مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ ديسمبر ٢٠١٧
هل يمكن التفاوض مع النظام السوري بلا مرجعية؟

مثّل المعارضة السورية في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف وفد تفاوضي جديد، بعد أن غيّر المجتمعون في مؤتمر الرياض 2 "الهيئة العليا للمفاوضات" والوفد التفاوضي الذي شكلته، من دون أن تقدم الهيئة الجديدة المنبثقة عنه أي توضيحات للسوريين، في الداخل أو في بلدان المهجر، بشأن حيثيات هذا التغيير وأسبابه، والذي يبدو أنه جاء استجابة لضغوط إقليمية ودولية، قدمت على شاكلة "نصائح" و"إرشادات"، تفيد بضرورة الامتثال لـ "الواقعية السياسية" التي تقضي الأخذ بالحسبان جملة المتغيرات على الأرض السورية، بعد التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام ومليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية، وتغير مواقف دول ما كانت تسمى "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" أو "أصدقاء سورية"، التي انزاحت استجابةً لمصالحها إلى مسعى النظام الروسي الهادف إلى القبول بنظام الأسد، أقله في المرحلة الانتقالية، والدخول معه في تسوية، يحضر لها الساسة الروس من خلال اجتراح مسارات تسويةٍ في كل من أستانة وسوتشي، تهدف إلى إعادة الشرعية لنظام الأسد المجرم، وتطويع المعارضة السورية، وتمييع مواقفها، كي تقبل بحوار معه على جملة إصلاحات دستورية وانتخابات في ظل استمراره في نهج القتل والتدمير الذي اتبعه منذ بداية الثورة السورية.

اللافت في كل ما جرى في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف أن الوفد التفاوضي للمعارضة السورية لا يمتلك مرجعية واحدة ومحدّدة، يعود إليها لاتخاذ المواقف ومراجعتها وتقييم الأداء، أو تقويم الإعوجاج إن حصل، والسبب أن وفد التفاوض تشكل من أعضاء هيئة المفاوضات أنفسهم، ورئيس الهيئة هو نفسه رئيس الوفد، وبالتالي بات التفاوض بلا رأس أو مرجعية. وعند النظر في أي مسألة تفاوضية يؤخذ بالحسبان التفاهم ما بين المنصات مراعاة للتوازنات القلقة فيما بينها، واختلافات الرؤى والتوجهات التي تختلف باختلاف أجندات الدول التي تحتضن المنصات وأصحابها، فمنصة موسكو معروف مرجعيتها التي لا تحيد عما يخطط له ساسة النظام الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني، الذي يدافع عن نظام الأسد المجرم بكل إمكاناته العسكرية والسياسية وسواهما، ويعتبره الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، ولا يعترف بمطالب السوريين وتطلعاتهم، ولا بالثورة السورية، ويريد إيجاد حلّ يعيد تأهيل النظام الأسدي. كما أن منصة القاهرة أيضاً معروفة مرجعيتها ومواقفها التي لا تبتعد كثيراً عن مواقف النظام المصري، أما مرجعية "هيئة التنسيق" التي تضع قدماً في ملعب النظام وأخرى في ملعب المعارضة، فهي معروفة كذلك، ويحدّدها الدعم الذي تتلقاه من موسكو وحمايتها لها. ويبقى الإشكال في مواقف ممثلي الائتلاف السوري المعارض، والتي تختلف باختلاف الكتلة التي يمثلونها دخل الائتلاف نفسه، ولا تبتعد عن مواقف مسؤولي الملف السوري في تركيا ودول الخليج والدول الغربية.

ولا شك في أن تشكيل وفد تفاوضي للمعارضة، لا يمتلك مرجعية موحدة، جاء استجابة لمطالب موسكو التي تسعى إلى تمييع المعارضة السورية وتطويعها، كي تستجيب لمخططاتها ومساعيها، ولم تكتفِ بإدخال أعضاء من منصتها ضمن هيئة التفاوض ووفدها، بل تسعى أيضاً إلى ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، ومنصتي حميميم وأستانة ومجموعات أخرى، بحجة أن القرار الأممي 2254 طالب بتمثيل واسع لأطياف المعارضة، في حين أن ساسة موسكو لا يقرّون بأن القرار نفسه اعتبر الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1 الأساس في مسار جنيف التفاوضي، وهم لم يأخذوا من هذا القرار سوى جزئية صغيرة فيه، في حين أن القرار نفسه يؤكد على أن هدف العملية السياسية هو التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30 يونيو/ حزيران 2012، الهادف إلى "إنشاء هيئة حكم انتقالي جامعة تخوّل سلطات تنفيذية كاملة"، ويطلب "الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي"، إضافة إلى أنه يحدّد مرحلتين، تفاوضية محددة بستة أشهر تنتهي بتشكيل حكم ذي مصداقية، وانتقالية محددة بثمانية عشر شهراً تنتهي بكتابة دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة".

وقد حاول الساسة الروس إفراغ كل القرارات الأممية الخاصة بالمسألة السورية من مضمونها، وساعدهم بذلك الممثل الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، الذي راح يوزع قضايا التفاوض إلى سلال، وضع فيها ما يشاء في خلطة عجيبة، وركز على تشكيل المعارضة وفداً واحداً، وساعده في ذلك معارضون سوريون، وذلك بقبولهم السلال الأربع، والدخول ضمن وفد واحد في جلسة افتتاج الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، وهو أمر أفضى إلى دمج المنصات في هيئة واحدة ووفد واحد، وليس موحدا، في مؤتمر الرياض 2، وباتت جلسات التشاور، وليس التفاوض، مع المبعوث الأممي تجري بلا رأس ولا مرجعية، لأن الأمر قام على أساس المحاصصة بين المنصات والعسكريين والمستقلين، وليس على أساس توحيد المواقف والرؤى وتجييرها خدمة للشعب السوري، والوقوف في وجه نظام الأسد.

ويعود ذلك كله إلى حيثيات مؤتمر الرياض2 ومجرياته، حيث إنه لم يتم تحديد مرجعية للهيئة الجديدة ووفدها، واستدرك بعضهم بالقول إن البيان الختامي هو المرجعية، وهو أمر غير صحيح، لأن ممثل منصة موسكو اعتبر، في المؤتمر الصحافي الختامي للمؤتمر، أن الوفد المشكل واحد وليس موحداً، وسجل تحفظ منصته على الفقرة المتعلقة بتأكيد المجتمعين" رفضهم التدخلات الإقليمية والدولية، وخاصة الدور الإيراني في زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وإحداث تغييرات ديمغرافية فيها، ونشر الإرهاب بما في ذلك إرهاب الدولة ومليشياتها الأجنبية والطائفية"، والأهم هو رفضه الفقرة المتعلقة برحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، مع أن البيان أفرغ هذه الفقرة من محتواها، حين أكد "أن المفاوضات المباشرة غير المشروطة تعني أن كافة المواضيع تُطرح وتناقش على طاولة المفاوضات، ولا يحق لأي طرفٍ أن يضع شروطاً مسبقة، ولا تعتبر المطالبة بتنفيذ ما ورد في القرارات الدولية شروطاً مسبقة، أو يمنع طرح ومناقشة جميع المواضيع، بما فيها شكل الحكم ونظامه وصلاحيات سلطاته ومسؤوليه، بما فيها موقع رئاسة الجمهورية، والحكومة وغيرها"، أي أنه جعل منصب رئاسة الجمهورية مسألة تفاوضية، وبالتالي حوّل رحيل الأسد إلى مجرد وجهة نظر.

واللافت أن عدم امتلاك الوفد التفاوضي للمعارضة السورية مرجعية محدّدة، يأتي في وقتٍ لا تبدو في الأفق أي إمكانية للتفاوض حول التغيير السياسي المطلوب، من خلال حصر التفاوض حول نقطتين فقط، إصلاحات دستورية وانتخابات، وهذا يعني نسف عملية الانتقال السياسي، أو بالأحرى جعلها محصورة عبر الإصلاحات الدستور والانتخابات، وليس الدخول في مرحلة انتقالية وتشكيل هيئة حكم، وهو أمر مرفوض من غالبية السوريين، وخصوصاً من قوى الحراك السوري الثوري، كونه لا يلبي طموحاتها وأهدافها، بل يلبي رغبة الطرف الروسي الذي يحضر لمؤتمر شوتسي لما يسمى "الحوار الوطني السوري"، والذي أعلنت منصتا موسكو والقاهرة المشاركة فيه، وستشارك فيه أيضاً هيئة التنسيق. وبالتالي ما الموقف الذي ستتخذه هيئة التفاوض الجديدة من هذا المؤتمر الذي يريد تمرير ما يخطط له ساسة الكرملين؟ وهل ستحضر الهيئة المؤتمر أم سترفضه كما رفضته الهيئة العليا للمفاوضات؟ وما موقف الهيئة الجديدة من مشاركة منصاتها فيه؟.

اقرأ المزيد
١٥ ديسمبر ٢٠١٧
الحل السوري في موسكو لا جنيف

كما جولات التفاوض غير المباشرة السابقة بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، فإن محادثات جنيف 8 لا تبدو مختلفة عن سابقاتها التي ظهر فيها أن الثابت الوحيد هو استمرار بشار الجعفري ممثلاً للنظام، على الرغم من التغيّر الكبير في وفد المعارضة الذي خضع لضغوط وتعديلات أدت، أخيرا، إلى تمثيل كل المنصات، بما في ذلك منصة موسكو، وهو الأمر الذي كان يفضي إلى خروجها بلا نتائج.

ما يبرر به وفد النظام موقفه المعيق أن وفد المعارضة جاء بشروط مسبقة، وردت في بيان الرياض 2، وهو هنا يشير إلى الفقرة التي تؤكد على رحيل بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. وكانت منصة موسكو قد وثقت الاعتراض نفسه، الأمر الذي جعلها تشارك مراقبا في اجتماع المعارضة في الرياض، على الرغم من أنها شاركت في وفد المعارضة، بعد تبرير ذلك بالقول إن تأكيد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، على أنه لا شروط مسبقة في جولة التفاوض هذه يعني شطب الفقرة من بيان الرياض2، ولا شك في أن ذلك تبرير سطحي، لكنه دعّم موقف وفد النظام الذي انسحب اعتماداً على هذه المسألة.

منصة موسكو كما وفد النظام يؤكدان على الانطلاق فقط من القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، ويرفض وفد النظام أي تطرُّقٍ لمسألة الرئاسة. لكن القرار الأممي يستند إلى بيان جنيف1، وإلى قرارات أخرى استندت بدورها إلى هذا البيان. بمعنى أن بيان جنيف1 ما زال أساس التفاوض، وأن كل القرارات الأخرى جاءت لاستكمال الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق ما ورد فيه. وإذا كان لم يرد ذكر في البيان لـ "مقام الرئاسة" فقد ورد فيه، وبشكل واضح، تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ما يعني أن هيئة حكم تتشكل عبر التفاوض هي التي ستقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وليس بشار الأسد. وهيئة حكم لا تعني حكومة، وهي تتشكل للقطع مع النظام القائم، والتهيئة لتشكيل نظام جديد متوافق عليه بين أطراف متصارعة، وتتشكل من هذه الأطراف بتوافق بينها. وفي هذه الحالة، ينتهي دور الرئيس الحالي، فيسلّم سلطاته لهذه الهيئة، ما دام هو الذي يمتلك كل الصلاحيات التنفيذية، حسب الدستور المقرّر سنة 1973، والذي جرى تعديله سنة 2012 عبر "استفتاء" لم يشارك فيه أكثر من 10% ممن يحق لهم التصويت. وفي هذه الحالة، تحكم هيئة الحكم وفق أحكام دستورية، يجري التوافق عليها، تخصّ المرحلة الانتقالية.

يعني ذلك كله أن جوهر عملية التفاوض هو "هيئة الحكم"، وغير ذلك هو تفاصيل تكميلية لتنفيذها مهامها. ولا شك في أن نص بيان جنيف1، والقرار الأممي 2254 وغيرها من القرارات ذات الصلة تشمل خطوات عملية عديدة تحظى بموافقة دولية، ومن وفد المعارضة من دون أن تلقى موافقة النظام، كما بيان جنيف1 الذي يرفضه بتاتاً. بهذا ليس مستغربا أن تفشل كل جلسات التفاوض، فالنظام يريد وفداً من المعارضة، يقبل المشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، وهو لا يعتقد أن صراعاً كبيراً نشأ في سورية يفرض الوصول إلى "حل وسط"، بل يرى أن "مجموعات إرهابية" ودولا إقليمية "افتعلت" مشكلة في سورية ضده، وأن الوضع بات يقتضي أن تتراجع هذه القوى والدول عن تدخلاتها و"حربها"، على أن تُقبل ضمن حكومة يشكّلها هو. بمعنى أنه يريد إنهاء الصراع بدمج المعارضة في بنية السلطة فقط.

