بغض النظر عن الأسباب التي دفعت روسيا إلى تقديم الدعم الجوي لـ "قوات سوريا الديمقراطية" في ريف دير الزور الشمالي والشرقي، فإن رسالة الشكر التي وجهتها "وحدات حماية الشعب" الكردي لروسيا تحمل في طياتها رسائل سياسية تتجاوز مسألة العرفان بالجميل للدور الروسي.
لا يمكن فصل هذه الرسالة والصراحة المقصودة في شكر روسيا عن تطورين مهمين:
- الرئيس الأمريكي يخبر نظيره التركي عبر اتصال هاتفي، بأن البيت الأبيض أصدر أوامر بوقف إرسال شحنات إضافية من الأسلحة إلى المقاتلين الأكراد في سوريا.
- وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، يعرب عن توقعه بأن يتحول التركيز إلى الاحتفاظ بالأراضي بدلا من تسليح المقاتلين الأكراد، مع دخول العمليات الهجومية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا مراحلها الأخيرة.
يعني التطور الأول أن الولايات المتحدة بدأت بإعادة ترتيب علاقتها مع حليفتها التقليدية (تركيا)، ويعني التطور الثاني أن العلاقة بين واشنطن والوحدات الكردية في مرحلة ما بعد داعش، تختلف كثيرا عن مرحلة محاربة التنظيم. وإذا كانت مرحلة محاربة التنظيم تفرض إعطاء أولوية أمريكية للوحدات الكردية، فإن مرحلة ما بعد التنظيم تتطلب انفتاحا على القوى الاجتماعية كافة، وما يفرضه ذلك من إعادة ضبط سياسات القوة.
فهمت الوحدات الكردية الرسائل الأمريكية، وردت عليها برسالة مماثلة لا تخلو من شعور بفائض القوة. لا يقتصر الأمر على شكر روسيا فحسب، بل تجاوز الأمر إلى حد حماية الوجود الروسي على الأرض في دير الزور، وإجراء تفاهمات سياسية - اجتماعية - اقتصادية بين الطرفين في الشمال السوري، حيث تشهد النقاشات الكردية - الروسية تطورا مهما في الفترة الماضية، لجهة تشكيل مجالس إدارة مدنية تضم رؤساء العشائر ووجهاء وشخصيات اعتبارية، للتمثيل المباشر للعرب والأكراد وبقية المكونات العرقية والدينية في المنطقة، وفق مبدأ "الديمقراطية والإدارة الذاتية".
من مصلحة الوحدات الكردية أن تنسج علاقات قوية مع الروس، ليس فقط لموازنة العلاقة مع الولايات المتحدة مستقبلا، بل أيضا لضبط إيقاع الأتراك، فموسكو الأقدر على لجم تركيا في الشمال السوري.
بالنسبة لروسيا، يشكل التعاون مع الوحدات الكردية فرصة للتوصل إلى تفاهمات بينهم وبين النظام. وتحاول موسكو منذ فترة إدخال "حزب الاتحاد الديمقراطي" في العملية السياسية، ومنحه ضمانات في الحصول على حقوقه وفق ما هو متاح، مقابل تقديم الوحدات تنازلات جغرافية لصالح النظام في الرقة وريف حلب الشمالي والغربي، وبعض المناطق في ريف دير الزور الشرقي والشمالي.
وقد عادت محافظة الرقة وإدلب ومنطقة عفرين إلى الواجهة من جديد، مع التصريحات التي أطلقت من دمشق وأنقرة تجاه الوحدات الكردية، قبل أن تضع المعارك أوزارها في دير الزور.
لكن المشكلة التي يواجهها النظام السوري وتركيا - على السواء - مع "قوات سوريا الديمقراطية"، هي أنهما لا يستطيعان شن هجوم عسكري ضد هذه القوات من دون غطاء روسي، لا يمكن توفيره من دون التفاهم مع الولايات المتحدة، ولا يستطيعان بالمقابل ترك الأمور على ما هي عليه ورؤية الأكراد يعززون وجودهم العسكري والسياسي والإداري والديمغرافي في الشمال السوري.
تدرك روسيا جيدا أن الولايات المتحدة لن تسمح للوحدات الكردية باستثمار انتصاراتهم العسكرية سياسيا، أي لن تسمح واشنطن بإقامة فدرالية كردية. وعليه، تعتقد موسكو أن التعاون مع الوحدات في المرحلة المقبلة سيحقق للطرفين مكاسب كبيرة، ويسمح للأكراد بالانفتاح على المحور الروسي.
وقد ظهرت بوادر الخلاف الأمريكي مع الأكراد جلية في الآونة الأخيرة، حين طلبت واشنطن تسليم الإدارات المحلية التي يسيطر عليها الأكراد إلى العرب والعشائر المحلية في حلب والرقة ودير الزور، وفي حال نفذ الأكراد ذلك سيجدون أنفسهم محاصرين في بقعة جغرافية ضيقة.
والحل الأفضل بالنسبة للوحدات الكردية يأتي من البوابة الروسية لا الأمريكية؛ لأن مناطق السيطرة الكردية محاصرة من قبل المحور الروسي (النظام في الجنوب، تركيا في الشمال)، وعقد صفقة مع موسكو تتخلى الوحدات بموجبها عن بعض الأراضي، مقابل حصولها على امتيازات اقتصادية في بعض المناطق يعد الحل الأمثل.
وعلى الرغم من كل ذلك، من المبكر الحديث عن تغيير في طبيعة التحالفات القائمة بين مختلف الفرقاء، في ضوء قرار الولايات المتحدة الإبقاء على حضورها العسكري في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وهذا أمر يتطلب استمرار التحالف الأمريكي/ الكردي.
كما أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتخلى عن الورقة الكردية، وكل ما تريده هو أن يغير الأكراد استراتيجيتهم بما يتناسب مع طبيعة المرحلة؛ التي سيكون لها قواعد عمل جديد من شأنها أن تعدل من التحالفات القائمة دون أن تلغيها.
تعتمد القيادة في طهران وبشكل متزايد على المؤسسة العسكرية في مواجهة المشاكل الداخلية المتنامية إلى جانب العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها دولياً؛ بغية إطالة فترة المكوث على رأس السلطة لأطول مدة ممكنة. ويَـبْرُز هذا الاعتماد الكبير على المؤسسة العسكرية لدى المرشد علي خامنئي من واقع اجتماعاته الثلاثة الأخيرة في غضون أقل من شهر مع قادة الجيش، والتي عكست تضاعف هيمنة المؤسسة العسكرية على هياكل السلطة داخل النظام الإيراني الحاكم.
ومن علامات هذه الهيمنة كان قرار خامنئي بمطالبة رئيس الأركان الإيراني المُعين حديثاً الجنرال محمد حسين باقري بأن يتسلم قضايا التعاون الرئيسية مع روسيا وتركيا بشأن سوريا؛ مما يوحي باستبعاد الرئيس حسن روحاني وحكومته بعيداً عن هذا الملف الحساس. ولقد أطلق الجنرال باقري مشروعاً طموحاً لإقامة تحالف عسكري واقعي مع تركيا، والعراق، وباكستان، مع إسناد خارجي أكيد من الجانب الروسي، في تناقض مباشر مع آمال الرئيس روحاني المُـعْـرَبِ عنها مراراً وتكراراً للتودد إلى والتواصل مع القوى الغربية.
ومن العلامات الأخرى أيضاً كان قرار خامنئي بكتابة رسالة شخصية موجهة إلى الجنرال قاسم سليماني، وهو الرجل المكلف ملف «تصدير الثورة الإيرانية» من خلال فيلق القدس الذي يقوده وغيره من أفرع «حزب الله»، الخاضع لإمرته، في كل من لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
وفي تلك الرسالة، نسب خامنئي الفضل للجنرال سليماني في «تدمير» خلافة «داعش» المزعومة، وكلفه بمهمة متابعة الاستراتيجية الأكثر عدائية في مواصلة تحقيق «الانتصارات الأخيرة» في بقية ربوع المنطقة. ومرة أخرى، فإن تعليمات خامنئي تُسقط من حساباتها تماماً المزاعم المتكررة من جانب روحاني بأن إيران تسعى جاهدة لإنهاء حدة التوترات المشتعلة في الدول المجاورة.
ويبدو أن مقدار الإهانات التي سددها خامنئي إلى الحكومة الرسمية في بلاده لم تكن بالقدر الكافي؛ إذ طلب المرشد من المؤسسة العسكرية تولي مهمة توفير الإغاثة، وفي وقت لاحق، إعادة الإعمار في كارثة الزلزال الكبير الذي ضرب البلاد، والذي أسفر عن دمار هائل في خمس محافظات إيرانية.
والرسالة الضمنية، التي وجهها قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي عزيز جعفري، مفادها أنه عند التعامل مع حالات الطوارئ الكبيرة في البلاد فإن السلطات المدنية العادية هي أسوأ من لا شيء.
