تداخل غريب وعجيب: سلطة في إيران تحتل بلداً آخر، لا بل أربعة بلدان عربية، دفاعاً عن سلطات أخرى ومن أجل قمـــع ثورات الشعوب، والآن تخرج جماهير تلك السلطة لتقول كلمتها في الشوارع، حيث تعرف تماماً ماذا ينتظرها من قمع.
ليس غريباً أن تتضايق السلطة التركية الراكضة وراء تثبيت أردوغان كزعيم أوحد ووحيد، في سعي صريح لضرب الديموقراطية التي أوصلت أردوغان إلى السلطة، وليس غريباً أيضاً أن يعبّر بشار الأسد عن استيائه وانزعاجه من احتجاجات الشارع الإيراني، فها هو يقتطع ما يريد من جغرافية سورية ومعها ثروات ويبيعها ويرهنها لمصلحة السلطة الإيرانية ومعها طبعاً سلطة بوتين.
على رغم كل هذا السواد في المشهد السياسي العالمي، أتت تظاهرات الشعب الإيراني لتقول إن التاريخ البشري ومهما زورته قوى القهر والاستبداد، لا يمكن أن يسير إلى الأبد كما يريد طغاة العصر.
في قلب كل احتجاج شعبي كسر وتكسير لما يسمى «الأبد»، هذه الكلمة التي سُرقت من الكتب المقدسة ووضعت في خدمة سلطات مستبدة سرقت كل شيء في بلدان هي الأغنى في العالم.
صورة الخامنئي الآن تهتز، حتى لو تم قمع الاحتجاجات حالياً، واهتزاز هذا الأبد القمعي ضرورة من أجل تكسيره وتغييره.
قال القذافي للناس: «من أنتم؟»، وقال بعده بشار الأسد للناس: «أنتم جراثيم». هذا هـــو منطق الطغاة، يتعاملون مع البلد وكأنـــه بلا شعب، كأنه آلة لخدمة جنونهم نحو التسلط.
دروس بالغة التعبير قدمتها تلك التظاهرات للبشرية والتاريخ، ثمنها دم وأرواح تقتل، دروس فكرية وسياسية وأخلاقية تقدمها الناس التي اعتقد الخامنئي أنها طيعة وخانعة.
وإذا تركنا التوقعات والتنبؤات جانباً فإن ما يحدث على الأرض هو مساندة فعلية للأخلاق والخير المتبقي على هذا الكوكب.
في التظاهرات الإيرانية تكسير لتلك الخرافة الأيديولوجية التي بنى عليها النظام الإيراني خطاباته وسياساته وشعاراته، تظاهرات تقول إن الأرض تدور والزمن يدور.
يحتـــاج الإيرانيون الآن إلى مظلة أممية تحميهم، مظلة لا تكتفي بالتصريحات الإعلامية (كما حدث مع السوريين)، إنما تعمل بالليل والنهار في شكل جدي من أجل متابعة تكسير صورة الديكتاتور.
فهل يفعلها ترامب جدياً ويتابع على الأرض وليس على التويتر، حماية الشعب الإيراني من مخالب الحرس الثوري واستخباراته؟
يمكن للعالم أن يفعل الكثير من أجل حماية الشعب هناك، ويجب أن لا تترك الناس وحدها في مواجهة الرصاص والمشانق. يكفي تلك التظاهرات أنها أقلقت راحة الخامنئي ومعه بوتين وبالتأكيد بشار الأسد. يكفيها أنها جرفت في طريقها كذباً عمره عقود، وأحلت محله الصدق، الصدق الذي يرعب السلطات في هذا الشرق.
لا تنتظروا الغد إنما اصنعوه. هذا ما يمكن أن نتعلمه.
شكلت معركة "بأنهم ظُلموا„ التي شنتها حركة أحرار الشام وفصائل أخرى على إدارة المركبات في الغوطة الشرقية، تحولاً مفصلياً في تاريخ معارك الثوار في دمشق وريفها، ليس في حجم ردة فعل الإحتلال الروسي وتدميره للبنى التحتية واستهدافه للمراكز الحيوية، ولا في أعداد الشهداء والمصابين في صفوف المدنيين، والتي لم يتوقف حصرها حتى كتابة هذه السطور، بل فيما يتعلق بالآثار الكارثية والهزيمة التي مُنيت بها قوات الأسد، وتأثيراتها العسكرية على مؤتمر سوتشي المزمع عقده نهاية الشهر الجاري.
ففي الوقت الذي غلب على التغطية الإعلامية للحرب المعلنة على الغوطة الشرقية، آثار القصف والدمار والإبادة الجماعية والمجازر بحق عائلات بأكملها، فإن النصف الممتلئ الآخر من كأس المواجهة الدائر على أطراف الغوطة، يتمثل في مشاهد التراجع واستسلام قوات الأسد، أمام توسع رقعة "بقعة الزيت„ التي أعلنت عنها حركة أحرار الشام ضمن معركة "بأنهم ظُلموا„.
حسم ثوار الغوطة النصر العسكري قبل أن تضع الحرب أوزارها، بصمودهم طيلة مئتي يوم، وتحريرهم لمواقع إستراتيجية قرب العاصمة دمشق، وسيلحق هذا النصر انتصاراً سياسياً أظنهُ مطلع مارس القادم، ولا شك بأن الثورة في الغوطة انتصرت إعلامياً أيضاً، فقد خاض ثوارنا الأبطال معركة في عالم القيم والأخلاق على خلاف العدو المجرم الذي استخدم مختلف أنواع الأسلحة المحرمة دولياً والغازات السامة ضد الأبرياء.
نعم انتصرنا إعلامياً لأن الرواية والصورة والخبر والتحليل الإعلامي للشعب السوري كان أقوى وأبلغ من نظيره، وأزعمُ أن رجال الإعلام بكل المواقع شكلوا النظر الذي يستقي منه الإعلام العالمي كل ما يدور على هذه البقعة الجغرافية العظيمة الصامدة، حتى إعلام العدو نفسه كان يأخذ أخباره من إعلامنا الثائر.
من هذا المنطلق أتقدم بجزيل الشكر لجموع الإعلاميين الذين يدؤبون طيلة العدوان على الغوطة لإظهار الحقيقة، وأخصّ منهم الشهداء والجرحى الإعلاميين.
شكلت الحرب إستراتيجيةً في بناء الوعي وإعلاء كلمة الحق، وإعادة رسم الخارطة السياسية، وإسقاطاً لما كان يخطط له الروس في هذه المعركة، سقط مخطط المؤامرة على الشعب السوري المحاصر على وقع "الصمود البطولي" والانتصار المؤزر على أبواب العاصمة.
أبهرنا العالم بكل المستويات، رغم الحصار والإمكانيات المتواضعة انتصرنا بصمود الشعب العظيم المحاصر، انتصرنا على المستوى الإعلامي والسياسي والعسكري، هذا الشعب بمختلف نشاطاته الثورية هو كلمة السر في هذا النصر، لأن ثوارنا في خنادقهم وساحات المواجهة وعلى طاولة المفاوضات يستمدون صمودهم من هذا الشعب الأبيّ المرابط، ونفسهم من نَفَسِ الشعب.
يستغرب الكثيرون مني كيف أقول أننا انتصرنا بينما المعارك لم تحسم بعد، وبينما الطائرات والصواريخ تستهدف النساء والأطفال ليل نهار، نعم انتصرنا بصمودنا في وجه آلة القتل، وخسر العدو بفشله في تحقيق أهدافه من الحرب على غوطة الصمود وثأره من المجاهدين عبر قتل المدنيين والعزل بشكل ينم عن عقلية تعشق القتل وسفك الدماء وتتلذذ بأشلاء المدنيين.
فكيف لا نقول انتصرنا وكل ما جناه العدو من تلك الحرب هو تشويه صورته أمام الرأي العام العالمي وعدم مقدرته على تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنها من حربه على الغوطة.
كيف لا نقول انتصرنا وقد تأثر الوعي العالمي إيجابياً لصالح قضيتنا بفعل الحرب التي شنها العدو على الغوطة وبدأ العالم يستفيق على أن الغوطة تعاني من الظلم والحصار وانه لا بد من فك الحصار عنها، وبدا الجميع ينظر إلى ثورتنا بنظرة غير تلك النظرة التي كانت قبل الحرب وبات الكل يدرك أن ثورتنا هي ثورة تحرر وطني لا تسعى للقتل لمجرد القتل ولا لسفك الدماء لمجرد التسلية والعبث، لكنها ثورة يقاتل أبناءها بشرف وتتقن فن الثورة من أجل أهداف معلومة وواضحة وهي تحرير الأرض والإنسان.
أكثر من 200 يوماً والعدو يواصل قصف وضرب الغوطة براً وجواً سعى خلالها بكافة الطرق للسيطرة على مناطق في غرب الغوطة لكنه عجز عن ذلك، ليبدأ بعد ذلك رحلة جديدة من الحديث عن إنهاء الحرب ووقف العمليات ليبدأ المحللون بعدها بتناول هذا الأمر بالشرح المستفيض ليجمع كل الساسة والخبراء بعد ذلك على أن صمود الثوار في الغوطة هو احد أهم أسباب قرار روسيا والطلب من تركيا (كونها الضامن عن الجيش السوري الحر) وقف العمليات العسكرية الروسية والإيرانية على الغوطة.
نعم انتصر الدم والإرادة على السيف، لمجرد المقارنة بين حال الغوطة وثوارها وبين العدو وجيشه هذا بحد ذاته نقطة تحسب لصالح شعبنا، فكيف لا نعتبر ذلك أمرا يحسب لصالحنا ونحن نقاتل بوسائل بدائية من صنع يدوي بعتاد بالكاد يستطيع الصمود في وجه أقوى دبابات في العالم فضلا عن عدم المقدرة على مجابهة الطيران بكافة أشكاله.
استهلك العدو أكثر من نصف مخزونه من الذخيرة المخصصة لسلاح الجو فضلا عن استخدام أسلحة محرمة دوليا صبت حممها على رؤوس المواطنين في الغوطة في محاولة منه لتحقيق الغايات التي وضعها من اجل تلك الحرب.
تتبع قوات الأسد نظرية "الأرض المحروقة„ في مواجهة ثوار الغوطة الشرقية، بالرغم من عدم تكافؤ القوى بين الأطراف، إلا أن ثوار الغوطة أثبتوا دهاء عسكري قل نظيره، فعلى الرغم من تدمير البنى التحتية نجح الثوار في المعارك الدفاعية والهجومية.
أبدى ثوار الغوطة الشرقية كفاءة قتالية لم تتأثر بالضغط العسكري وتميزت بالإدارة والصلابة والصمود.
إن الأداء الذي نراه في هذه المعركة كان ممتازاً، حيث أظهر الثوار كفاءة قتالية، وإعداداً جيداً وإدارة حسنة وموقفاً صلباً وصمود أسطوري أمام تفوق العدو بسلاحه وترسانته العسكرية.
ظهر الأداء الممتاز للثوار من خلال أن الضربات الجوية لم تستطع إيقاف تقدمهم، ولم تقض على قادة المعركة ولم تستطع وقف إطلاق الصواريخ من الغوطة باتجاه مواقع العدو وثكناته، كما أنها لم تستطع تدمير البنية العسكرية للثوار، وهذا مؤشر على أن قادة المعركة أعدو نفسهم إعداداً ممتازاً، وأتقنوا بالإضافة لقيادة المعركة قيادة المجتمع المدني سياسياً وعسكرياً مايدل على تلاحم وتعاضد كبير في الغوطة رغم الحصار والضغط العسكري الكبير في عدة جبهات.
من ناحية أخرى... لم يستطع كل العمل العسكري للعدو، لا عن طريق الطيران ولا الصواريخ ولا كل مرابض المدفعية ولا التقنيات ووسائل التنصت والمراقبة والاستطلاع وقف إطلاق الصواريخ والهاون من الغوطة باتجاه مواقع العدو وثكناته المحيطة بالغوطة.
