على ما يبدو أن المؤشرات الإقليمية والدولية عن إمكانية التوصل إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، خصوصاً بعد قمة سوتشي الثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا، واجتماع المعارضة السورية في عاصمة المملكة العربية السعودية، المعروف بمؤتمر «الرياض 2» الذي رحبت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بمقرراته، بدأت تواجه مجموعة عراقيل جدّية قد تطيح بمسارات التسوية، وتؤدي إلى عودة المفاوضات بين النظام والمعارضة إلى نقطة البداية.
وكان من المفترض أن يلتزم النظام السوري والدول الداعمة له الموجودة ميدانياً في سوريا بالتعهدات السياسية والعسكرية التي توصلت إليها في اجتماعات آستانة، وخلال اللقاءات الثنائية، إضافة إلى ما تم الاتفاق عليه في قمة سوتشي الثلاثية؛ لكن على ما يبدو أن موسكو بصفتها عرّابة الحل السوري، غير معنية جدّياً بتنفيذ التزاماتها؛ ذلك من خلال قيام طائراتها إلى جانب طائرات النظام بضرب فصائل الجيش الحرّ في الغوطة الشرقية، في أوضح اختراق لاتفاقية خفض التوتر، الأمر الذي يمكن اعتباره محاولة روسية للتملص من جزء من تعهداتها، كما يمكن وضعها في خانة الرد على المعارضة وبعض الفاعلين الدوليين الذين من خلال مواقفهم الرافضة لجزء كبير من بنود مؤتمر سوتشي، أرغموها على تأجيله إلى شهر فبراير (شباط) عام 2018.
في المقابل لم تتأخر موسكو في الرد على ما يمكن وصفه بعرقلة مسار سوتشي، بعد أن أعلنت صحيفة «الوطن» السورية، التابعة لنظام الأسد، في عددها الصادر الاثنين الفائت، عن إرجاء وفد النظام السوري موعد سفره إلى مفاوضات جنيف إلى موعد يُحدد لاحقاً، دون إيضاح الأسباب (وفد النظام السوري يصل اليوم إلى جنيف - المحرر)، كما أن الصحيفة كشفت عمّا وصفته سخط نظام الأسد مما ورد في بيان المعارضة في مؤتمر «الرياض 2» الذي أكدت فيه أن «سقف المفاوضات رحيل النظام السوري».
في الشكل والمضمون، يبدو أن مسار جنيف ومسار سوتشي يسيران بشكل متواز، ما يجعل فكرة التقائهما مستبعدة، وهذا يدعو إلى استبعاد إمكانية الحل أو استعجاله، والسبب بات واضحاً، أن كل طرف يجد مصلحته في تغليب المسار الذي يرعى مصالحه، والذي يتطلب إفشال المسار الآخر أو تقويضه، وهذا ما حاول الرئيسان الأميركي دونالد ترمب، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تأكيده، خلال محادثة هاتفية جرت بينهما نهار الاثنين، أكدا خلالها أن محادثات جنيف هي المنتدى الشرعي الوحيد لحل النزاع السوري.
موقف الرئيسين الفرنسي والأميركي رسالة واضحة، ليس لموسكو فقط؛ بل لطهران وأنقرة، بأن مسار جنيف وحده يحظى بغطاء الشرعية الدولية والأمم المتحدة، وهو المخول اتخاذ القرارات والإجراءات من أجل إنهاء الصراع السوري، وفقاً لمقررات «جنيف 1»، والقرار الأممي 2254، اللذين أصبحت بنودهما تتضارب مع مصالح المحور الروسي، الذي يسعى من خلال مؤتمر سوتشي إلى فرض رؤيته للحل، المبنية على التمسك بإجراء إصلاح للدستور فقط، وتشكيل حكومة مصالحة وطنية تحت سقف النظام، وهو ما يمكن اعتباره شروطاً مسبقة يحاول نظام الأسد فرضها، ليس فقط على جولة المفاوضات الجديدة في جنيف؛ بل في كافة المسارات التفاوضية، لذلك يجد النظام وداعموه أن خيار سوتشي هو المخرج الوحيد للالتفاف على مقررات الشرعية الدولية، وذلك من خلال ربط سوتشي بالقمة الثلاثية التي جمعت الرؤساء بوتين وروحاني وإردوغان، واعتبارها الغطاء الذي يُمَكن النظام من الاستمرار في تعنته.
حتى اللحظة، نجحت المعارضة السورية في إفراغ مؤتمر سوتشي - إذا عقد أصلاً - من محتواه، وحولته إلى حوار بين النظام والنظام، وتمكنت واشنطن مع من تبقى لها من حلفاء في المنطقة من اعتباره مساراً روسياً إيرانياً أضيفت له تركيا نتيجة سوء علاقتها مع واشنطن والدول الأوروبية، وفي المقابل تحاول موسكو من موقع الأقوى مؤقتاً في المعادلة السورية فرض شروطها على مسار جنيف؛ لكي تصبح بنوده تتطابق مع أهدافها الطويلة الأمد في سوريا، وهدفها انتزاع رعاية حصرية للحل السوري من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بالطرق السياسية أو العسكرية التي تستخدمها الآن ضد المدنيين في الغوطة، بهدف تعطيل لقاء «جنيف 8». ورغم سيادتها على الملف السوري، فإنها تواجه عجزاً في احتواء التمكن الإيراني في سوريا، وقلقاً دائماً من التقلبات التركية المرتبطة بتحولات الملف الكردي، لذلك تحاول استثمار فرصتها الاستثنائية التي مكنتها من وضع طهران وأنقرة في خندق واحد، ولكن لفترة محدودة لا يبدو أنها قابلة للتمديد، نتيجة تراكم الخلافات مع واشنطن التي بدأت تلمح إلى مسار آخر في العلاقة معها في سوريا، مبني على عدد من الشروط السورية الداخلية والإقليمية الكفيلة بإنهاء فكرة سوتشي، وإعادة جنيف إلى المربع الأول.
غَضِبَ وفد بقايا السلطة الأسدية إلى مؤتمر جنيف لأنّ المعارضة تحدّثت في بيان الرياض عن رحيل "الزمرة الأسدية" كشرط واجب لأي حل سوري.. ثم لأنّ نصر الحريري جدّد التمسّك بذلك الشرط في بداية المرحلة الانتقالية المفترض أن ينطلق البحث الجدّي فيها أخيراً في موازاة إتمام مراسم القضاء على الإرهاب الداعشي ميدانياً وجغرافياً وتنظيمياً..
والواقع أن الأسد "غاضب مبدئياً" وأساساً، لأنّه مُجبر على الذهاب إلى جنيف! وهو الذي كان وَعَدَ بالذهاب إلى إدلب والرقّة! وإكمال "تحرير" سوريا "حتى آخر شبر فيها" من الإرهابيين والتكفيريين! ولأنّه مع رعاته الإيرانيين، تعامل منذ بداية المشوار مع قصة "الحل السياسي" باعتبارها تقطيعاً للوقت بانتظار نضوج "مقوّمات" الحل العسكري على الأرض.. ولا شيء آخر.
في مطلع تشرين الثاني الجاري جاء علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني إلى دمشق وأكد من مقر الأسد أنّ المعركة لتحرير إدلب "ستنطلق في غضون أيام".. ومثله فعلت بثينة شعبان! وقبلهما فعَلَ الرئيس السابق بنفسه!. لكن مرّت الأيام وحملت معها لبثينة ورَبْعها "الخبر اليقين" بأنّ صاحب القرار الأول في سوريا، أي فلاديمير بوتين يرى الأمور بطريقة مختلفة! ويعتبر أن لا "حل" عسكرياً ممكناً أو مُتاحاً. وإن العملية السياسية لا بدّ أن تنطلق استناداً إلى تراكمات جنيف والاتصالات الثنائية المباشرة مع الأميركيين وغيرهم في المنطقة! وكما استناداً إلى "المصالح الروسية العليا" الأكبر والأبعد مدى والأهم من "المحور الإيراني" وحساباته ومصالحه!
.. وبعد ذلك، يمكن ذلك المحور أن يضع أناشيده وأهازيجه الانتصارية في طنجرة ضغط ويضيف عليها بعض المياه، ثم يتركها على النار لتنضج تماماً وبعدها يستطيع أن يشرب منها قدر ما يشاء! وهو العطشان الدائم إلى طعم "الإنجازات" و"الإنتصارات" الإلهية والوضعية على حدّ سواء!
"جنيف – 8" ليس نهاية المطاف بل بدايته. ومساره لن يكون قصير الأجل بل طويلاً.. لكنه في ذاته يدلّ على تكسّر أوهام الحلّ العسكري، بقدر ما يدلّ على تكسّر أوهام الأسد بإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل آذار 2011، وبقدر ما يكسّر أوهام إيران بالقدرة على فرض إرادتها الذاتية على واقع شديد التعقيد والتنوّع، بل بقدر ما يفتح الباب على فصل جديد أساسه تقزيم "نفوذها" بما يعنيه ذلك من "خروج" ميليشياتها و"عودة" السوريين إلى أرضهم!
والأنكى من ذلك، أنّ جنيف تنسف ما حاولت إيران وحواشيها وعاملها في دمشق أن ترسّخه وتظهره كحقيقة مفادها أنّ لا فرق بين عموم المعارضة والإرهاب! وإن هزيمة "داعش" تعني "إنتصاراً" لها ولـ"محور المقاومة"! وإن الأسد باقٍ ولو حتى على كومة حطام، في حين أنّ مَن طَالَبَ برحيله، رحل ولن يعود! والحق الحق يقال، إنه لو تُرِكَ جُلّ الأمر لإيران ومحورها "المقاوم" لحصل ذلك كله وأكثر منه..، لكن "قد خاب من إفترى"!
ثمّ الأمرُّ من ذلك، بالنسبة إلى إيران وحواشيها، هو أنّ المعارضة لا تزال "في مكانها" وتعود إلى أصل الموضوع وفصله وفيصله وترى أنّ لا حلّ فعليّاً وواقعياً وعملياً في "ظلّ" بقاء الأسد! وإن هناك في المنطقة والعالم من يشاطرها الرأي! وإن روسيا "تعرف" ذلك وتستمر في الدفع إلى جنيف.. برغم البديهة القائلة، بأنّ المعرفة لا تعني الموافقة العاجلة والتامّة، في كل حال!
