
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
لا يمكن فهم المشهد في السويداء اليوم بمعزل عن تناقضات الهوية السياسية للطائفة الدرزية التي تسيطر على المحافظة، وهي تناقضات تتجلى بوضوح في ممارساتها ومواقفها إزاء محيطها المحلي والوطني. فبينما يُطالب الدروز بحقهم كأغلبية في السويداء بفرض رؤيتهم وإدارتهم الكاملة للمحافظة، نراهم في الوقت نفسه يرفضون أن يخضعوا لحكم الأغلبية الوطنية السورية ذات الغالبية السنية، ويصرّون على خصوصية سياسية وأمنية تميزهم عن بقية المكونات السورية.
هذا التناقض، الذي برز أكثر بعد سقوط نظام بشار الأسد وولادة الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، يطرح إشكالية حقيقية في بناء دولة سورية موحدة على أسس عادلة ومتكافئة.
الأغلبية الدرزية في السويداء: الحاكم المطلق داخل المحافظة
تاريخيًا، كان جبل العرب (السويداء) يشكل معقلًا للطائفة الدرزية، وتحوّل مع الوقت إلى ما يشبه الكيان المغلق سياسيًا واجتماعيًا. ومع أن الدروز تعايشوا لسنوات مع المكونات الأخرى في المحافظة – بدو سنة ومسيحيين – إلا أن الخطاب السائد ظل يضع الدروز في موقع “الزعامة” الطبيعية للمحافظة.
هذا ظهر جليًا مؤخرًا في طريقة التفاوض مع حكومة دمشق الجديدة. فعندما جلس وفد من مشايخ العقل والقيادات العسكرية المحلية على طاولة الحوار مع مسؤولي الحكومة، لم يظهر أي تمثيل فعلي للمكونين الآخرين في المحافظة. وكأن مصير المحافظة برمتها محصور فقط بإرادة الطائفة الدرزية. لا بل الأكثر من ذلك، أن الدروز يعتبرون أن من حقهم وحدهم رسم مستقبل السويداء أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، دون الالتفات إلى رأي البدو السنة أو المسيحيين الذين يشكلون أقل من 10% من سكان المحافظة.
بين نار الفعل وردّ الفعل: هل تمضي السويداء نحو الانفجار؟
يبرز هذا التفرد أيضًا في التعامل الأمني. عندما اندلعت الاشتباكات مساء أمس بين قريتي الدارة السنية والثعلة الدرزية، حيث تعرضت الأخيرة لقصف بقذائف الهاون مجهول المصدر، لتقوم بالرد باستهداف قرية الدارة بقذائف الهاون والرشاشات الثقيلة ما تسبب بحالة هلع بين السكان وحركة نزوح واسعة باتجاه محافظة درعا.
هذه المواجهة رفعت الستار عن طائفية الميليشيات التي كانت وما زالت ترى نفسها حامية السويداء بينما في الحقيقة أنها لا تحمي سوى مصالحها وليس حتى طائفتها، إذ أن الكثير من أبناء الطائفة الدرزية يقفون مع الدولة السورية.
ففي مثل الحالة التي وقعت يوم أمس في السويداء تظهر عقلية الطائفية لدى الميليشيات الدرزية التي تتبع بمعظمها الشيخ حكمت الهجري، التي ترى أن حكمها للسويداء حق حصري ومشروع، وتعتمد إقصاء البدو السنة والمسيحيين اللذَين هما مكونان أساسيان للمحافظة، وهو ما يكشف أيضًا أن قرار المواجهة أو التهدئة بيد القيادات الدرزية فقط، فيما لم تُؤخذ مصالح الأقلية بالاعتبار في أي قرار مصيري يتعلق بالمحافظة.
وفي خضم الاشتباكات ونزوح أهالي قرية الدارة، تعرض مقام ديني درزي في قرية الصورة الكبيرة للحرق والتخريب على يد مجهولين يعتقد أنهم عناصر غير منضبطة ضمن فصائل وزارة الدفاع التي سيطرت على القرية مؤخرًا، وهو فعل مدان بلا شك، أجّج غضب الدروز ودفع بعض المتطرفين إلى محاولة الرد بحرق مساجد والاعتداء على بدو السنة في السويداء. لكن العقلاء داخل الطائفة حالوا دون الانزلاق إلى هذه الكارثة، في موقف يحسب لهم رغم سخونة الموقف.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن مخاوف الدروز مشروعة جزئيًا، في ظل وجود عناصر متشددة داخل الفصائل التي تمثل الحكومة الجديدة. هؤلاء لا يخفون عداءهم الطائفي، بل يحملون خطابًا متشددًا حتى ضد مخالفيهم من السنة أنفسهم. ومع ذلك، فإن الرد الطائفي ليس هو الطريق الآمن، بل بوابة لمزيد من الانهيار.
الأغلبية السنية في سوريا: مرفوضة كحاكمة وطنية
في المقابل، حين ننتقل إلى المستوى الوطني، نلاحظ أن الدروز في السويداء يرفضون رفضًا قاطعًا أن تخضع مناطقهم لحكم الأغلبية السنية في سوريا. ويُنظر إلى أي محاولة لبسط سلطة الحكومة المركزية على السويداء كتهديد مباشر للهوية والخصوصية الدرزية.
هذا الموقف عبّر عنه بوضوح الزعيم الروحي الشيخ حكمت الهجري في تصريحاته الأخيرة التي وصف فيها حكومة أحمد الشرع بأنها “متطرفة ومطلوبة للعدالة الدولية”، رافضًا أي وفاق معها. كما تتكرر المطالبات بدرزية منفصلة إداريًا عن بقية الدولة، أو على الأقل بإطار لا مركزي يضمن للدروز سلطة ذاتية على مناطقهم.
إشكالية التناقض: حق الأغلبية أم ازدواجية في المواقف؟
اللافت هنا أن الطائفة الدرزية تطالب بتطبيق مبدأ الأغلبية حين تكون هي الأغلبية (في السويداء)، لكنها ترفض المبدأ نفسه حين تكون أقلية (في سوريا). وهذه إشكالية شائعة في الفكر الطائفي عبر التاريخ، حيث يتحول مبدأ الأغلبية إلى أداة ظرفية تُستخدم متى خدمت المصالح الطائفية، وتُرفض عندما تتعارض معها.
يمكن فهم هذا السلوك في ضوء مخاوف تاريخية للدروز، الذين كانوا دائمًا أقلية تعيش في قلق وجودي من محيطها الأكبر. ومع أن هذه المخاوف قد تبدو مبررة أحيانًا بفعل تجارب سابقة من القمع أو التهميش، إلا أن الإصرار على مبدأ “الخصوصية المطلقة” يعزز الانعزال ويقوض فكرة المواطنة المتساوية.
المخاطر المستقبلية: نحو صدام أم مصالحة وطنية؟
إذا استمر هذا التناقض في إدارة العلاقات داخل السويداء ومع الدولة السورية، فسيُعمق الشرخ بين مكونات المحافظة نفسها من جهة، وبين السويداء والدولة المركزية من جهة أخرى. ويعني هذا أن فرص الانفجار الطائفي ستظل قائمة، خصوصًا إذا استمرت الأطراف الإقليمية مثل إسرائيل وإيران في الاستثمار في هذه الفجوة لمصالحها.
إسرائيل التي دخلت على الخط بتوجيه ضربات قالت إنها لحماية الدروز، لكنها، كما دائمًا، تسعى لتعميق عزلة الطائفة وجعلها رهينة “حمايتها”، وهو رهان مكلف لن يجلب الأمن طويل الأمد.
الخلاصة أن ما يجري اليوم في السويداء يضع الطائفة كلها أمام مفترق مصيري: إما بناء شراكة حقيقية تعيد التوازن بين مكونات المحافظة وعموم سوريا وتجنبها الانفجار، أو الانجرار وراء أوهام الحماية الخارجية والخطابات الطائفية، التي لا تجلب سوى الدمار.
كما قلتَ بدقة: حتى لو وعدتهم إسرائيل بالحماية، فلن يجدوا الأمن ما دام محيطهم كله يشعر بالخذلان والطائفية. اللحظة حرجة، والطريق الآمن يبدأ من الداخل، لا الخارج.
الحل الوحيد يكمن في إعادة تعريف العقد الاجتماعي داخل السويداء أولًا، بحيث يتم الاعتراف بحقوق كل المكونات، وبناء إطار تمثيلي حقيقي لا يحتكر القرار. وفي الوقت نفسه، يجب على الطائفة الدرزية أن تعيد النظر في موقفها من الدولة، وتنتقل من موقع الرفض المطلق إلى موقع الشراكة المتكافئة، انطلاقًا من مبدأ أن لا أمن لأي طائفة من دون أمن كل السوريين.
في النهاية، قد يكون السؤال الأهم: هل السويداء مستعدة للتخلي عن هواجسها القديمة لصالح مستقبل سوري موحد؟ أم أنها ستظل عالقة في ازدواجية مواقفها، لتجد نفسها يومًا ما تدفع ثمن هذه الازدواجية وحدها؟