من الواضح أن نظام الجمهورية الإسلامية لا يمتلك برنامجاً أممياً لتصدير الثورة على المنوال الذي وعدت به الامبراطورية السوفياتية في العقود الغابرة. وعليه فإن عواصم القرار الغربية لم تقلق يوماً مما قد تشكّله القوة الإيرانية المزعومة من خطر على أمن بلدانها الاستراتيجي، وأن رؤية باراك أوباما للوصول إلى اتفاق نووي مع طهران كان هدفه صدّ أي محاولة لكسر احتكار إسرائيل للامتياز النووي، بالتالي وقف الخيار العسكري الذي كان يلوح لتحقيق ذلك.
بيد أن إيران التي كانت تدرك الطابع المستحيل لأحلامها النووية، لم تكن تروم من ورشتها النووية إلا اعترافاً دولياً كاملاً يقرّ بها دولة كبرى في الشرق الأوسط ويقرّ بنظامها السياسي الحالي كثابتة نهائية في تاريخ إيران الحديث.
والحال أن قناة حوار أميركي- إيراني كانت فتحت في مسقط أسست بالنسبة لطهران لهذا الاعتراف. كان واضحاً أن واشنطن تقارب طهران من وراء ظهر عواصم المنطقة، لا سيما حلفائها في الخليج، بالتالي كان من حقّ إيران أن تفاخر بأن صلاتها بـ «الشيطان الأكبر» باتت تتم من فوق رؤوس أهل المنطقة، بما يدشّن شراكة فوقية تعيد منح إيران وظيفة «شرطي المنطقة»، على ما كان سائداً قبل ذلك في عهد الشاه.
لم تتطابق حسابات الحقل الإيراني مع حسابات البيدر. انتهت حقبة الحرب الباردة التي كانت تتيح لإيران أن تكون شرطياً مفترضاً لمنطقة تتنازعها أهواء الشرق والغرب. ولم تعد الأنظمة السياسية لدول المنطقة تابعة بالمعنى الأعمى لما تقرره كواليس القصور الدولية الكبرى. بدا أن بلدان المنطقة وخصوصاً في منطقة الخليج باتوا يجيدون التمرد على خيارات تحلّق فوقهم أو على سياسات تُمرر خلفهم. فإذا ما كان للتمدد الإيراني في بلدان المنطقة صدى الكبار في عواصم الكبار، فإن معاندة نفوذ طهران في كافة ميادينه خنق كل صدى وأعاده خافتاً إلى منابعه.
ليس في الأمر مبالغة حالمة. لم تعد طهران تتحدث عن سيطرتها على أربع عواصم عربية. توقف متغطرسو إيران عن اعتبار بلدهم إمبراطورية وهم عاصمتها. لم تعد إيران عاملاً يهدد أمن الخليج من الخاصرة اليمنية. ولم يبق لإيران إلا ميليشيات مذهبية يزورها قاسم سليماني في سورية والعراق، فيما تتشابك مصالح واشنطن وموسكو كما خطب الكرملين والبيت الأبيض على استشراف حقيقة أن انسحاب إيران من البلدين بات مسألة وقت، لأن ما بعد داعش لا يحتمل أوراماً كانت وراء ظهوره.
وإذا ما كابر المتكابرون في الاعتراف بهذا الواقع، فإن طهران لا تكابر وتدرك أمر ذلك تماماً. تعيد إيران استدراج العالم من جديد نحو طاولة مفاوضات معها، من دون غيرها، حول برنامجها للصواريخ الباليستية. تسعى طهران من خلال التهويل بصواريخها تحقيق ما فشلت في تحقيقه من خلال التهويل بقنبلتها النووية. يعرف أولو الأمر في إيران أن الحضور الإيراني في العراق وسورية واليمن ولبنان لم يعد ناجعاً لتحقيق هيمنة إيرانية لكنه ما زال فاعلاً لعرقلة وتخريب أية حلول وتسويات في تلك البلدان. بالتالي تدرك طهران أن عليها أن تدافع عن نصيبها في حقول المنطقة أو أقله تعظيم حجم ما يمكن أن تناله من أي تسوية مقبلة.
تعمل طهران وفق عدّة شغل باتت متقادمة. يخرج الجنرال محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني ليعلن للعالم أن مدى الصواريخ الإيرانية الذي يبلغ ألفي كيلومتر يمكن أن يغطي «معظم المصالح والقوات الأميركية» في المنطقة، ومن ثم فإيران لا تحتاج لزيادته.
ومحدودية المدى الصاروخي عائد، بحسب جعفري، إلى أنه يقوم على أساس ما أمر به المرشد علي خامنئي.
غير أن إعلاناً آخر من نائب قائد الحرس الثوري الإيراني هذه المرة جاء ليكشف الوجهة الجديدة للابتزاز الإيراني المقبل. لن تكون أوروبا بعيدة عن مرمى الصواريخ الإيرانية. هكذا يهدد العميد حسين سلامي. يقول: «حتى الآن نشعر أن أوروبا لا تمثل تهديداً لنا، ولذلك لم نزد مدى صواريخنا، ولكن إذا كانت أوروبا تريد أن تتحول إلى تهديد فسنزيد مدى صواريخنا».
الرسالة واضحة: تعالوا نتفاوض لكي تأمنوا شرنا. وقد يغري طهران ما يصدر عن عواصم الاتحاد الأوروبي من مواقف تؤكد الابتعاد من خيارات دونالد ترامب في مواجهة إيران. باريس ولندن وبرلين وغيرها متمسكة بالاتفاق النووي، وفي هذا ما يوسّع هامش المناورة لدى إيران. بيد أن ذلك التمرد الأوروبي على حرد واشنطن من الاتفاق النووي يتواكب مع تطوّر الموقف الأوروبي لمصلحة ذلك الأميركي في شأن البرنامج الصاروخي الإيراني.
فجأة يكتشف إيمانويل ماكرون أن الاتفاق النووي «لم يعد كافياً»، وأن على المجتمع الدولي مراقبة البرنامج الصاروخي لطهران. لا تريد إيران إلا ذلك.
الآن وبعد أن هزمت داعش في سوريا، هل ستوقف الحكومة الأمريكية دعمها لحزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكري وحدات حماية الشعب،الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني؟ وقد نوقش هذا السؤال خلال المكالمة الهاتفية التي أجريت أخيرا بين الرئيس، رجب طيب أردوغان، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني. وكان رد ترامب إيجابيا، مضيفا أن الدعم العسكري الضخم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى وحدات حماية الشعب كان ينبغي أن ينتهي من قبل. ولم تمض سوى بضعة أيام حتى أصدر البنتاغون بيانا يتناقض مع تصريح ترامب. فماذا يعني ذلك كله بالنسبة إلى سوريا وتركيا والعلاقات التركية الأمريكية؟
تظهر التصريحات المتناقضة الصادرة عن واشنطن التباينات داخل الادارة الامريكية الحالية. يمكن للمرء أن يفترض أن كلمة الرئيس نهائية، ويجب أن تمتثل لها الوكالات ذات الصلة. توقعت أنقرة أن توقف واشنطن دعمها العسكري والمالي والسياسي للفروع السورية لحزب العمال الكردستاني بعد هزيمة داعش في الرقة وبقية سوريا. وفي النهاية، كرر مسؤولون أمريكيون للسلطات التركية أن علاقتهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية حزب الشعب كانت "عابرة مؤقتة" وأن الأسلحة التي أعطيت لهم ستسترد.
وتستند السياسة الأمريكية الداعمة لجماعة مرتبطة بالإرهابيين في سوريا إلى الادعاء بأنها القوة الأكثر فعالية ضد داعش. ومن أجل تقديم مزيد من التبرير لذلك الادعاء، نشرت وسائل الإعلام الأمريكية عدة تقارير على مدى العامين الماضيين مع صور لفتيات مقاتلات في صفوف وحدات حماية الشعب. ومعظم هذه التقارير تبيض صفحة حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من الجرائم التي ارتكبوها في سوريا، بما في ذلك اضطهاد السكان المحليين، من الأكراد والعرب، والتهجير القسرى للسكان المحليين، والتغيير الديموغرافي، وتجنيد الأطفال، وتدمير القرى، وإغلاق الأحزاب السياسية المعارضة، ومكاتبها ووسائل الإعلام، فضلا عن كثير من الجرائم الأخرى.وذهبت هذه التقارير أبعد من ذلك، وتغزلت في إرهاب حزب العمال الكردستاني باستخدام صور النساء، وهي أداة ناجعة لبيع الدعاية للجماهير الغربية، ولكنها إهانة للجسد والشخصية الأنثوية. ومن بين المفارقات الكثيرة لهذه السياسة، هذه المفارقة المدهشة: أن حليف أمريكا الأفضل في سوريا هو منظمة إرهابية ماركسية لينينية تحارب تركيا، التي هي حليف رئيسي للولايات المتحدة، وتسعى إلى الحكم الذاتي والاستقلال النهائي في سوريا.
