سيكون من السذاجة الاعتقاد أن لبنان عاد إلى ما قبل الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، يوم أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري من الرياض استقالته، وذلك بمجرد عودة الحريري عن هذه الاستقالة.
بذلك نكون أمام افتراض يجعل الاستقالة بحد ذاتها هي الأزمة وليست تعبيراً عن أزمة وطنية مستمرة أدت إلى الاستقالة، وتجعل المأزوم هو الحريري بشخصه المعنوي والسياسي وليس لبنان كوطن ودولة بعلاقاته بالعالم.
وبذلك نحوّل «قرار النأي بالنفس» الذي أصدره مجلس الوزراء ونص على «التزام الحكومة اللبنانية بكل مكوناتها السياسية النأي بنفسها عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية»، إلى مجرد مخرج لغوي لأزمة، لم تنتهِ بقدر ما أنها دخلت طوراً جديداً.
ولكن ماذا في القرار سوى كلام سبق أن قيل بأشكال أخرى ولم يلتزم «حزب الله» به؟ هل نذكر القرارات الدولية منذ القرار 1559 وصولاً إلى القرار 1701 مروراً بقرار إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، مضافاً إلى كل ذلك عشرات البيانات والإعلانات والقرارات السياسية، ونصوص الاتفاقيات، والتفاهمات؟ هنا أيضاً سيكون من السذاجة الاعتقاد أن أسطراً عشرة أعادت تدوير كلام سابق بصيغة قرار وزاري ستحمي لبنان في الحد الأدنى من تبعات مسألة «حزب الله»، دعك عن عجز الأسطر الأكيد عن معالجة هذه المسألة!
فالخطر الذي يواجهه لبنان وتواجهه المنطقة، ممثلاً باستنفار الدور الإيراني التخريبي عبر ميليشيات وعصابات شديدة البأس، عبّر عن نفسه عشية اتفاق اللبنانيين بجثة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. هل ننتبه أن صالح هو ثالث رئيس عربي تصفيه ميليشيات الولي الفقيه؟ ألم يُعدم صدام حسين، على يد عصابة جيش المهدي فجر عيد الأضحى وعلى وقع هتافات مذهبية، بددت كل المسار القضائي المحاكماتي الذي رجاه العراقيون والعالم معهم لطي صفحة عراق صدام وافتتاح صفحة عراق جديد؟ ألم تقتل عصابات طهران الرئيس رفيق الحريري في قلب بيروت في اللحظة التي بدأ فيها الرجل متهيئاً لأن يزيد جرعة استقلال لبنان عن المحور السوري الإيراني؟
الحريري، صدام، صالح، ثلاثة رؤساء عرب، يفترقون في كل شيء تقريباً، ويلتقون عند كونهم ضحايا مباشرين لعسف الميليشيات التي تربيها وتمولها وتسلحها وتأمرها دولة الولي الفقيه.
خطر بهذا الحجم لا يواجهه قرار وزاري ما لم يقترن بإقرار آليات تنفيذية لبنانية ضمن خطة إقليمية ودولية لمحاصرة «حزب الله» وتطويعه.
فتطبيق النأي بالنفس يعني ضبط الحدود اللبنانية والسورية لمنع تهريب أي أسلحة ثقيلة أو متوسطة أو مقاتلين، والتفاهم مع «حزب الله» على جدول زمني قصير ومحكم لسحب قواته من هناك والاكتفاء بتزويده ما يلزم لهذا الغرض فقط وبإشراف مخابرات الجيش اللبناني ومراقبين دوليين إن أمكن. وتطبيق النأي بالنفس يعني استعادة السيادة اللبنانية كاملة على مطار رفيق الحريري الدولي ومرفأ بيروت وتحريرهما من خروقات «حزب الله» التي أوضح تفاصيلها غير مسؤول لبناني.
من الطبيعي الافتراض أن التوازن السياسي والأمني في لبنان لا يسمح للحكومة وحدها أن تقوم بهذا الأمر. من هنا ضرورة وضع إطار إقليمي دولي لتحييد لبنان تقوده المجموعة العربية بقيادة السعودية وبالشراكة مع فرنسا والولايات المتحدة، بالاستناد إلى المشروع الباهر الذي كان يعمل عليه الوزير الشهيد محمد شطح، وتصدف ذكراه الرابعة بعد أسابيع قليلة.
قام مشروع شطح على تحييد لبنان بموجب قرارات أممية تصدر تحت الفصل السابع، لا تقوم فقط على إلزام لبنان بالنأي بنفسه عن أزمات المنطقة، بل تلزم اللاعبين الدوليين بحياد لبنان والامتناع عن استخدامه في سياسة «الحروب بالوكالة»، تحت طائلة التعرض لعقوبات محددة.
بيان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بعد أيام من استقالة الحريري حذر بوضوح من التلاعب بلبنان على هذا النحو، وقد آن الأوان لتحويل هذا التحذير إلى سياسة دولية تجاه لبنان، تقوم على ضمان مصالح اللبنانيين والعرب.
من الواضح أن لفرنسا والولايات المتحدة مصالح استراتيجية في لبنان واستقراره. ففرنسا عبر شركة «توتال»، جزء من كونسورتيوم ثلاثي يضم «إيني» الإيطالية و«نوفاتيك» الروسية، مهتم بالحصول على تراخيص التنقيب عن الغاز والنفط على الشواطئ اللبنانية.
إلى ذلك، للولايات المتحدة وفرنسا نظرة أكثر استراتيجية تتصل باستقرار لبنان بوصفه أكبر مخيم للاجئين السوريين على بوابات أوروبا. فسلام وازدهار أوروبا ووحدتها، وهي الأقانيم الثلاثة لهندسة الأمن عبر ضفتي الأطلسي ما بعد الحرب العالمية الثانية، باتت مهددة اليوم بسبب أزمات المهاجرين والانتكاسات الاقتصادية واستيقاظ الهويات الفرعية الانفصالية وصعود القوميات التنافسية التي أشعلت حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين. هذا التهديد الاستراتيجي تفاقمه أي انتكاسة في لبنان ترمي لاجئيه السوريين في المتوسط نحو أوروبا.
من هنا الحاجة إلى تفاهم حقيقي لبناني عربي دولي، يجعل من استقرار لبنان عاملاً من عوامل الاستقرار في المنطقة، ولا يبقي لبنان المستقر شرطاً لاضطراب المنطقة. لبنان الأول دولة يستحق شعبها أن يعيش بسلام. لبنان الثاني غرفة عمليات لـ«حزب الله» لا يملك أحد شهية الدفاع عن سلامتها.
في بعض الأحيان، يخيّل إلي أن هناك قوة خفية وسحرية، قوة غالبة لا تقهر، تقف خلف النظام الإيراني، تحرسه وتسدد خطاه، وتدفعه دوما للأمام، لتحقيق المكاسب والانتصارات، بغض النظّر عما يقوم به أو يفعله، حتى وإن بدا أنّه يغرق، أو في كثير من الأحيان يخسر.
إذا ما أردنا تجسيد هذه القدرة أو القوّة في مصطلح لغوي، لا أعتقد بأنّنا سنجد مصطلحا أكثر ملاءمة في وصف هذه الحالة من مصطلح "الغباء".
غباء خصوم إيران هو أقوى الأسلحة الاستراتيجية التي يستمد النظام الإيراني منها قوته في المنطقة، وهو سلاح فتّاك لا يكلّفه أي شيء على الإطلاق.
ينجم عن هذا السلاح بصفة شبه دائمة ومستمرة تقييم خاطئ لواقع الحال، وإجراء خاطئ لمعالجة الوضع الذي ينجم عن التقييم، وقرارات خاطئة للدفاع عن الإجراءات الخاطئة السابقة، ولا تصبّ نتائج كل هذا العبث في النهاية إلا في صالح إيران.
هناك من يعتقد بالفعل أن خصوم إيران يعملون في حقيقة الأمر لصالحها! وسواء كان ذلك استهزاء كما فعل تريتا بارسي، - رأس حربة اللوبي الإيراني في واشنطن- عندما قال ما معناه ان من يتابع أفعال ترامب وولي عهد السعودية محمد بن سلمان يعتقد أنهما يعملان سرا لإيران، أو كان ذلك نابعا من تقييم حقيقي لنتائج قرارات هذه الأطراف على الأرض، لا فرق، فهو يصب في نفس الخانة في نهاية المطاف.
بالرغم من كل التنازلات التي قدّمتها إدارة أوباما للنظام الإيراني والتي أتاحت له السيطرة بشكل تام على أربع عواصم عربية، فقد كانت طهران وضع مزر جدا مع نهاية العام الماضي، على الأقل لناحية شعبيتها ومصداقيتها وشرعية تمددّها وسيطرتها.
لكن ومنذ مجيء ترامب في بداية العام والتحالف العلني بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وإيران تحصد الانتصارات الإقليمية المجانيّة دون أدنى مجهود منها.
الأزمة المفتعلة مع قطر، أدّت إلى تحوّل كبير على الصعيد الإقليمي، وأتاحت لإيران أن تقدّم نفسها كشريان حياة ومخلّص.
ليس هذا فقط، بل إن الأزمة ذهبت أبعد من ذلك، لتفتيت وحدة الخليج، وتعطّل مجلس التعاون، إن لم نقل تدفنه، منهية بذلك أي قدرة جماعية للخليج للعمل على تحقيق التوازن مع إيران.
