التقرير المثير الذي حققه جوش ماير ونشره موقع ««بوليتيكو» الأميركي المرموق، عن «حزب الله»، يسلط الضوء على حجم الأوهام التي يمكن أن يحملها حتى من هم في أعلى الهرم الأمني والسياسي الأميركي.
خلاصة التحقيق المطول، أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، مدفوعة برغبته في الحوار مع إيران والتفاوض حول برنامجها النووي، قيدت الكثير من الجهود الرامية إلى مواجهة «حزب الله»، وتعطيل قواه، وأبرز هذه الجهود «مشروع كاساندرا».
انطلق المشروع عام 2008، بإشراف «إدارة مكافحة المخدرات» العاملة تحت وصاية وزارة العدل الأميركية، بعد أن راكمت أدلة على تحول «حزب الله» من منظمة عسكرية وسياسية تركز على الشرق الأوسط إلى عصابة دولية للجريمة يعتقد بعض المحققين أنها تجمع مليار دولار سنوياً من الاتجار بالمخدرات والأسلحة وغسل الأموال، وغير ذلك من الأنشطة الإجرامية. اصطدم هذا البرنامج كما غيره بخيارات أوباما الشرق أوسطية، وحرصه الكبير على عدم تعكير الحوار مع طهران، بعروض جانبية حتى لو كانت نتيجتها تدمير البنية التحتية البشرية والشبكية التي يستثمرها «حزب الله» في أنشطته.
ولأن «الموظفين هم السياسة»، بحسب العبارة التي راجت في أيام الرئيس الأسبق رونالد ريغان، يعرج جوش ماير على أركان إدارة أوباما ومواقفها من «حزب الله»، كاشفاً حجم الأوهام والرهانات وسياقات التفكير الرغبوي في مقاربة واحد من أخطر التنظيمات في الشرق الأوسط والعالم.
فالرجل الذي سيصبح كبير مستشاري أوباما لشؤون مكافحة الإرهاب وبعدها مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان، كان دعا في ورقة توصية سياسية أعدها، إلى أن «يكون للرئيس المقبل الفرصة لإقامة مسار جديد للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة، ليس فقط من خلال حوار مباشر، بل عبر استيعابٍ أكبر لـ(حزب الله) في النظام السياسي في لبنان». وخلال فترة ولايته مساعداً للرئيس لشؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، قال برينان إن الإدارة الأميركية تبحث في السبل الآيلة لبناء عناصر معتدلة داخل «حزب الله»، واصفاً إياه بالمنظمة المثيرة للاهتمام والتي تطورت من منظمة إرهابية صافية إلى ميليشيا وفيما بعد صارت حزباً سياسياً يدفع بممثلين له إلى الندوة البرلمانية والحكومة اللبنانية.
لا يفضح هذا المنطق فقط، العمى السياسي الذي أصاب واشنطن خلال ولايتي أوباما، نتيجة الإصرار على أولوية نجاح التفاوض النووي، بل يكشف عن حسن الاستثمار الإيراني في سذاجة البيت الأبيض، وكفاية نظام الملالي في لعب الورقة النووية والصاروخية لتشتيت انتباه العالم عن النشاط الأخطر لإيران وهو رعاية الميليشيات ونشرها في طول العالم العربي وعرضه.
ليس السلاح النووي هو سبب النفوذ الإيراني في الإقليم، بل عملية الاستنساخ المبرمجة التي تقوم بها طهران لابتكار ميليشيات على غرار «حزب الله»، تجعلها رديفاً للدولة قبل أن تدخل الاثنتان في شراكات غامضة، أي تماماً كما انزلق برينان للتفكير فيه والتنظير له.
في العراق وبعد فتوى السيد السيستاني بوجوب «الجهاد الكفائي» إثر سقوط الموصل عام 2014 ودعوته للتطوع في الجيش العراقي والقوى الأمنية العراقية، قفزت إيران على ظهر الفتوى للقيام بأكبر عملية توسعة لبنيتها الميليشياوية، وما بات يعرف اليوم بـ«الحشد الولائي» ضمن «الحشد الشعبي»، أي الميليشيات الشيعية التي تدين بالولاء للولي الفقيه، وليس للدولة العراقية كما يقول أنصار السيستاني إنه مقصده من الفتوى.
وفي اليمن تسعى إيران، من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، إلى إعادة تدوير ميليشيا الحوثي وصقلها على هيئة «حزب الله»، وتزويدها بالخطاب السياسي والعقائدي والتعبوي والدعم الميداني، لتحقيق أكبر قدر من ابتذال الدولة اليمنية الضعيفة، وأعمق اختلال في التوازن بين الحوثي والدولة لصالح الحوثي بطبيعة الحال.
ليست مساهمة «حزب الله»، بوصفه أم الميليشيات الإيرانية، بسيطة في هذا السياق، وقد عبر الأمين العام لـ«حزب الله» مراراً عن الدعم الميداني المباشر الذي تقدمه ميليشياه للعراقيين واليمنيين وحماس (ضد منظمة التحرير) وغيرهم. وهو لوح مرة بأن تكرار التجربة وارد ومقدور عليه في مملكة البحرين حين يتوفر القرار السياسي الإيراني في هذا الاتجاه.
لا يقل وهماً عن هذا، التركيز على البعد السياسي الاجتماعي لـ«حزب الله» وأنشطته المرتبطة في البيئة الشيعية اللبنانية أو البيئات الأخرى. فحزب الله ليس حزباً سياسياً بمعنى امتلاكه مشروعاً سياسياً؛ بل هو تنظيم أمني، كان وسيبقى، يتوسل السياسة لخدمة أهدافه الأمنية والعسكرية تحت عنوان «الجهاد»، ويستثمر في القوة السياسية لتطويع بيئته ونخبها وتطويع البيئات الموازية إما عبر تهديد مصالحها في أوقات الاشتباك؛ أو تسهيل هذه المصالح إن أحسنت الخضوع.
فأكبر استثمارات «حزب الله» ليست مركزة في برامج الرعاية الاجتماعية بقدر ما هي مركزة على تطوير بنيته العسكرية والأمنية والوقائية. وأبرز نخبه ليسوا النخب السياسية؛ بل النخب العسكرية والأمنية، وأبرز قادته هم أمنيوه وعسكريوه، وأبرز قتلاه هم أمنيوه وعسكريوه.
ليس البرنامج النووي هو ما ينبغي أن يثير انتباه العالم، ولا حتى البرنامج الصاروخي. فالصواريخ لا تنطلق من نفسها؛ بل ثمة من يطلقها. ومن يطلقها هي ميليشيات تزرعها وترعاها إيران بكل عناية. هنا المحك.
ثار الجدل مجددًا حول ما إذا هناك تحول في الموقف التركي، مع إقامة أنقرة تعاونًا في سوريا مع موسكو وطهران.
من المؤكد أن للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة دور كبير في ذلك. لكن في المقابل، فكرة "التقارب مع روسيا عوضًا عن الغرب" خاطئة أيضًا. فأنقرة تعمل على إقامة توازن حساس بين واشنطن وموسكو.
لماذا روسيا وإيران؟
تقول أنقرة إن السبب الأول في التعاون التركي مع روسيا وإيران هو عدم قدرتها على إقامة شراكة من هذا القبيل مع الولايات المتحدة. فهي لم تستطع إقناع واشنطن باستخدام الجيش الحر والفصائل الأخرى المدعومة تركيًّا، كقوة برية في سوريا.
ومع أن واسنطن وافقت في البداية على دعم هذه المعارضة إلا أنها خفضت مساعدتها بسرعة فيما بعد. وعلى الإثر دعمت أنقرة هذه الفصائل من الخلف بقواتها الخاصة؟ ولم تنجح أيضًا في إقناع الولايات المتحدة باقتراحها أن يقاتل الجيش التركي مباشرة إلى جانب القوات الأمريكية. وفضلت واشنطن التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي.
ومع قطع وكالة الاستخبارات المركزية مساعداتها تمامًا للجيش الحر هذا الشهر، أصبحت تركيا الداعم الوحيد له.
أما السبب الثاني الذي دفع تركيا للتعاون مع روسيا وإيران فهو الاضطرار إلى إلزام طهران بالحل. لأن إيران كانت أكبر داعم للأسد منذ اندلاع الحرب، وكانت تعرقل التعاون التركي الروسي، ففي ديسمبر 2016، انتهكت إيران اتفاقًا برعاية موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار في حلب.
مسؤول تركي رفيع أخبرني أن أنقرة بذلت الكثير من الجهود لضم الولايات المتحدة إلى هذه المعادلة، وأنها قامت بمساعٍ في هذا الإطار من أجل ربط مسار أستانة، برعاية تركية روسية إيرانية، مع مسار جنيف، الذي تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكد المسؤول أن واشنطن منزعجة جدًّا من قمة سوتشي ومباحثات أستانة ، وأن أنقرة بذلت جهدًا خاصًّا حتى ترسل واشنطن مبعوثُا لها إلى هذه المباحثات.
اتفاق غير مباشر مع دمشق
ومن الواضح أن أنقرة تعمل على إقامة تعاون مع جميع جيرانها كي لا تجد نفسها محاصرة من جانب القوى العظمى. وتخطط للتخلص بهذه الطريقة للتخلص من الوضع الحرج في مسألة وحدات حماية الشعب، أي بالحصول على دعم بغداد ودمشق.
