وكأن روسيا وإيران وتركيا قد أنجزت كافة التسويات وانتهت من صناعة السلم في سورية ورتبت جميع الملفات المتعلقة بالصراع في هذا البلد المنكوب، وهي الآن بصدد وضع اللمسات الأخيرة، والتي غالباً ما تتعلق بهيكلية الحكم وتوزيع المناصب وترسيم أدوار الفاعلين.
الهروب من جنيف إلى سوتشي، في حين لم يتم إنجاز تفصيل صغير واضح، ليس هدفه ترشيق المفاوضات على ما يقول الروس وتحريكها عبر ورشة عصف فكري تتكون من 1700 شخص يمكنها إنتاج أفكار خلاقة تنقذ المفاوضات من مأزقها الحالي ووضع الجمود الذي وصلت إليه، وتقديمها لوفدي النظام والمعارضة باعتبارها أفكار من صناعة سورية وتملك قوة معنوية، كون الروس يعتبرونها «سوتشي» ممثلة لجميع السوريين، ما دام أن الألية التي ستنتجها اسمها المؤتمر الوطني، وأن أعضاءه يمثلون كامل الطيف السوري، بطوائفه وقومياته وطبقاته وفئاته وشرائحه.
وليس خافياً أن الهدف من وراء ذلك، هو إيجاد آلية جديدة تحتل مكانة عليا وتصبح جميع الأطر والآليات الأخرى تابعة لها على قاعدة التدرج، فيمكن تحديد مشروعية أي إطار انطلاقا من مدى توافقه مع طروحات الألية الكبرى التي لا يجوز مخالفة ما تقرره، وإن كانت تسمح بالإجتهاد ولكن دائما تحت سقف ما تقرره هي، وضعية تشبه تراتبية الدستور مقارنة بالقوانين المحكومة بالتكيف الدائم معه، وفي حال الاختلاف يتم الرجوع إلى هذا الإطار واستبعاد الأدنى لمصلحة الأسمى، والذي سيكون هنا الأمن والاستقرار والشرعية وفق تعريف الثلاثي المقرر روسيا وإيران وتركيا.
حسناً، ألم يطالب السوريون بتغيير سياسي، هذا تغيير سياسي يكاد يوازي قلب منظومة حكم كاملة وإحلال أخرى بدلاً منها، والأمر لن يقتصر عند المئات التي ستحضر سوتشي بل سيتم ضخ الألاف من الكوادر الجديدة في مؤسسات الدولة، من عناصر ميليشياوية وأعضاء لجان محلية وأشخاص تمت تسوية أوضاعهم عبر ما يسمى بالمصالحات، وهم من أبناء المناطق ويعرفون احتياجاتها ومطالب سكانها، كما تكونت لديهم خبرات إدارية وتفاوضية ويستطيعون القيام بالتوسط بين القاعدة الشعبية والهرم السلطوي.
النخبة التي ستقود هؤلاء جميعاً وستقود سورية في المرحلة المقبلة، هي التي سيتم الإعلان عنها في سوتشي، بعد أن تحدّد قوائمها روسيا وإيران وتركيا !، ويبدو أن العدد المعروض أكبر من قدرة مؤتمر سوتشي على إستيعابه لذلك سيتم غربلته لإختيار المناسب والأفضل.
وتتكون هذه النخبة في الغالب، وكما بات معلوماً لدى السوريين، من أشخاص مفحوصين، تم اختبارهم واختيارهم بعناية، في قاعات قاعدة حميميم ودهاليز المعسكرات الإيرانية ومكاتب المخابرات السورية، والكثير منهم تمت صناعتهم خصيصاً لمثل هذه المهمة، وغالبية هذه النخبة برزت في الحرب وأثبتت فعاليتها في خدمة الروس والإيرانيين ونظام الأسد، وهم تجار حروب وقادة ميليشيات وحزبيين متنقلين. أو من الرماديين والمتشاطرين الذين يسيرون مع الموجة. فضلاً عن أولئك الذين يقدّرون أن الحرب انتهت لصالح نظام الأسد ومشغليه وآن الأوان كي يلحقوا بالركب.
مهمات هذه النخبة ستكون واسعة، فهي بعد تقديم أوراق إعتمادها والإعلان الصريح عنها، ومن ثم إعلان موافقتها على المشروع الروسي للدستور وشكل الانتخابات المقبلة، لن تذهب للعطالة، بل سيكون مطلوب منها التجهّز لمهام تشريعية وتنفيذية أخرى، باعتبار أن هذه النخبة هي البنية التحتية للحكم، وهي من ستتولى إدارة البرلمان والبلديات والمجالس المحلية والنقابات، وستزكّي النخبة التنفيذية الأدنى التي ستتولى تنفيذ المهمات المقبلة في مرحلة الإعمار من إصلاح وتنظيف الشوارع إلى تسيير شؤون قطاعات التعليم والصحة وغيرها.
وبالطبع، بالنسبة للبنية الفوقية للحكم، وهي هنا رأس النظام وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، فهي بنية مقدسة وخارج أطر النقاشات، إما بذريعة انها شرعية، على ما يؤكد الروس، أو لضرورة الأمن والاستقرار، وكل ما هو ممكن هنا، تغيرات على مستوى الحكومة، والتي هي بالمناسبة بنية غير فاعلة أو مؤثرة في تنظيم الحكم في سورية.
ما قبل سوتشي لن يكون كما بعدها، إذ ستصبح محرمة المطالبة بالانتقال السياسي كما سيصبح جرماً المطالبة برحيل الأسد، وفق المنطق الروسي ستكون الوقائع السياسية قد تجاوزت هذه الأمور، ومن يلجأ لها سيكون إما شخص غير بناء وإما في أهون الأحوال منفصل عن الواقع. فما دام قد جرى النص على تغيير الدستور أو إصلاحه وإجراء إنتخابات بما فيها البرلمانية والرئاسية فإن الميدان السياسي للأزمة السورية يكون قد أغلق الباب على أي مطالب أو إعتراضات جديدة، وحاصة وأنه تم بموافقة الأمة السورية جمعاء عبر ممثليها الذين حضرو مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي.
ليس ثمة خيارات ذات قيمة لدى المعارضة لمواجهة هذه الإستراتيجية الماكرة لتصفية القضية السورية، وبخاصة في ظل تراجع دولي أمام الثلاثي الصانع لهذه الإستراتيجية، وتغير مطالب البيئة الدولية، لكن ذلك لا يعني الاستسلام والرضوخ، بل على المعارضة إدراك حقيقة أن قيمتها في التصنيف الشعبي والدولي تضعها في مكان لا تستطيع روسيا تجاوزه، ورفضها لمؤتمر سوتشي وعدم حضوره سيجعلان المؤتمر مجرد فكرة فاشلة بلا أي قيمة، وستكون قيمته الوحيدة كشفه لقوائم العملاء والمرتبطين بالأجهزة الروسية والإيرانية والتركية.
تمر إيران، منذ أكثر من أسبوع الآن، بحالة من الاضطرابات الداخلية إثر الحشود العارمة من مختلف الأحجام التي تنظم المسيرات الاحتجاجية في أكثر من 30 مدينة إيرانية لم تُستثنَ منها العاصمة طهران. وبفضل المشاهد التي لم تُشاهد في هذا البلد منذ عام 2009 عندما تمكن النظام الحاكم من إخماد الانتفاضة الشعبية في طهران، ثارت كثير من التساؤلات حول ما يُشار إليه مؤخراً، وعلى نحو مجازي، بـ«الأحداث».
والسؤال الأول المطروح هو: من هم المتظاهرون؟
كما جرت العادة، يحلل النظام الإيراني الاحتجاجات بأنها نتيجة لمؤامرات من قبل الولايات المتحدة التي، مع مغادرة الرئيس باراك أوباما الذي سعى إلى نوع من التوافق مع القيادة الحالية في طهران، قد أصبحت - تحت إدارة الرئيس دونالد ترمب - عاقدة العزم على تغيير النظام الحاكم في
البلاد.
والتحليل الحكومي الإيراني يتسم بكثير من الصبيانية حتى يستحق مناقشته بصورة جدية ومفصلة. ويكفي القول إنه في حين أن إدارة الرئيس ترمب تفضل بالفعل تغيير النظام الحاكم في إيران إلا أنها، وحتى الآن على أقل تقدير، لم تفعل أي شيء على الإطلاق للتحرك على هذا المسار.
وعلى أية حال، إن كان تغيير الأنظمة الحاكمة بهذه السهولة لكانت الولايات المتحدة قد نجحت في تنفيذ ذلك مع كوبا وكوريا الشمالية منذ فترة طويلة.
ويمكن للولايات المتحدة، عبر سياقات مختلفة، إضافة إلى القوى الكبرى الأخرى، المساعدة في إطالة حياة أي نظام حاكم من خلال منحه الشرعية التي لا يستحقها وإمداده بالمساعدات الاقتصادية والسياسية التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة.
وهذا بالضبط ما صنعته إدارة نيكسون - فورد الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي في سبعينات القرن الماضي.
وهذا أيضاً ما صنعته إدارة أوباما للجمهورية الإسلامية بين عامي 2009 و2017، ولا يزال الاتحاد الأوروبي يتابع تنفيذ هذه السياسة حتى الآن.
ومع ذلك، وبعيداً عن الغزو العسكري الكامل، لا يمكن لأية قوة خارجية، مهما كانت عظمتها وسلطتها، أن تنجح في إسقاط نظام حاكم يحظى بقدر ولو يسير من الدعم المحلي وما يكفي من الثقة الذاتية التي تؤهله لمواجهة التحديات والصعاب.