هذا يعني اختلافا كبيراً في النظر لما جرى ويجري، وأن تناقضاً يقوم بين الأطراف المتفاوضة حول ذلك. فالتفاوض يجري بين طرفين على ضوء "حربٍ أهلية"، أو تمرّد أو ثورة، حين تكون هناك حاجة إلى حل وسط، حيث يقدم كل طرف تنازلات لمصلحة الطرف الآخر من أجل أن يتحقق الحل، أو يستمر الصراع إلى أن يُحسم بطريقة ما. ولا شك في أن ما جرى في سورية ثورة طرحت إسقاط النظام من دون أن تستطيع (إلى الآن) تحقيق ذلك. وحيث دخل الصراع في استعصاء (أشار إليه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع منذ نهاية سنة 2012)، وجرت تدخلات متعدّدة ليتحوّل الصراع إقليميا دوليا، فإن هدف التفاوض هو إنهاء الصراع، بما يحقق بعضاً من مطالب الثورة التي تطرحها المعارضة، والتي باتت تتحدَّد في إزاحة بشار الأسد، على الرغم أن ذلك لا يحلّ المشكلات التي صنعت الثورة، من دون أن يعني ذلك "إسقاط النظام"، حيث ستبقى بنية الدولة (مع تعديل شكلي في أجهزتها الأمنية)، وبالتالي لم يعد التفاوض يتعلق بإسقاط النظام، بل بإزاحة الرئيس وتعديلات في بنية الدولة.

وكان صاحب هذه السطور قد أشار إلى رواية النظام التي تقوم على اعتبار ما جرى من عمل مجموعات إرهابية، ومؤامرة، وتدخل إقليمي. وهو هنا لا يضع شرعيته محلّ تساؤل، بل ينطلق من أن هناك اعتداء عليه، وأن "بعضاً من السوريين" (وهم ملايين كما أشار بشار الأسد مرة) قد مارس الإرهاب. وهذا منظور يقرُّ أصلاً بشرعية ما للمعارضة التي يتفاوض معها، ولا يعترف بأنها تطرح مطالب، بل يريدها أن تذعن لسيطرته من جديد، فهو ينظر إليها باعتبارها متمردين يمكن العفو عنهم شرط قبولهم الحل الذي يطرحه، وهو هنا المشاركة في "حكومة وحدة وطنية" فقط، ربما مع تعديلات شكلية في الدستور والصلاحيات.

لهذا، فإن أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ "تقطيع الوقت" تحت مسمى التفاوض. ولا شك في أن الدعم الروسي للنظام هو الذي يؤسس لهذا المأزق، لأن روسيا التي تضغط من أجل تغيير مطالب المعارضة، وفرض قبولها بمنظور النظام، لا تفرض على النظام سوى التصرّف كما يريد، على الرغم من أنها باتت صاحبة القرار. وهذا يؤشر إلى ما تريد روسيا التي تسعى إلى فرض تصورها المطابق لتصور النظام، ولهذا فتحت مسار أستانة، وها هي تفتح مسار سوتشي، وتريد في الأخير ترويض المعارضة، أو بعض أطرافها، أو فرْض معارضة مزيفة تقبل باستمرار وجود رئيس النظام عبر إشراكها في وفد المعارضة، لكي تصبح هي المعارضة بعدئذ.

إذن، الخلاف الذي يعقد التفاوض ليس على تفاصيل، بل هو خلاف على أسس فهم طبيعة الصراع، الأمر الذي يفرض أن يسعى "الأقوى" (وهو الآن روسيا) إلى فرض شروطه وصيغته. ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو المنظور الأميركي الذي ما زال لا يسعى إلى نهاية للصراع في سورية، فلا يضغط على روسيا للتوصل إلى حل مشترك. وما يهم أميركا أكثر هو وجود أدوات إيران في سورية، وربما ليس من خلاف هنا بين الطرفين. بالتالي، لا بد من مراقبة المسار الروسي، على الرغم من تصريح أميركا ودول أخرى أن جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية. ربما فقط أن الإجهاد الروسي هو الذي سيفرض حلاً يبدأ من "هيئة حكم انتقالية"، فهذا الأمر وحده يمكن أن يهدئ من الصراع، ويسمح بـ "لملمة" الوضع. العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية.

اقرأ المزيد
١٥ ديسمبر ٢٠١٧
من صنعاء... إلى جنوب لبنان

لا يمكن فصل اغتيال علي عبدالله صالح بالطريقة التي اغتيل بها عن الهجمة الإيرانية في المنطقة. هناك محاولة واضحة لتأكيد أن صنعاء مدينة تحت السيطرة الإيرانية وأن ما حصل يوم الواحد والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2014، عندما اجتاح الحوثيون (أنصار الله) العاصمة اليمنية، ليس مجرّد حدث عابر. الرسالة، التي اسمها رسالة صنعاء، واضحة كلّ الوضوح. إيران موجودة في العاصمة اليمنية كي تبقى فيها إلى الأبد حتّى لو كان معنى ذلك في المدى المنظور تحويل المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى قطاع غزة آخر.

لماذا الإصرار على اغتيال الرئيس اليمني السابق في بيته بالطريقة التي حصلت، في حين أنه كان معروفا تماما أنّه لا يمتلك أي مصدر قوّة باستثناء حراسه الشخصيين؟

المطلوب بثّ الرعب في صنعاء وفي كل أنحاء اليمن. المطلوب ترويع اليمنيين والقول لكل يمني إن مصير من يتجرأ على “أنصار الله”… هو مصير علي عبدالله صالح الذي أُسر اثنان من أبنائه هما صلاح ومدين وابن شقيقه محمد محمّد عبدالله صالح وآخرون من القريبين منه. لم يكتف الحوثيون بقتل علي عبدالله صالح. لجأوا قبل ذلك إلى تعذيبه مدة ساعة ونصف ساعة قطعوا خلالها أحد أصابعه قبل أن يصدر أمر من عبدالملك الحوثي بتصفيته. بعد ذلك، غيّر عبدالملك الحوثي الجنبية التي يرتديها. وضع مكانها جنبية أخرى هي التي ورثها أخوه حسين بدرالدين الحوثي عن والده. أراد أن يقول أنه أخذ أخيرا بثأره من علي عبدالله صالح…

رسالة صنعاء واضحة كل الوضوح. إيران موجودة في العاصمة اليمنية كي تبقى فيها إلى الأبد حتى لو كان معنى ذلك في المدى المنظور تحويل المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى قطاع غزة آخر

كان كافيا أن يتجرّأ الرئيس اليمني السابق على إيران وعلى الحوثيين، الذين هم أحد ارتكاباته منتصف تسعينات القرن الماضي، كي يلقى المصير الذي لقيه مع أولئك الذين ينتمون إلى محيطه المباشر. ليس صحيحا أنه كان يريد الانقضاض على الحوثيين حتّى لو أعلن ذلك. كان يعرف تماما أنّه ليس في استطاعته الطلب من “قبائل الطوق” التي تتحكّم بمداخل صنعاء دعمه في وجه “أنصار الله”. عندما يتعلّق الأمر بموازين القوى، كانت هذه الموازين مختلّة كلّيا لمصلحة الحوثيين، الذين استفادوا من إعادة هيكلة القوات المسلّحة اليمنية التي قام بها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي في العام 2012، فور تولّيه الرئاسة خلفا لعلي عبدالله صالح الذي غادر الرئاسة تلبية للمبادرة الخليجية. من دون قوات عسكرية ومن دون قبائل مساندة له، كان مصير علي عبدالله صالح معروفا، بل معروفا أكثر من اللزوم.

هناك منذ بضعة أسابيع عملية تجميع أوراق تقوم بها إيران وذلك منذ بدر عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما يوحي بأنّها تستوعب تماما، من الناحية النظرية فقط، أخطار المشروع التوسّعي الذي تقف خلفه طهران.

ليس سرّا أن إيران متورطة في كلّ حروب المنطقة، وفي كلّ ما من شأنه إثارة النعرات المذهبية والطائفية من المحيط إلى الخليج. من الواضح أن إيران تمتحن الإدارة الأميركية في غير مكان في وقت وضع دونالد ترامب نفسه في خدمتها عندما اتخذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، متجاهلا أن ذلك يقضي نهائيا على خيار الدولتين ويعزّز وجهة نظر المتطرفين، على رأسهم إيران من جهة أخرى. ما فعله ترامب كان أحسن هدية لإيران التي تتحيّن كل الفرص كي تتابع المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم وبالقدس تحديدا.

في عالم يسود فيه منطق اللامنطق، كان اغتيال علي عبدالله صالح رسالة إيرانية. كان في استطاعة الحوثيين الاكتفاء بمحاصرته في بيته. لم يكن ذلك ليغيّر شيئا في موازين القوى داخل العاصمة اليمنية ومحيطها، خصوصا أن “قبائل الطوق” انضمت إلى “أنصار الله”، وأن كلّ المعسكرات داخل صنعاء ومحيطها صارت خاضعة لهم.

فضلا عن ذلك، لم يعد هناك شيء اسمه الحرس الجمهوري. قادة الحرس إما قتلوا أو ذهبوا إلى بيوتهم وإمّا انضمّوا إلى الحوثيين. فعل الشيء ذاته عدد من كبار الضباط الذين ينتمون إلى سنحان والذين اكتشفوا أخيرا أن لديهم حسابات يريدون تصفيتها مع ابن منطقتهم!

يظل السؤال لماذا يريد الحوثيون إظهار كل هذه الشراسة في الوقت الحاضر؟ الجواب بكل بساطة أن إيران مهتمّة بالقول للأميركيين إنها اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط. وأن لا أحد يستطيع إخراجها لا من سوريا ولا من العراق ولا من لبنان ولا من اليمن. لو لم يكن الأمر كذلك، لما استحضر “حزب الله” أحد قادة “الحشد الشعبي” في العراق ويدعى قيس الخزعلي إلى جنوب لبنان. ما معنى هذه الزيارة ذات الطابع الاستفزازي والكلام الذي صدر عن الخزعلي من أرض الجنوب عن “إقامة دولة صاحب الزمان”؟

المعنى الوحيد للزيارة والإعلان عنها وتصويرها يتمثل في أن إيران تريد القول في لبنان إن الأمر لي وليس للحكومة اللبنانية ولرئيسها سعد الحريري الذي يجتهد لتحييد البلد. لم يكتف سعد الحريري، قبل أيام قليلة، بالسعي إلى وضع الأمور في نصابها داخل الحكومة، بل عمل من خلال مؤتمر باريس على مساعدة لبنان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه تفاديا لكارثة اقتصادية تهدّد البلد، خصوصا القطاعات الحيوية فيه. ما حصل في جنوب لبنان هو تحدّ للحكومة اللبنانية ولجهود سعد الحريري على كلّ المستويات.

جاء الخزعلي لتأكيد أن إيران لا تبالي بالسياسة الأميركية ولا بكلام ترامب. إيران التي أخرجت الأكراد من كركوك، بواسطة ميليشياتها العراقية، هي من أفشل الاستفتاء على الاستقلال الذي أصر عليه مسعود البارزاني. إيران استطاعت بعد ذلك السيطرة على معبر البوكمال على الحدود السورية – العراقية. كان التدخل الإيراني في كركوك إشارة أخرى إلى أن العراق تابع لإيران، وأن “الحشد الشعبي” هو اللاعب الأساسي في هذا البلد، وأن الرهان على حيدر العبادي لا يمكن أن يكون أكثر من رهان. أما السيطرة على البوكمال فهي تكريس لربط طهران ببيروت عن طريق بغداد ودمشق.

في المقابل، تكتفي الإدارة الأميركية التي تخلت عن المعارضة السورية منذ زمن على لعب دور المتفرّج. لم يعد من معنى للوجود العسكري الأميركي في سوريا ما دام البوكمال في يد إيران.

إلى أي حدّ ستذهب إيران في تحديها للإدارة الأميركية؟ تصعب الإجابة عن السؤال. لكن الثابت أن هناك ترابطا بين دور “الحشد الشعبي” في كركوك وفي محاصرة إقليم كردستان في العراق، وبين السيطرة على البوكمال وبين زيارة قيس الخزعلي لجنوب لبنان وبين رسالة صنعاء.

تتابع إيران سياستها الهجومية على كلّ صعيد وفي غير مكان مستفيدة إلى أبعد حدود من سياسة إدارة ترامب التي ثبت إلى اليوم أنّها تتكلم ولا تفعل وأنّها تسيء إلى حلفائها أكثر بكثير مما تفيدهم.