وهذا مؤشر على كفاءة الثوار وأدائهم الممتاز، وإعدادهم آلية إطلاق صواريخ من خلال كيفية تخزينها ونقلها وإعدادها وإطلاقها دون أن يستطيع العدو النيل من كل ذلك، لا تدميراً لمخازنها ولا اكتشافاً لأماكن إطلاقها، وهذا ما يجعل العدو أكثر تشتتاً بعدم معرفة مكان انطلاق الصواريخ التي أرقت ضباطه وجنرالاته.
كل هذا القصف والغارات الجوية والكم الهائل جداً من الصواريخ والقذائف والحمم، مع ذلك لم تتجاوز خسائر الثوار بضع عشرات، وهذا مؤشر على أن هناك الآلاف من المقاتلين من مختلف مدن وبلدات الغوطة حملوا السلاح وانتشروا في أماكنهم ومواقعهم العسكرية والدفاعية تأهباً لأي هجوم مباغت، فكل مجموعة من الشباب لها مركز قيادة ضمن فصائل الغوطة الثلاث، تدرك جيداً ماهو المحور الذي ستقاتل عليه وكيف ستدافع
تميز الموقف التركي من حركة الاحتجاجات ضد النظام الإيراني بالحذر والتريث والانتظار، فلم يصدر في الأيام الأولى للمظاهرت أي موقف تركي رسمي، ثم مع اتساع رقعة الحراك وامتداده، أصدرت الخارجية التركية بياناً عبّرت فيه عن القلق من "تمدّد المظاهرات في إيران وإيقاعها قتلى"، ودعت إلى "تغليب الحكمة للحيلولة دون تصاعد الأحداث في إيران، وتجنب التدخلات الخارجية المحرّضة"، وإلى "تغليب المنطق لمنع أي تصعيد"، و"ضرورة تجنب العنف وعدم الانجرار وراء الاستفزازات، مع الأخذ بالاعتبار تصريحات الرئيس حسن روحاني في هذا الإطار، والتي أقر فيها بحق الشعب في التظاهر السلمي، لكن من دون انتهاك القوانين والإضرار بالممتلكات العامة".
وكان لافتا في البيان التركيز على دعم موقف الرئيس روحاني. وبعد ذلك، اتصل وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بنظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وتناول معه الوضع في إيران، الأمر الذي اعتبرته الصحافة التركية بمثابة رد الجميل على اتصالات ظريف شخصياً مع المسؤولين الأتراك ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا منتصف يوليو/ تموز 2016.
وخرج الموقف التركي عن الحذر الذي اتسم به في البداية، وتتوج بالاتصال الهاتفي للرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الإيراني، حسن روحاني، وأثنى فيه على تصريحات الأخير بشأن ممارسة الحق في الاحتجاج السلمي، مع الحرص على عدم انتهاك القانون، معتبرا أنها كانت "ملائمة"، وأكد له أن تركيا تولي أهمية للمحافظة على الاستقرار والسلم الاجتماعي في إيران. ثم توالت تصريحات المسؤولين الأتراك حيال الوضع في إيران، حيث دعا نائب رئيس الحكومة التركية والمتحدث باسمها، بكر بوزداغ، الحكومة والشعب الإيرانيين إلى التحرّك بحصافة، وحذر من "الفخاخ المنصوبة والتي ستنصب لهم". وأكد أنّ "تركيا تعارض تولي وتغيير السلطة عن طريق التدخلات الخارجية، أو استخدام العنف أو الطرق المخالفة للدستور والقوانين". ودعا إلى مواجهة التحريض والاستفزازات، والحفاظ على هدوء بلادهم وسلامتها واستقرارها، فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن المظاهرات في إيران يؤيدها شخصان، هما الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. واستنكر التدخل الخارجي في الشأن الإيراني الداخلي، مكرّراً قول روحاني إن الولايات المتحدة وإسرائيل أثارتا الاضطرابات في بلاده، وهو قول اعتاد المسؤولون الإيرانيون تكراره، كلما حدثت في بلادهم احتجاجات على ممارسات نظام الملالي وسياساته.
والملاحظ أن الموقف الرسمي التركي حيال الحراك الاجتجاجي في إيران ركّز على ثلاث نقاط أساسية. أولها دعم مواقف الرئيس روحاني، ويفهم منه أن القيادة السياسية التركية تعتقد أن هناك من يحاول في إيران من المتشدّدين وسواهم تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وثانيها ضرورة المحافظة على استقرار إيران، أي دعم النظام السائد والمحافظة على استقرار الأوضاع فيها. وثالثها التركيز على العمل الخارجي في تأجيج الحراك الاحتجاجي، والمقصود الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان تتآمران على النظام الإيراني.
واعتبرت الأوساط السياسية والإعلامية في المعارضة التركية أن الموقف الرسمي التركي مرتبك، وغير متماسك، ويعكس تخوفاً تركياً، بقدر ما هو موقف حيال ما يجري في إيران، لكن اللافت أن موقف أحزاب المعارضة لم يختلف عن موقف الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، حيث أعلن نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزتورك يلماز، أن حزبه يقف مع إيران ضد الولايات المتحدة، وأن القوى الخارجية تحاول التحكّم في المنطقة، معتبراً أنهم "ضد أن تسرح أميركا وتمرح في هذه المنطقة، وأن تدير مصالحها من خلال الآخرين، لذلك نقف مع إيران"، واعتبر أن الاضطراب الذي سيُثار في المنطقة قد ينعكس على الداخل التركي. ورأى رئيس حزب الوطن والكاتب في صحيفة آيدينليك، دوغو برينتشاك، أن إيران، شعباً وحكومة، سيفشلان هذا "التمرد الأميركي".
وعلى الرغم من التأييد الرسمي، اعتبرت صحيفة يني شفق، المقرّبة من الحزب الحاكم في تركيا، أن ضحايا الشركات المفلسة شكلوا الغالبية العظمى من المواطنين المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية، إذ حظيت المظاهرات بدعم الطبقات الفقيرة في المجتمع والمجموعات السياسية المعارضة. وشكلت المطالبة بتحسين الظروف المعيشية في البلاد والاحتجاج على الفقر والبطالة والأوضاع الاقتصادية السيئة الأهداف الرئيسية للمتظاهرين، إضافة إلى انتقاد البنية المتداخلة للسياسة الخارجية مع الاقتصاد في إيران. وأبرزت الصحفية شعارات المتظاهرين وهتافاتهم، وخصوصا المتعلقة بالسياسة الخارجية الإيرانية، مثل "لا تنفقوا أموالنا على سورية وغزة ولبنان"، و"الشعب صار متسولاً"، و"اتركوا سورية وشأنها واهتموا بأحوالنا"، و"لا لغزة، ولا للبنان، و"يسقط حزب الله"، و"لا نريد جمهورية إسلامية"، و"استقلال وحرية وجمهورية إيرانية".
وذهب الكتاب والباحثون الأتراك إلى تبيان أسباب الحراك الاحتجاجي في إيران، وتناولوا دور التدخلات الأجنبية فيها، وخصوصا الأميركية، حيث اعتبر الكاتب مليح ألتنوك، في مقال في صحيفة صباح التركية، "التحركات في الداخل الإيراني محرّكها الأصلي هو الوضع المرحلي في العالم والمنافسة بين الدول"، وتساءل عن "أي من الاضطرابات التي سعت إليها دائمًا الولايات المتحدة كانت فيها الديناميات الداخلية العامل الرئيسي"، معتبراً أن الولايات المتحدة أيدت الاحتجاجات، "ما أن خرج الإيرانيون إلى الشارع. في رأيكم هل تكترث الولايات المتحدة كثيراً لرخاء إيران والإيرانيين"؟
وفي السياق نفسه، اعتبر البرلماني السابق والكاتب، رسول طوسون، "أن القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تريد من الاحتجاجات التي اندلعت في إيران إدخال هذا البلد في فوضى، كي تنتقم بواسطتها من المنطقة بأكملها". وعلى الرغم من رفضه السياسة الخارجية لإيران وتدخلاتها الإقليمية، إلا أن تركيا، حسب زعمه، لا تنظر إلى إيران، بوصفها "دولة شيعية"، ورفض إرجاع الموقف التركي الرسمي إلى تخوف من انتقال رياح الاحتجاجات إلى الداخل التركي، معتبراً أنه لا داعي لانتقالات ولا أسباب، ومذكّراً أن تركيا تعرّضت لأحداث مشابهة في 2013، خلال أحداث "غزي بارك" في اسطنبول، حيث صمدت تركيا، وأنهت "ألاعيب إمبريالية أميركية وإسرائيلية ضدها". في المقابل، اعتبر الباحث في مركز أبحاث الشرق الأوسط في جامعة سكاريا، مصطفى جانير، أن ترديد المحتجين في إيران شعارات مناهضة لروسيا، بدلا من الشعارات التقليدية المناهضة لأميركا وإسرائيل، يعكس غضب المتظاهرين من السياسات الإقليمية لبلادهم، وأن من الخطأ محاولة تفسير الأحداث الاجتماعية من خلال سبب واحد، فالاحتجاجات التي بدأت بدوافع اقتصادية تحولت بسرعة إلى مظاهراتٍ مناهضة للنظام، وتوقع أن الحكومة الإيرانية ستقمع المحتجين باستخدام القوة المفرطة ضدهم.
والواضح أن الموقف التركي من الاحتجاجات الشعبية الإيرانية محكوم بعدة عوامل، خصوصا بعد تخلي الولايات المتحدة والغرب عموماً، عن حليفهم التركي في المسألة السورية، وفي مجمل قضايا المنطقة، وعقد تحالفات مع عدوه اللدود، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في سورية، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، الأمر الذي اضطر تركيا إلى بناء تفاهماتٍ مع كل من روسيا وإيران، وإحداث انعطافةٍ في السياسة الخارجية التركية، إضافة إلى أنه على الرغم من التضارب الكبير في الرؤى والإيديولوجيات ما بين الساسة الأتراك والإيرانيين، والاختلاف في وجهات النظر بشأن معظم الملفات الكبرى في المنطقة، إلا أن البلدين نجحا في تأسيس شراكة إستراتيجية، قوية، على المستوى الأقتصادي خصوصا، حيث تمكنا من رفع حجم التبادل التجاري بينهما في السنوات القليلة السابقة، حتى تجاوز العشرة مليارات العام الماضي، ويطمحان إلى رفعه ليبلغ 40 ملياراً، الأمر الذي يفسر عدم تحمس أنقرة للدعم التغيير في إيران وتفضيلها الاستقرار فيها.
ولعل العامل الأهم في تحديد الموقف التركي حيال الأوضاع في إيران أن تركيا لا تريد أن تضحي بتفاهماتها مع إيران، سواء المتعلقة بمسار أستانة في القضية السورية، والوقوف بوجه قيام كيان كردي انفصالي في شمالي سورية، أم المتعلقة بالموقف من قضية استقلال كردستان. يضاف إلى ذلك أن القيادة التركية تدرك خطورة اشتعال الوضع في إيران، بوصفها بلداً متعدّد الإثنيات والمذاهب الدينية، ولن يستطيع أحد أن يسيطر على انفلات الوضع فيها إذا اشتعلت النيران، خصوصا أن هناك ملايين الأكراد في إيران إلى جانب الأتراك الأذريية وسواهم. لذلك، تعتقد قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم أن النيران إذا اشتعلت في طهران فهدفها التالي أنقرة، وهو ما تسعى إليه القوى الغربية، بعد أن أدخلت تركيا في دائرة الاستهداف. وبالتالي على القيادة السياسية التركية إبعاد الأخطار عن بلادها، وإبقائها مستقرة بعيدة عن مغامرات قد تنعكس سلباً على تركيا، وعلى الأتراك، وتركيبتهم الاجتماعية وحياتهم المعيشية.
