مضت أسابيع على إعلان قوى الصراع الرئيسية في سوريا انتصارها على «داعش»، وانتظمت في قائمة الإعلانات كل من روسيا وإيران والولايات المتحدة إضافة إلى نظام الأسد، وأضاف الرئيس الروسي إلى إعلان انتصار قواته على «داعش» إعلانه عن سحب قواته، التي شاركت في تلك الحرب، وإعادتها إلى أماكن تموضعها الأساسية مع الإبقاء على القوات المخصصة للمرابطة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، اللتين أعطاهما نظام الأسد رخصة وجودهما على الأراضي السورية، كما أعلنت واشنطن تقييد دعهما لحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية بعد انتصارهما المشترك على «داعش».
غير أنه وبعد تلك الإعلانات، توالت على مدار الأسابيع الماضية أخبار وتقارير، عن معارك وتحشدات وتحركات قام بها «داعش» في مناطق سوريا متعددة، شملت مناطق جنوب دمشق، وريفي درعا والقنيطرة، وريف حماة، وجنوب إدلب، وأماكن عدة في شمال شرقي سوريا، الذي كان مسرحاً لأهم معارك الحرب على «داعش» من جانب الروس والإيرانيين ونظام الأسد في دير الزور، ومن جانب الولايات المتحدة وحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في الرقة ومحيطها. بل إن الأخبار والتقارير، سجلت تقدماً لـ«داعش» في بعض المعارك، مما يؤكد أن الحرب على «داعش» لم تحقق انتصاراً حاسماً، يتوافق مع ما تم الإعلان عنه، رغم الخسائر التي أصيب بها التنظيم نتيجة فقدان سيطرته على الرقة ودير الزور.
وطبقاً للمعطيات الميدانية، فإن الشكوك في الانتصار على «داعش»، تبدو حقيقة واقعة. ولعل الأهم فيما يدعم تلك الشكوك، لا يكمن فقط في تحركات «داعش» والمعارك التي خاضها في الأسابيع الأخيرة، إنما في أن أحداً من المنتصرين في الحرب، لم يقدم تفاصيل انتصاراته على «داعش»، بإعلان عدد من قتلوا أو تم أسرهم من التنظيم، وما تم الاستيلاء عليه من أسلحة وذخائر ومعدات، كانت تمثل ترسانة التنظيم، التي راكمها طوال السنوات الماضية، واستعملها في انتشاره والحفاظ على سيطرته ضمن رقعة واسعة من شمال وشرق سوريا، وجاء أغلبها من الصين وروسيا وأوروبا الشرقية طبقاً لتقرير بلجيكي صدر مؤخراً، كما لم يتم الإعلان عن معلومات تكشف مصير من تبقى من عناصر وقيادات «داعش» الذين تسربوا من الرقة ودير الزور في خلال فترة استعدادات الأطراف لدخول الحرب، حيث لم يقل أي من المحاربين أين ذهب قياديو التنظيم ومقاتلوه، وأسرهم التي تمثل بيئة اجتماعية وآيديولوجية لفكر التطرف والإرهاب.
إن أهم ما تسرب عن تفاصيل الحرب، يمثله إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن مقتل أربعة آلاف من مقاتلي «داعش» في المعارك ضده في سوريا والعراق، وهو عدد قليل من إجمالي عناصر «داعش» الذين كانوا موجودين في سوريا وحدها، والمقدر عددهم في المناطق الشمالية الشرقية باثني عشر ألفاً حسب أقل التقديرات، وحتى لو تمت إضافة خمسة آلاف من عناصر التنظيم، قال جاويش أوغلو إنه تم ترحيلهم إلى تركيا، فإن هناك آلافاً من عناصر التنظيم ما زالوا منتشرين في وحدات مقاتلة في سوريا، وثمة آلاف أخرى تحولت إلى خلايا نائمة للتنظيم، أو هي في طور إعادة ترتيب صفوفها، واستئناف معاركها على نحو ما تبين الوقائع.
إن ما أحاط بمجريات الحرب على «داعش» والتغطية على نتائجها، يؤكدان استمرار وجود التنظيم، وتواصل عملياته التي يمكن أن تتسع لاحقاً، وإن يكن بصورة مختلفة عما كانت عليه في السنوات الماضية، وهو تحول يبدو شديد الارتباط بقوى الصراع الرئيسية ومساراتها السياسية والعسكرية في سوريا، والتي تسربت معلومات، وكشفت وقائع كثيرة عن علاقاتها مع «داعش»، واستخدام الأخير من جانبها سواء في الصراعات البينية من جهة، أو في جهودها المختلفة لتأكيد أن ما يجري في سوريا هو حرب على الإرهاب والتطرف، وليس صراعاً بين النظام ومعارضيه من أجل مستقبل سوريا والسوريين.
وتطرح وقائع ما حصل في الحرب على «داعش»، أن ما جرى لم يكن هدفه حسم الصراع مع «داعش» أو تصفيته، إنما كان هدفه تحجيم التنظيم، ودفع ما تبقى منه للقيام بدور في مواصلة الحرب السورية من الناحيتين السياسية والعسكرية؛ إذ يحافظ من خلال وجوده من الناحية السياسية على استمرارية نظرية الحرب على الإرهاب والتطرف، ويغطي عجز أو عدم رغبة أطراف الصراع في التوصل إلى حلول سياسية للقضية السورية، ويتم استخدام «داعش» من الناحية العسكرية الميدانية لرسم خرائط متبدلة للصراع في سوريا وعليها، ويلعب دوراً في حسم الأوضاع القائمة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد خصوصاً في إدلب أو في درعا وفي محيط دمشق سواء في الغوطة المحاصرة أو في جنوب دمشق، وكلها قضايا، كانت ستتبدل، إذا جرى حسم وضع «داعش» وتم تحقيق انتصار حقيقي عليه.
إن الحرب على «داعش»، رغم أهميتها وضرورتها، لم تدخل مستوى من الجدية في سلوك أطراف الحرب طوال السنوات الأربع الماضية، والفصل الأخير، لا يمثل تحولاً نوعياً فيها، بل تبدلاً في شكلها، وهو ما جرى اعتباره انتصاراً، فيما الانتصار الحقيقي أمر يتجاوز ربح المعارك العسكرية والذهاب إلى سياسات وإجراءات من شأنها الحد من التطرف ومحاصرة الإرهاب، ولعل الأهم في هذا الدفع نحو إجراءات بينها وقف قصف المناطق المدنية، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة وفتح الأبواب أمام تدفق المساعدات الإنسانية والطبية، وإطلاق المعتقلين والسماح بعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم باعتبارها مقدمات لحل سياسي، يستند إلى المقررات الدولية خصوصاً في موضوع الانتقال السياسي. وما لم يتم المضي في هذه الطريق، فإن بيئة توليد التشدد والتطرف مستمرة، وسوف تغذي استمرار «داعش» وغيره من المتطرفين خاصة، إذا كانت أطراف الصراع السوري الرئيسية كلها أو أكثرها ذات روابط وخيوط مباشرة مع «داعش»، وترى أن له دوراً سياسياً وعسكرياً - ميدانياً مستمراً في القضية السورية.
سيكون على المهتمين بالتاريخ السياسي لسورية مواجهة هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التوريث، الذي وصل من خلاله بشار الأسد إلى رأس السلطة، وبين المآل الذي انتهت إليه الثورة السورية حتى الآن؟ لا تنبع أهمية السؤال في المقام الأول من التوريث ذاته، ولا من حقيقة أنه حصل في نظام جمهوري كان يوماً يخلط دعوى الاشتراكية منهجاً، والقومية العربية عقيدةً يستند إليها هذا المنهج. بل تنبع قبل ذلك وبعده من أن التوريث أضعف الرئيس، ومعه أضعف مؤسسة الرئاسة. المسار السياسي للرئيس الأسد منذ توليه السلطة في صيف عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد لا يترك مجالاً واسعاً لغير هذه الفرضية. حاول في البداية تقديم نفسه داخل سورية وخارجها على أنه رجل إصلاح وتطوير، شاب في مقتبل العمر، ينتمي إلى مرحلة تختلف عن مرحلة والده. درس في بريطانيا، ومهتم بالعلوم وتقنية المعلومات. كان تصور البعض أن سورية ستكون في عهده مختلفة. ستتجاوز، وإن في شكل متدرج، حال الانغلاق التي كانت عليها في عهد والده.
لكن الأحداث كانت تكشف تباعاً أنه لم يكن صادقاً ولا جاداً في وعوده الإصلاحية. كان يحاول تسويق نفسه، وتجميل عملية التوريث التي وصل بها. تبدأ هذه الأحداث بتهميش الحرس القديم، الذي كان معارضاً عملية التوريث، وهو الحرس الذي شارك والده في تأسيس النظام. يأتي في السياق ذاته ما كان يعرف بـ «ربيع دمشق»، الذي انطلق بتأثير من وعود الإصلاح، وما انتهى إليه على يد الأجهزة الأمنية للرئيس الجديد. ثم الغزو الأميركي للعراق وما أثاره من رعب داخل قصر الرئيس. وعلى صلة بمخاوف الأسد من الحرس القديم تضخم القلق من بروز القوة السياسية لرفيق الحريري في لبنان والطبقة السياسية التي كان يمثلها هناك. واللافت هنا أن مخاوف الرئيس السوري انتهت بحادثتين متتاليتين: فرض سورية التجديد للرئيس اللبناني حينها، إميل لحود، الخصم اللدود للحريري، ثم اغتيال هذا الأخير في ظروف انتهت بتوجيه التهمة رسمياً من محكمة دولية إلى «حزب الله»، أقوى حلفاء الأسد في لبنان.