لو لم يكن الأمر كذلك، كيف تفسير موقف الرئيس الأميركي من القدس في هذا بالتوقيت بالذات وفي هذه الظروف الإقليمية؟

لا تفسير واضحا غير الرغبة في خدمة إسرائيل بشكل مباشر وخدمة إيران بشكل غير مباشر لا أكثر. جاءت رسالة صنعاء واضحة لكل من يعنيه الأمر. في غياب ضربة قوية توجّه إلى الحوثيين (أنصار الله)، سيكون لإيران وجود دائم في اليمن، وستكون صنعاء مدينة إيرانية أخرى… وسيكون العراق وسوريا ولبنان مستعمرات إيرانية ولا شيء آخر غير ذلك!

اقرأ المزيد
١٥ ديسمبر ٢٠١٧
وزير الخارجية والعملاء الإيرانيون الثلاثة

فقط لتذكير أصدقائنا وحلفائنا من الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين وبقية دول العالم المعنيين والمهتمين بأمن دول الخليج كعامل استقرار دولي لا إقليمي فحسب، إن أكبر مهدداتنا ليست هي الصواريخ الباليستية وبرنامجها الإيراني بحد ذاته، إذ حتى ما يأتينا منها لا تطلقه إيران علينا من قم أو من طهران، بل عبر عملائها العرب الثلاثة حزب الله والحوثيين وما يقوم به العميل الثالث وهو الحشد الشعبي فإنه مأوى للإرهابيين البحرينيين وتدريبهم مع حزب الله، هؤلاء الثلاثة ومعهم بعض السريات والكتائب والمليشيات المسلحة هم مهدداتنا الحقيقية الآنية، وأولوياتنا تنصب في وقف تمدد هذه الجيوش وقطع دابرها من المنطقة ومحاصرتها مالياً ومواجهتها عسكرياً، فالصورايخ إن اشترتها إيران وإن طورتها فستبقى في طهران ولن تستخدمها ضدنا، إيران أجبن من أن تواجهنا مباشرة ولا تجازف بأمن الإيرانيين والمدن الإيرانية وهي في هذا الوضع المزري أصلاً اقتصادياً وسياسياً، إنما إيران تستخدم حفنة من الخونة في عالمنا العربي ينطلقون من معتقدات دينية يظنون فيها أن على خامنئي قائد القوات المسلحة الإيرانية هو ظل الله في الأرض وهو مندوب إمامهم الغائب وهو إنسان لكنه معصوم من الخطأ أي أنه ليس من البشر الذين قال عنهم نبينا الكريم «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» والذي قال عنهم نبينا عيسى عليه السلام «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» معتقد المؤمنين بولاية الفقيه الكلية يحول بين المنطق وبينهم؛ لذلك جيوش إيران العربية التي تؤمن بولاية خامنئي عليها ولاية كاملة لا يمكن التفاهم معها بالمنطق والعقل وحين تصنف الولايات المتحدة الأمريكية بعض تلك التنظيمات على أنها إرهابية فخامنئي (المعصوم) يقول لهم ذلك شرف!!

وحين نواجه هذه الجيوش عسكرياً فإنه لا يعنينا ولن ننتظر موافقتكم من أجل التعامل معها كما لن نلتفت إلى المنظمات الدولية المسيسة التي تصدر تقاريرها غير الموضوعية من أجل خدمة أغراض سياسية لدول معينة، ونحن نفرق جيداً بينهم وبين الشيعة العرب الأصليين الإخوة لنا في الدين وفي الأوطان.

صحيح أن دبلوماسيتنا ستعمل على حشد التأييد ولكن إن لم نحصل عليه فلن نقف، بل علينا أن نمضي قدماً في تأمين دولنا من المخاطر الإرهابية التي ترعاها إيران.

في كلمته في حوار المنامة المنعقد منذ يومين في عاصمتنا أشار وزير الخارجية الشيخ أحمد بن أحمد الخليفة إلى ثلاثة عملاء لإيران في المنطقة يجب أن نركز جهودنا لمنعهم من تنفيذ أنشطتهم الإرهابية الخادمة للمصلحة الإيرانية والماسة بأمننا واستقرارنا.

في كلمته خلال الجلسة الأولى من حوار المنامة أمس والتي حملت عنوان «إنشاء هيكل أمني إقليمي مستقر»، تحدث عن العميل الإيراني الأول وهم الحوثيون فقال:

«خانوا الشعب اليمني ويريدون أن يضعوا يدهم على اليمن من خلال تحويله إلى فرع لإيران، مؤكداً أننا لن نقبل بذلك ولا يمكن القبول بذلك، فتحالفنا مصمم على مكافحة الحوثيين وتحرير اليمن وتمهيد الطريق من أجل عودة الاستقرار والأمن إلى كل اليمنيين».

أما عن العميل الثاني وهو حزب الله، فقال إنه « لا يمكننا أن نقف في حين أن منظمة إرهابية خطيرة ومسلحة تدخل إلى بلد بعد الآخر ونحن نستمر في حث أصدقائنا للاعتراف بأن حزب الله هو فعلاً منظمة إرهابية».

أما العميل الإيراني الثالث فهو الحشد الشعبي وفيه قال الشيخ خالد بن أحمد «فيما يخص الحشد الشعبي أكد وزير الخارجية أن آية الله السيستاني قام بإطلاق دعوى وجهها لشعب العراق للوقوف والدفاع عن بلدهم وكان هذا نداء نبيلاً لمكافحة داعش الإرهابية، ولم يكن النداء فقط للشيعة ولكن لكل العراق، ولكن آية الله السيستاني لم يطلب من قاسم سليماني الاهتمام بهذه المسألة ولم يطلب أن يكون هناك انقسام طائفي، مضيفاً أن الحشد الشعبي يأخذ الأوامر من قاسم سليماني وليس من الحكومة العراقية.

ولفت إلى أن هناك حوالي 20% فقط يأخذون الأوامر من الحكومة العراقية، إذاً هذه مسألة لا تتسبب فقط في المشاكل بالنسبة للعراق وإنما أيضاً للمنطقة برمتها والتأثير يصل إلى سوريا، لافتاً إلى أن الحشد الشعبي يتطور ليصبح منظمة إرهابية، وغالبيته يمكن اعتبارها منظمات إرهابية وأن ننظر إليها بكثير من الحذر ولا بد من فرض العقوبات عليها.

هؤلاء من ستتوجه لهم جيوشنا ودبلوماسيتنا معاً، ومصالحنا مع الدول العاجزة عن ردعهم ستكون مرتبطة بقدرتهم على لجمهم وكبح جماحهم وانفلاتهم من الضوابط الأمنية وعدم التزامهم بالحدود السيادية، ولن نجامل بعد اليوم.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٧
ترمب ينهي «عصر التنازلات» مع إيران

اتخذت الإدارة الأميركية في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قراراً بوقف شراء المواد النووية من إيران، بما في ذلك المياه الثقيل المنتج فيها. وهذا القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُعتبر خطوة أخرى تبعث إلى طهران برسالة مفادها أن الرئيس الأميركي لا يميل إلى اعتبار خطة العمل الشاملة المشتركة من الصفقات الناجحة بأكثر من سلفه، وهو أمضى عزماً وتصميماً على ممارسة المزيد من الضغوط على إيران فيما يتعلق بأنشطتها في منطقة الشرق الأوسط.

وكان شراء الماء الثقيل من إيران بين قرارات الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويهدف إلى ضمان التزام طهران مبادئ الاتفاق النووي، الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة من المفاوضين الدوليين عام 2015. وبحلول نهاية عام 2016، باعت طهران إلى الولايات المتحدة 32 طناً من الماء الثقيل، وتلقت في مقابل ذلك 8 ملايين دولار أميركي لهذا الغرض.

ونتيجة لذلك، لم يهدف قرار الرئيس أوباما إلى نقل كميات كبيرة من الماء الثقيل من إيران (وفقاً لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة، لا يمكن لإيران الاحتفاظ بكمية تفوق 130 طناً من الماء الثقيل في مخازنها الاحتياطية)، وكان من تدابير حفظ ماء الوجه للنظام الإيراني (إذ كانت إيران تبيع الماء الثقيل، ولم تكن تتخلى عن هذه المواد للأطراف الأجنبية طواعية كما يطالب المجتمع الدولي)، وإنما يعتبر من الحوافز المالية الأكيدة للقيادة الإيرانية يدفعها إلى الالتزام بالاتفاق المبرم. وبحلول عام 2017 الحالي، عانت إيران من مشكلات اقتصادية كبيرة جاءت نتيجة مركبة للآثار الارتدادية لتنفيذ حزمة العقوبات الدولية المفروضة عليها، ومشكلات هيكلية أخرى تتعلق باقتصاد البلاد.

ووفق تقييم بعض المحللين الإيرانيين، في عام 2017، عانت البلاد من تباطؤ كبير في النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي (من 12.5 في المائة في عام 2016 إلى 3.3 في المائة في العام الحالي) حيث ارتفع معدل التضخم من 8.9 في المائة في عام 2016 إلى 11.2 في المائة في العام الحالي (ما أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار بلغ 10 نقاط مئوية كاملة) مع ارتفاع معدلات البطالة من 11 في المائة إلى 12.4 في المائة عن الفترة نفسها. ويُعتَبر نقص تمويل المشاريع الهادفة إلى تنشيط الاقتصاد الإيراني من أبرز المشكلات الرئيسية التي تواجهها طهران.

وفي ظل هذه الظروف، كان مبلغ 8 ملايين دولار التي تتلقاها طهران من واشنطن، مقابل مبيعات الماء الثقيل، من المبالغ القليلة، ولكنه من الحاجات المهمة للاقتصاد الإيراني وإشارة إيجابية للمجتمع الدولي بأنه يمكنه زيادة مستوى التعاون التجاري والاستثمار مع طهران.

وكان من المفترض لقرار الرئيس ترمب وقف مشتريات الماء الثقيل الإيراني أن يحقق أهدافاً تتعارض مع خطط الرئيس الأسبق أوباما، إذ أراد الرئيس الأميركي أن يُظهر عزمه الأكيد على وفاء وعوده الانتخابية ذات الصلة بالاتفاق النووي مع إيران. ولا يمكن للرئيس ترمب الإعلان عن إلغاء خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل فوري ومباشر بعد انتخابه، إذ من شأن خطوة كهذه أن تعود بآثار سلبية على العلاقات الأميركية مع الشركاء الأوروبيين الذين يساورهم القلق بشأن تصريحات الإدارة الأميركية، حول ضرورة إلغاء الاتفاق النووي بالكامل. كما أن عواقب إلغاء الاتفاق النووي غير واضحة تماماً: إذ لن يكون من الممكن إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بشكل فوري (إذ إن ذلك يستلزم بالضرورة موافقة من مجلس الأمن الدولي) ولن يكون من الممكن أيضاً ضمان أن يُبرم اتفاق جديد وأفضل من الاتفاق الحالي.

وفي ظل هذه الظروف كذلك، ارتأت الإدارة الأميركية الإبقاء على خطة العمل الشاملة المشتركة الحالية (حتى الآن على أقل تقدير). وبدلاً من ذلك، تخيرت واشنطن اعتماد مجموعة من التكتيكات التي لا تسمح بتوجيه الاتهامات المباشرة ضد واشنطن بالانسحاب الجزئي من خطة العمل الشاملة المشتركة، ومع ذلك، فهي خطوات تهدف إلى جعل الحياة في إيران أكثر مشقة وصعوبة.

إن إنهاء مشتريات الماء الثقيل الإيرانية من الإشارات الواضحة إلى اللاعبين الآخرين المعنيين وإلى طهران نفسها، مفادها أن عصر التنازلات المقدمة إلى إيران قد انقضى. ومن الناحية الرسمية، يمكن للإدارة الأميركية تفسير قرارها بأنه يستند إلى الحاجة لوقف توفير الأموال إلى إيران التي يمكن استخدامها لاحقاً في تمويل أنشطتها المثيرة للجدل في بلاد الشام والخليج العربي. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، يعكس هذا القرار القدرات الأميركية الحالية لزيادة الضغوط على القيادة الإيرانية إن اقتضى الأمر.

وبطبيعة الحال، فإن نقص الأموال التي يمكن لإيران الحصول عليها، مع العجز الواضح عن ذلك، من مواصلة مبيعات الماء الثقيل إلى الولايات المتحدة ليست بالمبالغ الكبيرة والمهمة للاقتصاد الإيراني. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة قد تجعل الشركات الدولية أقل ميلاً واهتماماً بالعمل المباشر مع طهران في ظل تصاعد التوترات الأميركية - الإيرانية الراهنة.

