أعلنت روسيا، منذ البداية، أن تدخلها العسكري في سورية سيكون محدوداً، ولمدة تتراوح بين شهرين وثلاثة شهور، وبعد مضي أكثر من عامين على هذا التدخل، ظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في زيارته القصيرة للقاعدة الجوية الروسية في سورية، وقال، مرةً أخرى، إن الجيش الروسي أنجز مهمته، وسيعود إلى بلاده. وصحيح أن هذا الأمر كان قد تعهَّد به مراراً في السابق، إلا أن التوقيت والدلالات مختلفة هذه المرة.
ترك بوتين لنفسه مساحةً كبيرةً للمناورة بقوله إن "جزءاً كبيراً" من القوات سيعود إلى البلاد، وإفادته بأن روسيا أسَّسَت وجوداً دائماً في سورية من خلال قاعدة حميميم وقاعدة طرطوس البحرية المُوسَّعة. وكان ديمتري بيسكوف، المُتحدِّث باسم بوتين، أكثر غموضاً، حين أشار إلى إنه لا يوجد جدولٌ زمني مُحدَّد للانسحاب، وقال: "من الواضح أنها مسألة لا تنتهي بين ليلةٍ وضُحاها". ولا بد من التساؤل عن جدوى الحملة العسكرية التي قامت بها روسيا على مدار عامين؟ وعما يريد بوتين؟ وهل حقق ما يصبو إليه؟
كان الهدف الرئيس من التدخل العسكري الروسي إنقاذ نظام الأسد من السقوط، وإضعاف أعدائه، كما أرادت روسيا ضمان مصالحها، وعرض قواتها العسكرية، واختبارها، إضافة إلى استهداف التنظيمات المتطرّفة، بسبب مشاركة المواطنين الروس في نشاطها، كما حاول بوتين ربط تحركاته في سورية بملفات أخرى، مثل نزاع أوكرانيا، والخلافات مع الاتحاد الأوروبي، والعقوبات الغربية على روسيا. وينظر بعضهم إلى أن التدخل الروسي ساهم، نوعاً ما، في تحجيم الدور الإيراني الذي استفرد بالقرار السوري، منذ نهايات عام 2012، حيث انعكس الانزعاج الإيراني من التهميش الروسي، بتقارب إيراني مع تركيا، إضافة إلى تصريحاتٍ سابقة للرئيس الإيراني، حسن روحاني، تفيد بعدم رضا إيران عن جميع القرارات التي تتخذها روسيا في سورية، إلا أن ذلك كله لا يرتقي إلى مستوى خلاف روسي - إيراني على أهدافهما القريبة في سورية.
أوجد التدخل الروسي نوعاً من التوازن العسكري في ميزان القوى بين جميع الأطراف، بحيث لا يسمح لأي منها بتحقيق أي انتصارٍ يمكن أن يقلب المعادلة على الأرض السورية، واستطاعت روسيا إعادة مناطق كثيرة في سورية إلى يد النظام، باستثناء بعض المناطق في شمال شرقي البلاد. وعلى الرغم من أنه من الممكن أن تعيد الجماعات المتطرّفة بناء نفسها مرة أخرى، إلا أن تحذير بوتين شديد اللهجة لهم، يترك باب الاحتمالات مفتوحاً.
وقد استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط وغياب دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصا سورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، سيما الخليجية منها. وقد عملت روسيا بتدخلها العسكري في سورية على تحقيق أهداف جيو - استراتيجية، ونجحت، إلى حد كبير فيها، على الرغم من فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف، وجاء قرار إعلان الانسحاب مع اقتراب موعد مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، فموسكو ينتظرها دور سياسي مهم، حين يعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي سيضم ممثلين عن المعارضة السورية. ووفقا للرؤية الروسية، فإن الحل الوحيد للأزمة السورية يتمثل في تشكيل حكومة جديدة، لإعادة الهدوء إلى البلاد، إلا أن موقع "المونيتور" الأميركي يعتبر تنفيذ تلك الرؤية مع رئيس مثل الأسد أمرا صعبا للغاية. وهنا يجب أن تظهر قدرات موسكو الدبلوماسية في تطبيق رؤيتها.
ويرى مراقبون أن إعلان روسيا الانسحاب، بالتزامن مع مفاوضات جنيف بجولتها الثامنة، واقتراب الجولة الثامنة من محادثات أستانة، والاستعداد لمؤتمر سوتشي، رسالة إلى الأطراف الإقليمية بالدرجة الأولى التي اعتبرت أن روسيا، بتدخلها العسكري، أبعدت الحل السياسي، وعقّدت الوضع السوري المعقد أصلاً.
وعلى الرغم من التدخل العسكري الروسي القوي في سورية طوال عامين، إلا أن روسيا ما زالت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي، خصوصا بعد إعلان الانسحاب، وباتت تواجه تحدياً من نوع آخر هذه المرة، سياسي وليس عسكريا.
ومن هذه الزاوية، تعاونت موسكو سياسيا وعسكريا مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف. وكان ذلك خلال محادثات أستانا، الذي نظمته موسكو بالتعاون مع طهران وأنقرة، حيث استطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سورية، بالإضافة إلى إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد.
ولا يمكن تجاهل موقف دول كبرى عديدة، والإقليمية الرافضة للنفوذ الإيراني في سورية والمنطقة، وهو ما يجعل روسيا في موقفٍ لا تحسد عليه، فهي تخشى على علاقاتها السياسية والاقتصادية القوية مع تلك الدول، التي يثير التقارب الروسي الإيراني استياءها.
ويبقى القول إن لجولة بوتين أخيرًا من حميميم إلى أنقرة مروراً بالقاهرة رسائل داخلية أيضاً، إذ تستعرض دوره زعيماً أعاد لروسيا هيبتها التي فقدتها في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، في وقتٍ يشرع فيه بحملته للفترة الرئاسية الخامسة. وعلى الرغم من ثقته من انتصاره في الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار من العام المقبل، إلا أنه يسعى للحصول على مستوى عال من الدعم، وإقبال قياسي في عملية الاقتراع.
الرسائل التي تعمد الرئيس فلاديمير بوتين توجيهها خلال زيارته الخاطفة قاعدة حميميم لم تقتصر على البعدين الإقليمي والدولي، إذ كانت الرسالة الأكثر دلالة موجهة إلى الداخل الروسي.
كان في مقدور بوتين أن يعلن من موسكو انتهاء العمليات العسكرية، وبدء الانسحاب الجزئي. لكن وجوده في القاعدة الروسية محاطاً بجنرالاته، ومستعرضاً معهم مسار «الانتصار الكبير» وملامح المرحلة المقبلة. يضاف إلى المشهد الذي رسمت تفاصيله بدقة للرئيس السوري بشار الأسد واقفاً على بعد خطوة واحدة... خلفه. وكل ما رافق الزيارة من تفاصيل هدف إلى تكريس الفكرة التي طرحتها وزارة الدفاع الروسية مبكراً، منذ الأيام الأولى للتدخل الروسي المباشر في سورية: الرئيس الروسي هو صاحب قرار الحرب والسلام.
تجاهل بوتين مسار جنيف وهو يحدد الخطوات المقبلة. وثبت تحالفه مع إيران وتركيا كشريكين في صناعة التسوية السياسية. محدداً بذلك خياراته الإقليمية لاحقاً، مع إبداء الحرص على إقامة ركيزة ثالثة للسياسة الروسية في الشرق الأوسط من البوابة المصرية.
داخلياً، ثمة أهمية خاصة لتوقيت إعلاني «الانتصار» و «الانسحاب»، مرتبطة بانطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية في روسيا. وعلى رغم أن بوتين يحظى بشعبية مريحة، ستحمله بثقة إلى كرسي الرئاسة لولاية رابعة في الربيع المقبل، لكن لا يمكن الكرملين تجاهل تزايد القلق لدى شرائح واسعة في المجتمع الروسي بسبب الحرب في سورية. وخلال عامين تزايدت المخاوف من انزلاق روسيا إلى «أفغانستان جديدة»، ومن شبح اتساع المواجهة مع الولايات المتحدة. عموماً، ساد نوع من «عدم فهم» أسباب التدخل، و «لماذا نرسل أبناءنا إلى بلد بعيد لا تربطنا معه مصالح كبيرة»، وفقاً لنتيجة استطلاع أجراه مركز دراسات الرأي العام في العام الماضي. وكان لافتاً أن أكثر من 50 في المئة من الروس قالوا أنهم يرغبون في انسحاب «فوري» للقوات الروسية من سورية في استطلاع أجراه مركز ليفادا المستقل قبل نحو شهرين.