أخيراً يأتي في ذروة تعاقب هذه الأحداث العاصفة انفجار ثورة شعبية في آذار (مارس) 2011. وهي ثورة بدأت بمطالب إصلاحية كان بإمكان الرئيس ونظامه استيعابها، بل واستغلالها للإقدام على إصلاحات كان هو من يعد بها منذ تسلمه السلطة. لكنه لم يفعل، بتعمد وإصرار واضحين! كان قراره مواجهتها، منذ اليوم الأول، بقوة السلاح، أملاً بوأدها، تيمناً- كما يبدو- بما فعله والده مع انتفاضة مدينة حماة عام 1982. عندها تبنت الثورة مطلب «إسقاط النظام». أمام ذلك، تبنى الأسد استراتيجية «إما وأد الثورة، وإما تدمير سورية». لم يتمكن من وأد الثورة، فحصل التدمير. وما زال مستمراً حتى الآن.
السؤال هنا: ما هي مؤشرات ضعف الرئيس ونظامه، التي تكشف عنها هذه الأحداث، واستجابة الرئيس لها؟ أكثر ما يلفت النظر أمام كل هذه الأحداث أمران متصلان يغذي أحدهما الآخر: ابتعاد الرئيس المستمر من السياسة والحلول السياسية، وبخاصة مع أبناء شعبه، ثم غرقه المتصل في خيارات العنف والقتل والتدمير، من ناحية، وانحيازه المتصل أيضاً، وبالتوازي مع ذلك، إلى تحالفات طائفية محلياً وإقليمياً، من ناحية أخرى. أنهكت الحرب، التي فرضها الرئيس، الجيش العربي السوري والانشقاقات التي فرضها ذلك. لم يعد بإمكان الجيش حماية الرئيس ونظامه. وهو ما ضاعف قناعة بشار الأسد بأن الطائفة هي ملاذه الأخير، والحصن المتبقي لحمايته. منذ وصوله إلى السلطة عزل نفسه عربياً، جاعلاً من إيران حليفه الوحيد في المنطقة. بعد الثورة باتت طهران تملك من السلطة داخل سورية ما يتنافس مع سلطة الرئيس نفسه. وهذا واضح من أن الميليشيات الإيرانية، وبخاصة حزب الله، هي التي يمكنه الاعتماد عليها، وليس على ما تبقى من «الجيش العربي السوري».
ثم تبين أن إيران وميليشياتها لا تستطيع حماية الرئيس. فكان لا بد من تدخل الروس، وهو ما حصل في خريف 2015 لإنقاذ الأسد ونظامه من السقوط. المفارقة أنه دخول ضاعف مأزق الأسد، وضاعف تهميشه. وحتى تعامل الروس معه يعكس ذلك. لم يعد يملك زمام المبادرة أمام أحداث تعصف به وببلاده. روسيا هي التي تملك الآن المبادرة. وهي تتواصل وتنسق في ذلك، ليس فقط مع إيران، بل ومع تركيا والسعودية ومصر، وقبل ذلك وبعده مع الولايات المتحدة. الأنكى أن موسكو تنسق أيضاً مع إسرائيل، وتعترف بحقها في توجيه ضربات إلى المواقع السورية متى رأت أنها في حاجة إلى ذلك.
في هذه الحال، ماذا يمكن أن يكون مستقبل الأسد؟ قد يبقى رئيساً من دون صلاحيات أثناء المرحلة الانتقالية، أو أن يتنحى لمصلحة سورية. أما الثالث فهو تمسكه، بدعم من إيران، بالبقاء رئيساً، على رغم كل ما حدث وبُعده. وهذا خيار يهدد بتقسيم سورية.
الشاهد أن هذه الخيارات، وهي تعكس ذروة افتقاد الأسد للمبادرة، لم تكن مطروحة قبل الثورة. الرئيس هو من فرض طرحها بخياراته وتحالفاته مع قوى خارجية ضد شعبه. وإذا كانت الأمور بنتائجها، فإن نتائج هذه الخيارات لا تترك مجالاً لمستزيد. فالتوريث دفع بشار الأسد إلى الاحتماء بالطائفة بدلاً من الدولة، وبميليشيات خارجية بدلاً من الجيش، وبالتحالف مع إيران بديلاً عن مظلته العربية. وليس هناك أكثر دلالة على الضعف وتراكمه من هذه المؤشرات، التي بدأت منذ اليوم الأول لرئاسة بشار الأسد.
أختم بما قاله نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع، الذي اختفى من المشهد، قيد الإقامة الجبرية كما يبدو، في نهاية مذكراته التي أنجزها عام 2011، قال عن موقفه من التوريث ما نصه «من حيث المبدأ أنا لا أؤمن بالتوريث... وعندما وافقت... على اقتراح مصطفى طلاس (بتولي بشار خليفة لوالده) فإنما لسببين كنت مقتنعاً بهما: السبب الأول هو أن ذكرى الصراع مع رفعت الأسد عام 1984 ما تزال ماثلة في ذاكرتي... شعرت أن اختيار بشار الأسد سيكون مخرجاً آمناً وبديلاً سلمياً من صراع دامٍ يمكن أن ينفجر إذا أخطأنا الاختيار لأن كل عناصره ما زالت في قيد الحياة. السبب الثاني أن الدكتور بشار... لديه رصيد شخصي وجملة مؤهلات، يأتي في مقدمها رغبته المعلنة في الإصلاح والتحديث»، (الرواية المفقودة، ص457). وهذه شهادة أقل ما يقال عنها إنها لافتة. فهي تؤكد أن النظام السياسي لحظة وفاة الأسد الأب كان يعاني من انقسامات وصراعات حادة لا تزال حية منذ 1984. ثانياً أنها تعتبر تولي بشار الرئاسة كان حينها أقل الخيارات المتاحة سوءاً. وهو ما يعني أن سورية تدفع ثمن توريث فرض عليها فرضاً، وجاء برئيس لم يكن مهيأً لإخراجها من المأزق السياسي الذي انتهت إليه لحظة رحيل الأسد الأب.
بعد ثماني جلسات تفاوضية في جنيف، ومثلها في العاصمة الكازاخية آستانة، اتفق «رعاة» السلام السوري المفقود على الاجتماع قريباً في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود.
اختلفت الآراء حول الحاجة أصلاً للتفاوض في آستانة بوجود مسار برعاية الأمم المتحدة في جنيف، بل في ظل الاتفاق - لفظياً على الأقل - على الالتزام بما أفضى إليه اجتماع جنيف الأول، أو «جنيف1»، واعتبار «مسار جنيف» هو باب التسوية في سوريا.
في ظل ازدواجية المواقف وتناقض المعايير، وتعمد تغيير الحقائق على الأرض، ونكوص بعض الأفرقاء الأساسيين عن التزاماتهم... تبدّلت معطيات كثيرة.
روسيا، بداية، تحركت من «فيتوهاتها» على المحاولات الدولية لوقف القمع الدموي للثورة الشعبية السلمية، إلى إعادة تفسير أو تأويل نصوص «جنيف1» تدعمها الصين دبلوماسياً، وإيران... على الأرض.
ومن ثم، شنت روسيا وإيران حملة شرسة، لتبرير دعمهما المتصاعد الآلة العسكرية لنظام دمشق، بحصول «الجيش السوري الحر» والفصائل السورية المعارضة على دعم خارجي أبرزه من تركيا.
أكثر من هذا، اتهم قادة روسيا وإيران أنقرة بالتواطؤ مع الإرهاب (السنّي - حسب تعريف موسكو وطهران) وإدخال العناصر المتطرفة إلى الداخل السوري عبر تركيا وتزويدها بالسلاح. ومعلوم أن أنقرة دأبت في مستهل الثورة على التهديد بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء ما يفعله نظام بشار الأسد بشعبه.
من جهة أخرى، تعاملت الولايات المتحدة مع انطلاق الثورة السورية بتأييد ومباركة واضحين، كما فعلت مع الانتفاضات الأخرى التي شملها ما يُعرف بـ«الربيع العربي» عام 2011، وأطلق مسؤولوها، كما نتذكر، عبارات من نوع «الأسد فقد شرعيته» و«لا دور للأسد في مستقبل» سوريا. غير أنه كان هناك موقفان متحفظّان عن الثورة منذ تلك المرحلة المبكرة من عمرها أسهما في إعادة رسم الأولويات الأميركية والغربية عموماً تجاه الثورة، هما: الصمت الإسرائيلي الرسمي المريب تجاهها، ووقوف بعض المرجعيات الدينية المسيحية الشرق أوسطية ضدها صراحة. وفي الواقع، بينما حرصت الأجهزة الإسرائيلية الرسمية على التزام الصمت، كانت جهات استخباراتية وإعلامية تتحدث صراحة أن لا مصلحة عند إسرائيل بسقوط نظام ضمن لها أمن حدودها الشمالية منذ 1973، أما عن المرجعيات المسيحية، ومنها قيادات إكليريكية لبنانية وسورية، فقالت علناً في العواصم الغربية ما معناه إنه في حين لا يعد نظام الأسد مثالياً فإن أي بديل منه سيكون أسوأ.
في هذه الأثناء، بالتوازي مع ثورة سوريا وغيرها من انتفاضات «الربيع العربي» المتأرجحة بين السلاسة والحروب الأهلية المفضية إلى «دول فاشلة»، كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يصوغ استراتيجيته الراديكالية لمنطقة الشرق الأوسط. كان أوباما يعجّل الخطى نحو بناء «شرق أوسط جديد» مختلف كلياً عن الشرق الأوسط الذي تعاملت معه واشنطن طيلة حقبة «الحرب الباردة»، بل منذ 1979 تحديداً.
