاربة "داعش"، في أرياف درعا من جهة، عبر بعض فصائل الجيش الحر التي أوقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، برنامج دعمها منذ أسابيع، على الأرجح حتى لا تقاتل النظام، ومن جهة أخرى لضمان أمن إسرائيل بالتنسيق مع روسيا.
أما إيران، حليفة الأسد، فإنها ترسل مليشياتها وفصائلها الطائفية إلى "الأماكن المقدّسة" في سورية، حسب زعمها، وإلى المدن التي تحوز ثروات نفطية. وكانت لها مشاركة فاعلة في معارك دير الزور، كما كان لها حضورها في معارك تدمر وحلب قبل قوات الأسد، بحثاً عن الآثار، واستيلائها على الأراضي الزراعية الخصبة في أرياف دمشق، والمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، عبر مليشيات حزب الله اللبنانية، مدّعية مساندة "محور المقاومة" ومواجهة مشروع "الخلافة الإسلامية". ويمكن للمتابع تلمّس خصومة غير معلنة مع حليفة الأسد من جهة أخرى، روسيا، التي ترتّب أوراق الجنوب السوري، حول درعا وأرياف السويداء وبلداتها، وذلك بمنع ميليشيات إيران، على كثرتها، من الوصول إلى هناك، والبدء بزراعة وحدات عسكرية روسية بذريعة "خفض التوتر"، من أجل الهيمنة على الطيف الدرزي، واستخدامه في قتال مليشيات النظام بوسائل مختلفة، لعل أبرزها إثارة أحداث حضر، أحد الخزانات الدرزية المُستثمرة من قوات الأسد "الدفاع الوطني"، وذلك بقصف مواقع فصائل جبهة فتح الشام جنوب سورية، لترد تلك الفصائل باستهداف المناطق الدرزية على اختلاف ولائها. وبالتالي، تحقيق غاية روسيا بعدم وصول قوات النظام إلى تخوم "إسرائيل"، من دون وجود وسيط دولي متفق عليه. والمقصود هنا "التنسيق الروسي الأميركي" في اتفاقية "خفض التوتر".
أمّا تركيا، فقد ضمنت مناطق "درع الفرات" باعتبارها نقاط تقسيم لمواجهة "المشروع الكردي" شمال سورية. ومن جهة أخرى، للهيمنة على قوات المعارضة السورية، سواء "الجيش الحر" أو "هيئة تحرير الشام". ولعل الأخيرة أبدت وضوحاً في التفاهم مع القوات التركية في أثناء تنفيذ توزّع نقاط المراقبة العسكرية التي دخلت، وانتشرت تحت حماية عناصر من "تحرير الشام". كما تستخدم تركيا حلفاءها من المعارضة في المحافل الدولية للتفاوض مع روسيا وإيران على المحاصصة، وتوزيع توازن القوة الدولية. ويحدث ذلك كله فوق جثث السوريين، وبفضل تعدّد الكيانات الهائل بين مكونات الصراع الذي لم يعد للسوريين فيه سوى الدمار والتقسيم الطائفي والاحتلال البطيء وإنشاء القواعد العسكرية "الضامنة"، كما فعلت روسيا في الساحل السوري، والولايات المتحدة في مطار الطبقة العسكرية في الرقة ورعاية المخابرات التركية المجالس المحلية والشرطة في مناطق "درع الفرات".
وعبر استعراض سريع لحركة المليشيات على الأرض السورية، وتقسيم الولاءات، وتعدّد الكيانات الطائفية والعقائدية من جهة، والدولية "المحتلة" من جهة أخرى، نستنتج أن أغلبية ما يحدث في الواقع هو توزيع ثروات، برعاية "النظام والمعارضة"، إلى جانب صراع المرجعية الدينية المفجعة التي راحت تلوث معالم المدن بالأعلام الطائفية، وأعلام الدول "الحليفة – المحتلة"، وذلك كله لتعزيز حضور الكيانات وتعدّدها، واستخراج الحجج الدولية المناسبة للدخول في تقسيم الكعكة السورية الطافحة بالدماء والتهجير، تاركين التخلف الاجتماعي يتسع، وأحلام إعادة الإعمار تتساقط، لاستثمار الذاكرة السورية وجرفها أكثر نحو الاستقرار بأي ثمن!
ها هم المتصارعون اليوم يساهمون في تأسيس التقسيم، وتبادل تحيات "الإهانة" على حساب غياب معظم السوريين في المنافي، وعذابات البقية في الداخل بين قرارات دولية خبيثة وتفاهمات ضمنية لا تهتم لثورةٍ تديّنت وتسلحت وضلّت الطريق، بعد شهورها الأولى، لأنها لم تكن تعرف ماذا تعني السياسة في حكم الإجرام الأسدي.
وبالتوازي مع مسرحيات التفاوض، والاستقالات التي تعصف في صفوف "المعارضات" السورية، ربما لم ينتبه هؤلاء على ما سوف يفاوضون عليه، والجزء الأكبر من البلاد بات تحت سيطرة حلفاء النظام، والجزء الذي يليه بيد الولايات المتحدة، وما تبقى هو بين جبهة النصرة و"فصائل المعارضة" يتصارعون عليه بين حين وآخر، وبطاقة تنظيم الدولة الإسلامية هي كلمة السر التي تلطخ كيانات الدول المتدافعة في سورية على "محاربة الإرهاب"، واستقطاع قواعد عسكرية محتلة، بتفويضٍ سوري توقع عليه المعارضة حيناً، ويباركه النظام أحياناً أخرى، وكلٌّ على طرف شرعيته يرى قضيته في المقدمة، وتبقى الثورة تلهث، بحثاً عن هوية موحدة فوق أرض واحدة.