إن الادعاء بأن وحدات حماية الشعب هي القوة الأكثر فعالية ضد داعش لا علاقة له بالحقائق المطروحة على الطاولة. ولو كانت الولايات المتحدة قد قدمت الدعم إلى مجموعة أخرى مثل الجيش السوري الحر أو التركمان أو جماعات كردية غير حزب العمال، لصاروا القوة الأكثر فعالية ووجهوا ضربة قوية لداعش دون التسبب في أي مشاكل أمنية للدول المجاورة. وبدلا من ذلك، نبذت الولايات المتحدة جماعات المعارضة الأخرى واختارت العمل مع جماعة إرهابية ماركسية لينينية قومية انفصالية.
وهذه مسألة خطيرة ترتبط بوحدة أراضي سوريا وأمن تركيا القومي. هل ستكون الولايات المتحدة قادرة على نزع سلاح وحدات حماية الشعب والسيطرة عليه بعد هزيمة داعش وضمان التزامها بوحدة سوريا وسلامة أراضيها؟ هذا أمر مستبعد؛ لأن الولايات المتحدة تستخدم حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب لأغراضها الخاصة، مثلما يستخدمان هما أيضا الولايات المتحدة لمصالحهما.
أما اعتراض تركيا على هذه السياسة، فهو اعتراض مبرر تماما؛ لأن أي دعم يقدم إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب هو دعم غير مباشر، ودعم مباشر في بعض الحالات، لحزب العمال الكردستاني، ومن ثم فهو يشكل تهديدا للأمن القومي لتركيا. إن كل سلاح وكل رصاصة ترسل إلى وحدات حماية الشعب هو خطوة لإطالة عمر حزب العمال الكردستاني.
والآن وبعد هزيمة داعش في سوريا، يجب على الإدارة الأمريكية أن تنهي ارتباطها بحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وأن تركز على تأمين الوحدة السياسية السورية وسلامة أراضيها تحت مظلة محادثات السلام في جنيف وأستانا. وكما أعلنت جماعات المعارضة السورية في الرياض يوم 22 نوفمبر / تشرين الثاني، يجب على بشار الأسد الرحيل كجزء من عملية الانتقال السياسي، لأنه ليس الشخص الذي يضمن وحدة سوريا أو استقرارها. وإذا كانت إيران وروسيا تريان أن الأسد أفضل حليف لهما، فإن عليهما إدراك أن مصالحهما في سوريا لن تتحقق مع بقاء الأسد في السلطة.
ولكن ثمة قضية أكبر وأخطر في الوقت الحالي، حيث تتشكل في سوريا ما بعد داعش، لعبة جديدة للسلطة تتنافس فيها دول لتحقيق مكاسب استراتيجية وإقليمية في سوريا. تريد روسيا وإيران ضمان نفوذهما في سوريا بإبقاء الأسد في السلطة، بينما تستعد الولايات المتحدة للبقاء شرق نهر الفرات كقوة موازنة لهما. ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى صراعات جديدة وعدم استقرار في سوريا وخارجها. ومن المرجح أن يؤدي التدافع على سوريا إلى إثارة مزيد من التوترات الإثنية والطائفية، وتفكك سوريا، وإرساء الأساس للموجة التالية من التهديدات الأمنية المحتملة.
وبدلا من ذلك، ينبغي أن تركز جميع البلدان على التحول السياسي وتسليم الدولة السورية والأراضي إلى أصحابها الشرعيين، أي الشعب السوري. ومن مصلحة جميع أصحاب المصلحة العملُ مع الشعب السوري نفسه من أجل الوحدة السياسية والانتقال والاستقرار. إن تحويل سوريا إلى ساحة للمواجهة بين القوى العظمى لن يستفيد منها أحد.أن روسيا مع بعد الأسد وما بعد داعش يجب أن تكون سببا لاحتفال الشعب السوري وملايين اللاجئين بدلا من الدخول في مغامرة أخرى في مواجهة جيوسياسية مكلفة.
لا يمكن أن تضحي المملكة العربية السعودية بحق من حقوق الشعب السوري، وهي التي دعمت قضيته بقوة، منذ أن بدأت وساطاتها مع الأسد في بداية الاحتجاجات، وحاولت أن تقدم النصح والمعونة للنظام، كما فعلت دولة الإمارات لإيقاف العنف الذي تصدى به للتظاهرات السلمية حين قابلها بالقتل المبرمج، وحين لم يصغ النظام لكل من نصحوه، وقفت المملكة ودولة الإمارات وعدد كبير من أصدقاء سوريا إلى جانب الشعب الذي كان يشيع الضحايا بالعشرات ثم المئات، وبدأت بتقديم العون والإغاثة وتضميد الجراح.
ولم تتوقف المملكة العربية السعودية عن تقديم الدعم اللوجستي والسياسي في كل المحافل الدولية، وقد تجلى دعم المملكة ودولة الإمارات فيما وجدناه من رعاية مشتركة لمؤتمر الرياض الأول، وحين قدمت الهيئة العليا اقتراحها للمملكة بتوسعة الهيئة العليا وضم شخصيات وطنية سورية إليها، مع موافقة الهيئة على تمثيل منصتي موسكو والقاهرة، استجابت المملكة، وكانت هيئة المفاوضات تريد من هذا الاقتراح سد الذرائع، حيث بدأت دول صديقة فضلاً عن دول أخرى تدعم النظام، تتهم الهيئة العليا ووفدها المفاوض بأنه لا يمثل كل قوى المعارضة، وأن عليه أن ينفذ القرار 2254 الذي يذكر منصتي موسكو والقاهرة، وكنا في الهيئة قد دعونا المنصتين للمشاركة، لكنهما رفضتا، ولا ننكر أن دعوتنا للمنصتين كانت على أساس بيان الرياض 1 الذي تم رفضه من منصة موسكو، التي رأت في الحديث عن رحيل الأسد شرطاً مسبقاً، وهذا كان رأي روسيا وليس رأي المعارضة الوطنية التي تفهم أن الانتقال السياسي المنشود يعني إنهاء عهد الديكتاتورية وبدء عهد الديمقراطية، وهذا لا يمكن أن يتحقق بوجود نظام الأسد.
ومع بدء مؤتمر الرياض 2 ظن بعض المعارضين أن المملكة العربية السعودية تخلت عن مطلب الشعب السوري برحيل الأسد على رغم إعلانها أنها تدعم خيارات السوريين، وهذا ليس صحيحاً، فالمملكة لم تطلب من مؤتمر الرياض 2 أن يحذف إشارته الواضحة إلى ضرورة رحيل الأسد، وقد بقي رئيس وفد الهيئة العليا للمفاوضات ذاته رئيساً للوفد الجديد. وبقي في الهيئة عدد كبير ممن حضروا المؤتمر الأول، وهم اليوم المعنيون بالتمسك بمبادئ الثورة وأهدافها، ولا يملك أحد أن يضغط عليهم للقبول بما لا يرضي الشعب، ولكن السؤال الأهم: هل بوسع وفد الهيئة العليا السابق أو الراهن أن يفرض مطالبه على مجلس الأمن؟ الجواب الواقعي «لا» فالقرار 2254 يحمل في بنيته منافذ يستخدمها النظام و«دي مستورا» معاً فيما سمي الغموض البناء الذي صار معطلاً لإحراز أي تقدم في المفاوضات، فلا بد من أن يوافق الطرفان، ومحال أن يوافق فريق النظام على رحيل الأسد أو على الانتقال السياسي، وهذا يعني أنه لا بد من إرادة دولية تنشئ رؤية جديدة، وكنا قدمنا في الهيئة العليا السابقة رؤية عملية، تم إطلاقها في لندن ثم في الجمعية العامة، تقوم على القبول بالتشاركية مع من لم تتلوث أيديهم بدم من فريق النظام، ورسمنا سيناريوهات واقعية بالتفاصيل لهيئة الحكم المنشود، وللمجالس التي ينبغي أن تؤسس للبدء بتنفيذ القرار 2254، ودعونا منصتي موسكو والقاهرة للمشاركة بممثل أو ممثلين عن كل منهما، ولم نلقَ استجابة من المجتمع الدولي الذي اكتفى بالثناء على رؤية الهيئة، ولكنه كان يصغي لرؤية موسكو التي تصر على بقاء الأسد.
ولكن ما سمي بالمتغيرات الدولية التي تمت الاستجابة لها، هو من وجهة نظري سر لم يعلن بعد، وربما يكون هذا السر سبب قبول دول صديقة بتلبية الرؤية الروسية، ومن المؤكد أن اتفاقات مستقبلية مهمة قد تمت في لقاء بوتين مع الأسد في سوتشي، ثم في لقاء بوتين وأردوغان وروحاني في سوتشي أيضاً، وقد سبقت هذه اللقاءات مباحثات مهمة بين موسكو والرياض، وواكب ذلك لقاء بوتين وترامب في فيتنام والبيان المقتضب الذي أعلناه، فضلاً عن تصريحات تيلرسون المتكررة التي تصر على رحيل الأسد وعائلته.
ندرك أن بوتين دافع عن النظام بقوة غير مسبوقة، ولكنه يبدو مضطراً للانسحاب سريعاً من سوريا خلال شهور قليلة قادمة، فأمامه انتخابات في روسيا، ولا بد أنه يخشى صداماً مع الموقف الأميركي من إيران رغم التحالف، وليس بوسع بوتين أن يتحمل وزر إيران وطموحاتها التوسعية، ولا بد أن لديه سراً يخبئه نحو الحل الذي يريده في سوريا وانتصاراً آخر يعزز شعوره بنشوة النصر على «داعش» وقضائه على الإرهاب ليبرر أمام شعبه تدخله الأعنف في القضية السورية، ولن يتركه الأميركان القائد المتفرد في العالم، وهذا كله يعزز عندي وجود سر همس به بوتين لبعض القادة المعنيين مما دعاهم للتجاوب، وهم جميعاً يدركون أن بقاء الأسد يعني بقاء إيران و«حزب الله» وكل الميليشيات الطائفية وتصاعد الصراع، وبقاء المنطقة كلها في مهب الريح.
يمكن ألا يعلم البعض سبب تهنئة قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني لمرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي بـ"تحرير" مدينة البوكمال السورية، بالتزامن مع زيارة الرئيس بشار الأسد لسوتشي ولقائه الرئيس الروسي فلادمير بوتين.
استثمار حان حصاده
وقد يسأل البعض: لماذا قام الأسد بإرسال رسالة يبارك فيها الانتصارات الذي حققها جيش النظام السوري وحلفاؤه في حلب وجبهات أخرى منذ بضعة أشهر؟ ويجب على من يريد أن يحصل على جواب لمثل هذا السؤال أن يرجع إلى بداية اندلاع الأزمة السورية. ففي حينها كان الشارع السياسي الإيراني منقسما على اتجاهين:
الاتجاه الأول كان يرفض تدخل إيران في هذه الأزمة السورية، على أساس أنها فخ يُراد به جرّ رِجل إيران وحزب الله إلى حرب استنزاف، وبعد إضعافهم فإن الأميركان والإسرائيليين سينقضون على إيران وحزب الله، وعليه فيجب على إيران محاولة إيجاد صيغة لحل الأزمة بشكل سياسي، والحفاظ على قواتها العسكرية للدفاع عن بلادها.
وبالفعل إذا ما تابعنا مجريات الأحداث في سوريا فإننا نرى أن الخارجية الإيرانية اتخذت هذا الاتجاه، وبدأت محاولات للدخول في وساطات ومفاوضات مع المعارضة، والضغط على الحكومة السورية لإعطاء تنازلات كي يتم حل الخلافات عبر المفاوضات.
أما الاتجاه الثاني فكان يطالب بدخول إيران في المعركة بكل ثقلها، على أساس أن سقوط سوريا من شأنه كسر ارتباط إيران بحزب الله في لبنان مما سيفتح المجال أمام الهجوم على إيران. وفي حين كان الاتجاه الأول يحاول فض الأزمة بشكل سياسي؛ فإن الاتجاه الثاني كان عمليا قد دخل المعركة لمساندة جيش النظام سوري بشكل غير رسمي.
واحتاج الإيرانيون حوالي عام كي يقرروا الدخول في المعركة، وكان قرار مرشد الثورة حاسما بين الاتجاهين في البلاد؛ حيث قرر أن إيران يجب أن تدخل بكل ثقلها في المعركة دعما للأسد، وبالفعل فإن كل السياسة الإيرانية تمحورت -منذ ذلك الوقت- حول حفظ نظامه من الانهيار.
وبعد حوالي أربع سنوات من الحرب في سوريا؛ كانت دمشق على حافة السقوط ومعظم الأراضي السورية تحت سلطة المعارضة، وعزا الجميع في إيران السببَ إلى أن المعارضة تمتلك أسلحة نوعية وعددا هائلا من المقاتلين، في حين أن جيش النظام وحلفاءه يفتقرون إلى هذا العدد والعتاد النوعي.
وعليه فقد قام المرشد بأخذ قرار جديد يقضي بإرسال اللواء قاسم سليماني إلى روسيا وإقناع روسيا بدخول معركة سوريا، وبالفعل استطاعت إيران إقناع الروس بدخول المستنقع السوري بعد أن كانوا مترددين في ذلك، وقاموا بتأمين العتاد والغطاء الجوي الذي يحتاجه جيش النظام وحلفاؤه، بينما قامت إيران بتوفير وتدريب المقاتلين النوعيين، فجلبتهم من أفغانستان وباكستان وإيران والعراق ولبنان إضافة إلى السوريين.
وقد أدى هذا التحالف إلى تغيير وضعية جبهات القتال، بحيث أصبح جيش النظام يستطيع اليوم أن يتباهى بأنه يسيطر على نحو 90% من المناطق الآهلة بالسكان في سوريا. وهكذا؛ فإن إصرار قاسم سليماني على أن يكون حاضرا في البوكمال ليقوم بـ"تهنئة" المرشد من داخلها؛ كان لتأكيد أن قرارات المرشد بشأن سوريا وتضحيات إيران وحلفائها على الأرض، كانت هي السبب في إنقاذ الأسد ونظامه.
حتمية الحل السياسي
ورغم أن جيش النظام يتباهى الآن بالسيطرة على معظم الأراضي السورية؛ فإن المعركة في سوريا لن تنتهي دون الوصول إلى صيغة حل سياسي للحرب مع المعارضة.
إن استمرار المفاوضات والحل السياسي على أساس مرجعية مؤتمر جنيف لن يؤمن أهداف إيران وروسيا بإبقاء بشار الأسد في السلطة، لأن أحد قرارات هذا المؤتمر قضى بتنحي بشار الأسد عن السلطة بالتزامن مع بدء الفترة الانتقالية للسلطة، وعليه فيجب العمل على إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سوريا.
وفي حين كان الإيرانيون مصرّين على فرض الأمر الواقع على الأرض عسكريا، والاستمرار في مفاوضات أستانا لفرض صيغة حل سياسي؛ رأى الرئيس الروسي بوتين أنه آن الآوان لإيجاد صيغة جديدة للمفاوضات عبر مؤتمر وطني سوري شامل يُعقد في مدينة سوتشي، يخرج عنه قرار جديد للمرحلة المقبلة يغطي على قرار مؤتمر جنيف 1 ويكون أساسا جديدا للحوار بين السوريين.
وفي حين يرى الإيرانيون أنهم هم الذين أدّوْا الدور الأصلي على الأرض؛ فإن الروس يقولون إنه لولا دورهم العسكري والسياسي لما كانت هذه الإنجازات ممكنة، ولكي يُرضي الإيرانيين طرح الرئيس الروسي مشروعا لقمة سوتشي يتطابق مع المشروع الإيراني السابق الذي كان يتشكل من أربعة بنود، وهي:
1- وقف إطلاق النار في جميع الجبهات وبدء عودة المهجرين.
2- البدء في مفاوضات سورية/سورية لتشكيل حكومة ائتلافية.
3- يتسلم جيش النظام كل الأراضي السورية ويتم البدء في إعادة إعمار سوريا.
4- بعد انتهاء فترة رئاسة الأسد تقوم الحكومة الائتلافية بإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، يحق فيها للجميع -بمن فيهم الأسد- الترشح للانتخابات، وكل من يتم انتخابه يتسلم زمام الأمور في البلاد.
وعمليا؛ فإن الهدف من المؤتمر العام للمصالحة السورية الشاملة في سوتشي هو الخروج بصيغة جديدة لهذه البنود الأربعة بشكل آخر، حيث يعتبر الروس أن الظروف الحالية مواتية لفرض هذه الصيغة.
ومما شجع موسكو وطهران على ذلك؛ أن الأتراك -الذين يُعتبرون الجار الأكبر الداعم للمعارضة السورية- الآن في حالة استياء من سياسات الولايات المتحدة، وهناك انشقاق في الجبهة المقابلة للمعارضة السورية بسبب الأزمة الخليجية الراهنة، التي أدت إلى دعم تركيا وإيران لموقف قطر.
وقد تولى الرئيس الروسي مهمة إقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن يضغط على المعارضة السورية المدعومة من تركيا لدخول هذا المؤتمر، في مقابل تلبية قسم من مطالب تركيا والمعارضة رغم أن الأتراك ما زالوا مصّرين على رفض حضور الأكراد في هذا المؤتمر. كما استطاع بوتين إقناع أردوغان بالتخلي عن مطالبة أنقرة باستقالة الأسد، مقابل ضمان دور فاعل لها في المرحلة المقبلة بسوريا.
وطبعا لولا أن تركيا مرتابة من سياسات واشنطن الجديدة في المنطقة وتسليحها الأكراد، بعد أن تأكد لأردوغان أن أميركا والسعودية والإمارات وإسرائيل كانوا داعمين للانقلاب العسكري ضده، ولولا الخلافات الخليجية التي بدأت بضوء أخضر أميركي، حسب تغريدات ترامب؛ لما كان سهلا إقناع أردوغان بتغيير موقفه بشأن سوريا.
فرض مرجعية سوتشي
ورغم أن الأسد يدعم بالطبع الموقف الرامي إلى فرض الأمر الواقع على الأرض، وإجبار المعارضة على القبول بشروط "المنتصر"؛ فقد استطاع بوتين بدعوته الأسد إلى سوتشي إقناعه بأن عملية الحل السلمي لا يمكن أن تتم دون تقديم تنازلات، وأن الحل العسكري مكلف وصعب جدا، ولا يمكن أن تكون نتيجته دائمة أو حسب المرجو.
وعليه؛ فيجب أن يقبل بما سيتم تقريره في قمة سوتشي الثلاثية، وإذا كانت لديه ملاحظات فإن بوتين سيطرحها لأنه يجب ألا تفوت الفرصة السانحة في هذه اللحظة التي تتخبط فيها الولايات المتحدة في مشاريعها تجاه سوريا.
وفي النهاية؛ يمكن القول إن إيران وروسيا وتركيا تسعيان إلى إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سوريا، في ظل غياب أي مشروع للحل السياسي من قبل الطرف المقابل ومشروعهم يتمحور على:
"رغم أن الأسد يدعم بالطبع الموقف الرامي إلى فرض الأمر الواقع على الأرض، وإجبار المعارضة على القبول بشروط "المنتصر"؛ فقد استطاع بوتين بدعوته الأسد إلى سوتشي إقناعه بأن عملية الحل السلمي لا يمكن أن تتم دون تقديم تنازلات، وأن الحل العسكري مكلف وصعب جدا، ولا يمكن أن تكون نتيجته دائمة أو حسب المرجو. وعليه؛ فيجب أن يقبل بما سيتم تقريره في قمة سوتشي الثلاثية"
1- توسيع مناطق وقف الأعمال العدائية كي تشمل كل الأراضي السورية.
2- إجراء مفاوضات شاملة بين الحكومة السورية والمعارضة والمجموعات التي لا تُعتبر "إرهابية"، ويمكن أن يتم تغيير بعض بنود الدستور السوري لتأمين متطلبات المرحلة المقبلة في سوريا.
3- بدء عودة المهجرين وإعادة إعمار سوريا.
4- تشكيل حكومة ائتلافية جديدة تضم وزراء من المعارضة، ويقوم الأسد بتفويض بعض صلاحياته التنفيذية إلى الحكومة الجديدة.
5- يتم إصدار عفو شامل من قبل الأسد، ويقوم جيش النظام -تحت إشراف الحكومة الجديدة- بالانتشار في كل الأراضي السورية، وتنضوي جميع المجموعات المسلحة المعارضة تحت إمرة هذا الجيش أو يتم حلها.
6- تقوم الحكومة الجديدة بالتحضير لإجراء انتخابات جديدة في سوريا بعد انتهاء دورة رئاسة الأسد الفعلية، ويحق للجميع أن يترشحوا فيها بمن فيهم الأسد نفسه، وتكون هذه الانتخابات تحت إشراف دولي (ليست منفذة من قبل الأمم المتحدة).
7- يتسلم الرئيس المنتخَب الحكم في سوريا.
وحسب مشروع إيران وروسيا وتركيا؛ فإنه يمكن إضافة أو حذف أو تغيير بعض هذه البنود، وفق ما يُتفق عليه في مؤتمر سوتشي السوري، على أن تقوم البلدان الثلاثة بضمان تنفيذ الاتفاق. وأي مجموعة لا تشارك في هذا المشروع ستواجه إمكانية الضرب عسكريا من قِبل جيش النظام بدعم من الدول الثلاث.
وطبقا لمشروع خطة البلدان الثلاثة؛ فإن مؤتمر سوتشي سيُصبح هو محور المباحثات في مؤتمر جنيف بدل القرارات السابقة لمؤتمر جنيف، وخاصة تلك التي تقضي برحيل الأسد وإيجاد حكومة انتقالية، لأنهما نقتطان ترفضهما موسكو وطهران، وأي مشروع آخر يتم طرحه لحل الأزمة السورية يتم رفضه. وفي النهاية؛ يمكن القول إن مستقبل سوريا بات مرهوناً اليوم بشد الحبل بين سوتشي وجنيف.
تمخضت النداءات التي أطلقتها عدة جهات ذات طابع "جهادي"، إطلاق سراح عدد من المعتقلين من قيادات تنظيم القاعدة من بينهم "أبو جليبيب الأردني"، بعد أيام قليلة على اعتقالهم، في خطوة تشي إلى أن ما حدث داخل البيت الجهادي يمكن حله بأبخس الأثمان وبعض البيانات.
لا يمكن وسم تصرف هيئة تحرير الشام بأنه إيجابي، كما لا يجوز حقاً اعتبار الهيئة شيء منفصل أو مغاير لجبهة النصرة، بل هي امتداد لذات الفكر القاتل لكل مخالف، والرحب والواسع والممتص لكل موالي لهذا الفكر ولو شذ قليلاً لكنها يبقى ابن العائلة الذي يمكن تقويمه.
أبو عبد الله الخولي القيادي في حركة حزم التي أنهتها جبهة النصرة، لاحقته عشرات البيانات و المطالبات، التي كان مصيرها الإهمال و الاندثار، الضابط المنشق أسامة الخضر الذي أعدمته هيئة تحرير الشام بتهمة التخابر مع الأعداء، عشرات الأمثلة التي تضج بها الذاكرة ولا مكان لسردها تجعل النظرة لما يحدث في أكبر المساحات المحررة في سوريا، عبارة عن مرتع لقلة تمارس النظام والقتل والتغيب، بشكل مريب، يقابلها اللين و"الصلح أحسن" مع المعاندات الداخلية فيما بينها.
ليت لمعتقلي سجن العقاب وغيره من سجون هيئة تحرير الشام، يد في الدعوة القاعدية أو يملكون تاريخاً غامضاً كقيادات القاعدة أو منظري الفكر السلفي، لكان مكانهم الآن في بيوتهم معززين مكرمين، مصاني الكرامة محفوظي الشأن، ويراقبهم الجميع منعاً لأي اعتداء عليهم.
التاريخ الذي ينسج الآن بشكل لا يمكن إخراجه عن دائرة "القذارة"، يفتح آلاف التساؤلات عن الشخوص لتي تتحكم في المشهد في المناطق المحررة، تقتل وتبطش وتعتقل وتغيب في سجون غائبة عن الخريطة، وتمارس الود والنصح والمحاباة مع آخرين لا ميزة لهم إلا صلة قربى مع قيادات قاعدية، إن كان لهم مد فيما فعلته القاعدة منذ نشأتها وحتى وردوها لسوريا.
كان وقع الصدمة على السوريين كبيراً عندما طلب منهم الحضور إلى مؤتمر الرياض 2 بوصفهم "منصاتٍ"، تتبع دولا إقليمية أو صديقة، فالهدف من المؤتمر توحيد المعارضة السورية، بهدف ضمان توحيد قوى الثورة السورية لتحقيق الانتقال السياسي، من نظام دكتاتوري عائلي أمعن في القتل إلى نظامٍ يعبر عن السوريين ويستحقهم، يؤمن بقوتهم وقدرتهم على تحقيق الاستقرار السياسي وبناء النظام الديمقراطي وتحقيق النمو الاقتصادي، لكن ما جرى هو العكس. خضع الذين قبلوا المشاركة في المؤتمر إلى مبدأ محاصصة "المنصّات"، بما تحمله من إهانة لوطنيتهم وقواهم وقدراتهم العقلية في إدارة الانتقال السياسي من دون وصي أو وكيل. وقد طوى المؤتمر صفحة مؤلمة في تاريخ المعارضة السورية، بنسبتها إلى منصّاتٍ، وليس إلى السوريين، بوصفهم رجالاً ونساء يؤمنون بالتغيير، ويسعون إلى خروج سورية من محنتها العظيمة اليوم، وبدل أن تكون الأولوية لمشاركة السوريين في الداخل، ممثلين عن المجالس المحلية، أو في الخارج ممثلين عن اللاجئين المنتشرين في العالم، مثّلت السوريين "منصاتٌ" تتبع لدول لم تكن يوماً داعمة للثورة السورية أو الانتقال السياسي، فما المعنى إذا من إدخالهم إلى صفوف الثورة وقواها.
عبّر مؤتمر الرياض عن أزمة عميقة في المعارضة السورية التي استمرأت تقديم التنازلات،
بغرض تحقيق محاصصةٍ أبعد ما تكون عن تحقيق أهداف الثورة وتطلعاتها. وأدخلت منصات لم تحمل يوماً روح الثورة أو حلمها، بل كانت دوماً تحتفظ بعدائها للثورة وحلمها في بناء سورية ديمقراطية لكل السوريين، فلم يكن هناك أي مبرّر أو معنى لإدخال هذه الشخصيات إلى وفد يدّعي أنه يمثل الثورة، وجد السوريون في ذلك إمعاناً في إذلالهم، ومنعم من الحق في إدارة شؤونهم. ولذلك تبدو اليوم الحاجة ملحةً لتوحيد قوى الثورة السورية على أسس وطنية وديمقراطية جديدة تمنع الانتهازيين والوصوليين من الحديث باسم الثورة التي لم يؤمنوا يوماً بها أو سعوا إلى تحقيق أهدافها.
وعلى ذلك، سنقوم بالإعداد لمؤتمر وطني جامع، يهدف إلى توحيد قوى الثورة السورية مجتمعةً، لأن هذا العمل مستمر ودائم، تحتاجه سورية اليوم، وسوف تحتاجه أكثر وأكثر في المستقبل، لضمان الأجندة الوطنية، ولضمان تحقيق الانتقال السياسي لنظام ديمقراطي حقيقي، يعبر عن كل السوريين. وهنا أربع نقاط رئيسية تعد بمثابة الأجندة للمؤتمر المقبل:
أولا، الحديث عن الواقعية السياسية لا يعني بأي حال القبول ببشار الأسد، فالثورة السورية انطلقت على الرغم من إدراكها تاريخ النظام السوري الطويل في القتل والتهجير. ولذلك، يجب ألا يتم التنازل أبداً عن ضمان تحقيق الانتقال السياسي الكامل، والذي يجب أن يبدأ بحق السوريين في اختيار نظامهم السياسي الجديد، عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، يشارك فيها كل اللاجئين السوريين أينما كانوا، وضمان دستور ديمقراطي. وكل السوريين مدركون أن العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك وجود دكتاتور مريض، يضحّي بكل السوريين من أجل شخصه ورغباته، مهما كانت تكلفة ذلك على سورية وطنا، وعلى السوريين شعبا.
ثانيا، حتى لو افترضنا أن نظام الأسد ينتصر على الأرض عسكرياً، فالحاجة إلى قوة سياسية موحدة من المعارضة تبقى أولوية لمحاصرته دوليا بكل الوسائل، والعمل بكل الطرق القانونية والسياسية الدولية من أجل جلبه للعدالة الدولية، ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري. وبالتالي، فالعمل على توحيد جهود المعارضة عمل نبيل ودائم، لأنه الطريق الوحيد لضمان تحقيق الثورة السورية أهدافها.
ثالثاً، بعد سبع سنوات من الثورة، تشكلت عدة مؤسسات للمعارضة السورية من المجلس الوطني و"الائتلاف" وحتى الهيئة العليا للمفاوضات، ويعود جزء كبير من عدم قدرتها على التأثير والتمثيل إلى سياسة القتل الجماعي المستمر التي قتلت أكثر من نصف مليون سوري، وشرّدت أكثر من تسعة ملايين آخرين، ما يجعل مسألة إدارة الأزمة الإنسانية فوق قدرات أية مؤسسة، دولية كانت أم وطنية. ولكن، في الوقت نفسه، تتحمل المعارضة السورية خطأ إغلاقها التمثيل الدينامي للسوريين، ما أبعد الوطنيين شيئاً فشيئاً، وفتح الباب للوصوليين أكثر فأكثر لادّعاء تمثيل المعارضة والحديث باسمها. ولذلك تبدو اليوم الحاجة ملحةً لإعادة كل الأصوات التي آمنت يوماً بالثورة، وبحلمها في بناء نظام جديد للانخراط في جهد توحيد قوى الثورة على أسس جديدة ومختلفة، وبدون إملاءات إقليمية أو دولية، لكي تبقى صوتا للثورة.
أخيراً، ندرك تعددية الأصوات داخل قوى الثورة، وهو من مصادر قوتها، فقد كانت حرية التعبير دوما أحد أهداف الثورة. وبالتالي، يجب أن تفسح المبادرة الجديدة الرأي للتعددية. لكن مع الإيمان أن هناك حداً أدنى من المبادئ التي لا يمكن للثورة ولقواها التنازل عنها، وهو ما من شأنه أن ينعكس في طريقة تنظيم المؤتمر المقبل. وفي الوقت نفسه، تدرك قوى الثورة أن هناك قوى إقليمية ودولية كثيرة ساعدت الثورة وناصرتها في مرحلة من المراحل، لكن هذا لا يبرّر لقوى الثورة أن تخضع لأجندتها، أو سياستها، فالتحولات الإقليمية والدولية تتغير باستمرار. ولذلك، من مصلحة قوى الثورة أن تحافظ على استقلالها وسيادتها، نابعة من إيمانها بأهداف الثورة وبوصلتها.
وصل الوفد "التفاوضي" لبشار الأسد إلى جنيف متأخرا أكثر من أربع وعشرين ساعة عن الموعد الذي حدّدته الأمم المتحدة لوصوله. واعتبرت هذه الخطوة نجاحا للمساعي الدولية التي أقنعته بالقدوم، على الرغم من أن رئيس الوفد المذكور، بشار الجعفري، رفض طلب المبعوث الأممي، استيفان دي ميستورا، بالانخراط في مفاوضات مباشرة مع وفد المعارضة، ورفض البقاء في جنيف لإعطاء التفاوض مدى زمنيا كافيا، ورفض جدول الأعمال الذي قدّمته الأمم المتحدة، وذاك الذي اقترحته المعارضة. مع ذلك، احتفلت وسائل الإعلام الغربية بما سمته "بدء المفاوضات العملية في جنيف"، ولم تقل، هي أو أي أحد من الرسميين الدوليين، إن الوفد الأسدي عطل المفاوضات قبل قدومه إلى جنيف، وقدم إليها ليستمر في تعطيلها، وإن سلوك نظامه يلغي عمليا القرارات الدولية التي رسمت خريطة طريق واضحة للحل السياسي الدولي، بنصوصٍ لا تحتمل تفسيرات متعدّدة، أو مجافية لمعناها النصي، وللآليات التي تقترحها لبلوغ السلام.
لم يدن أحد إلى اليوم سلوك الأسد الذي يعطل مؤسسات النظام الدولي الشرعية، ويتعامل معها بقدر من الازدراء، يشبه الذي أبدته الهتلرية تجاه "عصبة الأمم"، قبل الحرب العالمية الثانية. وبدل أن يقابل الجعفري والعصابة التي ترافقه بالرفض والاستهجان، نرى دي ميستورا يرسم ابتسامةً سعادةٍ عريضةٍ على وجهه، ويمد يده إلى مسافة عشرة أمتار، ليتشرف بمصافحة الجعفري وعصابته الملطخة أيديها بدماء مئات آلاف السوريين. إذا كان قتلةٌ يُعاملون بهذا الحرص، بربكم لماذا يتنازلون، وينصاعون للقرارات الدولية، ويقلعون عن قتل السوريين، الذين لم يطبق أي قرار من سبعةٍ قيل إنها اتخذت لضمان حقهم في لقمة خبز، ومقعد دراسي، وحبة دواء، وسقف آمن، وحقهم في الحياة الذي يعتبره حتى دستور الولايات المتحدة الأميركية مقدّسا! أعلن الروس أن الاتفاقيات ستعيد، أخيرا، الأمن والسلام ورغيف الخبز والسقف الآمن إلى أهالي الغوطة الشرقية، وأن شرطتهم العسكرية ستضمن أن يوقف النظام قصفها ومهاجمتها، لكن الأسد الذي وقع الاتفاقية بأريحية كان على مذهب آخر، فلم يوقف القصف دقيقة، وبعد أن كان يهاجم الغوطة من محور واحد، بدأ يهاجمها بعد "التهدئة" من ثلاثة محاور، ويستخدم ضدها قنابل يكاد غبار انفجاراتها يصل إلى أنوف شاغلي مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
مع ذلك، لا ترى موسكو ما يجري، ونسيت أنها ضامن خفض التصعيد، ولم تخجل من تقديم اقتراحٍ بعقد هدنةٍ تدوم يومين، ولم يحمرّ وجهها وهي تشطب ضمانتها اتفاقية عقدت بمشاركتها، أعلنت مقدمتها انضواءها في إطار وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، وأنها بالتالي اتفاقية دولية ترعاها الأمم المتحدة ومجلس أمنها، وتعتبر جزءا من عملية السلام. نسيت موسكو هذا، وها هو الكرملين يبدي امتنانه، لأن وفد النظام وصل إلى جنيف، لكي يعطل التفاوض، والأسد قبل هدنة في منطقة خفض تصعيد وتوتر، كان الرئيس فلاديمير بوتين قد دقّ على صدره، وتعهد أن يمنع القتال فيها. وغدا، ستنتهي الهدنة التي ألغت الاتفاقية، وستقصف الغوطة من جديد وسيقتل أطفالها الذين ارتفعت نسبة المهدّدين بالموت جوعا منهم إلى 12%، بعد أن كانت قرابة 2% قبل التهدئة.
إذا كانت موسكو قد اقترحت الهدنة، وهي تعلم أنها تلغي اتفاقية وقف التصعيد التي كانت عرّابها، لماذا يتقيّد النظام بهما: الهدنة اليوم والاتفاقية أبدا؟ ولماذا يتنازل الأسد عن حقه المضمون، روسيا ودوليا، بمواصلة حربه ضد السوريين، وبإفشال عملية تفاوض دولية من أجل السلام، واتفاقية دولية قالت موسكو إنها لخفض التصعيد، وها هي تقترح إلغاءها؟ وهل تناست أنها اتفاقيه دولية وتخدم السلام؟ ثم، ألا يلاحظ العالم التلازم بين النتائج التي ستترتب على هدنةٍ روسيةٍ تلغي اتفاقية روسية؟ ألا يلاحظ ما تفعله عصابة السياسيين الأسدية التي تعطل التفاوض على حل سياسي استجابة لقرارات دولية، واستقبلت، على الرغم من ذلك، بترحاب أممي، مكافأة لها على قبولها تحمل مشقات السفر بالطائرة إلى جنيف، في الوقت الذي قرّرته، وللفترة الضرورية للتعبير عن تأفّفها من العالم، واحتقارها مؤسساته وقراراته؟
قال بوتين قبل أسبوعين: جميع مستلزمات السلام صارت متوفرة.. والدليل ما يفعله النظام في جنيف والغوطة، بدعم روسي وصمت دولي.
يتفاءل الرؤساء اللبنانيون بالصيغة التي يُنتظر أن ينتهوا إليها الأسبوع المقبل لينأوا بلبنان عن أزمة كبيرة مع المملكة العربية السعودية، إذا أفضت إلى ابتعاد «حزب الله» عن التدخل في الحرب الدائرة في اليمن، فتكون مخرجاً لعودة رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته.
ومع أن كُثُراً يشكّون في أن ينأى الحزب بنفسه عن تلك الحرب، ويخشون من أن يكون أي إعلان بهذا المعنى شكلياً، ويقتصر على وعد بتحويل الحملات الإعلامية العنيفة للسيد حسن نصرالله إلى «انتقادات»، فإن المتفائلين بتلك الصيغة يستندون إلى جهود دول كبرى في هذا المجال، لا سيما روسيا وفرنسا مع إيران، لإنجاح انكفاء الحزب عن اليمن. لدى المشككين بإمكان ابتعاد الحزب الكثير من الحجج: نصرالله سبق أن افتخر قبل زهاء سنة بأن «أعظم ما قمتُ به» هو هجومه على السعودية في اليمن، وأنه «أعظم من حرب تموز» ضد العدو الإسرائيلي. فطهران أوكلت إلى نصرالله منذ زهاء عقدين من الزمن، بناء الجسم الحوثي على الصعد كافة، العقائدية والدينية والسياسية والتنظيمية والتدريبية والعسكرية... كجسر تدخل في اليمن السعيد. وحين قررت الرياض مواجهة التمدّد الإيراني على حدودها في 26 آذار (مارس) 2015، لم يكن من تفسير لعنف حملة نصرالله غير المسبوقة ضد السعودية عند العارفين، سوى أنه صُدِم بفعل المسّ بـ «طفله» الحوثي. ويتساءل المشككون بإمكان انتزاع تنازل انكفاء الحزب في اليمن، عن مدى واقعية ذلك إذا لم تحصل طهران على الثمن المقابل.
أما المتفائلون بانكفاء الحزب فلا يعيرون أهمية للجهود المحلية، ويراهنون على العواصم الكبرى التي حرّكتها صدمة استقالة الحريري من الرياض، لأن الأخيرة طفح الكيل معها من استخدام طهران التنظيم اللبناني لاستهدافها. لهذه الدول مصالح كبرى مع السعودية، في المدى الإقليمي الأوسع، سواء في المجال النفطي، أو في التعاون معها لإدارة أزمات سورية والعراق وليبيا، وهي مصالح تعلو على مصالحها مع طهران واضطرارها إلى مراعاة سلوكها في لبنان وغيره. وإذا كانت الكلمة السحرية وراء الإخراج الذي أدى إلى عودة الحريري إلى بيروت كي يتريث في تقديم الاستقالة كانت «الحفاظ على الاستقرار في لبنان»، فلأن هذه الدول لا تريد اهتزاز «ستاتيكو» البلد الصغير في وقت تسعى إلى معادلة جديدة في إدارة الأزمة السورية بكل تعقيداتها. خلفيات الاستقالة أكبر من لبنان، ومعالجتها أكبر منه أيضاً، والأرنب الذي سيخرج من قبعة لبنانية دولي الهوية، وتمرير الوقت ربما يسمح بعدم ظهور الفريق المعني خاضعاً للضغوط.
في انتظار معرفة ما إذا كان الأرنب الذي سيظهر الأسبوع المقبل متلائماً مع المطالب العربية من لبنان، والتأكد من أن البلد لن يتعرض لمزيد من الضغوط لأن فريقاً فيه ينفذ أجندة إيرانية ضد دول الخليج والسعودية، يبقى السؤال عما إذا كان النأي بالنفس عن اليمن سيحمي لبنان من تداعيات تدخل الحزب في ساحات أخرى، وتحديداً في سورية. بين المسؤولين اللبنانيين من يأمل بانكفاء الحزب من سورية لأن الحرب على «داعش» شارفت على نهايتها، فيعيد نشر مقاتليه داخلها على الحدود مع لبنان.
إلا أن النأي بالنفس عن بلاد الشام مستحيل وفق قول الرئيس نبيه بري، وحتى المتفائلين يتركون معالجة انخراط الحزب في المحرقة السورية للترتيبات الدولية التي نشهد بعض فصولها في جنيف-8، والمرشحة لأن تفشل لمصلحة دورة جديدة من العنف، كالقصف الإجرامي الذي شهدته الغوطة الشرقية قبل أيام. والوقائع تخالف التمنيات. ومقابل اتهامات موسكو واشنطن بأن تعاونها معها غير بنّاء على المسرح السوري، تتهم الأخيرة الجانب الروسي بأنه لم يفِ بوعده إبعاد الميليشيات الإيرانية و «حزب الله» عن المنطقة الجنوبية في إطار اتفاق خفض التصعيد فيها، بينما لا تأخذ إسرائيل بتطمينات فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف حيال ضمان أمنها، لأن «الحرس الثوري» يبني قواعد عسكرية في منطقة الكسوة (ريف دمشق) المؤدية إلى القنيطرة ودرعا، ويتجول مقاتلوه وعناصر «حزب الله» بلباس الجيش السوري، كما يقول الإسرائيليون. والأردن لم يفتح معبر نصيب (الذي يستفيد منه لبنان في تصدير منتجاته) على رغم وعده بذلك، طالما أن الإيرانيين ما زالوا في مناطق قريبة. والمعارضة في الجنوب وحّدت فصائلها تحسّباً لاندلاع القتال مجدداً. والإنذارات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية حيال تزويد الحزب أسلحة من مصانع صواريخ إيرانية في سورية تتوالى. فما الضمانة بأن عملاً عسكرياً إسرائيلياً لن يُقحم لبنان في المواجهة إذا لم يكن هناك نأي بالنفس عن سورية؟
هل شعر أحدكم يوماً بخوف كاد يوقف قلبه عن العمل؟ هل شعرتم بتهديد يتربص بكم خلف الأبواب؟ هل ارتعدت فرائصكم يوماً عندما يطرق بابكم، أو عندما تظنون أن أحداً يناديكم في الشارع؟ نحن كنا نعيش هذه الحالات مجتمعة يومياً في سورية.
المداهمات الأمنية التي كان وما زال يتعـــرض لها السكان، وإن بنسبة أقل من السابــق، هاجس يعيشه معظمنا، بخاصة إذا كان لديـــه أي نشاط مدني أو إعلامي، أو كـــان مهجـــراً من منطقة ساخنة دمرت على رؤوس أبنائها، لأن الناشطين السلميين والعلماء والأطباء والطلبة والفنانين والمعارضين السياسيين السلميين والمدنيين كانوا أكثر المستهدفين من جانــب النظام منذ بداية الثورة، قتلاً واعتقالاً وملاحقة، مقابل الإفراج عن المجرمين والمحكومين من المتطرفين والذين رأيناهم لاحقاً أمراء وقادة فصائل متطرفة، لتشكيل بديل مفترض للنظام يخيفون به موالاتهم قبل معارضتهم، ومبرراً لقتل المدنيين وتهجيرهم بحجة محاربة الإرهاب.
هذا الشعور المرعب والقاتل يذكّرني دائماً بأكثر من 250 ألف معتقل في سجون الطاغية، يعيشون هكذا في كل ثانية من حياتهم. وسائل التعذيب التي كشفت عنها التقارير الدولية وشهادات الناجين من الموت في المعتقلات و55 ألف صورة مسربة لـ11 ألف معتقل استشهدوا تحت التعذيب، أكدت صحتها لجنة دولية من القانونيين المتخصصــين، وأثبتت المجموعة الخاصة بدعم قيصر والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان وضوح آثار التعذيب والقتل الممنهج الذي يتبعه نظام الأسد على الجثث في المعتقلات، من دون أن تحـــرك ساكناً لدى المجتمع الدولي الذي سقط أخلاقياً وإنسانياً أمام نزف الدم السوري وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية. لم يكتف المجتمع الدولي بالصمت عن جرائم تعذيب المعتقلين التي كانت ممنهجة من النظام لبث الرعب في نفوس الناشطين، وثنيهم عن الاستمرار في ثورتهم، بل تؤجل الدول المحتلة لسورية مناقشتها في آستانة شهوراً، وتأتي في ذيل أي مفاوضات دولية خاصة بسورية، ويتخذ المجتمع الدولي الفيتو الروسي مبرراً لعدم إحالة ملف المعتقلين ومحاكمة الجناة إلى محكمة الجنايات الدولية، وهذا ما يعطي الضوء الأخضر والوقت لنظام الأسد للتخلص من أعداد أخرى من المعتقلين.
العتب ليس على المحتلين، بل على الجهات السورية المفاوضة التي تقبل بتأجيل موضوع يجب أن يكون في أولويات أي مفاوضات للضغط على نظام الأسد للإفراج عن المعتقلين والمختطفين والكشف عن المفقودين.
لا شك في أن الصورة الجماعية التي أُخذت لـ "أردوغان-بوتين-روحاني" خلال اجتماع "سوتشي" تمثل رمزاً سياسياً في غاية الأهمية، إذ تسعى روسيا لرسم شكل المرحلة السياسية من خلال اجتماع سوتشي بعد أن أنهت تصميم الساحة والمشهد العسكري في سوريا من خلال "أستانة"، ولكل من روسيا وإيران أسباب قوية للبدء بنفيذ هذه المرحلة السياسية على أرض الواقع، إذ تسعى الأخيرتان لتحقيق مكاسبها من خلال مرحلة سياسية بعد أن أجبرت المعارضة السورية على التراجع من الساحة وبالتالي بقاء نظام الأسد على عرش السلطة.
تركيا تريد أن تمر الأزمة السورية في إطار سياسي، إذ أدت الخسائر الإنسانية والسياسية التي تسببت بها الأزمة السورية إلى تقلّص مجال تأثير تركيا في سوريا، أصبح لتركيا جدول أعمال وحيد وهو وضع حزب الاتحاد الديمقراطي أو أكراد سوريا بشكل عام، إن استطاعت أنقرة الحصول على بعض الامتيازات في المنطقة فإنها ستكون جاهزة لإعادة النظر في سياستها تجاه المعارضة والنظام معا، أي أن هناك توافق بين آراء جميع الأطراف في خصوص تنفيذ المرحلة السياسية في سوريا ولكن ضمن تبريرات مختلفة، إنّ المسألة الأساسية ليست حول ضرورة تنفيذ المرحلة السياسية من أجل حل الأزمة السورية، إن حل الأزمة في سوريا يتطلب مرحلة سياسية بالتأكيد، لكن جوهر المسألة يتعلق بما تستند إليه المرحلة السياسية وما تحتوي عليه، كما أن الإعاقة التي زادت بسبب اجتماع سوتشي فيما يخص المرحلة السياسية مرتبطة بهذا الأمر أيضاً، إذ تم إنشاء جدول أعمال اجتماع سوتشي بناء على قراءة روسيا للمرحلة السياسية، أي إننا نتحدث عن مرحلة تركّز على الإصلاح الدستوري والتوجه إلى الانتخابات من خلال إلغاء الانتقال السياسي واستبعاد احتمال رحيل الأسد، إذ لا يمكن توقع رحيل الأسد بعد بقائه على عرش السلطة بعد مرور 7 سنوات من الحرب الأهلية.
نظراً إلى بنية اجتماع سوتشي فإن ما حدث خلاله لا يمثل حلاً للأزمة السورية في إطار عملية سياسية، بل يشكل محاولةً من قبل روسيا وإيران بهدف إقناع المعارضة السورية ببقاء نظام الأسد من خلال حملة إعلامية خطيرة ضمن اجتماع سوتشي، إن وجود تركيا في هذا الاجتماع يحمل أهمية بالغة ولكن مع تنازلات بسيطة وسطحية، إذ تمثل مشاركة تركيا مصدر المشروعية للرئيس لهذه المرحلة، لا يمكن لروسيا وإيران أن تبدأ بمرحلة سياسية لوحدها، حتى وإن استطاعت البدء بذلك فلن تحقق أي نتائج ملموسة لأنها لن تتمكن من شمل المعارضة السورية ضمن هذه المرحلة.
ومن أهم مؤشرات نجاح اجتماع سوتشي هو إجراء هذا الاجتماع من خلال ربطه بمؤتمر جنيف، لأن التسوية السياسية في سوريا لا تبدو واقعية من دون أمريكا وأوروبا ومشاركة إقليمية أوسع، كما أن لوجود تركيا أيضاً أهمية كبيرة في هذا الصدد، إذ سيسهل التكامل بين سوتشي وجنيف القبول الدولي لهذه المرحلة.
كان من الضروري إعادة تشكيل تركيبة وطلبات المجموعات المعارضة المشاركة من أجل تسهيل سير أمور مثل هذه المرحلة السياسية، بعبارة أخرى تمت إعادة تصميم مجموعات المعارضة بنسبة كبيرة، إذ شهدنا مسبقاً على استهتار المعارضة بأهدافها وبنيتها، كما حدث انخفاض كبير في أعداد الأشخاص والمجموعات التي تحمل أهدافاً واقعية، بدلاً من ذلك تم تغيير طبيعة المعارضة بشكل ملموس من خلال مشاركة عناصر جديدة من القاهرة وموسكو، على سبيل المثال أصبح "حسن عبد العظيم" أحد أعضاء لجنة التنسيق الوطنية في دمشق ضمن قائمة الأسماء المعارضة، لأن الاستهتار الذي حدث في بنية المعارضة أدى إلى انخفاض كبير في نسبة المطالب، إذ لا يمكن لمعارضة مستهترة إلى هذه الدرجة المطالبة بتغيير النظام أو رحيل الأسد أو الانتقال السياسي، وعند اجتماع النظام والمعارضة من أجل المفاوضات سيجلس النظام في طرف والمعارضة التي لا تنظر إلى بنية النظام بجدية في الطرف الآخر.
في حال عدم إيجاد حل للقضايا والمطالب التي تسببت في ظهور الأزمة السورية فإن الحل السياسي المذكور في خصوص سوريا يعتبر محاولة حل وليس حل شامل، إذ تحولت هذا المرحلة إلى دبلوماسية تهدف إلى إقناع المعارضة بالتنازل والقبول ببقاء النظام والأسد، إن ما يحدث الآن لا يمثل حلاً سياسياً للأزمة السورية، بل نشهد على محاولة الأطراف للحد من التزاماتها فيما يخص الأزمة، ومن الواضح أن مثل هذا الحل السياسي قد يؤدي إلى إبعاد الأزمة أو إخفاءها لفترة معينة ولكن من المؤكد أنه سيزيد في عمقها أيضاً.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، كتبت في هذه الزاوية "نحن على أعتاب مرحلة سوف تُنتزع فيها السيطرة على الخريطة السياسية السورية، من تنظيمات كوحدات حماية الشعب وداعش وتحرير الشام".
هذه المرحلة بدأت رسميًّا قبل أيام مع المحادثة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.
عقب المحادثة أعلن البيت الأبيض أنه سيقطع تسليح وحدات حماية الشعب، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا. وتتداول الكواليس أن الصقور في إدارة ترامب عانوا صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار، وعلى الأخص مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر.
تشير هذه الخطوة قبل كل إلى أن الحماية الروسية الأمريكية لوحدات حماية الشعب في طريقها إلى الزوال. ويبدو أن مشروع البنتاغون بشأن "شمال سوريا" هو الآخر ينهار، بعد "مشروع روجاوة".
فالاستراتيجية الجديدة لن تقتصر على قطع التسليح فقط، والرئيس الأمريكي يريد إعادة الأراضي التي استولت عليها وحدات حماية الشعب إلى دمشق. ولهذا تشعر الوحدات والأوساط الداعمة لها بقلق شديد.
رسالة ترامب إلى أردوغان حول قطع دعمه لوحدات حماية الشعب كان لها أصداء واسعة في الإعلام العالمي. فهيئة لإذاعة البريطانية تحدثت عن "تحول كبير في قرار ترامب"، فيما قالت سي إن إن "مع انتهاء داعش ينتهي تسليح وحدات حماية الشعب".
وقالت نيويورك تايمز إن "القرار سيخفض التوتر الأمريكي التركي"، بينما أشارت ووردبرس وروسيا اليوم إلى "خيانة تعرضت لها وحدات حماية الشعب".
بدورها كتبت هاآرتس الإسرائيلية أن "ترامب أسعد تركيا، ووجه ضربة كبيرة لطموحات وحدات حماية الشعب".
وفي الواقع، فإن ميسر جيفورد، وهو بريطاني قاتل إلى جانب وحدات حماية الشعب، قال قبل بدء عملية الرقة إن على الأكراد ألا يثقوا كثيرًا بالولايات المتحدة، مشيرًا أن الاتفاق المؤقت ذو الأهداف التكتيكية يوشك على الانتهاء.
ولا شك أن قرار ترامب يعني الانسحاب من سوريا، بيد أن وزير الدفاع جيمس ماتيس يؤكد على إبقاء بلاده ألفي جندي في سوريا بهدف الحصول على تنازلات من الأسد إلى حين انتهاء مفاوضات جنيف، وعلى مواصلة استخدامها وحدات حماية الشعب.
وكان بعض المسؤولين الأمريكين أكدوا أنهم يخططون لكسر نفوذ طهران ودمشق في المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب. غير أن الجميع يعلمون أن ترامب يعمل على بعض المشاريع التي ترمي للانسحاب من سوريا حتى عام 2019.
أفضل من حلل قرار ترامب هو السفير السابق في أنقرة جيمس جيفري، الذي قال: "انتهت الحرب التقليدية مع داعش، ونعمل الآن من أجل إنجاح استراتيجية أكبر. لكننا لن ننجح دون تركيا. إذا أردنا البقاء في سوريا علينا إصلاح علاقاتنا مع تركيا".
بطبيعة الحال، كان من الصعب جدًّا على الولايات المتحدة أن تثبت أقدمها في سوريا، وهي تخاصم تركيا أقوى بلد في المنطقة.
وفي هذا السياق، قرار ترامب بشأن وحدات حماية الشعب هو بمثابة رفع العلم الأبيض بالنسبة للولايات المتحدة، ورمي المنشفة في سوريا بالنسبة للبنتاغون بعد وكالة الاستخبارات المركزية.
هناك رأي سائد في المؤسسات الأمريكية المختصة بشؤون المنطقة يشير إلى أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون لن يدلي من الآن فصاعدًا بتصريحات من قبيل "لا نفكر بمستقبل للأسد أو نظامه في سوريا".
وتقول مصادر واشنطن إن هناك توجيهات من البيت الأبيض، وعلى الأخص مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر، للمسؤولين بعدم الإدلاء بتصريحات غير قابلة للتطبيق بشأن الأسد، وذلك عقب الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه ترامب وبوتين بخصوص عملية الحل السياسي حول مستقبل سوريا.
وتقول المصادر إن الروس حصلوا على تنازل من الولايات المتحدة بتخفيف حدة خطابها حول مستقبل نظام الأسد على المدى الطويل، مقابل إقناع رئيس النظام بقيول حكم ذاتي ضمن كيان فيدرالي، للمكون الكردي الذي تهتم به الولايات المتحدة في سوريا.1
العمل جارٍ على خطة جديدة
اتخذت الولايات المتحدة مواقف واقعية من الوضع الجديد في سوريا، لكنها وإن خففت من حدة خطابها حاليًّا بخصوص الأسد إلا أنها تعمل على خطة أخرى بعيدة الأمد.
وبحسب ما ذكرته لي مصادري في هذا الخصوص فإن الخطة على النحو التالي:
- قد تكون روسيا وإيران أخذتا زمام المبادرة بشأن مستقبل سوريا السياسي إلا أن أهم قضية في المنطقة على المديين المتوسط والبعيد ستكون عملية إعادة إعمار سوريا.
- إعادة الإعمار مسألة تتطلب موارد ومبالغ ضخمة جدًّا، وهذا ما سيكون مستحيلًا على روسيا وإيران بمفردهما القيام به من دون الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
- لن ترضى الولايات المتحدة والغرب وحلفاؤهما في المنطقة أبدًا بضخ الأموال من أجل إعادة إعمار سوريا في حال وجود نظام الأسد في الحكم.
بمعنى أن رحيل الأسد سيكون شرطًا من أجل سماح الولايات المتحدة وحلفاءها بضخ الموارد والإمكانيات اللازمة لعملية إعادة الإعمار.
- كما ترون، تعتقد الولايات المتحدة، التي تبدو فقدت المبادرة السياسية في المنطقة لصالح روسيا، أنها قادرة على استعادة زمام المبادرة في المستقبل بفضل القوة الاقتصادية.
الحملة الإيرانية المضادة
تحدثت في مقالة سابقة عن مساعٍ إيرانية لفتح طريق من طهران يمر عبر العراق وسوريا ليصل إلى البحر المتوسط. نظرًا لموضوع المقالة لم أتحدث عن أهمية الطريق المذكور سوى على الصعيدين العسكري والاستراتيجي.
غير أن مختصين يعرفون المنطقة جيدًا يقولون إن إيران قد تستخدم هذا الطريق في توفير الموارد من إيران والعراق إلى سوريا.
بمعنى أن إيران تخطط للعب دور مؤثر جدًّا في عملية إعادة إعمار سوريا من خلال استخدام الطريق المذكور بشكل فعال.
وتقول مصادر واشنطن إنه بينما تجري التحضيرات للعب بورقة الاقتصاد، ينبغي على تركيا، التي تملك خبرة وإمكانيات واسعة وموقعًا استراتيجيًّا يتيح لها القيام بالعمل بيسر، متابعة التطورات من هذا المنظور على وجه الخصوص.