وللتأكيد على ارتفاع مكانة المؤسسة العسكرية في هياكل السلطة الإيرانية، أصدر خامنئي أوامره بزيادة كبيرة في ميزانيات الدفاع والأمن تقدر بنحو 14 في المائة مع زيادة هائلة في الإنفاق على تطوير جيل جديد من الصواريخ بمساعدة مباشرة من كوريا الشمالية. وهنا، أيضاً، يمارس المرشد الإيراني المزيد من سياسات القمع إزاء سياسات الحكومة الرسمية والمتمثلة في محاولات إقناع الاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة، بأن إيران قد هدّأت من وتيرة مشاريعها الصاروخية في إشارة إلى حسن النوايا تجاه مجموعة دول 5+1 التي أشرفت على صياغة الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة.
وأعلن خامنئي، خلال اجتماعه الأحد الماضي في طهران مع 52 من كبار قادة المؤسسة العسكرية الإيرانية، أن القوات المسلحة تمثل «طليعة الأمة» فيما سماه «انتصارات الثورة الإيرانية على كافة الجبهات». كما أنه قرر أن للجيش الحق الحصري الأول في رفض تجنيد «الأفراد من أرفع المستويات المؤهلة».
وقد يكون اعتماد خامنئي المتزايد على المؤسسة العسكرية من الخطوات التكتيكية الاستباقية.
لقد فقد نظام خامنئي الحاكم الكثير من قاعدته الشعبية المؤيدة، ومن واقع الحكم على تصاعد التوترات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية والتي صارت مشاهدة في جميع أنحاء البلاد، فقد بات النظام الحاكم ولفترة كبيرة متخذاً موقف الدفاع عن القضايا المحلية في مواجهة الانتقادات الداخلية المتزايدة. والسرد القديم للثورة التي تقوم مقام شخصية روبن هود في السرقة من الأغنياء لكفاية الفقراء قد فقدت بريقها وأصبحت في أدنى دركات الابتذال.
وتؤكد البيانات الرسمية في إيران أنه تحت حكم الملالي قد أصبح الأثرياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقراً. ويضيف الفساد المستشري في ربوع الأجهزة الحكومية، والذي غالباً ما تسلط وسائل الإعلام الحكومية الأضواء عليه في غير مناسبة، المزيد من السخط على المشاعر الشعبية بأن المسميات الجديدة، التي باتت راسخة الآن، تهدف إلى المزيد من سرقة الأمة وعلى نطاق أوسع. وخلال الأسابيع القليلة الماضية وحدها، تمكن 12 مسؤولاً حكومياً كبيراً من المتهمين باختلاس مبالغ مالية فلكية، من الفرار إلى النمسا وإلى كندا.
وأضافت معدلات البطالة المتزايدة، وارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة المحلية المزيد من الثقوب في أي سرد ثوري يتحدث عن أي نجاح مُحرز في القضايا والأمور ذات الاهتمام بالنسبة للمواطنين العاديين.
وبالتالي، فإن النظام الحاكم في طهران يحاول صياغة سرد جديد يستند إلى المزاعم بأن الإرهاب المتفشي في أجزاء كبيرة من العالم، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، بات أيضاً يهدد الداخل الإيراني، وأن النخبة العسكرية والأمنية في البلاد يمكنها حماية الأمة من أخطاره المحدقة.
وقال الجنرال حسين سلامي، الرجل الثاني في الحرس الثوري الإيراني بعد الجنرال عزيز جعفري: «إننا نقاتل بعيداً عن الوطن وعن حدوده؛ حتى لا نضطر يوماً إلى القتال داخل مدننا وقرانا».
ورغم ذلك، فمن غير المحتمل لهذا السرد، على المدى المتوسط والبعيد، أن يرجع بالنتائج المرجوة من ورائه؛ ففي أي دولة منظمة ومحكومة على النحو الصحيح، لا تكون القوات المسلحة «في صدارة وطليعة المواجهة» لجهود «تأمين» البلاد، فضلاً عن إبقائها على قيد الحياة، فإن «الخطوط الأمامية» في غالب الأحيان تتألف من القوة الدبلوماسية، والرسوخ الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، والجاذبية الثقافية. وبعبارة أخرى، فإن القوات المسلحة الوطنية لا تعمل في الفراغ الداخلي، لكن في السياق الأوسع من الواقع الاجتماعي والسياسي الحقيقي. وفي هذا السياق، أصبحت إيران اليوم أكثر ضعفاً من أي وقت مضى منذ أربعينات القرن الماضي. وينتظر خامنئي من المؤسسة العسكرية أن تملأ كافة الفراغات، وتسد كافة الثقوب التي ظهرت نتيجة لعقود طويلة من الفشل السياسي والاقتصادي، وهذا الأمر بمنتهى البساطة يفوق طاقتها على الاحتمال والفعل.
وقد يُجانب المرشد الصواب كذلك في قضية أخرى. ففي أي دولة، تتطور مؤسسات الدولة المتنوعة على المستوى نفسه تقريباً، فلا معنى لوجود مؤسسة عسكرية تتسم بالامتياز مع الخدمات المدنية، أو القضائية، أو الاقتصادية من الدرجة الثالثة. والنظم الحاكمة التي تولي جُل تركيزها واهتمامها للمؤسسة العسكرية فحسب لا تنجح أبداً في إنجاز أي شيء جدير بالاستحقاق لما وراء النجاحات العرضية العابرة.
وإسبرطة القديمة من أبرز الأمثلة على ذلك، ولقد كانت مثالاً على أعلى تصنيف عسكري مسجل في العالم القديم، غير أنها تلاشت من ذكريات التاريخ، في حين أن أثينا القديمة، ذات الجيوش الوطنية المتهالكة، قد تجاوزت كل الإمبراطوريات التي عاصرتها، الفارسية، والمقدونية، والرومانية، والبيزنطية، واحتلت مكانة بارزة في التاريخ بأكثر مما احتلته إسبرطة. ومن الأمثلة الأخرى أيضاً، القائد العسكري الفذ نابليون بونابرت الذي أشعلت آلته العسكرية الهائلة النيران في مختلف ربوع أوروبا بيد أن حياته انتهت بالإذلال والموت في المنفى. ومن منا لا يتملكه الإعجاب الكبير بعملية «بارباروسا» التي أطلقتها جيوش ألمانيا النازية ضد الجيش الأحمر السوفياتي في عام 1941؟ لكن كانت النتيجة النهائية تحول العاصمة النازية «برلين» لأكبر كومة من الأطلال والأنقاض عرفها التاريخ الحديث.
وفي الحالة الإيرانية الراهنة، يلعب خامنئي، وربما هو يتلاعب بالورقة العسكرية بغية تلبية أسباب سياسية ضيقة النطاق في وقت لا تواجه فيه إيران أي تهديد عسكري واقعي يعرّض الأمن القومي وسلامة البلاد لأخطار حقيقية. إن قرع طبول الحرب قد يثير المشاعر لبرهة من الزمن، لكن، بمرور الوقت، يتكشف خواء الطبول وتتلاشى أصواتها الخرقاء.
أي مصير للقدس ولفلسطين يمكن الأمل به في ظل تسليم الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسته حيال القضية لصهره جاريد كوشنير، الذي اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو النومَ في فراشه منذ كان الأول فتى صغيراً، بحكم العلاقة العائلية؟
في ظل رئاسة ترامب، يصلح وصف «بئس المصير» على العلاقات العربية- الأميركية أيضاً، مهما كانت المراهنات الخيالية التي برزت عند بعضهم خلال السنة المنصرمة، على أن يدفع ساكن البيت الأبيض عملية السلام إلى الأمام في عهده. فكوشنير سبق أن أبلغ الرئيس الفلسطيني محمود عباس في آخر لقاء معه كمبعوث سلام، أن عليه أن يُقلع عن تكرار تسمية الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية بما فيها القدس، على أنه «احتلال». أسقط مفهوم كوشنير لدور واشنطن في المفاوضات على الوضع النهائي للقدس والأمن والمستوطنات والحدود، هذا الدور قبل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. المقدّمات في موقف واشنطن كان من الطبيعي أن تقود إلى إعلان الرئيس الأميركي ما أعلنه.
ليس ترامب وحده الذي يتحمل مسؤولية تلك المقدّمات. سلفه باراك أوباما نفسه وعد عام 2008 مع انتخابه، بوقف الاستيطان الإسرائيلي، ثم تراجع بعد سنة وقال للرئيس عباس بكل بساطة: «لم أتمكن من تنفيذ هذا الوعد». فالتغاضي الأميركي عن الاستيطان الإسرائيلي منذ عشرات السنوات، في المناطق التي يُفترض أن تخضع للتفاوض، يسوّغ تسليم القدس إلى الاحتلال. وبكل بساطة، علينا أن نتذكر ما يقوله بعض الناشطين اليهود من أجل السلام، ومنهم يوري أفنيري، من أن واشنطن هي التي كانت على الدوام، وفي كل المحطات المفصلية التي مرّت في عمليات التفاوض على السلام، تتراجع عن فرضه، حتى عندما كان يظهر بين حكام تل أبيب من لديه قابلية لتقديم تنازلات.