ومما لا شك فيه، تندفع القوى الكبرى بين الحين والآخر صوب مستنقع مؤامرات تغيير الأنظمة الحاكمة، ولكن غالباً ما ينتهي الأمر بها إلى المراهنة على الجياد التي يمكن أن تتحول إلى الركض بأسرع ما تستطيع.
إن تغيير النظام الحاكم هو عمل الشعب المعني بالأحداث الداخلية في بلاده، ولا يمكن للقوى الخارجية سوى المساعدة من خلال عدم دعم الظالمين.
ولكن إن لم تكن الأحداث الإيرانية الأخيرة «مؤامرة أميركية»، فمن يحتج ويتظاهر الآن في إيران؟ والإجابة المباشرة هي: إنه الشعب غير الراضي عن طغمته الحاكمة.وبقدر ما تمكنت من متابعة الاحتجاجات الجارية في إيران فإنها تجري تقريباً في كل المحافظات الإيرانية ويتصدرها الشباب المتعلمون والرجال والنساء من أبناء الطبقة المتوسطة الذين يرغبون في الإعراب عن مظالمهم المشروعة ضد النظام الحاكم الذي أثبت فشله داخلياً على كل الأصعدة والمجالات.
وبعض من هذه المظالم ذات طبيعة اقتصادية؛ إذ إن البطالة الجماعية من القضايا الكبرى في إيران مع نسبة 25 في المائة من خريجي الجامعات عاجزون عن العثور عل
ى عمل لمدة بلغت 4 سنوات بعد التخرج. وتقول الإحصاءات الرسمية إن معدلات البطالة تقترب من 12 في المائة، وعندما يتعلق الأمر بالمناطق الحضرية الكبرى فإن المعدلات ترتفع عن ذلك بكثير.
ثم هناك مشكلة التضخم، الذي بلغت نسبته 13 في المائة على أساس سنوي، ويسبب التآكل الشديد في الدخول الضئيلة للأسر المتوسطة في البلاد.
ومما يزيد الأمور سوءاً انتشار الفساد والاختلاس على نطاق كبير وواسع.
وفي عام 2017 وحده، انهارت خمسة مصارف وصناديق استثمارية، مما عصف بمدخرات ما لا يقل عن 2.5 مليون أسرة من الطبقة المتوسطة والطبقة دون المتوسطة
. وحيث إن المؤسسات المنهارة كان يسيطر عليها الملالي البارزون أو كبار جنرالات الحرس الثوري، فإن فشل هذه المؤسسات يعتبر فشلاً للنظام الحاكم ذاته. وأدى انهيار صناديق المعاشات، بما في ذلك معاشات المعلمين، إلى تفاقم آثار فضائح الفساد. ومن المثير للاهتمام، أنه لم يتم اعتقال أحد على خلفية أي من حالات الفشل المعلنة تلك، إذ يعتقد أن المسؤولين عنها قد سمح لهم بالفرار إلى المنفى الاختياري في كندا.
ومع ذلك، أظهرت الاحتجاجات أنه يستحيل الفصل بين القضايا الاقتصادية المحضة والسياسية المحضة في البلاد. وفي الواقع، فإن كل القضايا في أي مجتمع تحمل السمة السياسية في خاتمة المطاف بسبب أن السياسات تؤثر على مناحي الحياة كافة.
على سبيل المثال، يستند إعفاء كثير من المصارف وصناديق المعاشات الإيرانية من قواعد الشفافية والمساءلة القانونية بحجة أنها تخضع لسيطرة كبار الملالي أو جنرالات الحرس الثوري، إلى قرار سياسي في المقام الأول. وحقيقة أن يتخرج في إيران مئات الآلاف من الرجال والنساء الحاصلين على الدرجات الجامعية من دون مهارات حقيقية تفيدهم في سوق العمل هو ثمرة قرار سياسي بكل تأكيد.
كما كشفت الاحتجاجات أيضاً عن إدراك كبير لدى المواطنين العاديين للتكاليف الهائلة للسياسة الخارجية الإيرانية المضللة التي حولت إيران إلى شريك في الجرائم التي يرتكبها الطغاة في سوريا والإرهابيون في لبنان واليمن. فليست هناك مصلحة مباشرة لإيران في دعمها لبشار الأسد وذبحه للشعب السوري أو لتأييد حسن نصر الله الذي يقوم بدور المملوك المطيع في بيروت.
ومن بين الشعارات المتكررة في كل الاحتجاجات الإيرانية كانت الدعوة إلى الإفراج الفوري عن كل السجناء السياسيين في البلاد. وحقيقة أن الجمهورية الإسلامية ظلت طيلة أربعين عاماً تحتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد السجناء السياسيين والمرتبة الثانية عالمياً بعد الصين من حيث حالات الإعدام، هو أمر يرجع بالأساس إلى القرارات السياسية وليست اقتصادية.
هل تسير إيران على طريق تغيير النظام؟
توصلت، قبل أكثر من عشر سنوات، إلى استنتاج مفاده أن تغيير النظام هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إنقاذ إيران من المأزق التاريخي الذي خلقه هناك الخميني وزمرته. ولقد توصلت إلى هذا الاستنتاج، والذي بسطت القول بشأنه في كتابي بعنوان «الليلة الفارسية»، وهو لا يتعلق بحبي للنظام الخميني من عدمه، وأنا فعلاً لا أحب هذا النظام. ولا يتعلق الأمر أيضاً بفكرة أن النظام الخميني هو أسوأ حالاً من حلفائه في كوريا الشمالية أو فنزويلا أو زيمبابوي، بل إن طرحي للمسألة يستند إلى اعتقاد مفاده أن النظام الخميني، سواء كان جيداً أو سيئاً، قد عفّى عليه الزمن ولم يعد يعمل بكل بساطة. وهو نفس الاستنتاج الذي توصل إليه الكثيرون ممن يعملون داخل النظام نفسه.
وحتى وقت قريب، اعتقدت حفنة ممن هم داخل النظام أو يعملون في دوائر قريبة منه أنه يمكن تفادي مواجهة تغيير النظام الحاكم بإجراء تغيير داخلي في النظام نفسه. غير أن أعواماً طويلة من التجارب حول هذا المفهوم تحت قيادة محمد خاتمي ومؤخراً حسن روحاني، قد أثبتت افتقار نظام الخميني لأية آلية فاعلة للإصلاح والتغيير من الداخل. وبالنسبة لإيران، فإن تغيير النظام الحاكم هو الخيار الأكثر حكمة، والأكثر تعقلاً، والأقل تكلفة. وهذا لا يعني بالضرورة أنني أتنبأ بتغيير النظام الحاكم في طهران من الآن وحتى بداية السنة الفارسية الجديدة في مارس (آذار) المقبل. بل إن كل ما أقوله هو إذا ما أراد الشعب الإيراني لبلاده أن تتخلى عن صفوف الخاسرين والأمم المضطهدة فإنهم في حاجة إلى نظام جديد وأفضل من اختيارهم. أما بالنسبة للقوى الأجنبية الحالمة بالتوافق مع إيران، فأقول: عليكم التخلي عن تلك الأوهام. فإن النظام الذي يعاني من مشكلات مع شعبه فإنه يعاني ولا بد من مشكلات مع البلدان الأخرى.
وبعد مرور أربعين سنة من استيلاء الملالي على الحكم، لا بد لإيران أن تتوقف عن العمل كمطية للثورة المفلسة وتعاود اكتشاف الذات كدولة قومية تتصرف تصرف الدول العادية.
وهذا الأمر يستلزم تغيير النظام.
ينطلق الموقف التركي في مقاربته للحلول المقترحة للصراع السوري من مسألتين أساسيتين: أولاهما، ما يتعلق بأمنه القومي الذي يهدده، وفق تعبيره، «الحزام الإرهابي» في تسمية صريحة للإدارة الذاتية الكردية. وثانيتهما، ما يتعلق بنصيب تركيا من التحكم بالصراع الدولي على سورية، ورغبتها في ضمانة التهدئة «المزعومة» في إدلب وعفرين وفق اتفاقات «خفض التصعيد»، التي وقّعت في جولات آستانة، باعتبار أنها تتعلق مباشرة بالمسألة الأولى الخاصة بمنع قيام دولة كردية تمتد من شرق سورية إلى البحر المتوسط. ولعل هذا ما يفسّر اليوم خفوت الحديث عن المشاركة في مؤتمر سوتشي التي تدعو روسيا اليه، بهدف تنويع خيارات الحلول الروسية، من العسكرية التي توّجتها بمسار آستانة، ومؤتمر سوتشي الذي يؤسّس لعلاقة جديدة بين المعارضة والنظام السوري على أساس التسويات المباشرة، بعيداً من القرارات الأممية الصادرة بخصوص القضية السورية.
وتتحدد جملة التفاهمات التركية الدولية والإقليمية ومنها (التركية- الروسية، أو التركية- الأميركية) في سياق ضمان «الأمن القومي التركي»، بعيداً من تفاصيل وأسباب الصراع السوري- السوري، وغير متطابقة مع مواقف تركيا وتصريحات قادتها الداعمة لمطالب المعارضة السورية، وكل ما يحقق مصلحة تركيا الأمنية هو المعيار الأساسي لها في التفاهمات مع الدول المتصارعة على سورية، وهو ما أدى إلى إعادة العلاقات مع روسيا، على رغم الخلافات التي وصلت إلى حد القطيعة إثر إسقاط القوات التركية مقاتلة حربية روسية من طراز سوخوي 24 (25 /11/ 2015).