في هذه الأجواء، اكتسب التركيز على «الانتصار العسكري الكبير» و «إنجاز المهمة» أهمية كبرى، خصوصاً عندما يتم ربط ذلك مع تكرار أن روسيا «نفذت عملية نظيفة» لجهة أن «الخسائر الروسية في حدود متدنية جداً».
وعكس خطاب الإعلام الرسمي جدية المخاوف من «محاولات غربية» للتدخل في مسار الانتخابات أو السعي إلى زعزعة الأوضاع الداخلية أثناء الحملة الانتخابية أو بعدها. وهنا، خدم المثل السوري هدف الترويج لضرورة «حماية روسيا من التداعيات الخطرة للتدخل الأجنبي».
لتحقيق ذلك استخدمت البروباغاندا الداخلية الروسية خطاباً مزدوجاً، فهي إلى جانب التركيز على التهديد الذي يمثله الإرهاب «العائد» إلى المدن والشوارع الروسية، والذي ذهبت روسيا لتحاربه في «معقله»، سعت إلى إيقاظ ذاكرة الروس الذين لم ينسوا بعد أهوال الحرب القوقازية، عبر عقد مقارنات لا تنطبق غالباً على الواقع السياسي أو حتى التضاريس الجغرافية. مثل الإشارة إلى أن «من تبقى من مجموعات إرهابية منفصلة في سورية يتحصن في الجبال الوعرة والغابات الكثيفة». وهي عبارة مستعارة من بيانات العسكريين الروس نهاية تسعينات القرن الماضي.
لكن الأكثر دلالة هي المقاربة التي تضع جانباً هدف «مكافحة الإرهاب» وتركز على أن المهمة التي تم إنجازها في سورية هي «النجاح في سحق الطابور الخامس الذي وظفته واشنطن لزعزعة الأوضاع في البلاد» وأن مهمة الغرب في حشد قوى موالية ستكون أصعب خلال المرحلة المقبلة.
كتب أحد المعلقين السياسيين البارزين أن السوريين «شبعوا من شعارات الديموقراطية، وباتت لديهم مناعة ضد الليبرالية». بمقدار ما تحمل العبارة إسقاطات داخلية، فهي تختصر في الوقت ذاته مغزى «الانتصار الروسي» في سورية.
زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سورية يوم الإثنين، للاحتفال مع بشار الأسد أولاً ببسط نفوذه في المتوسط من قاعدة بحرية باقية إلى أجل غير مسمى في طرطوس، وثانياً لمنع امتداد أي نفوذ أميركي وغربي. فبوتين أنقذ بشار الأسد الذي بدأ حرب أهلية على شعبه قتلت أكثر من ٤٥٠ ألف مواطن وشردت الملايين. وأدت إلى أكبر موجة من اللاجئين في التاريخ. لولا القوة الجوية العسكرية الروسية ومقاتلو «حزب الله» ومرتزقة إيران على الأرض، لما استطاع بشار الأسد استعادة السيطرة على معظم المدن مثل دمشق وحماة وحمص واللاذقية وحلب بعد تدميرها. وجاء بوتين الإثنين ليطمئن الأسد في بلد أصبح تحت وصايته المشتركة مع إيران أنه باق تحت مظلته. فبوتين كما الأسد، يطمح إلى إعادة ترشيح نفسه في انتخابات على نمط انتخابات سورية المفبركة. وانتصار روسيا بوتين جعل معظم الدول العربية تسرع إلى التحاور معه، لأنه حول مركز النفوذ العالمي في المنطقة إليه. وأصبحت روسيا القوة المهيمنة في هذا الشرق الأوسط المأساوي، بعد أن تخلت الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين أوباما وترامب عن الاهتمام بمصير سورية. وقد انطلقت مرة أخرى، مفاوضات عقيمة في جنيف بين معارضة سورية تنهال عليها الانتقادات الدولية حتى من المبعوث الأممي، فيما يستفيد النظام من حماية روسيا وإيران والعالم أصبح يتجنب إدانة جرائم الأسد.
إن السياسة الأميركية كارثة في منطقة الشرق الأوسط. فمسألة نقل الرئيس دونالد ترامب سفارة بلده إلى القدس هي من بين مآسي تداعيات السياسات الأميركية المستمرة للرؤساء المتعاقبين. ولو أنها بأسلوب مختلف عن ترامب ولكن المضمون ذاته. فأوباما امتنع عن ضرب قواعد بشار الأسد في السنوات الأولى من الحرب بحجة أنه اتفق مع الروس على عدم تجاوز الأسد الخط الأحمر باستخدام السلاح الكيمياوي. لكن الخط الأحمر تم تجاوزه وظهر «داعش» وتركت سورية لـ «حزب الله» وإيران وروسيا منذ أوباما. جاء بعد ذلك ترامب يحاول التغيير عن سلفه، ويضرب صاروخاً على أسلحة كيمياوية سورية في بلدة خان شيخون ويدين الأسد، قائلاً أن كل محاولات تغيير نهجه فشلت وإنه يُعدّ العالم بإنهاء الإرهاب والقتل بكل أشكاله في سورية. إلا أنه يبدو كأنه تراجع في ذلك، إذ أن كل المؤشرات تدل على أن ترامب لا يبالي بمصير سورية، وأنه وافق لبوتين أن يبقى الأسد حتى عام ٢٠٢٠. إن معظم الدول والمسؤولين انهالوا بانتقادات على المعارضة السورية بأنها منقسمة ومخترقة وضعيفة، وأن ليست هناك شخصية بارزة يمكنها أن تكون في القيادة. لكن يجدر السؤال هل أن الأسد هو الأكفأ بالتدمير والقتل والتخويف. وأي شرعية لحكمه سوى الوراثة من أب استولى على الحكم بالقوة والتخويف. فسهل القول إن ليس هناك معارضة سورية وتوجيه اللوم إليها وكأن الأسد ضرورة لبلد دمره بالعناد والإرهاب والوحشية. وبوتين متمسك ببطله السوري الذي جعل منه القوة العظمى في المنطقة حتى إشعار آخر. وكلما قيل له عن ضرورة رحيل الأسد يرد قائلاً إنه لن يجد شخصية أخرى بارزة بديلة.
طبعاً، من سيكون أفضل من الأسد لخدمة مصالح روسيا وإيران على حساب بلده ودم أبنائه؟ إن المأساة أن الولايات المتحدة سلمت مصير سورية لروسيا، بسبب تراجعها وبسبب عدم السماح لقوة مثل فرنسا أن تلعب دوراً في مثل هذه المفاوضات من أجل حل حقيقي وديموقراطي لبلد أصبح قراره في موسكو وطهران والضاحية الجنوبية لبيروت. وإعلان بوتين سحب بعض قواته من سورية هو الثالث خلال سنة ونصف السنة، وهو بعيد عن الحقيقة. فروسيا باقية ومتمركزة في طرطوس وفي قاعدتها الجوية في اللاذقية لحماية مصالحها ونفوذها أولاً وآخراً، وليس حباً بالأسد، بل لأنه يجسد لها خدمة هذه المصالح على حساب شعبه. فكيف بعد ذلك يتخلى بوتين عن الأسد؟ لكن السؤال على المدى الطويل هو: هل يدوم التحالف الروسي- الإيراني في سورية أم أنه يتحول تنافساً وصراعاً على الهيمنة؟ وهذا أمر من السابق لأوانه التطرق إليه، لأن الحرب في سورية لم تنته بعد على رغم كل ما يقال، والحلف الروسي- الإيراني ضرورة آنية للإثنين.
على افتراض أن ما صدر من موسكو عن عزمها سحب معظم قواتها من سوريا بالفعل صحيح، فإن ذلك سيخلط الأوراق من جديد في هذا البلد الذي يبدو على طريق الخروج من الحرب.
المفارقة أن دخول الروس كان له دور سلبي مكّن كلاً من نظام الأسد وإيران من السيطرة، بعد أن فشلا قبل ذلك في الانتصار على قوى الثورة ومع الجماعات الإرهابية. والآن للروس دور «إيجابي» في تحقيق التوازن بين القوى، وتحديداً تقييد نشاط إيران وميليشياتها على الأرض.