الإدارات الأميركية المتعاقبة أرادت إبقاء الفلسطينيين وسائر العرب خاضعين لمبدأ الحاجة إلى دورها في المنطقة، مقابل التوسع الإسرائيلي والحاجة إلى التسلح. تفوّق إسرائيل وضعف العرب وسيلتُها للحفاظ على نفوذها وسيطرتها.
والأنكى أن ترامب أقرن قراره نقل السفارة إلى القدس بتحذير الأميركيين من السفر إلى المدينة المقدّسة والتجوّل فيها، مدركاً سلفاً أن خطوته ستعرّض مواطنيه لمخاطر أمنية، على رغم وصفه بأنه الجاهل بتاريخ المنطقة.
سنسمع الكثير من التبريرات والدعوات إلى التريّث العربي في ردود الفعل، والتي لا تقدّم جواباً فعلياً على السؤال حول ما سيفعله العالمَان العربي والإسلامي ردّاً على خطوة ترامب بعد الإهانة التي تعرّضا لها. وهي تبريرات شبيهة بالتي سبقتها منذ عام 1947، داعيةً إلى انتظار تعديل في السياسة الدولية، بالمراهنة على الضغط الأوروبي. ماذا ينفع التفسير القائل إن ترامب احتاج إلى الخطوة من أجل التغطية على وضعه الحرج بسبب التحقيقات في الكونغرس حول تواطئه مع التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي قادته إلى رأس السلطة، فيسترضي اللوبي اليهودي للدفاع عنه وتعطيل الهجوم الداخلي عليه؟ وماذا ينفع التحايل على الغضبة الشعبية ضد قراره استناداً إلى أنه ضد القانون الدولي؟ أو بالعودة إلى التاريخ للقول إن اليهود لم يحكموا القدس سوى 73 عاماً قبل الميلاد طوال تاريخها الذي بدأ منذ أكثر من خمسة آلاف سنة؟ أو بالعودة إلى أسلوب تخدير هذه الغضبة الشعبية عبر الإيحاء بأن القرار لا يُلغي إمكان اعتماد القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية؟ فاختلال ميزان القوى المستمر، جعل من العرب تلك «الظاهرة الصوتية» غير الفاعلة إزاء كل الإجراءات الإسرائيلية.
وفي كل الأحوال، أمعن الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، في التفرّج على الصراعات العربية تتفاقم، وفي تغذية الصراع العربي- الإيراني الذي استفاد منه الجموح الإيراني نحو الهيمنة الإقليمية. وبات من الصعب توقّع وحدة الموقف العربي والإسلامي لمواجهة القرار الأميركي، ما سيُخلي الساحة لجيل جديد من الإرهاب القابل للتغذية بشتّى الحجج والشحنات الأيديولوجية والدينية، مع الإعلان عن القضاء على «داعش» في سورية والعراق.
قرار ترامب أثمن هدية لإيران، مع إعلان ريكس تيلرسون أمس، أن إيران تقوم بأعمال شريرة لزعزعة استقرار المنطقة، بقدر ما هو هدية لإسرائيل في ظل التشرذم العربي والإسلامي. وبالقدر الذي تتطلع واشنطن إلى اكتفاء العرب بوقوفها معهم ضد طهران، فإن الأخيرة ستبرّر سياستها الهجومية المستمرة على الصعيد الإقليمي، بمظلة مقارعة أميركا وظلمها للفلسطينيين، مرة أخرى. وها هي تحشد قواتها في الجنوب السوري مجدداً من أجل المزيد من التوسّع في بلاد الشام، لتثبيت نفوذها، ردّاً على القصف الإسرائيلي لقواعدها ومعامل الأسلحة التي أقامتها...
يواجه الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مخاض كبير في مرحلة مفصلية من حكمه بعد أن اقتربت ولايته من النهاية، في الوقت الذي يغوص فيه أكثر في المستنقع السوري إن صح التعبير وبات في مواجهة مباشرة مع شعبيته التي تتراجع أمام منافسيه في الانتخابات، نظراً لرفض الشارع الروسي ما تقوم به القوات الروسية من قتل وتدمير في سوريا بحجة "محاربة الإرهاب" وكذلك الخسائر الكبيرة التي منيت بها روسيا خلال عامين وثلاثة أشهر من بدء تدخلها لصالح نظام الأسد ضد شعبه.
تصريحات بوتين اليوم في زيارة مفاجئة للقاعدة الروسية في حميميم والتقائه برأس النظام بشار الأسد على عجالة، قبل زيارات رسمية يقوم بها بوتين إلى مصر وتركيا، وما صدر عنه من قرارات ببدء سحب القوات الروسية من سوريا ما هو إلا فقاعات إعلامية لأهداف وأجندات سياسية، يريد بوتين أن يستثمرها في هذا الوقت لمآربه وهو في الحقيقة يكرر تصريحاته السابقة قبل عام عن سحب القوات الروسية وما حصل فعلاً هو زيادة القوات والغوص أكثر في القتل والتشريد.
يقف بوتين اليوم بعد إعلانه عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها عام 2018، ينافسه أكثر من 10 أشخاص منهم سياسيين ورجال أعمال وفنانين يراهنون على أوراق كبيرة ضد بوتين الذي أعلن ترشحه كمستقل لا كمرشح عن حزب "روسيا الموحدة"، في الحملة الرابعة له، سيكون ملف تدخل القوات الروسية في المستنقع الروسي أكبر التحديات أمامه كذلك ملف كأس العالم الذي ستستضيفه روسيا في دورته لعام 2018 ضمن البطولة الحادية والعشرين من كأس العالم لكرة القدم تحت رعاية الاتحاد الدولي لكرة القدم، والتي يشترط ألا تكون الدولة المستضيفة في حالة حرب وهذا التحدي الثاني لبوتين.
شهدت الأشهر الماضية حراك روسي كبير على مختلف الأوساط للتوصل لحل سياسي سريع للقضية السورية والخروج منتصرة من المستنقع السوري قبل المخاض الرئاسي وعت لمؤتمر سوتشي أو ما عرف بمؤتمر الشعوب السورية، كذلك أجرى الرئيس بوتين اجتماعات مكثفة مع حلفائه وأصحاب القرار في الشأن السوري تركيا وإيران، ودعمت اجتماعات الرياض 2 وأدخلت منصة موسكو ضمن وفد التفاوض، كل هذا الحراك للانتهاء من القضية السورية بأسرع وقت.
وفي وسط هذا الحراك بات السؤال اليوم عن مدى جدية بوتين في تنفيذ تصريحاته على الواقع وسحب القطعات الروسية التي تزيد يومياً في قاعدة حميميم والعديد من القواعد التي تتمركز فيها القوات الروسية والخبراء الروس في حلب وتدمر وريف حماة ودير الزور، والتي لن تتعدى حد التصريحات والمماطلة في الخروج لحين انتهاء الانتخابات وبعدها يكون القرار عاد لبوتين في حال فوزه على منافسيه، ولكن هل تنفع هذه التصريحات بوتين وتنقذه من المستنقع السوري الذي ورط نفسه وقواته فيه.
كانت روسيا طوال عامين ونيف من العدوان على الشعب السوري شريكاً حقيقياً للأسد ونظامه في قتل الشعب السوري في 30 أيلول عام 2015، جربت عشرات الأنواع من الصواريخ والطائرات بشكل عملي في قتل المدنيين العزل، وتدمير البنى التحتية، بصواريخ متنوعة منها خارقة للتحصينات والارتجاجية، تشهد مدينة حلب وعشرات المدن والقرى السورية على هذا التدمير الممنهج الذي مورس لأكثر من عامين ولايزال.
أكثر من 5233 مدنياً، بينهم 1417 طفلاً، و868 سيدة خلفتها الغارات الروسية خلال عامين من التدخل، وارتكبت 251 مجزرة، كما سجَّل بحقها 707 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، منها 109 على مساجد، و143 على مراكز تربوية، و119 على منشآت طبية، كما استخدمت الذخائر العنقودية ما لا يقل عن 212 مرة، و الذخائر الحارقة ما لا يقل عن 105 مرة معظمها في محافظة حلب، كما قتلت 47 شخصاً من الكوادر الطبية، بينهم 8 سيدات، إضافة إلى 24 شخصاً من كوادر الدفاع المدني، و16 من الكوادر الإعلامية، كما تسببت في تعرُّض ما لايقل عن 2.3 مليون شخص للنزوح هرباً من عمليات القصف والتدمير، بحسب "الشبكة السورية" فهل يخرج بوتين من سوريا وينشق عن الأسد ...!؟
يتكرر قرار الانسحاب الروسي من سوريا، للمرة الثانية خلال العامين والربع الفائتين، لكن بمشهد مختلف بشكل تماماً، بعد أن تربعت روسيا على عرش المشهد السوري وباتت صاحبة القرار النهائي بالحرب الدائرة في سوريا.