لكن هل من الممكن إقامة تعاون مع النظام السوري؟ في الواقع، منذ اتفاق حلب في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 وهناك تنسيق غير مباشر بين أنقرة ودمشق. ولعلكم تذكرون أن الجيش السوري انسحب آنذاك من أجل السماح بخروج المعارضة.
بمكن لنظام الأسد أن يبدي تعاونًا مشابهًا في عفرين أيضًا. فكما هو معروف تشعر أنقرة بالانزعاج من دعم روسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي في عفرين. بل إن مسألة مشاركة الحزب في مؤتمر الحوار الوطني السوري المزمع عقده برعاية موسكو تعتبر مشكلة عالقة بين البلدين.
المسؤول الذي تحدثت معه يقول إن أنقرة لم تتفق بعد مع موسكو على خارطة طريق نهائية في هذا الخصوص. لكن لا تندهشوا إذا أعلنت روسيا في وقت قريب عن انسحاب حزب الاتحاد الديمقراطي من عفرين وتسليم المدينة للنظام السوري. واتهام الأسد قبل يومين حزب الاتحاد الديمقراطي بالخيانة والعمالة يدعم هذا الاحتمال.
وفي المقابل ينبغي ألا ننتظر حدوث اتصال مباشر بين أنقرة ودمشق في القريب العاجل. غير أنه في حال إبداء النظام تعاونًا بخصوص حزب الاتحاد الديمقراطي، قد ينشأ جو إيجابي تجاه دمشق بعد بدء مرحلة الانتقال السياسي في سوريا.
تتضح، يوما بعد آخر، هوية أصحاب المشروع الداعشي. وتتأكد واقعة أن اتهام الشعب والثورة السوريين بالوقوف وراءه كان سياسة دولية أملتها حساباتٌ ليس بينها سوء التقدير، جعلت الثورة أول ضحاياه، وحين أوشك على السقوط خلال الأشهر الماضية، أبدت قدرا من الحرص عليه، ما كان أحد يتوقعه، لإنقاذه من مصير محتوم توعده الجميع به نيفا وثلاثة أعوام. ثم، وما أن قضت مجاميع "داعش" على الجيش الحر في المناطق التي كان قد أخرج النظام منها، حتى برزت جهود تتسم بالغموض والسرية لإنقاذ أمرائها ومقاتليها، فأنقذ الأميركيون الذين تذرّعوا بالحرب ضدها، لاحتلال نيف وأربعين ألف كيلومتر مربع من شمال سورية وشرقها، بعض أمرائها، بشهادة روسيا التي تحدثت عن التقاط وحدة أميركية مجوقلة أمراء داعشيين، بينهم أمير مالية التنيظم وأسرته، وفي حوزته صناديق مجهولة المحتوى. ووصف سائقون سوريون، أمروا بنقل مقاتلي "التنظيم الإرهابي" من الرّقة إلى دير الزور، حجم ما حملوه من أسلحة متوسطة وثقيلة وذخائر، بالإضافة إلى 4500 مقاتل وامرأة وطفل، فكيف تمت عمليةٌ كهذه، احتاج تنفيذها سبعة أيام، رتب كل شيء خلالها وكأن الرّقة لا تعيش حربا، أو تتعرّض لقصف جهنمي من الطيران الأميركي، أو يوجد اتفاق أميركي/ روسي بعدم التعرّض لقافلتهم التي بلغ طولها نحو سبعة كيلومترات، واجتازت قفارا صحراوية، وكان فيها عدد كبير من الأجانب، يصحبهم واحد من أكبر أمراء التنظيم. كما نشرت وزارة دفاع روسيا صور قافلة عسكرية داعشية في طريقها من دير الزور إلى البوكمال، وأكدت أن واشنطن حمتها.
وكشف الأميركيون أن أكثر من 97% من جهد روسيا العسكري استهدف الجيش الحر، وتحاشى الرّقة، عاصمة التنظيم، باستثناء مراتٍ تعد على أصابع يد واحدة، استهدفوا خلالها مناطق طرفية لا أهمية لها، وكذلك فعلوا في دير الزور، وصولا إلى حدود العراق، حيث استهدفوا مدنيين.
يوجد كثير من الحقيقة في هذه المعلومات، فالروس ركّزوا جهدهم بعد غزو سورية على إبادة الجيش الحر، وسمحوا لقوافل داعشية اجتازت الصحراء باحتلال تدمر مرتين، من دون إطلاق رصاصة عليها، بينما قصفوا الشعب الآمن، ودمّروا ما استطاعوا تدميره من الجيش الحر، بينما لعبت فزّاعة "داعش" دورا مهما في تسويغ حربهم ضد السوريين، وفي المحافظة على التنظيم الإرهابي في الشمال البعيد، حيث أقام "دولة"، ونشر قواته الرئيسة، لكن الروس أبقوا عليه ليكون أداة مساومة مع واشنطن وأنقرة المتهمتين روسيا بدعمه.
لا حاجة لأدلة تؤكد تعاون حزب الله وإيران مع "داعش" وجبهة النصرة، بعد فضيحة إخراج مسلحي التنظيمين من البقاع بحافلات مكيفة إلى دير الزور، تحيط بهما من دون خجل حراسات حسن نصر الله وراياته، وهو الذي لطالما زعم أنه غزا سورية لمقاتلة التكفيريين، ولمنعهم من اختراق لبنان.
وحين استسلم هؤلاء بعد معركة تهريجية فضحها الإعلام اللبناني، أوصلهم بأمان وحرص إلى حيث يستطيعون استئناف "إرهابهم" ضد الجيش الحر والشعب السوري. وعندما حالت واشنطن دون بلوغهم غرضهم، أصدرت الخارجية الايرانية بيانا يتباكى على حقوق الإنسان، ويطالب بفك "الحصار" عن الأطفال والنساء المحتجزين في الصحراء، فاستجابت واشنطن لنداء الإنسانية، ودموع الغفران في مآقي عسكرها الذي يستميت للقضاء على "إرهاب داعش".
يفضح هذا الموقف الموحّد من "داعش" وجود سياسات أميركية/ روسية/ إيرانية/ حزب اللاهية تسمح لمقاتليها بالإفلات من الموت والأسر، في سورية والعراق، حيث بطش "الحشد الشعبي" بالآمنين من العراقيين، وترك الدواعش يغادرون الموصل وتلعفر إلى سورية، بينما سمح الأميركيون بمغادرة معظم دواعش سورية إلى العراق! ألا تلقي هذه الوقائع الأضواء على هوية "داعش" شركة مساهمة أسستها مخابرات دولية، تنقذ اليوم مندوبيها فيها، وتحافظ على "التنظيم" لأنه إرهابي.
قتل الاميركيون والروس والإيرانيون عشرات آلاف السوريين، وخاض الأسد حربا منظمة، بمعونة طهران وموسكو ضد شعبه، بحجة الحرب على إرهابٍ أخرج قادته من سجونه، وأسهمت مخابراته في تنفيذ عديد من عملياته. وعندما لاحت فرصة القضاء عليه، سارع الجميع إلى إنقاذه وإعادته إلى السرية، ليستخدموه من جديد، في حروب أخرى ضد "إرهاب داعش"، الذي نجحت الحرب ضده إلى درجة مكّنته من الانتشار والقتال في بلدان عديدة في آسيا وأفريقيا. .. مات الإرهاب، عاش "داعش".
حاصرتنا حلب حُرةً ومحاصرةً ومحتلةً فبكيناها فرحًا حينًا وحزنًا وحرقةً حينًا ولوعةً وانكسارًا أحياناً، ومن بعدها نحن ندور حولنا باضطرابٍ كعُبّادٍ أُخبروا أنّ النار والسخط حتم عليهم بذنبٍ ارتكبه الآخرون. هُزمنا بغباء آخرينَ وتآمرُ آخرينَ غيرهم كما هزمنا بعجزنا وتخاذل من بذلوا لنا الأيمانَ أنّهم أصدقاؤنا الأوفياءُ؛ هزمنا بنا بقهرنا وبكل ما جنته يدانا من ثقةٍ في غير موضعها وخلافٍ ليس أوانه، وبقي في حلب وخارجها صوتُنا يتيمًا بالشوارع شوارع اللجوء وشوارع حلب القابعة تحت مرمى النار والقلب والحسرة، يُنادوننا منها ونجيبهم بصرخاتنا ودموعنا وعجزنا الممتد منهم إلينا ومنا إليهم، بقايا إرادة وثورة وثأر يتجذر فينا، وينخر القلب والروح.
مجزرة في "بستان القصر" فأخرى في "المشهد" تليها أخرى مروّعةٌ في "الصاخور" ومثلها في "طريق الباب" وكذلك في "الزبدية" وهكذا نحفظُ أسماءَ أحيائها من أسماء مجازرها وترسمُ جغرافيا المدينة دماءُ الشهداء وأشلاءُ من بقوا تحت الأنقاضِ لا يريدون الرّحيل وعلى حجارتها ذُبحوا ولم يقولوا نعم؛ هؤلاء هم يا درويش القصيدة من قالوا بأشلائهم المذبوحة على حجارتها:
"و لو أنّا على حجرٍ ذُبحنا"
لن نغادر ساحةَ الصّمت التي سوّت أياديكم
سنفديها ونفديكُم
مراكبُنا هنا احترقت
وخيّمنا على الرّيح التي اختنقَت هنا فيكم
ولو صعدت جيوشُ الأرض هذا الحائط البشريّ
لن نرتدّ عن جغرافيا دمكم.