وعلى ذلك كان التقارب مع روسيا نتيجة مباشرة لتوتر العلاقات التركية ـ الأميركية حيث اعتبرت تركيا أن الولايات المتحدة تساند عدوها التاريخي «الأكراد»، الذين تعتبرهم امتداداً لحزب العمال الكردستاني المحظور والمصنف «بالإرهابي»، ما ساهم بتبني حكومة أردوغان مشروع روسيا «الانشقاقي» عن المسار الأممي التفاوضي السوري-السوري في جنيف، والانجرار وراء مسار آستانة الذي يجمع بين المتناقضين والمتواجهين في الصراع على سورية، أي موسكو وطهران من جانب النظام، وتركيا من جانب المعارضة السورية. وأيضاً، مع تقاطع المصالح مع النظام السوري، الذي يتشارك مع تركيا مخاوفها من التحركات الكردية وانتزاع مناطق الشمال لإعلان كيان مستقل عن سورية، الأمر الذي هيأ الظروف لاستمرار مسار آستانة وعقد اتفاقيات خفض التصعيد العسكرية تحت مظلته.
إلا أن التذبذب الروسي الذي يراوغ في موقفه من القضية الكردية في سورية، بين مراعاة رغبة الولايات المتحدة، التي تسيطر على الشمال والشرق من سورية (مناطق السيطرة الكردية)، والتردد في تنفيذ اتفاق «خفض التصعيد» في مدينة إدلب، والتي وضّحها تصريح وزير الخارجية الروسي لافروف، خلافاً للتفاهمات الآستانية مع تركيا، بإعلانه أن «المهمة الرئيسية لقواته هي تدمير جبهة النصرة بعد أن اعتبر أن المعركة ضد داعش في جزئها الرئيسي انتهى». ما وضع اشارات استفهام كبرى من قبل تركيا حول جملة التفاهمات التي انبثقت من آستانة، والتي تعطي تركيا وليس روسيا هذه المهمة في إدلب، ما يعني أن واقع التفاهمات الروسية ـ التركية في مسألة تقاسم النفوذ في سورية قد يشهد تغييراً في ملامح الخريطة النهائية، التي كانت تركيا قد اطمأنت إليها، وبدأت بإعادة انتشار فصائل المعارضة وهيكلتها وفق ما يخدم الوجود التركي، والمعركة التي تستعد لها مع هيئة تحرير الشام «النصرة سابقاً».
أيضاً فإن التصريحات الروسية التي أكدت دعوة ممثلي الادارة الذاتية الكردية إلى مؤتمر سوتشي، خلافاً للوعود التي قدمت لتركيا، ولفصائل المعارضة المشاركة في الجولة الثامنة لمحادثات آستانة (كانون الأول من العام المنصرم)، يضع عملية التقارب مع الجانب الروسي على شفا الانهيار وكذلك تفاهمات سوتشي، في وقت تلوح فيه الإدارة الأميركية بإمكانية فتح صفحة علاقات جديدة مع حكومة أردوغان، على رغم وقوف كلا الطرفين على الضفتين المتواجهتين فعلياً.
بناء على ذلك فإن خيارات تركيا اليوم تتراوح بين التمدد باتجاه الانفتاح على المشروع الأميركي، أو المضي في المسارين الروسيين (آستانة وسوتشي)، ما يضعها أمام خيارين مرّين، أي بين التحالف مع داعم عسكري لقوات سورية الديموقراطية التي تناصبها العداء، أو التماس الطريق الروسي إلى «سوتشي» التي تمنح الإدارة الذاتية الكردية الدعم السياسي، من خلال مشاركتها في حوار اعتبرته روسيا مؤسساً للحل السياسي بين «الشعوب» والمكونات السورية.
وفي كلا الخيارين تتخوف أنقرة من تجرّع هزيمة مطالبها بما يتعلق بتحجيم دور أكراد قوات سورية، وإبعاد شبح إقامة «كانتون كردي» على الحدود الشمالية السورية المقابلة لمناطق تركية ذات الأغلبية الكردية، وهو ما دفع القوات التركية- التي تعثرت حركتها أكثر من مرة- لإعلان بدء معركتها مع القوات الكردية، لتحرير منطقة عفرين بهدف تبديد الحلم الكردي بوصل مناطق نفوذهم، من مدينة المالكية شرقاً حتى جبل الأكراد والتركمان على الساحل السوري غرباً، والوصول إلى البحر المتوسط.
ولعل تعويل تركيا على إنهاء الدعم الأميركي للقوات الكردية، لتحقيق استدارة كاملة من طرفها عن المشروع الروسي لايزال يفتقد «الثقة» بسبب التصريحات المتضاربة للمسؤولين الأميركيين حول دعم الأكراد، إلا أنه ومع تلك التصريحات يمكن ملاحظة أمرين في هذا السياق:
-اعلان قيام جيش كردي مع قوميات عربية وشركسية وسريانية في الشمال السوري (جيش شمال سورية) من جانب الأكراد من دون أي اشارة أميركية لذلك، على رغم الإعلان الأميركي عن مساعدات عسكرية للمعارضة بقيمة 500 مليون دولار، منها 100 مليون للتدريب العسكري، علماً أن الحديث الأميركي لم يخصّص «قوات سورية الديموقراطية» بأي تصريح مباشر حول هذه المساعدات، بينما تحدثت للمعارضة السورية التي قد تكون القوات الكردية منها.
-الدعم الأميركي المعلن من قبل إدارة ترامب، والذي لا يختلف عن الدعم المعلن من قبل ادارة أوباما عام 2015، وقد أدت الظروف المحيطة بعمل فصائل المعارضة العسكرية والسياسية إلى افشال توجيهه إلى فصائل الجيش الحر لتشكيل جيش موحد لقتال «داعش»، حيث رفضته آنذاك قادة الأركان والائتلاف والحكومة الموقتة (سليم إدريس، خالد خوجا، احمد طعمة)، لتتوجه المساعدات الأميركية إلى القوات الكردية التي قدمت نفسها كقوة معتدلة ومنظمة ووافقت على الشروط الأميركية. لذا ربما يمكن القول اليوم إن تركيا التي دفعت ثمناً باهظاً بسبب عدم تفهم دواعي تشكيل الجيش الموحد لقتال «داعش»، قبل ما يزيد عن عامين ونصف العام، يمكن أن تدفع المزيد اليوم لو كررت الفصائل المبررات نفسها «التي يشك في أنها بدفع تركي» لرفض العرض الأميركي.
في هذه الظروف والمداخلات قد تتسبب تركيا بنفسها -مرة أخرى- في حصر المساعدات الأميركية بالقوات الكردية من دون سواها، وتكون سهلت فتح الطريق أمام مواجهة بين فصائل سورية مدعومة تركياً مع أكراد سورية، من دون أي دعم دولي، وبأدوات فصائلية إسلامية غير مرحب بها مجتمعياً ودولياً، في حرب ستكون ظالمة لكلا الطرفين، وضدهما. وفي مثل هذا الوضع ربما يصبح المجال مفتوحاً على مصراعيه أمام قوات سورية الديموقراطية لتكون الطرف الفاعل في تغيير معادلات التسوية التي قامت عليها مبررات انعقاد مؤتمر سوتشي، ما يبقي الصراع السوري في غاية التعقيد، والتداخل، وهذا لا يقتصر على النظام الذي سلم قراره لإيران وروسيا، بل وعلى المعارضة التي لم تتلمس طريقها الصحيح بعد في التعاطي مع القضية الكردية من منظور سوري بحت، وهو حتماً يشمل مختلف الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة أو المتورطة في هذا الصراع.
الإيرانيون لا يريدون دخول الجنة بأمعاء خاوية. هذا ببساطة ما قاله المتظاهرون الموجوعون، في مواجهة وعود «دولة الولاية» وبانتظار «ظهور الإمام الحجة».
إيران، بتعبير هنري كيسنجر، «ثورة» و«ليست دولة». وهي مشروع عقائدي لا يتعامل مع العالم بقواعد تعامل الدول فيما بينها، ولا يني يشتغل على تصدير نموذجه، عبر دعم ميليشيات وهويات فرعية في عموم محيطه وأبعد. وهي، بنظر نظامها وعقيدة هذا النظام، مشروع إلهي غيبي، وظيفته في السماء وليس على الأرض، مما يجعل الخسائر الدنيوية في الأرزاق والأرواح تفاصيل يجب تجاوزها، تمهيداً لظهور الغائب.
هذا بالضبط ما انتفض في وجهه فقراء إيران، الذين غابوا عن انتفاضة «الحركة الخضراء» عام 2009، فالأخيرة حافظت على كونها مظاهرات طبقة وسطى مركزها شمال طهران، وعنوانها الأبرز سياسي يتصل بالاحتجاج على نتائج الانتخابات التي يعتقد الإيرانيون المنتفضون يومها أنها زُورت لصالح محمود أحمدي نجاد على حساب مير حسين موسوي. يومها كان فقراء إيران غارقين في التمتع بنتائج السياسات الاقتصادية الشعبوية لأحمدي نجاد كالقروض الميسرة والمدعومة والتحويلات النقدية المباشرة إلى حساباتهم المصرفية، مستفيداً من الارتفاعات الجنونية في أسعار النفط التي وصلت في صيف 2008 إلى حدود 150 دولاراً للبرميل!
هذه المرة خرج الفقراء إلى الشارع وبقي متظاهرو «الحركة الخضراء» في بيوتهم، مع فارق أن مظاهرات اليوم بدت أعرض جغرافياً في تغطيتها عدداً أكبر من المدن والبلدات، لكنها أقل عدداً في المجموع أو المشهدية من التجمعات المركزية التي شاهدناها في 2009. انطلقت الاحتجاجات من مدينة مشهد، الممسوكة أمنياً من قبل السلطات لأنها تحتضن مقام الإمام الرضا، الذي يعد من كبرى مؤسسات النظام وأثراها. يخضع المقام لوصاية منظمة «أستان قدس رضوي»، التي يرأسها إبراهيم رئيسي، الراسب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح روحاني، والذي كان يعتقد أنه مرشح المرشد لخلافته في سدة ولاية الفقيه.