بين 15-3 العام الفائت و 11-12 هذا العام، اختلفت مساحات السيطرة وتضاعفت ثلاث مرات، وبات الوضع تحت السيطرة بشكل شبه الكاملة وغياب المنافس على الأرض، بعد سلسلة التسويات الداخلية و قائمة الاتفاقات الثنائية والثلاثية والتي كانت روسيا في جميعها المحور المركزي فيها ابتداء من الجنوبي فمحيط دمشق وصولاً إلى إدلب.
إعلان بوتين اليوم سحب قواته الرئيسية من سوريا، هو جزء من الخطة التي من الممكن أن توصل المركب إلى حيث رسمت روسيا، وهي بحاجة لهذا التصرف لتظهر بمظهر الملتزم بالاتفاقات و الوفاء بالوعود، لاسيما مع حلفاء مضاربين كتركيا وايران، هذا المظهر يتطلب الغياب عن المشهد وترك المختلفين لتصفية الحسابات على الأرض.
وبالعودة إلى قرار "بوتين" اليوم، فإن ربطه بالقرار السابق، يدفعنا لاستذكار "حلب" التي خسرناها حينها، واليوم تقف إدلب في ذات المكان، فروسيا ملتزمة باتفاقاتها مع تركيا بحماية إدلب، وبنفس الوقت وعدت إيران بنصيب وافر هناك، فقرار الانسحاب يخلص روسيا من الالتزام اتجاه الطرفين "تركيا- ايران"، وأي تصرف يصدر عن أي منهما لن يراجعوا به روسيا، أو يحتكموا إليها.
إدلب في نظر الإيرانيين هدف مستساغ ومباح، وفق تصريح مستشار خامنئي "علي أكبر ولايتي" الذي توعد إدلب، سبقها زيارة مريبة لرئيس الأركان الايراني إلى الحدود الإدارية لإدلب، وآخر التمهيدات كان اليوم مع حديث قائد لواء "القبعات الخضر" في الجيش الايراني - (قوات خاصة التي سبق وأن خاضت تجربة فاشلة في ريف حلب الجنوبي فيما عرف حينها بـ"مقتلة خلِصة") - عن نية الأعداء مواجهة ايران، في إشارة لسوريا.
أما تركيا التي لانية لها أن تكون وجهة لما لا يقل عن مليوني لاجئ جديد في حال تعرض إدلب ومحيطها لهجمات.
قد يكون الإنسحاب اليوم هو لإتاحة المجال لرسم المشهد النهائي مع إنتهاء آخر المعارك في إدلب.
يتداول بعض أطياف المعارضة ووسائل الإعلام اسم فاروق الشرع، النائب السابق لرئيس النظام السوري، كرئيس لمؤتمر سوتشي، المزمع عقده في شباط (فبراير) المقبل برعاية روسية، بعد توافقات تركية وإيرانية. ويأتي هذا التداول المبكّر في سياق حملة ترويجية للمؤتمر، على رغم عدم وجود ما يؤكد موافقة صاحب العلاقة أو رفضه، وهو الذي كان اختار الصمت مبتعداً عن أروقة العمل السياسي، كحال كل المبعدين من القيادات السابقة في سورية، سواء أولئك العاملين ضمن منظومة قيادة حزب البعث الحاكم، أوحتى في مجالات العمل التنفيذي، الذي لا يفصله عن العمل الحزبي سوى خيط وهمي غير مرئي لكثير من السوريين.
ترشيح الشرع أتى من كل من المعارضين خالد محاميد نائب رئيس وفد المعارضة حالياً، وهيثم مناع رئيس تيار «قمح» (الرئيس المشترك السابق لـ «مجلس سورية الديموقراطية»، التحالف العربي- الكردي)، خلال اجتماع ضمهما مع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف ومبعوث وزير الخارجية الروسي للتسوية في الشرق الأوسط سيرغي فيرشينين منتصف الشهر الماضي في موسكو، في محاولة منهما لطرح اسم شخصية تمكن المراهنة أو الإجماع عليها خلال المرحلة الانتقالية، بعد تعذّر قدرة المعارضة على فرز شخصية منها تجمع عليها كل أطيافها، وفي الوقت ذاته يمكنها أن تكون إحدى شخصيات النظام، التي لم تنغمس في الحرب المعلنة على الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي انطلقت من درعا، المدينة التي ينحدر منها الشرع، في آذار (مارس) 2011.
بيد أن المراهنة على صمت النظام ورئيسه حيال هذه التسريبات والأخبار المتداولة يعيدنا إلى البحث في الأسباب التي أدت فعلياً إلى إزاحة الشرع من منصبه، رغم ما كان يتميز به من مكانة لدى نظام الأسد (الأب والابن)، حيث بدأت أوساط النظام تتساءل عن موقفه الحقيقي من الثورة بعد اللقاء التشاوري الذي ترأسه في فندق «صحارى» (قرب دمشق)، في 10 تموز (يوليو) 2011، وأعلن خلاله أن سورية مستعدة للانتقال إلى دولة تعددية ديموقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة، وبالمشاركة في صياغة مستقبل سورية، وجهر آنذاك بالموافقة على مقترحات بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري، التي تلغي حكم البعث لسورية، وهو الأمر الذي بدّد على ما يبدو مكانته لدى النظام لأنها جاءت إعلانا مسبقاً وضع النظام وقتها، في حرج ولم يعد أمامه إلا التعامل مع هذا الوعد، ما قاده إلى إعداد دستور جديد (2012) ألغى من خلاله هذه المادة، ولو نظرياً، لكنه في المقابل كبّل السوريين بمواصفات رئاسية تتطابق على شخص رئيسه، بحيث تعيد له من جديد حق الترشح لمرتين متتاليتين بدءاً من عام 2014، وهو ما بات يدافع عنه النظام بإصرار، كما شهدنا خلال الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدعم من حليفتيه روسيا وإيران.
وعلى رغم عدم تعاطي النظام إعلامياً مع مؤتمر سوتشي، الذي تتبناه روسيا، ومع ما يحيط به من شائعات، ومنها رئاسة الشرع له، إلا أن وفد النظام استخدمه ضمنياً كفزاعة في وجه المعارضة، التي بدأ يملي عليها شروطه، التي وصلت إلى حد مطالبته لها بسحب بيان الرياض2 من التداول، معتبراً أن ما جاء في هذا البيان حول مصير الأسد «شرط مسبق ومرفوض»، في الوقت الذي تجتهد فيه المعارضة للحفاظ على شعرة معاوية لإبقاء العملية التفاوضية قائمة في جنيف خوفاً من أن يصبح سوتشي ممراً إجبارياً للتفاوض مع النظام.
يستنتج من ذلك أن نظام الأسد يريد أن تأتي صياغة وثائق المعارضة بحسب المقاس الذي يناسب خطته لمجرد الحوار، وليس للتفاوض، وأن خياراته لا زالت مفتوحة، بسبب الدعم اللامحدود من حلفائه الذين يزدادون مرحلة إثر مرحلة، بانتقال الصراع على الملفات، من ملف الصراع السياسي بين المعارضة والنظام إلى ملف المصالح الإقليمية لدول الجوار، ومن تحالف أصدقاء الشعب السوري إلى عداواتهم البينية، واللعب على خلافاتهم لمصلحة انتزاع أدوارهم، ومن التكامل لمصلحة القضية السورية إلى التنافس عليها وتبديد عنصر قوتها.
على ذلك فإن محاولات التعطيل التي يقوم بها وفد النظام في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدفعها إلى مواضيع جانبية بعيداً عن متطلبات عملية التفاوض الحقيقية، وعن البحث في متطلبات الانتقال السياسي وأدواته، التي تنظم هذه العملية وتأخذها نحو الغايات المرجوة منها، تأتي ضمن خطة واضحة لكسب مزيد من الوقت، ينهي خلالها النظام عملياته العسكرية على الأرض، وخاصة في الغوطة الشرقية، لإعادتها تحت سيطرته، وإعلان خريطة جديدة لمنافذه الحدودية بعد تفاهمات روسية وكردية جديدة في شرق سورية. أي أن النظام يتعامل على الأرض مع خطة بديلة، تلتف على المفاوضات وتجعلها من دون معنى، وهي خطة يتوخى أن تقود ختاماً إلى إعادة معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته (ومنها دير الزور التي أعلنت قوات سورية الديموقراطية تبعيتها لها) إلى سيطرته لاحقاً ضمن اتفاقيات منفردة بعيداً عما يجري في جنيف الآن.