استراتيجية أوباما تضمنت استعادة إيران حليفاً للولايات المتحدة، ولكن هذه المرة بعكس التحالف القديم بين واشنطن والشاه عندما اعتبرت الإدارات الأميركية الشاه «حليفاً تابعاً»، مهمته تنفيذ رغباتها، و«حلقة» من حلقات أحلافها لتطويق الخطر السوفياتي واحتوائه. هذه المرة رأى أوباما في «الثورية» الإيرانية «حليفاً شريكاً» موازياً يعتمد عليه ضد اليمين العربي والسياسات «الانتحارية» للأصولية السنيّة، حسب وصفه. وبالتالي، صار الاتفاق النووي الذي توصلت إليه واشنطن أوباما مع طهران الملالي - بعد مفاوضات سرّية طويلة - من ركائز الاستراتيجية الجديدة لواشنطن في المنطقة. ومن أجل إنجاز هذا الاتفاق، وتثبيته وفرض مفاعيله كانت إدارة أوباما مستعدة إلى الذهاب بعيداً. وهكذا، كانت ثورة الشعب السوري، التي تعتبرها طهران خنجراً يغرز في ظهر مصالحها، الضحية الأولى للصفقة الأوبامية - الخامنئية.
وبمرور الأيام، واستمرار النزف والقمع في سوريا، وصولاً إلى استخدام النظام الأسلحة الكيماوية التي تصوّر كثيرون أن استخدامها يشكل «خطوطاً حمراء» غير مسموح بتجاوزها، أدّى تجاهل واشنطن «الخطوط الحمراء»، وسخرية أوباما علناً من قدرات الفصائل السورية المعارضة، إلى دخول الثورة مرحلة مختلفة تماماً. عند هذه النقطة أدرك النظام، ومعه موسكو وطهران، أن أولويات واشنطن باتت في مكان آخر، وأن يده باتت حرة مُطلقة ليفعل ما يريده.
في المقابل، أدّى تطوّران إلى إحداث تغيير جوهري ظاهر في موقف تركيا.
التطوّر الأول، كان بدء واشنطن دعم الجماعات الانفصالية الكردية في شمال سوريا عسكرياً وسياسياً، بذريعة أنها «القوة الوحيدة على الأرض» القادرة على إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي... الذي سمحت له المواقف الدولية الملتبسة بأن ينمو ويتمدّد ويدمّر ويهجّر.
والتطوّر الثاني، كان إسقاط تركيا مقاتلة قاذفة روسية كانت تدعم قوات النظام في المنطقة الحدودية بشمال غربي سوريا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبعدها، في ظل اندلاع خطر مواجهة غير متكافئة بين روسيا وتركيا، وإحجام واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو) عن دعم تركيا... الدولة العضو في الحلف، قرّرت أنقرة «التفاهم» مع موسكو. أضف إلى ذلك، أن الاندفاع الأميركي في مساندة الأكراد أوجد قواسم مصلحية مُشتركة بين أنقرة وطهران بررت للأتراك التضحية بالسوريين وثورتهم.
منذ ذلك الحين، وبعدما كانت روسيا وإيران تبرّران «احتلالهما» سوريا بمكافحة «الجماعات التكفيرية المدعومة من تركيا»، تفاهم الروس والإيرانيون والأتراك على مصالحهم المشتركة سورياً وإقليمياً، وكانت الثمرة فكرة آستانة التي دُعي إليها ما تبقّى من فصائل سوريا معارضة لأول مرة.
الواضح الآن، لدى النظرة إلى الحقائق على الأرض، أن الغاية تكبيل الفصائل المسلحة وفتح معارك داخلية بين معتدليها ومتطرفيها (جبهة النصرة وتوابعها). فمنذ 23 و24 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي 2017 استضافت العاصمة الكازاخية آستانة ثماني جلسات تفاوضية برعاية روسية، ومشاركة أممية وأميركية، شهدت سلسلة تنازلات سياسية واستقالات متواصلة من وفود التفاوض السورية المطوّقة، وفرض النظام والروس والإيرانيون ما يريدونه على الأرض.
السلام السوري انتهى.
والمتوجّهون إلى سوتشي لن يمثّلوا سوريا، بل رُعاتهم وداعميهم... وهنا المأساة الكبرى.
كلما استمر القتال في سورية أصبحت خريطة الصراع أكثر صعوبة وتعقيدًا. قرّر سوريون ولاجئون كثيرون البحث عن ظروفٍ أفضل وحياة أفضل للعيش، والسبب الأكثر أهمية بالنسبة للسوريين، في حملهم على الفرار وتحمل مخاطر الرحلة إلى أوروبا، أنه لا توجد أي علامات لانتهاء الحرب فيها، واللاجئون في البلدان المجاورة يفقدون حاليًا الأمل في أن يتمكّنوا من العودة.
داخل سورية، يستمر الوضع في التدهور، مع كثافة الاشتباكات في جميع المناطق، الاقتصاد والخدمات في حالة انهيار عام، يقود ذلك مزيدا من الناس إلى الرحيل، ولايزال هذا الانهيار يؤثر عميقًا على الذين هربوا بالفعل إلى الدول المجاورة. كما أن وضع اللاجئين في دول الجوار أصبح أكثر صعوبة وغير إنساني في حالاتٍ كثيرة، وكثيرون منهم مقتنعون بأن المخاطرة والعبور إلى أوروبا قد تيسر مستقبلا أكثر إشراقا لأبنائهم.
في جميع البلدان المجاورة التي يقيم فيها اللاجئون السوريون، لا يسمح للاجئ بدخول سوق العمل رسميًا، ويواجه عقوبات إذا تم القبض عليه. في الأردن، على سبيل المثال، يواجه خطر الإعادة إلى المخيمات. وفي لبنان، يضطرّون إلى توقيع تعهد بعدم العمل، إذا كانوا يرغبون في تجديد إقامتهم.
ينظر المجتمع الدولي اليوم إلى الأزمة السورية على أنها ثلاث أزمات منفصلة: الإرهاب: بروز التنظيمات الإرهابية في سورية واتخاذها ملجأ آمنا، مثل داعش والقاعدة. اللجوء: فرار لاجئين كثيرين إلى دول الجوار وعبورهم إلى أوروبا. الانتقال السياسي: الحاجة إلى استقرار سياسي ينبع من أهمية تحقيق الانتقال السياسي الذي يتيح للسوريين اختيار رئيسهم ونظامهم السياسي بحرية. وللأسف، يركز المجتمع الدولي اليوم على الأزمتين، الأولى والثانية، في حين يترك الثالثة للمفاوضات السياسية التي لم تحرز جولتها الثامنة في جنيف أخيرا أي تقدّم على الإطلاق، كما سابقاتها في أربع سنوات.
اليوم وبعد مرور سبع سنوات تقريباً على بداية الثورة السلمية في سورية، تظهر الحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى رسم خطة استراتيجية كبرى، تربط هذه الأزمات الثلاث معاً، وتدرك أنه لن تكون هناك إمكانية للقضاء على الإرهاب في سورية بشكل كامل، وعودة ملايين اللاجئين من دون دفع عجلة الانتقال السياسي، وممارسة الضغوط السياسية والدبلوماسية، وحتى العسكرية، على نظام الأسد من أجل تحقيق هذا الانتقال.
لا بد من تحقيق انتقال سياسي كامل في سورية، ينقلها من نظام تسلطي طائفي إلى نظام ديمقراطي تعدّدي غير طائفي، يعتمد على مبدأ المواطنية ومساواة كل السوريين أمام القانون. ولذلك، ربما يحقق النظام البرلماني هذه الأهداف بالشكل الأمثل في سورية اليوم. كما لابد من خروج كل المليشيات الأجنبية والطائفية، ممثلة في القاعدة و مليشيات حزب الله والمليشيات الإيرانية المتحالفة معها ومع نظام الأسد (زينبيون وفاطميون وحركة النجباء العراقية).
بالتأكيد، زاد التدخل الروسي العسكري اليوم الأمور تعقيداً في سورية، فروسيا لم تعد داعما لنظام الأسد أو راعيا له، وإنما أصبحت مالكة له. وبالتالي عليها "إنقاذ سورية" من أجل الخروج بشرف وكرامة من تدخلها العسكري، إذ تدخلت روسيا في كل الأماكن، مع تركيز عسكري وقوة نارية هائلة ضد المعارضة السورية المسلحة، بما دعم نظام الأسد، وشجّعه على الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإجبار الأهالي على الخروج من مدنهم ضد رغبتهم من مدنٍ، مثل حلب وداريا ومضايا، وجديدها كان حي الوعر في حمص. إنه اتفاق تهجير قسري ضد القانون الإنساني الدولي، وليس اتفاقا لحماية المدنيين.
هل هناك حاجة لروسيا كي تستنفد كل هذه الموارد المالية والعسكرية والسياسية في الدفاع عن نظامٍ من المستحيل عليه الاستمرار بطريقة سياسية أو قانونية؟ استمرار هذا النظام يعني استمرار الحرب السورية إلى مالا نهاية، ولن يشعر اللاجئون السوريون الذين يزيد عددهم اليوم على سبعة ملايين لاجئ، بالأمان، من أجل العودة إلى سورية، طالما أن طريقة حكم الأسد في القتل والتعذيب والبراميل المتفجرة مستمرة في حكم ما تبقى من سورية.
ولذلك، يمكن تصور ضمان تحقيق الانتقال السياسي من خلال الضغوط العسكرية على نظام الأسد، ممثلة في المناطق الآمنة التي ستجبر الأسد على الرضوخ بجدية إلى مطالب المفاوضات السياسية.
عول كثير من المراقبين للشأن السوري على جولة "جنيف 8" الأخيرة، كونها تأتي بعيد تثبيت وقف إطلاق النار إلى حد كبير وبعيد إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية كقوة عسكرية فاعلة.