المظاهرات التي انطلقت في الأسبوع الأخير من عام 2017 بدأت اقتصادية، احتجاجاً على ارتفاع أسعار البيض، وسريعاً ما تحولت إلى مظاهرات سياسية راديكالية تجرأت على كسر محرمات لم تكسر عام 2009 تطال هيبة الولي الفقيه وصوره التي أحرقت أو مزقت، ودعوات لتغيير النظام وصلت إلى حدود الصراخ بشعارات تترحم على رضا شاه.
غير أن انطلاق المظاهرات من مشهد عقّد الأمور بالنسبة لمتظاهري عام 2009؛ ليس فقط لأن الأثر الاقتصادي للأزمات الراهنة أخف وطأة عليهم، من الطبقات المتوسطة الدنيا والفقيرة، بل لأن انطلاق المظاهرات بدا للوهلة الأولى كأنه بترتيب ورعاية من المحافظين في وجه حكومة روحاني. في هذا السياق يلاحظ المعلق الإيراني بورزو درغاهي أن الذاكرة الإيرانية تلعب دوراً مهماً في دفع الإيرانيين للتحرك أو لجمهم، بحسب النتائج المحتملة للاحتجاج ومصادره ورعاته؛ إذ إن كثيرين ممن تظاهروا عام 1978 لإسقاط الشاه انتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عقوداً في ظل نظام أسوأ بما لا يقاس من النظام السابق.
وأُضيف إلى ذلك، أن صدمات الانهيار المجتمعي والدولتي التي أنتجها الربيع العربي، ولم تكن حاضرة في حسابات المتظاهر عام 2009، تخيف الإيراني من سلوك هذا الطريق.
كما أن عدم وضوح برنامج الاعتراض اليوم بمثل وضوحه عام 2009 وتمحوره آنذاك حول حدثٍ محدد هو الانتخابات الرئاسية، وطعنٍ محدد هو الاعتراض على تزوير نتائجها، أبقى مستوى التعبئة للتظاهر حتى الآن في حدود منخفضة.
إنها بهذا المعنى الداخلي الإيراني، انتفاضة معلقة بين ذاكرتين؛ ذاكرة إسقاط الشاه واستئناف مسار انحداري في سمعة ومقام ودور وموقع الدولة الإيرانية، وذاكرة الربيع العربي الحادة فيما تثيره من مخاوف حقيقية على الاستقرار والمصير والوجود.
لا تلغي كل هذه الخلفيات والفروقات بين اليوم وعام 2009 الإصابات العميقة التي مني بها نظام الثورة الإيرانية برمته، لا سيما في لحظة يسيطر فيها الإصلاحيون على الرئاسة والبرلمان وأغلبية المواقع المحلية والبلدية، مما يعني أن الإصلاح من داخل النظام نفسه وعبر التيارات الإصلاحية احتمال معدوم.
كما أن غياب جزء من النظام عن تصدر المظاهرات اليوم، كما فعل مير حسين موسوي ومهدي كروبي عام 2009، جعل كل النظام هدفاً للمتظاهرين وغضبهم.
صيف عام 1999 تظاهر أنصار الرئيس محمد خاتمي احتجاجاً على إغلاق صحيفة «سلام» الإصلاحية، واندلعت مظاهرات كانت الأكبر يومها في تاريخ إيران منذ سقوط الشاه. كان الصراع ما زال داخل أجنحة النظام وتياراته وفي كنف مؤسساته. بعد عشر سنوات، في 2009 حصلت «الانتفاضة الخضراء» وحملت نعياً أولياً للنظام الإيراني عبر الشكوى من التزوير وانسداد أبواب التغيير من داخل مؤسسات النظام. بعد أقل من عشر سنوات اليوم تبدو المظاهرات أكثر راديكالية في خيبة أملها من عموم النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية لنظام الثورة، كما في رفضها استمرار نظام الملالي برمته.
ربيع إيران لا تزال دونه شروط كثيرة، لكن الأكيد أن خريف النظام بات في مراحل متقدمة جداً بعد أربعة عقود من دولة ولاية الفقيه.
تشبه تظاهرات إيران هذه الأيام تلك التي اندلعت ابتداء من سيدي بوزيد في تونس في أواخر 2010 فأشعلت ما عرف بـ «ربيع» العرب. في تشابه الحدثين ذاك الجانب المفاجئ الذي لم تستشرفه أقلام وحناجر أعتى خبراء الشأن الإيراني. وفي التشابه أيضاً عفوية التحركات التي لا قيادة لها ولا بيانات حزبية ترفدها. وفي التشابه أيضاً تفشي العدوى وانتقالها من مدينة إلى أخرى واحتمال شيوعها لتصبح ربما، في تمرين التشابه، شبيهة بالثورة التي نفخ في رياحها روح الله الخميني قبل أقل من أربعة عقود.
لا يختلف النظام الإيراني في تفسيره لحـــراك الناس عن تفسير أنظمة المنطقة لحراك الناس في مدنها. وما يحصل في عرف الحاكم في طهران هو أعمال عبث وفوضى يرتكبـــها خارجــون عـــن القانون (جرذان بالنسبة للقذافي ومندسون بالنسبة للأسد وحرامية سابقاً بالنسبة للسادات). ومن يقف خلف تلك «الهبّة» في مدن البلاد، وفق بيان الحرس الثوري، هم الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، وبالتالي فإن من يهدد النظام الثوري هم الجواسيس عملاء «الاستكبار».
في بدايات الحراك السوري عام 2011 كانت سلطات دمشق تصدر بيانات تتحدث عن مواجهات مسلحة تتضمن تفجيرات كبرى كانت نتائجها مقتل إرهابيين ومقتل رجال أمن. لم تأت تلك البيانات يوماً على ذكر أعداد المدنيين التي تسقط في تلك «الأحداث». وإذا ما كان أمر ذلك السلوك الرسمي غريباً، فإنه ليس كذلك في عرف الحاكم في دمشق كما في طهران أو في أي أنظمة ديكتاتورية أخرى. لا شعب في إيران إلا ذلك الذي يصفق لـ «الثورة الإسلامية» وذلك الذي يخنع لسطوتها، أما من هم غير ذلك فمن نوع الجرذان والمندسين والخونة إلخ...
سيكون من الرصانة مراقبة الحراك في إيران من دون المغامرة باستشراف مآلاته. لم تتوقع أعتى الأجهزة الأمنية الغربية وأعرق مؤسساتها البحثية سقوط الاتحاد السوفياتي على رغم العمل الدؤوب من قبل هذا الغرب على إسقاطه. وسيكون من السخف ركوب موجة الحراك الحالي للتبرع بتفسير حوافزه أو التجرؤ على توقع نهاياته. فإذا ما كان في خروج الناس إلى الشارع عفوية مربكة، فإن في الحدث ما يجعله عابراً وكذلك ما يجعله مفصلياً في تاريخ إيران الحديث.
المفارقة أن المتظاهرين وضعوا الطبقة السياسية برمتها في سلة واحدة. والمفارقة أيضاً أن رد الحرس الثوري ومحيط الولي الفقيه لا يختلف عن ردود صدرت عن وزراء حكومة الرئيس حسن روحاني، بما يؤكد وعي الشارع بأن الجميع باتوا في سلة واحدة. وحتى الرموز الإصلاحية بدت تعابير خطابهم العتيق متقادمة لا تتسق مع شعارات المدن الغاضبة.
بيد أن تبرم مواطن إيراني عادي في مشهد أو تبريز ضد بلديته أو محافظته أو حكومته أو نظامه يقلق إلى حد الرعب رعية باتت تابعة في صعدة أو البصرة أو دمشق أو ضاحية بيروت. نجح نظام الولي الفقيه في جعل «ولاء الشيعة لإيران» وفق تعبير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. لا منطق تاريخياً بإمكانه أن يجمع مصير شيعة المنطقة بمصير الحكم في طهران، ومع ذلك فهذه حقيقة باتت تتجاوز أنصار الأحزاب والتيارات التابعة لطهران وتنسحب على البيئات الحاضنة في رد فعلها القلق على الحدث الحالي البعيد.
كان الحدث التونسي تونسياً وكذلك الأمر في ليبيا ومصر. لم يكن كذلك في سورية واليمن، ولا غرابة في ربط ذلك في البلدين الأخيرين بانخراط إيران المباشر في الحرب داخلهما. أن تهب رياح على طهران فذلك نذير شؤم على أيتام زرعتهم طهران في مدن المنطقة منذ عقود فجعلتهم، من حزب الله في لبنان مروراً بفصائلها في العراق وسورية وأفغانستان وباكستان انتهاء باليمن، يحومون بولاء أعمى حول كعبة الولي الفقيه في طهران. وقد لا يكون مستغرباً أن يستيقظ الأيتام ذات فجر على غياب الأم الوالدة والصدر الحنون.
لكن ربما يجب الإقرار بأن أي تغيير حقيقي في إيران لا يعني الشيعة فقط (أو غالبيتهم). نجحت طهران في تنصيب نفسها عاملاً أساسياً لفك عقد المنطقة برمتها، وبالتالي فإن ملفات سورية والعراق ولبنان واليمن مرتبطة مباشرة بالمزاج الحاكم في طهران. والصحيح أن الحناجر الغاضبة في إيران هذه الأيام ترى أن للتعفن الداخلي أوراماً نبتت خارج البلد وتستنزف الموارد وتعبث براهن الإيرانيين كما براهن المنطقة ومستقبلها.