ووفق وكالة الأنباء الروسية، فإن الرئيس فلاديمير بوتين تحدث بوضوح قائلاً: «لقد اتخذت قراراً بسحب جزء كبير من الفرقة الروسية الموجودة في سوريا، وعودتها إلى موطنها في روسيا».
وسواء خرج الروس، أو قلّصوا وجودهم، سيتقلّص معه نفوذهم، وهنا فإن الاحتمال الأكثر حدوثاً، أن ذلك سيكون لصالح الإيرانيين. نظام خامنئي يقاتل من أجل السيطرة شبه الكاملة على سوريا، باستثناء مناطق كردية أو مجاورة لتركيا. انتشاره يمكن تتبعه من مراكز ميليشياته، من الحدود السورية مع العراق ولبنان والأردن، وبالطبع في دمشق.
ليس واضحاً دوافع روسيا للإعلان عن الانسحاب الجزئي، هل هو نتيجة خلافات مع الإيرانيين على السيطرة وإدارة الوضع على الأرض، أم أنه جزء من التهدئة مع الولايات المتحدة الموجودة بقوات أصغر حجماً في سوريا أيضاً؟
من الطبيعي أن يختلف حلفاء الأسد فيما بينهم على ما بعد الحرب، فالإيرانيون يريدون السيطرة للهيمنة، وضمن تحديهم للولايات المتحدة والضغط عليها. أما بالنسبة للروس، فهم يريدون خلق توازن أيضاً مع الولايات المتحدة في عدد من مناطق النزاع في العالم. وهي حسابات لا يمكن أن تتطابق بين الروس والإيرانيين إلا بشكل مؤقت، كما كان الحال عليه خلال الحرب. كلا البلدين دخل سوريا بدعوى محاربة الإرهاب؛ لكن المعارك التي خاضتها قواتهما كانت موجهة للمعارضة السورية المسلحة. التحالف الذي قادته الولايات المتحدة وحده من ركز على محاربة «داعش».
ليس لموسكو مصلحة في أن تقوم بحماية ودعم القوات الإيرانية، التي تتشكل من عشرات الآلاف من أفراد ميليشيات من جنسيات متعددة جلبتهم إيران من دول مختلفة. ما المقابل الذي تعطيه إيران للروس لقاء هذه الخدمة العسكرية؟ فعلياً لا يوجد.
ولكن تقليص وجود روسيا عسكرياً سيضعف النظام السوري والميليشيات الإيرانية، فهل الكرملين يرغب في التخلي عن حليفه السوري والتضحية بكل ما فعله من أجله؟
كل ذلك سيعتمد على خطة إقليمية وأميركية، إن وجدت، في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا نفسها. إن كان هناك شعور بالخطر من التمدد الإيراني، ورغبة في مواجهته، فإن سوريا هي التربة المتحركة المناسبة لتحويلها إلى مصيدة للحرس الثوري الإيراني. لن تستطيع ميليشيات إيران أن تستقر في بيئة معادية، خاصة إن لم تنجح مفاوضات السلام، فالمفاوضات لن تنجح طالما أن الأسد ومعه إيران يعرقلان أي حل يجمع النظام مع المعارضة في حكومة.
انسحاب الروس جزئياً، وفشل المفاوضات الأخيرة في جنيف، يمكن تطويرهما ليصبحا عاملين ضاغطين على نظام الأسد وإيران؛ لإعادة التفكير وتقديم تنازلات واقعية.
على الرغم من أن الأجندة اليومية مشغولة بالقدس، إلا أن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة أمس الأول كانت هامة للغاية. فالعلاقات التركية الروسية تتعزز مع مرور كل يوم، بدءًا من الطاقة وبناء المفاعل النووي في تركيا إلى شراء منظومة الدفاع الجوي إس-400، وحتى أزمتي سوريا والقدس.
ولن يكون من المبالغة القول إن الملف السوري أكثر القضايا تعقيدًا في القائمة. فهو يتقاطع مع العديد من المشاكل بدءًا من مستقبل العلاقات التركية الأمريكية، مرورًا بمشكلة حزب العمال الكردستاني، والعلاقات مع الأسد وروسيا وإيران، وانتهاءً بالأوضاع في العالم العربي.
تخضع أطراف المشاكل المذكورة لضغط الوقت، ولهذا هناك أمور يتوجب حلها بشكل عاجل، وعلى الأخص قبل مفاوضات تحديد مستقبل سوريا.
ومع ذلك، فإن المشهد يبدو أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه. رغم أن تركيا تختلف مع الولايات المتحدة بشأن سوريا وحزب العمال الكردستاني، لكن هذا لا يعني أنها تتفق في جميع القضايا مع روسيا.
على سبيل المثال، تقول تركيا في جميع المحافل إن حزب العمال الكردستاني يمثل مشكلة "وجود" بالنسبة لها. في حين لا تعتبر روسيا ذراع الحزب السوري حزب الاتحاد الديمقراطي تهديدًا بالنسبة لاستراتيجيتها في سوريا، بل إنها لا تشعر بالحاجة حتى لإخفاء علاقاتها معه.
قال بوتين في وقت سابق إن 92% من الأراضي السورية تطهرت من الإرهابيين، وأعلن أمس الأول انتهاء الحرب وأصدر تعليماته بسحب جزئي لقوات بلاده.
هذه الخطوة تكشف أنه لا يعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي تنظيمًا إرهابيًّا. وخير دليل على ذلك وجود مكتب للحزب في موسكو، وعدم إدراج روسيا حزب العمال الكردستاني في قائمة المنظمات الإرهابية، ووجود القوات الروسية في عفرين، وتنفيذ حزب الاتحاد الديمقراطي في الآونة الأخيرة عمليات عسكرية في شرق الفرات بدعم جوي روسي.
المشكلة التكتيكية اليوم بالنسبة لروسيا في سوريا تتمثل في تمركز جماعات "راديكالية" بإدلب. ومن الملاحظ أنه لم يتم تحقيق تقدم في عملية تحويل إيديولوجيات وأدوار الجماعات المذكورة، أو تحييدها تمامًا.
وفوق ذلك، يتضح من الأنباء الواردة عن شروع تنظيم داعش في إقامة نقطة عبور في إدلب أن المشكلة ستكتسب أبعادًا جديدة.
تعمل تركيا على إظهار حزمها في مسألة حزب الاتحاد الديمقراطي، على الصعيدين الداخلي والخارجي. وفي الوقت ذاته تسعى إلى الحيلولة دون تسلل إرهابيي حزب العمال الكردستاني، الذين يستخدمون عفرين كقاعدة خلفية، إلى محافظة هاطاي. ولهذا تحاصر عفرين وتستمر في حشد القوات قرب الحدود.
ويثور الفضول حول ما إذا كانت روسيا ستسمح لتركيا بالقيام بحملة ضد عفرين، أو كيفية تصرفها حيال ذلك. يمكننا الحديث عن أربعة احتمالات بالنظر إلى التطورات. أولًا قد تتغاضى روسيا عن حملة تركيا إزاء عفرين، وعندها تدخل الأخيرة المنطقة، وتركز أنقرة وموسكو على القضايا الأخرى. ثانيًّا، ربما تعترض روسيا على عملية تركية ضد عفرين. ثالثًا، ربما تقترح حلًّا وسطًا بنشر جيش الأسد في عفرين. وأخيرًا قد يغادر عناصر حزب العمال الكردستاني عفرين على حين غرة. وأعتقد أننا سنرى قريبًا أي الاحتمالات المذكورة سوف يُطبق.
المشهد الأكثر تداولا وإثارة أمس عبر مواقع الأخبار والوكالات الدولية وصفحات التواصل الاجتماعي هو مشهد الإهانة المذلة التي تلقاها رئيس النظام السوري بشار الأسد في مطار "حميميم" في اللاذقية على ساحل البحر المتوسط ، والمشهد وما سبقه يمثل كتلة من الهوان الذي لحق برئيس تكبر على شعبه ورفض أن يستجيب لنداءات الحرية والكرامة والعدالة ، ورفض أن يقبل بتداول سلمي للسلطة ، فحرك دباباته لقمع شعبه فكان أن فتح أبواب الجحيم وحول سوريا إلى غابة يسكنها كل ضباع الأرض من كل جنس وملة وقومية ، دولا وميليشيات وجيوشا وعصابات .