لكن بدا واضحا مع رفض النظام إرسال وفده إلى جنيف بداية المحادثات، ورفضه التفاوض قبل تراجع المعارضة عن مخرجات "الرياض 2"، أن ثمة مخطط روسي ـ سوري لمنع حصول أي اختراق في هذه الجولة لأسباب عدة:
1ـ سبب سوري متعلق برغبة النظام وضع قواعد عمل تفاوضية قبيل الدخول في مناقشة السلال التفاوضية، وتقوم هذه القواعد على مبدأين: الأول تحييد الأمم المتحدة كمرجعية للحل السياسي للأزمة السورية والإبقاء عليها كوسيط محايد.
بعبارة أخرى يجب إبعاد مسألة الحق والشرعية في صراع المفاوضات التي يجب أن تخضع لمعايير القوة فقط.
والمبدأ الثاني مرتبط بميزان القوة، أي أن الإطار الناظم للمفاوضات يجب أن يأخذ بالاعتبار القوى المتواجدة على الأرض، وبالتالي لا يمكن طرح نقاط تفاوضية لا تستقيم مع الواقع القائم (مصير الأسد، الانتقال السياسي).
كان تصريح بشار الجعفري بهذا الشأن واضحا حين دعا المعارضة إلى قراءة الوقائع على الأرض.
2ـ سبب روسي مرتبط برغبة صناع القرار في الكرملين عدم حدوث أية تقدم في مفاوضات جنيف الأخيرة قبيل عقد "مؤتمر الحوار الوطني" السوري في سوتشي.
ويبدو أن الروس عازمين على إحداث اختراق سياسي ما، ولن يكون هذا الاختراق بطبيعة الحال في جنيف كي لا يحسب على الأمم المتحدة، وإنما يجب أن يكون في سوتشي كي يحسب على روسيا.
تحاول موسكو إيصال رسائل للغرب بأنها وحدها القادرة على تحصيل تنازلات من النظام، وبالتالي الأقدر على ترتيب مستلزمات السلام السوري.
النقطة المهمة بالنسبة لروسيا هي أن دي ميستورا يحاول من خلال سلة الدستور بلورة تصور واضح لشكل الحكم المقبل، ولا بد من قطع الطريق عليه.
بعبارة أخرى، إن الاتفاق على سلة الدستور في إطارها العام تعني بالضرورة الاتفاق على جزء من المبادئ العامة، فلا يمكن إعادة صياغة الدستور والانتخابات بمعزل عن المبادئ العليا للانتقال السياسي، وهذه خطوة تكتيكية مهمة تساعد وتسرع في الوصول إلى تفاهمات، فعلى سبيل المثال، سيتضمن الدستور الجديد بطبيعة الحال المبادئ العامة لشكل نظام الحكم وآلية الإصلاح السياسي والإداري، شرط أن تنشأ بعد مرحلة كتابة الدستور الجديد بيئة محايدة تقود إلى انتخابات حرة ونزيهة.
من هنا يجتهد الروس على أن يحدث الاختراق في سلة الدستور بمؤتمر سوتشي عبر وضع أسس دستورية وإجراءات تنفيذية للتسوية تنتهي بتشكيل حكومة مؤقتة لفترة انتقالية.
وقد أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام مجلس الاتحاد الروسي، أن على جدول أعمال مؤتمر "الحوار السوري" وضع دستور جديد والتحضير لانتخابات عامة.
ومن شأن ذلك أن يجعل من سوتشي بمثابة استانا 2، أي أن مخرجات مؤتمر سوتشي ستكون مرجعية أو خطة طريق في جنيف كما تحولت مخرجات استانا إلى مرجعية في مفاوضات جنيف.
المقاربة الروسية لا تلقى اعتراضا أمريكيا، ويبدو واضحا أن واشنطن تترك للروس المضي قدما في مخططاتهم، فالبوابة الروسية قادرة على تحصيل تنازلات مهمة من كل الأطراف بما فيها المعارضة.
بالنسبة لواشنطن لا ضير من تحصيل تنازلات من قبل النظام مهما كانت ضئيلة في هذه المرحلة، ولا ضير من توسيع دائرة الحضور التفاوضي السوري وإشراك قوى جديدة كحزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي حليف الولايات المتحدة الأول في سوريا.
ومن شأن حضور "الاتحاد الديمقراطي" في سوتشي أن يكون مقدمة لإشراكه في جنيف لاحقا.
ولا ضير للولايات المتحدة من ترويض المعارضة للقبول بالأسد خلال مرحلة التغيير السياسي.
وما نقلته مجلة "نيويوركر" عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين يبدو صحيحا، من أن إدارة ترامب مستعدة لقبول حكم الأسد حتى الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2021.
لكن الروس يدركون جيدا أن الضوء الأخضر الأمريكي مشروط بحصول تقدم حقيقي يمهد الطريق أمام التسوية الكبرى وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، ولو بعد حين، والولايات المتحدة قادرة على عرقلة الجهود الروسية.
بالنسبة لموسكو، فإن الإصلاح السياسي لا يجب أن يقوض هيمنة النظام، لكن لا يمنحه القوة الكافية للاستمرار في بسط هيمنته، فهي تعتقد أن تحقيق حكم ديمقراطي من نوعا ما ينسجم مع البيئة السورية.
أما الولايات المتحدة، فهي وإن كانت تتفق مع الرؤية الروسية، إلا أنها تعتقد أن المسار الإصلاحي الطويل والشائك لا بد أن ينتهي بانتخابات حرة.
التقرير المثير الذي حققه جوش ماير ونشره موقع ««بوليتيكو» الأميركي المرموق، عن «حزب الله»، يسلط الضوء على حجم الأوهام التي يمكن أن يحملها حتى من هم في أعلى الهرم الأمني والسياسي الأميركي.
خلاصة التحقيق المطول، أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، مدفوعة برغبته في الحوار مع إيران والتفاوض حول برنامجها النووي، قيدت الكثير من الجهود الرامية إلى مواجهة «حزب الله»، وتعطيل قواه، وأبرز هذه الجهود «مشروع كاساندرا».
انطلق المشروع عام 2008، بإشراف «إدارة مكافحة المخدرات» العاملة تحت وصاية وزارة العدل الأميركية، بعد أن راكمت أدلة على تحول «حزب الله» من منظمة عسكرية وسياسية تركز على الشرق الأوسط إلى عصابة دولية للجريمة يعتقد بعض المحققين أنها تجمع مليار دولار سنوياً من الاتجار بالمخدرات والأسلحة وغسل الأموال، وغير ذلك من الأنشطة الإجرامية. اصطدم هذا البرنامج كما غيره بخيارات أوباما الشرق أوسطية، وحرصه الكبير على عدم تعكير الحوار مع طهران، بعروض جانبية حتى لو كانت نتيجتها تدمير البنية التحتية البشرية والشبكية التي يستثمرها «حزب الله» في أنشطته.
ولأن «الموظفين هم السياسة»، بحسب العبارة التي راجت في أيام الرئيس الأسبق رونالد ريغان، يعرج جوش ماير على أركان إدارة أوباما ومواقفها من «حزب الله»، كاشفاً حجم الأوهام والرهانات وسياقات التفكير الرغبوي في مقاربة واحد من أخطر التنظيمات في الشرق الأوسط والعالم.
فالرجل الذي سيصبح كبير مستشاري أوباما لشؤون مكافحة الإرهاب وبعدها مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان، كان دعا في ورقة توصية سياسية أعدها، إلى أن «يكون للرئيس المقبل الفرصة لإقامة مسار جديد للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة، ليس فقط من خلال حوار مباشر، بل عبر استيعابٍ أكبر لـ(حزب الله) في النظام السياسي في لبنان». وخلال فترة ولايته مساعداً للرئيس لشؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، قال برينان إن الإدارة الأميركية تبحث في السبل الآيلة لبناء عناصر معتدلة داخل «حزب الله»، واصفاً إياه بالمنظمة المثيرة للاهتمام والتي تطورت من منظمة إرهابية صافية إلى ميليشيا وفيما بعد صارت حزباً سياسياً يدفع بممثلين له إلى الندوة البرلمانية والحكومة اللبنانية.
لا يفضح هذا المنطق فقط، العمى السياسي الذي أصاب واشنطن خلال ولايتي أوباما، نتيجة الإصرار على أولوية نجاح التفاوض النووي، بل يكشف عن حسن الاستثمار الإيراني في سذاجة البيت الأبيض، وكفاية نظام الملالي في لعب الورقة النووية والصاروخية لتشتيت انتباه العالم عن النشاط الأخطر لإيران وهو رعاية الميليشيات ونشرها في طول العالم العربي وعرضه.
ليس السلاح النووي هو سبب النفوذ الإيراني في الإقليم، بل عملية الاستنساخ المبرمجة التي تقوم بها طهران لابتكار ميليشيات على غرار «حزب الله»، تجعلها رديفاً للدولة قبل أن تدخل الاثنتان في شراكات غامضة، أي تماماً كما انزلق برينان للتفكير فيه والتنظير له.
في العراق وبعد فتوى السيد السيستاني بوجوب «الجهاد الكفائي» إثر سقوط الموصل عام 2014 ودعوته للتطوع في الجيش العراقي والقوى الأمنية العراقية، قفزت إيران على ظهر الفتوى للقيام بأكبر عملية توسعة لبنيتها الميليشياوية، وما بات يعرف اليوم بـ«الحشد الولائي» ضمن «الحشد الشعبي»، أي الميليشيات الشيعية التي تدين بالولاء للولي الفقيه، وليس للدولة العراقية كما يقول أنصار السيستاني إنه مقصده من الفتوى.
وفي اليمن تسعى إيران، من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، إلى إعادة تدوير ميليشيا الحوثي وصقلها على هيئة «حزب الله»، وتزويدها بالخطاب السياسي والعقائدي والتعبوي والدعم الميداني، لتحقيق أكبر قدر من ابتذال الدولة اليمنية الضعيفة، وأعمق اختلال في التوازن بين الحوثي والدولة لصالح الحوثي بطبيعة الحال.