ورغم ذلك أيضاً، قد تغيب بعض العواقب الرئيسية المهمة عن مخيلة الرئيس ترمب التي تترتب، ولا بد، على تكتيكاته الحالية بالنسبة لمستقبل إيران ومستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة كذلك: فمن شأن الخطوات الأميركية أن تضعف وبصورة خطرة من مواقف جماعات النخبة الإيرانية والموجهة بشكل طبيعي نحو الحوار مع المجتمع الدولي.

إن إيران من البلدان التي تتوقف تصرفاتها على الصعيد الدولي على الآيديولوجية والمكانة الوطنية. وفي ظل الظروف الحالية، فإن أحد التساؤلات الكبيرة المطروحة يتعلق بمدى قدرة الرئيس حسن روحاني على تفسير الأمر لقيادة البلاد ولقاعدته الانتخابية ومدى أهمية الاستمرار جزءاً من اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة، وتحمل المزيد من الخطوات الاستفزازية الأميركية مع مواصلة ممارسة الضغوط، التي قد تتصاعد، على إيران.

ومن المهم أن نأخذ في اعتبارنا أن إيران تفسر خطة العمل الشاملة المشتركة على نطاق أوسع: بعبارة أخرى، فإن الخطوات الأميركية الأخيرة، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، لا تشكل انتهاكاً للاتفاق النووي كما يُفسر الأمر على هذا النحو في طهران. نتيجة لذلك، شرع المسؤولون الإيرانيون بالتهديد بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة.

أما بالنسبة إلى الرئيس روحاني، فقد تلقى الانتقادات الكثيرة من خصومه المحافظين للتوقيع على الاتفاق النووي الذي، كما هو مُعتقد لدى المعسكر المناوئ لروحاني، لم يمنح إيران الشيء الكثير، لكنه فرض عليها قيوداً تتعلق بوقف تطوير البرنامج النووي الوطني. ونتيجة لما تقدم، فإن إنهاء خطة العمل الشاملة المشتركة يعني، بصورة طبيعية، القضاء على المستقبل السياسي للرئيس روحاني، ويزيد من صعوبة الأمر كثيراً لضمان فوز إحدى الشخصيات السياسية المعتدلة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد.

ومن العواقب المتوقعة التي قد تترتب على سياسة الرئيس ترمب تصاعد الدور الروسي في المحافظة على خطة العمل الشاملة المشتركة، إذ في عامي 2013 و2015، لعبت السلطات الروسية دوراً مهماً في تسوية المشكلة النووية الإيرانية. وساعدت موسكو في تسهيل مفاوضات طهران مع مجموعة المفاوضين الدوليين في حين أرست مقترحات الوزير سيرغي لافروف لعام 2012، بشأن تسوية القضية النووية الإيرانية، الدعائم اللازمة لاستئناف المحادثات.

وفي هذه الحال، كانت الدوافع الروسية تستند إلى عدد من العوامل. أولاً، حصول إيران على القنبلة النووية ليس من الأمور المرغوب فيها لدى موسكو، إذ إن ذلك سيغير تماماً من موازين القوى في المنطقة ويشجع أنظمة شرق أوسطية أخرى، ربما تكون أقل استقراراً من إيران، على الانضمام إلى النادي النووي. ثانياً، اعتقدت روسيا أن القضية النووية غير المستقرة من شأنها، على نحو افتراضي، أن تؤدي إلى زعزعة استقرار إيران نفسها من واقع إيجاد الذرائع المسوغة لاندلاع نزاع عسكري بين الولايات المتحدة وإيران. وفي ظل هذه الظروف لم يكن الكرملين يرغب في أن تتحول إيران إلى دولة فاشلة أخرى بالقرب من حدود فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي بالإضافة إلى سوريا، والعراق، وأفغانستان. ثالثاً، ساعَدَ الدور الروسي في المفاوضات الدولية متعددة الأطراف بشأن القضية النووية الإيرانية في تعزيز أهمية موسكو كلاعب دولي إيجابي وبناء. وهذا الدور من الأهمية بمكان مع اعتبار ردود الفعل السلبية لدى المجتمع الدولي حيال ضم شبه جزيرة القرم، وإسناد روسيا للقوات الانفصالية في شرق أوكرانيا.

ومن شأن الأسباب ذاتها أن تشكل حافزاً للمشاركة الروسية الفعالة في قضية خطة العمل الشاملة المشتركة مرة أخرى. وعلى أدنى تقدير، فإن الولايات المتحدة الأميركية ليست المشتري الوحيد للماء الثقيل الإيراني. وبحلول نهاية عام 2016، تلقت روسيا 38 طناً من الماء الثقيل الإيراني، وإن لزم الأمر، يمكن لموسكو مواصلة شراء المواد النووية من طهران بغية تهدئة مخاوفها بشأن مستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة. وإن قررت موسكو ملء الفراغ القائم سيكون لهذا القرار نتائجه المهمة بالنسبة للكرملين، إذ سيتعمق دخول إيران في مجال النفوذ الروسي. وهذا، بدوره، سيجعل من طهران أكثر مرونة واستعداداً للوصول إلى حلول توافقية مع روسيا تتعلق ببنود أخرى ذات أهمية في الأجندة الروسية على الصعيد الدولي.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٧
راعي البقر في الشرق الأوسط

على بعد آلاف الكيلو مترات تعمل على التحكم بالعالم بأسره وليس منطقة الشرق الأوسط فحسب. من منطلق القوة وليس لأنها على حق. وهي حامية المصطلح المسمى بالديمقراطية، وكذلك الحرية أيضًا..

تمنح الدرجات للجميع، فتعرف البعض بأنهم "ديمقراطية ناقصة" والآخرين على أنهم "ديمقراطية كاملة"، وتقول عن البعض إنهم "أحرار"، والبعض الآخر إنهم "أحرار جزئيًّا".

تقيم تعاونًا مع الإرهابيين من جهة، وتقرر بنفسها من هو "الإرهابي" من جهة أخرى.

قضت على الثقة بالديمقراطية بأفاعيلها التي قامت بها بحجة أنها تصدر الديمقراطية إلى الكثير من بقاع العالم، وعلى الإيمان بالقانون بسلوكياتها التي اتبعتها تحت ستار حقوق الإنسان.

تبيع أسلحة بمليارات الدولارات بحجة "جلب الديمقراطية".

عندما تضع هدفًا نصب عينيها لا تخطر على بالها حقوق الإنسان ولا الديمقراطية ولا القانون والحرية. أرادت احتلال العراق، فأشعلت حربًا سقط فيها ملايين البشر بذريعة كاذبة عن أسلحة كيميائية وتعاون مع تنظيم القاعدة"، عبر إعلامها.

تمارس التعذيب على متن الطائرات إذا شاءت، وتؤسس سجون التعذيب كما فعلت في العراق إذا رغبت، وترمي بمن تقبض عليه في غياهب السجون بطروف لا إنسانية على مدى سنين.

لا تفتأ تردد عبارة "مكافحة الإرهاب" غير إنها تقيم تعاونًا مع التنظيمات الإرهابية على مرأى ومسمع العالم.

وكما هو الحال بالنسبة للعراق، هي من تقرر إلى كم جزء سوف تُقسم سوريا.

تعتزم إنشاء دولة من أجل ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي)، ولا تتورع عن تقديم آلاف الشاحنات المحملة بالأسلحة له.

إذا كان من مصلحتها يمكن أن تسمح لمقاتلي تنظيم داعش بالخروج بسلام من المنطقة، وهو تنظيم خرج من عباءة القاعدة، التي قتلت الآلاف من مواطنيها في 11 سبتمبر.

والآن تقول إنها تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيما يخالف جميع القرارات الدولية، وعلى مرأى العالم بأسره.

الجميع يعارضون، المسلمون، المسيحيون، الاتحاد الأوروبي، آسيا، لكنها لا تتردد، وهي على بعد آلاف الكيلومترات، في اتخاذ مثل هذا القرار، الذي سيشعل النار في الشرق الأوسط.

تعترف بقرارات الأمم المتحدة عندما تكون لمصلحتها وتنتهكها عندما تشاء.

لا يهم من الحاكم فيها، أحيانًا يكون "جمهوريًّا"، وأخرى "ديمقراطيًّا"، تارة يكون اسمه بوش، وتارة أخرى يكون أوباما، وثالثة يكون ترامب. حتى وإن تغيرت الحكومة والأسماء، هي دائمًا "على حق"، لأنها "قوية".

فهل عرفتم من هي يا سادة؟

إنها الولايات المتحدة الأمريكية.

الشيء الوحيد الذي تملكه هو منطق القوة، تمام كما رعاة البقر. قانونها ورغباتها ومصالحها فوق كل شيء. لكن هناك شيء لا تعرفه ولا تفهمه حتى الآن.. إنه الشرق الأوسط..

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٧
عقدة الأسد

ذكرت لي إحدى المشاركات في فيلم وثائقي فرنسي عن اغتصاب الفتيات والنساء السوريات، المعتقلات أو المختطفات، سوف يُعرض في 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري على قناة فرنسا 2، أن الطريقة الوحيدة لإقناع الضحايا بالبوح بما عانينه على يد الوحوش الضارية كانت تذكيرهن بأن هناك محاولات عديدة لإعادة تأهيل الأسد، وأن أحاديثهن سوف تساهم في العمل ضد هذا الاتجاه. وقد اعتبرن الإدلاء بشهادتهن على قناة تلفزيونية استمرارا لكفاحهن الطويل من أجل تحرير شعبهن من نظام الإرهاب والطغيان. وما من شكّ في أن فكرة إعادة تأهيل الأسد التي أصبح واضحا أنها الأكثر تداولا في الأوساط الدولية، حتى التي لا تتردّد في وصفه مجرماً، تثير مشاعر من غير الممكن ضبطها من الألم والبؤس والاحتجاج عند غالبية السوريين الذين فقدوا كل شيء، بسبب سياساته وخياراته الخرقاء والإجرامية، أبناءهم ووطنهم. وينظر إليها كثيرون على أنها إمعان في احتقار القيم الإنسانية، وتجديد الحرب ضد السوريين.

1
وبالفعل، لا أدري كيف يمكن لرجال دولةٍ وديمقراطيين أن يفكروا لحظة في أن من الممكن المراهنة من جديد على الشخص الذي كان السبب الأول في إطلاق شرارة الحرب ضد شعبه، منذ الأيام الأولى للثورة، من أجل إعادة السلم الأهلي، وتدشين حقبة جديدة في تاريخ سورية، من المفروض أن أساس جدّتها هو قطعها مع حقبة الأسد السوداء وتاريخها وقيمها ومؤسساتها وطرق إدارتها، وقبل أي شيء رموزها. والغريب أننا عندما نتحدّث عن ذلك مع الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، لا نجد أحدا منهم يجد ذريعةً واحدةً تخفف من مسؤوليته، أو تبرّر سلوكه. بالعكس، إنهم يعترفون جميعا، بما في ذلك الروس في بعض اللقاءات، بأنه المسؤول الأول عن الكارثة الإنسانية والحضارية التي تشهدها سورية، وأن ما قام به من أعمال القتل المنظم والقصف الأعمى واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا لا يمكن أن يصدر عن رجلٍ لديه الحد الأدنى من النضج والاتزان. وبعض المسؤولين الدوليين الكبار، إن لم يكن معظمهم، ينظرون إليه إنسانا أحمق ومجرما خطيرا، قادرا على ارتكاب أبشع الجرائم للاحتفاظ بالحكم.

لكن في كل مرة يطرح هذا الموضوع، وبعد التأكيد على عدم صلاحية الأسد للقيادة، لا قبل الثورة ولا بعدها، يخرج السؤال الذي رافق المعارضة والثوار منذ بداية المشاورات مع من أطلقوا على أنفسهم اسم أصدقاء الشعب السوري: ما هو البديل؟

ليس هذا الطرح جديدا، فقد كان يطرح علينا منذ الأيام الأولى لتشكيل المجلس الوطني. ومع بدء عملية بناء علاقاتنا الدولية مع المجتمع الدولي، تحت تأثير انقسام المعارضة، أو بالأحرى الأصوات النشاز التي كانت تشوش على قيادة المجلس الوطني، ليس لخلافاتٍ سياسية في الواقع، وإنما لحساسيات شخصية على الأغلب. وكان جوابي الدائم على هذا السؤال أن المعارضة ليست هي، ولا تطلب أن تكون البديل عن بشار الأسد ونظامه، وليس من المهم كثيرا انقسامها. فليس المطلوب استبدال حكم طغمةٍ بحكم طغمة أخرى، ولا ديكتاتورية الأسد بديكتاتورية غليون أو أي شخص آخر، ولكن إقامة حكم يقرر فيه الشعب مصيره، وينتخب هو نفسه ممثليه، ويمكن له أن يغيرهم في أي وقتٍ يدرك أنهم لا يخدمون مصالحه، ولا يلبون طموحاته. بمعنى آخر، البديل هو من طبيعة مؤسسية، يقوم على تغيير بنية السلطة وممارستها، لا على تغيير رجالها. ولو افترضنا أن الشعب مال إلى انتخاب رجالٍ كانوا من النظام القديم، فهو حر في ذلك. وهذا ما حصل في البلدان التي كانت تابعةً للاتحاد السوفييتي السابق، حيث حصل الحزب الشيوعي في بعضها على الأغلبية في مراحل الانتقال الأولى. لكن المهم أن ذلك حصل ضمن بنيةٍ ديمقراطيةٍ وتعدّدية للسلطة، تسمح بتغييرهم هم أيضا في دورةٍ لاحقة.