تطورات الأحداث السريعة في إيران، شكلت مفاجأة غير سارة لموسكو، لجهة التوقيت وبسبب انتقال الاحتجاجات من تبني مطالب اقتصادية معيشية إصلاحية، إلى رفع شعارات سياسية تطالب بالقصاص من النخبة السياسية في البلاد.
لم تكن موسكو مستعدة وهي تحتفل مع نهاية العام بنجاحها في رسم ملامح واقع جديد في سورية والتحضير لترجمته سياسياً، لتطور قد يربك خططها ليس في سورية وحدها، بل وفي المنطقة.
المتابعة الروسية الحذرة للحدث الإيراني، تطورت من إقرار في البداية، بأن التظاهرات تعبر عن «سخط شعبي على الأوضاع المعيشية والاقتصادية» وفقاً لبيان حذّر الروس في إيران من التواجد في المناطق التي تشهد اشتباكات. إلى خطاب اقترب في مضمونه من الرواية الرسمية لطهران التي تحمّل «الأعداء» مسؤولية تفاقم الموقف وتتحدث عن «مؤامرة خارجية».
وموسكو وهي تحذر من «تدخل خارجي يهدف إلى زعزعة الاستقرار في البلاد» كشفت عن مخاوف جدية لديها من انزلاق الأمور نحو سيناريو «المواجهات العنيفة وسفك الدماء».
على رغم المفارقة التي عكسها الموقف الروسي المعلن، لجهة أن روسيا لم ترَ في مقتل عشرات في أسبوع سفكاً للدماء. لكن الأهم أن لهجة التحذير، والتشديد على رفض التدخل من الخارج، عكسا إسراعاً في التلويح بأن موسكو لن تسمح بتحويل الاحتجاجات في إيران إلى عنصر ضغط إضافي على طهران، خصوصاً أن لديها خبرة طويلة في عرقلة أي تحرك دولي يرفع شعار مواجهة العنف الزائد ضد المتظاهرين.
ليس من السهل على روسيا وهي ترسخ وجوداً دائماً في المنطقة، أن يتعرض شريكها الإقليمي الأساسي لهزات كبرى. والأمر ذاته ينسحب على تركيا وإن بدرجة أقل، ويكفي تذكّر الموقف الروسي المعارض منذ اللحظة الأولى لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا منتصف 2016.
والخشية الروسية لها ما يبررها. خصوصاً مع قناعة جزء مهم من النخبة الروسية بأن إيران حتى لو نجحت في سحق الانتفاضة وتكرار سيناريو عام 2009، ستخرج أضعف وأقل قدرة على المناورة إقليمياً. لأن الهوة ستتسع بين النخب المسيطرة وجزء كبير من الإيرانيين، ما يعني تزايد وتائر الاحتجاجات وتكرار التظاهرات. كما أن الصراع سيحتدم أكثر بين الإصلاحيين والمحافظين. وكل من الطرفين يسعى إلى توظيف الاحتجاجات لمصلحة مواقفه، الأول من خلال التقاط المطالب الإصلاحية المرفوعة في الشارع لتبرير سياساته، والثاني لأنه يعتبر التدهور الحاصل فشلاً للفريق الإصلاحي ما يستوجب سياسة داخلية أكثر تشدداً.
هذه القناعة التي عبر عنها مقربون من الكرملين، تضع رهانها الأكبر على انحسار الاحتجاجات، لكنها تدفع موسكو في الوقت ذاته، إلى مراجعة حساباتها والاستعداد لكل السيناريوات المستقبلية بما في ذلك انشغال طهران داخلياً لفترة على الأقل.
صحيح أن روسيا لا تشاطر إيران في كل سياساتها الإقليمية، وخصوصاً ما يتعلق بتسليح وتمويل «حزب الله» أو التدخل في شؤون بلدان المنطقة. لكن ثمة خشية روسية من أن انحسار الدور الإيراني سينعكس على السياسات التي أطلقتها موسكو في المنطقة وهي تستند في جزء مهم منها إلى التحالفات الإقليمية وبالدرجة الأولى مع طهران.
والتوازن الدقيق الذي أقامته روسيا حتى الآن في الشرق الأوسط، من خلال الحفاظ على روابط مؤثرة مع كل الأطراف، يبدو معرضاً لهزة كبيرة، على خلفية الهزات التي أحدثتها الاحتجاجات في المدن الإيرانية. وسيكون على موسكو التي أعلنت أكثر من مرة أمام زوارها العرب أنها لا ترى في السياسة الإيرانية الإقليمية تهديداً لأي طرف، أن تضع خيارات بديلة، لا يبدو الكرملين مستعداً لها، على الأقل حالياً.
باتت التسريبات التي نشرت قبل أشهر عدة عن تسليم كامل المنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد للميليشيات الإيرانية وروسيا أمراً واقعاً لا يمكن التهرب منه أو إنكاره مع وصول جحافل الميليشيات التابعة للنظام إلى مدينة سنجار التي تعتبر قلب المنطقة وشريانها ومركزها المدني والتجاري وعقدة مواصلات المنطقة.
مع سيطرة النظام وحلفائه على سنجار واجتيازهم جميع القرى من بلدة الخوين بريف إدلب الجنوبي وصولاً لسنجار على طول الخط الحديدي دون أي مقاومة إلا من بعض أبناء المنطقة وبالأسلحة الفردية التي بحوزتهم بعد أن قامت الفصائل وأبرزها هيئة تحرير الشام بنقل كامل عتادها العسكري الثقيل والمتوسط من مطار أبو الظهور العسكري وصوامع سنجار إلى جهة مجهولة، لعلمها المسبق بحسب التطورات الراهنة بالعملية وماخطط ودبر.
الجدل الحاصل عن تسليم كامل المنطقة للميليشيات بات واقعاً اليوم ومسألة سيطرة قوات الأسد على مطار أبو الظهور العسكري بات مسألة وقت لا أكثر بعد أن تمكنت من السيطرة على صوامع سنجار، وسط غياب الفصائل وأرتالها ودباباتها عن المعركة واكتفاء هيئة تحرير الشام الفصيل المسيطر على المنطقة مسبقاً ببيان تتحدث فيه أنها لم تسلم أي منطقة وأنها لم تنسحب خلافاً للوقائع.
في الطرف المقابل لاتفاق شرقي السكة وبعيداً عن الإعلام تتحدث معلومات عن إعداد تركي كبير لبدء معركة عفرين بضوء أخضر روسي، قد تشارك فيها الفصائل الموجودة في إدلب وفي ريف حلب الشمالي كلاً من محاوره في المعركة، بهدف السيطرة على كامل منطقة الشريط الحدودي مع تركيا ووصل المناطق المحررة بريفي حلب الغربي وإدلب الشمالي مع ريف حلب الشمالي.
حسب التسريبات والمعلومات فإن الصمت التركي أولاً عما يجري شرقي إدلب كونها طرف ثلاثي مع روسيا وإيران في اتفاق خفض التصعيد وتأخرها في نشر قواتها في عمق محافظة إدلب كان متفقاً عليه من الجانب الروسي بحيث تسيطر روسيا وحلفائها على شرقي سكة الحديد وتسيطر تركيا في المقابل على مناطق واسعة في عفرين، بعدها يتم ترسيم الحدود وتنفيذ خطة الانتشار التركي في عمق محافظة إدلب تتبعها هدنة طويلة.
ترسم الأيام القليلة القادمة صحة هذه المعلومات لاسيما أن قوات المعطيات على الأرض في ريفي حماة وإدلب الشرقيين تسير وفق ماسرب على أكمل وجه، وكذلك تشير التعزيزات التركية المستمرة على الحدود ونشرها منصات صواريخ في منطقة ريف حلب الغربي تبين اقتراب المعركة في المنطقة لامحال، إلا أن الإجابة على ساعة الصفر لمعركة عفرين لم يحدد تجيب عنه الأيام والأسابيع القادمة.
بعد إطاحته بالشاه نجح آية الله الخميني في شيء واحد، قضى على الدولة الأقوى والأغنى والأكثر نجاحاً في منطقة الشرق الأوسط. جاء النظام الذي بناه على أنقاض دولة الشاهنشاهية الحديثة، دولة دينية متخلفة بفكر اقتصادي يساري عتيق. كانت إيران دولة تمثل نموذجاً ناجحاً في نظر الغرب، وقد تقدمت على غيرها بمسافة بعيدة.
ثم خيّب الخميني كل من أيده أو ظن فيه أحسن ما يتمناه. كان الشباب يتطلعون لخليفة الشاه إلى نظام ديمقراطي كامل. والأقليات الإثنية ظنّت أن خروج الشاه سينهي القومية الفارسية الطاغية ويقيم دولة إيران الجامعة، والشيوعيون يعتقدون أنه سيكون حليفهم ضد الأميركيين حلفاء الشاه. واعتقد الأميركيون أن وصول رجال الدين أفضل من وصول حزب توده الشيوعي، وسيسد الطريق على دبابات السوفيات التي استولت على الجارة أفغانستان، ويمكنهم العمل معهم لاحقاً. وصدقت الجماهير العربية تعهدات الخميني بتحرير القدس من الإسرائيليين، وتمنى عرب الخليج من خروج الشاه نهاية النزاع على الجزر والبحرين والعراق.
كلهم كانوا مخطئين.