ليست مساهمة «حزب الله»، بوصفه أم الميليشيات الإيرانية، بسيطة في هذا السياق، وقد عبر الأمين العام لـ«حزب الله» مراراً عن الدعم الميداني المباشر الذي تقدمه ميليشياه للعراقيين واليمنيين وحماس (ضد منظمة التحرير) وغيرهم. وهو لوح مرة بأن تكرار التجربة وارد ومقدور عليه في مملكة البحرين حين يتوفر القرار السياسي الإيراني في هذا الاتجاه.
لا يقل وهماً عن هذا، التركيز على البعد السياسي الاجتماعي لـ«حزب الله» وأنشطته المرتبطة في البيئة الشيعية اللبنانية أو البيئات الأخرى. فحزب الله ليس حزباً سياسياً بمعنى امتلاكه مشروعاً سياسياً؛ بل هو تنظيم أمني، كان وسيبقى، يتوسل السياسة لخدمة أهدافه الأمنية والعسكرية تحت عنوان «الجهاد»، ويستثمر في القوة السياسية لتطويع بيئته ونخبها وتطويع البيئات الموازية إما عبر تهديد مصالحها في أوقات الاشتباك؛ أو تسهيل هذه المصالح إن أحسنت الخضوع.
فأكبر استثمارات «حزب الله» ليست مركزة في برامج الرعاية الاجتماعية بقدر ما هي مركزة على تطوير بنيته العسكرية والأمنية والوقائية. وأبرز نخبه ليسوا النخب السياسية؛ بل النخب العسكرية والأمنية، وأبرز قادته هم أمنيوه وعسكريوه، وأبرز قتلاه هم أمنيوه وعسكريوه.
ليس البرنامج النووي هو ما ينبغي أن يثير انتباه العالم، ولا حتى البرنامج الصاروخي. فالصواريخ لا تنطلق من نفسها؛ بل ثمة من يطلقها. ومن يطلقها هي ميليشيات تزرعها وترعاها إيران بكل عناية. هنا المحك.
ثار الجدل مجددًا حول ما إذا هناك تحول في الموقف التركي، مع إقامة أنقرة تعاونًا في سوريا مع موسكو وطهران.
من المؤكد أن للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة دور كبير في ذلك. لكن في المقابل، فكرة "التقارب مع روسيا عوضًا عن الغرب" خاطئة أيضًا. فأنقرة تعمل على إقامة توازن حساس بين واشنطن وموسكو.
لماذا روسيا وإيران؟
تقول أنقرة إن السبب الأول في التعاون التركي مع روسيا وإيران هو عدم قدرتها على إقامة شراكة من هذا القبيل مع الولايات المتحدة. فهي لم تستطع إقناع واشنطن باستخدام الجيش الحر والفصائل الأخرى المدعومة تركيًّا، كقوة برية في سوريا.
ومع أن واسنطن وافقت في البداية على دعم هذه المعارضة إلا أنها خفضت مساعدتها بسرعة فيما بعد. وعلى الإثر دعمت أنقرة هذه الفصائل من الخلف بقواتها الخاصة؟ ولم تنجح أيضًا في إقناع الولايات المتحدة باقتراحها أن يقاتل الجيش التركي مباشرة إلى جانب القوات الأمريكية. وفضلت واشنطن التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي.
ومع قطع وكالة الاستخبارات المركزية مساعداتها تمامًا للجيش الحر هذا الشهر، أصبحت تركيا الداعم الوحيد له.
أما السبب الثاني الذي دفع تركيا للتعاون مع روسيا وإيران فهو الاضطرار إلى إلزام طهران بالحل. لأن إيران كانت أكبر داعم للأسد منذ اندلاع الحرب، وكانت تعرقل التعاون التركي الروسي، ففي ديسمبر 2016، انتهكت إيران اتفاقًا برعاية موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار في حلب.
مسؤول تركي رفيع أخبرني أن أنقرة بذلت الكثير من الجهود لضم الولايات المتحدة إلى هذه المعادلة، وأنها قامت بمساعٍ في هذا الإطار من أجل ربط مسار أستانة، برعاية تركية روسية إيرانية، مع مسار جنيف، الذي تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكد المسؤول أن واشنطن منزعجة جدًّا من قمة سوتشي ومباحثات أستانة ، وأن أنقرة بذلت جهدًا خاصًّا حتى ترسل واشنطن مبعوثُا لها إلى هذه المباحثات.
اتفاق غير مباشر مع دمشق
ومن الواضح أن أنقرة تعمل على إقامة تعاون مع جميع جيرانها كي لا تجد نفسها محاصرة من جانب القوى العظمى. وتخطط للتخلص بهذه الطريقة للتخلص من الوضع الحرج في مسألة وحدات حماية الشعب، أي بالحصول على دعم بغداد ودمشق.
لكن هل من الممكن إقامة تعاون مع النظام السوري؟ في الواقع، منذ اتفاق حلب في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 وهناك تنسيق غير مباشر بين أنقرة ودمشق. ولعلكم تذكرون أن الجيش السوري انسحب آنذاك من أجل السماح بخروج المعارضة.
بمكن لنظام الأسد أن يبدي تعاونًا مشابهًا في عفرين أيضًا. فكما هو معروف تشعر أنقرة بالانزعاج من دعم روسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي في عفرين. بل إن مسألة مشاركة الحزب في مؤتمر الحوار الوطني السوري المزمع عقده برعاية موسكو تعتبر مشكلة عالقة بين البلدين.
المسؤول الذي تحدثت معه يقول إن أنقرة لم تتفق بعد مع موسكو على خارطة طريق نهائية في هذا الخصوص. لكن لا تندهشوا إذا أعلنت روسيا في وقت قريب عن انسحاب حزب الاتحاد الديمقراطي من عفرين وتسليم المدينة للنظام السوري. واتهام الأسد قبل يومين حزب الاتحاد الديمقراطي بالخيانة والعمالة يدعم هذا الاحتمال.
وفي المقابل ينبغي ألا ننتظر حدوث اتصال مباشر بين أنقرة ودمشق في القريب العاجل. غير أنه في حال إبداء النظام تعاونًا بخصوص حزب الاتحاد الديمقراطي، قد ينشأ جو إيجابي تجاه دمشق بعد بدء مرحلة الانتقال السياسي في سوريا.
تتضح، يوما بعد آخر، هوية أصحاب المشروع الداعشي. وتتأكد واقعة أن اتهام الشعب والثورة السوريين بالوقوف وراءه كان سياسة دولية أملتها حساباتٌ ليس بينها سوء التقدير، جعلت الثورة أول ضحاياه، وحين أوشك على السقوط خلال الأشهر الماضية، أبدت قدرا من الحرص عليه، ما كان أحد يتوقعه، لإنقاذه من مصير محتوم توعده الجميع به نيفا وثلاثة أعوام. ثم، وما أن قضت مجاميع "داعش" على الجيش الحر في المناطق التي كان قد أخرج النظام منها، حتى برزت جهود تتسم بالغموض والسرية لإنقاذ أمرائها ومقاتليها، فأنقذ الأميركيون الذين تذرّعوا بالحرب ضدها، لاحتلال نيف وأربعين ألف كيلومتر مربع من شمال سورية وشرقها، بعض أمرائها، بشهادة روسيا التي تحدثت عن التقاط وحدة أميركية مجوقلة أمراء داعشيين، بينهم أمير مالية التنيظم وأسرته، وفي حوزته صناديق مجهولة المحتوى. ووصف سائقون سوريون، أمروا بنقل مقاتلي "التنظيم الإرهابي" من الرّقة إلى دير الزور، حجم ما حملوه من أسلحة متوسطة وثقيلة وذخائر، بالإضافة إلى 4500 مقاتل وامرأة وطفل، فكيف تمت عمليةٌ كهذه، احتاج تنفيذها سبعة أيام، رتب كل شيء خلالها وكأن الرّقة لا تعيش حربا، أو تتعرّض لقصف جهنمي من الطيران الأميركي، أو يوجد اتفاق أميركي/ روسي بعدم التعرّض لقافلتهم التي بلغ طولها نحو سبعة كيلومترات، واجتازت قفارا صحراوية، وكان فيها عدد كبير من الأجانب، يصحبهم واحد من أكبر أمراء التنظيم. كما نشرت وزارة دفاع روسيا صور قافلة عسكرية داعشية في طريقها من دير الزور إلى البوكمال، وأكدت أن واشنطن حمتها.
وكشف الأميركيون أن أكثر من 97% من جهد روسيا العسكري استهدف الجيش الحر، وتحاشى الرّقة، عاصمة التنظيم، باستثناء مراتٍ تعد على أصابع يد واحدة، استهدفوا خلالها مناطق طرفية لا أهمية لها، وكذلك فعلوا في دير الزور، وصولا إلى حدود العراق، حيث استهدفوا مدنيين.
يوجد كثير من الحقيقة في هذه المعلومات، فالروس ركّزوا جهدهم بعد غزو سورية على إبادة الجيش الحر، وسمحوا لقوافل داعشية اجتازت الصحراء باحتلال تدمر مرتين، من دون إطلاق رصاصة عليها، بينما قصفوا الشعب الآمن، ودمّروا ما استطاعوا تدميره من الجيش الحر، بينما لعبت فزّاعة "داعش" دورا مهما في تسويغ حربهم ضد السوريين، وفي المحافظة على التنظيم الإرهابي في الشمال البعيد، حيث أقام "دولة"، ونشر قواته الرئيسة، لكن الروس أبقوا عليه ليكون أداة مساومة مع واشنطن وأنقرة المتهمتين روسيا بدعمه.