وكنت أصر على أن المفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية لا ينبغي أن تكون مفاوضاتٍ على تفاصيل الحكم ودقائقه، لأن المعارضة ليست ممثلةً للشعب، وإن مثلت، في أحسن الأحوال، الثائرين في صفوفه، ولكن على شروط التعاون من أجل إيصال السوريين إلى مرحلةٍ يستطيع فيها الشعب نفسه أن يقرّر مصيره، وأن ينتخب ممثليه، ويشكل الحكومة التي يريدها، والتي يستطيع هو أيضا إقالتها، وسحب الثقة عنها وتبديلها، في انتخاباتٍ نزيهة وحرة. وهذا يعني أن البديل ليس المعارضة، وإنما مجلس شعب منتخبٍ وممثل للشعب. وهذا المجلس هو الذي سيقود سورية ما بعد الأسد، لا المجلس الوطني، ولا المعارضة، ولا شركاؤها من أنصار النظام في المرحلة الانتقالية. وكل ما يطرحه المبعوث الأممي اليوم من نقاشٍ بشأن الدستور ورؤية سورية المستقبل من وثائق نهائية لا معنى له، وهو يستجيب لمطالب الروس الذين يريدون أن يلغوا المرحلة الانتقالية بموازاة إلغائهم تغيير النظام، واستبدالها بتفاهمٍ نهائيٍّ بين المعارضة والسلطة على الحكم القادم من وراء الشعب، وضد مصالحه. المطلوب مبادئ دستورية لقيادة المرحلة الانتقالية فحسب، قبل إيصال الحكم إلى الشعب وجمعيته الوطنية التي لها وحدها الحق في أن تصوغ الدستور النهائي، وتتفق على المبادئ فوق الدستورية أيضا.

لكن هذا الطرح الذي يركّز على إيصال الحقوق إلى أصحابها، أي إلى تطبيق مبدأ ممارسة الشعب حقه في تقرير مصيره في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، وما يريد الروس قطع الطريق عليه بتكريس اتفاقاتٍ مسبقة ونهائية بين المعارضة والنظام، لم يستطع أن يقاوم للأسف طويلا متطلبات الدبلوماسية الدولية التي لا تريد أن تسمع كثيرا، وربما لا تؤمن بأن فرضية الحل الديمقراطي، المقبول والمطلوب في كل مجتمعات الأرض، يصلح لسورية. وبعد استقالتي من رئاسة المجلس، ومع إصرار الغرب والشرق، بما في ذلك الدول الصديقة، على فكرة البديل الجاهز، دخل السوس إلى فكر المعارضة التي أضعفت موقفها بالاعتراف بأنها لا يمكن أن تكون بديلا، ولا تملك البديل، بدل أن تؤكد أنها لا هي ولا الأسد ونظامه البديل، وإنما الشعب وجمعيته الوطنية المنتخبة. وهذا ما كانت تحتاجه الدبلوماسية الدولية، لقطع الطريق على المرحلة الانتقالية، والاتجاه إلى فكرة المشاركة في حكومةٍ واحدة، أو ما تسمى وحدة وطنية.

2
الواقع أن المطالبة المسبقة والشاملة ببديل، بمعنى بطاقم حكومي جاهز ومؤسسات بديلة، يحل محل طاقم الأسد ومؤسساته، لم تطرح على أي ثورة أو حركة احتجاج في العالم، فهي تستبطن أمورا عديدة.

أولا، أن من الممكن بناء قوة جاهزة ومنظمة سياسية، أو كتلة قادرة على الحكم وحدها منذ البداية. ولا أدري كيف يمكن لهذه القوة السياسية المنظمة والقادرة على استلام الحكم أن تتكون في ظل ديكتاتورية فاشية وهمجية، في الوقت نفسه، تُخضع الأفراد إلى مراقبةٍ يومية، وتحرّم أي شكل من التواصل بينهم، الفكري والسياسي، وتُخضعهم لمحاكمةٍ دائمةٍ وتجرّدهم من أي حماية سياسية أو قانونية. وأول برهان على ذلك روسيا المنتفضة على النظام السوفييتي نفسها.

وتستبطن ثانيا استبعاد أن يكون الشعب صاحب السيادة والصلاحية في اختيار ممثليه في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، أي أيضا الاعتقاد بأن الشعب السوري ليس على مستوى من النضج يسمح له بممارسة حقوقه السيادية. وهذه هي الفرضية وراء فكرة مؤتمر شعوب سورية الذي أعلن الروس عن عقده في حميميم، ثم نقلوا مكانه إلى سوتشي، ولا يزال غامض المصير. وبينما تهدف مفاوضات جنيف للتوصل إلى تفاهم بين الحكم والمعارضة على صيغةٍ للانتقال السياسي من سنة ونصف السنة إلى سنتين، تشكل مدخلا لتطبيع الحياة السياسية، والدخول في نظام الديمقراطية الذي يكرّس سيادة الشعب، وحقه في تقرير مصيره بحرية، يفترض مؤتمر شعوب سورية حوارا بين المكونات الإثنية والطائفية والعشائرية السورية، يلغي إشكالية الانتقال من جذورها، ويفتح باب الحوار بين جماعاتٍ مختلفةٍ ومتنابذةٍ على تقاسم المناصب، ويفضي، لا محالة، إلى تحييد الدولة، وإحلال إدارات محلية مكانها، تضمن لكل قوة احتلت جزءا من الأرض السورية الاحتفاظ بنفوذها ووصايتها في المنطقة التي بسطت سلطتها عليها. ولو حصل ذلك، لكانت طهران التي تتمتع بحضور أوسع وأكثر عمقا، سياسيا وعسكريا وبشريا، اليوم في البلاد، هي صاحبة الكلمة الأولى، والسيطرة الأكبر على الحكومة والإدارة وجميع المرافق الاقتصادية والخدمية في الدولة السورية القادمة.

ويستبطن هذا الطرح ثالثا أن ما يرمي إليه الحوار والمفاوضات ليس الانتقال الذي أعلنته الثورة نحو نظام ديمقراطي، يلبي مطالب الحرية والكرامة والتطلع إلى ملاقاة قيم العصر. وإنما التمثيل الشامل والميكانيكي لجماعات الهوية، وإلغاء مفهوم المواطنة التي تقوم على حكم القانون والمساواة بين الأفراد، وقبل ذلك حرية الفرد ومسؤوليته السياسية لصالح مفهوم العصبية الأهلية الجمعية، الطائفية والإتنية. وهو النظام الذي فرض، حسب المنطق نفسه، في لبنان، وبعده في العراق، والذي يكرّس إعادة تنصيب زعماء العشائر والقبائل ووجهاء المناطق والقوميات على الدولة والسياسة، وتوريث مناصبهم لأبنائهم، وإلغاء أي فرصةٍ لتكوين نخبة وطنية سياسية، تتناغم مع مفهوم الدولة، وهو ما يهدف إلى إجهاض أي حياة مدنية حقيقية، ودفع السوريين إلى الانشغال بصراعات هويةٍ وتنازع على مناصب الدولة والإدارة، لا تنتهي، بدل مساعدتهم في الارتفاع على الانقسامات العمودية، وتوسيع قاعدة التعاون بين الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية، وتوحيد القوى والجهود من أجل تحديث المجتمع السوري، وتطوير مؤسساته المدنية والسياسية، وتعميق روح الوطنية والقيم الإنسانية الكونية.

ويستبطن رابعا أن الوظيفة الرئيسية لنظام سورية القادم ليس تجاوز النقائص والعيوب التي حالت دون تفاعل أبناء الشعب السوري، وتكون إرادة وطنية فعلية، وهو ما عبّرت عنه شعارات الثورة، وأولها "واحد واحد الشعب السوري واحد"، ولكن إقامة نظام من الطبيعة نفسها التي جسدها نظام الأسد، والتي لا تهدف إلا إلى تلبية المطالب والمصالح الخارجية، والاستقواء بأصحابها لعزل الشعب السوري سياسيا، وتقويض وحدته وإرادته الوطنية. ما يعني أن ما هو مطلوب للخروج من الحرب والدمار والخراب ليس مصالحة الشعب السوري مع نفسه وتاريخه، وحل الإشكالات التي دفعته إلى الثورة والحرب، وإنما زرع بذور نزاعاتٍ لا تنتهي، ولا يمكن السيطرة عليها. وأن وظيفة النظام المنشود ليست خدمة السوريين ورعاية شؤونهم، كما هي وظيفة النظم السياسية، أو أغلبها، وإنما خدمة الأطراف الخارجية التي تضمن بقاء النظام وحمايته واستمراره. وهذه كانت وظيفة نظام الأسد الذي استمد قوته ونفوذه وفرص استمراره من اشتغاله على ضبط السوريين وتحييدهم، وشل إرادتهم لحساب دول وحكومات ومصالح أجنبية. وهذا ما جعل من مسألة تغييره أو استبداله، عندما فشل في تحقيق مهامه، وانتفض السوريون ضد سياساته، مسألة إقليمية ودولية وعالمية خارجة عن إرادة السوريين.

لم تترك موسكو، التي تعمل صاحب تفويض دولي في المفاوضة مع المعارضة، فرصةً من دون أن تستغلها لقطع الطريق على خيار الانتقال السياسي الديمقراطي، والسعي إلى إغراق مسألة سيادة الشعب السوري بمسألة التعددية الإثنية والطائفية والسياسية، والدفع في اتجاه حلٍ يقوم على تقاسم السلطة بين الجماعات الأهلية وتقسيم البلاد إلى أقاليم ذاتية الإدارة بعد أن فشلت في فرض الفيدرالية.

3
لا ينبع التذكير الدائم بغياب البديل، كما قد يخطر إلى البال، من القلق على مستقبل سورية، أو على نجاح عملية الانتقال السياسي فيها، ولا من الاعتقاد بالفعل بغياب شخصيات قادرة على الحكم، أو عن الخوف من عقم المجتمع السوري وعجزه عن إنتاج "شخصية فذة" مثل بشار الأسد، ولا من عدم إمكانية الحؤول دون عمليات الانتقام الجماعي، أو انهيار مؤسسات الدولة، أو الدخول في الفوضى، كما يزعم بعضهم. ولكنها تنبع من الخوف من أن لا تتمكّن القوى التي كانت وراء الأسد، واستفادت من حكمه، وعقدت صفقاتٍ كبرى معه على حساب حرية الشعب السوري، وحقوقه وتقدمه وأمنه، من إيجاد البديل المطابق له. أي في الواقع من أن لا تتمكن هذه القوى من ضبط الأوضاع السورية في إطار نظام ديمقراطي، يعكس إرادة الشعب وتطلعاته، ويعمل لخدمة أهدافه والدفاع عن مصالحه، ويعمّم نشر روح الحرية والكرامة والاستقلال والسيادة في ربوعه. وهو ما كان سائدا قبل عهد الانقلابات العسكرية، والذي جعل من السوريين، في حقبة الخمسينيات، في طليعة حركة الكفاح التحرّري والاجتماعي الذي خاضته الشعوب حديثة الاستقلال في العالم. فالبديل المطلوب للأسد وحشٌ مثله مستعدٌّ، لقاء ضمان استمراره في السلطة وتوريث الحكم لأبنائه، لقتل شعبه وتحويل سورية إلى معتقل جماعي، وجاهز للقيام بجميع المهام القذرة، الداخلية والخارجية، التي قبل بتنفيذها نظام الأسد، غالبا بمبادرته الخاصة، خلال نصف قرن، وضمنت استقرار النظام الإقليمي والدولي القائم على تجميد الحياة في المنطقة، وحرمانها من أي فرصة للتعاون من أجل التقدم والتنمية والتطور الاجتماعي والسياسي والفكري، في سبيل الحصول على رضى الدول الكبرى وتلبية مصالح وكلائه، بصرف النظر عن مصالح السوريين، وعلى حسابها في أغلب الأوقات. ولأن هؤلاء الوكلاء ليسوا واثقين من قدرتهم على تدجين الشعب السوري، بعد تضحياته الهائلة، وسوقه إلى إنتاج نظامٍ شبيه بنظام الأسد، وقادر على أداء مهامه الداخلية والخارجية، كما فعلوا في بلدان الربيع العربي الأخرى، فليس لهم خيار سوى الدفاع حتى آخر نفسٍ عن إعادة تأهيل الأسد نفسه، حتى لو كانت قناعتهم بعدم صلاحيته، وربما بسبب ضعفه، بل موته السريري نفسه أيضا.