بعد وصول الخميني للحكم كان أكثر من دفع الثمن هم الشباب. وضعت الجامعات تحت إدارة رجال الدين وقمعت النساء. وأول ضحايا النظام كانوا اليساريين فبطش بهم نظام الملالي، رغم أنهم ساندوه في ميدان أزادي، التحرير. وضيق على الأقليات الإثنية.
واكتشف الأميركيون أن اليمين الديني في المنطقة لا تنطبق عليه مواصفات اليمين في الغرب. كان أكثر عداءً لهم من حزب توده. وحصرت طهران خلافها مع إسرائيل في النزاع معها على مناطق النفوذ العربية. أما عرب الخليج فقد اكتشفوا أن الخميني يعتبرهم عدوه الرئيسي وهدفه الدائم ضمن استحضاره للصراع الديني الطائفي القديم.
والذين يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية هي دافع الناس للانقضاض على نظام المرشد الأعلى يهونون من العوامل الأكثر تجذراً وخطورة. فمظاهرات عام 2009 كانت أضخم، وقادها أناس من صلب النظام والمستمتعين بامتيازاتهم المعيشية. جذور أزمة النظام هي كل ما ذكرته أعلاه. فقد أقصى كل القوى المحلية، وميّز نفسه عن البقية، وعندما فشل كان سهلاً على الجميع أن يلتقوا على مطلب واحد وهو إسقاطه. ليس الخبز وحده مشكلتهم مع حكومة حسن روحاني، ولا سعر الوقود يمثل خلافهم مع نظام المرشد الأعلى، بل يعارضون كل شيء يمثله النظام. غالبية الإيرانيين ليست متدينة، وذات اعتزاز قومي ترفض من رجال الدين تهميشه. وإيران بلد كان أكثر حضارة وأكثر انفتاحاً وتعايشاً في ظل حكم الشاه، وأكثر تقدما في العلوم والصناعة. كله تبخر بعد أن تسلم الحكم مجموعة من الدراويش التي تعتقد أن واجبها الوحيد تسخير الدولة لخدمة آية الله ونشر تعاليمه، والقتال من أجلها في أنحاء العالم. هذا الفكر الأناني الساذج ليس مقنعاً لغالبية الشباب الإيراني الذي ينتج أفضل الأفلام ويلقي أعذب القصائد، ويحيي الحفلات في الأقبية خارج أنظار مخبري الباسيج. لأشهر عديدة استمرت الفتيات الإيرانيات يظهرن يوماً في كل أسبوع وينشرن صورهن من دون حجاب تحدياً للملالي. توجد كراهية حقيقية عند الشعب الإيراني للنظام الذي كان من شعاراته يافطات تستنكر دعم الحركات الدينية في لبنان وسوريا والعراق. هذا شعور أعظم وأخطر من المطالبة بسعر خبز أرخص.
وأعداء نظام ولاية الفقيه في الخارج أيضاً كثر، حتى الذين يظهرون حرصهم عليه، مثل روسيا التي لها خلافات معه حول تقسيم بحر قزوين وملفات أخرى. هذا ما سيجعل وضع طهران في الفترة التالية مضغوطاً بشكل عليه أن يتحول إلى الواقعية السياسية والتعامل مع مواطنيه كما يتمنونه، ويتوقف عن مغامراته في الخارج، وإن لم يفعل فستنجح الكثرة الكارهة له في الداخل والخارج في إسقاطه.
لليوم السادس على التوالي تتواصل تظاهرات الاحتجاج في عشرات المدن الإيرانية، بينها العاصمة الإدارية طهران والعاصمة الروحية قم، بعد أن كانت قد انطلقت أصلاً من مشهد، مسقط رأس المرشد الأعلى علي خامنئي، والمدينة ذات المكانة الدينية البارزة. وحتى الساعة كانت التقارير تشير إلى سقوط 12 ضحية، بعضهم قتل مباشرة برصاص الشرطة، فضلاً عن عشرات الجرحى ومئات المعتقلين، بالرغم من أن وحدات «الحرس الثوري» المعروفة بالبطش والشدة لم تتدخل بعد في قمع المتظاهرين.
وكانت أولى التظاهرات قد بدأت احتجاجاً على رفع أسعار المحروقات، والسياسات العامة لحكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني وعجزها عن إيجاد حلول ناجعة لمشكلات البطالة والغلاء، وفشلها في الوفاء بالوعود التي قطعتها حول تحسين مستوى معيشة المواطن بعد توقيع الاتفاق النووي والبدء في رفع العقوبات الاقتصادية التي كان الغرب يفرضها على إيران. لكن اللافتات المطلبية سرعان ما أخلت المكان أمام شعارات أخرى سياسية وراديكالية، تمس شخص خامنئي ذاته وتطلق عليه صفة «الديكتاتور»، ولا تمزق صوره في الشوارع والساحات العامة وتطالب برحيله فقط، بل تنادي بإسقاط مبدأ ولاية الفقيه تحديداً.
وهذا تطور جوهري لافت تماماً، لأن تولية الفقيه سلطات هائلة في إدارة شؤون الدين والدنيا، والاجتماع والاقتصاد والجيش والأمن، ليست من استحداثات المرشد الراهن خامنئي، بل تعود إلى الإمام الخميني نفسه، وبالتالي فإن رفع شعار إسقاط المبدأ اليوم يحمل مفعولاً رجعياً أيضاً، ويستهدف ركائزه الفقهية ذاتها كما صاغها الخميني في النجف سنة 1971.
ليس أقل أهمية أن شعارات الاحتجاج تطورت في اتجاه الربط بين تدهور معيشة المواطن الإيراني داخل البلد، ومغامرات التدخل الخارجي المكلفة التي ينخرط فيها النظام الحاكم، والمكاتب الأمنية والعسكرية والسياسية المرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى على وجه التحديد. ذلك يعني أن إحساس المتظاهرين بوطأة الأسعار وغائلة البطالة وانحطاط المعيشة، أخذ يتنامى على نقيض مباشر مع عقيدة شبه رسمية في تصدير الثورة، اعتنقتها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها سنة 1979 على أنقاض نظام الشاه.
من هنا تبدو تظاهرات أواخر العام 2017 مختلفة نوعياً عن تظاهرات عارمة سبق أن شهدتها العاصمة طهران سنة 2009، احتجاجاً على مؤشرات تزوير الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها محمود أحمدي نجاد. ورغم أن تلك التظاهرات نجحت في استقطاب الملايين، مقابل الآلاف فقط في التظاهرات الحالية، فإن شعاراتها ظلت إصلاحية عموماً ولم تبلغ مستوى المطالبة برحيل «الديكتاتور» وإسقاط ولاية الفقيه.
وحتى الساعة يبدو رد فعل السلطات الإيرانية كلاسيكياً يحتذي بالأنظمة العربية التي شهدت اندلاع تظاهرات احتجاج شعبية، فبدأت بحجب منصات التواصل الاجتماعية، وانتقلت إلى اتهام المتظاهرين بإثارة الشغب، ثم استخدمت وسائل قمع تراوحت بين الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي،
قبل أن يعلن الرئيس روحاني أن انتقاد السلطة حق يكفله الدستور ولكن دون مخالفة القانون وتخريب الممتلكات العامة!
ويبقى أن من المبكر التكهن بالمسارات التي سوف يتخذها هذا الحراك الشعبي المتعاظم، ولكن ليس من المبكر أن تستخلص السلطات الإيرانية الدرس الأهم والأبكر: أن نيراناً اشعلتها محروقات الشعب، لا تطفئها خراطيم المياه وحدها!
هناك خصوصية جوهرية في الحالة الإيرانية تبدو غائبة في قراءة ما يحدث من احتجاجات غير مسبوقة كماً نوعاً، وحتى على المستوى الجهوي- المناطقي، وطبيعة الخلفية السيوسيولوجية للناقمين على إخفاقات نظام الملالي المؤدلج والقمعي الذي لم يعد يحتمله الإيرانيون.
هناك تداخل كبير في طبيعة الاحتجاجات في الحالة الإيرانية حسب المعطيات الأوليات الشحيحة التي نشرتها وكالات الأنباء والتقارير الصحافية، فهي مزيج بين غضب واستهجان المجموعات والكتل ذات الطابع المدني والعلماني من جيل الشباب الناقمين على سياسات التدخل الإيرانية في قضايا عربية كلفت الكثير من الأموال الطائلة والجنود، هذه الاحتجاجات استعادت لحظة الشاشة والاهتمام لدى هؤلاء، وأنها كانت الأفضل للقومية الإيرانية التي هي في نظرهم امتداد تاريخي انقطع مع ثورة الملالي، كما أفرزت تلك الاحتجاجات طبقات جديدة من الفقراء الناقمين على انهيار الأوضاع الاقتصادية، وغلاء المعيشة، وإهمال البنى التحتية، وكل تبعات انخفاض أسعار النفط، واختناق فرص العمل حتى بعد حالة التسوية على المشروع الإيراني النووي... الاحتجاجات الأولى ركزت على سلطوية وقمع الحرس الثوري، وتدخل إيران في سوريا واليمن، وشعارات الفقراء من الشعب الإيراني ذهبت إلى أبعد من ذلك بالهجوم على خامنئي، وكلا الحراكين يفقد الناظم الحزبي والشخصيات الموجهة، على عكس الثورات العكسية شكلاً ومضموناً إبان الربيع العربي الذي قدر على إسقاط عدد من الأنظمة العربية بسبب أنها واجهت جماهير محمولة بخبرة الإسلام السياسي الذي وإن جاء متأخراً إلا أنه استطاع بسهولة خطف المشهد بسبب قدرته على التحشيد وخبرته في بناء شعارات وتحريكها كأدوات فعل سياسي احتجاجي.