بوتين عندما قرر زيارة سوريا لم يذ هب بطائرته إلى دمشق العاصمة ، وقد كان قادرا على ذلك ، بل قرر أن ينزل في قاعدة جيشه على ساحل المتوسط ، ثم استدعى بشار الأسد من دمشق لكي يكون في استقباله تحت الطائرة هناك ، ولبشار قصره الرئاسي في اللاذقية إلا أن بوتين لم يذهب واكتفى بمقابلته في القاعدة العسكرية ، وعندما هبطت الطائرة لم يتقدم بشار الأسد بحكم أنه الرئيس المفترض للدولة التي تقع هذه الأرض في سيادتها ، وإنما تقدم لبوتين ضابط كبير في الجيش الروسي وأعطاه التحية وتحدث معه ، ثم بعد ذلك سلم على بشار الذي ارتمى في حضنه من جديد كما يأوي الطفل إلى صدر أمه ، وبعدها صافح بوتين قادة جيشه هناك ، ثم سار معهم عدة خطوات وبشار الأسد يسير في الطابور الثاني ، خلف بوتين والقادة العسكرين ، وهو مشهد مهين للغاية لرئيس دولة مفترض ، ثم بعد ذلك انطلق بوتين بخطى مسرعة إلى منصة لكي يحيي علم بلاده ويلقي كلمة فأسرع بشار الأسد لكي يلحق به ويسير معه ، فإذا بأحد الضباط الروس يمسكه من ذراعه ويجره للخلف ويمنعه من الاقتراب من بوتين فاستجاب له بشار بإذعان واضح وابتسامة تعبر عن ارتباكه ووقف في مكانه ، وهي اللقطة التي توقف عندها الملايين أمس غير مصدقين لها من فرط الإذلال فيها .
هذا المشهد كله يوضح للجميع المآل الذي انتهى إليه بشار الأسد ، مجرد خادم ذليل تافه يتلاعب به الروس ، يخدمهم ويحتقرونه ، رغم أنه يعطيهم كل شيء ويسلم لهم بكل شيء ومنحهم قواعد في سوريا لمدة مائة عام مقبلة ، باع نفسه للروس ، لكنه تكبر على أن يستجيب لنداءات شعبه من أجل الحرية أو حتى الحوار السلمي حول المطالب التي كان المتظاهرون في الربيع العربي السوري ينادون بها أسوة بأشقائهم في مصر وتونس واليمن وليبيا ، وصدقت فيه الكلمة التي تنسب إلى الزعيم النازي هتلر عندما سألوه عن أحقر الناس الذين قابلهم في حياته .. أجاب: أولئك الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم ! ، وهكذا هم الطغاة ، أذلاء صغار أمام الأجنبي أشداء قساة على شعوبهم ، يقدمون أسوأ التنازلات للقوى الأجنبية من أجل تثبيت ملكهم أو تعزيز بقائهم على كراسيهم ، ولكنهم لا يقدمون أي تنازل مهما كان صغيرا لشعوبهم ويستأسدون عليهم ، لذلك يبقى دائما مثل هؤلاء الديكتاتوريين التافهين أكبر خطر على أمن أوطانهم القومي ، فضعفهم في الداخل وفقدانهم للشرعية الحقيقية المستمدة من شعوبهم يجعلهم خاضعين للابتزاز الخارجي ، ومستعدين لتقديم أي شيء وبيع أي شيء من أجل حمايتهم من السقوط أمام شعوبهم ، لأنهم يعرفون مصيرهم إذا سقطوا من كراسيهم ، فتراث القمع والسحق والدم والإذلال والمعتقلات والسجون الذي خاضوا فيه أكثر مرارة من أن ينساه أحد .
لا يمكن لطاغية مجرم مثل بشار الأسد ، ارتكب كل هذه الجرائم في حق شعبه ، وقتل نصف مليون تقريبا نصفهم من الأطفال والنساء ، وهدم عشرات المدن على رؤوس سكانها ، وهجر حوالي ثمانية ملايين سوري خارج بلاده ، فضلا عن الآلاف الذين قتلهم تعذيبا في السجون وشاهد العالم ملفاتهم بالصور الموثقة ، وباع سوريا ورهنها للروس والإيرانيين ، لا يمكن أن يكون له مستقبل في حكم سوريا ، وهذه بديهية سياسية ليست بحاجة إلى تأكيد أمريكي ولا نفي روسي ، ولكن المشهد الذي جرى أمس كشف عن أن الروس بدأوا العمل الآن وفق تصور واضح أن بشار ليس في صورة مشهد سوريا الجديدة ، وأن بقاءه هو مجرد ستار أو "خيال مآته" مؤقت لحين ترتيب الأوضاع في دمشق والتوصل إلى تسوية شاملة للأزمة التي طالت فصولها وتعقدت مساراتها الوطنية والإقليمية والدولية .
في قاعدة حميميم العسكرية كانت ثلاث ساعات هي كل ما احتاجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيصال ما سعى إلى تثبيته من رسائل إلى ثلاث جهات على الأقل. فقد أبلغ مواطنيه الروس أولاً أنه، وقد أعلن ترشيح نفسه لدورة رئاسية رابعة تطيل حقبة هيمنته في روسيا إلى 24 سنة، الأجدر بقيادة البلد، بدليل مغانم موسكو في سوريا، وتحقيق حلم القياصرة القديم في الوصول إلى شطآن المتوسط الدافئة. صحيح أنه ذرّ بعض الرماد في العيون حين أعلن بدء التحضير لسحب «معظم» القوات الروسية المنتشرة في سوريا، كما سبق له أن فعل في ربيع 2016، إلا أنه حرص على التذكير بأن موسكو باقية في قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية.
الرسالة الثانية تتوجه إلى العالم خارج روسيا، وإلى الولايات المتحدة بصفة خاصة، وإلى القوى العالمية والإقليمية الأخرى المعنية بالملف السوري، ابتداء من إيران وميليشياتها المختلفة، وليس انتهاء بالمملكة العربية السعودية واستثماراتها في صفوف فصائل المعارضة المسلحة. والرسالة بسيطة وقاطعة في آن معاً، مفادها أن روسيا باتت سيدة المشهد هنا، وهي التي تضع قواعد اللعبة السياسية بعد أن أرست قواعد الشطر العسكري من اللعبة و»أنجزت المهمة».
الرسالة الثالثة تخاطب الداخل السوري، معارضة وموالاة على حدّ سواء، وهي هنا أيضاً بسيطة وصريحة، مفادها أن موسكو وقد أنقذت النظام من السقوط عن طريق تدخل عسكري واسع النطاق يتواصل منذ 27 شهراً، فإنها فعلت ذلك لكي تضمن سقوطه تحت إمرة القيصر الروسي في المقام الأول. وهذه رسالة حملت طرائق إبلاغها مقداراً لافتاً من الجلافة والإذلال، فاستدعي رأس النظام إلى موسكو أو سوتشي أو حميميم عندما شاء سيد الكرملين، وأمكن لضابط مراسيم روسي عادي أن يهين بشار الأسد علانية وفي عقر داره وأمام أنصاره.
وحين تفاخر بوتين بدور الجيش الروسي في «هزيمة الإرهابيين»، فإنه تعامى عامداً عن حقيقة الدور الاهمّ الذي أنيط بالطائرات الحربية الروسية، أي قصف مواقع فصائل المعارضة المسلحة، وما أسفر عنه من مجازر دامية في صفوف المدنيين، واستهداف التجمعات السكانية والمشافي والأسواق الشعبية. كذلك توجب أن يغفل بوتين الإشارة إلى وجود آلاف المقاتلين الروس المتعاقدين مع أجهزة النظام المختلفة، خارج وزارة الدفاع الروسية وعبر شركة «فاغنر» التي تعتبر النظير الروسي للشركة الأمريكية «بلاك ووتر».
وبعد ساعات الصباح في حميميم، سافر بوتين إلى القاهرة ليقضي الظهيرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فكان جمع غنائم موسكو الاقتصادية، وتوقيع اتفاقية المحطة النووية في مصر التي ستتولى تنفيذها مؤسسة «روس أتوم» الروسية، على رأس جدول الأعمال. وأما في فترة المساء فقد توجه بوتين، وقد صار أشبه بالسوبرمان الطائر، إلى أنقرة فالتقى بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان لإعادة التأكيد على دور أنقرة لتسهيل ما يسمى بـ»مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي. وهنا أيضاً تضمنت المغانم صفقة صواريخ إس ـ 400 وبناء محطة نووية واتفاقات ائتمان لصناعة الدفاع مع تركيا.