مراكبنا هنا احترقت
ومنكم؛ من ذراعٍ لن تعانقنا
سنبني جسرنَا فيكم
شوتنا الشمس
أدمتنا عظام صدوركم
حفّت مفاصلنا منافيكم
"ولو أنّا على حجر ذبحنا"
لن نقول" نعم"
فمن دمنَا إلى دمنَا حدود الأرض
من دمنا إلى دمنا
سماءُ عيونكم وحقول أيديكم
نناديكم
فيرتدّ الصّدى بلدا
نناديكم
فيرتدّ الصّدى جسدا
وشبرًا فشبرًا سُلبت منا الأرض منذ سنة بالتّمام واقتُلعنا منها بذورَ حرية، وعطشى كرامة وعدالة، تحوّلنا ببطشِ أنذالِ العصر من مقاتلين مدافعين عن الفكرةِ والأرض والعرض إلى مناشدي ضمائر الإنسانية المعدومة أن تلفّ ما بقيَ منّا هناك بتحنانها، فهل جرّبت أن تكون مقاتلًا عاجزًا عن ردّ صواريخ تتهاطل على أهلك؟!
طوينا اليومَ عامًا قاتمًا غرباء بلا حلب، حاملين جراحًا دامية ولا أُفق، كان آخر العهد صورَ باصاتٍ خضراء مثقلة بعرق وقلق الرجل الستيني وراء بسطته يبيع ما يتيسر ليتم تعففه، ومتزاحمة بضوضاء عائلة استُشهدت إلا واحدًا يضج رأسه بحواراتها، باصاتٍ تتكدّس فيها حقائب المغادرين، مملوءة بدمعة أمٍّ مكلومة وحنوّ أبٍ مفقود وعيون أخٍ شهيد بذكريات للزمن القادم من زمانٍ صنعنا على عينه خائبين بحسرةٍ لا نكاد نحملها، وصوت أجراس يرتفع في كل ناحية من ارتطام مفاتيح البيوت المتروكة بعضها ببعض، شيء واحد خيّم على المكان صمتُ المقاتلين الثقيل، وحده ما لم نستطع عليه صبرًا.
"لم نستسلم رغبةً ولم نتباكَ ضعفًا وذلًّا" بهذا سنخبر أبناءنا حمّالي الثأر ووهج الثورة؛ أننا احترقنا اختيارًا وأنفقنا أعمارنا وشبابنا وصحتنا وأعصابنا طوعًا ورغبةً، وأننا كنّا بحلب ولها كما يكون الثائر ثباتًا وتحمّلًا في سبيل الأرض والحرية والكرامة فلمَّا ننتصر لكنَّنا أيضًا لم نهزم، من قال إنه علينا أن ننتصر لنكون؟
نحن كُنّا لمّا سلكنا طريق الثورة وعشنا تبعاتها واحتملنا آثارها فينا وبنا وبأهلينا الأولين، وأوقدنا من أعمارنا وأضلاعنا قبسًا لم يغلبه ظُلم اللّحظة وظلامها، كنّا لمّا آمنّا أنّ الكلمة تردّ الحق، وأن صرخة في الساحة تزلزل عرش المتألّهين على كراسي الحكم، كنّا لمّا فتحنا صدورًا عارية للدبابة والرصاص، كنّا لما غنّينا لشهدائنا سكابا وعتابا، كنّا لمّا حملنا في ذواكرنا دموع أمهاتنا وفزع آبائنا ولمّا لاحقتنا وجوههم المكتهلة في المنام واليقظة في الوطن والغربة، كنّا لمّا قررنا أن السلاح قد يعيننا على حقنا ويطفئ دماء إخوتنا الشهداء الملتهبة فينا، كنا لما خذلنا الآخرون ولم نترك المعركة حتى آخر رصاصة، كنّا لما تكورنا في زوايانا يتامى وطنٍ وأهل، كنّا لمّا لم يمنعنا عجزنا عن تكرار الوقوف والصراخ والهتاف، كنّا لما رأينا أعداءنا يحتفلون على أرض حلب ويرقصون ولكننا لم نفقد عقلنا ذهولًا، وكنّا لمّا خسرنا الأرض والأرواح ولم نزدد بالثورة إلا إيمانًا، كنّا لمّا لم ننتظر النصر لنكون، كنّا لما بكينا وغنّى الآخرون؛ كنَّا ومازلنا وسنبقى حلبٌ قصدنا وإليها السبيل.
في عام 1920 قام المجلس الأعلى للحلفاء، أي المنتصرين، في الحرب العالمية الأولى بعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا لاقتسام تركة الرجل المريض، الذي خسر الحرب: السلطنة العثمانية. ومما ترك الرجل المريض: بلاد الشام، أي العراق وسورية الكبرى.
عقد هذا المؤتمر على عجالة برعاية أكبر دولتين استعماريتين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، إثر فشل مؤتمر باريس، ورفض الولايات المتحدة فرض هيمنة الدولتين على منطقة الشرق الأوسط، ومقاومة العرب لسياسة الهيمنة الأنكلو فرنسية، والمطالبة بالاستقلال التام وتنصيب الملك فيصل ملكا على سورية.
وقد استغلت الدولتان غياب الولايات المتحدة بعودة الرئيس وودرو ويلسون إلى واشنطن، واتخاذ سياسة العزلة الاطلسية لعقد هذا المؤتمر، لتمكين الدولتين الاستعماريتين من تنفيذ مخططاتهما الاستعمارية التي بدأت مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
في هذا المؤتمر بحث المؤتمرون نتائج معاهدة سيفر، التي حددت مستقبل سورية والعراق. والمستقبل الذي رسم بالمقص على الخريطة الشرق أوسطية، قسّم سورية الكبرى إلى أربعة أقسام: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وتم وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.
بعد أقل من شهر قام السوريون بعقد مؤتمرهم لرفض مقررات مؤتمر سان ريمو، وإعلان استقلال سورية الكبرى، ورفض معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور. في الرابع والعشرين من يوليو من العام نفسه غزا الجيش الفرنسي سورية بقيادة الجنرال هنري غورو فتصدى له الجيش السوري بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون، حيث استشهد العظمة واستطاع الجيش الفرنسي غزو سورية والسيطرة عليها، وقام بتقسيمها إلى خمس مناطق على أساس طائفي. على إثرها اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان الأطرش في جبل الدروز، وحسن الخراط في دمشق وغوطتها، وصالح العلي في جبال العلويين، وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية (هذه الثورة أكدت على وحدة الشعب السوري بكل مكوناته) حدث كل ذلك أمام نظر الولايات المتحدة الامريكية وعصبة الأمم. ولم يتمكن السوريون من نيل استقلالهم إلا عام 1946 بعد مخاض عسير وانتفاضات متتابعة ضد المحتل الفرنسي.
اليوم وبعد قرن كامل تقريبا يعيد التاريخ نفسه مع تغير القوى الفاعلة والغازية، فالشعب السوري في ثورة ضد نظام حكم طائفي تسلطي أسري، يجثم فوق صدره منذ أربعة عقود ونيف، وكاد النظام الأسدي يتهاوى تحت ضربات المعارضة قبل أن يستنجد الوريث بشار الاسد بحليفه الايراني أولا، الذي سرعان ما أسعفه بميليشيات حزب الله وميليشيات طائفية لبنانية وافغانية وباكستانية وايرانية ثم عراقية، ومع كل هذه الحشود الميليشياوية الطائفية التي حاولت وأد الثورة بارتكابها أبشع المجازر بحق الشعب السوري، لم تتمكن من إخماد الثورة الشعبية التي كادت أن تنتصر على الجميع وتسقط نظام الاستبداد.ولم يعد أمام الوريث سوى الاستنجاد بالحليف الروسي، وبعد حوالي سنتين من تدخل روسيا العسكري، خاصة بسلاحه الجوي ومختلف اسلحته الفتاكة التي قامت بتدمير المدن السورية وقتل آلاف المدنيين تحت مسمى «محاربة الإرهاب».
استطاعت روسيا فرض نفسها كدولة محتلة تقود نظاما فاشلا مستسلما لإملاءاتها، تغزو سورية ليس لإنقاذ نظام يقتل شعبه فحسب، بل للهيمنة على سورية والسيطرة على قرارها السياسي، في غياب تام للولايات المتحدة الامريكية، بعد اتفاق سري بين دونالد ترامب الذي تخلى عن الدور الامريكي في الشرق الأوسط، وفلاديمير بوتين صاحب الشهية الكبيرة لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من سورية الجريحة، وقد رافقت العملية العسكرية عملية سياسية موازية بدأت باجتماعات أستانة التي ضمت وفدا معارضا من الفصائل المقاتلة، ووفدا من نظام الأسد بالتنسيق مع ستيفان ديمستورا، والتي تمخضت عن اتفاقات ما سمي «بمناطق خفض التوتر»، التي شملت اربع مناطق: ادلب، درعا، حمص، الغوطة الشرقية، وهذه الاتفاقات كانت حبرا على ورق، هدفها المعلن شبه وقف لإطلاق النار، وهدفها المضمر هو كسب الوقت لتحقيق انتصارات جديدة في المناطق المستعصية حتى الآن، فالغارات الأسدية ـ الروسية بقيت مستمرة تحصد عشرات الضحايا يوميا، بعد سبع جولات من هذه المحادثات، حيث دعت روسيا في ختام الجولة السابعة إلى مؤتمر حوار وطني في سوتشي، إلا أن الائتلاف الوطني وهيئة اركان الجيش السوري الحر رفضا المشاركة في المؤتمر، الذي يعتبر محاولة للالتفاف على مقررات محادثات جنيف.