المعارضة الإيرانية العلمانية أيضاً لم تجد، وهذه مفارقة، ذات الدعم والتأييد من الخارج.
على المستوى المناطقي بدأت الاحتجاجات خارج العاصمة على خلاف سابقاتها، فتصدرت مشهد، معقل نظام الملالي المدينة المحافظة ذات الأهمية الدينية والشعائرية، التمرد، وهو ما يعني أن حالة الإخفاق لنظام الملالي قد أصابت جغرافية نفوذهم واشتغالهم بشكل غير مسبوق حتى في عام 2009، كما أصابت من جهة أخرى مشروعهم التوسعي، فحسب عدد من التقارير الإخبارية ردد المتظاهرون عبارات تنادي بترك سوريا وشأنها، بل واستعادة نوستالجيّة لحكم الشاه، ورفع صوره في مدينة قُم، ومطالبة بإسقاط الجمهورية الإسلامية.
لا شك أن هذه الثورة أيضاً تلعب على عامل المناخ العام، حيث بات العالم مرهوناً للحداثة التكنولوجية التي تخدم المعارضين، كما هو الحال مع كل مكونات المجتمع، وهو ما يفسر سرعة رد النظام باستهداف منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الدردشة والفعاليات الإلكترونية الجمعية، والتي تتفوق في تأثيرها وطريقتها في الحشد على الطرق التقليدية كالنزول إلى الشارع، والتي يملك الحرس الثوري خبرة طويلة في قمعها وإخمادها.
وعلى ذات التباين مع مواجهة الربيع العربي فيما يخص تدخل الخارج وتأثيراته على السياسة الخارجية الإيرانية، فإن جزءاً من أزمة فشل الملالي هو قدرته على استثمار وكلائه في المنطقة وأذرعه من ميليشيات «حزب الله» إلى الحوثي، لتعزيز مكانته في الداخل لدى النخب والشرائح الموالية.
الاستثمار في الحالة الإيرانية يجب ألا يكون رهاناً على مآلات الثورة التي، كعادة موجات التنديد، لا تعبر عن حراك مجتمعي ولا عن سياق سياسي أو انتماء حزبي، بل على ضرورة حشد الرأي العام العالمي تجاه التجاوزات الإيرانية في حق القضية السورية، وفي هيمنة «حزب الله» السياسية في لبنان، وصولاً إلى ميليشيا الحوثي الذي يمده النظام الإيراني بالأسلحة.
الاحتجاجات الإيرانية باختصار تريد استرجاع مفهوم الدولة من اختطاف الملالي لجهة الثورة، وهو ما عكس قلق النظام الإيراني من هذه الاحتجاجات وتصريحات مسؤوليه تجاه المتظاهرين وعموم الشعب بالوعيد بالملاحقة والسجن وتطبيق اشتراطات تصحيحية مرهونة بوقف تدفق المظاهرات ذات الزخم الحاد للاحتجاجات والغضب الشعبي الذي استبدل بعبارة «الموت لأميركا»، «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى المرشد.
على المستوى الخارجي، فالاتفاق النووي أتاح لإيران بسط نفوذها في المنطقة، ليس عبر الاستفادة من المتنفس الاقتصادي بعد رفع الحصار، بل بإخراجها من محور الشر إلى دولة ذات نفوذ إقليمي من المفترض استثماره في الحرب على الإرهاب.
فتح باب النقد الذي دعا إليه روحاني قبل حتى هذه الاحتجاجات هو معضلة إيران مع الداخل، أو ما كان يطلق عليه «اقتصاديات المقاومة»، والذي عارضته الجماهير العريضة من الشعب الإيراني من مختلف الاتجاهات والمكونات، فالاتفاق النووي والتدخل السافر في سوريا لم يسهما في مسار التنمية أو تغيير الحالة الاقتصادية المتردية، والتي أسهمت في باب الاضطرابات والاحتجاجات الجمعية من شرائح متعددة من الإيرانيين.
الاستثمار في فشل الملالي وإخفاقهم يكمن في تعرية خطابهم وقناعهم السياسي الذي يخفي رغبة في هيمنة طائفية، فالشعارات التي يطلقها الساسة ذات الطابع الديني ليست إلا أدوات للتعبئة ولا تعبر عن أهداف نهائية غائية، خصوصاً ما يتصل منها بسيادة الدول وأمنها الذي يقوّض أبسط مفاهيم السياسة الدولية، فمن يقول إن تدخله في سيادة الدول وبناء أذرع وميليشيات عسكرية له يعني أنه إعلان عدم إيمانه بمفهوم الدولة والأمن الإقليمي والمؤسسات الدولية، فضلاً عن أن يكون حريصاً على أمن وازدهار ورفاه مواطنيه.
أصبحت تكنولوجيا الإعلام والاتصال في متناول الكثير من الناس، ووفرت الفرصة لأي شخص أن يكتب وينشر ما يشاء على شبكة الإنترنت من صور وآراء وأخبار جمعها من مصادره الخاصة.
ومع تزايد اعتماد السوريين على شبكات التواصل الاجتماعي كان لا بد لهم من أن يأخذوا دورهم في نشر التنمية والمساهمة في بناء وطنهم في المناطق الآمنة، فممارسة الصحافة في شكلها الجديد (إعلام المواطن) أو (صحافة المواطن) أصبحت ظاهرة اتصالية لها دورها الكبير إذا اتسمت بالصدق والنزاهة والموضوعية، واتسم هذا المواطن بالوعي ومعرفة الحقوق والواجبات، فبع الإعلام السائد غابت الثقة عنه لاعتماده على أجندات معينة تخدم بها مصالحه بحسب ما يراه داعمه، والمؤسسات الإعلامية بوضعها الحالي غير مؤهلة لمواكبة التغييرات الحاصلة في سورية، فهي نفسها بحاجة إلى ما يسمى بـ (تنمية الإعلام)، والمنتج الإعلامي عند الكثير لم يعد أهلًا للثقة، والجمهور المستقبل والمواطن الواعي كذلك لم يعد كائنا معلبًا.
وفي ظل عدم وجود كليات للإعلام، وغياب التخصص الإعلامي كعلم ومهنة عن الكثير من الإعلاميين في المؤسسات الإعلامية، كان لابد من أن يلعب المواطن الصحفي دوره في تنمية وطنه، ويعد ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺍﻟﺘﻨﻤﻭﻱ أساسًا للنشاط الإعلامي في الدول النامية، فهو هادف وشامل وواقعي، ويشتمل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن هنا تكمل أهمية ديمقراطية الإعلام في إيصال السياسات الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى المواطنين حتى يكون على اطلاع بكل ما يجري حوله في البلد، ولكن مع ضعف الإعلام والثقافة الإعلامية عند المجالس المحلية القائمة على خدمة الناس في هذه المناطق، كان لابد من المواطن الصحفي من أخذ دوره في هذا المجال حتى يستطيع بلوغ الهدف التنموي في الرقي بالإنسان والمجتمعات المحلية ويصبح هذا المواطن أداة فعالة للمشاركة الشعبية وتحقيق ديمقراطية الإعلام.
فالمواطن الصحفي هو المنبر الإعلامي المشجع والداعم للتنمية بكافة أبعادها و مجالاتها سواءً الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لذلك عليه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي تدعيم مسار التنمية التي تقوم بها المجالس المحلية، عبر التوعية المستمرة والهادفة بمتطلبات التنمية، وما تمليه على كل مواطن من ضرورة بذل الجهد من أجل المساهمة بكافة مجالاتها وقطاعاتها عن طريق التعاون والتشاركية إلى أن نصل إلى تغير العادات وأنماط السلوك، ورصد حركة الشباب والحياة اليومية، وكذا متابعة نشاطات المدارس والجمعيات والمنظمات، بالإضافة إلى مناقشة المشكلات والحقائق المتعلقة بالواقع التنموي الذي يعيشه المجتمع المحلي، مع فتح قنوات الحوار الدائمة مع صانعي القرار لتحديد أنسب السبل لمواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع المحلي، ودفع عجلة التقدم حتى نصل إلى المطلوب.
ويتضح دور المواطن الصحفي في التنمية بالآتي:
- المواطن الصحفي يشجع المجتمع على المشاركة الفعالة في كافة خطط التنمية مع المجالس المحلية وغيرها، وتتبع سيرها من خلال مختلف الأنشطة والأشكال الإعلامية.
- يظهر دور المواطن الصحفي عند الأزمات المفاجئة من قصف أو دمار أو اعتداء من خلال الاعتماد على تحريض الناس على التفاعل مع الضحايا والمتضررين.
- يساهم المواطن الصحفي في تعليم الناس عدم السكوت عن الخطأ، وفي انتقاد المسؤولين بأدب وعدم الخوف منهم والحوار معهم.
- يشارك المواطن الصحفي المثقف الواعي في تنمية مجتمعه وبيئته من خلال أنشطة محو الأمية، والتثقيف النسائي، والتوعية والتربية، وغير ذلك.
- ألا يقتصر دور المواطن الصحفي بتوصيل المعلومات فقط بل يجب أن يحدد المشكلات التنموية في منطقته، ويقترح الحلول لها ويقرر بذلك الأولويات التنموية للمجتمع المحلي، ويحدد البدائل الملائمة للمساهمة في تلبية الاحتياجات الفعلية للمواطنين.
وهنا أوصي القائمين على المجالس المحلية بالآتي:
- تسهيل الحصول على المعلومة للمواطنين الصحفيين وغيرهم من الإعلاميين، فمعركة الحصول على الخبر صعبة جدًا والحس الإعلامي عند الكثير ضعيف.