لا حاجة لأدلة تؤكد تعاون حزب الله وإيران مع "داعش" وجبهة النصرة، بعد فضيحة إخراج مسلحي التنظيمين من البقاع بحافلات مكيفة إلى دير الزور، تحيط بهما من دون خجل حراسات حسن نصر الله وراياته، وهو الذي لطالما زعم أنه غزا سورية لمقاتلة التكفيريين، ولمنعهم من اختراق لبنان.
وحين استسلم هؤلاء بعد معركة تهريجية فضحها الإعلام اللبناني، أوصلهم بأمان وحرص إلى حيث يستطيعون استئناف "إرهابهم" ضد الجيش الحر والشعب السوري. وعندما حالت واشنطن دون بلوغهم غرضهم، أصدرت الخارجية الايرانية بيانا يتباكى على حقوق الإنسان، ويطالب بفك "الحصار" عن الأطفال والنساء المحتجزين في الصحراء، فاستجابت واشنطن لنداء الإنسانية، ودموع الغفران في مآقي عسكرها الذي يستميت للقضاء على "إرهاب داعش".
يفضح هذا الموقف الموحّد من "داعش" وجود سياسات أميركية/ روسية/ إيرانية/ حزب اللاهية تسمح لمقاتليها بالإفلات من الموت والأسر، في سورية والعراق، حيث بطش "الحشد الشعبي" بالآمنين من العراقيين، وترك الدواعش يغادرون الموصل وتلعفر إلى سورية، بينما سمح الأميركيون بمغادرة معظم دواعش سورية إلى العراق! ألا تلقي هذه الوقائع الأضواء على هوية "داعش" شركة مساهمة أسستها مخابرات دولية، تنقذ اليوم مندوبيها فيها، وتحافظ على "التنظيم" لأنه إرهابي.
قتل الاميركيون والروس والإيرانيون عشرات آلاف السوريين، وخاض الأسد حربا منظمة، بمعونة طهران وموسكو ضد شعبه، بحجة الحرب على إرهابٍ أخرج قادته من سجونه، وأسهمت مخابراته في تنفيذ عديد من عملياته. وعندما لاحت فرصة القضاء عليه، سارع الجميع إلى إنقاذه وإعادته إلى السرية، ليستخدموه من جديد، في حروب أخرى ضد "إرهاب داعش"، الذي نجحت الحرب ضده إلى درجة مكّنته من الانتشار والقتال في بلدان عديدة في آسيا وأفريقيا. .. مات الإرهاب، عاش "داعش".
حاصرتنا حلب حُرةً ومحاصرةً ومحتلةً فبكيناها فرحًا حينًا وحزنًا وحرقةً حينًا ولوعةً وانكسارًا أحياناً، ومن بعدها نحن ندور حولنا باضطرابٍ كعُبّادٍ أُخبروا أنّ النار والسخط حتم عليهم بذنبٍ ارتكبه الآخرون. هُزمنا بغباء آخرينَ وتآمرُ آخرينَ غيرهم كما هزمنا بعجزنا وتخاذل من بذلوا لنا الأيمانَ أنّهم أصدقاؤنا الأوفياءُ؛ هزمنا بنا بقهرنا وبكل ما جنته يدانا من ثقةٍ في غير موضعها وخلافٍ ليس أوانه، وبقي في حلب وخارجها صوتُنا يتيمًا بالشوارع شوارع اللجوء وشوارع حلب القابعة تحت مرمى النار والقلب والحسرة، يُنادوننا منها ونجيبهم بصرخاتنا ودموعنا وعجزنا الممتد منهم إلينا ومنا إليهم، بقايا إرادة وثورة وثأر يتجذر فينا، وينخر القلب والروح.
مجزرة في "بستان القصر" فأخرى في "المشهد" تليها أخرى مروّعةٌ في "الصاخور" ومثلها في "طريق الباب" وكذلك في "الزبدية" وهكذا نحفظُ أسماءَ أحيائها من أسماء مجازرها وترسمُ جغرافيا المدينة دماءُ الشهداء وأشلاءُ من بقوا تحت الأنقاضِ لا يريدون الرّحيل وعلى حجارتها ذُبحوا ولم يقولوا نعم؛ هؤلاء هم يا درويش القصيدة من قالوا بأشلائهم المذبوحة على حجارتها:
"و لو أنّا على حجرٍ ذُبحنا"
لن نغادر ساحةَ الصّمت التي سوّت أياديكم
سنفديها ونفديكُم
مراكبُنا هنا احترقت
وخيّمنا على الرّيح التي اختنقَت هنا فيكم
ولو صعدت جيوشُ الأرض هذا الحائط البشريّ
لن نرتدّ عن جغرافيا دمكم.
مراكبنا هنا احترقت
ومنكم؛ من ذراعٍ لن تعانقنا
سنبني جسرنَا فيكم
شوتنا الشمس
أدمتنا عظام صدوركم
حفّت مفاصلنا منافيكم
"ولو أنّا على حجر ذبحنا"
لن نقول" نعم"
فمن دمنَا إلى دمنَا حدود الأرض
من دمنا إلى دمنا
سماءُ عيونكم وحقول أيديكم
نناديكم
فيرتدّ الصّدى بلدا
نناديكم
فيرتدّ الصّدى جسدا
وشبرًا فشبرًا سُلبت منا الأرض منذ سنة بالتّمام واقتُلعنا منها بذورَ حرية، وعطشى كرامة وعدالة، تحوّلنا ببطشِ أنذالِ العصر من مقاتلين مدافعين عن الفكرةِ والأرض والعرض إلى مناشدي ضمائر الإنسانية المعدومة أن تلفّ ما بقيَ منّا هناك بتحنانها، فهل جرّبت أن تكون مقاتلًا عاجزًا عن ردّ صواريخ تتهاطل على أهلك؟!
طوينا اليومَ عامًا قاتمًا غرباء بلا حلب، حاملين جراحًا دامية ولا أُفق، كان آخر العهد صورَ باصاتٍ خضراء مثقلة بعرق وقلق الرجل الستيني وراء بسطته يبيع ما يتيسر ليتم تعففه، ومتزاحمة بضوضاء عائلة استُشهدت إلا واحدًا يضج رأسه بحواراتها، باصاتٍ تتكدّس فيها حقائب المغادرين، مملوءة بدمعة أمٍّ مكلومة وحنوّ أبٍ مفقود وعيون أخٍ شهيد بذكريات للزمن القادم من زمانٍ صنعنا على عينه خائبين بحسرةٍ لا نكاد نحملها، وصوت أجراس يرتفع في كل ناحية من ارتطام مفاتيح البيوت المتروكة بعضها ببعض، شيء واحد خيّم على المكان صمتُ المقاتلين الثقيل، وحده ما لم نستطع عليه صبرًا.
"لم نستسلم رغبةً ولم نتباكَ ضعفًا وذلًّا" بهذا سنخبر أبناءنا حمّالي الثأر ووهج الثورة؛ أننا احترقنا اختيارًا وأنفقنا أعمارنا وشبابنا وصحتنا وأعصابنا طوعًا ورغبةً، وأننا كنّا بحلب ولها كما يكون الثائر ثباتًا وتحمّلًا في سبيل الأرض والحرية والكرامة فلمَّا ننتصر لكنَّنا أيضًا لم نهزم، من قال إنه علينا أن ننتصر لنكون؟
نحن كُنّا لمّا سلكنا طريق الثورة وعشنا تبعاتها واحتملنا آثارها فينا وبنا وبأهلينا الأولين، وأوقدنا من أعمارنا وأضلاعنا قبسًا لم يغلبه ظُلم اللّحظة وظلامها، كنّا لمّا آمنّا أنّ الكلمة تردّ الحق، وأن صرخة في الساحة تزلزل عرش المتألّهين على كراسي الحكم، كنّا لمّا فتحنا صدورًا عارية للدبابة والرصاص، كنّا لما غنّينا لشهدائنا سكابا وعتابا، كنّا لمّا حملنا في ذواكرنا دموع أمهاتنا وفزع آبائنا ولمّا لاحقتنا وجوههم المكتهلة في المنام واليقظة في الوطن والغربة، كنّا لمّا قررنا أن السلاح قد يعيننا على حقنا ويطفئ دماء إخوتنا الشهداء الملتهبة فينا، كنا لما خذلنا الآخرون ولم نترك المعركة حتى آخر رصاصة، كنّا لما تكورنا في زوايانا يتامى وطنٍ وأهل، كنّا لمّا لم يمنعنا عجزنا عن تكرار الوقوف والصراخ والهتاف، كنّا لما رأينا أعداءنا يحتفلون على أرض حلب ويرقصون ولكننا لم نفقد عقلنا ذهولًا، وكنّا لمّا خسرنا الأرض والأرواح ولم نزدد بالثورة إلا إيمانًا، كنّا لمّا لم ننتظر النصر لنكون، كنّا لما بكينا وغنّى الآخرون؛ كنَّا ومازلنا وسنبقى حلبٌ قصدنا وإليها السبيل.
في عام 1920 قام المجلس الأعلى للحلفاء، أي المنتصرين، في الحرب العالمية الأولى بعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا لاقتسام تركة الرجل المريض، الذي خسر الحرب: السلطنة العثمانية. ومما ترك الرجل المريض: بلاد الشام، أي العراق وسورية الكبرى.
عقد هذا المؤتمر على عجالة برعاية أكبر دولتين استعماريتين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، إثر فشل مؤتمر باريس، ورفض الولايات المتحدة فرض هيمنة الدولتين على منطقة الشرق الأوسط، ومقاومة العرب لسياسة الهيمنة الأنكلو فرنسية، والمطالبة بالاستقلال التام وتنصيب الملك فيصل ملكا على سورية.