وفي الثاني والعشرين من نوفمبر عقد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية التي شملت منصة القاهرة ومنصة موسكو بعد استقالة الرئيس السابق للهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب ومجموعة من الهيئة، بعد تسريبات عن ضغوط سعودية للقبول بفترة انتقالية لا تتم فيها المطالبة برحيل بشار الأسد، لكن في البيان الختامي للهيئة العليا للمفاوضات أكدت على تمسكها برحيل الأسد وزمرته كشرط اساسي لبدء المرحلة الانتقالية.
بالأمس وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة إلى سورية وحط في قاعدة حميميم الروسية التي باتت أرضا روسية، ودعي بشار الأسد لحضور مراسم تهنئة الجنود الروس كشاهد على انتصارهم الأسطوري على « الإرهاب» بعد قتل آلاف السوريين وتدمير مدنهم من قبل القاذفات السورية، وتجربة كل أسلحة الترسانة الروسية في مشافيهم وأسواقهم ومدارسهم، ولم يسمح له حتى السير بمحاذاة الرئيس المنتصر، بما يعني أن سورية لم تعد ملكا لآل الأسد فملكيتها اليوم تتبع للمنتصر ككل المنتصرين في الحروب. فالأسد أدخل الدب الروسي إلى كرمه ولن يخرج منه، وفي الوقت الذي يعلن فيه بوتين انسحاب قواته «اللفظي» يقوم بتوسيع قاعدة طرطوس البحرية، فهذه القاعدة حلم بها قياصرة روسيا قبله للوصول إلى المياه الدافئة ولن يخرج منها. هذا من ناحية الشق العسكري، أما الشق السياسي الذي يحضره المطبخ الروسي في سوتشي، تحت مسمى « الحوار الوطني السوري» الذي فرض فيه منصة موسكو، ومنصة القاهرة، ودعوة مئات الأشخاص الذين لا يمثلون الشعب السوري، كي يتم إغراق المعارضة، والالتفاف على محادثات جنيف وتهميشها، وتعويم بشار الأسد، وشرعنة الانتداب الجديد على سورية بعد مئة سنة تقريبا من الانتداب الفرنسي: الانتداب الروسي.
الخناق يضيق على إيران، فتقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أدان تسليح إيران لميليشيا الحوثي، وقد عقدت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي مؤتمراً صحافياً الخميس الماضي، في إحدى القواعد العسكرية الأميركية قدمت فيه أدلة واضحة على إدانة النظام الثوري الإيراني بدعم مباشر بالأسلحة والصواريخ الباليستية التي تستهدف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وعرضت لأول مرة حطام الصاروخ الذي استهدف مطار الملك خالد الدولي بالرياض، مع عددٍ من الأدلة الأخرى.
الخناق يضيق على ميليشيا الحوثي، الذراع العسكرية للحرس الثوري الإيراني في اليمن، والميليشيات الإيرانية في لبنان وفي سوريا وفي العراق ستواجه نفس المصير، وإن اختلفت السبل لتحقيق ذلك كله حسب اختلاف المعطيات وحجم المتغيرات، ولكن السلاح خارج الدولة سيتم نزعه ضمن استراتيجية دولية يتم بناؤها.
الإدارة الأميركية تبنّت بنفسها الدعوة لتحالفٍ دولي لإدانة إيران وإيضاح تهديداتها للأمن الإقليمي والدولي، وهي تأخذ موقفاً تصعيدياً ضد إيران وتسعى لإقناع حلفائها من الدول الأوروبية بحقيقة خطورة إيران الراعية للإرهاب والطائفية والفوضى.
وهي خطوة جديدة من هذه الإدارة الأميركية الواعية بالخطر الإيراني بعد موقفها من الاتفاق النووي مع إيران، وهي تتجه إلى تشكيل تحالفٍ دولي يواجه كل مخاطر إيران وسياساتها التخريبية واستراتيجيتها الإرهابية في المنطقة والعالم، وهو توجه يرجع إلى مصلحة أميركا نفسها ومصلحة دول العام أجمع، ولئن أعشت بعض المصالح الآنية بعض العواصم الأوروبية عن رؤية الخطر الذي تمثله إيران، فقد حان الوقت لتستفيق.
حين تتم تعرية المشروع الإيراني ومجابهته دولياً فلن يكون بيد حلفائها الإقليميين الداعمين للإرهاب في إحدى الدول الإقليمية وفي قطر إلا التراجع عن دعم الإرهاب وميليشياته وتنظيماته وجماعته، من «الإخوان المسلمين» إلى «داعش»، ومن «حزب الله» اللبناني إلى ميليشيا الحوثي.
لم يكن الوصول إلى نظامٍ دولي جديدٍ في العالم أمراً سهلاً بأي حالٍ، فمنذ معاهدة وستفاليا مروراً بعصبة الأمم وصولاً إلى الأمم المتحدة، كانت الرحلة مليئة بالنزاعات والصراعات، والمعارك والحروب، منها حربان عالميتان، ومخطئ من يظن أن مواجهة إيران وإعادتها للخضوع مجدداً للنظام الدولي ستكون سهلة، فكثيرٌ من السلام والاستقرار الذي يعيشه العالم اليوم صنعته الحروب والآلام.
خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية لا يتوقف على بعض مطارات أوروبا، كما تحدثت هيلي في مؤتمرها الصحافي، بل هو يصل إلى العديد من العواصم في شرق آسيا والعديد من المدن الصينية ودول آسيا الوسطى وأجزاء من روسيا، فضلاً عن العديد من الدول العربية ودول المنطقة.
كيف تفكر قيادات إيران؟ وكيف تفكر قيادات «الإخوان المسلمين»؟ وكيف تفكر قيادات كل جماعات الإسلام السياسي؟ إنهم يفكرون في القتال والحروب الدائمة للسيطرة السياسية باستخدام جميع أنواع الأسلحة بلا استثناء، واستخدام كل المحرمات الدينية والسياسية وغيرها لتحقيق أهدافهم، وهم ينتظرون مخلّصاً يمهدون له آيديولوجياً، وهؤلاء، كما قال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، لا يمكن التفاهم معهم.
فمن ذلك، القدرة على التحول السريع، والرهان على قلة الوعي والعلم، مع حملات التحشيد وزرع الاتهامات والتشكيك في الدولة والقيادة، كلها أدوات سياسية أتقنتها قيادات جماعات الإسلام السياسي، السُّنِّي منها والشيعي، مع قدرة عجيبة على التحول غير المنطقي وغير الموضوعي بين خطابين متناقضين في وقتٍ واحدٍ تقريباً، خطاب الرصاص بما يستدعيه من عنفوان القوة والتحدي الفكري والواقعي والعملي، وخطاب المظلومية والحزن والألم والانكسار.
وبالنظر إلى أصول الخطابات، يمكن للمتابع رصد كثيرٍ من التشابه بين الخطابات القومية بأنواعها واليسارية بأصنافها، وخطابات الإسلام السياسي بتصنيفاتها، سُنية كانت أم شيعية، في التعامل مع اللحظة الراهنة والواقع المعيش تجاه الملفات الكبرى في المنطقة وتطوراتها، لأن هذه الخطابات تصدر عن منابع متشابهة مهما بدا بينها من اختلافات أو تعارضات.
تطرح هذه الخطابات مواقف متناقضة في هذه المرحلة التي نعيشها اليوم، والتناقض مع استحالة تبريره منطقياً هو مسلكٌ سياسي مفيدٌ في بعض الأحيان وبالذات في لحظات الأزمات المهمة، ولفهم ما يجري، يمكن طرح أسئلة بالغة الأهمية في هذه المرحلة، من مثل: لماذا تُظهر جماعاتٌ فلسطينية بغضاء غير مسبوقة وغير مبررة للمملكة العربية السعودية، الداعم الأكبر لقضية فلسطين والقدس؟ ولماذا تتغول ميليشيا الحوثي في اليمن؟ وتدعمها قطر بكل ما تمتلك من مالٍ؟ وتدعمها تركيا وتزايد في قضية هي أكبر الخاسرين فيها بعلاقاتها المستمرة مع الحكومة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً بل وعسكرياً؟
التناقض يشكل قوة أحياناً، وإعجاز الناس عن الفهم ينطلق من الشعور بكثرة الأتباع وجهلهم، وإحكام السيطرة عليهم، والشعور الدائم باعتقال أذهانهم، وهو أمرٌ ليس سهلاً بحالٍ، ولكنه بالغ التأثير، وهو أسلوبٌ استخدمه هتلر وموسوليني وغيرهما، ومن هنا جاء تشبيه الأمير محمد بن سلمان لخامنئي بهتلر، وهو ما لم يفهمه بعض الدول الأوروبية بعد.