والأرجح بذلك أن مرشحي رئاسات العالم، أجمعين، يحسدون بوتين على هذا الطراز الاستثنائي من افتتاح الحملات الانتخابية!
ذهاب قيس الخزعلي، من قادة ميليشيا الحشد الشعبي العراقية، إلى الحدود اللبنانية مع إسرائيل تطور خطير في إطار الصراع الإقليمي. زعيم ميليشيا عراقية يتورط في مهمة إيرانية لفتح قتال بين لبنان وإسرائيل!
الاثنان: «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» العراقي، من الميليشيات التابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني التي تدار من قبل الجنرال قاسم سليماني. ونحن ندرك أنه لا توجد لحسن نصر الله، ولا لقيس الخزعلي، أي سلطة حقيقية رغم الخطب الرنانة على شاشات التلفزيون، وميليشياتهم ليست قوات لبنانية ولا عراقية. فالجميع يعلم أنها تحارب، ضمن قوات إيران في سوريا، منذ أكثر من ثلاث سنوات.
لماذا ذهب زعيم الميليشيا العراقية، الخزعلي، ببزة عسكرية إلى كفركلا على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، في حين أن الحدود السورية مع إسرائيل أقرب له، حيث توجد ميليشياته مع بقية الحشد الشعبي في سوريا؟ هذه ليست رسالة تهديد بل عمل استفزازي هدفه توسيع دائرة الحرب وإدخال لبنان فيها.
الخزعلي يدرك أنه لو زار الجولان السورية المحتلة، وأطل من هناك، وتوعد إسرائيل، فالأرجح أن يكون هدفاً للقوات الإسرائيلية، على اعتبار أن سوريا ساحة حرب مفتوحة لكل القوى. إيران أرسلت الخزعلي إلى لبنان رغبة في توريطه في حرب جديدة مع الإسرائيليين الذين سبق أن هددوا «حزب الله» في لبنان بهجوم مماثل لعام 2006. حرب تلك السنة، كانت هي الأخرى، عملية مدبرة من قبل إيران التي خطفت جندياً إسرائيلياً ورفضت إطلاق سراحه وسط توتر مع إيران. و«حماس» مثل «حزب الله» مجرد جماعة تديرها إيران. وعندما نجح حسني مبارك، الرئيس المصري الأسبق، في مقايضة الأسير الإسرائيلي شاليط بألف فلسطيني مسجونين عند إسرائيل أجهضها السوريون الذين يمثلون إيران. ثم قام «حزب الله» بمحاولة خطف لإسرائيليين بالقرب من الحدود اللبنانية ونجم عنها قتلهم. هنا شنت إسرائيل حربها، وكانت هي غاية إيران، التي دمرت الكثير من البنى التحتية اللبنانية وقضت على آمال اللبنانيين بالخلاص من الحرب في حين اختفت قوات الحزب تحت الأرض.
إيران تعيد الكرة، تحاول منذ فترة فتح جبهة حرب عبر لبنان، تحاشياً لمواجهة الإسرائيليين في سوريا بعد أن قُصفت ميليشياتها هناك عدة مرات. إيران ترى لبنان أرضاً رخوة، دولة بلا حكومة مركزية حقيقية. وما كلمة وزير الخارجية اللبناني الأخيرة إلا ترديد لخطاب إيران، الذي يستحيل أن يرضى عنه غالبية اللبنانيين، وفيها يهدد ويتوعد إسرائيل والولايات المتحدة! والخطاب صار محل سخرية العالم. يقول فيه: «نحن في لبنان لا نتهرب من قدرنا في المواجهة والمقاومة حتى الشهادة. نحن من هوية القدس لا نعيش إلا أحراراً وننتفض بوجه كل غاصب ومحتل». ومن المؤكد أنه ليس لغة ولا حبر الوزير المسيحي، بل خرج من مكتب حسن نصر الله. إلى هذه الدرجة من الخضوع والانحطاط بلغت الحكومة اللبنانية الحالية! هانت عليها التضحية بسيادتها، وصارت تقبل التضحية بمواطنيها لصالح أجندة تملى عليها!
هذه دولة مخطوفة ولا تقوى على الاعتراف بحقيقة وضعها. وبعد هيمنة إيران على سوريا أصبح لبنان ملحقاً بنتائج الحرب وتفاهماته. وزادت هيمنة طهران التي أصبحت تتجرأ على إرسال ميليشياتها وقياداتها إلى خط التماس مع إسرائيل تستدرجها لحرب جديدة.
ولأن القيادات الحكومية والحزبية اللبنانية لا تعبر عن رفضها لتصرفات الحزب، فإننا أمام مرحلة جديدة في حياة لبنان السياسية، حيث تدير الجمهورية الإسلامية الإيرانية شؤون الجمهورية اللبنانية من حدودها الجنوبية إلى خطاب وزير خارجيتها، وستنتهي عند مذبح الصراعات الإقليمية.
كان إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عزمه الترشح لفترة رئاسية رابعة أمراً متوقعاً منذ فترة طويلة، وإن كان بدا لبعض المراقبين الروس (على نحو جانبه الصواب) أنه انتظر هذه المرة لفترة أطول من المعتاد كي يصدر هذا الإعلان. أما الأمر الأقل وضوحاً الآن فهو كيف سيعمل النظام الذي بناه بوتين على ضمان استدامته في أعقاب نهاية فترة بوتين الرئاسية التالية عام 2024، التي يحظر عليه الدستور الترشح للرئاسة بعدها.
الملاحظ أن الفترة الرئاسية الثالثة لبوتين كانت أهم من فترته الأولى (2000 - 2004) التي اتسمت بإصلاحات اقتصادية على غرار إصلاحات الجمهوريين الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وإقرار ضريبة دخل ثابتة، وجهود التطويع القاسي لكبار أثرياء عقد التسعينات، وإعادة تركيز السلطة خلال الفترة 2012 - 2018. تخلى بوتين عن أي تظاهر بأنه يتماشى مع سياسات واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وسعى لأن يوضح للعالم أن «باكس أميركانا» تحتضر. وفي هذا الأمر تحديداً، صادف بوتين نجاحاً كبيراً. إلا أنه في الوقت ذاته أهمل القاعدة التي تعتمد عليها إنجازاته الجيوسياسية - روسيا، تلك البلاد المترامية الأطراف التي لا تزال تعاني الفقر، ويخالجها شعور بغضب قوي من أن بوتين ربما لم يعد يمثلها، أو حتى يدير شؤونها.
من ناحيته، يقول بوتين إن نجاحاته الكبرى تقع خارج روسيا. وقد تشبث بالقرم التي ضمها إلى بلاده، في الوقت الذي أبقى الكرملين على سيطرته العملية على «الجمهوريات الشعبية» شرق أوكرانيا التي تشهد حركة غوغائية تسعى للانفصال. وقد امتنع بوتين عن السعي وراء مزيد من المكاسب الإقليمية بسبب اعتبارات التكلفة - ويبدو أنه يرى أهمية وراء إبقاء أعداد الضحايا العسكريين ضئيلة في الوقت الذي يدفع مجموعات تعمل بالوكالة نحو تحمل العبء الأكبر - لكن يبدو أن الحد الأدنى من أهدافه تحقق بالفعل. ويبدو جلياً حتى أمام أكثر المراقبين تحيزاً أنه رغم الدعم الغربي الهائل، فإن أوكرانيا الحديثة ليست سوى كتلة فوضوية، لم تزدد النزعات الأوروبية داخلها عن الفترة التي قررت خلالها الانفصال عن مجال النفوذ الروسي في بداية فترة رئاسة بوتين الثالثة.