لم يخطئ مَن افترض أنّ نهاية "داعش" ستعني بداية نهاية ما تبقى من سلطة الأسد، وفتح ملف "النفوذ" الإيراني الخارجي.. و"جنيف – 8" خطوة أولى على ذلك الطريق وليس خارجه!
أبلغ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي جرى بينهما يوم الجمعة الماضي، أنه أصدر تعليمات بعدم تقديم أسلحة إلى وحدات حماية الشعب الكردي التي تسيطر على ما يسمى "قوات سوريا الديمقراطية". وأدَّت هذه المكالمة الهاتفية إلى ارتياح في أنقرة، إلا أن التصريحات الغامضة التي جاءت من الولايات المتحدة أفسدت أجواء الارتياح، وأثارت علامات استفهام حول حقيقة الموقف الأمريكي من تسليح وحدات حماية الشعب الكردي.
المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة هاكابي ساندرز، وفي ردها على سؤال لأحد الصحفيين خلال الموجز الصحفي اليومي، أشارت إلى أن واشنطن ستقلص تسليح شركائها في محاربة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا؛ عقب انتهاء العمليات العسكرية هناك، إلا أنها استدركت قائلة: "لكن هذا لا يعني وقف الدعم الكامل لهذه المجموعات"، في إشارة إلى مليشيات وحدات حماية الشعب الكردي. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، بعد المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين التركي والأمريكي، أنها تنظر في المساعدات التي تقدمها لوحدات حماية الشعب الكردي، مشيرة إلى أنها ستواصل دعم تلك المليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني.
العلاقات التركية الأمريكية تدهورت في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق؛ لأسباب عديدة، ويأتي على رأسها الدعم السخي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى وحدات حماية الشعب الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وتجاهل واشنطن تحذيرات أنقرة حول احتمال استخدام المنظمة الإرهابية تلك الأسلحة الخفيفة والثقيلة في الأراضي التركية. كما أن الأتراك يرون أن سياسة واشنطن في سوريا ترمي إلى تمزيق هذا البلد العربي، وتقسيمه إلى دويلات، وإقامة حزام على الحدود التركية السورية؛ يمتد من شمال العراق إلى البحر الأبيض، ويسيطر عليه حزب العمال الكردستاني.
المليشيات الكردية قامت بتوسيع نفوذها في شمال سوريا تحت الغطاء الأمريكي؛ الذي حصلت عليه بحجة محاربة تنظيم داعش الإرهابي، كما أن واشنطن بررت تسليح تلك المليشيات بأنه أمر مؤقت حتى تنتهي الحرب على داعش، وينتهي وجود التنظيم الإرهابي في سوريا. إلا أن الخريطة الجديدة التي بدأت تتشكل في شمال سوريا؛ عززت شكوك أنقرة ومخاوفها، في ظل عدم التزام الولايات المتحدة بوعودها السابقة.
الإدارة الأمريكية في عهد أوباما وعدت أنقرة بأن وحدات حماية الشعب الكردي لن تعبر الفرات نحو الغرب. وبعد أن عبرت تلك المليشيات نهر الفرات للسيطرة على مزيد من الأراضي ومواصلة تمددها، قالت واشنطن، لطمأنة تركيا، إن وحدات حماية الشعب الكردي ستنسحب إلى شرق الفرات بعد تحرير منبج من عناصر تنظيم داعش. إلا أن كل تلك الوعود تبخرت، ولم تلتزم واشنطن بأي واحد منها، لا في عهد أوباما ولا في عهد ترامب، وليس هناك ما يضمن أن الإدارة الأمريكية سوف تفي بوعدها هذه المرة.
سياسة واشنطن؛ هذه خلقت لدى أنقرة شعورا بأن هناك خطرا يكبر يوما بعد يوم في شمال سوريا، ويهدد أمن تركيا ومستقبلها ووحدة أراضيها، ولا بد من مواجهته وإزالته مهما كان الثمن. وهذا الشعور دفع تركيا إلى تعديل سياستها الخارجية، والتقارب مع موسكو وطهران، كما أنها قررت شراء صواريخ "أس 400" من روسيا؛ لتعزيز دفاعها الجوي، بعد أن خذلها حلف شمال الأطلسي في وقت كانت تركيا فيه بأمس الحاجة إلى مساندته. ولكن هذا التغيير في سياسة أنقرة أزعج واشنطن؛ التي بدأت تمارس سياسة العصا والجزرة لدفع تركيا إلى التراجع عن خطوة التقارب مع روسيا وإيران.
وفي خضم هذه التطورات، صرح وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، بأن بلاده تنتظر من تركيا أن تجعل الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي من أولوياتها. وقال في كلمة ألقاها الثلاثاء، في ندوة نظمها مركز ويلسون سنتر للفكر والأبحاث في العاصمة الأمريكية، إن تركيا تعتبر من أهم حلفاء حلف شمال الأطلسي، وعليها القيام بواجباتها على أكمل وجه، مضيفا أن إيران وروسيا لن تستطيعا أن تقدّما لتركيا المنافع السياسية والاقتصادية؛ بقدر المنافع التي تجنيها الأخيرة من المجتمع الغربي.
إن كانت الولايات المتحدة تعتبر تركيا من أهم حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وتنتظر منها القيام بواجباتها، فإن تركيا بدورها تنتظر من واشنطن الكف عن دعم المنظمات الإرهابية التي تهدد أمنها القومي والالتزام بوعودها، كما أن الأتراك يتساءلون في ظل التصريحات المتضاربة التي تصل إليهم من واشنطن، ويقولون: "من نصدق؛ ترامب؟ أم البنتاغون؟ أم الحقائق التي نشاهدها على أرض الواقع؟".
محطات عديدة عرفتها القضية السورية بوصفها قضية عادلة بدأت حين انتفضت غالبية السوريين -منذ أكثر من ست سنوات- للخلاص من استبداد نظام آل الأسد؛ لكن تدخلات القوى الدولية والإقليمية حولتها إلى صراع مصالح وتقاسم نفوذ، وراحت تديرها وتدوّرها وفقاً لمشاريعها وأجنداتها المختلفة.
كما باتت تتعامل معها بوصفها أزمة صعبة ومعقدة، تطلّب الخوض في تسويتها عقد قمم ومؤتمرات واجتماعات عديدة ما بين جنيف وفيينا وأستانا، مروراً بالرياض ووصولاً إلى سوتشي، حيث عُقدت قمة ثلاثية بين رؤساء كل من روسيا وتركيا وإيران، بالتزامن مع اجتماع قوى وهيئات المعارضة في مؤتمر الرياض 2، الذي يراد منه تطويع قوى المعارضة وفق المتغيرات والمستجدات الدولية والإقليمية والميدانية.
قمة سوتشي الثلاثية
أراد الساسة الروس من قمة سوتشي الثلاثية وضع أسس تسوية سياسية على طريقتهم، تضمن في البداية مصالحهم ونفوهم في سوريا، لذلك جرى إحضار رئيس النظام السوري على عجل عشية انعقاد القمة، لضمان انخراطه في ترتيبات التسوية الروسية، وتأكيد استعداده الكامل للتعامل الإيجابي مع نتائجها، بغية توفير تأثير أوسع لهم على النظام الإيراني، بوصفه الطرف الأقدة على عرقلة ترتيباتهم.
وقد عكس ذلك استعجالَ الساسة الروس لاستثمار ما حققوه على الأرض سياسياً، بما يفضي إلى عقد صفقة تسوية سياسية للقضية السورية على حساب سوريا والشعب السوي، عبر اعتماد حلول ينحصر سقفها في كتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات بإشراف أممي، ومشاركة المعارضة في السلطة ضمن حكومة "وحدة وطنية".
وكل ذلك تحت ظل بقاء بشار الأسد في السلطة (التي لم يعد يمتلكها)، مما يعني ضرب القرارات الأممية، وخاصة بيان جنيف 1 (يونيو/حزيران 2012) والقرارين الأممين 2118 و2254، وبالتالي إلغاء المرحلة الانتقالية على أساس بيان جنيف، الذي من المفترض أن تجري على أساسه مفاوضات جنيف.
وقد جاء ذكر مفاوضات جنيف على مضض في المؤتمر الصحفي الختامي لقمة سوتشي، مقابل تبني مؤتمر "الحوار السوري الشامل"، أو مؤتمر "الشعوب السوري" في سوتشي، لتُنقل بذلك القضية السورية من مسار أستانا الأمني إلى مسار سوتشي السياسي الجديد، على حساب تهميش مسار جنيف.
مؤتمر الرياض 2
ولم يكُ مصادفةً تزامنُ انعقاد مؤتمر الرياض 2 مع قمة سوتشي الثلاثية، فالساسة الروس أردوا أن تكتمل محاولاتهم في إيجاد تسوية سياسية للقضية السورية، عبر تشكيل هيئة تفاوضية جديدة للمعارضة السورية تنال رضاهم، وتضم أعضاء من منصتيْ موسكو والقاهرة، وتشكيل وفد تفاوضي جديد يقبل بمخرجات المتغيرات الدولية والإقليمية، السياسية والميدانية.
وهو أمر عكسته حيثيات عقد مؤتمر الرياض 2، حيث تمّت الدعوات إليه وفق التفسير الروسي للقرار 2245، الذي تمسك بأخذ القرار "علماً بالإجماعات التي جرت في موسكو والقاهرة"، وأدار ظهره للهيئة العليا للمفاوضات التي تمخض عنها اجتماع الرياض 1، بوصفها مرجعية للتفاوض مع النظام السوري، حسبما نص عليه القرار الأممي نفسه.
ولذلك ظلّ الساسة الروس يطعنون في شرعية الهيئة العليا للمفاوضات، ولم يكفوا عن محاولة خلق منصات معارضة جديدة في ظل تفاهمات أجروها مع الساسة الأميركيين والأتراك والسعوديين وسواهم.
وقد استُبِق مؤتمر الرياض 2 باستقالة المنسق العام للهيئة رياض حجاب وأعضاء آخرين فيها احتجاجاً على تجاوزها، رغم أنها سبق أن شكّلت لجنة تحضيرية لتوسعتها عبر ضم ممثلين جدد إليها، وفق أسس ومعايير الحفاظ على ثوابت الثورة السورية وطموحات غالبية السوريين، لكن لجنة تحضيرية جديدة تشكّلت قبيل انعقاد الرياض 2، وضمت أعضاء من منصتيْ موسكو والقاهرة.