مَن الذي قضى على «داعش»، حيث أبشع نماذج خطابات الرصاص السني؟ ولمن يتم منح القدرة على القضاء عليه في العراق وسوريا؟ هل للحشد الشعبي الطائفي الإرهابي وخطاب الرصاص الشيعي؟ أم لقوات الدولة العراقية وقيادة وضربات التحالف الدولي؟ أم لتخاذل أوباما السابق؟ ثم مَن الذي سيقضي على الحوثيين في اليمن، حيث مثالٌ صارخٌ على خطاب الرصاص والتوسع والنفوذ الإيراني؟
فتِّشوا عن هذه الخطابات، وهذه المقولات، وهؤلاء الرموز الذين يطلقونها، وستجدونها جميعاً تصب في مصلحة الأعداء والخصوم، يحزنون لما يسرّ السعودية ودول الخليج والدول العربية، ويفرحون لما يضرها ويزعزع أمنها واستقرارها.
المحزونون لتغير الأوضاع، وإعادة ترتيب توازنات القوى في المنطقة هم بكل صراحة أتباع الوضع الماضي، الوضع الذي أضاع من تاريخنا وتراثنا وثقافتنا كل جميلٍ، وهم الذين وضعوا قواعد وأسس ومعايير، خرّبت البلدان العربية، ودمرت شعوبها، على مدى عقودٍ، كلّها كانت تتغذى على أزمات المنطقة وتستغلها لمصالح شخصية أو حزبية أو آيديولوجية، كانت جميعاً وبالاً. أخيراً، لم تزل تتشكل في المنطقة تحركات كبرى تقودها السعودية وحلفاؤها من الدول العربية والدول المسلمة، وحلفاؤها الدوليون غرباً وشرقاً، وهي تسعى جهدها للإمساك بخيوط اللعبة الإقليمية مع تجاوز توازنات الماضي، والعمل الواقعي في الحاضر، وبناء مستقبلٍ أفضل، ولكل متابعٍ أن يفتش في كل الملفات ليكتشف هذه الحقيقة.
قالت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته قبل بضعة أيام إن بلادها جمعت أدلة دامغة على أن الصاروخ الذي أطلقته جماعة "أنصار الله"- الحوثي ضد الرياض سابقاً يحمل بصمات إيران، وأكدت أنّ تجميع وتحليل الأجزاء التي تم العثور عليها توصل الى استنتاج واحد مفاده أن إيران قامت بتزويد الحوثيين بالصاروخ لاستهداف السعودية، وأنه ما من شك في هذا الأمر.
وأنكرت إيران هذا الاتهام ونفت أن تكون قد زودت الحوثيين بصواريخ، واتهمت بعثة إيران في الأمم واشنطن بفبركة أدلة، وقام وزير الخارجية الايراني جواد ظريف بعدها باستخدام صورة لنيكي هيلي في تغريدة له الى جانب صورة لوزير الخارجية الامريكية السابق كولن باول وهو يشرح للعالم حينها بأن هناك أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، في محاولة للإيحاء كذلك بأن واشنطن تحاول تكرار نفس الأمر الذي جرى في العراق مع إيران.
بغض النظر عما قيل أعلاه، هناك اعتقاد راسخ بأن النظام الإيراني قام بالفعل بتزويد الحوثيين بهذه الأسلحة، لكن أساس النقاش لا يجب أن يرتبط بهذه النقطة بالتحديد، وإنما بمسائل أخرى يراد تشتيت الانتباه عنها، والمسألة الأولى تتعلق بمحاولة استخدام إيران للتاريخ من أجل تزوير وعي الناس حاليا.
وزير الخارجية جواد ظريف يريد أن يذكّر الناس بأنّ واشنطن كاذبة ومراوغة وأنّها تحضّر ربما للإيقاع بإيران، لكنه لا يريد منهم أن يتذكّروا أنّ طهران قامت بمساعدة واشنطن على غزو العراق، وأنّها ساهمت في توحيد المعارضة الشيعية آنذاك في اجتماعات متعددة تمهيدا لاستلام السلطة، وأنّها دفعت بميليشيات بدر التي أنشأتها ودربتها وسلحتها من أجل الدخول إلى بغداد مع المحتّلين، والأهم من كل ذلك، أنّ ظريف لا يريد تذكير الناس بأنّ نظام الولي الفقيه ورث العراق بالكامل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بسبب هذا الموقف الأمريكي.
النقطة الأخرى تتعلق بموقف إدارة ترمب من النظام الإيراني، إذا كانت مندوبة الولايات المتّحدة في الأمم المتحدة تعتقد حقّاً بأنّ لدى إدارة ترمب أدلة دامغة على تزويد طهران للحوثيين بالسلاح وعلى أن طهران تخرق القرارات الأممية والأمريكية، ليس على مستوى الصواريخ والتسلح فحسب، وإنما على مستويات متعددة أخرى، فما الذي يمنع واشنطن من اتخاذ قرار بمواجهة إيران؟
من المؤشرات السلبية التي توحي أن إدارة ترمب قد تظل تراوح مكانها على المستوى العملي، وأنه باستثناء بعض التصريحات، وبعض الخطوات التقليدية المعروفة كالعقوبات، لن تقوم على الأرجح بعمل فعلي مؤثر ضد إيران، وهو مضمون المؤتمر الصحفي لنيكي هيلي والذي دعت فيه إلى تعاون العالم من أجل هزيمة الخطر الايراني وإلى تشكيل تحالف دولي من أجل مواجهة إيران.
ما الذي يمنع واشنطن من أن تأخذ زمام المبادرة وتواجه إيران بكل السبل المتاحة؟ لقد أثبت ترمب قبل أيام قليلة فقط من هذا المؤتمر، أن الولايات المتّحدة عندما تريد أن تفعل شيئا بمعزل عن رأي العالم أجمع به تستطيع أن تفعله لوحدها، بدليل القرار المتعلق بالقدس، والذي حذرت معظم دول العالم من عواقبه إذا ما اتخذته الإدارة الأمريكية، وبالرغم من ذلك مضى ترمب في طريقة غير آبه بأحد.
إيران ليس بريئة بالتأكيد، وهي تستغل كل يوم الأخطاء التي ترتكب من قبل خصومها والمساحة الفارغة التي يتركها انسحابهم أو انكفاؤهم لتعزز من نفوذها ودورها في المنطقة، وبالرغم من الضجيج الذي نسمعه هنا أو هناك عن الاستعداد لمواجهتها، فإن هذا الأمر سيبقى على الأرجح مجرد كلام ما لم نشهد تغيرا جذريا في سلوك واشنطن وحلفائها العاجزين.
عارض سوريون ترويج فيلم "الصرخة المكبوتة" الذي أنجزته وعرضته القناة التلفزية الفرنسية الحكومية (الثانية)، عن عمليات اغتصاب تعرّضت لها نساء سوريات من أجهزة نظام بشار الأسد. ويرى أصحاب هذا الموقف أن الفيلم ذو مفعول سلبي على صورة المرأة السورية، ولن يكون له أي دورٍ في تحريك العدالة الدولية، من أجل محاكمة الجناة والاقتصاص منهم. ويقول هؤلاء إن هذه الجريمة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة لنظامٍ مكون من فريق محترفٍ للجرائم ضد الإنسانية، وهو يمارسها بدون حرج أو خوف، ليس اليوم فقط، وإنما منذ زمن طويل.
معروفٌ أن نظام الأسد قام على الجريمة، وعاش واستمر عليها. ومن جريمة إلى أخرى، صار لديه جهاز من القتلة المحترفين الذين تخصّصوا في فنون السيطرة على المجتمع السوري، وتطويعه كي لا يتحرّك. ولذلك استطاع، خلال أعوام الثورة، التكيف مع الانتفاضة العامة، بابتكار أساليب من العنف للدفاع عن نفسه، لم تكن في حساب أحد، حتى تفوّق في ممارسة الرعب على سائر الأنظمة التي حكمت شعوبها بالحديد والنار.
ويستدعي النقاش الدائر بشأن الشريط التلفزيوني عدة ملاحظات: الأولى، أن استباحة النساء سلاح قذر جرّبه النظام قبل مجازر حماة وحلب وبعدها، في أوائل الثمانينات، من أجل تحطيم البنية العامة للمجتمع، وإخماد الانتفاضة الشعبية في المدينتين. وهناك شهاداتٌ، القليل منها مسجّل، عن الاستخدام المنهجي لهذا الفعل المشين، من أجل إجبار المعارضين على إلقاء سلاحهم والاستسلام، وتقديم اعترافات عن عملهم السياسي وتنظيماتهم. ويروي عسكريون سابقون أنهم كانوا يتلقون أوامر من القيادات العليا بضرورة اغتصاب جميع النساء في البيوت التي تتعرّض للمداهمة، وأن تجري العمليات بحضور الأزواج والإخوة والأبناء والآباء.
والملاحظة الثانية، إن عمليات الاغتصاب التي شملت النساء يُراد، في جانبٍ منها، شطب المرأة السورية من الثورة التي لم تكن لتستمر إلى اليوم، لولا القدرة الهائلة على الصبر والعطاء والتحمل لدى النساء السوريات. وكل من سوف يقوم بدراسة الثورة ذات يوم، سيجد أنها لم تكن لتستمر، لولا الخط الدفاعي الذي وفرته النساء، لكي لا تنهزم الثورة في أشهرها الأولى. الأمهات والزوجات والأخوات والصديقات كنَّ مع الرجال في كل موقع، ولعبن دوراً كبيراً في تماسك مجتمع الثورة، وحمايته من الانهيار، سواء في الداخل أو بلدان الهجرة. وتتحمل النساء الأرامل مسؤولية مئات آلاف الأطفال الذين استشهد آباؤهم، ولم يعد لهم من معيل غير أمهاتهم اللاتي اضطر قسم كبير منهن إلى الهرب إلى الخارج من أجل حماية الأطفال.
الملاحظة الثالثة، إن الشهادة على هذا الوضع الصعب تساعد بعض الضحايا على تجاوز ما هو مكتوم من حمل ثقيل، ووضعه أمام الآخرين، بهدف رؤية الضحية داخل محيط شرطها القاسي. ويمكن إدراك أهمية هذه النقطة من خلال ردود الفعل التي عبر عنها رجالٌ تهيبوا مشاهدة الشريط، ثم عادوا لمشاهدته أكثر من مرة، لأنه وضعهم أمام صورةٍ عاريةٍ للوضع السوري اليوم.
الملاحظة الرابعة، إن كل جرائم نظام الأسد الأب والابن حصلت على تغطيةٍ دولية، ولم تخضع للحساب الذي تستحقه وفق القانون الدولي، ولو لم يسكت العالم عن جريمتي حلب وحماة في الثمانينات، لما تجرّأ النظام على ارتكاب جرائم اليوم. ولو لم يتكفّل الروس بتخليص النظام من تبعات استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في أغسطس/ آب عام 2013 لما كان النظام على قيد الحياة، لكن عدم محاسبته لا يعني سقوط حقوق الضحايا، ودور الفيلم أساسي في هذا المضمار.
بعد هذا الشريط، لم تعد صرخة الضحايا من السوريات والسوريين مكتومةً، بل باتت مدويةً في كل مكان، ولن يقلل من ثقلها إفلات النظام المجرم من العقاب حتى إشعار آخر.
أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقاء سوتشي الذي جمعه بالرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، أن مستلزمات الحل السياسي السلمي في سورية غدت متوفرةً، بعد قضاء جيش بلاده على "داعش"، وخفض التصعيد في أربع مناطق. ويبين هذا الإعلان ثقة بوتين بأن جميع خيوط الصراع غدت في يده، بما في ذلك خيط أميركا التي حذّرها سياسي روسي من أن قوة جويةً رادعةً ستبقى في سورية، لمنع واشنطن من تهديد نظام الأسد.
هل سينجح الرئيس الروسي في فرض حلوله المخالفة لوثيقة جنيف التي كانت بلاده قد وافقت عليها، وشاركت في صياغتها ووافقت عليها في مجلس الأمن. ثم أخذت روسيا ترى الحل انطلاقا من هذه الصراعات التي بلورت استراتيجية جديدة للانخراط فيه، عبر إعادة بناء قواتها المسلحة واستخدامها لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في الساحة الدولية، ردعت بها جارتها جورجيا، وتوسعت في أوكرانيا، حيث استولت على شبه جزيرة القرم، وغزت سورية، من ضمن خطةٍ أعلنها بوتين، لاستعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابقة، وإجراء تسوياتٍ مع أميركا، تضع حدا لخلافاتٍ كبرى معها، تستعيد روسيا من خلالها مكانتها دولة عظمى في نظام دولي جديد هي قطبه الثاني.
منذ الغزو الروسي لسورية، تركزت سياسات موسكو على بلورة قراءة للقرارات الدولية، تقوّض ما أعطته للشعب السوري من حقوق، وفي مقدمها التخلص من الأسدية، شخوصا ونظاما، وتستبدلها بقراءة مجافية لها نصا وروحا، تفرضها قوة متفوّقة ترابط في قواعد عسكرية سورية، تساعدها لاحقا على بناء نظام أمن إقليمي، لن يكون من السهل إقامته، في حال نافستها دول أخرى، اقليمية أو عظمى، على سورية، أو تمكنت من تقييد دورها فيها.
والحال إن هذه المنافسة قائمة، وتمارسها إيران وأميركا: الأولى بما تنتهجه من سياسات توسع إقليمي، سورية أهم حلقاته، وتمتلكه من قوات عسكرية كبيرة فيها، جيدة التسليح والتدريب، تتوضع في مناطق واسعة منها وبجوارها، وتتوسع نحو مقربةٍ من حدود الجولان. والثانية بوجودها العسكري البري والجوي في الشمال السوري الذي يعادل الوجود الروسي في سورية، إن لم يتفوق عليه.
لا تكفي ثقة بوتين الكلامية بقدرته على اللعب بخيوط إيران وأميركا، والانفراد بالغنيمة السورية. هناك وقائع ميدانية تؤكد أن التطور لن يذهب في الاتجاه الذي يريده، وأن عقد لقاءاتٍ مع قيادات إيرانية لا يعني أنها استسلمت له، والدليل تدفق قوات من الجيش الإيراني على سورية، بعد نهاية الحرب ضد "داعش"، وصدور تصريحاتٍ عن أعلى المستويات الأمنية في طهران، تؤكد أنها التي هزمت "داعش"، ولن تفرّط بانتصارها ودلالاته المذهبية فوق السياسية، ولن تتخلى عنها أو تفرط في حمايتها، بصفتيها الدينية والدنيوية، المتجسدتين في منجز سورية الذي يعد حلقة حاسمة في معركة تاريخية، حلقتها القادمة ضد الصهاينة الذين يستحقون العقاب، لأنهم يحولون دون عودة صاحب الزمان!
في الشمال، احتلت واشنطن قرابة 30% من أرض سورية، وأقامت في جنوبها الشرقي قواعد أقامت فيها وجودا عسكريا، قال أحد جنرالاتها إنه سيستمر من عشرين إلى ثلاثين سنة. لم تضايق واشنطن موسكو في فترة الصراع العسكري، لكنها لن تسهل مهمتها في مرحلة الحل السياسي، إن كانت تريد الانفراد بها. وبالفعل، فقد أعلنت أنه لن تتم إعادة إعمار سورية، ما دام بشار الأسد في السلطة، لن تنسحب من سورية إذا لم يتفق الحل الروسي مع مصالحها.
بهذه التطورات، ينتقل الصراع من المجال السوري، ويتحول إلى مشكلة إقليمية/ دولية تختلف حساباتها جذريا عن حسابات الغزو الروسي لسورية، وأنماط الصراع التي ستشهدها، بينما يميل الأسد مرة إلى موسكو ليرفع ثمنه إيرانيا، ومرات إلى طهران، ليرغم روسيا على التمسك به في جميع الأحوال والظروف.
كيف سيخرج بوتين من وضع يضمر فخاخا ستستخدم ضده: إيرانيا، إذا حاول إخراج طهران من سورية، أو انحاز إلى سياسات واشنطن ضدها، وأميركيا عندما سيتفاوض بوتين مع واشنطن، ويكتشف أنه لم يمسك بخيوطها، وما لديه من خيوط تعتمد على قوته العسكرية لا تمكّنه من الانفراد بحلٍّ ليست تعقيداته وتشابكاته طوع بنانه، وأن عليه تقديم تنازلاتٍ كي لا تنهار خطته في المنطقة والعالم، بينما لن تتنازل واشنطن عن شيء، أو تدعوه إلى تسوياتٍ، تجعل منه ندّا لها، أو قوة عظمى، بموافقتها.
كانت مرحلة الحرب الأسهل لروسيا. مع الحل السياسي ستبدأ متاعبه التي ستكشف ما إذا كان قادرا على القفز حقا عن خياله، كما يحاول إيهامنا.
ربما لم يكن المسؤولون اليونانيون يتوقعون عندما زارهم رجب طيب أردوغان قبل أيام أن الأخير سيطالب بإعادة النظر في اتفاقية لوزان عام 1923، فالاتفاقية التي رسمت حدود تركيا الحالية ووقعت عليها 11 دولة، مضى عليها قرن من الزمن، ولعل طرح أردوغان هذه الاتفاقية، في شكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، يثير السؤال التالي: هل الهدف هو التطلع إلى استعادة أراض خسرتها تركيا عقب الحرب العالمية الأولى؟ أم لتحسين شروط تركيا في الخلافات الجارية مع الدول المعنية أو حتى لمنع تكرار لوزان ثانية؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن طرح أردوغان لإعادة النظر في اتفاقية لوزان جاء على وقع التطورات التي شهدها العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وسط تلميحات تركية صريحة إلى حقوق تاريخية في الموصل العراقية وشمال سورية، مقروناً بالحديث عن العثمانية الجديدة، حيث لسان حاله يقول إن هذه الاتفاقية لم تكن انتصاراً لتركيا كما كان يقول أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، إذ إن الأخير وأنصاره من بعده، كانوا يقولون إن اتفاقية لوزان هي التي أنقذت تركيا من اتفاقية سيفر التي أقرت في بنودها 62- 63 – 64 على إقامة دولة كردية في جنوب شرقي البلاد، وكذلك على إقامة دولة أرمنية في المنطقة التي تعرف بأرمينيا الغربية والواقعة داخل الأراضي التركية حالياً، فيما يقول أردوغان إن هذه الاتفاقية أدت الى خسارة تركيا مساحات هائلة من الأراضي.
في الواقع، ينبغي القول إن مرحلة ما بعد لوزان انتهت إلى ثلاث قضايا مهمة، على صعيد الحدود الجغرافية للدولة التركية. الأولى: اتفاقية أنقرة عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق، والتي قضت بتبعية الموصل لسيادة العراق الذي كان تحت سلطة الانتداب البريطاني. والثانية: سلخ منطقة لواء الإسكندرون عن سورية عام 1939، وضمها إلى تركيا باتفاق مع سلطة الانتداب الفرنسي. والثالثة: جملة الاتفاقيات التي نظمت الخلافات التي تشوب الحدود التركية – اليونانية ولا سيما في بحر ايجه وحدود المياه الإقليمية وغيرها. وعلى رغم هذه القضايا الشائكة في علاقة تركيا بكل من سورية والعراق واليونان، إلا أنه لم يسبق للمسؤولين الأتراك أن فتحوا باب المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان، إلا في السنوات الأخيرة من حكم حزب العدالة والتنمية وتحديداً عقب وصول أردوغان إلى رئاسة الجمهورية عام 2014.
ولعل حديث أردوغان هذا يحمل دلالات كثيرة،
من أهمها:بغ
1- أن هذا الحديث جاء في ظل تطورات مهمة على الأرض في سورية أوحت في لحظة ما بإمكان إسقاط النظام عسكرياً، قبل أن تنقلب الموازين عقب معركة حلب. ومع أن تركيا خرجت من هذه المعركة خالية الوفاض، إلا أن عملية درع الفرات قبل أكثر من سنتين واليوم عملية إدلب، أعطتا جرعة قوية لأردوغان في فتح باب الوجود التركي في شمال سورية وربما التفكير في ما حصل في شمال قبرص.
2- أن تركيا وبحكم تطور قدراتها وصناعاتها العسكرية، ترى أن جملة التطورات والظروف الجارية في المنطقة تسمح لها بالتحرك لصوغ مستقبل المنطقة من جديد؛ ففي الحالة العراقية طرحت المشاركة في معركة الموصل وأصرت على قاعدتها في بعشيقة على رغم رفض بغداد. وفي قطر، أقامت قاعدة عسكرية على وقع الأزمة الخليجية، وفي الصومال أقامت قاعدة عسكرية. ومع أن الدوافع مختلفة، إلا أنها في الحالة العراقية كثيراً ما اقترنت بالحديث عن إعادة النظر في اتفاقية انقرة عام 1926 بوصفها امتداداً لاتفاقية لوزان وألحقت أراضيَ تركية بالعراق.
3- في الحالة اليونانية تبدو الأمور مختلفة، إذ إن العلاقات بين البلدين تعوم على بحر من العداء التاريخي والخلافات المزمنة، فمن لحظة طرد العثمانيين البيزنطيين من اسطنبول (القسطنطينية) إلى حرب اليونانيين، من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية، وصولاً إلى الخلافات الكثيرة على المياه الإقليمية والقضية القبرصية، ثمة عداء تاريخي وخلافات مزمنة عجزت كل المبادرات التي أجريت حتى الآن عن إقامة علاقات دافئة بحجم الجوار الجغرافي والمصالح المشتركة. وعليه، فإن الأمر هنا يأخذ طابع الصدام الحضاري. وقد بدا هذا الأمر واضحاً، عندما تحدث أردوغان خلال زيارته إلى تراقيا عن التمييز الذي تتعرض له الأقلية المسلمة في اليونان.
4- أن التحركات العسكرية والسياسية التركية هذه تتزامن مع دعوة أردوغان المؤرخين الأتراك مراراً إلى إعادة كتابة التاريخ التركي، خلال حقبة الحرب العالمية الأولى ودراسة الاتفاقيات التي أجريت من جديد، ولعله يريد من وراء دعوته هذه مسح الغبار عن تاريخ تلك المرحلة والخروج بأجندة سياسية لمصلحة رؤيته عام 2023، تلك الرؤية التي تمهد لتركيا جديدة على إرث جمهورية أتاتورك، ومثل هذه الرؤية الجديدة تحمل مقومات (العثمانية الجديدة) كهوية لتركيا بدلاً من الهوية العلمانية الوطنية التي أسسها أتاتورك.
مع إصرار أردوغان على وضع المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان على الأجندة على رغم رفض الدول المعنية، ثمة من يرى أنه يدرك أن التطلع إلى خارج الحدود وإعادة رسم الحدود الجغرافية التي رسمتها الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها؛ فعلى الأقل، إن مثل هذه التطلعات ستقابل برفض روسي وأميركي وأوروبي وإيراني ويوناني وعربي ... وعليه، فإن حديث أردوغان عن لوزان يندرج في إطار سعيه إلى بناء الداخل التركي وفق منظومته الأيديولوجية من جديد، وربما وسيلته إلى ذلك هي رفع شعار منع تكرار لوزان ثانية من بوابة الحديث عن المؤامرة الدائمة ضده.
قال الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن: «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت». لكن مع الاحترام للينكولن، فإن مقولته التاريخية لا تنطبق أبداً على الأقليات في العالم العربي. لماذا؟ لأن التاريخ أثبت أنك تستطيع أن تخدعها، وتضحك عليها، وتستخدمها لأغراضك الرخيصة كل الوقت، وهي مستعدة أن تصدقك، وتتحالف مع الخادعين دائماً وأبداً.
لو عدنا إلى التاريخ قليلاً لوجدنا كيف كان الاستعمار يتاجر بموضوع الأقليات، ويستخدمها كمخلب قط، ومسوغات لتدخله في البلدان التي كان يريد أن يستعمرها. لقد أخبرنا التاريخ بأن المستعمرين كانوا بالإضافة إلى استخدام أكاذيب حقوق الإنسان، وهمروجة عبء الرجل الأبيض، ونشر الحرية والديمقراطية، وتحرير الشعوب من العبودية، والتنوير، كانوا أيضاً يبررون تدخلهم في هذا البلد أو ذاك بأنهم قادمون لحماية الأقليات من ظلم الأكثرية. ولطالما تشدقت روسيا بحماية المسيحيين الأرثوذوكس، وتشدق غيرها من المستعمرين الغربيين كفرنسا بحماية هذه الأقلية أو تلك. والمحزن في الأمر أن ألاعيب الاستعمار كانت تمر بسهولة في أوساط الأقليات، فبدل أن تتعايش تلك الأقليات مع الأكثريات كانت تقع فريسة سهلة في شباك المستعمرين، وتتحول إلى شوكة في خاصرة أبناء جلدتها من الأكثريات بحجة أن المستعمر جاء لحمايتها، مع العلم أن المستعمرين كانوا على الدوام يستخدمون الأقليات كحصان طروادة للهيمنة على هذا البلد أو ذاك ونهب خيراته واضطهاد أكثريته.
ورغم أن الأكثريات في عالمنا العربي عانت كثيراً من تصرفات الأقليات وقبولها بأن تكون أدوات في أيدي المستعمرين لتحقيق مخططاتهم الشيطانية في بلداننا، إلا أنها عادت واستوعبتها في المجتمعات العربية، وضمنت حقوقها رغم خيانة بعضها لأوطانها وسقوطها في الحضن الاستعماري.
ومن الواضح أن الكثير من الأقليات في عالمنا العربي لم يتعلم من التجربة الاستعمارية الحقيرة، بل ظل يطمح للعب دور الخنجر المسموم في صدر البلدان العربية بعد تحررها من الاستعمار. فما أن خرج الاستعمار من بلادنا وحل محله أذنابه من الطواغيت والجنرالات، حتى راح الكثير من الأقليات يعيد نفس الاسطوانة، وذلك بالتحالف مع الطغاة ضد الأكثريات. لقد تمكن أذناب المستعمر من الأنظمة القومجية وغيرها من تمرير نفس اللعبة مع الأقليات، فراح بعض الأنظمة يقدم نفسه للعالم على أنه حامي الأقليات، وذلك كي يدغدغ عواطف المستعمر القديم. لم لا، وقد أثبتت لعبة حماية الأقليات أنها لعبة ناجحة، وبإمكان من يلعبها أن يحقق الكثير من الأهداف من خلالها.
لقد جاء الربيع العربي ليكشف أن الأقليات لم تتعلم أبداً من الحقبة الاستعمارية، لا بل هي متشوقة لتعيد كافة فصولها، لكن هذه المرة بالقبول أن تكون مجرد ألعوبة في أيدي الطواغيت الذين ثارت عليهم شعوبهم بعد عقود من الطغيان. فبدل أن تنضم الأقليات إلى ثورات الأكثرية من أجل الحرية والكرامة، راح الكثير منها يتحالف مع الأنظمة الساقطة والمتساقطة بطريقة تذكرنا بتحالفاتها الوضيعة مع المستعمر ضد أبناء جلدتها. لم تع الأقليات أن الزمن الأول تحول، وأن الأكثريات ستنال حقوقها من الطواغيت أذناب المستعمر عاجلاً أو آجلاً، وأنه من الأفضل للأقليات أن تتحالف مع الأكثريات لا مع من كان يدوسها ويضطهدها، لأن المستقبل للأكثريات مهما طال الزمن.