من ناحية أخرى، فإنه رغم مقاومة واشنطن، تمكن بوتين من معاونة حليفه السوري، بشار الأسد، على الانتصار في الحرب الأهلية في بلاده. وبحلول نهاية 2017 يبدو واضحاً أن الأسد حتى لو رحل عن منصبه ذات يوم، فإن هذا الرحيل سيأتي بصورة بعيدة تماماً عن الأسلوب الذي أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها به صدام حسين ومعمر القذافي. الحقيقة أن تدخل بوتين الناجح في سوريا أعاد رسم خريطة العلاقات على مستوى الشرق الأوسط، وساعد فعلياً في انتزاع تركيا من التحالف الغربي، وإقامة علاقة عمل ناجحة بين المملكة العربية السعودية وموسكو، الأمر الذي تعزز بإقرار تحالف بين الجانبين على صعيد السياسات النفطية. كما منح بوتين الأمل للقوى غير الليبرالية عبر أرجاء أوروبا، التي أخفقت في الفوز في انتخابات محورية هذا العام، لكن تبقى حليفاً مفيداً لموسكو. وسواء كان ذلك عن حق، ترسخت صورة روسيا في أذهان النخبة الغربية باعتبارها قوة قرصنة إلكترونية عظمى. والواضح أن بوتين من جهته يسعى لتعزيز هذه السمعة عبر إقرار تكنولوجيا العملات المشفرة كبديل للنظام المالي الذي يهيمن عليه الغرب.
بيد أن ما سبق كبد روسيا مكانها داخل مجموعة الثمانية وطموحاتها نحو نيل عضوية في أوروبا كبرى، تمتد من لشبونة البرتغالية إلى فالديفوستوك في روسيا الاتحادية. ومع هذا، لم تتحول روسيا إلى دولة منبوذة بالنسبة لباقي دول العالم، خصوصاً الصين التي سمحت لبوتين بزعزعة دعائم النظام العالمي الذي يقوده الغرب. والمعتقد أن الفترة الرئاسية الثالثة سيجري تذكرها باعتبارها السنوات الأربع التي جعلت فكرة وجود عالم متعدد الأقطاب، إن لم تكن واقعاً، فعلى الأقل إمكانية قائمة.
في المقابل نجد أنه في الوقت الذي كرس بوتين جل مهاراته للقضايا الجيو- سياسية، غاب دوره داخلياً على نحو متزايد. في الواقع، خلال فترتي الرئاسة الأولى والثانية، أبدى بوتين كفاءة كبيرة على مستوى الإدارة التفصيلية؛ ذلك أنه تولى اتخاذ جميع القرارات المهمة ودراسة جميع الصراعات المؤثرة، لكن يبدو اليوم أن بوتين بدأ يفقد هذه القدرة.
من أبرز الأمثلة على ذلك، المحاكمة الجارية اليوم لوزير الاقتصاد أليكسي أوليوكايف الذي تقدم ضده أحد المقربين من بوتين، إيغور سيشين، رئيس شركة «روزنفت» النفطية العملاقة المملوكة للدولة، الذي اتهمه بطلب رشوة بقيمة مليوني دولار. وقد جرى افتتاح المحاكمة أمام وسائل الإعلام، وعانى رئيس شركة «روزنفت» من مذلة الاستدعاء أمام المحكمة على نحو متكرر، واضطر لاختراع أعذار لتجنب ذلك. ولم يكن بوتين ليسمح بظهور مثل هذا النمط من الصراعات في العلن خلال الأيام الأولى له في السلطة - على الأقل ليس لفترة طويلة.
ويكمن مثال آخر في الاستقلالية التي تنطوي على بعض السياسات التي يبديها رمضان قديروف، رئيس الشيشان الذي عينه بوتين. ويشكل إصرار قديروف على الالتزام بالقيم الإسلامية المحافظة داخل بلد علماني، تحدياً مستمراً لسلطة موسكو. كما أن قوة قديروف تبقي سلطات إنفاذ القانون بعيداً عنه. ومن جديد، لم يتدخل بوتين.
وعلى مدار فترة رئاسته الثالثة، انحرف بوتين كذلك عن مساره المعهود فيما يخص السياسات الاقتصادية، ذلك أنه لم يتخذ إجراءات تذكر لإعداد روسيا لمواجهة تراجع أسعار النفط. وبدا بوتين متردداً على نحو متكرر حيال إجراء أي تغيير جريء يوضح أن أمام الروسي مستقبلاً أكثر أملاً.
ومع أن بوتين يبقى السياسي صاحب الشعبية الأكبر داخل روسيا، فإن الروس بوجه عام يبدون فتوراً إزاء انتخابات مارس (آذار). وتبعاً لأحدث استطلاع رأي أجراه مركز «ليفادا»، فإن 58 في المائة فقط من الناخبين ينوون الإدلاء بأصواتهم. وجدير بالذكر أن نسبة المشاركة في انتخابات 2012 بلغت 65.3 في المائة، كما أن أليكسي نافالني الناشط المناهض للفساد، والخصم الوحيد الحقيقي أمام بوتين، ربما لن يترشح في الانتخابات، رغم قضائه شهوراً في إدارة حملة انتخابية، وحصوله على دعم واضح داخل المناطق النائية بروسيا، خصوصاً في أوساط الشباب.
باختصار، لا يمكن الإبقاء على أداء بوتين الراهن إلى الأبد، دون وجود سياسات داخلية متناغمة وناجحة. والتساؤل الذي يفرض نفسه اليوم: ما شكل المستقبل الذي ستحظى به روسيا بعد إعادة انتخاب بوتين، والذي لن يكون لبوتين بالضرورة قول كبير في رسم ملامحه؟
رغم أن قلة قليلة من المواطنين الأميركيين يقبلون أو يرغبون في استعمال كلمة إمبراطورية ليصفوا بها بلدهم، فإن المؤرخين المعاصرين يقبلون ولو على مضض هذه الصفة، وفي المقدمة منهم المؤرخ الأميركي بول كيندي الذي يرى أن الولايات المتحدة قد بلغت حدود «الإمبراطورية المنفلتة»، وفي الوقت ذاته تعيّن عليها دفع تكاليف «فرط الامتداد الإمبراطوري».
من هذا المنطلق يمكن القول إن حاكم أميركا هو الإمبراطور، سيما أن واشنطن مثلت من دون منازع البلد المهيمن على العالم على الصُّعد العسكرية والاقتصادية والثقافية منذ مشاركتها في الحرب العالمية الثانية في عام 1941.
والشاهد أن المراقبين للشأن الأميركي قد اعتبروا أن جورج بوش الابن، ونائبه ديك تشيني، هما اللذان دمّرا بسياستهما وبملء إرادتهما الكثير من الأسس الأخلاقية التي تحلت بها القيادة الأميركية في العصر الحديث، إلا أن الأقدار كانت تخبئ لهما رئيساً يكاد ينسف ما تبقى للولايات المتحدة من نفوذ، ويمحو من القلوب والصدور أي أثر خلاّق زرعه النموذج الأميركي البراق الذي عبّر عنه وودرو ويلسون عبر مبادئه الأربعة عشر للسلام حول العالم.
حين أقدم دونالد ترمب على إعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونيته نقل سفارة بلاده إليها، ربما كان يمهر بتوقيعه الشهير نهاية حقبة أميركية في الشرق الأوسط بنوع خاص، ليفتح الباب واسعاً أمام مناوئه الأكبر وغريمه الأمهر... القيصر الذي أعلن عن ترشحه لولاية رابعة منذ أيام قليلة.
الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، حديث لا يعتقد ترمب فيه كثيراً، وخير دليل على صدقية ما نقول به أنه يرفض الاستماع إلى كبار مستشاريه الذين أنكروا عليه قراراته الأخيرة، وفاتته مراجعة وصية ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر لسلفه باراك أوباما الرجل الذي تجرأ على الأمل الواهي والأحلام الضائعة، حين نصحه باليقظة وعدم خسارة حلفائه، سيما أن كل مربع نفوذ تفقده أميركا سوف يملأه تلقائياً فلاديمير بوتين، بطرس الأكبر الجديد العائد كالعنقاء ببلاده من الرماد.
بوتين لا يتأخر، إنه رجل استخبارات ماهر يعرف أين ومتى وكيف يفعّل أدواته ويشرع آلياته، وليس أفضل من الوقت الراهن للتحرك ما بين تركيا ومصر، والأولى العضو المتململ في الأطلسي الذي تنتابه الهواجس في علاقته مع بروكسل، والثانية حليف تقليدي لواشنطن التي هناك من يزعم أنها عادةً ما تتنكر لحلفائها.
يصنع بوتين تاريخاً جديداً في الخليج العربي والشرق الأوسط، وبحذاقة غير مسبوقة يجمع الأضداد والمتنافسين، ويكسب جولة وربما جولات، بينما الإمبراطور يخسر من جراء انحيازه إلى إسرائيل، ودون أدنى اعتبار أو التفاتة إلى بقية مصالح إمبراطوريته في الشرق الأوسط.