ومع ذلك لم تشارك منصة موسكو في اجتماعات الرياض 2 إلا عبر ممثليْن اثنيْن، وأعلنت انسحابها بسبب تضمّن مسودة البيان الختامي التأكيد على رحيل النظام في بدء المرحلة الانتقالية، لكنها تذرعت بما زعمته عن "عدم التوصل إلى توافقٍ أثناء اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر حول الأسس والمبادئ، التي يجب أن يستند إليها الوفد التفاوضي الواحد الذي يجب أن يُشكَّل نتيجة اللقاء الموسَّع في الرياض".
ورغم الاستقالات المتعددة لأعضاء الهيئة العليا للتفاوض، واستبعاد غالبية أعضائها؛ فإن ذلك لم يعق انعقاد المؤتمر، لكنه أثار شكوك الحاضنة الشعبية والنشطاء والمعارضين بشأن أهداف وحيثيات انعقاد الرياض 2.
فقد أصدرت شخصيات سياسية وعسكرية ونشطاء ورؤساء مجالس محافظات بياناً، طالبوا عبره المجتمعين في الرياض بضرورة الحفاظ على ثوابت الثورة وعدم التفريط فيها، والتي تتمثل في "رحيل بشار الأسد وزمرته المجرمة، والالتزام بعملية الانتقال السياسي المستندة إلى المرجعية الأممية، والمتمثلة بهيئةٍ حاكمةٍ انتقاليةٍ ذات صلاحيات كاملة".
وقد عُقد مؤتمر الرياض 2 في ظل تخلي الولايات المتحدة وحلفائها، وأغلب دول مجموعة أصدقاء الشعب السوري عن المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري.
والأدهى من ذلك هو قيام واشنطن وحلفاؤها الغربيون بتحجيم فصائل المعارضة في الجنوب السوري، وإبعاد فصائل البادية والفصائل الأخرى عن معارك الرقة ودير الزور والبوكمال، مقابل تقاسم معركة السيطرة على مناطق تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بينها وبين مليشيات "وحدات الحماية" الكردية الحليفة لها، وبين روسيا ومليشيات النظام ومليشيات النظام الإيراني الطائفية التي تدعمها.
وهو الأمر الذي أسهم في تقوية طرف النظام والمليشيات الحليفة له، وجعل الروس يشعرون بأنهم الطرف الأقوى في سوريا، ويتحدثون عن انتصارات عسكرية حققوها وباتوا يبحثون عن استثمارها سياسياً، عبر التلاعب بالقضية السورية وجعلها لعبة يتناقلونها مع آخرين ما بين أستانا وجنيف والرياض وسوتشي.
مخرجات الرياض 2
ومع انعقاد مؤتمر الرياض 2 عّبر سوريون كثر عن خشيتهم من أن يُضيّع المجتمعون فيه ما بقي لهم من أمل، لأن اتساع وتنوع طيف المشاركين في هذا مؤتمر يعني أنهم سيتفقون على نقاط الحدّ الأدنى بغية تحقيق التوافق بينهم.
ذلك أن بعضهم لا يقبل إلا بحل سياسي يضمن عملية انتقال سياسي تنقل سوريا من عهد الاستبداد إلى عهد الحرية والخلاص، عبر تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية وفق القرارات الأممية ذات الصلة، وبعضهم الآخر جرى تصنيعه في موسكو أو سواها على أنه معارضة كي يعترض على إدراج مصير الأسد في أي مناقشات أو مخرجات المؤتمر.
ولذلك فإن اتساع طيف المشاركين يطرح مشكلة تنافر أطروحاتهم وخلافاتهم السياسية، الأمر الذي ولّد تخوفاً من أن تفضي مخرجات الرياض 2 إلى توافقات على حساب القضية السورية، حيث أقر المؤتمر بياناً ختامياً عاماً، تضمن كلاماً دبلوماسياً مثل أن "المشاركين ناقشوا الموضوعات المدرجة على جدول الأعمال، وتبنوا الآراء في أجواء يسودها الاحترام المتبادل، والشعور العميق بالمسؤولية التاريخية تجاه الشعب السوري الصامد، وخلصوا إلى التوافق حول القضايا المصيرية التي تواجه سوريا".
ومثل هذا الكلام الإنشائي -وسواه مما ورد في البيان الختامي عن التوافق حول القضايا المصيرية- لا يخدم سوى تمييع المطالب العادلة للسوريين، ويفتح الباب للتأويل واختلاف الفهم، إذ المطلوب من البيان الختامي هو بنود واضحة غير قابلة للتأويل.
وذلك مثل أن يقوم الحل السياسي على الالتزام الكامل ببيان جنيف 1 والقرارات الأممية 2118 و2245 والمطالبة بتنفيذها، والبدء في تنفيذ الانتقال السياسي عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وعدم القبول بأي دور لبشار الأسد وأركان نظامه منذ بدء العملية الانتقالية.
وقد ورد في البيان الختامي أن "هدف المؤتمر توحيد صفوف قوى الثورة والمعارضة، في رؤية مشتركة لحل سياسي بناء على جنيف 1 (2012)، وقراريْ مجلس الأمن (2118) و(2254)، والقرارات الدولية ذات الصلة، بما يؤسس لمرحلة انتقالية تقود البلاد إلى نظام سياسي ديمقراطي تعددي مدني، يحقق العدالة وينصف ضحايا الاستبداد، وجرائم الحرب".
والسؤال المطروح هو: كيف سيتم التأسيس لمرحلة انتقالية تقود البلاد إلى نظام سياسي ديمقراطي من دون عملية انتقال سياسي أولاً، تنقل البلاد من نظام الاستبداد إلى نظام ديمقراطي. وحتى عندما ورد ذكر إقامة هيئة حكم انتقالية، جاء بوصفها قادرة على "أن تهيئ لبيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية".
ثم أشار البيان إلى أن "المشاركين اتفقوا على أن هدف التسوية السياسية هو تأسيس دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، مما يمكّن السوريين من صياغة دستورهم دون تدخل، واختيار قادتهم عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، يشارك فيها السوريون داخل وخارج سوريا، تحت إشراف الأمم المتحدة، ضمن آلية تصون حقهم في مساءلة تلك القيادات ومحاسبتها، وتحقيق عملية انتقال سياسي جذرية".
ولكن من سيقوم بالانتخابات؟ وهل ما ورد من صياغة الدستور وإجراء الانتخابات هو إرضاء للطرف الروسي، الذي نقل القضية السورية من أستانا إلى سوتشي من أجل حوار حول كتابة الدستور وإجراء انتخابات مثلما حددها الرئيس فلاديمير بوتين في قمة سوتشي الثلاثية؟
اللافت هو أن حيثيات مؤتمر الرياض 2 تمت تحت عنوان توحيد المعارضة، وهو أمر اعتدنا عليه كلما زادت الضغوط الدولية والإقليمية في اتجاه تطويع المعارضة وتمييع مطالبها، وترافق ذلك مع غياب أي أفق حقيقي للحل السياسي المطلوب لخلاص سوريا والسوريين، وتكرر الأمر مع ظهور بوادر استحقاقات جولات التفاوض بجنيف ومسار أستانا وسواهما.
لكن الأمر نفسه يتكرر في أيامنا هذه بشكل فاقع مع التوافقات الروسية والأميركية الهشة، وبعد فشل مسار أستانا والتعويل الروسي على مؤتمر سوشي المقبل، ودعوة المبعوث الأممي إلى جولة ثامنة من مفاوضات جنيف.
ولعل البتّ فيما يُعرف بـ"عُقدة الأسد" هو أبرز ما يواجه المعارضة السورية، في ظل تغير مواقف القوى الدولية الداعمة للمعارضة، وإصرار روسيا وإيران على رفض حتى مجرد الحديث عن رحيل الأسد، سواء في المرحلة الانتقالية أو حتى ما بعدها.
كما أن بيان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترمب -في العاصمة الفيتنامية- حصر توافقاتهما بخصوص سوريا في التنسيق العسكري، ودحر تنظيم "داعش"، واعتماد صيغة "مناطق خفض التصعيد"، والتفاوض على إصلاحات دستورية وإجراء انتخابات على أساس القرار الأممي 2254. ومن هنا تأتي خطورة إعادة تشكيل أو تطويع وفد المعارضة التفاوضي وحصره في قبول مثل هذه التوافقات، التي تريد تحديد مصير بلادهم ومستقبلها.
الجولة الثامنة للمفاوضات السورية جارية في جنيف، وقد أخذت رقم جنيف 8، لربما نصل إلى جنيف 35، لأن المفاوضات "تسليك وقت"، حيث لا أحد من طرفيها يمتلك القرار، وبالتالي، يعتمد نجاحها على قرار القوى المقرّرة، أي روسيا التي تحتل سورية، وأميركا التي تسيطر على جزء منها ورقة مساومة.
وعلى الرغم من أن روسيا قد "رتبت" الأوراق مع تركيا التي باتت متسقة مع التكتيك الروسي، بما في ذلك قبول بشار الأسد (ولو مرحلياً). ومع السعودية التي باتت توافق على المنظور الروسي، وهي أصلاً لم تختلف مع بشار الأسد سوى أنه "خذلها" واعتمد على إيران، الدولة التي باتت منذ نهاية سنة 2013 تسيطر على القرار العسكري/ السياسي السوري، وهو ما كان لا يروق للسعودية. ويبدو أن روسيا متوافقة مع إيران، على الرغم تضارب مصالح البلدين. وكذلك أصبح الموقف الأوروبي أكثر "طراوة". على الرغم من ذلك كله، هناك "عقدة" لم تحلّ، تتعلق بالتوافق الأميركي الروسي، حيث تبدو أميركا ما زالت تناور، على الرغم من إيحائها، في وقت سابق، أنها توافقت مع روسيا، كما ظهر في بيان ترامب/ بوتين في فيتنام. لهذا أوضحت هي وفرنسا أن مسار جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية، بمعنى أنها تقطع الطريق على المسار الذي يتقدّم به الروس في سوتشي.