كُتب الكثير عن ذلك الكتاب الذي أعطاه صاحبه، الكاتب الهندي ر.ك. كرانجيا، اسم «خنجر إسرائيل»، والذي تحدث فيه عن أن عتاة القادة والمفكرين الإسرائيليين وضعوا خطة لتقسيم دول المشرق العربي، سوريا والعراق تحديداً، إلى دويلات طائفية وعرقية متناحرة، وهذا كان في عام 1957، ويقال إن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هو مَن شجع هذا الكاتب، الذي كان يملك مطبوعة هندية سياسية اسمها «بليتز»، على وضع كتاب بما حصل عليه من معلومات إسرائيلية، وأنه هو مَن اختار له هذا الاسم: «خنجر إسرائيل». وبالإضافة إلى كل ما جاء في هذا الكتاب، الذي أثار ضجة هائلة في نهايات خمسينات القرن الماضي وبدايات ستيناته، فإن مؤلفه هذا المشار إليه آنفاً كرانجيا، هو من قال وكشف النقاب في تلك الفترة المبكرة عن أن إسرائيل تسعى إلى تمزيق هذه المنطقة العربية مذهبياً، وإنشاء «كومنولث» طائفي في بلاد الشام والعراق تحديداً تكون لها فيه مكانة بريطانيا العظمى في الـ«كومنولث البريطاني» الذي لا يزال قائماً، وإنْ اسمياً، حتى الآن.
إنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها الاستنجاد بهذا الكتاب، والعودة إلى أجواء نهايات خمسينات القرن الماضي، حيث كان عبد الناصر بحاجة إلى مثل هذه «الحكاية»، وإلى مثل هذا الكتاب لتحفيز الشعوب العربية، تحت ضغط مخاوفها من مثل هذه الخطة الإسرائيلية، ودفعها إلى الضغط على حكوماتها وعلى رؤسائها للاستجابة لتوجهاته «الوحدوية»! وحيث كان بعد حرب قناة السويس في عام 1956 قد ظهر كبطل قومي، وإذْ بعد نحو عامين أُقيمت الجمهورية العربية المتحدة برئاسته... لا بل بزعامته، ومن مصر وسوريا.
ثم وفي منتصف سبعينات القرن الماضي عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، التي انتهت كما هو معروف في مؤتمر الطائف في عام 1989، الذي كان مبادرة سعودية خيّرة وناجحة أنهت الاقتتال بين اللبنانيين منذ ذلك التاريخ، وعملياً حتى الآن، أثار كثيرون حكاية الـ«كومنولث» الطائفي، هذا الذي ستكون لإسرائيل (الصهيونية – اليهودية) فيه مكانة بريطانيا العظمى في الـ«كومنولث» البريطاني. وهنا تجب الإشارة إلى أن تحالف المسلمين اللبنانيين، سنةً وشيعةً، مع المقاومة الفلسطينية قد أطلق على التحالف المسيحي بزعامة القيادات المارونية: سليمان فرنجية وكميل شمعون وبيار الجميل، وغيرهم، اسم الانعزاليين، ولعل ما عزز هذه التهمة أن الموارنة المسيحيين قد فتحوا خطوط اتصال، في فترة مخاوف ظلامية، والحمد لله أنها كانت عابرة، مع إسرائيل، وأنهم قد استقبلوا وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون في بيروت الشرقية، بل وفي قصر بعبدا الجمهوري نفسه.
والمعروف أن العراق، تبريراً لشن حرب الثمانية أعوام على إيران، قد اتهم الخميني بأنه بعد انتصار ثورته في فبراير (شباط) عام 1979، قد بادر إلى اختراق الساحة العراقية طائفياً، وأنه كان يخطط لتمزيق بلاد الرافدين مذهبياً وتحويلها إلى 3 دول (متناحرة): دولة شيعية، ودولة سنية، ودولة كردية في كردستان العراقية، وهذا هو ما تسعى إليه طهران «الخامنئية» الآن، مع إصرارها على تدمير أي نزعة كردية استقلالية خوفاً من انتقال هذه العدوى إلى الأكراد الإيرانيين الذين يشير بعض التقديرات إلى أن عددهم يتجاوز 12 مليوناً، والذين كانوا قد أقاموا أول دولة قومية لهم، والتي كانت قصيرة العمر، في «مهاباد»، تلك الدولة التي تم إسقاطها بمؤامرة سوفياتية – أميركية شارك فيها الشاه رضا بهلوي، وذلك بعد نحو 7 أشهر فقط، وتم إعدام رئيسها القاضي محمد، بينما لجأ رئيس أركان جيشها ووزير دفاعها الملا مصطفى بارزاني، والد مسعود بارزاني، إلى الأراضي السوفياتية.
والغريب فعلاً أن إيران هذه، التي أصابها رعب شديد برفع بعض أقلياتها الإثنية بمجرد انطلاق شرارة هذه الانتفاضة الأخيرة شعار «الاستقلال وإقامة دولها القومية»، كانت هي مَن أوحى إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد بحكاية «سوريا المفيدة»، وأيضاً بحكاية «إنه مهما كانت الخسائر السورية في هذه الحرب المتواصلة منذ عام 2011 فادحة وكبيرة، فإن سوريا تعتبر هي الرابحة لأنها حققت (الانسجام الاجتماعي)»... والمقصود هنا هو أن عمليات التهجير للأكثرية «السُّنية» ومعها الخسائر البشرية التي تكبدتها هذه الأكثرية قد قلصت أعداد أبنائها، إلى حد الاقتراب من عدد أبناء الطائفة النصيرية (العلوية) والطوائف الأخرى كالمسيحيين والدروز والإسماعيليين والشيعة وبعض الأقليات الـ«مايكروسكوبية» الأخرى.
وهكذا فإن سوريا، قلب العروبة النابض فعلاً، غدت ذاهبة إلى التقسيم الطائفي والمذهبي لا محالة، فهناك عمليات استيطان إيراني مذهبي متواصلة، في دمشق بصورة رئيسية، مثله مثل الاستيطان الإسرائيلي (اليهودي) في الجولان والضفة الغربية، وهذا يعني أن حكاية الـ«كومنولث» الطائفي والمذهبي، الذي تكون لإسرائيل فيه مكانة بريطانيا في الـ«كومنولث» البريطاني، غير مستبعدة، لا بل هي واردة بالفعل، والدليل هو كل هذا الذي يجري في سوريا وفي العراق وفي اليمن، وهو أيضاً اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالقدس الموحدة عاصمة (أبدية) لدولة إسرائيل خلافاً للقرارات الدولية التي نصّت على أن كل ما انتزعته إسرائيل من فلسطين في حرب يونيو (حزيران) عام 1967 هو أراضٍ فلسطينية محتلة ومن ضمنها القدس الشرقية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن التحذير المبكر من قبل العاهل الأردني عبد الله الثاني بن الحسين، من هلال شيعي زاحف أحد طرفيه في اليمن عند مضيق باب المندب وطرفه الآخر على الشواطئ اللبنانية بالقرب من مدينة صور، قد تجسد لاحقاً على أرض الواقع بعد انقلاب «الحوثيين» على الشرعية اليمنية، وبعد سيطرة الإيرانيين «طائفياً» على العراق، وبعد هذه الحرب التي شنها، ولا يزال يشنها، نظام بشار الأسد صاحب شعار «سوريا المفيدة» على المدن والمناطق ذات الأغلبية السنية بالتحالف مع إيران وجيشها وتنظيماتها المذهبية المسلحة، وبدعم من روسيا الاتحادية التي ثبت أن هذه الحرب هي حربها منذ البداية وحتى الآن، وأنها عملياً دولة محتلة لهذا البلد العربي الذي كان قبل انقلاب حافظ الأسد عام 1970 يعرف الطائفية لكنه لم يمارسها فعلاً، إلا بعد هذا الانقلاب الذي وضع مقاليد الأمور كلها في هذا البلد ليس في أيدي العلويين، وإنما في أيدي مجموعة متسلطة من الطائفة العلوية. وهكذا أيضاً فإن المفترض أن يدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنه إذا كانت مشكلة الأكراد المتفجرة في تركيا، هي التي دفعته إلى القفز من فوق كل هذه الحواجز الطائفية والارتماء في حضن مرشد الثورة علي خامنئي، وبالطبع في أحضان الروس، فإن عليه أن يدرك مبكراً وقبل فوات الأوان أن هذا لن يعفيه من دفع الاستحقاق إذا تحولت هذه المنطقة إلى «كومنولث طائفي» لإسرائيل فيه مكانة بريطانيا العظمى في الـ«كومنولث البريطاني»... فهناك «علويو» لواء الإسكندرون الذي ضمته بلاده إليها في عام 1939، وهناك «علويو» الأناضول، وهناك كل هذه اللوحة الفسيفسائية المذهبية والقومية التي من المفترض أن المسؤول الأول في هذا البلد المحوري والاستراتيجي يعرف أن لها مكاناً مؤثراً على مستقبل الخريطة التركية.
شاع تعبير «سوريا المفيدة» لوصف النصف الغربي ذي الإطلالة البحرية والكثيفة بالمدن والسكان من هذا البلد المنكوب. ومن خصائص هذا القسم أيضاً وقوع أكبر المدن السورية وأكثرها أهمية في ميادين الصناعة والتجارة على خط حلب ـ دمشق، إضافة إلى تركيبة سكانية أكثر قابلية لاستمرار نظام الكيماوي في حكمها، بعد «تطهيرها» من الطبقة المتمردة فيها، قتلاً وتهجيراً، على طريق الوصول إلى مجتمع «متجانس» إلى حد كبير كما عبر رأس النظام في مناسبتين.
وقد ركزت قوة الاحتلال الروسي جهودها التدميرية على هذا القسم، مدفوعةً بروائز عدة، منها الشغف الروسي القديم بالوصول إلى «المياه الدافئة» على مأثور السردية الاستعمارية المتوارثة، وهي تتمثل، هنا، في شاطئ المتوسط الذي أقامت فيه روسيا بوتين قاعدتين عسكريتين، جوية وبحرية، في اللاذقية وطرطوس، تم تأمين بقائهما تحت السيادة الروسية لخمسين عاماً قابلة للتجديد التلقائي، في معاهدة مع النظام الكيماوي، ما لم يطلب أحد طرفيها إنهاء هذا التلزيم.
ومنها النظرة الروسية التقليدية إلى «المكونات» وطريقة التعامل معها في سبيل ترسيخ حكم عميلها في دمشق. وقد رأينا نماذج من التعبير عن هذه النظرة في بعض تصريحات دبلوماسيين وعسكريين روس، أفصحت عن رؤية تفاضلية لتلك المكونات، يحتمل أن يقوم عليها نظام الحكم المقبول روسياً في سوريا ما بعد الحرب، وقد يكون «مؤتمر الشعوب السورية» المنوي عقده في منتجع سوتشي ميدان اختبارها الأول، إذا قيض له الانعقاد. فمن هذا المنظور «الديموغرافي» تأتي أهمية «سوريا المفيدة» بالنسبة للمحتل الروسي.
ومنها أيضاً الرهاب الروسي من الأراضي الشاسعة، شرق سوريا وشمالها الشرقي، التي تتطلب السيطرة عليها موارد وجهود مضاعفة لا تحتملها الإمكانات المحدودة لروسيا، ولا السباق مع الزمن لتحقيق إنجاز عسكري وتتويجه بإنجاز سياسي يطمح بوتين أن يشكل، مع عوامل أخرى، أساساً لعلاقة ندية مع الولايات المتحدة، في إطار حنينه إلى عالم الثنائية القطبية في عصر الحرب الباردة. فإذا أضفنا السيطرة الأمريكية على منطقة شرقي نهر الفرات، بوصفها حاجزاً لا يمكن تجاوزه أمام الطموح الروسي، اكتملت عوامل اكتفاء موسكو بما اعتقدت أنه القسم المفيد من سوريا.