هكذا، فإن الحديث عن مشاركة كردية واسعة في مؤتمر سوتشي، مثلاً، رغم الاعتراض التركي عليها، لا يزال ممكناً، مقابل أن تحصل تركيا على ضمانات روسية بأن تكون هذه المشاركة لإعلان شكل الدولة السورية الجديدة، التي تنهي حلم الحكم الذاتي للأكراد، بينما تمنحهم في ذات الوقت مشاركة سياسية مضمونة دستورياً، وتهيئ لحكم لامركزي مفتوح الخيارات لاحقاً.
في مقابل كل ذلك تجد المعارضة نفسها أمام أكثر من تهديد بتصدّع موقفها، وذلك: أولاً، نتيجة إعلان توحيد صفوفها (غير المتكامل بعد)، والذي لم يأخذ وقته ليتحول إلى شراكة سياسية حقيقية تدافع عن وجودها بمزيد من التوافقات والتفاهمات، بدل التلويح بتفاوت المواقف تجاه قضايا رئيسية، مما يجعل من مؤتمر سوتشي كعصا الراعي بيد بعضهم، ضد بعض آخر، حيث لا تفيد هذه العصا في وقت تعم فيه الفوضى، وهي في الوقت ذاته لا بد منها لتجميع المخاوف في مكان واتجاه واحد. ثانياً، بسبب موجة الغضب الشعبي الذي يواجهها الوفد التفاوضي، المشكّل من مجموع تلك القوى، والتي يعتبرها معارضو الوفد قوى متفاوتة في مطالب الثورة وسقوفها، وهو ما يزيد من مخاوف انخراط المعارضة في قبول مؤتمر سوتشي، كأحد الحلول لمواجهة تصدّع الوفد المعارض وانهيار مشروعه المشترك. ثالثاً، بسبب التغيرات السريعة والمتلاحقة في مواقع الدول وتحالفاتها بعضها مع بعض، وبينها وبين النظام الذي يتغير موقعه من عدو إلى حليف أو شريك لحليف في مكان آخر.
اعتراض النظام على وثيقة المعارضة، وعرقلة ما يسعى إليه الوسيط الدولي بإحداث خرق في حائط مسدود على مدار خمس سنوات من بدء العملية التفاوضية، وتحويلها من مشاورات مع الأمم المتحدة إلى مفاوضات مباشرة بين خصمين في قاعة نزال سياسية، هو أيضاً، من وجهة نظر النظام، بمثابة «مفاوضات»، يحصد نتائجها جولة إثر الأخرى، ويعيد الصراع بينه وبين المعارضة إلى ما قبل الثورة، وليس إلى مربعها الأول، وهو صراع بين سلطة مستبدة تمتلك عوامل بقائها، ومعارضة منزوعة القوة والأسباب لا يترك لها سوى سوتشي بالرعاية الروسية، كمآل أخير لبعض إصلاحات وبعض سلطة في ظل هيمنة الأسد وبقاء نظامه، سواء قبل بإعطاء دور للشرع، أو لم يقبل.
كشف خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الثلاثاء، أمام كتلة حزبه في البرلمان أنه لن يكون من الممكن وضع العلاقات التركية الأمريكية حتى في إطار التوتر المسيطر عليه.
السفير الامريكي المنتهية ولايته في أنقرة جون باس صرح حول حبس موظف القنصلية الأمريكية بأن تركيا تسعى بهذه الخطوة للانتقام، وهذا ما أثبت أن الصدع في علاقات الجانبين عميق جدًّا.
وضعت الولايات المتحدة أنقرة أمام مشهد لا صلة له بمقتضيات الشراكة الاستراتيجية في الملف السوري والمحاولة الانقلابية والتعاون مع وحدات حماية الشعب.
سعت أنقرة لخفض التوتر في كل قضية على حدة، بيد أنها كانت تستشعر قدوم العاصفة في قضية زرّاب. وأدركت مرة أخرى أن "الحرب الدبلوماسية" مع بلد كالولايات المتحدة لن تسفر عن نتائج لصالحها.
في مواجهة أردوغان تقف إدارة أمريكية صبت الزيت على نار المحاولة الانقلابية منتصف يوليو، وهي مصممة على محاسبة تركيا على التحالف مع روسيا وإيران وعملية الباب في سوريا، ومتفقة مع الاتحاد الأوروربي بشأن التضييق على تركيا.
لا شك أن أنقرة ارتكبت أخطاء سواء في قضية زرّاب أو الملف السوري، لكن ذلك لا يغير حقيقة أن الولايات المتحدة تنكأ جراح تركيا.
وفي هذه الظروف جاءت رسائل أردوغان في خطابه المذكور، شديدة اللهجة، ومما لا شك فيه أن العبارات التالية لم تأتِ عن عبث:
- ليس لدى تركيا خطة ضد الولايات المتحدة لكن من الواضح الآن أن أمريكا لديها خطة ضدنا. وصلت إلى شمال سوريا عربات مصفة وأسلحة وذخيرة على متن شاحنات تراوح عددها ما بين ألفين وثلاثة آلاف. أين ستستخدمها أمريكا؟ ضد إيران أو تركيا، أو إذا تجرأت ضد روسيا.. نحن مجبرون على فعل ما يلزم.
- كيف لنا أن نقبل تعاون حليف لنا مع الإرهابين، يضعهم تحت حماية قواته فقط من أجل عرقلة العمليات العسكرية التركية؟
- عند الجلوس إلى طاولة المباحثات يقول هذا الحليف إنه "يضع النقاط الحساسة في الاعتبار"، لكنه يمارس شتى أنواع الخيانات على الأرض، فكيف يمكننا إقامة مستقبل مشترك مع هذا الحليف؟ تصرفنا بعناية شديدة حتى اليوم من أجل عدم إلحاق الضرر بعناصر القوات التي نعتبرها صديقة، لكن استمرار ذلك متعلق بمراعاة المسائل الحساسة بالنسبة لنا.
- القضية في الولايات المتحدة (قضية زرّاب) لا علاقة لها بالقانون أو التجارة من قريب أو بعيد. المراد منها هو تشتيت الانتباه، لتسريع إنجاز المشروع المناهض لتركيا في سوريا والعراق.
- هذه القضية هي مشروع خاص بمجموعة تنتمي للإدارة الأمريكية.
- من الآن فصاعدًا لن ننظر إلى الأقوال، وإنما إلى الأفعال على الساحة.
رسائل أردوغان هذه تعلن بدء مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين.
قامت السياسة الروسية في سورية على الخنق والاحتكار، فسعت، من دون كلل أو ملل، إلى حصار كل من يقول لا لنظام الأسد عسكرياً وسياسياً ومعنوياً.
في الجانب الأول، حوّلت سورية إلى حقل تجارب لأسلحتها، وأسقطت على أرضها وشعبها ما فاق ما أسقط من قنابل في الحرب العالمية الثانية ست مرات، وتجاوز عدد السوريين الذين قتلتهم روسيا العشرة آلاف، وضاعفت مناطق سيطرة النظام جغرافياً.
سياسياً، حمت روسيا نظام الأسد داخلياً وإقليمياً ودوليا. داخلياً بترتيب "مصالحاتٍ" عبر التفاعل مع من كانوا تحت الحصار، وبنسج علاقاتٍ مع فصائل مقاومة للأسد، بذريعة حمايتهم، كونها صاحبة دكان "خفض التصعيد". إقليمياً، بابتزاز كل قوة إقليمية تدعم المعارضة عبر استغلال حاجتها أو توتر علاقاتها مع قوى أخرى، أو بإشراكها ضامنا كما حدث مع تركيا.
ودولياً، استغلت إدارة الظهر الأميركية للقضية السورية ومنهجية "التكتكة" التي اتبعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، لتصل إلى احتكار الملف السوري والتحكّم بمسيره.
وزادت على ذلك حماية مطلقة في مجلس الأمن، مستخدمة حق النقض (الفيتو) 11 مرة، لحماية منظومة الأسد من الإدانة. هذا إضافة إلى حصارها المبعوث الأممي وضبط إيقاع أدائه.
معنوياً، لم تترك روسيا فرصةً لنسف مصداقية المعارضة، إلا واستغلتها إلى أبعد حد، بداية ببعثرتها، والمساهمة بإيجاد ما سميت "منصات" عبر "دحش" تلك المنصات في قرار مجلس الأمن الدولي 2254، مستخدمة ذلك ذريعة لتطعن بأهلية التمثيل للمعارضة، ولم يكفها ذلك، بل ابتدعت محطة أستانة، لتجعل منها منصةً لتحقيق ما ذكره القرار عن "وقف إطلاق النار"، ولكن بشكل مشوه، ليبدو وكأن الوصفة الأنجح والواقعية لمناطق تقسيم على خطوط الواقع، الأمر الذي حمل تهديداً وحصاراً من نوع جديد للمناطق المحرّرة وأهلها.