يصرّ الإعلام العربي الذي بات يتوافق مع روسيا على إظهار "انتصار" الأسد، من خلال الحديث عن توسّع سيطرته على الأراضي السورية، وربما سيكرّر أنه بات يسيطر على 98% من الأرض. وكل الحديث يجري عن "تقدّم" "الجيش العربي السوري" في البادية السورية ودير الزور والبوكمال.
وبالتالي، يجري إظهار الانتصار الكبير الذي تحقق. لكن كل الإشارات هنا توضّح أن داعش إيران تسيطر على مناطق داعش روسيا. حيث كانت هذه المنطقة بالذات تقع تحت سيطرة داعش الروسية، ويتحكّم بها شيشان بلباس داعش، ولقد أشير إلى عودتهم إلى الشيشان، وعودة انخراطهم في الفصيل الذي شكله بوتين من الشيشان، بعد السيطرة عليها وتدمير غروزني بزعامة قاديروف، الرئيس الذي أعلن أن روسيا أرسلت مجموعات دربت الوهابيين، وهي موجودة في سورية. بمعنى أن هؤلاء "الدواعش" أنجزوا المهمة، وعادوا إلى بلادهم، ليحل محلهم دواعش جدد، من حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني.
لقد تقاسمت كل من أميركا وروسيا الوضع في شرق سورية، حيث كان شرق نهر الفرات لداعش التي ترعاها أميركا، وغربه لداعش الروسية، ولقد التزم كل منهما بعدم قصف مناطق الآخر. لهذا، لم نلحظ قصفاً أميركياً للبادية السورية، وجرى بعض القصف في منطقة دير الزور التي توجد فيها داعش الأميركية، ولم يقصف الروس شرق الفرات إلا لماماً (ضد الرقة). وبالتالي، "استعاد" كل منهما "مناطقه"، بقوى كردية، فيما يتعلق بأميركا، وإيرانية فيما يتعلق بروسيا.
بالتالي، لم تختلف السيطرة على الأرض كثيراً، حيث ما زال الجنوب بيد الجبهة الجنوبية، والغوطة وجوبر وعربين بيد جيش الإسلام وفيلق الرحمن (مع وجود صغير لجبهة النصرة). وما زال الجيش الحر في ريف حمص الشمالي، وريف حلب الجنوبي وجرابلس والباب وإدلب وريفها (بدعم تركي).
وتسيطر قوات سورية الديمقراطية، بالدعم الأميركي، على الجزيرة السورية، وصولاً إلى البوكمال. في ذلك كله، يغيب "الجيش العربي السوري"، ويبدو النظام ألعوبة بيد روسيا التي لا يبدو أنها اقتنعت بأن أي حل سيكون مستحيلاً، في حال التمسك ببقاء بشار الأسد. حيث سيبقى الصراع المسلح، وتبقى التدخلات الدولية. .. لهذا أشرت إلى أننا في سلسلة جنيفات لم تصل إلى نهايتها.
بات في حكم المؤكد أن الحل الذي يجري طبخه لسورية اليوم بين موسكو وبعض العواصم الإقليمية، مثل طهران وأنقرة والرياض، لا دور فيه ولا كلمة للسوريين. وأصبح كل ما يتعلق بمصير الشعب السوري ومستقبله رهينة إرادات أطراف خارجية. يحاول الجميع أن يفصل للسوريين حلولا، ليس على مقاس الهموم والمطالب والقضايا التي خرجوا، منذ أكثر من ست سنوات، من أجلها، ودفعوا قرابة مليون شهيد ومليوني معاق، كما بات نصف الشعب مهجّرا وقرابة 60 في المائة من البلد مدمرا، بما في ذلك البنى التحتية ووسائل الإنتاج.
يريد الذين يتحكّمون بقرار الشعب السوري تسويق حلٍّ يلبي مصالح الأطراف الدولية والإقليمية، على شكل تفاهمات بين هذه الأطراف، وتلعب روسيا في ذلك دور المايسترو الذي يتميز عن الجميع بدوره في منع سقوط النظام بعد عامين من العمليات العسكرية ضد قوى الثورة. ولذلك باتت الطرف الأساسي الذي يتولى توزيع الأدوار.
نجاح روسيا في منع سقوط النظام أمر مؤقت، ولا يمكن أن يتحول معطىً ثابتا يتم على أساسه تحديد مستقبل سورية وشعبها، وهي تدرك أن إنجازها العسكري لا يعني أنها غيرت مجرى الأحداث في هذا البلد من غير رجعة. وتبقى هناك مسألتان أساسيتان: الأولى أنها لن تتمكّن من تحقيق إجماع سوري على الحل الذي تطرحه، ما دامت متمسّكة ببشار الأسد. وفي شتى الظروف، لن تجد من المعارضة طرفا وازنا يسير معها على أساس استمرار الأسد في الحكم. والمسألة الثانية أنه لن يتحقق الاستقرار أبدا من دون أن يكون هناك رضى شعبي، ففي اليوم الذي تتوقف فيه الحرب، سوف ينزل السوريون مرة أخرى إلى الشوارع، من أجل الخلاص من نظام الأسد، والحصول على الحرية واستعادة الكرامة.
إصرار الروس على بقاء الأسد في المشهد السياسي يضع حجر عثرة على طريق الحل، ومهما حصل من تطوراتٍ وتسويات، يبقى الأسد نقطة الخلاف الرئيسية، ويعتبر الشعب السوري رحيل هذا الرجل الخطوة الأولى على طريق الحل.
لا يستطيع أحد إجبار السوريين على قبول بشار الأسد، والعالم كله يجمع على أن من غير المنطقي إعادة إنتاج بشار الأسد، وأن شرط أي حل دائم هو وضع الأسد خارج أي عملية سياسية، والعمل على إحقاق العدالة للضحايا، بإحالته، هو وعصابته، إلى المحاكم الدولية المتخصصة بالجرائم ضد الإنسانية. وإذا تغاضى المجتمع الدولي عن هذه النقطة سوف تتقوّض مصداقية العدالة الدولية ومبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
تكمن العقدة الرئيسية منذ بيان جنيف 1 في يونيو/ حزيران 2012 في محاولات القفز على إرادة الشعب السوري. وقد تورّط الروس، في حينه، بالموافقة على تشكيل هيئة حكم انتقالية، وكل ما قاموا به، منذ ذلك الحين، سواء في مجلس الأمن أو الميدان العسكري، هو الانقلاب على "هيئة الحكم الانتقالية"، واستبدالها بحكومة وحدة وطنية بين المعارضة والنظام، تحت رئاسة الأسد.
أن تضع السعودية قائمة المدعوين، وجدول أعمال اجتماع المعارضة (الرياض 2) على أرضها، أمر في غاية الوقاحة، لكنه ليس بالشأن الغريب، بل يأتي، في جميع الأحوال، ضمن سياق الدور المسند لها، وهو تخريب الثورة السورية. ينطبق الأمر نفسه على الاجتماع الثلاثي الذي دعا إليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، نظيريه الإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان يوم الأربعاء الماضي، من أجل الانتقال إلى عملية سياسية لإعادة تدوير الأسد في وقتٍ كان يجب تقديمه إلى محكمة الجنايات الدولية، بوصفه أخطر مجرم ضد الإنسانية عرفه تاريخ البشرية.
يعلن النظام السوري، عبر نائب وزير خارجيته، فيصل المقداد، مسبقاً وبكل صراحة، إجهاض كل جهود المعارضة التي تخوض حاليا الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، التي ترعاها الأمم المتحدة، في تصريح له من طهران، نافياً فيه وجود مرحلة انتقالية في سورية، ما يعني أنه يرد على بيان مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية، قبل أن يجفّ الحبر الذي كتب به، بل طالب مقداد المعارضة بالتوقف عن ذكر ذلك، والإقلاع عن ما اعتبره "توهمات" لديها، وذلك وسط صمت دولي عن هذه التصريحات التي تتحدى المجتمع الدولي وقراراته، أيضاً، مثل بيان جنيف 1، وقرارات مجلس الأمن الدولي، لاسيما 2118 و2254.
يضع هذا الأمر المعارضة أمام مواجهة جملة من التساؤلات، قبيل دخولها مسرحية التفاوض المملة، والطويلة، التي تدور حتى اليوم في فلك أوهام من يسعى إلى المشاركة فيها، مثلاً: هل تعرف المعارضة أنها تشارك في لعبة مكشوفة لتمرير الوقت في نقاشاتٍ لا تؤدي إلى نتائج ملموسة في القضية الأساسية للثورة السورية، وهي الانتقال السياسي؟ أو هل تملك المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، خياراتٍ بديلة عن مسار جنيف، كحال النظام الذي يقدم له داعموه خياراتٍ تفاوضيةً متفاوتة، عسكرية في أستانة، وهدنا محلية، ومؤتمرات جانبية، وما يحضر له اليوم في سوتشي ليكون مختبراً جديداً في شقّ طريق حوارٍ تسميه روسيا "وطنيا"؟ أيضاً، هل لدى المعارضة خيار الموافقة على المشاركة في مؤتمر سوتشي أو رفضه، فيما إذا توافقت الدول الصديقة أو بعضها "للشعب السوري"، أي للمعارضة على مخرجات هذا المؤتمر وحصصها فيه؟ وتعزّز مشاركة منصة موسكو في مؤتمر الرياض 2، هذا السؤال، وكذا الوساطة التي لعبها المندوب الروسي في إعادة وفد المنصة للمشاركة في الوفد التفاوضي الذي نتج عن اجتماع المعارضة الثاني، بعد إعلان ممثل المنصّة انسحابه من المؤتمر.