ليس المطلوب "دوليا" في سورية نظاما ديمقراطيا مدنيا، يضمن وحدة الشعب وتفاهمه على قواعد واضحة وثابتة وكونية للشرعية وتداول السلطة، ويمكن للشعب أن يختار ممثليه ويستبدلهم بحرية، كما الحال في الدول الديمقراطية جميعا، وإنما المطلوب، كما تبين في السنوات الست الماضية، العكس تماما، أي نظاما يجرّد الشعب السوري من سيادته، ويفرض عليه خياراتٍ لغير مصلحته، تضمن الأمن والاستقرار والتوسع والازدهار لدولٍ بعينها في الشرق الأوسط، وتحفظ هيمنة الغرب، وروسيا جزء منه، على عالم الشرق والإسلام والعرب الذي يبدو أكثر فأكثر مرتعا للقوى المتمرّدة والمتطرّفة والثائرة. وليس هناك بديل عن الديكتاتورية الفاشية المتهاوية تحت ضربات الثورات العربية، للحفاظ على هذه المصالح الكبرى والتوازنات، سوى نظم مقوّضة العزم والشرعية، ودول مفكّكة تلغي الشعب، وما له من قوة وكيان سياسيين، وتحل روابط المجتمعات، وتفتك بقيمها ورموزها، وتباعد بين أقاليمها وجماعاتها، أي سوى فرط عقدها وتحويلها إلى إثنيات وطوائف ومحليات، وتقسيم أراضيها إلى كانتونات ومناطق معزولة وعازلة، منطوية على نفسها، لا شاغل لها سوى التنازع على البقاء في منطقة محرومة وعاجزة عن إيجاد شروط التنمية، تعاني أكثر فأكثر من شحّ الموارد، ومن حروب أهلية دائمة، ونزاعات هوية، لا حل لها ولا تسوية فيها. هذا هو البديل الوحيد الذي يضمن، في الوقت نفسه، تحييد الشعوب، وإخراجها من معادلة القوة، والإبقاء على الأسد وأمثاله رؤساء وقادة لدولٍ لم يبق منها سوى الاسم، ومن وراء ذلك، تكريس المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي حقّقتها الشراكة المدنّسة بين طهران وموسكو وتل أبيب وواشنطن وأتباعهما، عوائد الحرب التي فجّرها الأسد على السوريين نيابة عن الجميع، وبمساعدتهم، لسحق ثورة الحرية والفتك بأبنائها، وتشريدهم في كل بلاد المعمورة.

ما أنتج عقدة الأسد التي عطلت مفاوضات الحل السياسي ست سنوات متواصلة، ليس وجود الأسد وشخصه، أو النزاع على دوره، ولكن تصميم الفاعلين الإقليميين والدوليين على رفض خيار التحول الديمقراطي الذي يلبي تطلعات السوريين، ويضمن حقوقهم بالتساوي، من خلال انتخابات حرّة ونزيهة لممثليهم وقادتهم، الحقيقيين والشرعيين، والإصرار على الإبقاء على نظم استبدادية ليست بحاجة إلى أي توجيهٍ، أو ضغوط استثنائية، كي تقوم بتنفيذ مهمتها التاريخية في الدوس على رقاب الشعوب وتفكيكها، وإخضاعها بالقوة، وإن لم تستطع تشتيت شملها بحروب الإبادة الجماعية، المادية والسياسية معا. لتحقيق هذه المهام، الإبقاء على كواسر أثبتت قدرتها على الفتك، من دون أن يرفّ لها جفن، بشعوبها، هو بالتأكيد الخيار الصحيح لدولٍ تتصرف هي نفسها كوحوش ضارية.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٧
هل يكون مؤتمر سوتشي محطة بوتين للقفز على جنيف والتخلص من مخرجاته؟

في توقيت لم يكن متوقعاً، أعلنت مصادر رسمية روسية أن الرئيس فلاديمير بوتين سيزور أنقرة، يوم الاثنين 11 كانون الأول / ديسمبر، ثم يتجه بعدها إلى القاهرة في زيارة رسمية لكل من تركيا ومصر. المصادر الدبلوماسية الروسية ذاتها أكدت أن الملف السوري سوف يحتل المرتبة الأولى في سلم أولويات الزيارتين، حيث يسعى بوتين لحشد تأييد كل من تركيا ومصر لمؤتمر سوتشي.

وكالة انترفاكس الروسية نقلت عن مصدر دبلوماسي روسي؛ أن الجولة القادمة من مفاوضات أستانا ستعقد في يومي 21و22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وستتناول التحضيرات لمؤتمر سوتشي!

اللافت للانتباه أن وزارة الدفاع الروسية، وليس الخارجية، هي من تشرف على مؤتمر سوتشي! وهذا يدل دلالة واضحة على أن التصور الروسي لطبيعة الحل في سوريا لا يبتعد كثيرا عن طريقتهم (موديلهم) الشهيرة "غروزني".. أي الحسم العسكري.

وبحسب وزارة الدفاع الروسية، فإن مؤتمر سوتشي يهدف إلى تشكيل لجنة للدستور ولجنة للانتخابات. ولا يوجد أي حديث عن عملية انتقال سياسي!

توقيت التحرك الروسي مثير للحيرة والشكوك أيضا. حيث يأتي في وقت تسير فيه مباحثات جنيف بين النظام والمعارضة برعاية الأمم المتحدة، ولا تبدو أنها في حالة تعثر. بالرغم من مراوغة وفد النظام ومحاولاته التعطيلية. لكنه جميع الأطراف حتى الآن متمسكة باستحقاق جنيف، أو هكذا تبدو. فلماذا إصرار الروس على مؤتمر سوتشي؟!

من الواضح للعيان بأن الروس يتحركون بعقلية أن نظام بشار الأسد قد انتصر، ومن الواجب رسم الخطوات التالية بناء على ذلك. من هذا المنطلق، بادروا إلى الدعوة لمؤتمر موسع يضم جميع "الشعوب السورية" يعقد في القاعدة الروسية في حميميم. لكن وتيرة الاعتراضات على المكان وعلى مصطلح "الشعوب السورية"؛ اضطر الدبلوماسية الروسية إلى العدول عن حميميم واستبدالها بمدينة سوتشي الروسية. لكن بنفس الهدف والمضمون، أي أن يكون مؤتمرا موسعا يضم جميع مكونات الشعب السوري!

المعركة في سوريا بحسب الروس انتهت، وعلى المعارضة السورية الرضوخ لشروطهم، وكل ما تستطيع المعارضة فعله هو الحصول على بضعة مقاعد في حكومة وطنية مشتركة مع نظام بشار الأسد! وهذا يدل دلالة صريحة على أن قرارات مؤتمر سوتشي ومخرجاته قد تم إعدادها مسبقا، وربما تكون لجانه كذلك قد تم تشكيلها واختيار أعضائها مسبقاً، قبل انعقاد المؤتمر!

يبقى السؤال الأهم هنا: ما هو موقف الأمريكان من مؤتمر سوتشي؟.. وهل هو جزء من التفاهمات التي جرت بين الرئيسين ترامب وبوتين في فيينا وفيتنام؟

بالرغم من أن الروس قد حققوا بعض الانتصارات العسكرية على الأرض السورية، بواسطة سياسة الأرض المحروقة التي اتبعوها، إلا أنهم ما يزالون عاجزين عن الحسم الكامل، ووضع نهاية للأزمة السورية، ولو بقوة السلاح، حيث ما يزال الأمريكان يمسكون بكثير من خيوط اللعبة، مما يمكنهم من إفشال مخططات الروس بسهولة وبكلفة رخيصة. صحيح أن الروس متفوقون عسكريا على الأراضي السورية، لكنهم عاجزون عن بناء النظام من جديد. كما أنهم لا يملكون القدرة على إعادة الإعمار التي تكلف مليارات الدولارات.

من ناحية أخرى.. الرئيس الروسي بوتين في عجلة من أمره، فهو يريد تحقيق تقدم في الميدان السياسي في سوريا قبيل الانتخابات الروسية التي باتت على الأبواب. لذلك سارع إلى التفاهم من كل من إيران وتركيا، الدولتان الضامنتان والشريكتان معه في مؤتمر أستانا، لعقده خلال فترة قصيرة، وليمارس ضغوطا كبيرة على النظام لدفعه لحضور مؤتمر جنيف، بالرغم من الضغوط الإيرانية في الاتجاه المعاكس.

الأمريكان حتى اليوم ما زالوا متمسكين بجنيف، ويرون أنها المكان الصحيح والطريقة الأمثل لحل الأزمة السورية.. ما يميز جنيف بشكل رئيسي عن بقية المؤتمرات؛ هو بند الانتقال السياسي، الذي يعني بالضرورة نهاية حكم الأسد، وبداية مرحلة جديدة في حكم سوريا. من حيث المبدأ، لا اعتراض كبيرا لدى الروس على رحيل بشار الأسد، لكنهم مقابل ذلك يطلبون من الأمريكان ثمنا استراتيجيا محرزا، بينما الأمريكان ليسو مستعدين، ولا نية لديهم، لدفع ثمن ما مقابل رحيل بشار الأسد، لذلك بدأوا يلمحون إلى إمكانية بقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية فقط لفترة ما؛ تحددها المفاوضات بينه وبين المعارضة، بالرغم من استمرار اعتراضهم على شرعية حكمه أساسا!

الناطق الرسمي باسم الوفد المفاوض للمعارضة السورية في جنيف، د. يحيى العريضي، قال إن الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص وفريقه وبعض الدول "جادون بإيجاد حل للقضية السورية"، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن تلك الدول تنفذ مصالحها في سوريا.
من الواضح أن مسار الحل في سوريا بات على مفترق طريقين، أحدهما يسير نحو "عملية جنيف"، والآخر باتجاه مؤتمر سوتشي. الرئيس الروسي بوتين يبدو مصرا، ويبذل قصارى جهده في سبيل توجيه بوصلة الحل نحو سوتشي. فهل سينجح في ذلك؟

نجاح بوتين في عقد مؤتمر سوتشي متوقف على الفيتو الأمريكي، والموافقة الإيرانية، والتعاون التركي.. والأهم من ذلك كله، تماسك المعارضة السورية وثباتها، وصمودها في وجه الضغوط الدولية، وتمسكها بثوابت الثورة السورية في بندها الأول: خلاص الشعب السوري من حكم عائلة الأسد.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٧
هذا الغياب الأميركي عن الحل في سورية

يفتح الغياب الأميركي عن أجواء التحركات السياسية المرتبطة بالمسألة السورية، سواء الجارية برعاية روسية أو برعاية سعودية أو غيرهما، الباب أمام تباينات في تحليل الموقف الأميركي، وبالتالي في مدى واقعية هذه الاجتماعات التي تشهد الغياب الأميركي ونجاعتها، انطلاقاً من قناعة غالبية المفكرين والمحللين العرب باستحالة تطبيق أي اتفاق دولي، أو إقليمي في سورية، من دون قبول ومباركة أميركيين. تحاول هذه المقالة المساهمة في تحديد أبعاد الموقف الأميركي، من دون المبالغة في ربطه بالوضع السوري، حيث يبقى لموقف الشعب السوري ورأيه الكلمة الفصل والحسم الحقيقية بشأن أي حل سياسي في بلده، كما تبقى استعادة نبض الشارع السوري وفعاليته الطريقة الوحيدة لتحقيق أهداف أهداف هذا الشعب وثورته.