بعد كل هذا الإطباق العسكري والسياسي والمعنوي على الجبهة المضادّة لمنظومة الاستبداد الأسدية كان لابد لروسيا من ترجمة "منجزاتها" إلى ثمرة سياسية، تعيدها إلى صاحبة قولٍ فصل في السياسة العالمية، تدفعها إلى ذلك استحقاقات روسية داخلية، تتمثل باقتراب استحقاق رئاسة بوتين الرابعة لروسيا، وحدث مباريات كأس العالم في روسيا الصيف المقبل. ومن هنا، تراها متوترة ومستعجلة لجني الثمار من سياسات الخنق والحصار المنتهجة في سورية.
ينعقد مؤتمر الرياض 2 الذي صرحت بأنها تشجعه، والأمل يحدوها، على ما ثبت، بأن يتفجّر أو يخرج هزيلاً، ولكن مخرجاته ربما صدمتها. فها هو مؤتمر الرياض يسحب ورقة تبعثر المعارضة، ويخرج ببيان ما توقعت أن يكون سقفه بهذا الارتفاع، وتحضر المعارضة جنيف 8 بوفد واحد، وأداء متميز عالي المهنية. ويقابل ذلك أداءٌ أخرق غير مسؤول لوفد من تحميه وتحصّنه، لتسقط إحدى دعائم الحصار الروسي للثورة والمعارضة.
من هنا، وبعد تقويض أحد أهم أعمدة الحصار الروسي هذا، لا بد من التفكير باستهداف أعمدة الحصار الأخرى عبر استراتيجيةٍ تأخذ نقاط الارتكاز التالية في منهجيةٍ تفضي إلى حصار الحصار الروسي ذاته. أولها الاستفادة من حالة الاستعجال والتوتر الروسي في جني ثمار ما فعلت في سورية، والسعي إلى تعميق تضارب المصالح الروسية الإيرانية في سورية، باستغلال التوتر الخفي بين البلدين، وخصوصا إحساس إيران بأن روسيا تحتكر الملف السوري لنفسها، على الرغم من كل ما استثمرته إيران في الحالة السورية. ويُكتفى، هنا، بذكر عناوين عناصر تلك الاستراتيجية المضادّة لقوى الثورة والمعارضة في مقاومة الهيمنة والحصار الروسي للقضية السورية:
أولا، البداية من التصدي لمؤتمر سوتشي الذي أرادته روسيا ورقةً احتياطية مراهنةً على فشل مؤتمر المعارضة "الرياض 2"، واعتبار سوتشي "مصالحةً كبيرة مهينة"، "ودمل جرح على زغل" خارج إطار الشرعية الدولية، وحرف للمسار الأساسي في جنيف، لإيجاد حل للقضية السورية.
ثانيا، إحياء دور أصدقاء سورية وتعزيزهم، والاستفادة من مواقفهم الرافضة مؤتمر سوتشي، والملتزمة مسار جنيف.
ثالثا، لا بد من العمل مع تركيا ضامنا في محادثات أستانة على ربط حضورها بعدم حضور "سوتشي"، أو الموافقة عليه، تحت يافطة أنه ليس إلا وضع العربة أمام الحصان، وأن الحوار الوطني في تسلسله في إيجاد حل سياسي في سورية يأتي بعد انتقال سياسي، يكون الأمان قد حل نسبياً في سورية.
رابعا، في مقابل مؤتمر سوتشي، لا بد لقوى الثورة والمعارضة من السعي الفوري إلى عقد مؤتمر وطني لتلك القوى، كي يظهر أن ما يمكن أن تفعله روسيا في سوتشي ليس إلا تجميعاً لمنسجمين، حسب مواصفات الأسد في حديثه عن "مجتمع متجانس". وفي المؤتمر الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، لا بد من تجلي الحضور الذي وجد في "الرياض 2" بكل أطيافه، إضافة إلى الذين وقفوا موقفاً سلبياً من المؤتمر، وبذلك يبرز طيف من المعارضة ينهي كل تلك المحاولات الروسية الخلبية في سوتشي وغيرها.
أخيراً، لا بد من لملمة الأمور العسكرية للفصائل، بالعودة إلى الاستفادة من آلاف الضباط المنشقين الذين حيّد دورهم، والبحث عن أدوات مقاومةٍ إبداعيةٍ لإعطاء وهج جديد لمقاومة منظومة الاستبداد ومن يحميها.
نسب إلى قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، وبالصوت والصورة، أنه قال خلال الحرب العراقية – الإيرانية: «عداؤنا ليس جديداً، لقد قدمنا تضحيات لكسر شوكتهم وكبح جماحهم وتدمير أمجادهم المزعومة... نحن نقاتل من أجل هدف سام وكبير... نحن نقاتل من أجل استعادة إمبراطورية لم يبق منها سوى الأطلال... نضحي ونقاتل لكي لا يبقى شبر من أرض فارس ولا ساعة تحت سيطرة أناس يسكنون الصحارى... إن الأهم هو بسط النفوذ الإيراني وليس هزيمة العراق». والمعروف أنَّ صاحب هذا الكلام الآن مستشار في حكومة العراق.
وبالطبع فإن هذا كان قد قاله الخميني وغيره من كبار المسؤولين الإيرانيين قبل حرب الثمانية أعوام العراقية – الإيرانية، وخلالها وبعدها، ثم عندما يصدر عن طهران الآن ورسمياً أن إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت هدف أن يكون لها ممر بري يربطها بشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ألا يعني هذا أنَّ الإيرانيين - والمقصود هنا هو الحكومة والمؤسسة المذهبية وليس الشعب - يسعون فعلاً لاستعادة ما يسمونه «أمجاد فارس»، والسيطرة إنْ لم يكن على الدول العربية كلها فعلى «المشرقية» منها، أي بلاد الشام والعراق واليمن والخليج العربي كله؟!
كنا قد سمعنا في وقت مبكر، يعود إلى ما قبل الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وفتح أبوابه على مصاريعها للإيرانيين، بعد إلغاء دولته و«فرط» مؤسساته، وحل جيشه وأجهزته الأمنية، عن تباهي كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين وجنرالات عسكريين، بأنه قد أصبح لهم هلال فارسي، أطلقوا عليه وصفاً مذهبياً، يبدأ باليمن ويمر بكثير من دول الخليج العربي، الذي يصرون على أنه خليج فارسي، وصولاً إلى العراق وسوريا وإلى لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، وهنا فإن ليس أغلب الظن فقط؛ بل المؤكد، أنه لولا إنشاء التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية وتصديه للأطماع الإيرانية ولحلفائها المحليين في اليمن، لقام هذا الهلال الفارسي فعلياً، ولكانت هذه المنطقة مجالاً حيوياً إيرانياً، ولتم استكمال هذه الدائرة الجهنمية. ولهذا فإننا قد سمعنا ولا نزال نسمع تبجح كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين، بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت ممرها البري الاستراتيجي بالوصول إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا، أنه كما صمت الأميركيون والروس والإسرائيليون، ومعهم الغرب الفاعل والمؤثر كله، على هيمنة إيران على العراق وسوريا ولبنان، ومحاولات هيمنتهم على اليمن، فإنهم يصمتون الآن عن محاولات التمدد الإيراني في المنطقة العربية كلها، ما منها في آسيا وما منها في أفريقيا، والمعروف أن دولة الولي الفقيه التي تستخدم العمامة السوداء لاستعادة ما تسميه أمجاد فارس القديمة، قد حاولت ولا تزال تحاول، وقد حققت بعض النجاحات في استخدام بعض المكونات المذهبية «التفتيتية» و«التمزيقية» التي غدت تعتبرها جزءاً من العائلة الطائفية التابعة لها، لتحقيق، إنْ لم يكن كل، فبعض تطلعاتها في هذه المنطقة، ومع التأكيد هنا على أنَّ المقاومة الفعلية التي تواجهها هي مقاومة الشيعة العرب الذين استيقظ وجدانهم القومي - العروبي، كما في العراق في الجنوب، وفي الفرات الأوسط.
والدليل على هذا هو «انتفاضة» اليمن الأخيرة التي جاءت رداً على تمادي الإيرانيين في السعي لتحويل الحوثيين، وأيضاً المذهب الزيدي، المعروف باعتداله ووسطيته، وباقترابه من المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، إلى حزب فارسي، وعلى غرار ما تم في العراق من خلال ميليشيات «الحشد الشعبي»، وفي سوريا من خلال كل التنظيمات الطائفية المستوردة حتى من أفغانستان وباكستان، التي أصبحت لها مستوطنات تشبه المستوطنات الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة وفي الضفة الغربية.