- ضرورة نشر الخطط التنموية وتنظيم حملات إعلامية ﺘﻨﻤﻭﻴﺔ ﻟﺩﻋﻡ ﻤﻴﻭل ﺍﻟﺠﻤﻬﻭﺭ ﻭﺘﻨﺸﻴﻁﻬﺎ ﻨﺤـﻭ ﺃﻫـﺩﺍﻑ ﺍﺠﺘﻤﺎﻋﻴـﺔ ﻤﺤﺩﺩﺓ.
- تحديد الجمهور المستهدف من هذه الحملات عبر دراسة الواقع وتقسيم شرائح الجمهور.
- الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي لما لها من دور في التأثير على الرأي العام وتوجيهه نحو تطوير التنمية وتنوير المجتمع.
وأخيرًا تنمية بلادنا ومناطقنا الآمنة هي مسؤولية الجميع، عبر المجالس المحلية ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنين، وتسليط الضوء على القضايا الإعلامية التنموية في غاية الأهمية، فالتنمية تحتاج لوعي جماهيري شعبي، وهذا الوعي هو من صنائع الإعلام فإذا قصرت المؤسسات الإعلامية في أداء دورها فالبديل هو المواطن الصحفي الذي يحمل هم بلده ووطنه ويسعى لخدمته.
القراءة الصحيحة للوضع الداخلي، والمعادلات الإقليمية والدولية المتشابكة معه، المؤثرة فيه، تمكّن السياسي من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، تماماً مثلما يكون الحال مع التشخيص السليم بالنسبة إلى الطبيب. أما إذا كانت القراءة خاطئة، فستكون النتائج المترتبة إليها هي الأخرى خاطئة، أو غير منتجة. وهذا ما حصل مع القيادة السياسية التي تصدّرت المشهد في بدايات ثورة الشعب السوري على نظام الاستبداد والإفساد.
فقد تصورت القيادة المعنية أن التغيير آتٍ إلى سورية، وأن العالم قد تغيّر، وبات مصير الديكتاتوريات في منطقتنا محسوماً لمصلحة شعوبها، لتتمكّن هذه الأخيرة من إعادة بناء مجتمعاتها من أجل مستقبل أفضل لأجيالها المقبلة، يضمن الفرص العادلة في ميادين التعليم والعمل والإبداع. وكان التصور هو أن كل ذلك سيكون في مصلحة الأمن والاستقرار والازدهار على المستويين الإقليمي والدولي.
ولكن ما تبين لاحقاً أن هذه القراءة كانت متفائلة أكثر من اللازم، لأنها لم تأخذ في الاعتبار موقع ودور سورية وأهميتها على صعيد ضبط المعادلات بين القوى الإقليمية والدولية، هذه القوى المتصارعة على المزيد من التحكّم بتوجهات المنطقة ومقدراتها.
ومن بين ما أدّت إليه القراءة الخاطئة تلك أن القيادة السياسية للثورة غضت النظر عن الأخطاء والممارسات غير السوية التي كانت تتمّ سواء ضمن المؤسسات السياسية، أم على المستوى الميداني العسكري الذي كان في واقع الحال خارج نطاق نفوذ السياسيين، وذلك لأسباب كثيرة لسنا بصدد تناولها الآن.
ومع الوقت تراكمت الأخطاء المعنية، وأصبحت ظاهرة لتؤدي بدورها إلى تحوّلات نوعية تراجعية، مهدت الطريق أمام تدخلات إقليمية ودولية استهدفت هندسة كيان جديد تحت اسم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليكون البديل عن المجلس الوطني السوري الذي كان يعبر عن أهداف الثورة السورية. فأصبح الكيان الجديد يجمع بين قوى الثورة والمعارضة من دون أن ينتبه أحدنا إلى أن الخطوة المعنية كانت مقدمة لإنهاء قوى الثورة، والإبقاء على قوى المعارضة بأطيافها المختلفة، لتختزل المسألة إلى مجرد خلاف بين نظام ومعارضة حول تقاسم السلطة. هذا في حين أن الثورة السورية جسّدت تبايناً وجودياً بين مشروعين: مشروع النظام المستبد الفاسد المفسد. ومشروع الشعب الثائر المتحور حول قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ومع الوقت، غاب مصطلح قوى الثورة نهائياً عن المشهد، ليصبح مصطلح قوى المعارضة السياسية والعسكرية أو الميدانية هو المهيمن.
ومع تبدّل أولويات القوى الإقليمية، وتحكّم روسي شبه كامل بالملف السوري، بدأنا نرى معالم خطة مبرمجة، استهدفت إجراء تغييرات بنيوية ضمن هيكلية المعارضة السورية، وكان الهدف هو تغيير وظيفتها ودورها. فقد بات المطلوب منها التعايش مع النظام، إن لم نقل الاندماج فيه بهذه الصيغة أو تلك، وذلك بموجب رتوش دستورية، ستكون غالباً مجرد حبر على ورق، في ظل وجود نظام أمني قمعي مهيمن، متحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع. على أن تكون التغييرات المعنية مقدمة لانتخابات عامة تحت إشراف دولي، يتم التسويق له منذ الآن. واللافت في الأمر أن القائمين على هذا التسويق يتجاهلون عن سابق قصد وتصميم عجز المجتمع الدولي، إن لم نقل تخاذله، عن إدانة جرائم هذا النظام الصارخة مثل الكيماوي والتصفية المبرمجة للمعتقلين، واستخدام سلاح الاغتصاب، وقصف المدن والبلدات السورية بنحو 70 ألف برميل على مدى سنوات وغير ذلك من الجرائم التي يبدو أنها قد باتت جزءاً من المألوف اليومي لعالم المصالح والحسابات.
ومن الواضح أن جرعات التخفيف، بالمعنى الكيماوي، التي تعرضت لها المعارضة السورية قد ساهمت في تضييق نطاق المناورة لديها، وأضعفت من قدرتها على رفض ما يعرض عليها من أشباه حلول، تتقاطع كلها حول شرعنة النظام القائم، مقابل فتات سلطوي لن يستفيد منه السوريون شيئاً.
اللحظة التي تواجه السوريين المعارضين، الذين يرفضون علناً، على الأقل، القبول بفكرة استمرارية نظام بشار، حاسمة ومفصلية. فهم إما سيسيرون مع قافلة المهللين لـ «الحل» الروسي، أو أنهم سيتخذون الموقف المناسب المنسجم مع تضحيات وتطلعات الشعب السوري، وسيرفضون الخنوع لما يُفرض عليهم، وهم يدركون قبل غيرهم طبيعته ومآلاته.
سوتشي على الأبواب. ومن المفروض أن يعقد بإشراف وتحكّم مباشرين من الجانب الروسي، وبالتفاهم مع النظام، وبمشاورة مع القوى الإقليمية التي أرغمها الغياب الأميركي على التواصل غير التقليدي مع الروس، حتى تكون بمنأى عن الموجات الارتدادية للزلزال الذي تشهده المنطقة بفعل التدخل الإيراني بمختلف الأشكال والأدوات.
هل سنقنع أنفسنا، ونشارك من باب ضرورة التعاطي الإيجابي مع المبادرات السلمية، ونلوذ بذريعة أخطار الكرسي الفارغ. وهذا فحواه ليس الإقرار بالهزيمة وحدها، بل الاعتراف بأحقية النظام، والتسليم بشرعيته، وتحميل من ثار عليه من السويين مسؤولية ما حدث.
علينا أن نميز في هذا السياق بين الموقف الشجاع الذي يعترف بعدم الانتصار، وبين الموقف الإنهزامي الاستسلامي الذي يروّج له بعضهم بهدف، شرعنة النظام، وإعادة تجديده.
ففي الحالة الأولى، لا بد أن نبحث في الأسباب والمقدمات التي كانت وراء الإخفاق من أجل تلافي السلبيات التي كانت، بصغيرها وكبيرها، ونؤسس لحركة وطنية شاملة، تمثل إطاراً يستوعب طاقات شبابنا الهائلة في الداخل والخارج، طاقات النخب السورية الثقافية والفنية والإعلامية والاقتصادية والمجتمعية، لتكون جميعها متفاعلة، مشاركة في حركة عامة، تلتزم المشروع الوطني المدني الديموقراطي الذي يكون بكل السوريين ولكل السوريين.
ومن نافل القول هنا أن نؤكد أن مشروعاً كهذا سيستغرق الكثير من الوقت والجهد، ويستوجب الكثير من التحمّل والتضحيات، ولهذا لن يكون جذاباً بالنسبة إلى المستعجلين اللاهثين بعقلية سحرية خلف ما يشبع عقدهم، ويستجيب نزواتهم ونزعاتهم.
لقد قدم السوريون تضحيات تعجز الأرقام والعبارات عن تحديدها وتوصيفها. ولكنهم مع ذلك لم ينتصروا، وليس في ذلك أي عيب أو نقيصة. لأن قوى الشر جميعها تكالبت عليهم. أما القوى الأخرى التي أعلنت صداقتها للشعب السوري، فقد لاذت بالصمت المريب.
لقاء سوتشي المقترح، المرتقب، لن يربك السوريين الرافضين لأي دور للنظام القائم، فهؤلاء قد اتخذوا قرارهم برفض المشاركة، وهذا القرار سيعيد اللحمة في ما بينهم، وتسترجع قضيتهم ألقها الأصيل؛ بعد تحررها من كل الشوائب والقيود المؤلمة.
الأمور كلها في منطقتنا في حالة غليان وتفاعل، ومن يدري، فقد يكون التحرك الشعبي الإيراني مقدمة للتحوّل الأكبر المنتظر.