كثر الجدل حول إسقاط الطائرة الحربية لام 39 بريف حماة الشرقي اليوم، بعد أن تبنت أكثر من أربعة فصائل إسقاطها بشكل متتابع، وسط تبادل الاتهامات بين الفصائل عبر المعرفات غير الرسمية، ومن خلال مواقع التواصل وغرف التلغرام.
كان جيش إدلب الحر أول من تبنى إسقاط الطائرة قال إنها سقطت بعد استهدافها بالمضادات الأرضية من قبل فوج الدفاع الجوي، تلا ذلك تبني حركة أحرار الشام رسمياً إسقاط الطائرة خلال استهدافها بالمضادات الأرضية، جاء الرد سريعاً من هيئة تحرير الشام بأن سرايا الدفاع الجوي في الهيئة استطاعت إسقاط طائرة حربية نوع (L39) في ريف حماة الشمالي، وطالب مسؤول عسكري عبر وكالة "إباء" الصفحات والقنوات الإخبارية تحري الدّقة والمصداقية في النقل.
ومع تصاعد الجدل فيمن أسقط الطائرة نشرت حسابات غير رسمية مقطع فيديو بدون أي لوغو أو شعار لأي فصيل يقول إن حركة أحرار الشام أسقطت الطائرة باستخدام صاروخ كوبرا معدل، ولم ينشر عبر أي حساب رسمي للحركة، ثم نشرت وكالة "إباء" الفيديو ذاته عبر موقعها الرسمي بشعارها وقالت إن سرايا الدفاع الجوي في هيئة تحرير الشام هي من أسقطتها بصاروخ مضاد للطائرات.
هذا الجدل الحاصل بين فصائل الثورة فيمن أسقط الـ "لام 39" يكشف عن عمق الشقاق والبعد في عدم التنسيق بينها، والذي يرسم تساؤلات كبيرة عن مدى جاهزية جميع هذه الفصائل للتنسيق في غرفة مشتركة في مواجهة الحملة العسكرية التي تحضرها قوات الأسد وإيران وروسيا للمنطقة، ومدى قدرتها على المواجهة والوقوف سداً منيعاً دون النظر للتبني ومن يسبق الآخر في إثبات وجوه إعلامياً والتغني أمام الداعم أو الحاضنة الشعبية بأنه من أسقطها.
يهمنا اليوم من يثبت نفسه ويبذل الغالي والنفيس بصدق في سبيل الزود عن المدنيين والمناطق المحررة ولو بدون أن يظهر فليس همنا أن نعرف أسقط اللام 39 بقدر أن نعرف أن هناك جنوداً لا يهابون الموت مستعدون للدفاع عن المناطق المحررة صفاً واحداً دون النظر للفصائلية التي فرقت صفوفنا والتحزبات التي دمرتنا والتبني الذي فرق كلمتنا ... سقطت لام 39 ونأمل أن تسقط ورائها الحملة العسكرية على إدلب وحماة وترفع الفصائل جميعاً راية النصر على مشروع تقسم المنطقة وسلخ المنطقة الشرقية عنها لصالح إيران وسوريا وحصار ما تبقى من إدلب وحماة والويل لمن يخذل عذابات المدنيين ودماء الشهداء.
تشتد شراسة الحملة العسكرية لقوات الأسد وميليشيات إيران على بلدات الغوطة الغربية في منطقة بيت جن، وتشتد حدة القصف التي تطال عدد من البلدات المحاصرة في بقعة جغرافية تضيق بأهلها وثوارها يوماً بعد يوم، لم تنفع كل حملات النفير ودعوات الفزعة لتحرك فصائل الجنوب وتقدم الإسناد اللازم لفك الحصار عن هذه المنطقة وتخفيف الضغط عنها.
مراحل متشابهة مرت بها داريا أسطورة الثورة جنوب العاصمة دمشق باتت تواجهها كما هي بذات السياسيات والخذلان، بدأت بالحصار والتضييق وحشد الجيوش والقصف المركز من الطيران المروحي والصواريخ وشتى أنواع الأسلحة وتسليط الميليشيات والفرقة الرابعة وقواتها، قاوم فيها ثوار داريا لأشهر بل لأعوام وتحدوا فيها كل آلة القصف والموت التي سلطت ضدهم، ولكن طول آمد المعركة وخذلان من انتظروا لنصرتهم وتخفيف الضغط لعيهم قد طال فاضطروا للحفاظ على ماتبقى من رجال ومدنيين والخروج من مدينتهم بعد صمود أسطوري.
خذلان داريا يتكرر اليوم في بيت جن، نداءات ونداءات يومية ودعوات للنفير والفزعة ولا مجيب، لم تتحرك أي من فصائل الجنوب لتقديم المساعدة وتخفيف الضغط على ثوار بيت جن وماحولها، في الوقت الذي يسطر فيه الثوار أروع البطولات ضد قوات الفرقة الرابعة وميليشيات فوج الحرمون والعديد من الميليشيات الإيرانية.
اليوم باتت بيت جن أمام محطة تاريخية مهمة في الثبات وتحمل المحرقة التي يواجهونها وسط صمت الجميع عن معاناتهم ومايتعرضون له من حصار وتضييق، أو القبول بالتسويات التي لات تفتأ قوات الأسد في عرضها للتسليم والخروج من المنطقة لتفريغ كامل الجبهة الغربية لدمشق بعد النيل من القلمون الغربي وتسليمه لإيران وحزب الله، والتضييق بالمصالحات على الكسوة وماحولها وباتت بيت جن المخرز الذي يقلقهم والذي تريد كسره.
فصائل الجنوب اليوم أمام اختبار أخير لتثبت فيها وقوفها إلى جانب المناطق الثائرة وفيهن الأشراف والثوار الأشاوس الذين قدموا التضحيات على ثرى أرض الجنوب، فهي الوحيدة القادرة على عدم تكرار سيناريوا داريا والوصول لمنطقة الغوطة الغربية لما وصلت إليه داريا، لأن الدور لامحال قادم على الجنوب والغوطة الشرقية وكل من يقف متفرجاً دون حراك.
مضت أسابيع على إعلان قوى الصراع الرئيسية في سوريا انتصارها على «داعش»، وانتظمت في قائمة الإعلانات كل من روسيا وإيران والولايات المتحدة إضافة إلى نظام الأسد، وأضاف الرئيس الروسي إلى إعلان انتصار قواته على «داعش» إعلانه عن سحب قواته، التي شاركت في تلك الحرب، وإعادتها إلى أماكن تموضعها الأساسية مع الإبقاء على القوات المخصصة للمرابطة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، اللتين أعطاهما نظام الأسد رخصة وجودهما على الأراضي السورية، كما أعلنت واشنطن تقييد دعهما لحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية بعد انتصارهما المشترك على «داعش».
غير أنه وبعد تلك الإعلانات، توالت على مدار الأسابيع الماضية أخبار وتقارير، عن معارك وتحشدات وتحركات قام بها «داعش» في مناطق سوريا متعددة، شملت مناطق جنوب دمشق، وريفي درعا والقنيطرة، وريف حماة، وجنوب إدلب، وأماكن عدة في شمال شرقي سوريا، الذي كان مسرحاً لأهم معارك الحرب على «داعش» من جانب الروس والإيرانيين ونظام الأسد في دير الزور، ومن جانب الولايات المتحدة وحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في الرقة ومحيطها. بل إن الأخبار والتقارير، سجلت تقدماً لـ«داعش» في بعض المعارك، مما يؤكد أن الحرب على «داعش» لم تحقق انتصاراً حاسماً، يتوافق مع ما تم الإعلان عنه، رغم الخسائر التي أصيب بها التنظيم نتيجة فقدان سيطرته على الرقة ودير الزور.
وطبقاً للمعطيات الميدانية، فإن الشكوك في الانتصار على «داعش»، تبدو حقيقة واقعة. ولعل الأهم فيما يدعم تلك الشكوك، لا يكمن فقط في تحركات «داعش» والمعارك التي خاضها في الأسابيع الأخيرة، إنما في أن أحداً من المنتصرين في الحرب، لم يقدم تفاصيل انتصاراته على «داعش»، بإعلان عدد من قتلوا أو تم أسرهم من التنظيم، وما تم الاستيلاء عليه من أسلحة وذخائر ومعدات، كانت تمثل ترسانة التنظيم، التي راكمها طوال السنوات الماضية، واستعملها في انتشاره والحفاظ على سيطرته ضمن رقعة واسعة من شمال وشرق سوريا، وجاء أغلبها من الصين وروسيا وأوروبا الشرقية طبقاً لتقرير بلجيكي صدر مؤخراً، كما لم يتم الإعلان عن معلومات تكشف مصير من تبقى من عناصر وقيادات «داعش» الذين تسربوا من الرقة ودير الزور في خلال فترة استعدادات الأطراف لدخول الحرب، حيث لم يقل أي من المحاربين أين ذهب قياديو التنظيم ومقاتلوه، وأسرهم التي تمثل بيئة اجتماعية وآيديولوجية لفكر التطرف والإرهاب.
إن أهم ما تسرب عن تفاصيل الحرب، يمثله إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن مقتل أربعة آلاف من مقاتلي «داعش» في المعارك ضده في سوريا والعراق، وهو عدد قليل من إجمالي عناصر «داعش» الذين كانوا موجودين في سوريا وحدها، والمقدر عددهم في المناطق الشمالية الشرقية باثني عشر ألفاً حسب أقل التقديرات، وحتى لو تمت إضافة خمسة آلاف من عناصر التنظيم، قال جاويش أوغلو إنه تم ترحيلهم إلى تركيا، فإن هناك آلافاً من عناصر التنظيم ما زالوا منتشرين في وحدات مقاتلة في سوريا، وثمة آلاف أخرى تحولت إلى خلايا نائمة للتنظيم، أو هي في طور إعادة ترتيب صفوفها، واستئناف معاركها على نحو ما تبين الوقائع.
إن ما أحاط بمجريات الحرب على «داعش» والتغطية على نتائجها، يؤكدان استمرار وجود التنظيم، وتواصل عملياته التي يمكن أن تتسع لاحقاً، وإن يكن بصورة مختلفة عما كانت عليه في السنوات الماضية، وهو تحول يبدو شديد الارتباط بقوى الصراع الرئيسية ومساراتها السياسية والعسكرية في سوريا، والتي تسربت معلومات، وكشفت وقائع كثيرة عن علاقاتها مع «داعش»، واستخدام الأخير من جانبها سواء في الصراعات البينية من جهة، أو في جهودها المختلفة لتأكيد أن ما يجري في سوريا هو حرب على الإرهاب والتطرف، وليس صراعاً بين النظام ومعارضيه من أجل مستقبل سوريا والسوريين.
وتطرح وقائع ما حصل في الحرب على «داعش»، أن ما جرى لم يكن هدفه حسم الصراع مع «داعش» أو تصفيته، إنما كان هدفه تحجيم التنظيم، ودفع ما تبقى منه للقيام بدور في مواصلة الحرب السورية من الناحيتين السياسية والعسكرية؛ إذ يحافظ من خلال وجوده من الناحية السياسية على استمرارية نظرية الحرب على الإرهاب والتطرف، ويغطي عجز أو عدم رغبة أطراف الصراع في التوصل إلى حلول سياسية للقضية السورية، ويتم استخدام «داعش» من الناحية العسكرية الميدانية لرسم خرائط متبدلة للصراع في سوريا وعليها، ويلعب دوراً في حسم الأوضاع القائمة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد خصوصاً في إدلب أو في درعا وفي محيط دمشق سواء في الغوطة المحاصرة أو في جنوب دمشق، وكلها قضايا، كانت ستتبدل، إذا جرى حسم وضع «داعش» وتم تحقيق انتصار حقيقي عليه.
إن الحرب على «داعش»، رغم أهميتها وضرورتها، لم تدخل مستوى من الجدية في سلوك أطراف الحرب طوال السنوات الأربع الماضية، والفصل الأخير، لا يمثل تحولاً نوعياً فيها، بل تبدلاً في شكلها، وهو ما جرى اعتباره انتصاراً، فيما الانتصار الحقيقي أمر يتجاوز ربح المعارك العسكرية والذهاب إلى سياسات وإجراءات من شأنها الحد من التطرف ومحاصرة الإرهاب، ولعل الأهم في هذا الدفع نحو إجراءات بينها وقف قصف المناطق المدنية، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة وفتح الأبواب أمام تدفق المساعدات الإنسانية والطبية، وإطلاق المعتقلين والسماح بعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم باعتبارها مقدمات لحل سياسي، يستند إلى المقررات الدولية خصوصاً في موضوع الانتقال السياسي. وما لم يتم المضي في هذه الطريق، فإن بيئة توليد التشدد والتطرف مستمرة، وسوف تغذي استمرار «داعش» وغيره من المتطرفين خاصة، إذا كانت أطراف الصراع السوري الرئيسية كلها أو أكثرها ذات روابط وخيوط مباشرة مع «داعش»، وترى أن له دوراً سياسياً وعسكرياً - ميدانياً مستمراً في القضية السورية.
سيكون على المهتمين بالتاريخ السياسي لسورية مواجهة هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التوريث، الذي وصل من خلاله بشار الأسد إلى رأس السلطة، وبين المآل الذي انتهت إليه الثورة السورية حتى الآن؟ لا تنبع أهمية السؤال في المقام الأول من التوريث ذاته، ولا من حقيقة أنه حصل في نظام جمهوري كان يوماً يخلط دعوى الاشتراكية منهجاً، والقومية العربية عقيدةً يستند إليها هذا المنهج. بل تنبع قبل ذلك وبعده من أن التوريث أضعف الرئيس، ومعه أضعف مؤسسة الرئاسة. المسار السياسي للرئيس الأسد منذ توليه السلطة في صيف عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد لا يترك مجالاً واسعاً لغير هذه الفرضية. حاول في البداية تقديم نفسه داخل سورية وخارجها على أنه رجل إصلاح وتطوير، شاب في مقتبل العمر، ينتمي إلى مرحلة تختلف عن مرحلة والده. درس في بريطانيا، ومهتم بالعلوم وتقنية المعلومات. كان تصور البعض أن سورية ستكون في عهده مختلفة. ستتجاوز، وإن في شكل متدرج، حال الانغلاق التي كانت عليها في عهد والده.
لكن الأحداث كانت تكشف تباعاً أنه لم يكن صادقاً ولا جاداً في وعوده الإصلاحية. كان يحاول تسويق نفسه، وتجميل عملية التوريث التي وصل بها. تبدأ هذه الأحداث بتهميش الحرس القديم، الذي كان معارضاً عملية التوريث، وهو الحرس الذي شارك والده في تأسيس النظام. يأتي في السياق ذاته ما كان يعرف بـ «ربيع دمشق»، الذي انطلق بتأثير من وعود الإصلاح، وما انتهى إليه على يد الأجهزة الأمنية للرئيس الجديد. ثم الغزو الأميركي للعراق وما أثاره من رعب داخل قصر الرئيس. وعلى صلة بمخاوف الأسد من الحرس القديم تضخم القلق من بروز القوة السياسية لرفيق الحريري في لبنان والطبقة السياسية التي كان يمثلها هناك. واللافت هنا أن مخاوف الرئيس السوري انتهت بحادثتين متتاليتين: فرض سورية التجديد للرئيس اللبناني حينها، إميل لحود، الخصم اللدود للحريري، ثم اغتيال هذا الأخير في ظروف انتهت بتوجيه التهمة رسمياً من محكمة دولية إلى «حزب الله»، أقوى حلفاء الأسد في لبنان.
أخيراً يأتي في ذروة تعاقب هذه الأحداث العاصفة انفجار ثورة شعبية في آذار (مارس) 2011. وهي ثورة بدأت بمطالب إصلاحية كان بإمكان الرئيس ونظامه استيعابها، بل واستغلالها للإقدام على إصلاحات كان هو من يعد بها منذ تسلمه السلطة. لكنه لم يفعل، بتعمد وإصرار واضحين! كان قراره مواجهتها، منذ اليوم الأول، بقوة السلاح، أملاً بوأدها، تيمناً- كما يبدو- بما فعله والده مع انتفاضة مدينة حماة عام 1982. عندها تبنت الثورة مطلب «إسقاط النظام». أمام ذلك، تبنى الأسد استراتيجية «إما وأد الثورة، وإما تدمير سورية». لم يتمكن من وأد الثورة، فحصل التدمير. وما زال مستمراً حتى الآن.
السؤال هنا: ما هي مؤشرات ضعف الرئيس ونظامه، التي تكشف عنها هذه الأحداث، واستجابة الرئيس لها؟ أكثر ما يلفت النظر أمام كل هذه الأحداث أمران متصلان يغذي أحدهما الآخر: ابتعاد الرئيس المستمر من السياسة والحلول السياسية، وبخاصة مع أبناء شعبه، ثم غرقه المتصل في خيارات العنف والقتل والتدمير، من ناحية، وانحيازه المتصل أيضاً، وبالتوازي مع ذلك، إلى تحالفات طائفية محلياً وإقليمياً، من ناحية أخرى. أنهكت الحرب، التي فرضها الرئيس، الجيش العربي السوري والانشقاقات التي فرضها ذلك. لم يعد بإمكان الجيش حماية الرئيس ونظامه. وهو ما ضاعف قناعة بشار الأسد بأن الطائفة هي ملاذه الأخير، والحصن المتبقي لحمايته. منذ وصوله إلى السلطة عزل نفسه عربياً، جاعلاً من إيران حليفه الوحيد في المنطقة. بعد الثورة باتت طهران تملك من السلطة داخل سورية ما يتنافس مع سلطة الرئيس نفسه. وهذا واضح من أن الميليشيات الإيرانية، وبخاصة حزب الله، هي التي يمكنه الاعتماد عليها، وليس على ما تبقى من «الجيش العربي السوري».
ثم تبين أن إيران وميليشياتها لا تستطيع حماية الرئيس. فكان لا بد من تدخل الروس، وهو ما حصل في خريف 2015 لإنقاذ الأسد ونظامه من السقوط. المفارقة أنه دخول ضاعف مأزق الأسد، وضاعف تهميشه. وحتى تعامل الروس معه يعكس ذلك. لم يعد يملك زمام المبادرة أمام أحداث تعصف به وببلاده. روسيا هي التي تملك الآن المبادرة. وهي تتواصل وتنسق في ذلك، ليس فقط مع إيران، بل ومع تركيا والسعودية ومصر، وقبل ذلك وبعده مع الولايات المتحدة. الأنكى أن موسكو تنسق أيضاً مع إسرائيل، وتعترف بحقها في توجيه ضربات إلى المواقع السورية متى رأت أنها في حاجة إلى ذلك.
في هذه الحال، ماذا يمكن أن يكون مستقبل الأسد؟ قد يبقى رئيساً من دون صلاحيات أثناء المرحلة الانتقالية، أو أن يتنحى لمصلحة سورية. أما الثالث فهو تمسكه، بدعم من إيران، بالبقاء رئيساً، على رغم كل ما حدث وبُعده. وهذا خيار يهدد بتقسيم سورية.
الشاهد أن هذه الخيارات، وهي تعكس ذروة افتقاد الأسد للمبادرة، لم تكن مطروحة قبل الثورة. الرئيس هو من فرض طرحها بخياراته وتحالفاته مع قوى خارجية ضد شعبه. وإذا كانت الأمور بنتائجها، فإن نتائج هذه الخيارات لا تترك مجالاً لمستزيد. فالتوريث دفع بشار الأسد إلى الاحتماء بالطائفة بدلاً من الدولة، وبميليشيات خارجية بدلاً من الجيش، وبالتحالف مع إيران بديلاً عن مظلته العربية. وليس هناك أكثر دلالة على الضعف وتراكمه من هذه المؤشرات، التي بدأت منذ اليوم الأول لرئاسة بشار الأسد.
أختم بما قاله نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع، الذي اختفى من المشهد، قيد الإقامة الجبرية كما يبدو، في نهاية مذكراته التي أنجزها عام 2011، قال عن موقفه من التوريث ما نصه «من حيث المبدأ أنا لا أؤمن بالتوريث... وعندما وافقت... على اقتراح مصطفى طلاس (بتولي بشار خليفة لوالده) فإنما لسببين كنت مقتنعاً بهما: السبب الأول هو أن ذكرى الصراع مع رفعت الأسد عام 1984 ما تزال ماثلة في ذاكرتي... شعرت أن اختيار بشار الأسد سيكون مخرجاً آمناً وبديلاً سلمياً من صراع دامٍ يمكن أن ينفجر إذا أخطأنا الاختيار لأن كل عناصره ما زالت في قيد الحياة. السبب الثاني أن الدكتور بشار... لديه رصيد شخصي وجملة مؤهلات، يأتي في مقدمها رغبته المعلنة في الإصلاح والتحديث»، (الرواية المفقودة، ص457). وهذه شهادة أقل ما يقال عنها إنها لافتة. فهي تؤكد أن النظام السياسي لحظة وفاة الأسد الأب كان يعاني من انقسامات وصراعات حادة لا تزال حية منذ 1984. ثانياً أنها تعتبر تولي بشار الرئاسة كان حينها أقل الخيارات المتاحة سوءاً. وهو ما يعني أن سورية تدفع ثمن توريث فرض عليها فرضاً، وجاء برئيس لم يكن مهيأً لإخراجها من المأزق السياسي الذي انتهت إليه لحظة رحيل الأسد الأب.
بعد ثماني جلسات تفاوضية في جنيف، ومثلها في العاصمة الكازاخية آستانة، اتفق «رعاة» السلام السوري المفقود على الاجتماع قريباً في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود.
اختلفت الآراء حول الحاجة أصلاً للتفاوض في آستانة بوجود مسار برعاية الأمم المتحدة في جنيف، بل في ظل الاتفاق - لفظياً على الأقل - على الالتزام بما أفضى إليه اجتماع جنيف الأول، أو «جنيف1»، واعتبار «مسار جنيف» هو باب التسوية في سوريا.
في ظل ازدواجية المواقف وتناقض المعايير، وتعمد تغيير الحقائق على الأرض، ونكوص بعض الأفرقاء الأساسيين عن التزاماتهم... تبدّلت معطيات كثيرة.
روسيا، بداية، تحركت من «فيتوهاتها» على المحاولات الدولية لوقف القمع الدموي للثورة الشعبية السلمية، إلى إعادة تفسير أو تأويل نصوص «جنيف1» تدعمها الصين دبلوماسياً، وإيران... على الأرض.
ومن ثم، شنت روسيا وإيران حملة شرسة، لتبرير دعمهما المتصاعد الآلة العسكرية لنظام دمشق، بحصول «الجيش السوري الحر» والفصائل السورية المعارضة على دعم خارجي أبرزه من تركيا.
أكثر من هذا، اتهم قادة روسيا وإيران أنقرة بالتواطؤ مع الإرهاب (السنّي - حسب تعريف موسكو وطهران) وإدخال العناصر المتطرفة إلى الداخل السوري عبر تركيا وتزويدها بالسلاح. ومعلوم أن أنقرة دأبت في مستهل الثورة على التهديد بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء ما يفعله نظام بشار الأسد بشعبه.