حصلت إيران على ذلك مجانا دون أي مقابل، وما كادت فصول هذه الأزمة تُفتح على نقاش للبحث عن حلول إلا وقامت السعودية بفتح أزمة جديدة على الجبهة اللبنانية دون سابق إنذار.
أدى إجبار الزعيم السني هناك إلى إعلان استقالته من الرياض إلى تآكل مصداقيته، وشعرت شريحة من السنّة بالإهانة والهوان، ومرة أخرى سمح ذلك لمليشيات إيران بالادعاء بأنهم في موقع الدفاع عن رئيس الوزراء السنّي، وانتهت الأزمة بفضيحة للمملكة بعد تدخل باريس وواشنطن وتحوّلت نتائج هذه الأزمة المفتعلة في النهاية إلى صالح حزب الله وإيران بعد تراجع الحريري عن استقالته.
أمّا في اليمن، فقد قاتل علي عبدالله صالح، رجل السعودية السابق، إلى جانب الحوثيين لثلاث سنوات تقريبا ضد المملكة والإمارات، وما أن أقنعوه أو ابتزّوه للإنقلاب على الحوثيين حتى مات بعد يومين فقط! ماذا قدموا له؟ ماذا كانت استراتيجيتهم؟ لا شيء.
مجرّد تغريدات ونشرات وتطبيل اعلامي مع استبدال لقبه من الرئيس المخلوع إلى الرئيس السابق. هناك إجماع الآن على أن الوضع في اليمن أصبح أصعب، وهذا يعني أن السعودية ستدفع المزيد من التكاليف هناك، وأن إيران تتقدّم مرّة أخرى.
آخر فصول المهزلة، قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل. لا يوجد أدنى شك بأن السعودية والإمارات وربما عدد آخر من الدول مثل مصر كانت على علم تام بتفاصيل هذه الخطوة.
لم يكن هناك تقريبا أي رد فعل حقيقي لهذه الدول التي لطالما انتفضت على مواضيع تافهة مؤخرا، وعندما اشتد الضغط الإعلامي، أصدروا بيانات من دون طعم أو رائحة أو لون وحاولوا الترويج لها على أنها رد قوي.
من استفاد من هذا القرار؟ إذا ما استثنينا إسرائيل، فإن المستفيد الأول من القرار هو إيران التي تروج الآن على أنها المدافع عن المقدسات وفلسطين وحامي الحمى، فيما وزير الدولة لشؤون الخارجية في هذه الدولة او تلك، يشتكي من استغلال القضية الفلسطينية من أطراف خارجية!
من يترك فراغا بإرادته أو بغبائه فعليه أن لا يلوم الآخرين على ملئه، وعليه أن يتحمّل نتائج ذلك أو أن يعود إلى رشده.
لا أحد يمكنه تقدير مدى الانسحاب الروسي من سورية، وحجمه، وهو الذي أعلن عنه رئيس الأركان، فاليري غيراسيموف، ذلك أن روسيا سبق وأعلنت مرتين سابقتين عزمها الانسحاب ولم يحصل، بيد أن مؤشرات عديدة تجمعت تجعل تصديق هذا الأمر ممكناً، كما أن طرح هذه المسألة في هذا الوقت بالتحديد، وإن لم ينته بانسحاب روسيا فعلياً، هو رسالة منها أنها ليست مهتمة بكامل سورية.
ثمّة أسباب كثيرة تدفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى اتخاذ هذا القرار، خصوصاً أنه ثبت أن الكرملين، وعلى عكس مما ورد في تحليلات وتقديرات كثيرة، كان قد درس كل خطوة بعناية واهتمام وتدقيق واسع، بل بالغ في الحسابات أحياناً، على الرغم من الجرأة التي ظهر عليها، وعلى الرغم من أن الأمور في سورية كادت أن تنزلق في محطات كثيرة نحو صراع إقليمي ودولي كبير.
ولعل من أهم الأسباب أن بوتين صنع ما يعتقد أنها مهمة كبيرة جداً، وهي تثبيت حليفه في الحكم وإنهاك قوى المعارضة، وربطه الكثير من المكونات العسكرية والسياسية السورية المعارضة بعلاقات مع موسكو، وهذا الوضع يطمئنه إلى استحالة ظهور تهديدات محتملة ضد النظام، أقله في المديين القريب والمتوسط، بعد ان استخدم سياسة تجميد الصراع، وتحويل الفعالية والمبادرة إلى مقلب نظام الأسد وحلفائه، كما أن بوتين ضمن قطع خطوط الإمداد الخارجية للمعارضة، وأصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعادة الديناميات السابقة إلى وضعها.
ومن بين الأسباب الدافعة لانسحاب روسيا إدراك قياداتها أن البقاء في سورية سيرتب عليهم تكاليف وأعباء لا داعي لها، أو بمنطق الحسابات السياسية والاقتصادية غير مجدية، بعد أن أمنت روسيا قواعدها في الساحل السوري وسيطرة شركاتها على حصص النفط والغاز، كما أن سورية ستكون بحاجة لإعادة إعمار، وربما يدفع بقاء روسيا أطرافاً دولية وإقليمية كثيرة إلى الامتناع عن المساهمة في تمويل إعادة الإعمار، وهذا من شأنه إحراج روسيا سياسياً وتوريطها بالتزاماتٍ لا تقدر عليها، بالإضافة إلى أن روسيا تسعى إلى إدخال الأمم المتحدة، بالشروط الروسية طبعاً، لكن ذلك من شأنه إظهارها عاملاً مساعداً في صنع السلام، وطرفاً فاعلاً في النظام الدولي.
بيد أن أحد أهم الأسباب التي تدفع روسيا إلى اتخاذ هذه الخطوة قناعتها، وربما وجود معطيات لديها، عن احتمال نشوب صراع إقليمي، لا تريد أن تكون طرفاً فيه، خصوصاً أن قدرتها في التأثير على أطرافه منخفضة، وهي ترى وتسمع طبول الحرب تقرع بين إسرائيل وإيران، كما راقبت روسيا تعقّد الأزمة إقليمياً، ونفاذ جميع فرص الحل، وما يهمها أن تبقى الحرب بعيدة عن قواعدها ومصالحها الإستراتيجية. وفي هذا الإطار، هي مطمئنة على نظام الأسد، لأنه العنوان الوحيد الذي تتفق عليه إيران وإسرائيل وأميركا، تجنباً لما تقول تقديراتهم، حصول الفوضى جرّاء رحيله.
باتت إيران متشجّعة لتقليص الوجود الروسي، وانكفائه إلى الساحل السوري، بعد أن أنجزت المهمة، وزالت المخاطر المحدقة، ولعل كلام المسؤولين الإيرانيين عن عزمهم تحرير الرقة وإدلب، على الرغم من أنهما تدخلان في معادلات إقليمية ودولية، شاركت روسيا في صنعها، دليل على أن إيران تسعى إلى صياغة معادلات جديدة لمرحلة ما بعد السيطرة الروسية، وتثبيت ركائز السيطرة الإيرانية.
وتتوجّس إيران من احتمالات إقدام روسيا على عقد صفقاتٍ على حساب المصالح الإيرانية في سورية، سواء مع تركيا أو إسرائيل وأميركا، بغرض المقايضة على ملفاتٍ تهم روسيا في أوكرانيا، أو فيما يخص العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية.
لا يختلف هذا السيناريو، في حال تحقّقه، عن السلوك الأميركي في العراق وأفغانستان، حين دمّرت القوّة الأميركية القوى المعادية لإيران، وسلمتها البلدين على طبق من فضة، مع فارق بسيط، هو أن إيران في سورية جهّزت بنية قوية على مدار سنوات من الصراع، وباتت لديها جيوش وقواعد وخطوط إمداد علنية، في بلدٍ بات أغلب سكانه بين نازح ومهاجر ومعتقل ومخفي، ولا يملكون ما يسد رمقهم لليوم التالي. وصار تأمين خبز الوجبة التالية أكبر همهم، فيما إيران تغدق على مقاتليها ومناصريها الأموال الطائلة، ليتفرغوا لإخضاع السوريين، والسيطرة على بلادهم.
ومن نكد الدنيا على السوريين أنهم باتوا يركنون إلى الرهانات، بعد أن قطع الصديق والشقيق كل أسباب الدعم عنهم، وتركهم في مواجهة قوىً لا ترحم، والرهان اليوم على أن تنقلب المقادير، وتأتي الرياح بحربٍ إقليمية تغير الواقع، وتنسفه من جذوره وتعيد المعادلات إلى ما كانت عليه، أو أن تضغط أميركا باتجاه إخراج إيران من سورية، ألم يقل الأميركيون أنهم بصدد تصميم استراتيجية مواجهة لإيران في سورية؟.
لكن تجاربنا في التاريخ المعاصر تكشف خُدَعَ مثل تلك الرهانات، فالحروب الكلاسيكية صارت أمراً بعيد الحصول، بدليل أن أميركا منذ سنوات تحارب بطائرات الدرون والعمليات الخاصة والوكلاء، وإسرائيل تتبع نمط الضربات الجراحية، ولدى إيران قدرة هائلة على التظاهر بالتراجع أمام الخصم وعدم منحه المبرر الكافي لشن الحروب عليها، أكثر من مئة غارة إسرائيلية على حزب الله والأسد لم تلاقِ الاهتمام والرد.
وبعد، السوريون لن يكونوا إلا همّاً عربياً، وإن نامت الأمة، فمن يستيقظ لنصرتهم.. يا ملح الأرض؟.
من الظلم الشديد أن نصف «الرأي العام» بالبغل، كما يفعل بعض العاملين في الإعلام. ففي ذلك إساءة بالغة ليس للرأي العام، بل للبغل، فمن المعروف أن البغل، ابن الحمار والفرس، حيوان مشهور بالعناد وكبر الرأس وصعوبة المراس، أي أنه ليس من السهل التحكم به وقيادته حيث تريد، فغالباً ما يحرن بسرعة، وفي أحيان كثيرةً يركل صاحبه ركلات موجعة ودامية. وكل هذه الصفات البغلية ليست من خصال الإنسان.
وإذا أراد أحدكم التعرف على سهولة التحكم بالناس وسوقهم كقطعان فعليكم بكتابي «سيكولوجية الجماهير» للمفكر الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، وكتاب «بروبوغاندا» للداهية الأمريكي الشهير إيدوارد بيرنيس. وبالمناسبة كلا الكتابين كانا الكتابين المفضلين للزعيم النازي أدولف هتلر ووزير إعلامه الشهير جوزيف غوبلز. فقد كان هتلر يضع الكتابين المذكورين وراء مكتبه لشدة تعلقه بهما.
لقد كشف لنا لوبون في كتابه كيف بإمكانك التحكم بالحشود في الشوارع، وكيف بإمكانك سوقها حيث تريد ببساطة متناهية. وجاء بيرنيس ليؤطر ذلك إعلامياً من خلال كتابه الشهير الذي أصبح المرجع الأول والأخير لوسائل الإعلام الأمريكية خاصة، والغربية عامة. ولا ننسى أيضاً كتاب «المتلاعبون بالعقول» لهيربيرت شيلر».
الكثير منا يعتقد أن الديمقراطيات الغربية محكومة بالرأي العام، وأن الحكومات هناك لا تستطيع أن تقوم بشيء إلا إذا كان الرأي العام موافقاً وقابلاً بالسياسات والاستراتيجيات المطروحة. وهذه طبعاً كذبة كبيرة لا أساس لها من الصحة. فالأصل ليس رأي الشعب، بل من يصنع رأي الشعب، ويوجهه في الاتجاه الذي يريد. وقد سخر أحد الإعلاميين قبل فترة عندما برر أحد المتحدثين تقاعس الرئيس الأمريكي على مدى أكثر من عامين عن القيام بإجراء حازم ضد النظام السوري بأنه نتيجة لرفض الرأي العام الأمريكي لأي حروب أمريكية خارجية جديدة بعد أفغانستان والعراق. ليس صحيحاً أبداً أن الإدارة الأمريكية تخشى ردة فعل الشعب فيما لو كانت تريد القيام بإجراء عسكري ضد النظام السوري، بل هي في هذه الحالة، كما يقول معارضوها من الصقور، تبرر تقاعسها وترددها بإلقاء اللوم على الشارع الأمريكي. وهي كاذبة في ذلك حسب رأيهم، فمن عادة الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية أن تفعل ما تريد عندما يكون لها مصلحة في تحرك ما، وعندما لا يكون لها مصلحة تبرر صمتها بأكذوبة الرأي العام.
من أسهل ما يكون أن تصنع رأياً عاماً في الديمقراطيات الغربية، خاصة في الزمن المعاصر حيث أصبحت وسائل الإعلام السلطة الأولى وليس الرابعة كما كانت في القرن التاسع عشر. العملية حسب تعليمات الداهية الكبير إيدوارد بيرنيس في غاية السهولة، فإذا كان بيرنيس قادراً بوسائله الإعلامية المتواضعة أن يوجه المجتمع الأمريكي في أي اتجاه تريده الحكومة في بداية القرن العشرين، فما بالك الآن، وقد أصبحت وسائل الإعلام وحشاً كاسراً أقوى من كل الترسانات الحربية، وهي التي تحسم المعارك الكبرى على الشاشات قبل أن تـُحسم على الأرض. عندما فكرت أمريكا بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان على نطاق واسع في العقد الرابع من القرن الماضي مثلاً، بدأت تبحث عن أعذار وحجج للالتحاق بالحرب، فطلبت من بيرنيس أن يضع لها استراتيجية إعلامية لإقناع الأمريكيين، وبعد أيام ظهرت الصحف وعلى صفحاتها الأولى كاريكاتير صممه بيرنيس. الكاريكاتير كان عبارة عن رسم لطائرات يابانية تقصف تمثال الحرية في نيويورك. وما أن شاهد الأمريكيون الصورة حتى ثارت ثائرتهم، وبدؤوا يتوعدون اليابان بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويدفعون حكومتهم للتدخل أكثر فأكثر في الحرب. لقد جاء الكاريكاتير كالقشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة وأن الصراع احتد وقتها كثيراً بين الطرفين عسكرياً. من الخطأ الاعتقاد أن الشعوب الغربية أكثر ذكاء وفطنة من شعوب العالم الثالث، فعلى العكس من ذلك، فهي سهلة الانقياد، وبإمكانك أن توجهها بسهولة. ولو نظرنا إلى الطريقة التي أدار فيها الإعلام الأمريكي الحملة لغزو العراق لوجدنا كيف نجح بسهولة في توجيه الأمريكيين دفعة واحدة لتأييد القضاء على صدام حسين. وقد ذكرت الإعلامية الأمريكية الشهيرة أيمي غودمان أن بعض الصحف الأمريكية الكبرى مثلاً كانت يومياً تنشر ما نسبته خمسة وتسعون في المئة من الآراء المؤيدة للغزو على صفحاتها الأولى، وخمسة في المئة فقط من الآراء المعارضة في صفحات أخرى. ويحدثونك عن الموضوعية والمهنية. ولو نظرنا إلى تعامل وسائل الإعلام الغربية مع المسألة السورية لوجدنا أنها كانت تعكس فعلاً الموقف الغربي الرسمي البارد والمتردد. وبالرغم من البشاعات التي شهدها الوضع السوري من مجازر رهيبة، إلا أن الشعوب الغربية لم تتأثر كثيراً بما يحدث من الناحية الإنسانية، لأن وسائل الإعلام صانعة الرأي العام كانت تريد الشعوب الغربية بعيدة عن الشأن السوري كي تبرر تقاعس الحكومات الغربية، كما يرى منتقدوها. ولو كانت هناك رغبة غربية حقيقية في الدخول على خط الأزمة السورية لصنعت رأياً عاماً يبرر لها تدخلها خلال أيام فقط، كما يرون. ولعلنا شاهدنا كيف تحرك الشارع الغربي فجأة لمجرد نشر بعض صور ضحايا الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق في ذلك الوقت. فعندما فكرت الحكومات الغربية بالتدخل في سوريا، غدا الخبر السوري فجأة الخبر الأول في نشرات الأخبار التلفزيونية الغربية، وبدأ الناس يدعون لوضع حد لمحنة الشعب السوري. لا أحد يحاول أن يضحك علينا بالرأي العام، فالرأي العام مجرد لعبة مفضوحة تلعبها الحكومات متى أرادت أن تفعل شيئاً، وتتحجج به عندما تريد أن تتهرب من فعل شيء. صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى منابر وبرلمانات شعبية يمكن أن تنافس الرأي العام الرسمي، لكن الحكومات في السنوات القليلة الماضية بدأت تصنع جيوشها الالكترونية الجبارة لمواجهة الزخم الشعبي لمواقع التواصل. ولا شك أن الحكومات بإمكانياتها الضخمة تستطيع أن تنافس رواد المواقع الذي يعملون فرادى. بكل الأحوال المعركة بين الرأي العام الرسمي والرأي العام الشعبي في مواقع التواصل ما زالت في أولها. وسنعرف لاحقاً من ستكون له اليد الطولى في صناعة الرأي العام.
تشير الواقعية بشقيها "الميداني والسياسي"، أن زمن الثورة قد قارب على النهاية بشكل قد تكون العودة معه للوراء ضرب من ضروب المستحيل.
والواقعية تقول أيضاً إن هذه الفترة هي فترة التصفية شبه النهائية لجيوب المعارضة، أو على أقل تقدير تضييق النطاق عليها حتى الخنق بالمعنى الجغرافي، مع ضمان استمرار التشتيت الميداني والسياسي بالزج في مواجهات جانبية في ردهات الفنادق، والحرق في أتون معارك لا يعرف التكافؤ له طريق، كما هو حال طرق الإمداد التي باتت مهجورة.
وفي الواقعية دوماً، يبدو أن الدول على طرفي الحرب، قد توصلت لقناعة قريبة من التامة أن العبثية الدموية يجب أن تحسم بآخر القرابين، وأن ترسم حدود المصالح والمكاسب فيما بينها دون تحديد منتصر أو خاسر، فاللعب انتهى عند هذه النقطة.
وليس ببعيد عن الواقعية الحالية، فإن "الأسد" كشخص وهيكلية نظام باق، خلال فترة لا تقل عن 18 شهراً إذا ما بدأنا غداً بالمرحلة الانتقالية، وقد يبقى إلى ما لانهاية إذا استمرت عملية التأجيل التي يبرع بها النظام للأسف.
وفي ظل هذه الواقعية، وبعيداً عن الاستعراض السياسي لمسار القرارات الأممية والاتفاقات الجانبية بين الدول، لم لا نتساءل عن الإطار "البراغماتي" المتناسب مع هذه الواقعية، التي لا نملك حيالها للأسف أيضاً أي حول أو قوة.
الحقيقة أن هذا السؤال فيه من التعقيد الكثير، سيما أن "البراغماتية" المطلوبة بحاجة لوجوه جديدة بشكل كلي، وجوه لها حضور وقبول، لها ميزة اللعب على الأطراف، ولم يسبق لها الإيغال في الانتماء لهذا الطرف أو ذاك، هذا المطلب (إيجاد هذه الوجوه) هو ما يطيل الأمر، ففي وضع كسوريا لا يوجد من لم يصطف إلى جانب طرف فعلاً أو قولاً وحتى صمتاً.
سؤال بحاجة لمشاركة جمعية، وحالة من تبادل الأفكار والرؤى، قد تصطدم تتنافر تهاجم تتفق تسير بخط مواز، ففي النهاية حالة الحرب لا يمكن أن تستمر وحالة فرض السلم لن تكون أفضل.
إنه العام الرابع، وما يزال الناشطون الأربعة مختفين قسريًا بعد اختطافهم، وما تزال أيدي من اختطفهم تعيث فسادًا مروعًا، باذلة جلَّ جهدها في سبيل القضاء على ما تبقى من ثورةٍ، قدّم المؤمنون بها كل ما من شأنه الحفاظ على استمرارها وديمومتها، في سبيل انتصارها، بدءًا من مواقفهم الشخصية ورأيهم الحر وأعمالهم الثورية، ومرورًا بالملاحقات والاعتقال والتواري، وانتهاءً بحياتهم.
المفارقة الإنسانية، والثورية أيضًا؛ هي أن من اختطف هؤلاء الناشطين كانوا هدفًا إنسانيًا نبيلًا بالنسبة إلى المخطوفين ذاتهم، تجلى ذاك الهدف السامي في استماتة الناشطين الأربعة وآخرين غيرهم، في الدفاع عنهم أمام محاكم أعتى الطغم الحاكمة إجرامًا واستلابًا للحقوق، معرّضين أنفسهم لأخطار عديدة، ليس الاعتقال أولها، ولا السجن آخرها، فطغمة الأسد لا تحتاج إلى باحث أو متقصٍ يروي لنا مآثر إجرامها وتاريخها الحافل بالدماء.
كان “الاختلاف” -بالنسبة إلى أولئك الظلاميين- سببًا جوهريًا لخطفهم، بينما لم يكن كذلك بالنسبة إلى الناشطين الأربعة، حين كان المختَطفون يناضلون في سبيل حرية من اختطفهم، أمام محاكم الأسد العرفية، فضحايا هؤلاء المختطِفين كانوا يعتبرون خاطفيهم ضحايا طغمة لا بدّ من زوالها، كي يسود في سورية -آنذاك- مناخ حرية، يتعرّف كل مواطن فيه على حقوقه وحرياته، بدل مناخ الانغلاق وكم الأفواه والفساد والإجرام، الذي يهيئ تربة خصبة للتشدد والتطرف وصناعة المستبدين. معتقلو الرأي من “إسلاميين”، ومن انتماءات فكرية أخرى، في صيدنايا وغيره من المعتقلات، كانوا شغل هؤلاء الناشطين الشاغل، ونتيجة لذلك دفعوا أثمانًا باهظة، فمنهم من قضى سنوات عديدة في سجون الأسد، ومنهم من لوحق أو تخفّى أو تكررت استدعاءاته الأمنية، ومن أجلهم -أيضًا- كانت تُوثّق الانتهاكات المطبقة بحقهم، وتجهّز المرافعات، وكذلك الاعتصامات، وتُكتب المقالات، وهذا كله له ثمن باهظ، يعرفه كل السوريين.
في الثورة؛ كغيرهم من المخلصين لها، لم يتوانَ الناشطون الأربعة عن دعمها، بكل ما أوتوا من إمكانات، ومن قيم، ومن عمل، لكن ذلك لم يعجب أصحاب الأفق الضيق والمشاريع الفئوية، أولئك الذين رأوا الثورة فرصةً للتعبير عن مهارة صناعة الأسد، في استنساخ نفسه إجرامًا وقتلًا و”تشبيحًا”. بالتأكيد لن يعجبهم انتصارُ الثورة، بل سيتعدى “عدم الإعجاب” هذا إلى تهديد وجودي لهم، فالحرية هنا هي مقابل الاستبداد، والحقوق هي مقابل لمنتهكيها، وبجملة واحدة: مصالح المشاريع الوطنية هي عائق حتمي أمام المشاريع ما دون وطنية.
في الوقت الذي كان فيه الناشطون الأربعة، مع آخرين، يقومون بتدريب غيرهم على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، كان خاطفوهم يقومون ببناء السجون والمعتقلات كالتوبة والباطون والكهف، وتدريب مرتزقتهم على الاغتيال والتعذيب. وحين عمل الناشطون على تنسيق الجهود المدنية لتأسيس عمل مؤسساتي وطني منظم، كان خاطفوهم يؤسسون لجهاز “الحسبة” لمراقبة اللباس والأسواق، والـبت في “المخالفات الشرعية”، كما تزامن عمل كل من الخاطفين والمخطوفين في عدة أعمال، ولكن في اتجاهين متعاكسين؛ فالخاطفون كانوا قد بدؤوا بإعداد لوائح تضم أسماء شخصيات بغية اغتيالها أو اختطافها أو اعتقالها، بينما المختَطفون كانوا قد شرعوا بإعداد لوائح بأسماء المعتقلين والمصابين وذوي الشهداء، بغية تقديم ما يلزم لهم من دعم إغاثي وصحي وتعليمي. نعم؛ هم لا يريدونكم بينهم، فأنتم أسميتموها، منذ البدء، ثورة في سبيل الحرية والكرامة، بينما أسماها قادتهم وشرعيوهن وأمنيوهم -في البدء- “خروجًا غير شرعي على السلطان”، ثم سمّوها لاحقًا “جهادًا”.
لقد رفضتم، أيها الناشطون الأربعة، أي دعمٍ يرتبط بأجندة غير وطنية، أو مال تصاحبه شروطٌ تحرف بوصلة أعمالكم في سبيل انتصار الثورة، بينما قبِل خاطفوكم كل دعم، وكل مال، وكل ما صاحبهما من شروط؛ ليصل بهم الحال إلى التخلي عن رايتهم. هؤلاء هم خاطفوكم، هؤلاء من بات يمثل ثورتنا أمام العالم في المحافل السياسية، أعرفتم سبب اختطافكم؟ أتبين لكم النهج الإبليسي الذي اتبعه الأسد وتلامذته؟ كي لا تكونوا أنتم من يمثلها بأهدافها وتطلعاتها، بقيمها الإنسانية والحضارية والجمالية أيضًا. فالأسد وتلامذته -كسائر حكومات هذا العالم القذر- لا يفضلون إلا القبح والقبيح. أردتموها تنوعًا واختلافًا وألوانًا متعددة، تليق بنا -السوريين- وأرادوها سوادًا كقلوبهم وأفكارهم ومشاريعهم.
رسائل قذرة عديدة أراد من اختطفكم توجيهها إلى كل منتمٍ إلى مبادئ الثورة ومخلص لها؛ لعل أكثرها عهرًا أن هذه المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، هي داخل سيطرتنا، وسنفرغ كل قذارتنا فيها، وسنكون الأقوى، ولن نسمح لآخرين من أمثالكم أن يلجؤوا إليها، ولن تكون ساحة لتجسيد طموحات الثورة في الحرية والكرامة والمواطنة.
أخيرًا؛ لكم، أيها الناشطون الأربعة، “آخرون”، ولأولئك الخاطفين “آخرون” أيضًا، والثورة مستمرة. الرسالة الأخطر: يا أصحاب الخط الوطني. المناطق “المحررة” ليس ملاذكم، وليست ساحة لعملكم.
بغض النظر عن الأسباب التي دفعت روسيا إلى تقديم الدعم الجوي لـ "قوات سوريا الديمقراطية" في ريف دير الزور الشمالي والشرقي، فإن رسالة الشكر التي وجهتها "وحدات حماية الشعب" الكردي لروسيا تحمل في طياتها رسائل سياسية تتجاوز مسألة العرفان بالجميل للدور الروسي.
لا يمكن فصل هذه الرسالة والصراحة المقصودة في شكر روسيا عن تطورين مهمين:
- الرئيس الأمريكي يخبر نظيره التركي عبر اتصال هاتفي، بأن البيت الأبيض أصدر أوامر بوقف إرسال شحنات إضافية من الأسلحة إلى المقاتلين الأكراد في سوريا.
- وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، يعرب عن توقعه بأن يتحول التركيز إلى الاحتفاظ بالأراضي بدلا من تسليح المقاتلين الأكراد، مع دخول العمليات الهجومية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا مراحلها الأخيرة.
يعني التطور الأول أن الولايات المتحدة بدأت بإعادة ترتيب علاقتها مع حليفتها التقليدية (تركيا)، ويعني التطور الثاني أن العلاقة بين واشنطن والوحدات الكردية في مرحلة ما بعد داعش، تختلف كثيرا عن مرحلة محاربة التنظيم. وإذا كانت مرحلة محاربة التنظيم تفرض إعطاء أولوية أمريكية للوحدات الكردية، فإن مرحلة ما بعد التنظيم تتطلب انفتاحا على القوى الاجتماعية كافة، وما يفرضه ذلك من إعادة ضبط سياسات القوة.
فهمت الوحدات الكردية الرسائل الأمريكية، وردت عليها برسالة مماثلة لا تخلو من شعور بفائض القوة. لا يقتصر الأمر على شكر روسيا فحسب، بل تجاوز الأمر إلى حد حماية الوجود الروسي على الأرض في دير الزور، وإجراء تفاهمات سياسية - اجتماعية - اقتصادية بين الطرفين في الشمال السوري، حيث تشهد النقاشات الكردية - الروسية تطورا مهما في الفترة الماضية، لجهة تشكيل مجالس إدارة مدنية تضم رؤساء العشائر ووجهاء وشخصيات اعتبارية، للتمثيل المباشر للعرب والأكراد وبقية المكونات العرقية والدينية في المنطقة، وفق مبدأ "الديمقراطية والإدارة الذاتية".
من مصلحة الوحدات الكردية أن تنسج علاقات قوية مع الروس، ليس فقط لموازنة العلاقة مع الولايات المتحدة مستقبلا، بل أيضا لضبط إيقاع الأتراك، فموسكو الأقدر على لجم تركيا في الشمال السوري.
بالنسبة لروسيا، يشكل التعاون مع الوحدات الكردية فرصة للتوصل إلى تفاهمات بينهم وبين النظام. وتحاول موسكو منذ فترة إدخال "حزب الاتحاد الديمقراطي" في العملية السياسية، ومنحه ضمانات في الحصول على حقوقه وفق ما هو متاح، مقابل تقديم الوحدات تنازلات جغرافية لصالح النظام في الرقة وريف حلب الشمالي والغربي، وبعض المناطق في ريف دير الزور الشرقي والشمالي.
وقد عادت محافظة الرقة وإدلب ومنطقة عفرين إلى الواجهة من جديد، مع التصريحات التي أطلقت من دمشق وأنقرة تجاه الوحدات الكردية، قبل أن تضع المعارك أوزارها في دير الزور.
لكن المشكلة التي يواجهها النظام السوري وتركيا - على السواء - مع "قوات سوريا الديمقراطية"، هي أنهما لا يستطيعان شن هجوم عسكري ضد هذه القوات من دون غطاء روسي، لا يمكن توفيره من دون التفاهم مع الولايات المتحدة، ولا يستطيعان بالمقابل ترك الأمور على ما هي عليه ورؤية الأكراد يعززون وجودهم العسكري والسياسي والإداري والديمغرافي في الشمال السوري.
تدرك روسيا جيدا أن الولايات المتحدة لن تسمح للوحدات الكردية باستثمار انتصاراتهم العسكرية سياسيا، أي لن تسمح واشنطن بإقامة فدرالية كردية. وعليه، تعتقد موسكو أن التعاون مع الوحدات في المرحلة المقبلة سيحقق للطرفين مكاسب كبيرة، ويسمح للأكراد بالانفتاح على المحور الروسي.
وقد ظهرت بوادر الخلاف الأمريكي مع الأكراد جلية في الآونة الأخيرة، حين طلبت واشنطن تسليم الإدارات المحلية التي يسيطر عليها الأكراد إلى العرب والعشائر المحلية في حلب والرقة ودير الزور، وفي حال نفذ الأكراد ذلك سيجدون أنفسهم محاصرين في بقعة جغرافية ضيقة.
والحل الأفضل بالنسبة للوحدات الكردية يأتي من البوابة الروسية لا الأمريكية؛ لأن مناطق السيطرة الكردية محاصرة من قبل المحور الروسي (النظام في الجنوب، تركيا في الشمال)، وعقد صفقة مع موسكو تتخلى الوحدات بموجبها عن بعض الأراضي، مقابل حصولها على امتيازات اقتصادية في بعض المناطق يعد الحل الأمثل.
وعلى الرغم من كل ذلك، من المبكر الحديث عن تغيير في طبيعة التحالفات القائمة بين مختلف الفرقاء، في ضوء قرار الولايات المتحدة الإبقاء على حضورها العسكري في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وهذا أمر يتطلب استمرار التحالف الأمريكي/ الكردي.
كما أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتخلى عن الورقة الكردية، وكل ما تريده هو أن يغير الأكراد استراتيجيتهم بما يتناسب مع طبيعة المرحلة؛ التي سيكون لها قواعد عمل جديد من شأنها أن تعدل من التحالفات القائمة دون أن تلغيها.
تعتمد القيادة في طهران وبشكل متزايد على المؤسسة العسكرية في مواجهة المشاكل الداخلية المتنامية إلى جانب العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها دولياً؛ بغية إطالة فترة المكوث على رأس السلطة لأطول مدة ممكنة. ويَـبْرُز هذا الاعتماد الكبير على المؤسسة العسكرية لدى المرشد علي خامنئي من واقع اجتماعاته الثلاثة الأخيرة في غضون أقل من شهر مع قادة الجيش، والتي عكست تضاعف هيمنة المؤسسة العسكرية على هياكل السلطة داخل النظام الإيراني الحاكم.
ومن علامات هذه الهيمنة كان قرار خامنئي بمطالبة رئيس الأركان الإيراني المُعين حديثاً الجنرال محمد حسين باقري بأن يتسلم قضايا التعاون الرئيسية مع روسيا وتركيا بشأن سوريا؛ مما يوحي باستبعاد الرئيس حسن روحاني وحكومته بعيداً عن هذا الملف الحساس. ولقد أطلق الجنرال باقري مشروعاً طموحاً لإقامة تحالف عسكري واقعي مع تركيا، والعراق، وباكستان، مع إسناد خارجي أكيد من الجانب الروسي، في تناقض مباشر مع آمال الرئيس روحاني المُـعْـرَبِ عنها مراراً وتكراراً للتودد إلى والتواصل مع القوى الغربية.
ومن العلامات الأخرى أيضاً كان قرار خامنئي بكتابة رسالة شخصية موجهة إلى الجنرال قاسم سليماني، وهو الرجل المكلف ملف «تصدير الثورة الإيرانية» من خلال فيلق القدس الذي يقوده وغيره من أفرع «حزب الله»، الخاضع لإمرته، في كل من لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
وفي تلك الرسالة، نسب خامنئي الفضل للجنرال سليماني في «تدمير» خلافة «داعش» المزعومة، وكلفه بمهمة متابعة الاستراتيجية الأكثر عدائية في مواصلة تحقيق «الانتصارات الأخيرة» في بقية ربوع المنطقة. ومرة أخرى، فإن تعليمات خامنئي تُسقط من حساباتها تماماً المزاعم المتكررة من جانب روحاني بأن إيران تسعى جاهدة لإنهاء حدة التوترات المشتعلة في الدول المجاورة.
ويبدو أن مقدار الإهانات التي سددها خامنئي إلى الحكومة الرسمية في بلاده لم تكن بالقدر الكافي؛ إذ طلب المرشد من المؤسسة العسكرية تولي مهمة توفير الإغاثة، وفي وقت لاحق، إعادة الإعمار في كارثة الزلزال الكبير الذي ضرب البلاد، والذي أسفر عن دمار هائل في خمس محافظات إيرانية.
والرسالة الضمنية، التي وجهها قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي عزيز جعفري، مفادها أنه عند التعامل مع حالات الطوارئ الكبيرة في البلاد فإن السلطات المدنية العادية هي أسوأ من لا شيء.
وللتأكيد على ارتفاع مكانة المؤسسة العسكرية في هياكل السلطة الإيرانية، أصدر خامنئي أوامره بزيادة كبيرة في ميزانيات الدفاع والأمن تقدر بنحو 14 في المائة مع زيادة هائلة في الإنفاق على تطوير جيل جديد من الصواريخ بمساعدة مباشرة من كوريا الشمالية. وهنا، أيضاً، يمارس المرشد الإيراني المزيد من سياسات القمع إزاء سياسات الحكومة الرسمية والمتمثلة في محاولات إقناع الاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة، بأن إيران قد هدّأت من وتيرة مشاريعها الصاروخية في إشارة إلى حسن النوايا تجاه مجموعة دول 5+1 التي أشرفت على صياغة الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة.
وأعلن خامنئي، خلال اجتماعه الأحد الماضي في طهران مع 52 من كبار قادة المؤسسة العسكرية الإيرانية، أن القوات المسلحة تمثل «طليعة الأمة» فيما سماه «انتصارات الثورة الإيرانية على كافة الجبهات». كما أنه قرر أن للجيش الحق الحصري الأول في رفض تجنيد «الأفراد من أرفع المستويات المؤهلة».
وقد يكون اعتماد خامنئي المتزايد على المؤسسة العسكرية من الخطوات التكتيكية الاستباقية.
لقد فقد نظام خامنئي الحاكم الكثير من قاعدته الشعبية المؤيدة، ومن واقع الحكم على تصاعد التوترات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية والتي صارت مشاهدة في جميع أنحاء البلاد، فقد بات النظام الحاكم ولفترة كبيرة متخذاً موقف الدفاع عن القضايا المحلية في مواجهة الانتقادات الداخلية المتزايدة. والسرد القديم للثورة التي تقوم مقام شخصية روبن هود في السرقة من الأغنياء لكفاية الفقراء قد فقدت بريقها وأصبحت في أدنى دركات الابتذال.
وتؤكد البيانات الرسمية في إيران أنه تحت حكم الملالي قد أصبح الأثرياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقراً. ويضيف الفساد المستشري في ربوع الأجهزة الحكومية، والذي غالباً ما تسلط وسائل الإعلام الحكومية الأضواء عليه في غير مناسبة، المزيد من السخط على المشاعر الشعبية بأن المسميات الجديدة، التي باتت راسخة الآن، تهدف إلى المزيد من سرقة الأمة وعلى نطاق أوسع. وخلال الأسابيع القليلة الماضية وحدها، تمكن 12 مسؤولاً حكومياً كبيراً من المتهمين باختلاس مبالغ مالية فلكية، من الفرار إلى النمسا وإلى كندا.
وأضافت معدلات البطالة المتزايدة، وارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة المحلية المزيد من الثقوب في أي سرد ثوري يتحدث عن أي نجاح مُحرز في القضايا والأمور ذات الاهتمام بالنسبة للمواطنين العاديين.
وبالتالي، فإن النظام الحاكم في طهران يحاول صياغة سرد جديد يستند إلى المزاعم بأن الإرهاب المتفشي في أجزاء كبيرة من العالم، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، بات أيضاً يهدد الداخل الإيراني، وأن النخبة العسكرية والأمنية في البلاد يمكنها حماية الأمة من أخطاره المحدقة.
وقال الجنرال حسين سلامي، الرجل الثاني في الحرس الثوري الإيراني بعد الجنرال عزيز جعفري: «إننا نقاتل بعيداً عن الوطن وعن حدوده؛ حتى لا نضطر يوماً إلى القتال داخل مدننا وقرانا».
ورغم ذلك، فمن غير المحتمل لهذا السرد، على المدى المتوسط والبعيد، أن يرجع بالنتائج المرجوة من ورائه؛ ففي أي دولة منظمة ومحكومة على النحو الصحيح، لا تكون القوات المسلحة «في صدارة وطليعة المواجهة» لجهود «تأمين» البلاد، فضلاً عن إبقائها على قيد الحياة، فإن «الخطوط الأمامية» في غالب الأحيان تتألف من القوة الدبلوماسية، والرسوخ الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، والجاذبية الثقافية. وبعبارة أخرى، فإن القوات المسلحة الوطنية لا تعمل في الفراغ الداخلي، لكن في السياق الأوسع من الواقع الاجتماعي والسياسي الحقيقي. وفي هذا السياق، أصبحت إيران اليوم أكثر ضعفاً من أي وقت مضى منذ أربعينات القرن الماضي. وينتظر خامنئي من المؤسسة العسكرية أن تملأ كافة الفراغات، وتسد كافة الثقوب التي ظهرت نتيجة لعقود طويلة من الفشل السياسي والاقتصادي، وهذا الأمر بمنتهى البساطة يفوق طاقتها على الاحتمال والفعل.
وقد يُجانب المرشد الصواب كذلك في قضية أخرى. ففي أي دولة، تتطور مؤسسات الدولة المتنوعة على المستوى نفسه تقريباً، فلا معنى لوجود مؤسسة عسكرية تتسم بالامتياز مع الخدمات المدنية، أو القضائية، أو الاقتصادية من الدرجة الثالثة. والنظم الحاكمة التي تولي جُل تركيزها واهتمامها للمؤسسة العسكرية فحسب لا تنجح أبداً في إنجاز أي شيء جدير بالاستحقاق لما وراء النجاحات العرضية العابرة.
وإسبرطة القديمة من أبرز الأمثلة على ذلك، ولقد كانت مثالاً على أعلى تصنيف عسكري مسجل في العالم القديم، غير أنها تلاشت من ذكريات التاريخ، في حين أن أثينا القديمة، ذات الجيوش الوطنية المتهالكة، قد تجاوزت كل الإمبراطوريات التي عاصرتها، الفارسية، والمقدونية، والرومانية، والبيزنطية، واحتلت مكانة بارزة في التاريخ بأكثر مما احتلته إسبرطة. ومن الأمثلة الأخرى أيضاً، القائد العسكري الفذ نابليون بونابرت الذي أشعلت آلته العسكرية الهائلة النيران في مختلف ربوع أوروبا بيد أن حياته انتهت بالإذلال والموت في المنفى. ومن منا لا يتملكه الإعجاب الكبير بعملية «بارباروسا» التي أطلقتها جيوش ألمانيا النازية ضد الجيش الأحمر السوفياتي في عام 1941؟ لكن كانت النتيجة النهائية تحول العاصمة النازية «برلين» لأكبر كومة من الأطلال والأنقاض عرفها التاريخ الحديث.
وفي الحالة الإيرانية الراهنة، يلعب خامنئي، وربما هو يتلاعب بالورقة العسكرية بغية تلبية أسباب سياسية ضيقة النطاق في وقت لا تواجه فيه إيران أي تهديد عسكري واقعي يعرّض الأمن القومي وسلامة البلاد لأخطار حقيقية. إن قرع طبول الحرب قد يثير المشاعر لبرهة من الزمن، لكن، بمرور الوقت، يتكشف خواء الطبول وتتلاشى أصواتها الخرقاء.
أي مصير للقدس ولفلسطين يمكن الأمل به في ظل تسليم الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسته حيال القضية لصهره جاريد كوشنير، الذي اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو النومَ في فراشه منذ كان الأول فتى صغيراً، بحكم العلاقة العائلية؟
في ظل رئاسة ترامب، يصلح وصف «بئس المصير» على العلاقات العربية- الأميركية أيضاً، مهما كانت المراهنات الخيالية التي برزت عند بعضهم خلال السنة المنصرمة، على أن يدفع ساكن البيت الأبيض عملية السلام إلى الأمام في عهده. فكوشنير سبق أن أبلغ الرئيس الفلسطيني محمود عباس في آخر لقاء معه كمبعوث سلام، أن عليه أن يُقلع عن تكرار تسمية الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية بما فيها القدس، على أنه «احتلال». أسقط مفهوم كوشنير لدور واشنطن في المفاوضات على الوضع النهائي للقدس والأمن والمستوطنات والحدود، هذا الدور قبل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. المقدّمات في موقف واشنطن كان من الطبيعي أن تقود إلى إعلان الرئيس الأميركي ما أعلنه.
ليس ترامب وحده الذي يتحمل مسؤولية تلك المقدّمات. سلفه باراك أوباما نفسه وعد عام 2008 مع انتخابه، بوقف الاستيطان الإسرائيلي، ثم تراجع بعد سنة وقال للرئيس عباس بكل بساطة: «لم أتمكن من تنفيذ هذا الوعد». فالتغاضي الأميركي عن الاستيطان الإسرائيلي منذ عشرات السنوات، في المناطق التي يُفترض أن تخضع للتفاوض، يسوّغ تسليم القدس إلى الاحتلال. وبكل بساطة، علينا أن نتذكر ما يقوله بعض الناشطين اليهود من أجل السلام، ومنهم يوري أفنيري، من أن واشنطن هي التي كانت على الدوام، وفي كل المحطات المفصلية التي مرّت في عمليات التفاوض على السلام، تتراجع عن فرضه، حتى عندما كان يظهر بين حكام تل أبيب من لديه قابلية لتقديم تنازلات.
الإدارات الأميركية المتعاقبة أرادت إبقاء الفلسطينيين وسائر العرب خاضعين لمبدأ الحاجة إلى دورها في المنطقة، مقابل التوسع الإسرائيلي والحاجة إلى التسلح. تفوّق إسرائيل وضعف العرب وسيلتُها للحفاظ على نفوذها وسيطرتها.
والأنكى أن ترامب أقرن قراره نقل السفارة إلى القدس بتحذير الأميركيين من السفر إلى المدينة المقدّسة والتجوّل فيها، مدركاً سلفاً أن خطوته ستعرّض مواطنيه لمخاطر أمنية، على رغم وصفه بأنه الجاهل بتاريخ المنطقة.
سنسمع الكثير من التبريرات والدعوات إلى التريّث العربي في ردود الفعل، والتي لا تقدّم جواباً فعلياً على السؤال حول ما سيفعله العالمَان العربي والإسلامي ردّاً على خطوة ترامب بعد الإهانة التي تعرّضا لها. وهي تبريرات شبيهة بالتي سبقتها منذ عام 1947، داعيةً إلى انتظار تعديل في السياسة الدولية، بالمراهنة على الضغط الأوروبي. ماذا ينفع التفسير القائل إن ترامب احتاج إلى الخطوة من أجل التغطية على وضعه الحرج بسبب التحقيقات في الكونغرس حول تواطئه مع التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي قادته إلى رأس السلطة، فيسترضي اللوبي اليهودي للدفاع عنه وتعطيل الهجوم الداخلي عليه؟ وماذا ينفع التحايل على الغضبة الشعبية ضد قراره استناداً إلى أنه ضد القانون الدولي؟ أو بالعودة إلى التاريخ للقول إن اليهود لم يحكموا القدس سوى 73 عاماً قبل الميلاد طوال تاريخها الذي بدأ منذ أكثر من خمسة آلاف سنة؟ أو بالعودة إلى أسلوب تخدير هذه الغضبة الشعبية عبر الإيحاء بأن القرار لا يُلغي إمكان اعتماد القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية؟ فاختلال ميزان القوى المستمر، جعل من العرب تلك «الظاهرة الصوتية» غير الفاعلة إزاء كل الإجراءات الإسرائيلية.