لكن الإشارات المتواترة حول نوايا واشنطن بإقامة مديدة شرقي نهر الفرات، أبرزت مزايا هذا القسم «غير المفيد» الذي اكتسب قيمة مضافة استراتيجية، ليس فقط لأنه خزان الثروتين النفطية والزراعية في سوريا، بل أساساً لأنه يوفر لواشنطن منصة سيطرة وتهديد للدول المجاورة (سوريا الروسية، تركيا، العراق ومن ورائها إيران) وللتحكم عن قرب بتفاعلات الإقليم المضطرب. أضف إلى ذلك أن الأمريكيين ضمنوا حليفاً محلياً موثوقاً يمكن إرساء النفوذ المستدام من على أكتافه. وهذا ما حول سوريا غير المفيدة، إلى مفيدة أكثر من سوريا الروسية. يدور الكلام، هذه الأيام، عن توقع وصول «دبلوماسيين» أمريكيين إلى مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» لتعزيز القواعد العسكرية الموجودة بزخم سياسي ـ دبلوماسي، في إشارة إلى نوايا تقاسم الأرض السورية بين الأمريكيين والروس، بما لا يبقي شيئاً لصغار اللاعبين كتركيا وإيران الغارقتين حتى آذانهما في مشكلاتهما الداخلية.
أما إسرائيل فحصتها من التركة الأسدية محفوظة بضمانة الأمريكيين والروس معاً، وإن كنا لا نعرف حجمها إلى الآن.
نشهد الآن اضطراب الشراكة الثلاثية الروسية ـ الإيرانية ـ التركية في الصراع السوري. فأردوغان يصرح من تونس واصفاً رأس النظام الكيماوي بالإرهابي الذي لا يمكن أن يظهر أي حل سياسي بوجوده، في حين تتقدم ميليشيات هذا الأخير في محافظة إدلب، من الجنوب، بدعم من الطيران الحربي الروسي. ولا تبدو روسيا في وارد استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي من «وليمة سوتشي» بناء على إصرار أنقرة، على رغم وصف بشار الكيماوي له بالخيانة. بالمقابل تتواتر أخبار حول استئناف (أو استمرار) تنسيق أنقرة مع جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) في إدلب، في حصار عفرين من جهة، وفي مواجهة ميليشيات بشار الكيماوي ورديفها الإيراني من جهة ثانية.
هذه التطورات تنبئ بفشل مبكر لمشروع بوتين بصدد جمع 1500 سوري متمسكين ببقاء بشار في السلطة، في مدينة سوتشي، بسبب التباعد المستجد بين موسكو وأنقرة. أما الشريك الثالث في مسار آستانة ـ سوتشي، إيران، فهو يمر بأخطر تحدٍ داخلي منذ ثورة الحركة الخضراء في ربيع 2009، متمثلاً في مظاهرات شعبية من بين شعاراتها المطالبة بانسحاب إيران من الساحات المضطربة في لبنان وسوريا واليمن. ولم يحل التحالف التكتيكي الإيراني ـ التركي، في مواجهة سعي كرد العراق إلى الاستقلال، خريف العام الماضي، دون عودة الصراع الخفي بينهما في سوريا في الآونة الأخيرة.
بعيداً عن تقلبات أطراف الصراع على الساحة السورية، وقيام التحالفات وتفككها، والتطورات الميدانية التي لا تخلو من مفاجآت، كالهجوم «الغامض» على قاعدة حميميم وتدمير طائرات روسية على أرض المطار قبل أيام.. وبعيداً عن جنيف وديمستورا وآستانة وسوتشي.. ترتسم لوحة سوريا اليوم موزعة بين مفيدة ومفيدة أكثر، كلما تقدمت عملية إخلائها من سكانها. فقد حكم على هؤلاء، فيما يبدو على مدى سبع سنوات، أنهم وحدهم غير المفيدين في نظر أحد.
شعوب ومجتمعات عدة في المنطقة العربية تلقّت أنباء الحراك الشعبي في إيران بكثير من الترقّب والقلق والأمل. في الحدّ الأقصى أن يفضي الحراك إلى تغيير النظام ولو بعملية طويلة زمنياً، تغيير مطلوب إنسانياً وأخلاقياً بمقدار ما هو مطلوب سياسياً. وفي الحدّ الأدنى أن يشغل الحراك النظام في الداخل ويؤدّي إلى تغيير في طبيعته وعقليّته وسلوكه، فيدرك خطورة اشتعال النار في بيته ويقلّص تدريجاً من شروره في الخارج. لكن الحقيقة التي تجدّدت هي أن هذا النظام كان نجح أولاً في صنع أدواته الميليشيوية ونجح تالياً في استخدامها لقمع شعوب إيران بالقوة ولإخماد أي صوت معارض، وفي الوقت ذاته كان يستنسخ أدوات مماثلة في بلدان أخرى لتؤدّي الدور القمعي ذاته، بل لتؤسس جيوشاً بموازاة الجيوش وتقيم دولاً داخل الدول.
بعيداً من المعلن الذي نادراً ما يطابق المضمر، وضع الحراك الشعبي أمام العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، الواقعين مباشرة تحت الهيمنة الإيرانية على اختلاف انتماءاتهم، احتمالات وحسابات غير متوقّعة، متخبّطة السلبيات والإيجابيات، لكن بات من الواجب عدم استبعادها. فالتظاهرات الراهنة قد تكون مجرّد إرهاصات، كما كانت قبلها حراكات تسعينات القرن الماضي و «الثورة الخضراء» عام 2009، وقد لا تطول الفترة بين ما يحصل اليوم وما يفترض (منطقيّاً) أن يحصل لاحقاً.
لماذا: «منطقياً»؟ لسببين: أولاً، لأن الإيرانيين يعيشون، كما العراقيون والسوريون واليمنيون واللبنانيون وغيرهم، بانطباع مقيم هو أن هذا النظام مرحلة عابرة لا يمكنها أن تستمر أو تدوم، على رغم أنه قارب بلوغ عقده الرابع، ليس فقط لأن الملالي باشروا عهدهم حكاماً مستبدّين ثم غدوا فاسدين إلى حدّ أن يجهر الشعب بأنهم يأخذون من قوته ليصنعوا لهم أمجاداً في الخارج، بل خصوصاً لأنهم رجال دين يدّعون بأنهم مختلفون عن الأنماط المعروفة من الحكام أو حتى من المستبدّين، عسكريين أو مدنيين في خدمة العسكر، لكن تطبيقهم للدين والدولة والثورة غلّب عليها الإرهاب والترهيب وجرّدها جميعاً من أي أهداف إنسانية سامية. وثانياً، لأن السياسات التخريبية لهذا النظام بلغت أقصاها، في الداخل حيث تستطيع دولة غنية إفقار شعبها وتعجز عن تلبية حاجاته، وفي الخارج حيث تشعل حروباً وتقسم مجتمعات وتساهم في تفكيك دول وتدمير اقتصادات...
هذه السياسات اقتربت من مرحلة الاستحقاقات أو تكاد تبلغها. فمعظم الأزمات الإقليمية التي استثمرت إيران في صنع مآسيها تدنو من نهاياتها، وبعدما صعد الخط البياني لـ «انتصاراتها» إلى ذروته لا بد أن يبدأ الهبوط. لكن «نظام الملالي» موقن بأنه أسّس في البلدان الأربعة التابعة له أوضاعاً تبعد منه كؤوس الهزائم المرّة، ذاك أن ميليشياته جعلت منه متدخّلاً داخلياً ومحليّاً بحكم اعتماده على الرابطة المذهبية. وباستثناء سورية، فإن أي حديث عن «انسحاب إيران» لن يكون واقعياً، لأنه سيعني طلب انسحاب «حزب الله» من لبنان، والحوثيين من اليمن، وميليشيات «الحشد» من العراق. في أحسن الأحوال يمكن السعي إلى نزع سلاحها، ما سيفجّر نزاعات داخلية مؤكّدة، وفي أسوأ الأحوال يمكن العمل على استيعابها ودمجها، ما سيجعل الجيوش وقوى الأمن «الوطنية» مخترقة ومهددة بالانقسام، وبالتالي يقلّل من هيبتها وفاعليتها، تحديداً لأن المدمجين مشكوك في ولائهم ووطنيتهم.
حتى بالنسبة إلى سورية حيث يعامل الإيرانيون النظام على أنه ميليشياهم الخاصة، كان «رحيل الأسد» مطلباً شعبياً يقلق نظام طهران، لكن تقلّبات الحرب أفضت إلى توافق روسي - إيراني على «بقاء الأسد». وعلى رغم تفهّم الموقف الدولي لهذا «التوافق» إلا أنه لم يعنِ في أي حال قبولاً غير مشروط باستمرار الأسد في الحكم، كأن شيئاً لم يكن، وعداً أن بقاءه بات مكلفاً لحلفائه إلا أنه غير محسوم نهائياً. فبعد إفشال مفاوضات جنيف، وقبل الانتفاضة الشعبية الإيرانية، كان نظام الأسد مطمئناً إلى أن الروس والإيرانيين متكفّلون تعطيل أي «حل سياسي» يجتزئ من صلاحياته، كونهم مستفيدين من تفرّده بالسلطة. لكنه تلقّى إنذارات إسرائيلية وأميركية جعلته يخشى تدفيعه ثمن أي مواجهة إقليمية قد يذهب الإيرانيون إليها دفاعاً عن وجودهم في سورية، أي إنهم باتوا عنصر تهديد للمكاسب التي حصّلها بفضلهم. من هنا، إن نظام الأسد قد يكون الأكثر تحسّساً لتأثير تلك الانتفاضة، ومع أنها لم تهدّد حليفه الإيراني إلا أنه يتخوّف من ارتباط أي مواجهة إيرانية - إسرائيلية مستقبلاً بتجدّد الحراك الشعبي على نحو يربك النظام فعلاً. وهذا احتمال وارد.
ثمة حسابات مماثلة، لكن أكثر تعقيداً في العراق حيث انتهى الجانب الأهمّ في الحرب على «داعش» لتتواصل مطاردة فلوله، ولتعود التحديات الهائلة إلى واجهة الاستحقاقات: تثبيت مكانة الدولة، إعادة إعمار المناطق التي دمّرتها الحرب، توطيد الأمن، تفعيل الاقتصاد والخدمات... وكلّ ذلك يتطلّب موازنات غير متوافرة، ويحتاج إذاً إلى مساعدات وقروض قد تتوافر، لكنها تحتاج أيضاً إلى عنصرين أساسيين: استقرار سياسي وإدارة شفافة وحازمة تمنع الفساد من التهام الموارد. لا يقتصر الفساد على فئة واحدة مستفيدة، أما العقبة الرئيسية أمام الاستقرار فهي إيران وميليشياتها، وإنْ لم يعترف أحد بذلك علناً. لا شك في أن نهاية «داعش» عزّزت مكانة الجيش وقوة مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية ودورها في الدفاع عن الدولة، كما أن أداء رئيس الحكومة حيدر العبادي يحظى بمقدار جيّد من الثقة في الداخل والخارج لكنه غير كافٍ بعد لتمكينه من طرح المبادرات الضرورية واللازمة لفتح صفحة جديدة في البلاد. لذلك، يراقب العراقيون الانتفاضة الإيرانية بمشاعر ملتبسة ومن دون أوهام، فثمة فرص للعراق إذا انشغلت طهران بحالها وخفّت وطأتها عليه. لكن العبادي الراغب في أن يكون رجل دولة، يعرف أن حزبه (الدعوة) ملتزم رغبة إيران في تأجيل قيام دولة مقبولة من الجميع في العراق.
في أي حال تلتقي الميليشيات التابعة لإيران على مواصفات مشتركة أهمها توظيف الدولة والاستفادة منها فابتزازها ثم استعداؤها فتهميشها والاستعلاء عليها وصولاً إلى تطويعها أو تفكيكها لـ «إعادة تأسيسها» وتقريبها، ما أمكنها ذلك، إلى الولاء للمرشد/ الولي الفقيه. فإذا صارت الدولة تحت رحمة الميليشيات، وولاء الميليشيات للمرشد، يرتبط مصيرها بهذا الولاء أياً تكن التعددية في مجتمعها. على ذلك، فقد يبدو نموذج «حزب الله» اللبناني هو الأمثل بمفاهيم إيران للهيمنة والنفوذ والاستحواذ على الدولة، خصوصاً أنه نشأ على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يشوّه صورته بالتغوّل على مواطنيه، وقبل أن يفسد سمعته بسفك الدم السوري. إلّا أن النموذج الحوثي يبدو أكثر تجسيداً لنزعة العبث الإيراني، سواء بهمجيته وتهوّره واستهزائه بالمعايير والأعراف أو باستسهاله القتل والنهب، والأهم أنه مضى في التخريب إلى الحد الذي أدهش أسياده. وإذ قدّم هذان النموذجان تضحيات كبيرة ولاءً للمرشد، فلا بدّ أنهما صدما بأن يكون إلغاء ولاية الفقيه من الدستور أحد أبرز مطالب الحراك الشعبي الإيراني.
مضى شباب إيران الغاضبين أبعد من جميع الاعتبارات الخارجية التي افترضها النظام في رواية «المؤامرة» وأخفق في ترويجها، بل أكثر جدية من استغلالات دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو حراكهم. ولعل التعبير الأمضى في انطلاقتهم أنهم أسقطوا في زمن قياسي كثيراً من الرموز، فلم يتملّقوا للمرشد ضد الرئيس أو العكس بل تجاوزوهما، ولا راهنوا على دعمٍ من هذا الفريق أو ذاك بل كشفوا منذ اللحظة الأولى توزّع الأدوار والوظائف بين المحافظين والمعتدلين والإصلاحيين وما بينهم من تماهٍ. بالتالي، حتى لو نجح النظام في احتواء هذه الانتفاضة وإخمادها فإنها منذ صرختها الأولى قادته إلى الانكشاف وجهرت بكل شيء. فهذا نظام قد يكون حقق نجاحات في الخارج لكنه يجوّع شعبه، وقد تكون جرائم ميليشياته بنت له نفوذاً لكن قلب إيران وروحها يتهرّآن ويتأكلان، وقد يكون زيّن لنفسه أنه أقام «إمبراطورية»، لكنه حين يصحو من نشوته سيجد أنها مجرّد «إمبراطورية خيالية» تعوّل في استمرارها على «الحوثيين» وأمثالهم.
رغم فرحتنا بتحرك الفصائل بعد عشرات النداءات لوقف تقدم قوات الأسد وتدارك الموقف قبل فوات الأوان إلا أن الحقيقة المرة والتي يصعب علينا أن نتجاهلها أن المشروع المرسوم للمنطقة بات في مراحله ما قبل الأخيرة بعد التقدم الكبير الذي أحرزته قوات الأسد وميليشيات إيران في منطقة جبل الحص والمنطقة الواقعة غربي خناصر بعد انسحاب هيئة تحرير الشام الفصيل المسيطر هناك من المنطقة قبل أيام، والذي أتاح للنظام والميليشيات المساندة التقدم والوصول اليوم إلى تل الضمان وبالتالي الاقتراب من إطباق الحصار كاملاً على ريف حلب الجنوبي الشرقي والسيطرة على كامل منطقة جبل الحص والتوسع منها باتجاه مطار أبو الظهور من جهة خناصر.
كنا حذرنا مراراً من المخطط المرسوم لمنطقة شرقي سكة الحديد والتفاهمات الدولية التي ترتكز على مصالحها بين رغبة روسية إيرانية بالسيطرة على مطار أبو الظهور العسكري والمنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد لضمان طريق أمن يربط حلب بوسط سوريا وجنوبها عبر طريق خناصر ويبعد أي مخاطر عنه، إضافة لسيطرة إيرانية على القاعدة العسكرية التي تعتبرها بعداً استراتيجياً لها لقواتها في ريف حلب الجنوبي ثقل القوة للميليشيات الشيعية، وبين السعي التركي لضرب عفرين وحاجتها للضوء الأخضر الروسي.
كما نبهنا مراراً من أن الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد ستشن هجمات متزامنة من ريفي إدلب وحماة وريف حلب الجنوبي والجنوبي الشرقي لسلخ كامل المنطقة الممتدة شرقي سكة الحديد ونشرنا عشرات التقارير التي تنبه لمخاطر هذا الأمر منذ ثلاثة أشهر حتى قبل انطلاقة المعركة ولكن للأسف الشديد كل ما حذرنا منه سابقاً نراه اليوم واقعاً على الأرض.
أما المعارك التي تخوضها الفصائل خلال الأيام الماضية بريف إدلب الجنوبي والشرقي، جاءت بعد أن وصلت القوات المهاجمة لمشارف مطار أبو الظهور والتي انطلقت بعد الضغط الشعبي والإعلامي فإنها حتى الساعة ورغم كل ما تحققه من تضحيات تنحني الهامات لها، إلا أنها لم تحقق أي قطع حقيقي للمشروع المخطط للمنطقة بسبب عمليات الكر والفر وعدم حسم المعركة بشكل حقيقي وتأخر الفصائل في البدء بالمعركة وتدارك التقدم الحاصل للنظام وحلفائه، وبالتالي ربما تتحول هذه المعارك لاستنزاف كبير لها بسبب القصف المستمر ورغم ما توقعه من خسائر في الميليشيات المهاجمة.
أقدر الحماس والنشوة للكثير من المدنيين والنشطاء بعد تحرك الفصائل واستعادتها بضع قرى خسرناها دون قتال وبتنا نحتاج لعشرات الشهداء لاستعادتها ولكن الواقع يفرض نفسه بتجلي المعطيات على الأرض وليس كلامنا لتثبيط الهمم أو التراجع وإنما نعيد ونذكر ونحذر عله يكون باباً للاستمرار في الضغط الشعبي والإعلامي والاستمرار بالتحذير حتى لا يخرج أحد علينا بعد خسارتنا للمنطقة ويخرج بتبريرات وحجج واهية ويقول قدمنا ولم نستطع الدفاع عنها في الوقت الذي شاهدنا وتابعنا الانسحابات التي حصلت وتفريغ كامل المناطق التي تقدمت إليها الميليشيات من السلاح الثقيل والعناصر والتي لو وجدت لاحتاجت القوات المهاجمة أشهر للوصول إليها.
لا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نوجه التحية للصادقين في كل الفصائل وكل من قدم قطرة دم أو عرق واحدة قدمت في سبيل الذود عن الأرض والعرض وكل من يقدم ويرابط على الثغور ... فالظاهر أن الأمر أكبر منا كنشطاء ومقاتلين ومدنيين، وكل ما يدبر للمنطقة بإشراف دولي وما علينا إلا الدعاء بالنصر والتمكين للصادقين عل الله يحدث أمراً فيه خير للثورة والشعب ويخلصنا من تجار الدماء وكل من يتاجر بدمائنا ومعاناتنا ... وما النصر إلا من عند الله.
ما كان للرئيس الإيرانى حسن روحانى أن يعطى الاحتجاجات التى اندلعت أبعادا سياسية واجتماعية لولا قناعته بأن التعامل الأمنى البحت مع حركة الاعتراضات قد يصيب النظام نفسه بتصدعات على المدى الطويل، وما كان ليطلق مواقف تخالف مواقف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، على خامنئى، لولا معرفته الدقيقة بأن المتظاهرين ليسوا خونة أو أداة فى أيادى الاستخبارات الخارجية، كما دأب القادة الإيرانيون على تشخيص حركة خروجهم إلى الشارع.
«روحانى»، الذى اعتبر أن من حق المحتجين أن ينتقدوا مَن يشاءون فى إيران، إنما حاول التخفيف من بشاعة منظر رجال الأمن وهم يتعاملون بقسوة لا نظير لها مع مَن يهاجم المرشد بالاسم، ويعتبرون أن لا سلطة له عليهم، فالهراوات التى تنهمر على رؤوسهم هنا منطلقاتها تتجاوز الأمنى والسياسى إلى «القدسى»، أى إلى شرعية دينية، كون «خامنئى»- حسب معتقداتهم- هو نائب المهدى الإمام المنتظر، وفى الغطاء الشرعى الدينى تنتهى المحظورات لمصلحة الضرورات، والضرورات هنا تتشابه مع فرض الحد، كون الطاعة للمرشد إيمانا وكون عصيانه كفرا.
وإذ يجد الرئيس «روحانى» نفسه فى موقف لا يُحسد عليه، كونه ابن النظام البار من جهة و«الرمز» الواعد بالتغيير من جهة أخرى، إلا أنه اضطر لاتخاذ مواقف عاكست كل ما قاله القادة الحقيقيون للنظام الإيرانى وأتباعهم النجباء من زعماء ميليشيات عراقية ولبنانية. قالوا إن المتظاهرين عملاء، وهو قال إنهم وطنيون. قالوا إنهم احتجوا على تبخر مشاريع إسكانية ومدخرات بنكية، وقال إن الموضوع اجتماعى شامل، ولا يتعلق بانتكاسة هنا أو حادثة هناك. قالوا إنهم خرجوا إلى الشوارع بعد ارتفاع الأسعار، وقال إن المشكلة سياسية بامتياز. قالوا إن دولاً أجنبية وعربية حركت الناس، ولابد من قمعهم، وقال إن الحريات العامة يجب أن تُصان وتتسع، وإن القمع مرفوض.
هذه المواقف تشى إما بأن الرجل يتقن لعبة تبادل الأدوار حفاظا على استمرار النظام، وإما أنه يدرك أن الشرخ بين النظام وناسه أكبر مما هو متوقع، حتى ولو تأجل الانفجار.. والقريبون منه يقولون إنه يتقن ويدرك، أى يسير فى الخطين معا.
فى إيران شعب على درجة كبيرة من الحيوية والديناميكية والقدرة على التعبير والتغيير، شعب يرى أنه ينتمى إلى واحدة من أغنى الدول بالثروات الطبيعية والمقدرات، ومع ذلك يعيش الكثيرون منه تحت خط الفقر، شعب يرى أن مداخيل دولته تذهب إلى ميليشيات هنا وهناك ومشاريع عابرة للحدود بهدف حماية النظام وتوسيع نفوذه إقليميا، ويرى أن معدلات الفساد فى الداخل فاقت مثيلاتها أيام حكم الشاه السابق، مع فارق أن أحدا لا يجرؤ على الكلام وإلا فمصيره الاختفاء.
هنا يختلف الأمر عن الانتفاضات السابقة المتعلقة بتزوير انتخابات أو قمع إصلاحيين. المتظاهرون أعلنوا «الكفر» الوطنى بالإصلاحيين والمحافظين على السواء. هم يرفضون سقف النظام برمته ولعبة تداول السلطة بين أقطاب يدينون بالولاء إلى مرشد واحد، ولذلك لم تكن شعاراتهم الكارهة للسلطة كلها أقل حضورا من شعاراتهم الاقتصادية، وهو ما سمعه «روحانى» جيدا وقرأه أيضا بعمق.
لكن سقف التوقعات فيما يتعلق بالموضوع الإيرانى يبقى محكوما بجملة وقائع، أهمها تفتيت النظام للدولة بمفهومها الدستورى، وإحلاله منظومة قائمة على تعدد الأجهزة الأمنية والسياسية المربوطة كلها برابط دينى يعطى «حُماته» حق القوة المطلقة مادام الفوز بالجنة مقدما على الفوز فى الأرض، إضافة طبعا إلى سياسة دولية فاشلة فى مقارباتها وتدخلاتها، ووضع إقليمى مشتت، ومع ذلك فمَن يتمعن فى وجوه الخارجين إلى الشارع وشعاراتهم يدرك أنهم منتفضون حقيقيون ضد واقعهم ونظامهم، ولو كانت انتفاضتهم فى البداية نوعا من «الانتحار»، حسب توصيف نائب إيرانى، طالب المتظاهرين بالتركيز على الغلاء وتجنب الحديث عن «خامنئى».
وإذا كان «الانتحار» استنتاجا سريعا لمؤيدى النظام فى توصيفهم للاحتجاجات، فإن استمرارها- ولو بعد استراحات- رسالة إلى النظام نفسه بأن يتوقف عن نحر شعبه ونحر الآخرين عبر حلم الإمبراطورية الإقليمية، وأن يتمعن جيدا فى تجارب أنظمة كان قادتها يعتقدون أنها عصية، حتى على الاهتزاز، فإذا بهم يمضون تحت أنقاضها.. و«روحانى» بالطبع يقرأ المشهد فى «مشهد» وأخواتها بعين قلقة، مهما انتشى حُماة التجربة بفائض قوتهم راهناً.
في شوارع إيران تصاعدت الهتافات المناهضة للحكومة: «الموت لارتفاع الأسعار» ومن ثم تحولت إلى شعارات مناهضة للنظام: «الموت للملالي»، وفي حين وصلت هذه إلى البث العالمي، كان هناك مزيد من هتافات الكراهية للأجانب، أبرزها: «نحن آريون ولن نعبد العرب». وكان لوحظ أن المظاهرات جرت في مدن يسكنها إيرانيون فرس، وليس في مناطق الأقليات الإثنية الأخرى.
المرشد «الأعلى» آية الله علي خامنئي قال: «عندما يحين الوقت فسأتكلم»، وذلك كي لا يكشف عن الصراع القوي الدائر في مراكز القرار داخل إيران. وفي جلسة البرلمان المغلقة يوم الأحد الماضي اعترف وزير الاستخبارات محمود علوي، بأن الاحتجاجات في مدينة مشهد بدأت بتيار سياسي محلي، ولم تكن منظمة من الخارج، وسرعان ما انتشرت في غضون ساعات وصارت خارج السيطرة.
أما انطلاقة هذه المظاهرات في مدينة مشهد المحافِظة، حسب مصدر إيراني من الداخل، فكانت للأسباب التالية:
خسرت 160 ألف عائلة في مدينة مشهد أموالها في مشروع «شانديز» السكني، وكان عبارة عن أكبر عملية نصب واحتيال، والمتورطون في السرقة مسؤولون في النظام، لم تتم محاسبتهم. أكثر البنوك الإيرانية التي أعلنت إفلاسها كانت في مدينة مشهد، وتجاهلت الحكومة الإيرانية مطالب الإيرانيين في قضية إفلاس البنوك وركزت على الاتفاق النووي.
بعد إيقاف الرحلات السياحية الدينية بين دول الخليج وإيران، خسر أهالي مدينة مشهد الآلاف من فرص عملهم واستثماراتهم، وأغلق كثير من المصانع الصغيرة والمحلات التجارية لأنها كانت تعتمد على الزوار الشيعة. وبعد حرق السفارة السعودية في طهران انتهى كل شيء. تعيش في مدينة مشهد أكبر جالية أفغانية وتنافس أهالي المدينة على فرص العمل، وبعد أزمة الإسكان وإفلاس البنوك وفقدان المدينة المداخيل السياحية وارتفاع الأسعار وازدياد نسبة البطالة، أصبح الفقر والإدمان ينهشان جسد هذه المدينة البالغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة.
المطالب التي خرج لأجلها أهالي مشهد تتوفر أيضاً في أغلب مدن الأطراف التي انجذبت للاحتجاجات والمظاهرات أكثر من المركز، عكس ثورة عام 2009.
ما يميز هذه الحركة المجتمعية عن «الثورة الخضراء» التي شهدتها إيران عام 2009، هي أنها لا تعتمد على المركز في حراكها؛ حيث كان الثقل الثوري حينها في طهران وشيراز والمدن الفارسية الأخرى، وهمشت الأطراف لأسباب قومية ومذهبية.
«الثورة الخضراء» عام 2009 كان على رأسها قيادات واضحة مثل مير حسين موسوي ومهدي كروبي، وكان مطلبهم يدور حول الانتخابات فقط. لكن هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تشهدها إيران، وستظل تستعر، لا تمتلك قيادات سياسية، ولا مذهبية، وشعاراتها تجاوزت الإصلاحيين وبدأت تنادي بتنحي المرشد «الأعلى» عن السلطة.
كان الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية يستخدم العامل الاقتصادي لتحريك الشعب الإيراني ضد شاه إيران، وفي عدد من صحيفة «كيهان» قال الخميني: «إن الماء والكهرباء مجانيان. لن تضاف ضرائب، وكل إيراني سيحصل على سكن مجاني». إذن العامل الاقتصادي هو الأهم والأساس في إنجاح الثورات وإسقاط الأنظمة داخل إيران.
إن ما يميز الاحتجاجات الأخيرة هي أنها ليست مسيّسة لأي تيار أو حزب سياسي في إيران، وخلال يومين من بدئها استطاعت أن تنتشر وتتوسع إلى الجنوب والشمال والغرب وشرق البلاد، عكس «الثورة الخضراء» التي فشلت في الانتقال من طهران والمدن الكبرى إلى الأطراف واستطاع «الحرس الثوري» قمعها بسهولة.
المشاركون في «الثورة الخضراء» عام 2009 كانوا من الطبقتين المرفهة، والمتوسطة، ومن طلبة الجامعات الإيرانية. لكن اليوم، فإن الطبقة المسحوقة والفقيرة والتي تعيش تحت خط الفقر هي التي تقود هذه المظاهرات والاحتجاجات في إيران.
عام 2009 كان المتظاهرون غاضبين من تيار المحافظين وتزوير الانتخابات، وكان الصراع محصوراً بين الإصلاحيين والمحافظين. أما الآن فالمتظاهرون غاضبون على سياسة الحكومة الاقتصادية، وغاضبون على النظام السياسي الذي يقرره ويقوده خامنئي. لهذا كانت الشعارات توجه ضده وضد روحاني وأيضاً ضد قاسم سليماني، وتمزق صورهم.
أهم إنجاز لهذه الاحتجاجات حتى الآن أنها حذفت دور الإصلاحيين في هذا الحراك الشعبي. وفي حال استمرارها فستؤدي إلى تغيير النظام وليس الحكومة فقط!
لا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيحدث غداً، و«الحرس الثوري» أيضاً جاهز لقمع هذه الاحتجاجات بالقوة المفرطة. لكن هناك ما حل بسوريا بسبب تحرك بعض الشباب في درعا، وكان يمكن استيعابهم والإصغاء إليهم، لكن، وبنصيحة إيرانية، اختار النظام السوري القمع والبطش والقتل، فقتل سوريا.
أيضاً المهم في هذه الاحتجاجات أن هذه الفئة المسحوقة التي تقودها، ليست لديها قيادة سياسية مركزية حتى يستطيع «الحرس» اعتقالها، وأيضاً ليس لديها ما تخسره، وهي جاهزة كي تصعّد وتدخل في مواجهات دامية مع «الحرس» والشرطة والأمن من أجل تحقيق مطالبها، عندها سيبدأ سيناريو سوريا في إيران.
يخبرني دبلوماسي عربي أنه كان في سوريا عندما بدأت أحداث درعا، وفي جلسة له مع وليد المعلم وزير الخارجية قال: «المشكلة التي نواجهها أنه ليس هناك قائد لما يجري في درعا، لم نسمح بأحزاب معارضة، ونواجه الآن عدم وجود شخص نتصل به للتفاوض معه على إيقاف ما يجري».
إضافة إلى ما تقدم، فإن من أسباب الاحتجاجات الأخيرة في إيران، هناك أيضاً عامل خلافة خامنئي؛ إذ اتضح أن الرئيس روحاني، وهو يظهر نفسه بالمقارنة على أنه مصلح ومعتدل، كان منافساً قوياً منذ فوزه الساحق في انتخابات العام الماضي، لهذا تصاعدت التحديات التي لم يسبق لها مثيل ضده من قبل المتشددين.
خاض روحاني حملته لإنقاذ الاقتصاد من خلال الاتفاق النووي، وإنهاء الدولة البوليسية عن طريق فتح وسائل الإعلام الاجتماعي الموجهة للعالم؛ هذه المرة تم تصميم المتشددين على إغلاق كل هذه الوسائل الإلكترونية، لأنهم يعرفون حقيقة وضع خامنئي الصحي، مما يعني أنه في وقت قد يكون قريباً سينتخب آخر محله.
كان المتشددون قلقين من أن فترة ثانية لروحاني ستحطم كل أحلامهم؛ وفي مايو (أيار) الماضي وجدوا أن أفضل مرشح لإلحاق الهزيمة بروحاني هو إبراهيم رئيسي؛ رجل دين شاب؛ ضعيف الشخصية عينه خامنئي لإدارة ضريح الإمام الرضا المرتبط بعائدات سنوية تقدر بنحو 120 مليار دولار.
فاز روحاني ثم تبعه انتصار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي رحب المتشددون به لمعرفتهم كراهيته الصفقة النووية، وتأملوا ضمنياً أن «يقتلها». لكن بهذا أحرجوا أيضاً المرشد الذي كان أعطى الضوء الأخضر لروحاني ولوزير الخارجية محمد جواد ظريف لإتمام الصفقة، واليوم الخميس يكون ظريف في لقاء مع المسؤولين الأوروبيين للتأثير على ترمب بألا يلغي الاتفاق النووي، ويوم غد أيضاً هو موعد قرار ترمب.
بسبب طلب روحاني من الرأي العام مناقشة الميزانية على أمل أن الضغط الشعبي سيجبر البرلمان على خفض التمويل العام لعشرات المؤسسات التي أنشأها محمود أحمدي نجاد، قام المتشددون الذين هم في الغالب من أتباع آية الله مصباح يزدي بتنشيط خطتهم؛ فإما إجبار روحاني على الاستقالة الآن، أو استغلال خيبة أمل الناخبين لهزيمة المعتدلين عام 2021. روحاني يواجه اليوم وضعاً صعباً جداً سيقرر مستقبله؛ خليفةً محتملاً لخامنئي، وأيضاً مستقبل إيران.
ما لم يحققه المتظاهرون الآن: تغيير استراتيجي كبير في السياسة الإيرانية. يوم الأحد الماضي قال حسين عبد اللهيان: «سنبقى في سوريا ما دامت الحكومة هناك في حاجة لمستشارينا ولمساعدتنا العسكرية».
المهم ما التنازلات التي ستقدمها الحكومة للناس، وما إذا كان الناس سيشعرون بأن هذا كافٍ. مشكلة روحاني أنه لن يجرؤ على ربط المظاهرات بسياسة إيران الإقليمية، فهي ترى في تدخلاتها حماية لأمنها الداخلي.
لكن أليست المظاهرات جزءاً أساسياً من عدم استقرار النظام؟ ثم إنها مستمرة.
بداية، من الضروري والعاجل تشكيل "غرفة تشاور وتبادل خبرات" سورية/ إيرانية مشتركة، لتمد الشارع الإيراني بمعلومات تفصيلية بشأن ما واجهه الشعب السوري من خطط معادية، منذ بداية ثورته، لأهمية ذلك في مساعدة مواطني إيران على تحاشي ما واجهناه نحن من تهديدات، واقترفناه من أخطاء، وفي الحؤول دون تحويل صمودهم ومقاومتهم السلمية/ المدنية إلى حرب مديدة، وفوضى عامة، يخطط لها الملالي، ستكلف الشعب المنتفض الكثير من الدماء والدموع. كما فعل بشار البارحة في سورية، يوجه المرشد خامنئي والرئيس روحاني اليوم تهما ثقيلة إلى متظاهرين جياع وعاطلين عن العمل، معدمين ويائسين، من المحال أن يكون لهم علاقة بها، قلبها المرشد في خطاب ألقاه يوم 2 يناير/ كانون الثاني الجاري، بطريقته الارتجالية/ العشوائية، ومن دون أي دليل إلى "مؤامرة"، على الضد مما يقوله المنطق والواقع، وهو أن الأفراد والجماعات والأحزاب المنظمة قد يتآمرون، ولكن لا يتآمر شعب تعداده عشرات الملايين، لا يعرف أفراده بعضهم، ولا يعيشون معا، وليس بينهم علاقات يومية أو تواصل منظم، سلوكهم عفوي ووعيهم السياسي يومي عابر، أو محدود وضامر. ناهيك عن أنهم يفتقرون إلى تنظيم وقيادة.
وكيف يمكن لشعبٍ وضع خطة سرية بصورة منهجية وتنفيذها، تحقيقا لهدفٍ يقاربونه تدرجيا وبصورة منظمة، مرحلة بعد أخرى وخطوة بعد خطوة، وصولا إلى هدفٍ سياسيٍّ تجمع مكوناته المبعثرة عليه وتريد تحقيقه؟ كيف يمكن لشعب سورية أو إيران أن يكونا متآمرين، ومع من وضد من، وبأية وسائل وخطط ومقاصد ومراحل؟ وهل يمكن لشعبٍ مجوّع، خرج على الناس شاهرا شكواه، مخالفا قول سيدنا علي، رضي الله عنه، الذي طالب الفقير بالخروج على الناس، شاهراً سيفه، أن يكون متآمرا، إذا كان من أوصله إلى قاع الجوع نظام يدّعي كذبا اقتداءه بالإمام، لكنه يطلق النار على أبنائه وبناته، ويقتلهم، لأنهم يطالبون بحقهم في الخبز والعدالة؟ ألا يخجل خامنئي من اتهام مواطنين فقراء يفتقرون إلى أبسط مقومات العيش بالتآمر على نظامه الذي بدّد أموالهم، وهو يتآمر على شعوب المنطقة، ويدفع بها إلى حروبٍ طائفية ومذهبية، مثلما فعل في سورية والعراق واليمن ولبنان والبحرين، وطرح دوما على إيران معادلةً يستحيل أن تنجح في تحقيقها هي: إما إخضاع شعوب المنطقة وإركاعها أو تدميرها وإبادتها، باسم دين بريء من المرشد وروحاني ونظامهما: مدعي الجهاد ضد الاستكبار والصهاينة، لكنه يدمر العالم الإسلامي، ويقضي على حاضنة أمن وتعايش وإخاء أقامها الإسلام بين مكوناته قرونا، جعلت الاقتتال بين المسلمين حراما، لكن الملالي ما إن استولوا على السلطة في إيران، حتى طووا زمن الأمن والإخاء، وافتتحوا زمن التقتيل والتذبيح في طول المنطقة العربية/ الإسلامية وعرضها.
هل يكون شعب إيران متآمرا إن ذكّر حكامه بحقه في ماله الذي يبدّدونه على مليشيات حسن نصر الله وبشار والحوثي ونوري المالكي، بينما يستمرون في تجاهل بؤسه، حتى بعد بلوغ أحواله أدنى درك يمكن أن تصل إليه أحوال بشر، حيث يعانون من الإفقار والتجويع، ويعيش أولادهم في بطالةٍ تحرمهم أبسط حقوقهم باعتبارهم بشرا، وفي مقدمتها حقهم في العمل والأمل؟
يجوّع روحاني الإيرانيين حتى اليأس باسم الإصلاح، ويقتلهم خامنئي باسم إحباط "مؤامرتهم" على إيران. تُرى، متى سيستجيب نظام الملالي لهم، إن كان يجوعهم حتى الموت، إن هم خضعوا، ويقتلهم إن هم احتجوا على تجويعهم؟ وأي نظام هو هذا الذي تتكامل لديه أسباب قتل شعبه، سكت أو نطق؟ ومن هو المتآمر في هذه الحال: الضحية أم من يجوعه ثم يقتله؟ وما علاقة الاستكبار والصهيونية بسرقة أموال الناس من المصارف، وبإغلاق المصانع، وأخذ أثمان منازل لا تبنى، ورفع أسعار المواد الغذائية، وتزايد التضخم، وانخفاض قيمة التومان، وتدهور شروط الحياة، والبطالة وخراب الزراعة وكساد التجارة... إلخ؟ هل يحكم الاستكبار والصهاينة إيران أم يحكمها أعداؤهم المزعومون الذين يجلسون في كراسي السلطة هناك؟ وإذا كانت سياسة الحكومة تفضي إلى نتائج مطابقة للتي كان سينتجها الاستكبار والصهاينة، لو حكما طهران، أي فارق يوجد عندئذ بين حكومة خامنئي/ روحاني وبينهما؟ ومن هو المتآمر في هذه الحال: الشعب الذي يطالب بحقوقه، أم حكامه الذين يديرون أموره كما لو كان خاضعا بالفعل للاستكبار والصهيونية؟
اتهم بشار السوريين الذين طالبوه بالحرية والعدالة والمساواة بالتآمر مع الصهاينة، وتناسى أن أباه سلمهم الجولان في الإذاعة، من دون طلقة واحدة، وحكم مثله تحت ظلهم غير الشريف شعب سورية المسالم نصف قرن بالنار والحديد والتجويع، السلاح الذي استخدمه، ثم أضاف بشار إليه سلاح ازدراء الشعب واحتقاره والاستهانة بكرامته، ولسان حال هذين المجرمين يقول: "جوّع شعبك يتبعك"، أسوة بـ "جوع كلبك يتبعك"؟
قال قائد الحرس الثوري الإيراني: "الفتنة انتهت". هذه أول "خلصت" ينطق بها النظام، أسوة بالنظام الأسدي الذي كلف بثينة شعبان أن تقول "خلصت"، بعد شهر ونصف من انتفاضة الشعب السوري على الظلم والفساد. وها نحن اليوم في مطلع عامنا الثامن، من دون أن تتمكّن روسيا وإيران والأسدية من ليّ ذراعنا، أو يصدق أحد النظام عندما يقول "خلصت". حين تتملك الشعب روح الحرية، ويثور على الطغاة والفاسدين، سواء كانوا بعمائم أم حليقي الذقون، فإنها لا تخلص إلا بالخلاص منهم. هذه خبرة سورية، وهي ستكون خبرة إيران التي لن يمر وقت طويل، قبل أن تقنع جعفري وزمرته أن روح الحرية لن تتلاشى، ما دام هناك طاغية أو فاسد أو منافق في السلطة، عسكريا كان أو مدنيا.
في الثورات: تكون البداية خروج الشعب على الطغاة، والنهاية خروج الطغاة من الوجود.. سيد جعفري: هذه هي البداية، الثورة مستمرة بظلمكم.
انتفاضة إيران تنتشر ولا تتقلص، تتوسع ولا تضيق، تقوى ولا تضعف، وكأن الجميع في لحظة انتظارٍ، فالمرشد الإيراني الأعلى يتحدث عن أنه سيتحرك «عندما يحين الأوان» والرئيس الأميركي الرافض لكل سياسات سلفه أوباما تحدث أيضاً عن أن الشعب الإيراني سيحظى بدعمٍ أميركي عظيمٍ «حين يحين الأوان».
وقد تحدثت تركيا بدعمٍ صريحٍ للنظام الإيراني ضد شعبه، وقدمت قطر دعماً مادياً كبيراً للنظام ضد الشعب، وقد اتخذت فرنسا خطواتٍ لتفادي دعم النظام، وعبرت بعض الدول الأوروبية عن مواقف تنفي عن نفسها دعم النظام، وقد اضطرت بعض وسائل الإعلام الغربية إلى الانحياز إلى الشعب الإيراني بعد فترة انتظارٍ لعدة أيامٍ، ما يوحي بأن الكثيرين قد اختاروا الانتظار لرؤية ما سيحدث، ولمعرفة التطورات التي ستجري، والمواقف تتطور بتطور الأحداث.
بعيداً عن المقارنات بين 2009 و2018 فإن النظام الإيراني يخالف كل التطور الدولي الذي يشهده العالم، ويبدو نشازاً في الحراك الحضاري والتاريخي للبشرية، ويبدو غريباً عن المنطق الطبيعي لتطور الدول، ودون استحضارٍ لدرجة تنوع الشعب مقارنة بوحدة النظام، فإن النظام الإيراني أمام لحظة تاريخية يجب عليه فيها اتخاذ القرار الصحيح، وهو في الحقيقة عاجزٌ عن ذلك بحكم طبيعته.
دون شكٍ، سيلجأ النظام الإيراني لأسلوب القمع وتعزيزه وكثافته والتجديد في أساليبه وطرقه، والتفنن في القضاء على الشعب وتدميره، فهذا ما أنقذ النظام طوال تاريخه، وسيلجأ إلى كافة الحيل التي تجعل من معارضيه معارضين للدين والإسلام والتشيع، ولكنه ينتظر، ليعرف حجم «المؤامرة» كما يسميها، وليعيد حساباته، بين الدعم السخي لكل حركات الأصولية والإرهاب، والميليشيات التي حاول بها فرض الهيمنة والنفوذ الإقليمي وبين الإفقار الدائم للشعب الإيراني، وطمس كل هوياته وأعراقه ومذاهبه، وأيضاً، ينتظر لمعرفة مدى قوته في الداخل وسيطرته على كل مناطقه ومحافظاته ومدنه وأريافه، ولكنه ينتظر.
ثمة صامتٌ كبيرٌ فيما يجري، هو دول الاعتدال العربي التي تقودها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية وحلفاؤها من الدول العربية ودول المنطقة، وهو صمتٌ يمنع أي افتراء قد يلجأ إليه النظام الإيراني باتهام شعبه بأنه يتم تحريكه من الخارج ضد الدولة الإيرانية، وفي الواقع أن أحداً لا يتآمر على النظام الإيراني أكثر مما يفعله هو ضد نفسه، فالآيديولوجيا لا تطعم خبزاً والشعارات لا تؤمن مسكناً والمزايدات لا توفر أي شكلٍ من أشكال الحياة الكريمة.
حصاد ما يقارب العقود الأربعة من استحواذ نظام الملالي على السلطة في إيران يحكي انحداراً متصلاً على كافة المستويات فيما يتعلق بالاقتصاد والتنمية والبنى التحتية والخدمات المقدمة للمواطن، فتفشى الفقر والمرض والجوع والأمية والتخلف، وفتكت هذه الأوبئة بالشعب الإيراني، فالنظام الشاخص البصر إلى الأفق البعيد ينتظر مخلصاً من نوعٍ ما لا يبصر أنه يدهس مواطنيه بأحذية أنظمته الأمنية والعسكرية، من حرسٍ ثوري إلى باسيج، ومن مخابراتٍ إلى عشرات التسميات للميليشيات التي يسلطها على الشعب، والتي زاد منها وطورها بعد 2009.
في حال أصر الشعب الإيراني على انتفاضته، وتجاوزت دول العالم والمؤسسات الدولية عقدة الانتظار، وأقدمت على تقديم دعمٍ حقيقي للشعب، وتراكمت كل العناصر المطلوبة لإنهاء هذا النظام الديكتاتوري الأصولي الإرهابي فإن هذا سيكون أضخم الأحداث التي شهدها القرن الواحد والعشرون، لأنه سيشكل بداية حقيقية لإنهاء الصراع الآيديولوجي كمركزٍ للصراع الدولي، بأصولية هذا الصراع وإرهابه ومفاهيمه وحركاته وميليشياته، وإخراجها من المعادلات الإقليمية والدولية.
مثل سقوط هتلر، فسقوط نظام الملالي في إيران سيكون خيراً كبيراً للبشرية، ولحظة سقوطه ستكون من أنصع أوراق التاريخ المعاصر بياضاً وأكثرها إشراقاً، فأربعون عاماً من الشر المستطير الذي كان ينشره ويرعاه ويدعمه ويخطط له، ستنتهي تحت مطالب الشعب الإيراني نفسه بالحق والعدل والعيش الكريم، وستتهاوى بعده حركاتٌ وتنظيماتٌ حول العالم أجمع وليس في المنطقة وحسب.
أسعد الدول بهذه الانتفاضة هي الدول التي لطالما تبجح النظام الإيراني بأن ميليشياته تحكمها وأنها تشكل أوهام توسعه وأحلام بسط نفوذه في المنطقة، وعلى رأسها الدول العربية الأربع الأكثر تضرراً؛ العراق وسوريا ولبنان واليمن، مع قطاع غزة، حيث رأت شعوب تلك الدول الويلات إثر الويلات من دموية وعنف ميليشياته وجماعاته الشيعية والسنية التي صبها عليهم.
دون انسياق خلف آمالٍ لم تنضج بعد، ودون أي تقليلٍ من شأن انتفاضة الشعب الإيراني، إلا أن مجرد تصورٍ سريعٍ لبعض الآثار الجانبية لنجاح هذه الانتفاضة فإن حزب الله اللبناني - على سبيل المثال - محترف القتل وممتهن العنف وناشر الطائفية ومدرب الإرهاب وتاجر المخدرات و«شبيح» إيران الأول في المنطقة سيجد نفسه عارياً في الداخل اللبناني فضلاً عن أدواره الأخرى في المنطقة، وميليشيات الحوثي ستنهار انهياراً لا قيام لها بعده، والميليشيات التي تقتل الأطفال والعجائز في العراق وسوريا ستنكسر، وستتنفس هذه الشعوب العربية الصعداء وتنعتق من تلك الميليشيات، وستستطيع الدولة استعادة سيادتها وفرض هيبتها داخل حدودها، فهل بعد كل هذا الخير من خير.
كل نجاح لانتفاضة إيران يسبب ضعفاً في قوة النظام، ذلك أنها تضرب قوة النظام في عقر داره، وفي مركز حكمه وفي دولته الأصلية، فيضطر مجبراً للانسحاب من كل مغامراته غير المحسوبة في المنطقة، ويتخلى ذليلاً عن كل أوهام التوسع وبسط النفوذ، وتسقط فكرته الآيديولوجية الكبرى.
«استقرار الفوضى» كان استراتيجية إيرانية بالغة التأثير وبخاصة بعد الربيع الأصولي في بعض الدول العربية، وسقوط المفهوم وفشل الاستراتيجية هو نجاحٌ للنموذج المقابل وهو «استقرار الدولة» الذي تمثله الدول العربية القائدة لمحور الاعتدال في السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن والمغرب وغيرها.
تأذت دول الخليج طويلاً من إرهاب النظام الإيراني وخلاياه في هذه الدول، إن خلايا الإرهاب السنية والشيعية وإن خلايا التجسس، وبالذات في البحرين والسعودية والكويت، ذلك أن هذا النظام كان يسرق لقمة العيش من أفواه شعبه ويدفع ثمنها لكل مرتزقة العالم للإضرار بدول الخليج والدول العربية والعالم أجمع.
أخيراً، لا أحسب أن يختلف اثنان على أن سقوط هذا النظام يمثل مصلحة كبرى للبشرية وأن أي أضرارٍ ناجمة عن سقوطه هي أضرار يمكن احتواؤها وهي بالتأكيد أقل كلفة من بقائه واستمراره.
يتجسّد الوعي الشعبي الإيراني الغاضب على نظامه في أمرين: أولهما، أنه لم يستثن استطالات أو تدخلات إيران الخارجية من نطاق شعارات احتجاجاته، وأنه جعل النظام يقف في مواجهة مطالب شعبية، تعتبر الأولوية في برنامج أي نظام حاكم تجاه مواطنيه، من موضوع الفقر إلى البطالة والتنمية الاقتصادية، معتبراً تلك الاستطالات فساداً في إدارة موارده وقيمه، كشعب صاحب حضارة، وكشعب له أولوياته الداخلية. وثانيهما أنه ساوى بين الطبقة الدينية الحاكمة والجهاز الحكومي التنفيذي في تحميل مسؤولية ما آلت إليه بلادهم، حيث ظهر المشهد السياسي الإيراني ضمن منظور المنصّة الواحدة التي لا تستثني أحداً من غضب الشارع عليه، ولا تحتمي بجهةٍ ما من أخرى.
ما تقدّم يعني أن الإيرانيين المتظاهرين بدأوا من حيث وصلت إليه تجارب الآخرين، الذين سبقوهم إلى صياغة حراكهم، محاولين تجاوز الأخطاء، ومتوقعين سلفاً الثمن المطلوب لاستمرار دائرة غضبهم وتوسّعها. وهم بذلك يبدون على درجةٍ من وعي أفضل لطبيعة نظامهم الديكتاتوري وأدواته القمعية، بكل الخبرات المكتسبة لهذا النظام، لا سيما في شراكته بالمسؤولية الكاملة عن جرائم الحرب وقتل المتظاهرين، وتدمير المدن السورية فوق رؤوس ساكنيها.
ربما تمنح هذه الوضعية الإيرانيين المتظاهرين ميزة لم يملكها السوريون مع بدء ثورتهم، حيث كانت معايرتهم للأمور تقتصر على تجربة الأسد الأب في تعامله مع أحداث حماة في ثمانينيات القرن الماضي. فعلى الرغم من بشاعة ما حدث ومأساويته، خلال تصدّي الأجهزة العسكرية والأمنية لحركة الإخوان المسلمين، 27 يوماً (فبراير/شباط عام 1982) في مدينة حماة، ووقوع عشرات آلاف الضحايا، إلا أن من قاموا بثورة 18 مارس/آذار 2011 ليسوا ممن يحملون تلك الذكريات، بحكم أعمارهم الشابة التي تتعامل مع التغيير باعتباره جزءا من صيرورة التاريخ الممتد، وتسعى إلى نيل حرية التعبير التي أطلق عنانها مسار العولمة وتكنولوجيا الاتصالات والتواصل الاجتماعي، كما راودهم تغلب أمنياتهم، أو أوهامهم، بأن الأسد الابن، صاحب التجربة في الحياة، لن يكون قادراً على ممارسة القمع الذي سبقه إليه والده، تحت عين الكاميرا وبثها المباشر. بيد أن ما جرى خلال السنوات السبع الماضية في سورية، وبدعم من نظام الملالي الإيراني، بمناصفة المسؤولية عن كل الجرائم المرتكبة، كان بحكم المفاجأة للسوريين، بشدّته واتساع رقعة ضحاياه من مدينة انطلاقة الثورة (درعا) إلى باقي مدن سورية ومناطقها، وقدرة آلة الحرب على التنقل بينها، وإيقاع مئات آلاف الضحايا بين قتل واعتقال وموت تحت التعذيب وتشريد وتدمير للممتلكات الخاصة والعامة.
وإذا كان مبكرا فعلياً تصوّر مآلات ما يحدث من احتجاجات في مدن عديدة في إيران، وتاليا مدى قدرة هذه الأحداث على لملمة التمدّد الإيراني من محيطه الجغرافي خارج حدوده وانكفائه إلى داخل دولته، إلا أن هذه الاحتجاجات، في شكلها الممتد على مساحة واسعة، يمكنها أن تكون علامة جديدة في تاريخه، ينتقم فيها أبناء الذين شاركوا في الثورة ضد الشاه وأحفادهم، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، من أولئك الذين خطفوا الثورة، لتأخذ منحاها الإسلامي الطائفي في أبشع صوره، بعد أن كانت ثورة العلمانيين والليبراليين والإسلاميين معاً.
هكذا، فإن استمرار المظاهرات وتوسّعها وامتدادها هو الخيار الأكثر احتمالاً، على الرغم من أن النظام الإيراني سيستخدم كل خبراته القمعية التي لم يكن يمتلك كل أشكالها الإجرامية في انتفاضة 2009، التي حدثت تحت سقف النظام، وبرعاية بعض رموزه، وفقاً لمفهوم الديمقراطية المبتورة في أنظمة الحكم الديكتاتورية التي تسمح باتهام كل الأدوات وانتقادها، منزّهة المرجعية الدينية عن الخطيئة، ومحمّلة المسؤولية للحكومة التنفيذية الفاسدة في طريقة وآليات عملها. ومعلوم أن الاحتجاجات الإيرانية آنذاك قامت بسبب تزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحة محمود أحمدي نجاد الذي استمر لولاية ثانية، ضد مير حسين موسوي الذي طلب السماح من النظام الحاكم لمسيرة احتجاجية على نتائج الانتخابات التي اعتبرها مزوّرة. وفي حينه، كان سقف الحراك معروفا، وكانت المظاهرة معروفة المسار والموقع، ما يعني أنه أرادها "صورة ديمقراطية" في بلدٍ تحكمه نخبة دينية تسلطية وقمعية، إلا أن الأمور شعبيا لم تكن على مقاس التنظير السلطوي، بحيث أن التمرّد الشعبي بدأ يختمر منذ ذلك الوقت، على الرغم من إخماده أمنياً وعسكرياً آنذاك.
على ذلك، فإن أي رهانٍ على فشل إرادة المتظاهرين الإيرانيين هو ضد طبيعة التطور، أو رهان معقود على تخيّل إرادوي لواقعٍ يفترض أنه ينضج بطريقة تدرجية. ولعل إيران تعطينا اليوم الدرس الذي يجب أن يعيه المتحمسون للربيع العربي، ومفاده بأن الثورات لا تسير باتجاه واحد نحو النصر المباشر. وحتماً، حيث إنها يمكن أن تتعثر حيناً، وأن تهمد أحياناً، وأن تتحوّل بفعل الظروف إلى مشهدٍ يخالف انطلاقتها الأساسية، كما حدث لثورة السوريين، التي تلونت من ثورةٍ شعبيةٍ، بالطرق السلمية، إلى ثورة مسلحة باستبعاد البعد الشعبي، ومن ثورةٍ تهدف إلى التغيير السياسي والحرية والديمقراطية إلى ثورةٍ يغلب عليها الخطاب الطائفي، ومن صراع بين شعب ونظام إلى صراع داخلي وخارجي، أي أن الحراكات الشعبية في إيران قد تتطوّر، ولكن وفقا لدينامياتها هي، ووفقا لكيفية رد النظام عليها، من دون وضع مراهناتٍ مبكرة أو في غير محلها.
هذا يعني أنه لا يمكن التعاطي مع المظاهرات في إيران على أنها ماضية حتى تحقيق هدفها بإسقاط حكم ولاية الفقيه، بحدّيه الديني والتنفيذي، إذ أنه من دون ذلك مواجهة عنف النظام في أقسى صوره التي قد تؤدي إلى انعطافاتٍ بمساراتها، وربما انكفاءاتٍ باتجاه مطالب حياتية معيشية، يقدّم النظام الوعود لحلها مرحلياً. مع ذلك، لا يعني هذا الوضع إخماد المطالب السياسية التي تؤسس لمرحلة حكم جديدة، يتطلع فيها الإيرانيون إلى استثمار ثرواتهم بتحسين واقعهم داخل حدودهم، سواء الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. ومنه طبعاً واقع الحريات الدينية، وتعزيز مكانة المرأة التي بقيت حتى اليوم (منذ 1979) تمثل انفكاك شراكة كل شرائح المجتمع الإيراني عن ثورته، بعد انتصار الشعب على شاهه. ذلك كله لن يحدث، على الأرجح، في ظل بقاء نظام إيراني يصرف ويبدد خارج حدوده مداخيل (وموارد) شعبه، ويتطلع إلى حكم أربع عواصم بالنار والحديد والأحزاب الموالية له، بينما هو يمارس العنف في بسط سيطرته على عاصمته طهران، لغياب مصداقيته وعدالته وبرنامجه الإصلاحي.