على ذلك، هل تنتظر موسكو ثمناً لما اعتبره بعضهم تسليفا مسبقا، ربما تكون مشاركة المعارضة في سوتشي ذلك الثمن المنشود لإضفاء شرعية عليه، واعتباره أحد مسارات الحل السياسي "اللايت" الذي تعمل عليه روسيا، وتدجن المعارضة لقبوله لاحقاً، من خلال جلوسها في صف واحد مع منصة موسكو التي كانت المعارضة نفسها ("الائتلاف" خصوصا) اعتبرتها، لزمن طويل، أقرب إلى النظام منها إلى المعارضة، والتي اعتبرها كثيرون من أعضاء "الهيئة العليا للتفاوض" السابقة بأنهم يريدون الدفاع عن بقاء الأسد؟
في السياق نفسه، نلاحظ أن تركيا، أي الصديق الأقرب إلى المعارضة، ترى في مؤتمر سوتشي المقبل مخرجاً للقضية السورية، إذ عبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن ذلك بتفاؤل كبير، إلى حد قوله، في اجتماع لحزبه (العدالة والتنمية): "العالم كله رأى الأمل والاستقرار والسلام والمستقبل في قمة سوتشي، كما رأى إخواننا السوريون في القمة إمكانية العودة إلى وطنهم". وذلك يعني أن المعارضة وأشخاصها التي كانت رفضت مؤتمر سوتشي، واعتبرته محاولة لإعادة إنتاج النظام في سورية، وأنه مؤامرة روسية على مفاوضات جنيف الأممية، يضعها أمام فرصة لاختبار قدرتها على المناورة أمام مضيفها الأهم، تركيا من جهة، وأمام حاضنتها الشعبية التي عبرت عن موقفها الرافض "سوتشي" بمظاهرات يوم غضب سوري في كل عواصم وجودهم ومدنه، وفي الداخل السوري وأيضاً في إسطنبول.
على ذلك، هل ستكون المعارضة التي تقيم معظمها، ونحو ثلاثة ملايين من السوريين، في تركيا، على ضفة أخرى من القرار المتعلق بحضور "سوتشي"، أم إنها ستجد المبرّرات اللازمة لحضورها، وتلافي الصدام مع الرغبة التركية في إنهاء ملف الصراع السوري، خصوصا أن أردوغان بشّر بوجود مقترح بدستور جاهز، وموافق عليه من تركيا؟
ربما ستتعلّم المعارضة، هذه المرة، وهي تتراجع عن قراراتها ولاءاتها الكثيرة، أن التروّي في دراسة ما تقدمه موسكو لها قبل إطلاق صرخاتها، يجنّبها حرجا كثيرا كيانات وشخصيات، ويجنب السوريين مزيدا من التعلق بأوهام الشعارات التي ترفعها، وسرعان ما تتنازل عنها، بسبب اضطرارها إلى مسايرة قرارات الدول الداعمة لها، والتي شهدنا خلال السنوات الماضية تغيراتٍ في موقعها مع القضية السورية، ومنها.
تفاؤل تركيا وإصرارها على المضي في إنجاح مؤتمر سوتشي، والوصول من خلاله إلى "حل سياسي" ربما يمكن ربطه مباشرة بتصريحات أميركية، ربطت خروج القوات الأميركية من سورية بالوصول إلى حل سياسي، وليس فقط بانتهاء المعركة ضد "داعش"، أي أن هذا التسريع، هو، ربما، لإنهاء المساندة التي تتلقاها القوات الكردية، قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وبالتالي، يمكن تصوّر أن الدستور المقترح في موسكو ينهي طموحات الأكراد في حكم ذاتي لهم على حدود متاخمة لتركيا.
صحيح أن السياسة مفتوحة الأبواب دائماً، وهو تعبير للرئيس أردوغان، لكنها بالنسبة إلى المعارضة السورية ما تزال أبوابها موصدة، وفي أحسن الأحوال مواربة، يحتاج دخولها أوراقا كثيرة من القوة التي تبدّدت خلال سبع سنوات من نفاق العالم، وصمته على مأساة السوريين، وابتعاد المعارضة عن قاعدتها الشعبية.
أظهر الإعلام الروسي - الإيراني حرصاً خاصّاً على الترويج لخبر إعلان الرئيس الحالي لمجلس الأمن الدولي أن بيان قمة سوتشي الثلاثية سيُنشر كوثيقة رسمية للمجلس بطلب من الدول الثلاث. هذا لا يجعل منه قراراً دولياً ملزماً وإنما مجرّد إشعار للدول الأعضاء بما يرغب فيه الرئيس الروسي بالنسبة إلى سورية، وما وافقه عليه نظيراه الإيراني والتركي. وعلى رغم أن البيان يتضمّن مواقف مبدئية فقد ركّز ذلك الإعلام على «دعوة الحكومة والمعارضة في سورية إلى مؤتمر الحوار الوطني الواسع بمشاركة ممثلين عن جميع مكوّنات المجتمع السوري» الذي يُفترض أن ينعقد يوماً ما في سوتشي، وتريد موسكو أن تدعو إليه نحو ألف شخص متوقّعة أن يصدر عنهم بيان مشترك، معدّ مسبقاً، تستطيع أن تعتبره بمثابة «مصالحة» محقّقة بجهودها وحدها.
في الأثناء كانت دول عدّة، على رأسها السعودية، تجهد تحضيراً لمؤتمر يضم فئات المعارضة كافةً، بما فيها مجموعتا موسكو والقاهرة، بغية تأمين اتفاقها على بيان سياسي موحّد ووفد موحّد إلى مفاوضات جنيف. لذلك وجب الاستفهام عن الحكمة والهدف من «حوار سوتشي»، وكان جواب موسكو أنه فكرة ومبادرة لـ «مساعدة السوريين في إعادة وحدة البلاد وتحقيق التسوية السياسية للأزمة من خلال عملية شاملة وحرّة وعادلة وشفافة يقودها السوريون وينفذونها بأنفسهم» (بحسب بيان قمة الرؤساء). لكن هذا هو أيضاً هدف مفاوضات جنيف استناداً إلى بيان جنيف والقرار 2254 والقرارات ذات الصلة. هنا جاء التوضيح الروسي بأن القرار في شأن «حوار سوتشي» يتّخذ في ضوء مخرجات مؤتمر «الرياض 2».
وإذ أبدت موسكو تمسّكاً بمؤتمرها فقد عنى ذلك أولاً أنها غير راضية عن صيغة توحيد المعارضة كما أنجزت، وثانياً أنها تفتعل ازدواجية الحوارات للمساومة على مضمون الحل السياسي المنشود، مع أنها هي التي ألحّت على أن تعاود المعارضة الاجتماع لضمّ «منصة موسكو»، وهو ما حصل فعلاً، كما أنها نفت بصيغ رسمية وغير رسمية عزمها على جعل «حوار سوتشي» بديلاً من مفاوضات جنيف. غير أن بيان قمة بوتين- روحاني- أردوغان لم يشر إلى المرجعيات الدولية، بل استعار فقط بعضاً من عبارات القرار 2254 ليؤكّد ما نُقل مراراً عن موسكو بأن لديها تفسيرها الخاص لبنود عامة في القرار لا تحتّم، في نظرها، أن يتمّ التفاوض على النحو الذي تتّبعه الأمم المتحدة منذ البدء بجولات جنيف.
مَن سيُدعى إلى «حوار سوتشي»؟ يحدد بيان القمة الثلاثية «ممثلي حكومة الجمهورية العربية السورية والمعارضة، المتمسكين بسيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدتها ووحدة أراضيها». ومن الداعي؟ إنها الدول الثلاث التي تتقاسم حالياً، بالاضافة الى الولايات المتحدة، «سيادة الدولة» وتستثمر في عدم «استقلالها» وتتهيّأ لمساومات على «وحدة أراضيها». بل إنهم أولئك الذين يتلاعبون بالألفاظ، من «حل سياسي» إلى «تسوية» إلى «عملية» سياسية، ويتفنّن «خبراؤهم» خصوصاً الروس والإيرانيين في استنباط أساليب التحايل على القرارات الدولية وهي كل ما استطاع الشعب السوري تحصيله بتضحيات هائلة. ثم يقولون إنهم يسعون إلى «عملية شاملة وحرّة وعادلة وشفّافة يقودها السوريون وينفّذونها بأنفسهم»، لكن أي سوريين؟ روسيا وإيران اختارتا «سورييهما» المناسبين للنظام الذي تريدانه أن يقود وينفّذ، وتوشك تركيا أن تنضمّ اليهما، وكأن هذه الدول تغلّب مكابرتها على الحقائق فلا تعرف ولا تعترف بأن لديها نظاماً متهالكاً ورهاناً خاسراً بالضرورة.
في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) استبق بوتين القمة الثلاثية بلقاء مع بشار الأسد. كانت مناسبة لاحتفال ثنائي بـ «الانتصار على الإرهاب» بعدما بالغت طهران في ادّعاء أبوة هذا الانتصار، لكنها كانت أيضاً فرصة لبوتين كي يُسمِع الأسد مباشرة أن العملية السياسية «يجب أن تبدأ» تأسيساً على احتواء الصراع المسلّح بـ «مناطق خفض التصعيد» وانتهاء «الحرب على الإرهاب» أي على «داعش». وأبدى الأسد موافقته على مشاركة النظام في العملية السياسية، وإن لم يقتنع بأن «الإرهاب» انتهى. لكن الإيرانيين عالجوا احباطه سريعاً، إذ طمأنوه إلى أمرَين: الأول، أن الروس يوشكون أن يحققوا اختراقاً في «الرياض 2» بتغيير تركيبة المعارضة ووفدها التفاوضي، لتصبح متحكّمة بإطروحاتها في مسار جنيف من خلال ممثلي «منصّتَي» القاهرة وموسكو وعدد من «المستقلّين». والثاني، أن بوتين يعطي الأولوية لـ «حوار سوتشي» ويفاوض الأميركيين والأتراك كي يضغطوا على ائتلاف المعارضة وحلفائه من ممثلي الفصائل والمستقلّين للمشاركة فيه، وإذ ينصح الحليف الروسي بالمحافظة «موقّتاً» على مسار جنيف فإنه يعمل على قتله في الوقت المناسب.
جاء بيان القمة الثلاثية ليؤكّد ما قاله الإيرانيون، ولعل الأسد شعر بالظفر والارتياح إزاء تصريح أردوغان باحتمال معاودة التواصل معه، إلا أنه فوجئ بقول بوتين إن العملية السياسية تتطلّب «تنازلات من الجانبين»، فهذه عبارة تنقض نهجه منذ بداية الأزمة، لكن الأرجح أن بوتين كان يقول ما يرغب في إسماعه للأميركيين. وفي أي حال يعرف الأسد أن تغليب الارهاب على الصراع الداخلي انتهى أو يكاد، كذلك الرهان على استحالة/ أو عرقلة «توحيد المعارضة»، أي أن عليه أن يتهيّأ الآن لمقاومة استحقاقات الحل السياسي تأسيساً على أن الحليف الروسي مصرٌّ على «حوار سوتشي» لتكريس مكانة النظام وبقائه في أي حل، وعلى أن هذا الحليف عمل طويلاً مع المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا ونائبه رمزي رمزي لتمييع مسألة «الانتقال السياسي»، وقد نجحا حتى الآن في المهمة، لكن بقي أن تقنعهما موسكو بأن «التفاوض المباشر» بين النظام والمعارضة لا يخدم العملية السياسية.