وفي كل الأحوال، أمعن الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، في التفرّج على الصراعات العربية تتفاقم، وفي تغذية الصراع العربي- الإيراني الذي استفاد منه الجموح الإيراني نحو الهيمنة الإقليمية. وبات من الصعب توقّع وحدة الموقف العربي والإسلامي لمواجهة القرار الأميركي، ما سيُخلي الساحة لجيل جديد من الإرهاب القابل للتغذية بشتّى الحجج والشحنات الأيديولوجية والدينية، مع الإعلان عن القضاء على «داعش» في سورية والعراق.
قرار ترامب أثمن هدية لإيران، مع إعلان ريكس تيلرسون أمس، أن إيران تقوم بأعمال شريرة لزعزعة استقرار المنطقة، بقدر ما هو هدية لإسرائيل في ظل التشرذم العربي والإسلامي. وبالقدر الذي تتطلع واشنطن إلى اكتفاء العرب بوقوفها معهم ضد طهران، فإن الأخيرة ستبرّر سياستها الهجومية المستمرة على الصعيد الإقليمي، بمظلة مقارعة أميركا وظلمها للفلسطينيين، مرة أخرى. وها هي تحشد قواتها في الجنوب السوري مجدداً من أجل المزيد من التوسّع في بلاد الشام، لتثبيت نفوذها، ردّاً على القصف الإسرائيلي لقواعدها ومعامل الأسلحة التي أقامتها...
يواجه الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مخاض كبير في مرحلة مفصلية من حكمه بعد أن اقتربت ولايته من النهاية، في الوقت الذي يغوص فيه أكثر في المستنقع السوري إن صح التعبير وبات في مواجهة مباشرة مع شعبيته التي تتراجع أمام منافسيه في الانتخابات، نظراً لرفض الشارع الروسي ما تقوم به القوات الروسية من قتل وتدمير في سوريا بحجة "محاربة الإرهاب" وكذلك الخسائر الكبيرة التي منيت بها روسيا خلال عامين وثلاثة أشهر من بدء تدخلها لصالح نظام الأسد ضد شعبه.
تصريحات بوتين اليوم في زيارة مفاجئة للقاعدة الروسية في حميميم والتقائه برأس النظام بشار الأسد على عجالة، قبل زيارات رسمية يقوم بها بوتين إلى مصر وتركيا، وما صدر عنه من قرارات ببدء سحب القوات الروسية من سوريا ما هو إلا فقاعات إعلامية لأهداف وأجندات سياسية، يريد بوتين أن يستثمرها في هذا الوقت لمآربه وهو في الحقيقة يكرر تصريحاته السابقة قبل عام عن سحب القوات الروسية وما حصل فعلاً هو زيادة القوات والغوص أكثر في القتل والتشريد.
يقف بوتين اليوم بعد إعلانه عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها عام 2018، ينافسه أكثر من 10 أشخاص منهم سياسيين ورجال أعمال وفنانين يراهنون على أوراق كبيرة ضد بوتين الذي أعلن ترشحه كمستقل لا كمرشح عن حزب "روسيا الموحدة"، في الحملة الرابعة له، سيكون ملف تدخل القوات الروسية في المستنقع الروسي أكبر التحديات أمامه كذلك ملف كأس العالم الذي ستستضيفه روسيا في دورته لعام 2018 ضمن البطولة الحادية والعشرين من كأس العالم لكرة القدم تحت رعاية الاتحاد الدولي لكرة القدم، والتي يشترط ألا تكون الدولة المستضيفة في حالة حرب وهذا التحدي الثاني لبوتين.
شهدت الأشهر الماضية حراك روسي كبير على مختلف الأوساط للتوصل لحل سياسي سريع للقضية السورية والخروج منتصرة من المستنقع السوري قبل المخاض الرئاسي وعت لمؤتمر سوتشي أو ما عرف بمؤتمر الشعوب السورية، كذلك أجرى الرئيس بوتين اجتماعات مكثفة مع حلفائه وأصحاب القرار في الشأن السوري تركيا وإيران، ودعمت اجتماعات الرياض 2 وأدخلت منصة موسكو ضمن وفد التفاوض، كل هذا الحراك للانتهاء من القضية السورية بأسرع وقت.
وفي وسط هذا الحراك بات السؤال اليوم عن مدى جدية بوتين في تنفيذ تصريحاته على الواقع وسحب القطعات الروسية التي تزيد يومياً في قاعدة حميميم والعديد من القواعد التي تتمركز فيها القوات الروسية والخبراء الروس في حلب وتدمر وريف حماة ودير الزور، والتي لن تتعدى حد التصريحات والمماطلة في الخروج لحين انتهاء الانتخابات وبعدها يكون القرار عاد لبوتين في حال فوزه على منافسيه، ولكن هل تنفع هذه التصريحات بوتين وتنقذه من المستنقع السوري الذي ورط نفسه وقواته فيه.
كانت روسيا طوال عامين ونيف من العدوان على الشعب السوري شريكاً حقيقياً للأسد ونظامه في قتل الشعب السوري في 30 أيلول عام 2015، جربت عشرات الأنواع من الصواريخ والطائرات بشكل عملي في قتل المدنيين العزل، وتدمير البنى التحتية، بصواريخ متنوعة منها خارقة للتحصينات والارتجاجية، تشهد مدينة حلب وعشرات المدن والقرى السورية على هذا التدمير الممنهج الذي مورس لأكثر من عامين ولايزال.
أكثر من 5233 مدنياً، بينهم 1417 طفلاً، و868 سيدة خلفتها الغارات الروسية خلال عامين من التدخل، وارتكبت 251 مجزرة، كما سجَّل بحقها 707 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، منها 109 على مساجد، و143 على مراكز تربوية، و119 على منشآت طبية، كما استخدمت الذخائر العنقودية ما لا يقل عن 212 مرة، و الذخائر الحارقة ما لا يقل عن 105 مرة معظمها في محافظة حلب، كما قتلت 47 شخصاً من الكوادر الطبية، بينهم 8 سيدات، إضافة إلى 24 شخصاً من كوادر الدفاع المدني، و16 من الكوادر الإعلامية، كما تسببت في تعرُّض ما لايقل عن 2.3 مليون شخص للنزوح هرباً من عمليات القصف والتدمير، بحسب "الشبكة السورية" فهل يخرج بوتين من سوريا وينشق عن الأسد ...!؟
يتكرر قرار الانسحاب الروسي من سوريا، للمرة الثانية خلال العامين والربع الفائتين، لكن بمشهد مختلف بشكل تماماً، بعد أن تربعت روسيا على عرش المشهد السوري وباتت صاحبة القرار النهائي بالحرب الدائرة في سوريا.
بين 15-3 العام الفائت و 11-12 هذا العام، اختلفت مساحات السيطرة وتضاعفت ثلاث مرات، وبات الوضع تحت السيطرة بشكل شبه الكاملة وغياب المنافس على الأرض، بعد سلسلة التسويات الداخلية و قائمة الاتفاقات الثنائية والثلاثية والتي كانت روسيا في جميعها المحور المركزي فيها ابتداء من الجنوبي فمحيط دمشق وصولاً إلى إدلب.
إعلان بوتين اليوم سحب قواته الرئيسية من سوريا، هو جزء من الخطة التي من الممكن أن توصل المركب إلى حيث رسمت روسيا، وهي بحاجة لهذا التصرف لتظهر بمظهر الملتزم بالاتفاقات و الوفاء بالوعود، لاسيما مع حلفاء مضاربين كتركيا وايران، هذا المظهر يتطلب الغياب عن المشهد وترك المختلفين لتصفية الحسابات على الأرض.
وبالعودة إلى قرار "بوتين" اليوم، فإن ربطه بالقرار السابق، يدفعنا لاستذكار "حلب" التي خسرناها حينها، واليوم تقف إدلب في ذات المكان، فروسيا ملتزمة باتفاقاتها مع تركيا بحماية إدلب، وبنفس الوقت وعدت إيران بنصيب وافر هناك، فقرار الانسحاب يخلص روسيا من الالتزام اتجاه الطرفين "تركيا- ايران"، وأي تصرف يصدر عن أي منهما لن يراجعوا به روسيا، أو يحتكموا إليها.
إدلب في نظر الإيرانيين هدف مستساغ ومباح، وفق تصريح مستشار خامنئي "علي أكبر ولايتي" الذي توعد إدلب، سبقها زيارة مريبة لرئيس الأركان الايراني إلى الحدود الإدارية لإدلب، وآخر التمهيدات كان اليوم مع حديث قائد لواء "القبعات الخضر" في الجيش الايراني - (قوات خاصة التي سبق وأن خاضت تجربة فاشلة في ريف حلب الجنوبي فيما عرف حينها بـ"مقتلة خلِصة") - عن نية الأعداء مواجهة ايران، في إشارة لسوريا.