من جهة أخرى، تعاملت الولايات المتحدة مع انطلاق الثورة السورية بتأييد ومباركة واضحين، كما فعلت مع الانتفاضات الأخرى التي شملها ما يُعرف بـ«الربيع العربي» عام 2011، وأطلق مسؤولوها، كما نتذكر، عبارات من نوع «الأسد فقد شرعيته» و«لا دور للأسد في مستقبل» سوريا. غير أنه كان هناك موقفان متحفظّان عن الثورة منذ تلك المرحلة المبكرة من عمرها أسهما في إعادة رسم الأولويات الأميركية والغربية عموماً تجاه الثورة، هما: الصمت الإسرائيلي الرسمي المريب تجاهها، ووقوف بعض المرجعيات الدينية المسيحية الشرق أوسطية ضدها صراحة. وفي الواقع، بينما حرصت الأجهزة الإسرائيلية الرسمية على التزام الصمت، كانت جهات استخباراتية وإعلامية تتحدث صراحة أن لا مصلحة عند إسرائيل بسقوط نظام ضمن لها أمن حدودها الشمالية منذ 1973، أما عن المرجعيات المسيحية، ومنها قيادات إكليريكية لبنانية وسورية، فقالت علناً في العواصم الغربية ما معناه إنه في حين لا يعد نظام الأسد مثالياً فإن أي بديل منه سيكون أسوأ.
في هذه الأثناء، بالتوازي مع ثورة سوريا وغيرها من انتفاضات «الربيع العربي» المتأرجحة بين السلاسة والحروب الأهلية المفضية إلى «دول فاشلة»، كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يصوغ استراتيجيته الراديكالية لمنطقة الشرق الأوسط. كان أوباما يعجّل الخطى نحو بناء «شرق أوسط جديد» مختلف كلياً عن الشرق الأوسط الذي تعاملت معه واشنطن طيلة حقبة «الحرب الباردة»، بل منذ 1979 تحديداً.
استراتيجية أوباما تضمنت استعادة إيران حليفاً للولايات المتحدة، ولكن هذه المرة بعكس التحالف القديم بين واشنطن والشاه عندما اعتبرت الإدارات الأميركية الشاه «حليفاً تابعاً»، مهمته تنفيذ رغباتها، و«حلقة» من حلقات أحلافها لتطويق الخطر السوفياتي واحتوائه. هذه المرة رأى أوباما في «الثورية» الإيرانية «حليفاً شريكاً» موازياً يعتمد عليه ضد اليمين العربي والسياسات «الانتحارية» للأصولية السنيّة، حسب وصفه. وبالتالي، صار الاتفاق النووي الذي توصلت إليه واشنطن أوباما مع طهران الملالي - بعد مفاوضات سرّية طويلة - من ركائز الاستراتيجية الجديدة لواشنطن في المنطقة. ومن أجل إنجاز هذا الاتفاق، وتثبيته وفرض مفاعيله كانت إدارة أوباما مستعدة إلى الذهاب بعيداً. وهكذا، كانت ثورة الشعب السوري، التي تعتبرها طهران خنجراً يغرز في ظهر مصالحها، الضحية الأولى للصفقة الأوبامية - الخامنئية.
وبمرور الأيام، واستمرار النزف والقمع في سوريا، وصولاً إلى استخدام النظام الأسلحة الكيماوية التي تصوّر كثيرون أن استخدامها يشكل «خطوطاً حمراء» غير مسموح بتجاوزها، أدّى تجاهل واشنطن «الخطوط الحمراء»، وسخرية أوباما علناً من قدرات الفصائل السورية المعارضة، إلى دخول الثورة مرحلة مختلفة تماماً. عند هذه النقطة أدرك النظام، ومعه موسكو وطهران، أن أولويات واشنطن باتت في مكان آخر، وأن يده باتت حرة مُطلقة ليفعل ما يريده.
في المقابل، أدّى تطوّران إلى إحداث تغيير جوهري ظاهر في موقف تركيا.
التطوّر الأول، كان بدء واشنطن دعم الجماعات الانفصالية الكردية في شمال سوريا عسكرياً وسياسياً، بذريعة أنها «القوة الوحيدة على الأرض» القادرة على إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي... الذي سمحت له المواقف الدولية الملتبسة بأن ينمو ويتمدّد ويدمّر ويهجّر.
والتطوّر الثاني، كان إسقاط تركيا مقاتلة قاذفة روسية كانت تدعم قوات النظام في المنطقة الحدودية بشمال غربي سوريا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبعدها، في ظل اندلاع خطر مواجهة غير متكافئة بين روسيا وتركيا، وإحجام واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو) عن دعم تركيا... الدولة العضو في الحلف، قرّرت أنقرة «التفاهم» مع موسكو. أضف إلى ذلك، أن الاندفاع الأميركي في مساندة الأكراد أوجد قواسم مصلحية مُشتركة بين أنقرة وطهران بررت للأتراك التضحية بالسوريين وثورتهم.
منذ ذلك الحين، وبعدما كانت روسيا وإيران تبرّران «احتلالهما» سوريا بمكافحة «الجماعات التكفيرية المدعومة من تركيا»، تفاهم الروس والإيرانيون والأتراك على مصالحهم المشتركة سورياً وإقليمياً، وكانت الثمرة فكرة آستانة التي دُعي إليها ما تبقّى من فصائل سوريا معارضة لأول مرة.
الواضح الآن، لدى النظرة إلى الحقائق على الأرض، أن الغاية تكبيل الفصائل المسلحة وفتح معارك داخلية بين معتدليها ومتطرفيها (جبهة النصرة وتوابعها). فمنذ 23 و24 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي 2017 استضافت العاصمة الكازاخية آستانة ثماني جلسات تفاوضية برعاية روسية، ومشاركة أممية وأميركية، شهدت سلسلة تنازلات سياسية واستقالات متواصلة من وفود التفاوض السورية المطوّقة، وفرض النظام والروس والإيرانيون ما يريدونه على الأرض.
السلام السوري انتهى.
والمتوجّهون إلى سوتشي لن يمثّلوا سوريا، بل رُعاتهم وداعميهم... وهنا المأساة الكبرى.
كلما استمر القتال في سورية أصبحت خريطة الصراع أكثر صعوبة وتعقيدًا. قرّر سوريون ولاجئون كثيرون البحث عن ظروفٍ أفضل وحياة أفضل للعيش، والسبب الأكثر أهمية بالنسبة للسوريين، في حملهم على الفرار وتحمل مخاطر الرحلة إلى أوروبا، أنه لا توجد أي علامات لانتهاء الحرب فيها، واللاجئون في البلدان المجاورة يفقدون حاليًا الأمل في أن يتمكّنوا من العودة.
داخل سورية، يستمر الوضع في التدهور، مع كثافة الاشتباكات في جميع المناطق، الاقتصاد والخدمات في حالة انهيار عام، يقود ذلك مزيدا من الناس إلى الرحيل، ولايزال هذا الانهيار يؤثر عميقًا على الذين هربوا بالفعل إلى الدول المجاورة. كما أن وضع اللاجئين في دول الجوار أصبح أكثر صعوبة وغير إنساني في حالاتٍ كثيرة، وكثيرون منهم مقتنعون بأن المخاطرة والعبور إلى أوروبا قد تيسر مستقبلا أكثر إشراقا لأبنائهم.
في جميع البلدان المجاورة التي يقيم فيها اللاجئون السوريون، لا يسمح للاجئ بدخول سوق العمل رسميًا، ويواجه عقوبات إذا تم القبض عليه. في الأردن، على سبيل المثال، يواجه خطر الإعادة إلى المخيمات. وفي لبنان، يضطرّون إلى توقيع تعهد بعدم العمل، إذا كانوا يرغبون في تجديد إقامتهم.
ينظر المجتمع الدولي اليوم إلى الأزمة السورية على أنها ثلاث أزمات منفصلة: الإرهاب: بروز التنظيمات الإرهابية في سورية واتخاذها ملجأ آمنا، مثل داعش والقاعدة. اللجوء: فرار لاجئين كثيرين إلى دول الجوار وعبورهم إلى أوروبا. الانتقال السياسي: الحاجة إلى استقرار سياسي ينبع من أهمية تحقيق الانتقال السياسي الذي يتيح للسوريين اختيار رئيسهم ونظامهم السياسي بحرية. وللأسف، يركز المجتمع الدولي اليوم على الأزمتين، الأولى والثانية، في حين يترك الثالثة للمفاوضات السياسية التي لم تحرز جولتها الثامنة في جنيف أخيرا أي تقدّم على الإطلاق، كما سابقاتها في أربع سنوات.
اليوم وبعد مرور سبع سنوات تقريباً على بداية الثورة السلمية في سورية، تظهر الحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى رسم خطة استراتيجية كبرى، تربط هذه الأزمات الثلاث معاً، وتدرك أنه لن تكون هناك إمكانية للقضاء على الإرهاب في سورية بشكل كامل، وعودة ملايين اللاجئين من دون دفع عجلة الانتقال السياسي، وممارسة الضغوط السياسية والدبلوماسية، وحتى العسكرية، على نظام الأسد من أجل تحقيق هذا الانتقال.
لا بد من تحقيق انتقال سياسي كامل في سورية، ينقلها من نظام تسلطي طائفي إلى نظام ديمقراطي تعدّدي غير طائفي، يعتمد على مبدأ المواطنية ومساواة كل السوريين أمام القانون. ولذلك، ربما يحقق النظام البرلماني هذه الأهداف بالشكل الأمثل في سورية اليوم. كما لابد من خروج كل المليشيات الأجنبية والطائفية، ممثلة في القاعدة و مليشيات حزب الله والمليشيات الإيرانية المتحالفة معها ومع نظام الأسد (زينبيون وفاطميون وحركة النجباء العراقية).
بالتأكيد، زاد التدخل الروسي العسكري اليوم الأمور تعقيداً في سورية، فروسيا لم تعد داعما لنظام الأسد أو راعيا له، وإنما أصبحت مالكة له. وبالتالي عليها "إنقاذ سورية" من أجل الخروج بشرف وكرامة من تدخلها العسكري، إذ تدخلت روسيا في كل الأماكن، مع تركيز عسكري وقوة نارية هائلة ضد المعارضة السورية المسلحة، بما دعم نظام الأسد، وشجّعه على الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإجبار الأهالي على الخروج من مدنهم ضد رغبتهم من مدنٍ، مثل حلب وداريا ومضايا، وجديدها كان حي الوعر في حمص. إنه اتفاق تهجير قسري ضد القانون الإنساني الدولي، وليس اتفاقا لحماية المدنيين.
هل هناك حاجة لروسيا كي تستنفد كل هذه الموارد المالية والعسكرية والسياسية في الدفاع عن نظامٍ من المستحيل عليه الاستمرار بطريقة سياسية أو قانونية؟ استمرار هذا النظام يعني استمرار الحرب السورية إلى مالا نهاية، ولن يشعر اللاجئون السوريون الذين يزيد عددهم اليوم على سبعة ملايين لاجئ، بالأمان، من أجل العودة إلى سورية، طالما أن طريقة حكم الأسد في القتل والتعذيب والبراميل المتفجرة مستمرة في حكم ما تبقى من سورية.
ولذلك، يمكن تصور ضمان تحقيق الانتقال السياسي من خلال الضغوط العسكرية على نظام الأسد، ممثلة في المناطق الآمنة التي ستجبر الأسد على الرضوخ بجدية إلى مطالب المفاوضات السياسية.
عول كثير من المراقبين للشأن السوري على جولة "جنيف 8" الأخيرة، كونها تأتي بعيد تثبيت وقف إطلاق النار إلى حد كبير وبعيد إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية كقوة عسكرية فاعلة.
لكن بدا واضحا مع رفض النظام إرسال وفده إلى جنيف بداية المحادثات، ورفضه التفاوض قبل تراجع المعارضة عن مخرجات "الرياض 2"، أن ثمة مخطط روسي ـ سوري لمنع حصول أي اختراق في هذه الجولة لأسباب عدة:
1ـ سبب سوري متعلق برغبة النظام وضع قواعد عمل تفاوضية قبيل الدخول في مناقشة السلال التفاوضية، وتقوم هذه القواعد على مبدأين: الأول تحييد الأمم المتحدة كمرجعية للحل السياسي للأزمة السورية والإبقاء عليها كوسيط محايد.
بعبارة أخرى يجب إبعاد مسألة الحق والشرعية في صراع المفاوضات التي يجب أن تخضع لمعايير القوة فقط.
والمبدأ الثاني مرتبط بميزان القوة، أي أن الإطار الناظم للمفاوضات يجب أن يأخذ بالاعتبار القوى المتواجدة على الأرض، وبالتالي لا يمكن طرح نقاط تفاوضية لا تستقيم مع الواقع القائم (مصير الأسد، الانتقال السياسي).
كان تصريح بشار الجعفري بهذا الشأن واضحا حين دعا المعارضة إلى قراءة الوقائع على الأرض.
2ـ سبب روسي مرتبط برغبة صناع القرار في الكرملين عدم حدوث أية تقدم في مفاوضات جنيف الأخيرة قبيل عقد "مؤتمر الحوار الوطني" السوري في سوتشي.
ويبدو أن الروس عازمين على إحداث اختراق سياسي ما، ولن يكون هذا الاختراق بطبيعة الحال في جنيف كي لا يحسب على الأمم المتحدة، وإنما يجب أن يكون في سوتشي كي يحسب على روسيا.
تحاول موسكو إيصال رسائل للغرب بأنها وحدها القادرة على تحصيل تنازلات من النظام، وبالتالي الأقدر على ترتيب مستلزمات السلام السوري.
النقطة المهمة بالنسبة لروسيا هي أن دي ميستورا يحاول من خلال سلة الدستور بلورة تصور واضح لشكل الحكم المقبل، ولا بد من قطع الطريق عليه.
بعبارة أخرى، إن الاتفاق على سلة الدستور في إطارها العام تعني بالضرورة الاتفاق على جزء من المبادئ العامة، فلا يمكن إعادة صياغة الدستور والانتخابات بمعزل عن المبادئ العليا للانتقال السياسي، وهذه خطوة تكتيكية مهمة تساعد وتسرع في الوصول إلى تفاهمات، فعلى سبيل المثال، سيتضمن الدستور الجديد بطبيعة الحال المبادئ العامة لشكل نظام الحكم وآلية الإصلاح السياسي والإداري، شرط أن تنشأ بعد مرحلة كتابة الدستور الجديد بيئة محايدة تقود إلى انتخابات حرة ونزيهة.
من هنا يجتهد الروس على أن يحدث الاختراق في سلة الدستور بمؤتمر سوتشي عبر وضع أسس دستورية وإجراءات تنفيذية للتسوية تنتهي بتشكيل حكومة مؤقتة لفترة انتقالية.
وقد أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام مجلس الاتحاد الروسي، أن على جدول أعمال مؤتمر "الحوار السوري" وضع دستور جديد والتحضير لانتخابات عامة.
ومن شأن ذلك أن يجعل من سوتشي بمثابة استانا 2، أي أن مخرجات مؤتمر سوتشي ستكون مرجعية أو خطة طريق في جنيف كما تحولت مخرجات استانا إلى مرجعية في مفاوضات جنيف.
المقاربة الروسية لا تلقى اعتراضا أمريكيا، ويبدو واضحا أن واشنطن تترك للروس المضي قدما في مخططاتهم، فالبوابة الروسية قادرة على تحصيل تنازلات مهمة من كل الأطراف بما فيها المعارضة.
بالنسبة لواشنطن لا ضير من تحصيل تنازلات من قبل النظام مهما كانت ضئيلة في هذه المرحلة، ولا ضير من توسيع دائرة الحضور التفاوضي السوري وإشراك قوى جديدة كحزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي حليف الولايات المتحدة الأول في سوريا.
ومن شأن حضور "الاتحاد الديمقراطي" في سوتشي أن يكون مقدمة لإشراكه في جنيف لاحقا.
ولا ضير للولايات المتحدة من ترويض المعارضة للقبول بالأسد خلال مرحلة التغيير السياسي.
وما نقلته مجلة "نيويوركر" عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين يبدو صحيحا، من أن إدارة ترامب مستعدة لقبول حكم الأسد حتى الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2021.
لكن الروس يدركون جيدا أن الضوء الأخضر الأمريكي مشروط بحصول تقدم حقيقي يمهد الطريق أمام التسوية الكبرى وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، ولو بعد حين، والولايات المتحدة قادرة على عرقلة الجهود الروسية.
بالنسبة لموسكو، فإن الإصلاح السياسي لا يجب أن يقوض هيمنة النظام، لكن لا يمنحه القوة الكافية للاستمرار في بسط هيمنته، فهي تعتقد أن تحقيق حكم ديمقراطي من نوعا ما ينسجم مع البيئة السورية.
أما الولايات المتحدة، فهي وإن كانت تتفق مع الرؤية الروسية، إلا أنها تعتقد أن المسار الإصلاحي الطويل والشائك لا بد أن ينتهي بانتخابات حرة.