وقد استغلت الدولتان غياب الولايات المتحدة بعودة الرئيس وودرو ويلسون إلى واشنطن، واتخاذ سياسة العزلة الاطلسية لعقد هذا المؤتمر، لتمكين الدولتين الاستعماريتين من تنفيذ مخططاتهما الاستعمارية التي بدأت مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
في هذا المؤتمر بحث المؤتمرون نتائج معاهدة سيفر، التي حددت مستقبل سورية والعراق. والمستقبل الذي رسم بالمقص على الخريطة الشرق أوسطية، قسّم سورية الكبرى إلى أربعة أقسام: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وتم وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.
بعد أقل من شهر قام السوريون بعقد مؤتمرهم لرفض مقررات مؤتمر سان ريمو، وإعلان استقلال سورية الكبرى، ورفض معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور. في الرابع والعشرين من يوليو من العام نفسه غزا الجيش الفرنسي سورية بقيادة الجنرال هنري غورو فتصدى له الجيش السوري بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون، حيث استشهد العظمة واستطاع الجيش الفرنسي غزو سورية والسيطرة عليها، وقام بتقسيمها إلى خمس مناطق على أساس طائفي. على إثرها اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان الأطرش في جبل الدروز، وحسن الخراط في دمشق وغوطتها، وصالح العلي في جبال العلويين، وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية (هذه الثورة أكدت على وحدة الشعب السوري بكل مكوناته) حدث كل ذلك أمام نظر الولايات المتحدة الامريكية وعصبة الأمم. ولم يتمكن السوريون من نيل استقلالهم إلا عام 1946 بعد مخاض عسير وانتفاضات متتابعة ضد المحتل الفرنسي.
اليوم وبعد قرن كامل تقريبا يعيد التاريخ نفسه مع تغير القوى الفاعلة والغازية، فالشعب السوري في ثورة ضد نظام حكم طائفي تسلطي أسري، يجثم فوق صدره منذ أربعة عقود ونيف، وكاد النظام الأسدي يتهاوى تحت ضربات المعارضة قبل أن يستنجد الوريث بشار الاسد بحليفه الايراني أولا، الذي سرعان ما أسعفه بميليشيات حزب الله وميليشيات طائفية لبنانية وافغانية وباكستانية وايرانية ثم عراقية، ومع كل هذه الحشود الميليشياوية الطائفية التي حاولت وأد الثورة بارتكابها أبشع المجازر بحق الشعب السوري، لم تتمكن من إخماد الثورة الشعبية التي كادت أن تنتصر على الجميع وتسقط نظام الاستبداد.ولم يعد أمام الوريث سوى الاستنجاد بالحليف الروسي، وبعد حوالي سنتين من تدخل روسيا العسكري، خاصة بسلاحه الجوي ومختلف اسلحته الفتاكة التي قامت بتدمير المدن السورية وقتل آلاف المدنيين تحت مسمى «محاربة الإرهاب».
استطاعت روسيا فرض نفسها كدولة محتلة تقود نظاما فاشلا مستسلما لإملاءاتها، تغزو سورية ليس لإنقاذ نظام يقتل شعبه فحسب، بل للهيمنة على سورية والسيطرة على قرارها السياسي، في غياب تام للولايات المتحدة الامريكية، بعد اتفاق سري بين دونالد ترامب الذي تخلى عن الدور الامريكي في الشرق الأوسط، وفلاديمير بوتين صاحب الشهية الكبيرة لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من سورية الجريحة، وقد رافقت العملية العسكرية عملية سياسية موازية بدأت باجتماعات أستانة التي ضمت وفدا معارضا من الفصائل المقاتلة، ووفدا من نظام الأسد بالتنسيق مع ستيفان ديمستورا، والتي تمخضت عن اتفاقات ما سمي «بمناطق خفض التوتر»، التي شملت اربع مناطق: ادلب، درعا، حمص، الغوطة الشرقية، وهذه الاتفاقات كانت حبرا على ورق، هدفها المعلن شبه وقف لإطلاق النار، وهدفها المضمر هو كسب الوقت لتحقيق انتصارات جديدة في المناطق المستعصية حتى الآن، فالغارات الأسدية ـ الروسية بقيت مستمرة تحصد عشرات الضحايا يوميا، بعد سبع جولات من هذه المحادثات، حيث دعت روسيا في ختام الجولة السابعة إلى مؤتمر حوار وطني في سوتشي، إلا أن الائتلاف الوطني وهيئة اركان الجيش السوري الحر رفضا المشاركة في المؤتمر، الذي يعتبر محاولة للالتفاف على مقررات محادثات جنيف.
وفي الثاني والعشرين من نوفمبر عقد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية التي شملت منصة القاهرة ومنصة موسكو بعد استقالة الرئيس السابق للهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب ومجموعة من الهيئة، بعد تسريبات عن ضغوط سعودية للقبول بفترة انتقالية لا تتم فيها المطالبة برحيل بشار الأسد، لكن في البيان الختامي للهيئة العليا للمفاوضات أكدت على تمسكها برحيل الأسد وزمرته كشرط اساسي لبدء المرحلة الانتقالية.
بالأمس وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة إلى سورية وحط في قاعدة حميميم الروسية التي باتت أرضا روسية، ودعي بشار الأسد لحضور مراسم تهنئة الجنود الروس كشاهد على انتصارهم الأسطوري على « الإرهاب» بعد قتل آلاف السوريين وتدمير مدنهم من قبل القاذفات السورية، وتجربة كل أسلحة الترسانة الروسية في مشافيهم وأسواقهم ومدارسهم، ولم يسمح له حتى السير بمحاذاة الرئيس المنتصر، بما يعني أن سورية لم تعد ملكا لآل الأسد فملكيتها اليوم تتبع للمنتصر ككل المنتصرين في الحروب. فالأسد أدخل الدب الروسي إلى كرمه ولن يخرج منه، وفي الوقت الذي يعلن فيه بوتين انسحاب قواته «اللفظي» يقوم بتوسيع قاعدة طرطوس البحرية، فهذه القاعدة حلم بها قياصرة روسيا قبله للوصول إلى المياه الدافئة ولن يخرج منها. هذا من ناحية الشق العسكري، أما الشق السياسي الذي يحضره المطبخ الروسي في سوتشي، تحت مسمى « الحوار الوطني السوري» الذي فرض فيه منصة موسكو، ومنصة القاهرة، ودعوة مئات الأشخاص الذين لا يمثلون الشعب السوري، كي يتم إغراق المعارضة، والالتفاف على محادثات جنيف وتهميشها، وتعويم بشار الأسد، وشرعنة الانتداب الجديد على سورية بعد مئة سنة تقريبا من الانتداب الفرنسي: الانتداب الروسي.
الخناق يضيق على إيران، فتقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أدان تسليح إيران لميليشيا الحوثي، وقد عقدت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي مؤتمراً صحافياً الخميس الماضي، في إحدى القواعد العسكرية الأميركية قدمت فيه أدلة واضحة على إدانة النظام الثوري الإيراني بدعم مباشر بالأسلحة والصواريخ الباليستية التي تستهدف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وعرضت لأول مرة حطام الصاروخ الذي استهدف مطار الملك خالد الدولي بالرياض، مع عددٍ من الأدلة الأخرى.
الخناق يضيق على ميليشيا الحوثي، الذراع العسكرية للحرس الثوري الإيراني في اليمن، والميليشيات الإيرانية في لبنان وفي سوريا وفي العراق ستواجه نفس المصير، وإن اختلفت السبل لتحقيق ذلك كله حسب اختلاف المعطيات وحجم المتغيرات، ولكن السلاح خارج الدولة سيتم نزعه ضمن استراتيجية دولية يتم بناؤها.
الإدارة الأميركية تبنّت بنفسها الدعوة لتحالفٍ دولي لإدانة إيران وإيضاح تهديداتها للأمن الإقليمي والدولي، وهي تأخذ موقفاً تصعيدياً ضد إيران وتسعى لإقناع حلفائها من الدول الأوروبية بحقيقة خطورة إيران الراعية للإرهاب والطائفية والفوضى.
وهي خطوة جديدة من هذه الإدارة الأميركية الواعية بالخطر الإيراني بعد موقفها من الاتفاق النووي مع إيران، وهي تتجه إلى تشكيل تحالفٍ دولي يواجه كل مخاطر إيران وسياساتها التخريبية واستراتيجيتها الإرهابية في المنطقة والعالم، وهو توجه يرجع إلى مصلحة أميركا نفسها ومصلحة دول العام أجمع، ولئن أعشت بعض المصالح الآنية بعض العواصم الأوروبية عن رؤية الخطر الذي تمثله إيران، فقد حان الوقت لتستفيق.
حين تتم تعرية المشروع الإيراني ومجابهته دولياً فلن يكون بيد حلفائها الإقليميين الداعمين للإرهاب في إحدى الدول الإقليمية وفي قطر إلا التراجع عن دعم الإرهاب وميليشياته وتنظيماته وجماعته، من «الإخوان المسلمين» إلى «داعش»، ومن «حزب الله» اللبناني إلى ميليشيا الحوثي.
لم يكن الوصول إلى نظامٍ دولي جديدٍ في العالم أمراً سهلاً بأي حالٍ، فمنذ معاهدة وستفاليا مروراً بعصبة الأمم وصولاً إلى الأمم المتحدة، كانت الرحلة مليئة بالنزاعات والصراعات، والمعارك والحروب، منها حربان عالميتان، ومخطئ من يظن أن مواجهة إيران وإعادتها للخضوع مجدداً للنظام الدولي ستكون سهلة، فكثيرٌ من السلام والاستقرار الذي يعيشه العالم اليوم صنعته الحروب والآلام.
خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية لا يتوقف على بعض مطارات أوروبا، كما تحدثت هيلي في مؤتمرها الصحافي، بل هو يصل إلى العديد من العواصم في شرق آسيا والعديد من المدن الصينية ودول آسيا الوسطى وأجزاء من روسيا، فضلاً عن العديد من الدول العربية ودول المنطقة.