والمؤلم أكثر أن بعض الأقليات أكل الطعم، وصدق أن الطواغيت الذين ثارت عليهم الشعوب هم حماة للأقليات. لا أدري لماذا لا يرى زعماء الأقليات كيف يتم التلاعب بالأقليات واستغلالها بطريقة مفضوحة رخيصة من قبل الأنظمة الساقطة والمتساقطة، ليس من أجل خير الأقليات، بل فقط من أجل إطالة عمر هذا النظام المتداعي أو ذاك لا أكثر ولا أقل. مغفل من يعتقد أن الأنظمة المحاصرة بالثورات تحمي الأقليات، لا بل هي تحتمي بالأقليات، وتستخدمها كفزاعة لاجترار عواطف المستعمر القديم لعله يساعدها في البقاء في السلطة. لقد نجح بعض الطواغيت في الإيقاع بين الأكثريات والأقليات، وذلك باقتراف الكثير من الجرائم بحق الأقليات، وتحميل المسؤولية للأكثريات. ليس هناك أدنى شك بأن معظم الجرائم التي وقعت ضد الأقليات هي من صنع مخابرات الأنظمة الساقطة والمتساقطة. ولو كنت مكان أي أقلية الآن لوجهت أصابع الاتهام بعد أي تفجير هنا وهناك لا للأكثرية الثائرة، بل للأنظمة المحاصرة بالثورات، فهي تقوم بمجازر مروعة من خلال السيارات المفخخة بحق الأقليات، وتنسبها للعناصر التكفيرية، كي تقول للعالم: لسنا وحدنا المستهدفين من قبل التكفيريين، بل أيضاً الأقليات. وللأسف الشديد أن هذه الألاعيب الوسخة والمفضوحة ما زالت تمر على الأقليات، مما يزيد في ارتمائها في أحضان المجرمين الذين يستخدمونها كعتلة قذرة لتحقيق غاياتهم الإجرامية.
أما آن الأوان لأن تدرك الأقليات في العالم العربي أن مستقبلها ليس مع هذا الطاغية أو ذاك الجنرال، بل مع الأكثريات من أبناء جلدتها؟ متى تدرك أنهم يستخدمونها للظهور بمظهر حسن أمام العالم الخارجي فقط لا غير، بينما هم ينظرون إليها في أعماق أعماقهم كأدوات قذرة وخناجر مسمومة لمواجهة الأكثريات بها؟
متى تعلم الأقليات أنها ستكون الخاسرة حتى لو بقيت الأنظمة التي تحالفت معها، وهو كحلم إبليس بالجنة طبعاً؟ فتلك الأنظمة ستحاول (إذا) بقيت إرضاء الذين ثاروا عليها، وإهمال الذين وضعتهم في جيبها كالأقليات؟ والمثل الإنكليزي يقول: «غالباً ما يعطون الحليب للأطفال الذين يصرخون». وبما أن الأقليات صمتت وتواطئت ضد الثورات، فإنها في كل الأحوال ستخرج من المولد بلا حمص، لا مع كفلائها بخير، ولا مع الأكثريات بخير.
لم يفاجئنا انسداد الأفق أمام الجولة الثامنة من المفاوضات، فقد تكرر هذا الأمر في سبع جولات سابقة، كان النظام فيها يلاعب المعارضة، بينما هو يمضي سريعاً في الحسم العسكري معتمداً على قوى روسيا وإيران والميليشيات الطائفية وعلى الشبيحة الذين بالغوا في الإجرام. ولم يظهر المجتمع الدولي اهتماماً جاداً في دفع المسار السياسي، رغم ما كان يبديه بعض سفراء الدول الصديقة من تعاطف مع قضيتنا، وكان إبطال روسيا لقرارات مجلس الأمن قد بلغ حداً غير مسبوق في عدد المرات التي استخدمت فيها «الفيتو»، ولم يبد أعضاء مجلس الأمن الباقون أكثر من التعبير عن الأسف!
وأما الولايات المتحدة، وهي الدولة الأقوى في العالم، فقد أبدت لفترات طويلة حالة من التخلي عن القضية السورية مفوضة روسيا باتخاذ ما تراه من إجراءات، وقبل أول جولة قامت بها الهيئة العليا للمفاوضات تردد الزملاء أعضاء الهيئة في الذهاب إلى جنيف، حيث لا شيء يوحي بإمكانية إيجاد حل سياسي مع النظام الذي صعد يومها هجومه الوحشي على الشعب، ولم يبد أية استجابة نحو التفاوض. يومها تدخل جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بتقديم ما يشبه الضمانات في رسالة دعم وتعهد أرسلها إلى الهيئة، وهو يحثنا على المشاركة، ولم نلحظ أي دعم يذكر! وحين كنا نوقف التفاوض احتجاجاً على تصاعد العدوان والحصار -كما حدث يومها في مضايا- كانت تهرع إلينا دول الأصدقاء تطالبنا بألا نضيع الفرصة! وكان النظام لا يقبل بأي حديث سوى مكافحة الإرهاب، وقد تمكن من أن يقنع العالم بأن القضية هي صراع بين نظام شرعي وبين تنظيم «داعش» وما يشبهه! وكان يقول إن وفد المعارضة لا يمثل كل أطيافها.
كان الروس يومها ينظرون إلى الجيش الحر وإلى المعارضة على أنهم إرهابيون، وتمكنا عبر الفائدة الوحيدة من الذهاب إلى جنيف من أن نري العالم أن المعارضة ليست إرهابية، وأن القضية هي مطالب الشعب بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية، وكانت الإفادة من ساحة جنيف الإعلامية كبيرة لأنها حظيت باهتمام شعبي عالمي.
وأذكر في لقائنا الأول مع دي مستورا قوله لنا: «إن تشكيل الوفد المفاوض هو امتيازكم وحدكم» وبعد حين قال: «لا بد من إشراك منصتي القاهرة وموسكو»، ودرسنا الأمر بإيجابية لسد الذرائع، ووافق دي مستورا على أن يضم الوفد ممثلاً واحداً عن موسكو وآخر عن القاهرة. وأجرينا حوارات مع المنصتين، ولم يوافق الطرفان رغم ما أبداه فريق القاهرة من استجابة مبدئية، ثم فوجئنا بطلب ضم المنصتين بتمثيل أوسع. وكان لقاؤنا معهما في الرياض جاداً، حيث وضعنا القبول ببيان الرياض1 أساساً لتوحيد المعارضة، ورفض وفد موسكو، واعتبرنا متشددين، وعقد مؤتمر الرياض الثاني وفوجئ الجميع بأن أكثرية الوفد الجديد تتمسك بمطالب الشعب. وربما كان دي مستورا ينتظر أن يقابل وفداً مائعاً يفتتح الجلسات بترديد شعارات النظام، ويعلن التمسك به، ولهذا طالب وفد النظام بالتخلي عن بيان الرياض2، ولم يقبل مناقشة سلال دي مستورا. وأصر على أن يناقش موضوع الإرهاب، وأعلن أن سوريا ما تزال مهددة بالإرهاب. والحقيقة أن الإرهاب موجود تحت الطلب، فهو الذي مكن النظام من أن يبيد شعبه بذريعة مكافحة الإرهاب، وحقاً «داعش» اليوم تزحف نحو إدلب مع قوات النظام، وما تزال لها جيوب في أطراف دمشق وأطراف درعا أو في البادية، حيث سمح لها بالتمدد خفية بعد أن تبخرت دون قتلى أو أسرى أو معتقلين.
والسؤال الآن: هل حقاً تخلى أصدقاء الشعب السوري عنه؟ وهل سيقبلون بأن تبقى القضية السورية معلقة كما علقت قضية فلسطين؟؟ فالجميع يعلمون أن سوتشي قد تقدم حل إذعان، وربما مراضاة مؤقتة ببضعة مناصب وزارية في حكومة موسعة يقودها الأسد، والسوريون يعلمون أن هذا فخ للإيقاع بالمعارضة التي ستلقى عقاباً قد يدوم عشرات السنين، وقد يضطر النظام لبناء عشرات السجون في تصفية معارضيه، ولا توجد أية بارقة ثقة تدعو المشردين واللاجئين للعودة إلى فروع الأمن لتسوية أوضاعهم كما يخطط النظام.
وحتى لو عقد سوتشي وجاء بأفضل من التوقعات المتشائمة، هل سينسى السوريون ما ذاقوه من عذابات مريعة على يد النظام فيقبلون يده من جديد؟ وهل ستطلق سوتشي مثلاً أحكام الغفران نيابة عن الشعب على جرائم قتل مليون شهيد وإصابة مليوني معاق، فضلاً عن الجرائم التي ترتكب بحق المعتقلين، وفوق ذلك كله جرائم التهجير القسري وتدمير المدن والأرياف وهدم ملايين المنازل والمدارس؟ وهل ستنتهي مأساة العصر الكبرى بعد سبع سنين من شلالات الدم المستباح دون محاسبة للمجرمين ودون الخلاص من الديكتاتورية؟