والمشكلة هنا أن هناك من يجد صعوبة في اعتبار أن الاحتلال الإيراني «الزاحف» في المنطقة العربية أخطر من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي هضبة الجولان السورية. وحقيقة إنَّ هؤلاء ينطلقون من منطلقات إسلامية لها كل التقدير والاحترام، لو أن إيران تتصرف بدافع إسلامي صادق، وليس بدوافع ثأرية وتوسعية فارسية قديمة، لا ينكرها حتى كبار المسؤولين الإيرانيين، وإلا ما معنى أن يقول قاسم سليماني هذا الذي تمت الإشارة إليه آنفاً؟! وما معنى أن يقول غيره إنَّ إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وإنّ إيران قد حققت «ممرها» البري الذي يربطها بشواطئ المتوسط الشرقية؟ ثم ما معنى أيضاً أنْ تواصل طهران سعيها الدؤوب لاستكمال هلالها الفارسي الذي تريده ممتداً من الحديدة على شواطئ البحر الأحمر، وحتى ضاحية بيروت الجنوبية على شواطئ المتوسط الشرقية، مروراً بالخليج العربي كله، الذي تصر على أنه خليج فارسي، وبالطبع مروراً بالعراق وسوريا؟
إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الدولة الإسرائيلية كيان معادٍ، وسيبقى معادياً إلى أن تتحرر فلسطين كلها، من البحر إلى النهر، ثم إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الحركة الصهيونية حركة استعمارية سابقاً ولاحقاً والآن، وفي المستقبل، فهذه مسألة محسومة ولا نقاش فيها، وهنا فإن المفترض أن تكون إيران إلى جانب الأمة العربية في صراعها التاريخي مع الدولة الصهيونية المحتلة، وهو صراع سيبقى مستمراً ولن ينتهي إلا بتحرير آخر ذرة من تراب فلسطين؛ لكن وهذا يجب أن يقال: «ما كلّ ما يتمنى العرب يدركونه»، والمشكلة أن هذه الدولة الإيرانية تتصرف تحت تأثير ثارات «فارسية» قديمة، وأنها تسعى الآن لاحتلالٍ في هذه المنطقة كالاحتلال الصفوي للعراق، الذي تواصل بكل ثقله وعنصريته لسنوات طويلة.
ربما هو صعب؛ بل هو في غاية الصعوبة أن تكون هناك مقارنة بين الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث ولـ«عربستان»، والآن للأربع عواصم العربية التي يفتخر الإيرانيون بأنهم باتوا يسيطرون عليها، وبين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ لكن ما العمل ما دامت هذه هي حقائق الأمور، وحقائق الأمور هي أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي.. نعم أشد خطورة من احتلال إسرائيل؛ لأنه مصحوب بأبعاد مذهبية وطائفية وعقائدية، ولأنه مزق وسيمزق الجزء الشرقي من العالم العربي مذهبياً وطائفياً، ولأنه انطلق وينطلق من الاستناد إلى بؤر سعت هذه الـ«إيران» إلى تحويلها إلى ألغام موقوتة، وهذا مع الاعتزاز بأن هناك صحوة وجدانية قومية عروبية في العراق وفي اليمن، وبالطبع في سوريا ولبنان.
إن إسرائيل دولة محتلة، فهذا لا نقاش فيه إطلاقاً، وهي ستبقى معادية للعرب ما دامت تحتل ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين؛ لكن المعروف أن احتلالها لا يقترن بأي أبعاد «عقائدية» ومذهبية، كما في بعض الدول العربية التي تستند إلى بعض ضعاف النفوس في الكيانات الطائفية في هذه الدول، وكما هو الوضع بالنسبة لإيران، ولذلك فإننا نجد أننا مجبرون على اعتبار أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي الذي هو زائل لا محالة، وسواء طال الزمان أم قصر!!
كنت في زيارة إلى القنصلية اللبنانية بمدينة جدة تلبية لدعوتها التي تلقيتها بمناسبة زيارة وزير الصحة اللبناني إلى السعودية، وكانت فرصة للالتقاء من الشخصيات اللبنانية وكم كان لافتاً السؤال المكرر الذي تلقيته طوال الليلة، وهو لماذا أنت غاضب وعاتب علينا؟ قلت لهم في كل مرة أنا لست غاضباً، لكن من حرصي على لبنان قلت وأعيد ما قلت، بلدكم محتل ومختطف من قوى الشر وتوجيه السهام المعادية باتجاه السعودية، وهذا عندي وعند السعوديين جميعاً خط أحمر لا يُسمح بالاقتراب منه.
هنا كان يأتيني الرد الساذج والسطحي: «ونحن ماذا نستطيع أن نفعل؟ نحن مغلوبون على أمرنا». هذه الأصوات السلبية هي نفسها التي تعطي وتمنح قوة الشر في لبنان الشرعية والجدارة والمصداقية بامتياز بلا جدال.
قال لي صاحب هذا السؤال: بماذا تنصحنا؟ قلت له: إنكم تتعاملون مع حسن نصر الله وكأنه غاندي أو نيلسون مانديلا بينما المفروض على أن يعامل كإرهابي! قال لي: لم أفهم قصدك. قلت له: دعني أوضح لك؛ الحكومة المصرية في حقبة التسعينات الميلادية الماضية سلكت أسلوب «المراجعة» مع الجماعات الإرهابية والمتطرفة؛ لأنها اعتقدت أنها تواجه جماعات وأفراداً ضل فكرهم وانحرفوا، وبالتالي استوجب الأمر مواجهتهم بالخطاب الديني الوسطي والسوي، وهذا البرنامج أتى بنتائج مهمة ومميزة، وأدى إلى عودة العديد من الجماعات المنحرفة والضالة إلى الطريق السوية، وكذلك الأمر في السعودية التي أسست مراكز للمناصحة، وأقامت مراكز فيها للحوار مع الجماعات المتطرفة المنحرفة، وأدى ذلك إلى عودة الكثيرين إلى جادة الصواب وطريق الحق بعد أن تمت مواجهتهم بالأدلة والبراهين بأنهم على ضلالة، وأيضاً تكرر هذا الأمر بالأسلوب نفسه في تونس والجزائر والمغرب للجماعات المتشددة المنحرفة، وأتى بنتائج إيجابية للغاية.
حسن نصر الله و«حزب الله» جماعة منحرفة وضالة فكرياً في حاجة إلى أن تتم مواجهتها من قِبل كبار علماء المذهب الذين لا يعترفون بولاية الفقيه، وهم الأغلبية الساحقة في المذهب نفسه، ومعاملته على أنه ضل الطريق وصاحب فكر إرهابي متطرف وفي حاجة إلى علاج ومناصحة وبرنامج إعادة تأهيل.
كان ردي صادماً ومذهلاً لمن طرح علي السؤال؛ فما كان منه إلا أن صاح وقال: «شو عم تحكي»؟ قلت له: لم أقل إلا ما أراه مناسباً. إنكم تعاملون مجرماً وإرهابياً على أساس أنه شخص جدير بالثقة؛ وبالتالي سيستمر في التمادي بتجاوزاته دون أن يحسب لأي أحد أي اعتبار، ولا يرسم حداً لأي علاقة. جرّبوا المناصحة مع حسن نصر الله وقيادات «حزب الله» الإرهابي؛ لأنه هكذا يتم التعاطي مع المجرمين والخارجين عن النظام والقانون.
تركت الصديق وهو يتمتم غير مصدق لما قلت. وقلت له: فكّر فيها!
يتابع خبراء البنتاغون بقلق ملحوظ تسرب روسيا والصين إلى شرق البحر الأبيض المتوسط والاقتراب من الخليج العربي، في الوقت الذي تدرس فيه مصر السماح لروسيا باستعمال أجوائها، واحتمال منح السودان قاعدة عسكرية لموسكو، إضافة إلى بدء التواجد الصيني في المنطقة القريبة من البحر الأحمر عبر قاعدة جيبوتي، التي دشنتها خلال الصيف الماضي.
وتتوالى المعطيات العسكرية المقلقة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط عموما، رغم تراجع أهمية المنطقة في مخططات المؤسسة العسكرية الأمريكية، لكن سرعة التطورات تبقى مفاجئة وغير مرتقبة. وتبرز مراكز التفكير الاستراتيجي الأمريكية هذا القلق في دراسات وأبحاث متتالية.