كيف تفكر قيادات إيران؟ وكيف تفكر قيادات «الإخوان المسلمين»؟ وكيف تفكر قيادات كل جماعات الإسلام السياسي؟ إنهم يفكرون في القتال والحروب الدائمة للسيطرة السياسية باستخدام جميع أنواع الأسلحة بلا استثناء، واستخدام كل المحرمات الدينية والسياسية وغيرها لتحقيق أهدافهم، وهم ينتظرون مخلّصاً يمهدون له آيديولوجياً، وهؤلاء، كما قال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، لا يمكن التفاهم معهم.
فمن ذلك، القدرة على التحول السريع، والرهان على قلة الوعي والعلم، مع حملات التحشيد وزرع الاتهامات والتشكيك في الدولة والقيادة، كلها أدوات سياسية أتقنتها قيادات جماعات الإسلام السياسي، السُّنِّي منها والشيعي، مع قدرة عجيبة على التحول غير المنطقي وغير الموضوعي بين خطابين متناقضين في وقتٍ واحدٍ تقريباً، خطاب الرصاص بما يستدعيه من عنفوان القوة والتحدي الفكري والواقعي والعملي، وخطاب المظلومية والحزن والألم والانكسار.
وبالنظر إلى أصول الخطابات، يمكن للمتابع رصد كثيرٍ من التشابه بين الخطابات القومية بأنواعها واليسارية بأصنافها، وخطابات الإسلام السياسي بتصنيفاتها، سُنية كانت أم شيعية، في التعامل مع اللحظة الراهنة والواقع المعيش تجاه الملفات الكبرى في المنطقة وتطوراتها، لأن هذه الخطابات تصدر عن منابع متشابهة مهما بدا بينها من اختلافات أو تعارضات.
تطرح هذه الخطابات مواقف متناقضة في هذه المرحلة التي نعيشها اليوم، والتناقض مع استحالة تبريره منطقياً هو مسلكٌ سياسي مفيدٌ في بعض الأحيان وبالذات في لحظات الأزمات المهمة، ولفهم ما يجري، يمكن طرح أسئلة بالغة الأهمية في هذه المرحلة، من مثل: لماذا تُظهر جماعاتٌ فلسطينية بغضاء غير مسبوقة وغير مبررة للمملكة العربية السعودية، الداعم الأكبر لقضية فلسطين والقدس؟ ولماذا تتغول ميليشيا الحوثي في اليمن؟ وتدعمها قطر بكل ما تمتلك من مالٍ؟ وتدعمها تركيا وتزايد في قضية هي أكبر الخاسرين فيها بعلاقاتها المستمرة مع الحكومة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً بل وعسكرياً؟
التناقض يشكل قوة أحياناً، وإعجاز الناس عن الفهم ينطلق من الشعور بكثرة الأتباع وجهلهم، وإحكام السيطرة عليهم، والشعور الدائم باعتقال أذهانهم، وهو أمرٌ ليس سهلاً بحالٍ، ولكنه بالغ التأثير، وهو أسلوبٌ استخدمه هتلر وموسوليني وغيرهما، ومن هنا جاء تشبيه الأمير محمد بن سلمان لخامنئي بهتلر، وهو ما لم يفهمه بعض الدول الأوروبية بعد.
مَن الذي قضى على «داعش»، حيث أبشع نماذج خطابات الرصاص السني؟ ولمن يتم منح القدرة على القضاء عليه في العراق وسوريا؟ هل للحشد الشعبي الطائفي الإرهابي وخطاب الرصاص الشيعي؟ أم لقوات الدولة العراقية وقيادة وضربات التحالف الدولي؟ أم لتخاذل أوباما السابق؟ ثم مَن الذي سيقضي على الحوثيين في اليمن، حيث مثالٌ صارخٌ على خطاب الرصاص والتوسع والنفوذ الإيراني؟
فتِّشوا عن هذه الخطابات، وهذه المقولات، وهؤلاء الرموز الذين يطلقونها، وستجدونها جميعاً تصب في مصلحة الأعداء والخصوم، يحزنون لما يسرّ السعودية ودول الخليج والدول العربية، ويفرحون لما يضرها ويزعزع أمنها واستقرارها.
المحزونون لتغير الأوضاع، وإعادة ترتيب توازنات القوى في المنطقة هم بكل صراحة أتباع الوضع الماضي، الوضع الذي أضاع من تاريخنا وتراثنا وثقافتنا كل جميلٍ، وهم الذين وضعوا قواعد وأسس ومعايير، خرّبت البلدان العربية، ودمرت شعوبها، على مدى عقودٍ، كلّها كانت تتغذى على أزمات المنطقة وتستغلها لمصالح شخصية أو حزبية أو آيديولوجية، كانت جميعاً وبالاً. أخيراً، لم تزل تتشكل في المنطقة تحركات كبرى تقودها السعودية وحلفاؤها من الدول العربية والدول المسلمة، وحلفاؤها الدوليون غرباً وشرقاً، وهي تسعى جهدها للإمساك بخيوط اللعبة الإقليمية مع تجاوز توازنات الماضي، والعمل الواقعي في الحاضر، وبناء مستقبلٍ أفضل، ولكل متابعٍ أن يفتش في كل الملفات ليكتشف هذه الحقيقة.
قالت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته قبل بضعة أيام إن بلادها جمعت أدلة دامغة على أن الصاروخ الذي أطلقته جماعة "أنصار الله"- الحوثي ضد الرياض سابقاً يحمل بصمات إيران، وأكدت أنّ تجميع وتحليل الأجزاء التي تم العثور عليها توصل الى استنتاج واحد مفاده أن إيران قامت بتزويد الحوثيين بالصاروخ لاستهداف السعودية، وأنه ما من شك في هذا الأمر.
وأنكرت إيران هذا الاتهام ونفت أن تكون قد زودت الحوثيين بصواريخ، واتهمت بعثة إيران في الأمم واشنطن بفبركة أدلة، وقام وزير الخارجية الايراني جواد ظريف بعدها باستخدام صورة لنيكي هيلي في تغريدة له الى جانب صورة لوزير الخارجية الامريكية السابق كولن باول وهو يشرح للعالم حينها بأن هناك أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، في محاولة للإيحاء كذلك بأن واشنطن تحاول تكرار نفس الأمر الذي جرى في العراق مع إيران.
بغض النظر عما قيل أعلاه، هناك اعتقاد راسخ بأن النظام الإيراني قام بالفعل بتزويد الحوثيين بهذه الأسلحة، لكن أساس النقاش لا يجب أن يرتبط بهذه النقطة بالتحديد، وإنما بمسائل أخرى يراد تشتيت الانتباه عنها، والمسألة الأولى تتعلق بمحاولة استخدام إيران للتاريخ من أجل تزوير وعي الناس حاليا.
وزير الخارجية جواد ظريف يريد أن يذكّر الناس بأنّ واشنطن كاذبة ومراوغة وأنّها تحضّر ربما للإيقاع بإيران، لكنه لا يريد منهم أن يتذكّروا أنّ طهران قامت بمساعدة واشنطن على غزو العراق، وأنّها ساهمت في توحيد المعارضة الشيعية آنذاك في اجتماعات متعددة تمهيدا لاستلام السلطة، وأنّها دفعت بميليشيات بدر التي أنشأتها ودربتها وسلحتها من أجل الدخول إلى بغداد مع المحتّلين، والأهم من كل ذلك، أنّ ظريف لا يريد تذكير الناس بأنّ نظام الولي الفقيه ورث العراق بالكامل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بسبب هذا الموقف الأمريكي.
النقطة الأخرى تتعلق بموقف إدارة ترمب من النظام الإيراني، إذا كانت مندوبة الولايات المتّحدة في الأمم المتحدة تعتقد حقّاً بأنّ لدى إدارة ترمب أدلة دامغة على تزويد طهران للحوثيين بالسلاح وعلى أن طهران تخرق القرارات الأممية والأمريكية، ليس على مستوى الصواريخ والتسلح فحسب، وإنما على مستويات متعددة أخرى، فما الذي يمنع واشنطن من اتخاذ قرار بمواجهة إيران؟
من المؤشرات السلبية التي توحي أن إدارة ترمب قد تظل تراوح مكانها على المستوى العملي، وأنه باستثناء بعض التصريحات، وبعض الخطوات التقليدية المعروفة كالعقوبات، لن تقوم على الأرجح بعمل فعلي مؤثر ضد إيران، وهو مضمون المؤتمر الصحفي لنيكي هيلي والذي دعت فيه إلى تعاون العالم من أجل هزيمة الخطر الايراني وإلى تشكيل تحالف دولي من أجل مواجهة إيران.
ما الذي يمنع واشنطن من أن تأخذ زمام المبادرة وتواجه إيران بكل السبل المتاحة؟ لقد أثبت ترمب قبل أيام قليلة فقط من هذا المؤتمر، أن الولايات المتّحدة عندما تريد أن تفعل شيئا بمعزل عن رأي العالم أجمع به تستطيع أن تفعله لوحدها، بدليل القرار المتعلق بالقدس، والذي حذرت معظم دول العالم من عواقبه إذا ما اتخذته الإدارة الأمريكية، وبالرغم من ذلك مضى ترمب في طريقة غير آبه بأحد.
إيران ليس بريئة بالتأكيد، وهي تستغل كل يوم الأخطاء التي ترتكب من قبل خصومها والمساحة الفارغة التي يتركها انسحابهم أو انكفاؤهم لتعزز من نفوذها ودورها في المنطقة، وبالرغم من الضجيج الذي نسمعه هنا أو هناك عن الاستعداد لمواجهتها، فإن هذا الأمر سيبقى على الأرجح مجرد كلام ما لم نشهد تغيرا جذريا في سلوك واشنطن وحلفائها العاجزين.