بل بقي أن ينجح اختراق المعارضة في «الرياض 2». الواقع أن تغييراً حصل في بنية المعارضة، لكنه ليس على النحو الذي توخّته موسكو. فمهما كان «معارضوها» موالين لها أو للنظام فإن دخولهم اللعبة لنسف المعارضة قد يضرّ بها، لكنه يدمّر أي صدقية لهم، ما يعني انكشافهم سريعاً بأنهم يُستخدَمون لتخريب التفاوض لا للتوصّل إلى حلّ. ثم إن نقاشهم داخل الإطار الموسّع للمعارضة يختلف حُكماً عن أي حوار مع «الخبراء» الروس، ولا بدّ أن يستند إلى شيء من المنطق: فالحلّ السياسي يعني مرحلة انتقالية، وهذه تعني بالضرورة أن لا عودة لسورية الى ما كانت عليه، وأن تقبل بالتفاوض «من دون شروط مسبقة» لا يمكن أن يعني طمس الشروط الموجبة لحلّ حقيقي، وأن تقول أو لا تقول بـ «مغادرة الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد مع بدء المرحلة الانتقالية» يتوقّف على ما إذا كانت المعارضة تبحث عن حلٍّ يخرج سورية من محنتها أم أنها تسعى إلى حلٍّ تتواطأ فيه على نفسها وعلى الشعب السوري ومستقبله.
لا تجهل المعارضة بأطيافها كافةً أن القوى الدولية تتكاذب على بعضها بعضاً، وليس في مصلحتها مهما تكاثر انتهازيّوها أن تلعب لعبة تلك القوى التي تتصارع أو تتفق على حساب الدم السوري. كان «منطق المعارضة» هو ما فرض اعادة عبارة «مغادرة الأسد» إلى بيان «الرياض 2» بعدما حُذفت فعلاً من المسودّات الأولى، وقد دفع «الائتلاف» وحلفاؤه ثمنها بحصول «المنصّتَين» على الثلث المعطّل في تركيبة الهيئة العليا للمفاوضات، لكنهما أفشلا لاحقاً مطالبة «جماعة موسكو» بـ «مجلس رئاسي» لإدارة هذه «الهيئة» وزعزعة قيادتها للتفاوض. ولعل العبارة الشهيرة أعيدت لأنها تمنح أيضاً الدول الداعمة للمعارضة بعضاً من المرونة وورقةً لاختبار روسيا: فكلمة السرّ كانت أن نجاح مؤتمر المعارضة يعني المضي في مفاوضات جنيف وتمكين «الداعمين» من العمل، أما فشله فيعني الذهاب إلى «حوار سوتشي»، وفي هذه الحال ستضغط أنقرة على «الائتلاف» وحلفائه كي يشاركوا، وستترك واشنطن بوتين يعمل، كما أبلغته مسبقاً من دون أن تدعم أو تعرقل، لكن لتتفرّج بعدئذ على فشله. ولذلك فإن بوتين يعقد قمماً ويحرّك مبادرات للإنفراد بإدارة الأزمة، لكنه يجد دائماً صعوبة في تهميش الأميركيين أو تجاهلهم، كما في سعيه الدائب إلى إثبات أن ليس ثمة شعب في سورية.
تهجّم أيمن الظواهري على أمير «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، يعني انفصال الأخير نهائياً عن «القاعدة» واستعداده للاتفاق مع تركيا حول مستقبل إدلب التي يتحكّم بها، وقد مهّد لذلك باعتقال قادة في «القاعدة» غالبيتهم من الأردن: شيء من «الوطنية» يتحكّم بمتطرّف إسلامي علّمه تنظيم «القاعدة» عولمة الإسلام وأن الأمة عابرة للأوطان وحدودها.
هذا يحدث على الأرض السورية التي استسلمت ثورة سكانها سريعاً إلى المتطرفين والأمراء المحليين وشيوخ الفتاوى الحاملين أكياس المال من أغنياء اعتبروا العملة الخضراء سبيلاً إلى بناء «الدولة الإسلامية».
النظام ومعارضوه السياسيون خارج هذه الأرض التي احتلها المتطرفون وميليشيات مناهضة لهم لا تقل تطرُّفاً. إنهم في فضاء السياسة وصراعاتها بين القوى الإقليمية والدولية التي ترسم في حال اتفاقها مستقبل سورية، على رغم المتحكّمين بالأرض ومن بقي من سكان. وإلى الآن لا اتفاق بين العرب والأتراك وبينهم وبين الإيرانيين، كما لم يكتمل الاتفاق الروسي- الأميركي على رغم تقاطعات أدت إلى هدنات وتخفيف مصائب في الأرواح والعمران.
بين أرض المتطرفين وفضاء المصالح السياسية الكبرى ضاع الشعب السوري ويستمر في الضياع: وفد النظام تأخّر يوماً في الوصول إلى جنيف وقال إنه أتى ليشرح موقفه من المفاوضات لا ليشارك فيها، وبالتالي فهو يرفض الجلوس في وجه معارضة يعتبرها خارجة على القانون. أما وفد المعارضة الذي وصل في الوقت المحدّد فلم يستطع إقناع ممثلي منصة موسكو ببيان الرياض2، وعبّر عن هذا الموقف عملياً، امتناع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف عن الحضور إلى جنيف.
دعا الظواهري إلى الوحدة في الشام وأن تكون لها حكومة وأن يختار أهلها لهم إماماً. لم يسمع الظواهري بكلمة سورية وإذا سمع فهو لا يعترف بها وطناً، وربما تضم الشام، كما هي في كتب التراث، بالإضافة إلى سورية، لبنان وفلسطين: هل يريد الظواهري القضاء على إسرائيل ليكتمل تحرير الشام وينصّب «القاعدة» عليها أميراً؟
المتحكّمون على الأرض في سورية أصحاب مرجعيات دينية، أو هي تاريخية على الأقل، والسكان هم الرعايا الذين يبايعون على السمع والطاعة. ألم يكن البعثيون القوميون العرب سبّاقين في هذا المجال حين أصرّوا على تسمية الوطن السوري بأنه القطر العربي السوري، وبأن سكانه منذورون ليكونوا مواطنين في الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، وفي سبيل ذلك يعاهدون (إقرأ: يبايعون) الحاكم على السمع والطاعة؟
على الأرض السورية، مسلحون دينيون أو تاريخيون يتبعون «القاعدة» أو «داعش» أو ما يشبههما من تنظيمات ميكروسكوبية يحكمها أمراء ومفتون ميكروسكوبيون، أو يتبعون المرشد الإيراني مباشرة ومواربة، أو يوالون الرئيس رجب طيب أردوغان الإسلامي الإخواني، المعتدل عند الضرورة والشرس إذا أتاحت الظروف.
تقول المعارضة السياسية السورية: النظام يتحمّل مسؤولية القتل والخراب لذا يجب أن يرحل بشار الأسد. ويقول النظام إن المعارضة تضم خارجين على القانون أو تغطيهم، فيجب أن يسلموا سلاحهم غير الشرعي: كيف يتفاوض أعداء؟ كل طرف يهدف إلى إلغاء الآخر. إنها حرب لا مفاوضات. حرب تنتهي بمعاهدة استسلام ومحاكمة على طريقة ما جرى في نورمبورغ بعد الحرب العالمية الثانية.
وإذا كانت الحرب السورية عالمية لكثرة المتدخّلين فيها مباشرة أو بالواسطة فسوف ينتظر الأبرياء السوريون إلى ما لا نهاية ندركها. أو أن مفاوضات جنيف ستبقى عقيمة حتى يجلس إلى طاولتها ممثلو تركيا وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، لتخرج منها سورية جديدة مفروضة على مواطنين، أبرياء أو متورطين، سلّموا قيادهم إلى غيرهم: انظر إلى أداء ممثلي النظام والمعارضة المتّسم بالتسرّع والحدّة والإطلاقية لتعرف أي مدى من العزلة وصل إليه شعب عاش حياته في سجن الحاكم المطلق.
الجولة الثامنة من المفاوضات بين السوريين في جنيف تعقد هذا الأسبوع. وبعدها بأيام يفترض أن يبدأ «مؤتمر الحوار الوطني» أعماله في سوتشي. روسيا حاضرة في المسارين ولكن بأهداف ومرجعية مختلفة. بينما تمسك البيان الختامي لـ «قوى الثورة والمعارضة السورية» بعد اجتماعها الموسع في الرياض قبل أيام، بالمرجعية الدولية وما نصت عليه القرارات ذات الصلة. والترجمة الفعلية لهذا البيان تعني أن لا لزوم لما لا يلزم. وتعني منطقياً أن هذه القوى يجب ألا تكون ملزمة بالتوجه إلى المدينة الروسية، ما دام أن الحوار الذي يرعاه المبعوث الأممي في المدينة السويسرية يستهدف تطبيق ما نادت به الأمم المتحدة ومجلس الأمن. أي التفاوض لإقامة «هيئة حكم انتقالية» يمكنها أن تهيء بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. ولا يبقى معنى لتلويح موسكو وتهديدها بأن مؤتمر سوتشي سيعقد بمن حضر. وتالياً لا يبقى معنى لعقده ونتائجه أيضاً إذا التزمت كل قوى المعارضة بمنصاتها الثلاث والمستقلين وممثلين للفصائل العسكرية وشخصيات من المجتمع المدني والمجالس المحلية والمجتمعية من معظم مكونات الشعب السوري، منطوق بيانها الأخير في العاصمة السعودية.