في هذا الصدد، لم يستوعب الأمريكيون حتى الآن مخططات تركيا، بزعامة الرئيس طيب رجب أردوغان بشراء منظومة الصواريخ المتطورة أس 400. ويسود الاعتقاد وسط دوائر صنع القرار العسكري في واشنطن بأن روسيا قد تكون حصلت على تسهيلات عسكرية غير معلن عنها مقابل هذه الصفقة. ومنطقيا، لا يمكن لروسيا توقيع صفقة ذات طابع تجاري محض مع تركيا بشأن الصواريخ، إن لم تكن قد حصلت على تسهيلات عسكرية وتنسيق استراتيجي، لأن موسكو ليست بحاجة إلى مبلغ ملياري دولار (قيمة الصفقة). في الوقت ذاته، صواريخ أس 400 من الأسلحة الاستراتيجية جدا، التي تعدل أو تقلب موازين القوى، وعليه، يخضع بيعها لشروط وتسويات تكون في الغالب سرية، لاسيما وأن تركيا تعتبر عضوا في الحلف الأطلسي. وعلاوة على صفقة الصواريخ لتركيا، لم يأخذ الكثيرون بعين الاهتمام زيارة رئيس السودان عمر البشير إلى موسكو منذ أسبوعين، واستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين له بشكل لائق للغاية، رغم ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية له. فقد رافق هذه الزيارة إعلان الخرطوم نيتها منح روسيا قاعدة عسكرية تطل على البحر الأحمر. ويأتي العرض السوداني إدراكا من هذا البلد بحاجة روسيا لقاعدة عسكرية تكون قريبة جدا من الخليج العربي، وتطل على المحيط الهندي، وتؤّمن لها حضورا مستمرا لضمان تواجد قوة وإمدادات في حالة نشوب أي نزاع في المنطقة. كما يأتي العرض السوداني في وقت ما زال الغرب ينبذ البشير ويصر على محاكمته، ولا يرغب في احتضانه من جديد.
وسيشكل توفر روسيا على قاعدة عسكرية على شواطئ السودان، بعدا استراتيجيا كبيرا للغاية، فستكون قريبة من قناة السويس وقريبة من الخليج العربي، وهذا يجعل منها دولة قادرة على التأثير في الملاحة العسكرية والتجارية الدولية، وتغيير الكثير من الموازين، فهي تتواجد بقوة في سوريا، خاصة في قاعدة طرطوس، وهذا يعني قربها من قناة السويس، وفي حالة تواجدها في السودان، سيجعلها تحضر في البوابة الجنوبية للقناة عبر البحر الأحمر، وفي الوقت ذاته، قاعدة عسكرية روسية في السودان سيترتب عنها التقليل من تأثير القواعد الفرنسية والبريطانية والأمريكية المنتشرة في المنطقة. وما يميز روسيا عن الولايات المتحدة، هو أنها عندما تقيم قاعدة عسكرية في دولة ما، فهي تحاول مد هذه الدولة بالصناعة العسكرية، ولو بشكل محدود لصنع الدخائر الحربية. وتهدف السودان من وراء القاعدة العسكرية، ضمان الدعم الروسي لتجنيب السودان التقسيم والتفتت مستقبلا، كما حدث مع الجنوب. ويتحدث الرئيس السوداني عمر البشير كثيرا هذه الأيام عن مخططات غربية لتقسيم السودان إلى دويلات. والمعادلة هي: قاعدة روسية يساوي تجنب التقسيم، لأن القاعدة العسكرية تعني الدعم السياسي الروسي في مجلس الأمن، كما تعني الدعم العسكري اللامشروط للحفاظ على الخريطة السياسية السودانية من دون تغيير. ومن ركائز الفكر الجيوسياسي الروسي حاليا هو عدم المس بالخرائط السياسية للدول، وتعلن موسكو معارضتها الشديدة للتقسيم، وتناهض مطالب الأقليات بالانفصال وتأسيس دول جديدة.
ودائما في إطار المعطيات الجيواستراتيجية الآخذة في التبلور وتستحق الاهتمام، يأتي الإعلان الروسي عن وجود مباحثات مع مصر من أجل استعمال سلاح الجو الروسي أجواء هذا البلد العربي. والإعلان عن هذا المعطى لا يعد استثنائيا، فقد رفعت مصر من صفقات الأسلحة الروسية خلال السنتين الأخيرتين، وكأن الزمن عاد إلى حقبة الناصرية، عندما كان الزعيم جمال عبد الناصر يقتني سلاحه من المعسكر الشرقي، وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي. وتسعى مصر إلى تقديم خدمات عسكرية لروسيا رغبة منها في الحصول على أسلحة متطورة من جهة، والحصول على الدعم الفني والتقني المناسب لتطوير صناعة أسلحتها، بعدما أدركت عدم مساعدة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لها في هذا الشأن.
هناك عاملان يساعدان روسيا في بلورة استراتيجية الحضور الجديد في الشرق الأوسط، الأول وهو قرار الولايات المتحدة الانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط لصالح منطقة المحيط الهادي، لاسيما بعد تحدي كوريا الشمالية، ومحاولة احتواء الصين. والعامل الثاني هو بدء الدول العربية العمل على تحالف قوي مع روسيا بعد ما تبين أنها لا تتخلى عن حلفائها الاستراتيجيين، كما نرى ذلك في الحالة السورية، حيث نزلت بكل ثقلها السياسي والعسكري، ليس محبة في الرئيس بشار الأسد، بل لكي تحافظ على وجودها في قاعدة طرطوس، فالأخيرة تؤّمن لها حضورا مزدوجا في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. ومقابل الثقة في روسيا، تراجعت ثقة الدول العربية في الولايات المتحدة، لهذا تحولت موسكو خلال سنة 2017 إلى مكة السياسية لعدد من الرؤساء والملوك العرب بمن فيهم العربية السعودية.
كأننا في دائرة متحركة ومغلقة، ندور في التصريحات الأميركية ذاتها، بينما يتابع السيد بوتين اختباراته السياسية والعسكرية عبر الدم السوري، محاولاً مبادلة حجم احتلاله العسكري في سورية بملفات أخرى. لكنه واقعياً ما زال يراوح في المكان ذاته سياسياً، بينما تتفرج الإدارة الأميركية الترامبية عليه ولا تريد التفاوض معه.
تاريخ بوتين السياسي وبنية سلطته المافيوية، على رغم امتلاكها حق الفيتو، عاجزان بالمعنى البنيوي عن إحداث أي نقلة سياسية في الوضع السوري. سلطته تريد إخضاع العالم أجمع لإرادة مافيا سياسية، وأن تظهر بمظهر القوة العظمى بينما تعجز عن كسب احترام أوروبي واحد يحترم نفسه، فأي حل سياسي يمكن أن يخترعه بوتين!
لا شك يستطيع السيد بوتين أن يطلّ علينا بألف شكل فوتوغرافي، راسماً عبوسه الرهيب أمام ملايين السوريين، ويستطيع أن يوقّع ما يشاء من معاهدات مع نظام دموي مرعب، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يجعله قائداً سياسياً، فالسياسة التي يتقنها الروس تستمد شكلها ومحتواها من تاريخ علاقتهم بالقمع والقتل وتجارة المافيات.
لا شك بأن حال عموم العالم سيء، ونحن محكومون بالقلق والخوف والرعب لا بالأمل، وحال سورية لا يمكن أن يتغير خطوة واحدة إلى الأمام ما دام بوتين ومعه الملالي يتحكمون بكامل الملف السوري، وما كراهية بشار الجعفري، الظاهرة عبر تصريحاته للشعب السوري، سوى إعادة إنتاج لوجهي بوتين والخامنئي سياسياً.
باختصار، يريد بوتين إعادة تجميل وجه النظام السوري ولا يمانع في دعم مهرجان سينما سوري بقيادة وليد المعلم والجعفري لمرافقة جولات التفاوض التي ستبقى بلا جدوى.
نعم بلا جدوى، ونظرة سريعة على تاريخ وصيرورة الطغاة أجمع تجعلنا نقول إن بشار الأسد ومعه من يدعمه لا يمكن لهم أن يعيشوا من دون حروب. وقبل الثورة السورية كان كامل الشعب السوري يعيش أيضاً في ظل حرب ولكن أحداثها كانت تجرى في أقبية الاستخبارات.
نريد أن نتفاءل، ولكن أعطوني سبباً واحداً للتفاؤل على المدى القريب، إذ يكفي أن تتمعنوا قليلاً في ما تفعله الإدارة الترامبية- الأوبامية في الملف السوري، لتعرفوا حجم الخسارات المقبلة.
أما عن وفد المعارضة السورية الموحد فيكفي أن نتفرج على أقوال السيد قدري جميل، وتسمية منصته لنعرف أي كوارث تتنظرنا.
لعل السوداوية السياسية في المشهد السوري مأخوذة من سوداوية المشهد في العالم أجمع، وأكبر شاهد على ذلك عدد المرات التي استخدم فيها بوتين الفيتو لحماية رأس بشار الأسد.
فواهمٌ من يعتقد أن موازين القوى على الأرض السورية هو ما يقود المفاوضات، لأنه بالمعنى السياسي سورياً لا توجد مفاوضات، كل ما في الأمر لعبة مافيات للضحك على العالم. نعم دعونا نتشاءم كثيراً ونبني رؤانا على تشاؤمنا، ذلك سيكون أفضل لنا سياسياً. نعم، نحتاج إلى المزيد من الصدمات لندرك أن هذه النظام لا يريد من التفاوض سوى إطالة عمره.
وتستمر المأساة للأسف.