ولتكن البداية بتفنيد المزاعم والآمال المغلوطة بعد الضربة الأميركية لمطار الشعيرات العسكري في سورية، رداً على هجوم النظام بالغاز السام على مدينة خان شيخون منتصف العام الجاري، وهي الضربة التي اعتبرها بعضهم تعبيراً عن تغيير جذري في موقف إدارة الرئيس دونالد ترامب مقارنة بموقف سابقه باراك أوباما، وهو ما عزّزته تصريحات ومواقف أميركية لاحقة للضربة، سواء المعبرة عن نجاح الضربة في إخراج المطار عن الخدمة أو المعبرة عن نفاد الصبر الأميركي من بشار الأسد وإجرامه. لتنكشف الحقائق سريعاً بداية من خلال عودة المطار إلى الخدمة وللإجرام في غضون يومين فقط! الأمر الذي يعكس هامشية الضربة ومحدوديتها، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار بطء النظام السوري وبيروقراطيته في التعامل مع التبعات الميدانية لأي خلل، طبيعيا كان أو مفتعلا، حيث يحتاج تبديل مصباح ضوئي أكثر من أسبوعين في ظل نظام الأسد. كما طالعتنا التقارير والأخبار المسربة من الإدارتين، الأميركية والروسية، عن شكلية الضربة وهزالها بعد الكشف عن إلغاء طابعها المفاجئ، في إطلاع القيادة الروسية على جميع تفاصيلها قبل حدوثها بمدة كافية لإطلاع نظام الأسد عليها، ولترتيب الأوضاع داخل المطار، ما يحد من حجم الخسائر، ومن تأثيراتها المستقبلية.

وبالتالي، باتت للضربة اعتبارات أميركية منفصلة عن الموقف الأميركي تجاه سورية، ما يعبر عن تماثل وتطابق في الأداء تجاه سورية بين الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحالية. وفي هذا رد على بعض الأوهام المعبرة عن استقراء حدوث تدخلٍ أميركي واضح وحاسم في المسألة السورية، ما يتيح المجال إلى الالتفات نحو المبالغين في قراءة التفويض الأميركي للروس بحل المسألة السورية. وهو تفويضٌ قد يعتبره بعضهم بمثابة صك انتداب جديد، يعكس إعادة توزيع مناطق النفوذ والسيطرة بين الأقطاب الإمبريالية والاستعمارية، ما يقود إلى خلل في فهم التوافقات والصراعات الدولية إجمالاً.

لا بد من تحديد حجم التفويض الأميركي وطبيعته بدقة، لفهم أسبابه ومعانيه. فمن ناحيةٍ، تزامن التفويض السياسي والتراجع الأميركي سياسياً في سورية مع الوجود العسكري الأميركي المباشر والعلني داخل سورية، فضلاً عن دعم وسيطرة وتحكم أميركي بالقوات الكردية المعروفة باسم قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ما يشير إلى حجم النفوذ والتحكم الأميركي المباشر في سورية، والمدعوم بنفوذ وتحكم أميركي غير مباشر، عبر ربط أميركي لأهم القوى والجهات الإقليمية الفاعلة في سورية، بداية بدول الخليج العربي، وليس انتهاء بتركيا، أو حتى إيران اللتين تعيشان علاقة مع أميركا مليئة بالتناقضات والتناحرات والتوافقات. وبالطبع من دون تناسي التحكّم الأميركي في ملفاتٍ عديدة مهمة للروس كذلك. كما لا بد من التمييز بين الاتفاقات الدولية العلنية أو السرية من أجل توزيع مواقع السيطرة والنفوذ وتقاسمها والتفويض الأميركي للروس في الشأن السوري، حيث يغرد التفويض خارج سرب الخلافات الأميركية الروسية العديدة في القضايا الدولية، ما يعبر عن استمرار الصراع والتناقض بينهما، كما يعبر عن عدم شمول التفويض عملية توزيع السيطرة وتقاسمها بين الإمبرياليتين، الأميركية والروسية.

وعليه، يمكن القول إن الأميركان لم ينطلقوا، في تفويضهم الروس لحل المسألة السورية، من هامشية هذه المسألة، ومن عدم مبالاة بمسار الوضع السوري، أو جزء من اتفاق روسي أميركي على مجمل القضايا الدولية، بل انطلاقاً من إدراك عجزهم الذاتي في التحكم بمجمل المسائل والقضايا الدولية، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية، والأميركية خصوصاً، ما دفع الولايات المتحدة إلى الحفاظ على أوراق قوة مباشرة وغير مباشرة في سورية، من أجل الحد من قوة روسيا ونفوذها داخل سورية التي قد تتحول إلى قدرة وقوة إقليمية، بأقل التكاليف الممكنة، فضلاً عن الرغبة الأميركية في استثمار الحاجة الروسية لاسترجاع نفوذها في سورية من أجل تحقيق مكاسب دولية في بعض المسائل الدولية، لا سيما في موضوع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والمسألة الأوكرانية.

إذا، ينطلق التراجع أو الابتعاد الأميركي عن المسار السياسي المعني بالمسألة السورية من رغبة أميركية في إدارة مصادر قوتها ونفوذها نحو المناطق الأكثر أهميةً وتأثيرا على مصالح الولايات المتحدة، على الرغم من التأثيرات السورية على بعض المصالح الأميركية الاستراتيجية، كأمن الابن الأميركي غير الشرعي واستقراره، أي الكيان الصهيوني، وتبعات المسألة السورية على مجمل منطقة الخليج العربي التي ما زالت الإدارات الأميركية المتعدّدة تعبر عن أهميتها وتأثيرها على مجمل المصالح الأميركية، كما ترتبط المسألة السورية بمصالح قوى إقليمية حليفة تاريخيا للولايات المتحدة مثل تركيا، على الرغم من حجم التباعد والتناحر الحالي بينهما. وأخيراً ترغب الولايات المتحدة في استخدام الورقة السورية، لابتزاز الروس وبعض القوى الإقليمية بشأن باقي المسائل الدولية الأكثر أهمية للسياسة الأميركية.

لذا لا بد من الانطلاق، في فهم مجمل العلاقات الدولية الراهنة، من إدراك حجم التناقضات والتصارعات والخلافات الدولية في الوقت الراهن، حيث تدور الخلافات الدولية على حجم مصالح كل منها وطبيعتها، من دون أي اعتبار لمصالح شعوب العالم إجمالاً، والشعب السوري خصوصاً، الأمر الذي يجب إدراكه جيداً للانطلاق من هذا الواقع العالمي، ومن واقع الثورة السورية محلياً، من أجل بلورة حركة وطنية سورية، تلبي مطامح السوريين، وتحقق أهداف ثورتهم، بعيداً عن التعلق بالأوهام الدولية، الأميركية وغيرها.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٧
الحل في سوريا وافتراق المتحالفين

عندما تمتد الأزمات والصراعات تتصدع تحالفاتُها الأوليّة. تتشكّل خرائط مصالح جديدة، وتتآكل أخرى. ومن يتأخر عن اللحاق بالتحوُّلات والحقائق الجديدة على الأرض، يُترَك. لا عواطفَ في الأمر، ولا فسحة من الوقت لدى الحلفاء المتقدمين للوقوف، وانتظار وصول الصديق المتأخر.

أنهى جنرالات روسيا الاتحادية مهمتهم في سوريا. روسيا باتت قريبة جداً من الوصول إلى السيناريو الأمثل الذي كانت موسكو تتوخاه. ومجمل أهداف فلاديمير بوتين الاستراتيجية تحققت بنجاح؛ أعاد الرجل الاعتبار لمكانة روسيا الدولية. نجح في مواجهة الولايات المتحدة. حصّن الموقع الجيوسياسي لروسيا، وتوّج إنجازاتها الجيوعسكرية في جورجيا عام 2008، وأوكرانيا في 2014، بمناطق نفوذ مستدامة في الشرق الأوسط، وعلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. تحقق أخيراً طموح روسيا الاستراتيجي القديم. شعبية الرئيس بوتين، وقوته في الداخل الروسي، لم تعُد موضع شكّ.

استراتيجياً، باتت المعادلة واضحة: أمن البحر المتوسط مقابل أمن البحر الأسود. ومحاولات الاحتواء الأميركية السابقة، سواء الاقتراب الجيوعسكري من حوض البحر الأسود، أو نشر الدرع الصاروخية في القوقاز وتركيا، كلُّها باتت بلا مفاعيل حقيقية. يُفاخر الرئيس بوتين اليوم بأنّه أبعد شبح «الإرهاب» عن المحيط الأمني الروسي، وتعاملَ مع الإرهابيين القادمين إلى سوريا من جمهورية الشيشان، والدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة، بعيداً عن الأرض الروسية.

الاقتصاد الروسي أيضاً مدينٌ للرئيس بوتين، وجنرالاته؛ شجّعت مكاسب روسيا الاستراتيجية دولاً كثيرة في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى من العالم، على التقارب والتحالف مع موسكو. زاد نفوذ روسيا في المنطقة، وتعاظمت فرصها الاقتصادية. استعراض القوة العسكرية الروسية، واختبار الأسلحة الروسية الجديدة، لم يذهب أدراج الرياح؛ صفقات الأسلحة بدأت تتوالى على موسكو. وبات من الممكن التحكُّم باحتياطات الغاز الضخمة في شرق المتوسط، بما يحمي أسعار الغاز الروسي في السوق العالمية.

في الإطار المحلي السوري، حقَّق التدخل الروسي مقداراً من الاستقرار للنظام السوري، بما يُفضي إلى إجبار المعارضة على القبول بالحلّ السياسي، وفق الرؤية الروسية. واستتباعُ سوريا، بغض النظر عمَّن سيحكُمها، لتسهيل تحقيق الأهداف السابقة، باتَ في متناول اليد.

في الجانب الآخر، تُواجهُ إيران ووكلاؤها من الميليشيات الطائفية، وهم الحليف الثاني للنظام السوري، كثيراً من المشكلات في تثبيت أيّة مكاسب استراتيجية لهم في سوريا، فلا تزال هناك شكوك حول قدرة إيران على فرض نفوذ طويل الأمد لها في سوريا. هناك موقف أميركي، وعربي، وإسرائيلي، وشعبي سوري، مناهض لتثبيت هذا النفوذ.

يدرك الرئيس بوتين، وجنرالاته الكبار، أنّ تحقُّق السيناريوهات المُثلى مَحْض ومضةٍ تاريخيّة عمرُها قصير جدّاً. فرصةٌ يتعيّنُ اقتناصُها، أو خسرانُها. ليس في الأمر مُتَّسع لانتظار وصول الشريك المتأخر عن قاطرة الأهداف الاستراتيجية، لا بُدّ من المضي قدماً في تثبيت المكاسب. والانتقال إلى حل سياسي سريع. صفةُ الاستعجال هنا ضرورية، فروسيا لا يمكنها أن تأمن جانب الولايات المتحدة، لناحية قيام الأخيرة بعمل قد يفضي إلى تغيير الوضع القائم. وهناك طبول مواجهات متعدّدة، خشنة وناعمة، تُقرع في المنطقة. من الأنسب لروسيا الخروج بحل سياسي قبل اندلاع مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران ووكلائها من جهة أخرى.

تريد موسكو ضمان قبول إيران بالحل السياسي، وتلزيمها بمحتواه. لكنّ مشروع إيران في المنطقة يتغذى من استمرار الفوضى. لا مصلحة لطهران في الحل قبل تثبيت قدميها على الأرض السورية. يُذكِّر القادة الأمنيون في طهران الحليفَ الروسي بـ«تضحياتهم». تذكيرٌ أشبه بنداء استغاثة، يقول أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني: «علينا ألا ننسى أن الأزمة بدأت في عام 2011، والتدخل الروسي جاء في 2015. أما إيران ومحور المقاومة، فكانا حاضرين طيلة تلك المدة». بات واضحاً أن أبرز ما يعرقل تحقُّق الحل السياسي في سوريا اليوم، هو حضور الميليشيات المتحالفة مع طهران، والمحاولات الإيرانية للهيمنة على قرار النظام السوري. وبات واضحاً أن روسيا أحوج ما تكون اليوم للحل. فهل يفترق المتحالفون؟

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٧
ترامب يصفع خصوم إيران!

القرار الأمريكي حول القدس لا يمثل عدوانا سافرا على المدينة وتاريخها، وحاضرها ومستقبلها فحسب، بل يشكل صفعة من العيار الثقيل لحلفاء واشنطن في المنطقة الموصوفين بأعداء أو خصوم إيران.


وستكون لهذا القرار تداعيات وارتدادات جيواستراتيجية، منها ما يرفع شأن طهران ويزيد من نفوذها المتصاعد أصلا في الإقليم والمنطقة، وفي المقابل يهوي بشأن خصومها إلى الهاوية، بعد أن وصل تحالفهم مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة في غاية الخطورة، تمس العالمين العربي والإسلامي في معتقداته وتاريخه وحضارته.

ولم تعد تسعفهم "الشماعة الإيرانية" التي يتم توظيفها في التغطية على الفشل وأهداف شخصية وتبرير عملية التطبيع، وليس في مواجهة ما يعتبرونه الخطر الإيراني.