زيارة القيصر لمصر أمر مربك للولايات المتحدة بنوع خاص، ذلك أن ما يربط القاهرة بموسكو عميق ومتين، وتقتضي المصارحة والصدق مع الذات الإشارة إليه، فقد عَبَر المصريون خط بارليف بسلاح روسي، وبنى الروس السد العالي، وأنشأوا غالبية البنية التحتية الصناعية في زمن الثورة الصناعية المصرية، ولهذا لم يكن غريباً أن ترتفع صور بوتين في ميادين مصر خلال السنوات الثورية المنصرمة.
دون مزايدة أو مبالغة، وبلا شوفينية، يمكن القطع بأن مصر تبقى بوابة لأفريقيا من جهة، ومنفذاً على أوروبا من جهة ثانية، وما بينهما يستطيع الدب الروسي، الذي تحول إلى ثعلب رشيق الحركة سريع القفز، تحقيق انتصارات في صراعاته القائمة والقادمة مع النسر الأميركي المحتاج إلى تجديد شبابه.
دون أدنى شك يجد بوتين اليوم أرضية عربية خصبة لإعادة العلاقات الوثيقة مع موسكو، الأمر الذي حذرت منه صحيفة «ناشيونال إنترست» الأميركية، إدارة ترمب، حين أشارت إلى أن بوتين بات اليوم حليفاً محتملاً موثوقاً بالنسبة إلى عدد من الدول العربية في مقدمها المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب والجزائر، دون أن تنسى الإشارة إلى الدور الروسي في ليبيا ودعم المشير حفتر بنوع خاص.
من مصر إلى عمق القارة الأفريقية يتطلع بوتين إلى بسط نفوذه ليرث الإمبراطور، والحديث عن قواعد عسكرية روسية في السودان حاضر على طاولة البحث بين الخرطوم وموسكو، بينما التسارع والتنازع هناك على أشده بين بكين وواشنطن، فهل يُعقل أن تترك موسكو الميدان خلواً من منافسة؟
يعبر بوتين نهر «الروبيكون الشرق أوسطي»، والعبارة للمحلل الروسي القدير ألكسندر فيدروسوف، يعبره بجدارة من تعلم الحفاظ على موقف الحياد، وبناء علاقات براغماتية لا تعتمد على أسس آيديولوجية، ولا تتحكم في قراراته رؤى دوغمائية، كما الحال مع الإمبراطور الذي رضخ لمزاعم اليمين الأميركي الدينية المنحولة بشأن القدس.
تكاد روسيا تقترب الهوينى من إعلانها سيدة الشرق الأوسط من دون منازع، وهو دور قابل لمزيد من النفوذ حال تفعيل جهود «الرباعية الدولية» فيما يخص عملية السلام في الشرق الأوسط، ما يعني أن القيصر قد ورث الإمبراطور قولاً وفعلاً.
يتفق وجود قيس الخزعلي زعيم ميليشيات «عصائب أهل الحق» العراقية في جنوب لبنان مع ما وعد به الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في حزيران (يونيو) الماضي من أنه في أية حرب مقبلة ستفتح الحدود لمقاتلين من العراق واليمن وأفغانستان وباكستان وإيران لمقاتلة إسرائيل. والحال أن الحزب سرّب عن عمد فيديوات عن وجود عناصر عراقية وأفغانية لاختبار ردّ الفعل اللبناني كما العربي والدولي على هذا الأمر الواقع الجديد.
وما يراد منه أن يكون تجريبياً هو ما تروم إيران تثبيته داخل «هلالها» الذي (يريده الخزعلي «بدراً») يمتد من طهران إلى بيروت. فلا حدود ولا سيادة بين البلدان التي تخترقها سلطة الولي الفقيه، ولا سلطة لدولة تتجاوز سلطة الميليشيات. فإذا ما كان رواد «النأي بالنفس» في لبنان يجربون الادعاء أمام العرب كما أمام العالم بأن في بيروت دولة وحكومة تقرران وجه لبنان ووجهته، فإن طهران لا تكترث لضجيج العواصم والحكومات والبرلمانات وتبني «امبراطوريتها» الطموحة في المنطقة وفق حراك ميليشياتها الشيعية الهوية والمتعددة الجنسيات.
وإذا ما كان الوجود الميليشياوي الإيراني المتجوّل في جنوب لبنان يتذرع بالاستعداد لمقاتلة إسرائيل، فطهران التي اعتادت اتباع سياسات حافة الهاوية منذ قيام الجمهورية الإسلامية، تعمل بدأب على استدعاء حرب ميليشياتها مع إسرائيل سواء في لبنان أو سورية، توسلاً لمآلات ما بعد أي حرب تجعلها شريكاً مفصلياً في مصير المنطقة برمتها.
على هذا فإيران تخوض حروبها من خلال بلدان الآخرين وتدفع بجماعاتها الشيعية الموالية من أفغانستان إلى لبنان لحماية جماعاتها الحاكمة حول الولي الفقيه. وعلى هذا أيضاً، فهي تجتهد في مبدأ تخريب مفهوم الدولة لمصلحة مفهوم الجراحات التي تقوم بها الجماعات. فإذا ما فقدت إيران بعد هزيمة تنظيم «داعش» مسوّغ تمددها الميليشياوي، فإن العودة إلى النفخ بمزامير مقاتلة إسرائيل هي العصب الأساس الذي ستعمل على الترويج له من أجل هزم الدولة وتفتيتها والترويج لفوضى وعبث دائمين يقيان نظام الحكم في طهران «شرور» أي استقرار متوخى في كافة دول المنطقة.
ولا تختلف عقيدة التفتيت هذه في اليمن، ذلك أن ميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران تعمل كما تعمل كافة ميليشيات طهران على تعزيز ديناميات هدم الدولة والفتك بوحـــدة البلاد. والحال أن الدول المهيمنة في التاريخ الحديث كالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وما ظهر بعد الحرب العالمية الثانيــة، عملت على بسط نفوذها داخل بلدان سهرت على تقوية دولها والتحكم بنخبها الحـــاكمة والإمساك بمفاتيحها الاقتصادية والعسكــرية والثقافية، فيما تدرك طهران عجزها عــن ذلك واستحالة سيطرتها على دول بعينها، بالتالي فأقصى طموحها انصب على سلوك ما تسلكه المافيات في الدول المتقدمة من بلطجة تمارس على هامش البناء الدويلاتي وقواعده.
والمؤكد أن الورشة الإيرانية تقوم على قاعدة أن جماعات الحرس الثوري في المنطقة تتغذى من حروب يجب أن تكون دائمة في بلدان المنطقة. فإذا ما انطفأت حرب أو مواجهة وجب إشعال معارك جديدة لأسباب لا تنتهي، لإقامة «الدولة العادلة» المزعومة أو لرد العدوان الدائم على «الأمة».
وغياب الحرب المباشرة ضد إيران وغياب أي استراتيجية عسكرية أو أمنية ضدها من قبل خصومها في العالم، يطلقان لطهران العنان للتفرّغ الكامل لتصدير العبث نحو الخارج لرفع مناعة الداخل ضد أي عبث يأتي من هذا الخارج.
وإذا ما كانت إيران تدفع الحرب عنها بنشر الحروب لدى الآخرين، فحري أن يكون الرد بنقل تلك الحروب إلى داخلها. وليس في ذلك عدوانية انفعالية، بل معالجة واقعية لعلّة واقعية. والظاهر أن طهران تدرك أن حروبها الداخلية آتية لا محالة بين مجتمع الحداثة ومنظومة الحكم المتقادم وبين إرادة التغيير وسطوة مصالح الممسكين بتلابيب السلطة. وإيران مدركة أيضاً أن هزائمها في اليمن البعيد أو العراق وسورية ولبنان مرادف لانهيار نظام الولي الفقيه برمته أمام أعين، وربما بيد، الإيرانيين أنفسهم.
ستستفيد إيران كثيراً من الموسم الذي أثاره قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. سترى في التظاهرات التي اندلعت في الشوارع كما في المواقف الرافضة التي اتخذتها العواصم ملاذاً تنشط تحت سقوفه تأجيلاً لضغوط ما برح يمارسها المجتمع الدولي على طهران بما يمنع تطبيع العلاقات مع إيران. ستنشط ميليشياتها «دفاعاً عن القدس» وسيصبح حراكها علنياً خارقاً للحدود بين الدول على منوال حراك قائد فيلق قاسم سليماني بصفته غيفارا العصر المتفاني في أمميته.
يبقى أن العالم بات متنبّهاً لميليشيات إيران وليس فقط لبرامجها النووية والصاروخية، وأن إيران نفسها باتت قلقة من أن الاتفاق الدولي السابق حول برنامجها النووي، كما أي اتفاق لاحق حول برنامجها الصاروخي، لن يوقف الضغط الدولي لوقف تمدد ميليشياتها ومواجهة سلوكها في المنطقة. باتت العواصم الكبرى تطالب بحل ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق وبخروج كافة الميليشيات من سورية بعد هزيمة «داعش»، وبات المجتمع الدولي يؤكد في مؤتمر باريس الأخير لمجموعة الدعم الدولية للبنان على تنفيذ القرار الأممي 1559 الداعي إلى حلّ الميليشيات في لبنان، بما يستهدف «حزب الله». الحزب يدرك أن الأمر جدي بما احتاج استدعاء الخزعلي وصحبه لالتقاط الصور علّها تردع الدولة في بيروت كما مزاج العالم في الخارج.
الفيديو الذي انتشر لمسؤول ميليشيا عصائب أهل الحق العراقية، أثار موجة استنكار شعبية في لبنان، موجة الاستنكار والاستهجان، تأتت من الاستعراض الذي مارسه مسؤول هذه الميليشيا قيس الخزعلي على الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
استعراض قال فيه وهو يرتدي البزة العسكرية أنه يريد أن يدعم حزب الله واللبنانيين في مواجهة إسرائيل. الفيديو انتشر بعد ستة أيام من حصول الزيارة غير المعلنة كما صرحت مصادر رئاسة الحكومة اللبنانية، جاء توقيته بعد يوم على خطاب أمين عام حزب الله الذي اتسم بالهدوء غير المعهود، حيال موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لا بدّ من الإشارة إلى أن زيارة الخزعلي وكشفها عبر تسريب الفيديو المدروس، هو عمل مدروس لا يمكن أن يتمّ من دون إشراف حزب الله وموافقته، فعصائب أهل الحق، هي ميليشيا توالي ولي الفقيه، وتأتمر بقائد فيلق القدس قاسم سليماني ممثل ولي الفقيه في قيادة “فتوحاته في المنطقة العربية”.
وكان الخزعلي قد أعلن قبل شهر في بيان أنه سيقف إلى جانب حزب الله في مواجهة أي عدوان إسرائيلي سيتعرض له حزب الله سواء في سوريا أو في لبنان، وتجوال الخزعلي على بعض المناطق الحدودية اللبنانية، والذي يعتبر تجاوزا للقرار الدولي رقم 1701 الذي يحظر أيّ وجود عسكري خارج قوات الأمم المتحدة والجيش اللبناني، هو رسالة مقصودة سواء من حزب الله أو سليماني، تنطوي على تلويح بالاستعداد لتجاوز هذا القرار، ويستحضر في نفس الوقت ما قاله أمين عام حزب الله حسن نصرالله قبل أشهر، من أنّ استهداف الحزب من قبل إسرائيل سيفتح الباب لقدوم عشرات الآلاف من المقاتلين لإسرائيل من دول مختلفة.
من هنا لا يمكن إدراج جولة قيس الخزعلي على الحدود مع إسرائيل، إلا في سياق سياسي وضمن سياق يتصل بالدور الإيراني على مستوى المنطقة، ولا ينفصل بالضرورة عن المسارات الجاري رسمها على المستوى السوري، ولا سيما بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم داعـش في سـوريا والعراق.
رسالة قاسم سليماني عبر الخزعلي، تنطوي على الربط بين أذرع إيران، ولا سيما أن مرحلة الانتهاء من محاربة ما يسمى التطرف السني المتمثل في داعش وجبهة النصرة، فرضت دوليا وإقليميا عنوان التخلص مما يسمى الإرهاب الشيعي، باعتبار أن بقاء الميليشيات الشيعية في المنطقة العربية سواء في العراق أو سوريا أو العراق واليمن، كفيل بإعادة إنتاج ما هو أسوأ من تنظيم داعش، وبالتالي فإن البحث في إنهاء دور الميليشيات الشيعية أمر تفرضه إعادة بناء المكونات الوطنية والدولية في الدول المشار إليها.
تدرك إيران هذه الحقيقة، والجنرال سليماني الراعي لهذه الأذرع الإيرانية الشيعية يدرك في المقابل أن الموقف الدولي والإقليمي يبحث اليوم كيفية التعامل مع هذه الميليشيات، إما بالمواجهة العسكرية، وإمّا بمحاولة استيعابها ضمن الأطر العسكرية الرسمية. وليس خافيا على سليماني أن ثمة تنازعا بين وجهتين واحدة تريد القضاء على هذه الأذرع، وأخرى تحاول تفادي المواجهة العسكرية معها، انطلاقا من أن القوى الشيعية تحظى بنوع من الحاضنة الشعبية، ما يجعل من القضاء عليها أمرا دونه صعوبات، ويساعد على عدم حسم الخيار بين القضاء على هذه الميليشيا من عدمه، عدم تبلور اتفاق أميركي- روسي نهائي بشأن سوريا، رغم وجود تفاهمات حققت خطوات متقدمة على صعيد خفض التوتر وإنهاء تنظيم داعش.
الميليشيات الشيعية وضعت على طاولة الحل الإقليمي، ولكن عوامل عدم نضوج الحل تتيح حسب بعض المراقبين محاولة إيران ضمان ما تعتبره حقوقا من أي تسويات على هذا الصعيد، فالتلويح بربط الميليشيات هذه في ما بينها هي أداة من أدوات الضغط، خاصة وأن ثمة من يؤكد أن أي تسوية في المنطقة تستهدف وقف القتال والعنف، ستعني خسارة لإيران، انطلاقا من أن القيادة الإيرانية تفتقد القدرة على ترجمة النفوذ العسكري الذي تحوزه سواء في العراق أو في سوريا وحتى في اليمن، إلى نفوذ سياسي، ولا سيما في سوريا التي تفتقد إيران فيها أي حاضنة اجتماعية لنفوذها ولمشاريعها.
ما يتخوّف منه بعض اللبنانيين أن تكون الاستعراضات الإيرانية الأخيرة على الحدود مع إسرائيل عبر عصائب أهل الحق العراقية، ليست إلا محاولة دفاعية عن الوجود الاستراتيجي الذي يمثله حزب الله، ولا سيما أن الاستقرار الذي تشهده الحدود مع إسرائيل هو الورقة الأهم التي تمتلكها إيران في سياق ابتزاز المجتمع الدولي منذ أكثر من عشر سنوات، وبالتالي فإن التهديد بالإخلال بهذا الاستقرار عبر ميليشيا عراقية وليس عبر حزب الله، ينطوي على تلويح بخيارات غير لبنانية، ما يجعل سلاح حزب الله بمنأى عن السجال المحلي والخارجي.
ما أثار المخاوف الإضافية وربما دفع حزب الله إلى تسريب فيديو الخزعلي، هو أن مؤتمر المجموعة الدولية لدعم لبنان الذي انعقد في باريس يوم الجمعة، أعاد التأكيد على سياسة النأي بالنفس وعلى تنفيذ القرارين الدوليين 1559 و1701 اللذين يرفض حزب الله الالتزام بموجباتهما منذ صدورهما حتى اليوم.
وما يزيد من قلق حزب الله وإحراج السياسة الإيرانية على هذا الصعيد، أن حزب الله تفاءل بموقف فرنسا التي حمته نسبيا من التصعيد السعودي ضد السياسة اللبنانية بعد الإفراط في تورّطه في الحرب في اليمن، بدت أنها متمسكة بالقرارات الدولية التي تستهدفه بالدرجة الأولى كما كان يؤكد منذ أن صدرت عن مجلس الأمن.
بين خيار التسويات أو استمرار اشتعال المنطقة عبر حروب متنقلة، يتأرجح النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، وفيما توجّه إسرائيل ضربات عسكرية متكررة لقواعد إيرانية في سوريا، من دون ردّ إيراني عسكري، يأتي الاستعراض العراقي على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل، كنوع من إعادة تذكير الإسرائيليين والمجتمع الدولي بمن يؤمن الاستقرار على هذه الحدود، وللقول إن أي تجاوز لهذا الواقع سيجعل من إعادة التوتر لهذه الحدود أمرا في يد إيران.