أما تركيا التي لانية لها أن تكون وجهة لما لا يقل عن مليوني لاجئ جديد في حال تعرض إدلب ومحيطها لهجمات.
قد يكون الإنسحاب اليوم هو لإتاحة المجال لرسم المشهد النهائي مع إنتهاء آخر المعارك في إدلب.
يتداول بعض أطياف المعارضة ووسائل الإعلام اسم فاروق الشرع، النائب السابق لرئيس النظام السوري، كرئيس لمؤتمر سوتشي، المزمع عقده في شباط (فبراير) المقبل برعاية روسية، بعد توافقات تركية وإيرانية. ويأتي هذا التداول المبكّر في سياق حملة ترويجية للمؤتمر، على رغم عدم وجود ما يؤكد موافقة صاحب العلاقة أو رفضه، وهو الذي كان اختار الصمت مبتعداً عن أروقة العمل السياسي، كحال كل المبعدين من القيادات السابقة في سورية، سواء أولئك العاملين ضمن منظومة قيادة حزب البعث الحاكم، أوحتى في مجالات العمل التنفيذي، الذي لا يفصله عن العمل الحزبي سوى خيط وهمي غير مرئي لكثير من السوريين.
ترشيح الشرع أتى من كل من المعارضين خالد محاميد نائب رئيس وفد المعارضة حالياً، وهيثم مناع رئيس تيار «قمح» (الرئيس المشترك السابق لـ «مجلس سورية الديموقراطية»، التحالف العربي- الكردي)، خلال اجتماع ضمهما مع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف ومبعوث وزير الخارجية الروسي للتسوية في الشرق الأوسط سيرغي فيرشينين منتصف الشهر الماضي في موسكو، في محاولة منهما لطرح اسم شخصية تمكن المراهنة أو الإجماع عليها خلال المرحلة الانتقالية، بعد تعذّر قدرة المعارضة على فرز شخصية منها تجمع عليها كل أطيافها، وفي الوقت ذاته يمكنها أن تكون إحدى شخصيات النظام، التي لم تنغمس في الحرب المعلنة على الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي انطلقت من درعا، المدينة التي ينحدر منها الشرع، في آذار (مارس) 2011.
بيد أن المراهنة على صمت النظام ورئيسه حيال هذه التسريبات والأخبار المتداولة يعيدنا إلى البحث في الأسباب التي أدت فعلياً إلى إزاحة الشرع من منصبه، رغم ما كان يتميز به من مكانة لدى نظام الأسد (الأب والابن)، حيث بدأت أوساط النظام تتساءل عن موقفه الحقيقي من الثورة بعد اللقاء التشاوري الذي ترأسه في فندق «صحارى» (قرب دمشق)، في 10 تموز (يوليو) 2011، وأعلن خلاله أن سورية مستعدة للانتقال إلى دولة تعددية ديموقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة، وبالمشاركة في صياغة مستقبل سورية، وجهر آنذاك بالموافقة على مقترحات بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري، التي تلغي حكم البعث لسورية، وهو الأمر الذي بدّد على ما يبدو مكانته لدى النظام لأنها جاءت إعلانا مسبقاً وضع النظام وقتها، في حرج ولم يعد أمامه إلا التعامل مع هذا الوعد، ما قاده إلى إعداد دستور جديد (2012) ألغى من خلاله هذه المادة، ولو نظرياً، لكنه في المقابل كبّل السوريين بمواصفات رئاسية تتطابق على شخص رئيسه، بحيث تعيد له من جديد حق الترشح لمرتين متتاليتين بدءاً من عام 2014، وهو ما بات يدافع عنه النظام بإصرار، كما شهدنا خلال الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدعم من حليفتيه روسيا وإيران.
وعلى رغم عدم تعاطي النظام إعلامياً مع مؤتمر سوتشي، الذي تتبناه روسيا، ومع ما يحيط به من شائعات، ومنها رئاسة الشرع له، إلا أن وفد النظام استخدمه ضمنياً كفزاعة في وجه المعارضة، التي بدأ يملي عليها شروطه، التي وصلت إلى حد مطالبته لها بسحب بيان الرياض2 من التداول، معتبراً أن ما جاء في هذا البيان حول مصير الأسد «شرط مسبق ومرفوض»، في الوقت الذي تجتهد فيه المعارضة للحفاظ على شعرة معاوية لإبقاء العملية التفاوضية قائمة في جنيف خوفاً من أن يصبح سوتشي ممراً إجبارياً للتفاوض مع النظام.
يستنتج من ذلك أن نظام الأسد يريد أن تأتي صياغة وثائق المعارضة بحسب المقاس الذي يناسب خطته لمجرد الحوار، وليس للتفاوض، وأن خياراته لا زالت مفتوحة، بسبب الدعم اللامحدود من حلفائه الذين يزدادون مرحلة إثر مرحلة، بانتقال الصراع على الملفات، من ملف الصراع السياسي بين المعارضة والنظام إلى ملف المصالح الإقليمية لدول الجوار، ومن تحالف أصدقاء الشعب السوري إلى عداواتهم البينية، واللعب على خلافاتهم لمصلحة انتزاع أدوارهم، ومن التكامل لمصلحة القضية السورية إلى التنافس عليها وتبديد عنصر قوتها.
على ذلك فإن محاولات التعطيل التي يقوم بها وفد النظام في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدفعها إلى مواضيع جانبية بعيداً عن متطلبات عملية التفاوض الحقيقية، وعن البحث في متطلبات الانتقال السياسي وأدواته، التي تنظم هذه العملية وتأخذها نحو الغايات المرجوة منها، تأتي ضمن خطة واضحة لكسب مزيد من الوقت، ينهي خلالها النظام عملياته العسكرية على الأرض، وخاصة في الغوطة الشرقية، لإعادتها تحت سيطرته، وإعلان خريطة جديدة لمنافذه الحدودية بعد تفاهمات روسية وكردية جديدة في شرق سورية. أي أن النظام يتعامل على الأرض مع خطة بديلة، تلتف على المفاوضات وتجعلها من دون معنى، وهي خطة يتوخى أن تقود ختاماً إلى إعادة معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته (ومنها دير الزور التي أعلنت قوات سورية الديموقراطية تبعيتها لها) إلى سيطرته لاحقاً ضمن اتفاقيات منفردة بعيداً عما يجري في جنيف الآن.
هكذا، فإن الحديث عن مشاركة كردية واسعة في مؤتمر سوتشي، مثلاً، رغم الاعتراض التركي عليها، لا يزال ممكناً، مقابل أن تحصل تركيا على ضمانات روسية بأن تكون هذه المشاركة لإعلان شكل الدولة السورية الجديدة، التي تنهي حلم الحكم الذاتي للأكراد، بينما تمنحهم في ذات الوقت مشاركة سياسية مضمونة دستورياً، وتهيئ لحكم لامركزي مفتوح الخيارات لاحقاً.
في مقابل كل ذلك تجد المعارضة نفسها أمام أكثر من تهديد بتصدّع موقفها، وذلك: أولاً، نتيجة إعلان توحيد صفوفها (غير المتكامل بعد)، والذي لم يأخذ وقته ليتحول إلى شراكة سياسية حقيقية تدافع عن وجودها بمزيد من التوافقات والتفاهمات، بدل التلويح بتفاوت المواقف تجاه قضايا رئيسية، مما يجعل من مؤتمر سوتشي كعصا الراعي بيد بعضهم، ضد بعض آخر، حيث لا تفيد هذه العصا في وقت تعم فيه الفوضى، وهي في الوقت ذاته لا بد منها لتجميع المخاوف في مكان واتجاه واحد. ثانياً، بسبب موجة الغضب الشعبي الذي يواجهها الوفد التفاوضي، المشكّل من مجموع تلك القوى، والتي يعتبرها معارضو الوفد قوى متفاوتة في مطالب الثورة وسقوفها، وهو ما يزيد من مخاوف انخراط المعارضة في قبول مؤتمر سوتشي، كأحد الحلول لمواجهة تصدّع الوفد المعارض وانهيار مشروعه المشترك. ثالثاً، بسبب التغيرات السريعة والمتلاحقة في مواقع الدول وتحالفاتها بعضها مع بعض، وبينها وبين النظام الذي يتغير موقعه من عدو إلى حليف أو شريك لحليف في مكان آخر.
اعتراض النظام على وثيقة المعارضة، وعرقلة ما يسعى إليه الوسيط الدولي بإحداث خرق في حائط مسدود على مدار خمس سنوات من بدء العملية التفاوضية، وتحويلها من مشاورات مع الأمم المتحدة إلى مفاوضات مباشرة بين خصمين في قاعة نزال سياسية، هو أيضاً، من وجهة نظر النظام، بمثابة «مفاوضات»، يحصد نتائجها جولة إثر الأخرى، ويعيد الصراع بينه وبين المعارضة إلى ما قبل الثورة، وليس إلى مربعها الأول، وهو صراع بين سلطة مستبدة تمتلك عوامل بقائها، ومعارضة منزوعة القوة والأسباب لا يترك لها سوى سوتشي بالرعاية الروسية، كمآل أخير لبعض إصلاحات وبعض سلطة في ظل هيمنة الأسد وبقاء نظامه، سواء قبل بإعطاء دور للشرع، أو لم يقبل.