لا جدال في أن هناك شبه إجماع على وجوب وقف الحرب في سورية. وأن هناك رغبة دولية في الانتقال نهائياً إلى المسار السياسي لإيجاد تسوية دائمة، بعدما انتهت الحرب على «داعش». وتسعى روسيا إلى استثمار هذه اللحظة انطلاقاً مما تعتقد بأن مسار آستانة «الثلاثي» الروسي- التركي- الإيراني أنجزه على الصعيد العسكري. وتحرص على تقديم مشروعها للحل السياسي تحت المظلة الثلاثية نفسها. أي أنها ترغب في ترسيخ مسار مختلف عن جنيف يعفيها من دور المجتمع الدولي وقوى إقليمية كثيرة لها رؤية مختلفة لهذا الحل. فهذه القوى لم تكن طرفاً في اللقاءات الثلاثية في العاصمة الكازاخية، وكذلك في القمة الأخيرة التي جمعت الرؤساء فلاديمير بوتين وحسن روحاني ورجب طيب أردوغان. وكان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الأكثر وضوحاً في شرح الهدف من مؤتمر الحوار. حدد موضوعين رئيسيين هما مناقشة الدستور والانتخابات. أي أن موسكو تسعى إلى سحب أهم ملفين من مفاوضات جنيف لإفراغها من مهمتها من دون أن تقطع شعرة معاوية مع الإرادة الدولية التي يمثلها هذا المسار.
تحدث الرئيس بوتين عن «مبادرة سلام» لإنهاء الأزمة، اتفق عليها مع شريكيه في قمتهم الأخيرة التي توجت الاجتماعات السبعة لآستانة. ومهد لها باتصال مع نظيره الأميركي دونالد ترامب وآخر مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز. فهو يدرك جيداً محاذير الغياب الأميركي والعربي عن هذا المؤتمر. لذلك يحرص، أولاً، على توفير غطاء دولي لأي تسوية في سورية. ويحتاج أساساً إلى مباركة الولايات المتحدة التي لا يمكن تجاوز دورها. والمسؤولون الروس كثيراً ما رددوا أن الحل لا بد أن يكون نتيجة تفاهم بين الدولتين الكبريين. إذ لا شك في أن دخول واشنطن على خط التسوية سيغير المعادلة كلها، وإن لم يفعلوا ذلك حتى الآن. لذلك يبالغ الإيرانيون حين يعتقدون بأن قمة سوتشي الثلاثية لم ترسم خريطة طريق للتسوية في سورية فحسب، بل شكلت نقطة تحول نحو شرق أوسط جديد. هذا على الأقل ما عبر عنه رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني. كذلك يحرص سيد الكرملين على وجود غطاء عربي يمكن المملكة العربية السعودية توفيره بعدما نجحت أخيراً في توحيد صفوف المعارضة بمعظم أطيافها السياسية والعسكرية. وكان سقف المعارضة عالياً وواضحاً في بيان الرياض. رفضت عملياً أي مسار آخر بتشديدها على أن عملية الانتقال السياسي «مسؤولية السوريين والمجتمع الدولي»، ولا تفرضها موسكو بالتفاهم مع طهران وأنقرة. وأن مرجعية الوفد المفاوض هي مؤتمر الرياض، وليس مؤتمر سوتشي.
صحيح أن المعارضة ستذهب إلى جنيف بلا شروط مسبقة، لكنها في المقابل ذكرت بأن الحرص على تنفيذ العملية الانتقالية بما يكفل سلامة الجميع في جو من الأمن والاستقرار والهدوء لن يحدث من دون مغادرة الرئيس بشار الأسد و «منظومة القمع والاستبداد» عند بدء المرحلة الانتقالية. لا ترى في ذلك شرطاً ما دام أن هذا المطلب ينسجم مع ما نص عليه بيان جنيف الأول، أواخر حزيران (يونيو) 2012. لا تعني هذه المواقف أن المعارضة بشقيها السياسي والعسكري ستكون قادرة على صد مناورات موسكو التي ربما لوحت لها بالمرحلة الانتقالية للإشراف على مرحلة التفاوض التي قد تستمر من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات! قد يكون وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف محقاً بقوله إن المسارات الثلاثة، آستانة وجنيف وسوتشي، يكمل بعضها الآخر، وأن بيان القمة الثلاثية يتقاطع مع الفقرات الرئيسية للبيان الرئاسي الأميركي- الروسي الثاني الذي أصدره ترامب وبوتين قبل بضعة أيام في فيتنام. لكن ما هو ثابت أن الرئيس بوتين يستهدف من سوتشي ترسيخ رؤيته للتسوية والذهاب بها إلى مجلس الأمن للحصول على شرعية دولية. لذلك لا يزال يأمل بتجاوب واضح من نظيره الأميركي. لكن هذا لا يزال يرفع حاجزين أمام التفاهم: القوات الأميركية باقية في سورية حتى قيام تسوية تحقق التغيير المنشود، ولا إعمار مع بقاء الرئيس الأسد في السلطة. وليست الولايات المتحدة أو المعارضة الموحدة العقبتين الوحيدتين. تركيا أيضاً لم تكن ولن تكون راضية عن مشاركة «قوات سورية الديموقراطية» في مؤتمر سوتشي. ولا يمكن موسكو أن تتجاهل هذا المكون الذي يسيطر على مساحة واسعة شرق سورية وشمالها، والأهم أنه يوفر قواعد للحضور الأميركي في هذا البلد.
المسار السياسي الذي يستأنف مبدئياً جولته الثامنة في جنيف لا يقفل المسار العسكري. بل يفتحه على مصراعيه. «مناطق خفض التوتر» لم تلزم النظام وحلفاءه بوقف إطلاق النار حتى الآن في جبهات كثيرة. ليس هذا فحسب، بل إن خروج كل القوات الأجنبية من سورية شرط أساس لحل دائم. فهل هناك مجال لأن يتوافق السوريون في جنيف أو غيرها على تحديد هذه القوات؟ يبدو الأمر شبه مستحيل. روسيا التي تراها أطياف المعارضة خصماً وحكماً في آن، تتوق إلى تفاهم مع الولايات المتحدة يتيح لها تخفيف عديدها في بلاد الشام ويجنبها الغرق في هذا المستنقع. وهي وإن بدأت تتحدث عن احتمال تقليص قواتها ستحتفظ بالقاعدتين في طرطوس وحميميم. وستكون حاضرة دوماً لنصرة النظام. وهي لا تكف عن إبداء تساؤلات عن هدف بقاء القوات الأميركية التي تصفها بأنها قوات احتلال. كأن البيان الأخير الذي أصدره الرئيسان بوتين وترامب في دانانغ لا يشي بتفاهم حقيقي بين الطرفين. علماً أن المسؤولين العسكريين الأميركيين تحدثوا من أشهر عن نيتهم الاحتفاظ بحضور عسكري شرق سورية في مناطق سيطرة الكرد. كذلك لا تزال طهران ودمشق تعترضان على تدخل القوات التركية في الشمال، على رغم تلميحات أنقرة إلى احتمال قبولها بدور للأسد في مستقبل بلاده.
في المقابل، تتمسك إيران ببقاء قواتها والميليشيات الموالية لها في بلاد الشام. وقد أكد قائد «الحرس الثوري» محمد علي جعفري أن الحرس مستعد لأداء «دور فعال في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار في سورية، وفي إعادة إعمار البلاد». ودعا السلطات في دمشق إلى الاعتراف قانونياً بشرعية «قوات الدفاع الوطني» التي تقاتل إلى جانب القوات النظامية. ومعلوم أن المعارضة تنادي بدور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في الإشراف على وقف إطلاق النار وحفظ السلام ورعاية العملية السياسية. وتنظر إلى الجمهورية الإسلامية «العدو الأول»، ولا يمكن أن تقبل ببقاء أي قوات موالية لها، خصوصاً في ظل المواجهة المتصاعدة بين معظم الدول العربية، والخليجية خصوصاً، وهذه الجمهورية وميليشياتها المتعددة.
أياً كانت العقبات بوجه روسيا وسياستها في سورية والإقليم، فإن ما يقلقها أن إدارة ترامب لا تزال عازفة عن الانخراط جدياً في أداء دور أكثر فاعلية لتسوية الأزمة. وتدرك بالتأكيد أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تجازف بالخروج من بلاد الشام والمنطقة العربية عموماً والتسليم لها ولشريكيها برسم صورة «الشرق الأوسط الجديد»، فيما هي تعلن «الحرب» على طهران ودورها في الإقليم. كما لا يمكن واشنطن التغاضي عن «بقاء الأسد إلى الأبد» على رأس النظام. ولا يصح أن تتوقع ويتوقع حلفاؤها موقفاً روسياً متشدداً حيال الوجود الإيراني في سورية. مثل هذا الاختبار لم تخضه موسكو حتى الآن، إما لأنها عاجزة فعلاً عن وقف سياسة طهران، وإما لأنها ترغب في ثمن أميركي كبير في مقابل خوض مواجهة غير مضمونة النتائج مع الجمهورية الإسلامية والرئيس الأسد أيضاً. لذلك لن تكون الطريق إلى جنيف أو سوتشي آمنة وسالكة كما يعتقد المتفائلون.
يستحق السوريون أن يشرق عليهم يوم جديد من دون حكم الطاغية، مثل ذلك اليوم الذي شهدته زيمبابوي هذا الأسبوع، عندما قدم أهلها من كل مكان إلى العاصمة هراري للاحتفال بتخلصهم أخيراً من روبرت موغابي. حتى زيمبابوي تخلصت من موغابي! ولكن من أين للسوريين يوم كهذا، وأقدارهم ما عادت في أيديهم، ومعظم دول العالم وحكوماته تتآمر عليهم وتجتمع لتقرر مصيرهم عنهم وباسمهم، فيما معظم قادة جيشهم، الذي كان يمكن أن يوفر طريق الخلاص، مثلما فعل جيش زيمبابوي، تحوّلوا الى خدمة نظام الأسد وعائلته، يرتكبون المجازر، مثلما تفعل أي ميليشيا، في غياب من يحاسب، وكل ذلك تحت شعار «الحرب على الإرهاب»، الذي اخترعه بشار الأسد منذ بداية الثورة السورية، عندما قرر تنظيف سورية من «المستنقعات والجراثيم»، كما كان يصف المعارضين السوريين الذين خرجوا في التظاهرات السلمية مطالبين بالحرية.
كان يمكن الجيش السوري أن يفعل ما فعل جيش زيمبابوي، أن يحافظ على النظام وأن يحمي البلد من الخراب الذي حلّ به، وأن يستجيب للمطلب الشعبي العارم بإبعاد بشار الأسد وحاشيته. لكن الجيش اشتغل كما تم تأهيله ليشتغل، لحماية رأس النظام. وعندما عجز عن إتمام «مهمته» هذه، استورد بشار الأسد الدولتين اللتين حمتا نظامه من السقوط، مثلما اعترف الروس والإيرانيون. وبنتيجة «انتصارهم» في هذه الحرب، كما يقولون، اجتمع رئيسا الدولتين، إلى جانب الرئيس التركي، ليقرروا معاً من سينضم الى محادثات السلام السورية التي تنوي موسكو رعايتها. هكذا، في غياب أي طرف سوري، وجد بوتين وروحاني وأردوغان أن لا شيء يحول دون أن يتصرفوا بسورية وبشعبها وبمستقبلها كما يشاؤون وكما تقتضي مصالحهم، بالطريقة نفسها التي تصرف بها الحلفاء في قمة يالطا الشهيرة، التي جمعت في تلك المدينة السوفياتية (آنذاك) كلاً من ستالين وتشرشل وروزفلت، للاتفاق على تقاسم ألمانيا وأوروبا بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية.
وبالرغم من استدعاء بوتين بشار الأسد إلى سوتشي قبل القمة، ربما لرفع العتب، لم تظهر على لسان أي من المجتمعين، بمن فيهم روحاني، أي إشارة إلى الرئيس السوري أو إلى نظامه، وجاءت مواقف «المنتصرين» الثلاثة متفقة مع مصالح كل منهم: التركي يريد القضاء على الأحلام الكردية في شمال سورية، وقطع الطريق على مشاركة الأكراد في أي محادثات بشأن مستقبلها، والإيراني يريد تثبيت النفوذ في «العاصمة الرابعة» التي يديرها قاسم سليماني، فيما الروسي يعتبر «الانتصار» في سورية ورقة للتفاوض مع الغرب على مواقع النفوذ، وينظر إلى المحادثات السياسية على أنها استكمال للمعركة العسكرية.
وباستثناء إشارات عابرة من الرئيس الروسي إلى القرارات الدولية التي تنظم عملية الانتقال السياسي في سورية، لم يظهر على لسان روحاني أو أردوغان ما يشير إلى أي مرجعية دولية. على العكس، كرر الرئيس الإيراني المعزوفة نفسها عن «اجتثاث خلايا الإرهاب»، التي صارت لازمة في أي حفل خطابي لأهل «الممانعة»، كلما أرادوا تبرير تدخلاتهم في دول المنطقة.
ولكن، في غياب من يمثل الشعب السوري، المعني الأول بقضية بلده، عن قمة سوتشي، كانت المعارضة ممثلة بشكل واسع في المؤتمر الذي عقدته في الرياض، والذي أعاد التركيز على المبادئ الأساسية لأي حل عادل في سورية، وعلى ضرورة أن يكون هذا الحل متفقاً مع قرارات الأسرة الدولية، التي تدعو إلى إجراء مفاوضات بين ممثلين عن النظام والمعارضة على أساس بيان جنيف1 والقرار الدولي رقم 2254، تفضي إلى قيام هيئة حكم انتقالية من دون رأس النظام الحالي، وهو ما أكده نصر الحريري، الرئيس الجديد لهيئة المفاوضات. في الوقت ذاته، كانت موسكو تؤكد، بلغة قابلة لكل التفسيرات، أن مسألة رأس النظام يقررها السوريون خلال المفاوضات، بعدما أكد بوتين في سوتشي أن الوصول إلى حل سلمي «سيتطلب تنازلات من كل الأطراف بمن فيهم الحكومة السورية».
في النهاية، لن يتحقق أي حل دائم للأزمة السورية طالما أن «بشار الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد» (كما جاء في البيان الختامي لمؤتمر الرياض) باقون في السلطة. من هنا مفتاح الحل، مثلما كان منذ اليوم الأول للثورة السورية.
أسدل الستار على الفصل الأخير من "مسرحية" تنظيم الدولة، فيما كانت وحدها الثّورة السّورية؛ هي التي قصم التنظيم ظهرها.
وفي المقابل، تثور تساؤلات عن مصير الوحدات الكردية، ممثلة بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).. فنهاية تنظيم الدولة تعني بداية النهاية لهذه القوات، وتبخر مشروعها الذي حشدت من أجله من استطاعت من الكرد، وسخّرت من أجله كلّ إمكاناتها، وجعلت من نفسها - شعرت أو لم تشعر- أداة لتنفيذ مشاريع الآخرين، غير مستفيدة من دروس التاريخ، اعتقادا منها بأنّها تقيم تحالفات مع قوى مضطرة لخدماتها، وبالتالي يمكنها من خلال هذه التحالفات الرقص على حبال الصراع وصولا لدولة "الحلم".
وثمة معطيات في المحيط عزّزت هذا الحلم، سواء في العراق حيث سيطر الكرد على كركوك ومساحات شاسعة خارج إقليم كردستان، أو في تركيا التي وصلت علاقاتها مع الغرب للحضيض. لكنَّ نهاية تنظيم الدولة العسكرية على الأرض، والتطورات السياسية المتسارعة إقليميا ودوليا، أعادت ترتيب الأوراق لغير ما يشتهيه مركب الوحدات الكردية. ولعلّ أبرز هذا المستجدات يتمثل بـ:
- استقالة مسعود البرزاني، وسيطرة القوات الاتحادية العراقية على كركوك والمناطق التي تقدمت فيها القوات الكردية أثناء الحرب على تنظيم الدولة، وحصار الإقليم الكردي سياسيا، واتخاذ إجراءات كثيرة أثبتت أن الانفصال ما يزال حلما بعيد المنال، ولم تتهيأ الظروف له، فضلا عن وحدة الخصوم ضد الكرد. فقد شكلت التبعات التي أعقبت الاستفتاء صدمة نفسية في الوجدان الكردي، فإذا فشل الكرد في تأسيس دولتهم في منطقة يشكلون فيها غالبية سكانية، فمن الأولى الفشل في سوريا. ولعلّ تخلي الأمريكان عن مسعود البرزاني والإقليم؛ أشعر الكرد بمدى قدرتهم في الاعتماد على الأمريكيين.
- التحالف التركي الروسي الذي بدأ بعملية درع الفرات، وتطور بلقاءات أستانة واتفاقات خفض التصعيد، وصولا لقمة سوتشي الثلاثية التي ضمنت للأتراك منع قيام دولة كردية، حيث اتفق المجتمعون في سوتشي على سوريا موحدة، متجاهلين الحديث عن أيّ دور مميز أو كيان خاص بالكرد، مما يعني تخلي الروس الواضح عن قسد. وقد ترجم هذا التخلي بمرابطة القوات التركية على الحدود الإدارية لمدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، وتهديد الأتراك الدائم بدخول عفرين، وإرجاع مدينة منبج لأهلها الأصليين.
- التفاهمات الأمريكية التركية الأخيرة التي كشف عنها الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ وافق ترامب، وفق ما صرحت الرئاسة التركية، على محاربة "المنظمات الإرهابية" مع أنقرة، ومن بينها تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، في حين أعلن البيت الأبيض أنّ ترامب أبلغ أردوغان بأن واشنطن بدأت تُعدِّل الدعم العسكري لشركائها على الأرض في سوريا. وفي هذا إشارة واضحة للوحدات الكردية التي تشكل العمود الفقري لقسد، ويعد ذلك أهم خطوة لردم الجفوة التي حصلت بين تركيا والولايات المتحدة في أعقاب دعم الولايات المتحدة للكرد. وهذا التقارب يؤكد صعوبة تخلي الولايات المتحدة عن علاقاتها التاريخية مع تركيا إرضاء للكرد.
- رفض النظام السوري ومختلف أطياف المعارضة السورية؛ المساس بوحدة سوريا الجغرافية، وهذا ما تؤكده كل مؤتمرات المعارضة وآخرها "الرياض 2".
- انتهاء شهر العسل مع النظام البعثي القومي، فقد مضى الزمن الذي وصف فيه وزير خارجية النظام القوات الكردية بأنها قوى وطنية تحارب الإرهاب، وبدأ الحديث عن وجوب إعادة الدولة السورية فرض سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية، وبدأ الإعلام الرسمي بحملة دعائية ضد القوات الكردية، باعتبارها تنظيمات إرهابية تقوم بعمليات تطهير عرقي وعمليات تهجير ضد العرب.
- الممارسات العنصرية على أرض الواقع لقوات سوريا الديمقراطية، فقد سيطرت الوحدات الكردية على كل مفاصل القيادة والقرار على مختلف المستويات، ناهيك عن عمليات التهجير الديمغرافي والعمليات الانتقامية في بعض المناطق. وعرّت هذه الممارسات الوحدات الكردية، وكشفت زيف شعاراتها المتعلقة بالممارسة الديمقراطية. والسبب الوحيد الذي حال دون قيام ثورة ضدها في المناطق ذات الغالبية العربية؛ خشية هذه المناطق من تسليم الوحدات الكردية المناطق الخاضعة لها للنظام السوري، وربما يوضح إضراب منبج الأخير، ورفض الأهالي لعمليات التجنيد الإجباري؛ الصورة الحقيقية لوضع قسد في المناطق العربية، ناهيك عن رفض قسم كبير من الكرد أنفسهم لسياسات الوحدات الكردية على مختلف الصعد.
وتبقى الفيدرالية أقصى ما تطمح له قوات سوريا الديمقراطية ومعها الكرد، وعبّر الرئيس المشترك لـ"مجلس سوريا الديمقراطية"، رياض درار، عن هذا الطموح؛ قائلا: إذا كنا ذاهبين إلى دولة سورية واحدة بنظام فيدرالي، فنحن نعتقد أنه لا حاجة للسلاح والقوات، ما يعني أن القوات ستنخرط في جيش سوريا؛ كون الوزارات السيادية، مثل الجيش والخارجية، ستكون لدى المركز. ولكن غاب عن السيد درار أنه لن تكون هناك فيدرالية كردية خالصة خشية؛ أن يؤدي ذلك للتقسيم لاحقا، إنما فيدراليات جغرافية لا يشكل فيها الكرد غالبية ديمغرافية، وبالتالي يحصل الكرد على الحدود الدنيا من مطالب كان بإمكانهم تحصيل أضعافها لو مشوا بخط الثورة ضد من سلبهم حقوقهم، ومارس عليهم الاستبداد كما مارسه على السوريين.