لا شك في أن الموقف الأمريكي الجديد حول القدس يشفع لقراءة إيران حول مجمل الأوضاع في المنطقة منذ عام 2011، التي سمعناها مرارا وتكرارا، وهذا ما يركز عليه الإعلام الإيراني المحلي والخارجي هذه الأيام، إذ يرى في الموقف انتصارا لقرائتها هذه وسياساتها الإقليمية.

وهذا يخدم محورها ونفوذها، ما دفع "استيفان والت" استاذ جامعة هارفارد، يتساؤل مستغربا في تغريدة له، عن جدوى قرار نقل السفارة للقدس، وأنه كيف يقلّل من نفوذ إيران ويزيد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط؟

بطبيعة الحال، القرار والضعف العربي الرسمي في مواجهته، سيحقق مزيدا من التقارب بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية، وحتى مع أحزاب وجماعات أخرى في العالمين العربي والإسلامي، تكّن العداء للكيان الصهيوني، أحدثت حوادث المنطقة شرخا كبيرا بينها وبين طهران.

لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل أن القرار أيضا سيضع خصوم إيران في المنطقة في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن أصبحوا يتلقون ضربات واحدة تلو الأخرى في ساحات عدة بسبب سياسة تغييب الشعوب ومحاربة قواها الفاعلة.

ميوعة موقف الدول والقوى العربية الوازنة، وعدم حسمه مقابل هذا الحدث الجلل، يضعها في موقف محرج أمام إيران التي ستسعى إلى توظيف ذلك في خدمة خطها الإقليمي وإسناده بموقفها المتقدم في الوقوف ضد القرار الأمريكي. هذا في حال لم نسلم لروايات الإعلام الغربي والإسرائيلي حول علم دول وقوى بالقرار ومشاركتها في صياغته، إما إن كانت تلك التقارير صحيحة فالمصيبة أعظم.

وفي هذا السياق، ومن الملفت والطريف تأكيد إيران اليوم على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على "عروبة القدس" في تغريدة له على توييتر، التي حملت دلالات سياسية ورسائل لاذعة في كل حد وصوب، ذلك بعيد القرار العدواني الأمريكي بشأن هذه المدينة المقدسة، بينما مصر المعروفة بعاصمة العروبة، يتجنب رئيسها في أول ظهور إعلامي له بعد صدور القرار الأمريكي، أدنى إشارة للقدس.

فأسهب عبدالفتاح السيسي في حديثه في جلسة افتتاح منتدى رواد الأعمال بإفريقيا بشرم الشيخ، دون أي ذكر أو تلميح لهذا القرار، كأن الموضوع لا يعنيه ومصر، لا من بعيد ولا من قريب.

كما أن الموقف السعودي أيضا، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يرتق إلى مستوى الحدث، فاكتفاء الرياض ببيان وتصريحات باهتة دون إجراء عملي، لا ينجسم مع الموقف التاريخي والمشرّف للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز عام 1973، الذي قدم حياته لأجل القدس.

أقل ما يمكن أن تفعله السعودية، هو استدعاء السفير الأمريكي، كما فعل ذلك كل من العراق، وتونس والمغرب، وهو موقف يشكرون عليه، رغم أنه يلبي أدنى مطالب الشارع العربي والإسلامي اليوم فقط، أما بقاء الموقف السعودي بهذا المستوى فإن هذا يتعارض مع شرعية الجغرافيا التي تمثلها المملكة، إذ أن خلو بيانها وتصريحات مسؤوليها من أدنى إشارة لإسلامية الحرم الإسلامي الثالث، يعرضها لتساؤل منطقي أمام الرأي العام الإسلامي.

في مثل هذه النوازل التي تبتلى بها الأمة، الأنظار في الوهلة الأولى تتجه نحو السعودية وعلمائها بحكم الموقع الديني للمملكة، واحتضانها الحرمين الشريفين، قبل أي دولة أخرى. لكن المؤسف جدا أنه لم يحتل قرار ترامب بشأن القدس حيزا يستحقه في خطبة الجمعة اليوم 8 تشرين الأول في الحرمين الشريفين، بينما تصدّر الموضوع خطب الجمعة في العالم الإسلامي كافة، بما فيه إيران، وبينما أطلق كبار علماء الشيعة في المنطقة مواقف رافضة، لم نسمع ما يشفي الصدور ويسمن ويغني من الجوع من علماء السعودية.

وليس غريبا اليوم أن تركز إيران باعتبارها دولة إسلامية على عروبة القدس، ولكن الغريب هو هرولة قوى ودول في المنطقة العربية نحو التطبيع مع "إسرائيل"، والمسعى لإقناع الرئيس محمود عباس باستبدال أبوديس كعاصمة بالقدس، فلولا هذا الخذلان لما تجرأ الرئيس الأمريكي أن يقدم على فعلته الشنيعة هذه، وهذا ما زايد به وزير الخارجية الإيراني على خصوم بلده، بقوله أنه لو لا تلك السياسات الخاطئة لبعض الحكام في المنطقة لما كنا نواجه اليوم هذا الصلف الأمريكي الذي يحاول وعد من لا يملك لمن لايستحق، كما يقول.

لذلك مهما كانت الخلافات مع إيران على القضايا الإقليمية، فموقفها الداعم لفلسطين، محل تقدير، والمطلوب اليوم أن تتوحد كلمة الجميع مسلمين ومسيحيين في مواجهة العنجهية الترامبية لما تحمل القدس من رمزية لدى الكل، وفي حال ظل الإصرار على وضعية العداء، فذلك أيضا يستدعي من هذه القوى أقوى المواقف لنصرة القدس وفلسطين، وليس التخلي عن ذلك وترك الساحة.

الخلاصة أن الإدارة الأمريكية سحبت بقرار رئيسها حول القدس، البساط من تحت أقدام أعداء إيران، وزادت من أوراق الأخيرة الإقليمية، بعد أن قبرت بهذا القرار عملية التسوية والمبادرة العربية للسلام المرفوضة إيرانيا، وجعلت المقاومة الخيار الأوحد في مواجهة التحديات، فجملة هذه التطورات تُفقد خصوم إيران أوراقها واحدة تلو الأخرى، وتشكل فرصة ثمينة للمحور الإيراني لتغزيز نفوذه، وتحسين صورته المتضررة بفعل الأحداث في المنطقة، ولاسيما سوريا خلال الأعوام الماضية.

ثم على القوى المتحالفة مع الإدارة الأمريكية، والتي تتعرض لإهانات بهذه الطريقة الفجة، مراجعة سياساتها بعد استخلاص دروس وعبر من سلوك واشنطن وسياساتها الشرق أوسطية، التي بقدر ما حصدت منها هذه القوى الخيبات والفشل، حصت إيران الانجازات والنجاح بفعل تحرير سياساتها من المؤثر الأمريكي.

ولعل هنا من الجدير النظر إلى رسالة بعثها مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايك بومبيو" إلى الجنرال الإيراني الأكثر نفوذا في المنطقة "قاسيم سليماني" قبل فترة، استجدى فيها الأخير عدم اقتراب القوات الإيرانية من القوات الأمريكية في العراق وسوريا، لكي لا يشكل ذلك حرجا للولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم، بسبب عجز الأخيرة عن المواجهة، أقله في الوقت الحاضر.

فجاء رد سليماني الصاعق على الرسالة، بتجاهلها، وإعادتها عبر الوسيط دون أن يفتحها، وهذا ما اعترف به بومبيو بقوله إنه لم يحزن على ما فعله الجنرال سليماني.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٧
فيلق القدس في كل مكان إلا القدس

توجد قوات "فيلق القدس" التابعة للحرس الثوري الإيراني على أصعب الجبهات، في سورية والعراق واليمن ولبنان، فقط لدينا استثناء صغير: القدس.

لقائد الفيلق، الجنرال قاسم سليماني، أساطير عديدة، كرسالته المتفاخرة إلى هاتف القائد الأميركي باتريوس، أو تركه رسالة اعتذار في منزل مهجور أقام فيه، وله ظهورات عديدة تمتد من حلب إلى الموصل إلى حمص، لكن كل أساطيره وظهوراته غابت عن مكان واحد: القدس.

يرفع الحوثيون في كل لحظة شعاراتهم "الموت الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"، لكن هذا يحدث على كل حجر في اليمن، لا القدس. أما السيد مقتدى الصدر فقد دعا السعودية إلى "توجيه التحالف الإسلامي إلى القدس فوراً"، لكنه في المقابل لم يخبرنا لماذا لا توجه إيران تحالفها أيضاً إلى القدس؟

على الجانب الآخر، تحدث "خليفة المسلمين"، أبو بكر البغدادي، للمرة الأولى والأخيرة عن فلسطين في 2015، "قريباً باسم الله تسمعون دبيب المجرمين.. وستكون فلسطين مقبرة لكم"، لكن جيوشه وذئابه ظلت تضرب في كل مكان في العالم من فرنسا إلى بلجيكا، ومن أميركا إلى أستراليا، من دون أن تصل إلى القدس.

ينتهي إصدار لتنظيم القاعدة في اليمن بوعد القدس والأقصى بأننا "قادمون"، على الرغم من أن كل أحداث الإصدار تظهر أنهم قادمون إلى تعز أو البيضاء أو عدن، لكن بالتأكيد ليس القدس.

الظاهرة ليست جديدة. دعا معمر القذافي الحجاج المسلمين عام 2000 إلى الزحف نحو القدس، من دون أن يزحف هو معهم بالطبع. أنشأ صدام حسين أيضاً "جيش القدس" في 2001، ونظم استعراضات عسكرية مهيبة لآلاف الجنود الذين لم يحاربوا في القدس أبداً. ما أكثر رافعي قميص القضية. الوصفة سهلة: قُل فلسطين ثم وجه بندقيتك إلى أي اتجاه آخر. الطريق إلى القدس التفافي دائماً، يجب أن يمر عبر بغداد أو القاهرة أو دمشق، لكنه أبداً لا يتبع الطريق المستقيم بزعمهم.

سابقاً كان يُقال إنه لا شعب أو تنظيم يمكنه تحمل الكلفة الفادحة لصدام حقيقي مع إسرائيل، لكن اليوم في ضوء سقوط مئات آلاف القتلى وخراب الدول بالفعل، يتساءل المرء عن سبب الاستعداد لتقبل الثمن الهائل هنا بكل جنون وعبث، بينما يُرفع صوت العقل هناك.

قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس يأتي في إطار السياقات نفسها. صحيح أن السياسة، في التحليل الأخير، هي تعبير عن موازين القوى، والتي تشهد اختلالاً فادحاً بين كل الدول العربية والولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك يشمل القوى العلمية والاقتصادية أيضاً، لكن على جانب آخر مازال بيد جانبنا أوراق ضغط ليست هينة. لكن هذه الأوراق تصاب بالشلل، إذا كان المتحكّم بها يدين بسلطته لأسباب أخرى غير شعبه، أو للخوف من عدو أقرب. هكذا تتردد بلا توقف عبارة "كذا أخطر من إسرائيل"، وهذا الـ "كذا" قد يكون الطائفة المقابلة (الشيعة أو السنة)، أو الدولة المنافسة (السعودية أو إيران)، أو المعارضة السياسية الداخلية، وهكذا تنشغل كل فيالق القدس بأولويات أخرى غير القدس.

ذات يوم، كانت لدينا بذرة لفيالق قدس مختلفة. شباب الربيع العربي الذين تواصلوا من دون تخطيط، وتوحدت مشاعرهم من دون أوامر فوقية وقرارات رئاسية. كان الشباب المصري والسوري واليمني والتونسي يتضامنون ويحلمون. وشهدت مصر في 2011 مظاهراتٍ أدت إلى غلق السفارة الإسرائيلية وغياب السفير عن مصر بعدها نحو أربع سنوات.

كان حلم الديموقراطية العربية كفيلاً بإشراك الشعوب في إيجاد حلول أو أوراق ضغط يُدفع ثمنها تشاركياً، وكانت قدسية الإنسان ستطغى على قدسية الجمادات والشعارات. المنظومة متكاملة ومترابطة، يؤدي الاستبداد إلى الفساد والضعف الاقتصادي والعلمي والعسكري، وبالتالي الضعف السياسي، والعكس صحيح.

وإذا كنا وصلنا إلى هذه المرحلة الفجة من عبث فيالق القدس الرسمية، فهذا دافع أكبر للتمسك بفيالقنا الشعبية، ومحاولة بث الروح فيها، على الرغم من الهزيمة الأليمة للربيع.
وإذا كانت طرق القدس التفافية حقاً، فهي يجب أن تمر عبر الديموقراطية والكرامة الإنسانية. هذا هو طريق فيالق قدسنا الخاصة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم