قبل أن تعلن إيران وروسيا موعد الاحتفالات الشعبية بانتصاراتها، وقبل أن ترفع أعلام النصر في الميادين الكبيرة في العواصم والمدن الكبرى الروسية والإيرانية، على ما أنجزوه في سوريا من قتل ودمار، ومساهمتهم مع جيش بشار الأسد بقتل نحو مليون سوري أولاً، وتشريد سبعة ملايين داخل سوريا ومثلهم خارجها ثانيا، وتدمير كل المدن السورية الحضارية بأحدث الطائرات الحربية والصواريخ البالستية العابرة للقارات والبحور والبلدان ثالثاً، وبالأسلحة الكيماوية والقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة طوال ست سنوات.
وغيرها من الإنجازات الكارثية، ما جعلهما تتبادلان التهاني والتبريكات، وتوزيع الأوسمة الحربية على الضباط والجنود المشاركين، وقبل أن تنشر القيادتان في روسيا وإيران أجواء الفرح والابتهاج بين شعبيهما وعودة جنودهما منتصرين على النساء والأطفال والشيوخ، بدأت أحداث متزامنة في كلا الدولتين، سببت لهما ورطة داخلية مع شعبيهما، فهل بدأت الدائرة على من قتل الشعب السوري وأخر انتصاره.
إن روسيا وهي تستعد لخوض انتخابات رئاسية محسومة النتائج هذا العام، عمل الرئيس الروسي بوتين على تحسين صورته أمام شعبه، ولو بصورة إعلامية وهمية، بإعلانه الانتصار أولاً، وهو يجلب بشار الأسد ويجلسه إلى جانبه وليس أمامه – مثل رؤساء الدول – في قاعدة حميميم قبل شهر، ثم إعلان سحبه لقواته من سوريا بعد عوته إلى موسكو فوراً. وعقد بوتين حفلاً عسكريا لتوزيع الأوسمة والنياشين على الضباط والعسكريين الروس، الذين قادوا الطائرات الحربية التي قصفت منازل السوريين ومستشفياتهم ومساجدهم ومدارسهم وأسواقهم ودمرتها على من فيها، بينما قامت المخابرات الأمريكية بتهريب مقاتلي «داعش» إلى سيناء وغيرها، بحسب اتهامات موسكو للمخابرات الأمريكية، كما قامت المخابرات الإيرانية بتهريب مقاتلي «داعش» إلى أفغانستان، بحسب اتهام القائد الأفغاني حكمتيار لإيران يوم 4/1/2018.
أدعياء الانتصار الوهمي لم تكتمل اكذوبة الفرحة لديهم أمام شعوبهم، ولا قدرتهم لخداعهم، فروسيا أعلنت في أسبوع واحد عن سقوط طائرة عسكرية ومقتل طيارين فيها، وبعدها بأيام أعلنت عن مقتل جنديين في قاعدة حميميم بقصف القاعدة بقذائف هاون، لم تعلن جهة ما مسؤوليتها عنها، كما لم تعلن موسكو عن الجهة التي قامت بالقصف. وبما أن روسيا عولت على جيش بشار بالكشف عن المنفذين، فإن ذلك مؤشر على اتهام «داعش» وتحميل بشار الاسد مسؤولية ذلك، والأرجح أن موسكو متفاجئة أن يبدأ الهجوم على القوات الروسية في سوريا بعد إعلان الانتصار بأيام، وبعد ادعاء بوتين القضاء على «داعش» أمام جيشه وشعبه.
أما الحدث المهم الثاني فهو انطلاق الاحتجاجات الشعبية في إيران، بعد أن أعلنت إيران انتصارات جيشها وميليشياتها في سوريا، ولا دليل على ذلك الانتصار إلا بقاء بشار الأسد في السلطة، المعترف بها من الأمم المتحدة، أو المعترف به من الولايات المتحدة الأمريكية ونظامها الدولي، وهذا ليس انتصارا لصالح إيران، ولا لروسيا أيضاً، لأن إيران ما كان لها أن ترسل جنديا أو ميليشياويا واحدا إلى سوريا إلا بضوء أخضر من البنتاغون الأمريكي وموافقة إسرائيلية، فإسرائيل وضعت لإيران ومحورها الخطوط الحمر التي لا تتجاوزها في سوريا والمنطقة، وجعلت مهمتها محصورة بمنع انتصار ثورة الشعب السوري فقط، فإسرائيل هي من تمانع إسقاط الأسد حتى إيجاد البديل الذي يحمي الحدود معها أولاً، ويمنع الشعب السوري عن مقاتلتها من أجل الجولان أو غيرها ثانياً.
ولذلك كان من المعيب أن تعلن إيران او ميليشياتها الطائفية انتصارها في سوريا، وهي تعلم انها فشلت في القضاء على الثورة السورية قبل التدخل الروسي وبعده.
أما ما حصل في إيران فإن المشهد الصادق من احتجاجات الشعب الإيراني المكلوم هو المشهد الأول، الذي خرج مطالباً بالإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد، وهتاف المحتجين ضد التدخل الايراني بدعم بشار الأسد، أو دعم حزب الله اللبناني أو دعم حماس في غزة، لأنهم أولى بهذه الأموال التي اقتطعها الحرس الثوري من ميزانية الشعب الإيراني وقوته اليومي، هذا إذا كانت صادقة في مساعدة المستضعفين، فكيف والشعب الإيراني يعلم كذب هذه الادعاءات، ولذلك أسرعت السلطات الإيرانية لتشويه صورة الاحتجاجات الشعبية في اليوم الثاني مباشرة، وبالأخص بعد أن حاول الرئيس روحاني التعامل مع المحتجين بمصداقية رجل السياسة، والرئيس الذي يتفهم المطالب الشعبية المحقة، ولكن الحرس الثوري الإيراني لم يقبل اللغة الناعمة، ولا تهدئة المحتجين وإرضاءهم بتلبية مطالبهم، فقام الحرس الثوري بتشويه صورة الاحتجاجات أمام الشعب قبل كل شيء، بادعاء أنهم عملاء للخارج ويتلقون الدعم من أمريكا وإسرائيل، وحولوا احتجاجاتهم السلمية إلى أعمال تخريبية واستهداف المصارف والأماكن الدينية، لإثبات التهمة عليهم بأنهم من أتباع «داعش»، وهو ما أعلنه رئيس الحرس الثوري الإيراني في خطابه الأخير الذي أعلن فيه انتهاء الفتنة في إيران يوم 3/12/2018.
فالحرس الثوري في ايران – وهو السلطة الحاكمة فعلاً في إيران – لا يسمح بتكرار التجربة السورية في إيران، لأنه يدرك أن السماح بذلك سيعني اشتعال إيران في حروب أهلية لا نهاية لها، وانهم لن يسمحوا بذلك إلا بتدمير إيران كلها، كما فعلت هي في العراق وسوريا واليمن بمساعدة وتواطؤ أمريكي وروسي.
إن الهتافات الأولى التي خرجت في الاحتجاجات الشعبية في إيران كانت صادقة، والتحول السريع للهتافات السياسية دليل على تورط جهات حاولت استغلال الاحتجاجات الشعبية، سواء من المعارضة الإيرانية الحاقدة على نظام الملالي، أو من المخابرات الإيرانية التي تريد تشريع أو تسويغ استعمال القوة العسكرية ضد المحتجين بأسرع وقت، وقد نجح الحرس الثوري في ذلك، ولكن ذلك لا يعني أن الشعب قد هزم في إيران بحكم أن شعاراته ومطالبه في اليوم الأول كانت صحيحة، فهم أولى بأموالهم كما قالوا في اليوم الأول، وتمكن الحرس الثوري من إسكات الاحتجاجات سريعًا لا يضمن أن يُسكتها غدا، لأن جزءًا كبيرا من الحرس الثوري نفسه سيشارك في الاحتجاجات المقبلة، فهو جزء من الشعب الإيراني المحروم من حقوقه والعاجز عن إطعام أطفاله، ولأن القتلى الاثنين والعشرين في هذه الاحتجاجات لن يمر بدون حساب من الشعب أيضاً.
إن أحداث إيران دليل على فشل إيران في سوريا أولاً، وهي ناقوس خطر لنظام الملالي ثانياً؛ فثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر بتقارير رسمية من داخل إيران، ومعدل البطالة 12.4% رسميا، وهي 28% بتقديرات أهلية ومؤسسات إيرانية أيضاً، وأكثر من نصف الميزانية الإيرانية تذهب للتسليح وتوسيع النفوذ الخارجي، فما حصل دليلٌ على غضب شعبي كبير، بدليل أن الاحتجاجات الشعبية توسعت داخل المدن الإيرانية بشكل سريع أيضاً، وهذا مؤشر على أن قسماً كبيراً من الشعب الإيراني هو مع الاحتجاجات وإن لم يكن مع الصدام مع الحرس الثوري، ولا مع أعمال الشغب التي تدمر الممتلكات الوطنية، وبالأخص أن الحل الاقتصادي الذي وعد به روحاني لن يستطيع تنفيذه طالما أن الحرس الثوري لا يوافق عليه.
إن الاحتجاجات الشعبية في إيران لم تتوقف طوال السنوات الماضية، والاحتجاجات الأخيرة استمرت ستة أيام وقدمت 22 قتيلاً، فكيف لو استمرت أكثر من ذلك، والبداية من مدينة مشهد دليل على أن المعاناة عامة في كل إيران، بدليل انتقالها لثمانين مدينة ايرانية بما فيها العاصمة طهران، ولذلك فإن هدوء الاحتجاجات ليس مؤشرا على صحة منهج نظام الملالي، بل هو سبب الأزمة الاقتصادية.
والمظاهرات المليونية – كما قال الإعلام الإيراني – المؤيدة للملالي ليست دليلاً على قوة النظام، لأن كل نظام سياسي له بضعة ملايين من الشعب ينتفعون منه، كما أن ضعف الاحتجاجات أو توقفها ليس مؤشرا على قوة الحرس الثوري، ولا على أنه قادرٌ على حسم هذه الاحتجاجات الشعبية في المستقبل؛ فالقبضة الأمنية تستطيع ان تضمن صعوبة إسقاط النظام بخسائر بشرية واقتصادية كبيرة، والقبضة الأمنية تستطيع أن تضمن تأخير إسقاط النظام، ولكنها لا تستطيع أن تقتل إرادة شعب يسعى للحرية، فالقضاء على الفتنة ليست بإسكات الاحتجاجات الشعبية في الميادين العامة ومطالبها المحقة، ولا بحل المشاكل الاقتصادية فقط، ولا بتهديد الجيش للتدخل أيضاً، وإنما بضرورة بناء دولة ديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية المعاصرة، ولا تتبنى الأحقاد التاريخية الطائفية، ولا تحمل أطماع النفوذ الخارجي الذي لا يأتي بخير، وإلا فإن نظام الملالي في إيران ينتظر نهاية الاتحاد السوفييتي سياسيًّا وعسكريا، بل نهاية أوهامه الأيديولوجية الطائفية ولو بعد حين.
منذ لحظة بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا، سال الكثير من الحبر عن تفويض أميركي وغربي عموماً، وكان الرهان الأوروبي كبيراً بأن هذا التدخل سيحدُّ من تسونامي اللجوء إلى أوروبا، حتى كانت هناك تحليلات عن توافقات مع موسكو كلما تكرر غض النظر الغربي عن العمليات التدميرية التي قام بها الطيران الروسي، وقيل الكثير منذ أسقط الروس حلب عندما طرحت موسكو أن لا حلَّ عسكرياً، وأنه حان الوقت لإيجاد تسوية سياسية، وشجع هذا الجو تكرار تركيز الخطاب الروسي على مرجعية القرار الدولي 2254 ومرجعية جنيف.
اليوم بعد تحديد موعد مؤتمر «سوتشي» نهاية الشهر الحالي، والذي بدا كأنه يرسم ملامح «تسوية» روسية خالصة، تغيرت الصورة، فإذا كان هناك شيء من التفويض في مرحلة التدخل، فلا أثر له في مرحلة البحث عن الحل السياسي. الموقف الأميركي الجديد والصريح الذي أعلنه وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قلب الصورة؛ فقد تحدث عن زيادة الوجود الأميركي المدني والدبلوماسي شرق الفرات، حيث يسيطر حلفاء أميركا في «قوات سوريا الديمقراطية»، فرسم بذلك بداية مسار جديد، وزيادة في الوضوح ردّ على ولايتي والأسد: «لدينا خط فاصل بين المناطق... وسيكون من الخطأ تجاوز هذا الخط»، وتحدث عن إعمار مناطق الوجود الأميركي: «هناك أموال دولية تنبغي إدارتها بحيث تُثمر عن شيء ولا ينتهي بها الأمر في جيوب الأشخاص الخطأ». هذا الجديد أربك موسكو فاتّهم وزير الخارجية الروسي لافروف الأميركيين بأن «وجودهم يعيق التسوية السياسية ويهدد وحدة البلاد»، وكشف أن واشنطن تَعتبر «النصر على (داعش) لن يتحقق إلاّ بعد انطلاق التحولات السياسية التي لا بد من رحيل الأسد في نهايتها»، واستغل الرئيس بوتين رسالة التهنئة برأس السنة للرئيس ترمب لتأكيد «الحاجة إلى حوار روسي - أميركي بنّاء لتعزيز الاستقرار الاستراتيجي في العالم».
التطور في الموقف الأميركي تلا أمرين؛ الأمر الأول، أنه سيكون أمام مؤتمر «سوتشي» مسودة دستور أعدتها موسكو، وسيتم التطرق إلى الهياكل الجديدة للدولة السورية، وأن البند الثاني سيكون البحث في الانتخابات، وأُرفق كل ذلك بتهديد الجهة التي ستتغيب بأنه لن يكون لها مكان في سوريا الغد (...)، ورغم إعلان مقاطعة 40 جهة تمثل الجبهة الجنوبية، وتسرب أنباء عن تغيب كثيرين من المعارضة السياسية والعسكرية، مضت موسكو بوضع قوائم المشاركين بالتوافق الجزئي مع دمشق وأنقرة وطهران، ودعوة الأمم المتحدة للحضور كي تكون مجرد شاهد، ورافقت كل ذلك إجراءات روسية بتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس التي ستبقى سنة قابلة للتجديد، وأنجز نائب رئيس الوزراء الروسي اتفاقات اقتصادية شاملة مع سوريا تُمكن موسكو من وضع يدها على النفط والغاز وسائر الثروات وخطوط النقل... إلخ. كل ذلك يعني أن موسكو التي نجحت في الميدان بتثبيت نظام الأسد، وتوجيه أقسى الضربات إلى المعارضة ما مكّنها من فرض جهات عليها وتعديل أجندتها، رسمت حلاً في «سوتشي» على قياس مصالحها، وتأمل من مشاركة الأمم المتحدة أن يُمنح المؤتمر صدقية كبيرة، ولا يبقى أمام «حوار جنيف» إلاّ المصادقة على نتائج «سوتشي».
الأمر الثاني، يكمن في توافق الإدارة الأميركية على ما سمي «خطة سلام من أجل سوريا»، وهو ما أعدته «مؤسسة راند» (قريبة من البنتاغون) التي تحثُّ على ترسيخ النفوذ الأميركي في سوريا ما دام النظام مستمراً، وتدعو لتشجيع قيام إدارات محلية وحكم ذاتي تشكل اتحاداً كونفدرالياً يمهد لاتفاق سياسي يطلق المرحلة الانتقالية، والشعار لا دور للأسد في مستقبل سوريا، وحتى يتحقق ذلك فإن الولايات المتحدة بوجودها المباشر تدعم حلفاءها، وتوفر الضمانة لحماية المناطق الواقعة تحت سيطرتهم في شمال شرقي سوريا (28% من إجمالي المساحة) وكذلك الجنوب السوري، حيث منطقة «خفض التصعيد»، مع إصرار واشنطن على منطقة آمنة للمعارضة في أرياف حلب وإدلب.
كل ذلك يقود إلى استنتاج بأن أميركا التي أنشأت القواعد العسكرية في الشمال والشرق السوريين، حددت مناطق النفوذ، معلنةً رفضها انفراد روسيا بالتسوية السورية وبالحل، وربما أدى هذا الجديد الأميركي إلى خفض سقف توقعات مؤتمر «سوتشي». وموسكو تدرك جيداً أن شرط نجاح واستمرار أي تسوية هو إعادة الإعمار، وإعمار سوريا التي دمّر مغول العصر الحديث كل حواضرها يتطلب أموالاً طائلة غير متوفرة لا عند الروس ولا الإيرانيين، وربما هذا البعد زاد من حجم مفاجأة الوزير لافروف فكشف أن اجتماع القطبين في فيتنام شهد تأكيداً أميركياً لاقتصار اهتمام واشنطن على قتال «داعش» (...)، ملمحاً للمرة الأولى إلى أن الأميركيين أعادوا إثارة مسألة بقاء الأسد في السلطة.
دوماً كان الموقف الروسي ينحو إلى نوعٍ من التوافق مع الأميركيين، لأنه الشرط لانتزاع موسكو الإقرار باستعادة دورها على المسرح الدولي، وإنهاء العقوبات والوصول لقراءة موحدة في تفسير اتفاقية «منسك» بشأن أوكرانيا وتوسع الأطلسي شرقاً. ودوماً منذ مجيء الإدارة الأميركية الجديدة ساد خطاب أميركي آخر وهو أن الإرهاب لا يقتصر على «داعش» و«النصرة»، بل إن نظام طهران هو المسؤول عن زعزعة الاستقرار، ولم تخفِ الإدارة الأميركية يوماً مطالبتها موسكو بالشراكة في كبح نفوذ طهران، وهكذا تبدو الصورة الآن: هناك حاجة روسية إلى شراكة أميركية لأنها مدخل تثبيت وتكريس النفوذ والدور الروسيين أبعد من حدود الشرق الأوسط، والشراكة مع أنقرة وطهران غير كافية، وهناك حاجة أميركية إلى دور روسي لتحجيم النفوذ الإيراني وإنهاء وجود الميليشيات الشيعية في سوريا، وهكذا تشتعل حرب التسوية والنفوذ بعدما حوّل المتدخلون سوريا إلى ساحة صراع، وحرب التسوية ستكون طويلة ما لم تتم مراعاة تطلعات السوريين والإقليم على حدٍّ سواء.
تقول المعطيات الميدانية، وعوامل القتل والاقتلاع والتهجير والنزوح والتشريد واللجوء، التي تعرّض لها الشعب السوري إن نسبة التعداد السكاني في داخل سورية تناقصت بشكل كبير، وإن الشعب الذي بلغ تعداده قبل المأساة بين 22 و23 مليون نسمة قد بقي منه من الذين كانوا "مواطنين" سوريين رسميين ما بين 8 و9 ملايين مواطن فقط يعيشون داخل سورية. وتناقصت كل نسب المجتمعات السكانية السورية المختلفة نتيجة ذلك، إذ لم يعد السنة يشكلون النسبة الأعلى في البلد (أقل من 60%) وما عاد هناك مسيحيون أكثر من 2-3% (بعد أن كانوا 8-10% قبل المأساة) وتناقصت نسبة المجتمع العلوي ما بين 1-2% عن نسبتها السابقة، في حين ازدادت فقط نسبة الوجود الكردي، نتيجة انزياحات ديمغرافية عسكرية الطبيعة، نتجت عن دخول قوات كردية من كردستان العراق وتركيا إلى شمال شرق سورية. كما أن نسبة الوجود الشيعي (كان ضئيلاً جداً قبل المأساة) ارتفعت أخيرا في البلد. لا توجد معطيات علمية تجيز القول إن التعداد السكاني في سورية اليوم ازداد بمقدار ستة ملايين على الأقل عمّا كان عليه قبل المأساة. هكذا خرج علينا النظام، أخيرا، ليقول أن التعداد السكاني لسورية حالياً هو 28 مليون نسمة، 21 منهم داخل البلاد. ما الذي جعل النظام فجأة يهتم بالجهد العلمي، ويقوم بإحصاء سكاني، وهو الذي لم يكن يُعنى لا بالعلم ولا بالواقع الحقيقي لسكان سورية يوماً؟ والأهم: ما الذي دفع النظام للخروج بإحصاءٍ كهذا، في هذا التوقيت، وفي قلب ظروف أبعد ما تكون عن الملاءمة لإجرائه؟ يمكن لسببين استراتيجيين:
أولا، يتحدّث الكل اليوم في دوائر صنع القرار عن انتخابات رئاسية مقبلة في سورية، سيُسمَح للأسد بالمشاركة بها، لا بل وستعمل روسيا، ومن يدعم النظام، على جعله يفوز فيها. وتقول الأرقام الواقعية إن من سيتمكن من الاقتراع داخل سورية سيكونون البالغين من بين الـ 8 و9 ملايين مواطن الذين مازالوا موجودين في الداخل. ولكن، ومع رفع عداد السكان إلى 28 مليونا، سيضخّم النظام أعداد الشطب الانتخابية ولوائحها، بشكل يخرج به الأسد فائزاً في الانتخابات رئيسا بنسبة اقتراع عالية، من مقترعين، قسم كبير منهم تعداد وهمي متضخم، سيتم دعمه بأرقام الإحصاء الجديد، خصوصا وأن هذا الإحصاء ادّعى أن عدد الموجودين في سورية 21 مليونا. وفي إطار تفعيل عملية التغيير الديمغرافي التي بدأها النظام في قلب سنوات المأساة، يصبح الإحصاء ليس ورقة انتخابية فقط، بل وورقة أساسية مرتبطة أيضاً برفض النظام الإقدام على أي محادثاتٍ رسميةٍ مع أي دولة تستضيف نازحين ومشردين سوريين في دول الجوار، بغية إيجاد آليةٍ لإعادة تلك الملايين من السوريين إلى أراضيهم وبيوتهم التي عاشوا فيها وامتلكوها قبل الحرب. يتعمّد النظام تجنُّب هذا، وربما يشرع به بعد الانتخابات الرئاسية، لأنه يعلم أن القسم الأكبر، إن لم يكن الكلي من هؤلاء السوريين لن يقترع له أبداً رئيسا، لهذا يحتاج أن لا يوجدوا على لوائح الاقتراع في الانتخابات العتيدة.
ثانيا، فرق الستة ملايين مواطن مزعوم سوري التي يقترحها رقم 28 مليونا يعبر عن عدد المنازل الخالية التي تركها سوريون مواطنون حقيقيون خلفهم، حين غادروا سورية نازحين أو مشرّدين أو مقتلعين أو لاجئين. هو عدد المنازل التي دمرتها الحرب أو أفرغتها من سكانها. إلا أن النظام قدّم مؤشراتٍ عديدة في السنوات المنصرمة إلى أنه عازم على إعادة إيجاد البنية السكانية في سورية من الصفر، وتغييرها بنيوياً في محاولته توطين أعداد كبيرة من المقاتلين الشيعة، وتجنيسهم وإسكانهم، جاءوا من كل حدب وصوب من العالم الشيعي، لمناصرته والدفاع عنه (مع غضه الطرف عن ازدياد أعداد الأكراد في مناطق تحرسها القوات الأميركية لمصلحته في ذلك)، مع عائلاتهم وأقربائهم، وكل من يرغب بالانتقال معهم للعيش في سورية، كي يكونوا مجتمعاً سوريا جديداً (مجتمعه المتجانس) يعيد بناء الشعب السوري، ويغير نِسبَهُ الديمغرافية جذرياً. تلك الستة ملايين منزل أصبحت "منازل بلا سكان"، وسيجعلها النظام أماكن إقامة وعيش "لسكان بلا منازل"، عملاً بالمبدأ الصهيوني الذي تم تطبيقه على فلسطين "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض". ولأن النظام لا يضمن قدرته على منع السوريين الأصليين من العودة إلى أرضهم بقرار دولي صارم، لا يقوى على الوقوف في وجهه (حين يصدر)، من الضروري منذ الآن تضخيم التعداد السكاني، كي يشمل في سجل السكان تلك الملايين التي يطمح النظام بتغيير بنية الشارع السوري بها في السنوات القليلة المقبلة.
خرج الشعب السوري إلى شوراع وساحات مدنه، منذ سبع سنوات، يصرخ "الشعب يريد تغيير النظام". واليوم، وبعد سنوات المأساة السورية الفظيعة، نجح النظام، بقرار دولي وإقليمي، في أن يحقق مشروع "النظام يريد تغيير الشعب". يعلم كل السوريين اليوم أن سورية التي نعرفها وننتمي لها ونتنفس هواءها لم تعد موجودة. الجديد الذي يهيئنا النظام (وأسياده) لترقبه ومواجهته في القادم من السنين أن الشعب السوري الذي كنّاه ونعرفه، وننتمي إليه، هو أيضاً لم يعد موجوداً كما كان... ما الذي بقي للسوريين؟ ربما بصيص أمل بأن يفشل مشروع تغيير الشعب السوري (بعد أن نجح مشروع تغيير البلد) في ضوء انتفاضة الشعب الإيراني، وفي ضوء بوادر تحاصصات وتقاسمات جديدة تريح الروسي من التزامه بإرضاء الإيراني، قد تـنقذ سوريتنا التي كنّاها يوماً.
عندما يقول الرئيس حسن روحاني في مواجهة المظاهرات الشعبية الغاضبة التي شملت معظم أنحاء البلاد إنه «ينبغي على الحكومة تأمين مساحة للنقد»، فإنه يجانب الحقيقة الصادمة التي باتت تواجه النظام الإيراني، ذلك لأنه يجب أولاً تأمين مساحة للحياة أمام المواطنين الإيرانيين الغاضبين، وهنا تبرز حقيقة المشكلة التي يواجهها النظام المُغلق بطبيعته على كل العناصر والشروط الضرورية لتأمين هذه المساحة من الحياة التي يطمح إليها الإيرانيون.
وعندما يكتفي المرشد علي خامنئي بالقول إن أعداء إيران يقفون وراء المؤامرة، فإنه لا يضيف فاصلة إلى دأبه الدائم على توجيه هذه الاتهامات إلى الخارج والمشكلة في الداخل، حيث يبدو أن السياسات التي يطبقها النظام هي التي راكمت الأزمات التي كسّرت ركائزه، وأثارت السخط الشعبي عليه.
وعندما يدعو صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية إلى التدخل بقوة لوقف المظاهرات والتعامل بحزم مع المتظاهرين، فإن ذلك لا يغيّر شيئاً من القواعد العاتية التي فشلت سابقاً في منع الإيرانيين من التظاهر رغم القمع العنيف الذي تعرضوا له عام 2009.
وعندما يعمَد موسى غنضفر آبادي، رئيس المحكمة الثورية، إلى ترهيب المتظاهرين بالقول إن المعتقلين منهم قد يواجهون الإعدام، وإن إحدى التهم التي قد توجّه إليهم يمكن أن تكون الحرابة، فإن ذلك لا يناقض كلياً حديث روحاني عن مساحات النقد المتاحة للمواطنين فحسب، بل يتناقض مع جوهر الأسباب التي دفعت الإيرانيين إلى التظاهر، إلا إذا كان النظام يعتبر أن التظاهر ضد النظام حرابة!
وقياساً على هذا الأسلوب في التعامل مع المتظاهرين وفي فهم دوافعهم ورفض الاستماع إلى مطالبهم، تغصّ السجون بالمعتقلين، ويمكن أن يُساق بعضهم إلى الإعدام فعلاً، وبهذا تتحول إيران إلى سجن كبير أكثر من ذي قبل، ولكن ذلك لن يغيّر شيئاً من حقيقة أن قواعد النظام الإيراني وركائزه قد تكسّرت تباعاً، على الأقل في أربعة مفاصل أساسية وهي:
أولاً - السياسات الاقتصادية التي فجّرت المظاهرات؛ ففي بلد ينتج أربعة ملايين برميل من النفط يومياً، ويملك الغاز وموارد طبيعية ضخمة، ليس مقبولاً ولا معقولاً أن تصل نسبة البطالة فيه إلى 12.5 في المائة، وأن تلامس في بعض المدن نسبة 60 في المائة، ومن الفاضح أن يعترف برويز فتّاح، رئيس لجنة الخميني للإغاثة الحكومية، عشية المظاهرات، بأن الفقر يصيب 40 مليون إيراني، وأن 11 مليوناً منهم يعيشون في مناطق مهمّشة.
وإذا كانت المليارات التي حصلت عليها طهران بعد توقيع الاتفاق النووي قد تبخرت في الإنفاق على الحروب وتمويل تدخلات إيران الخارجية، فإن حكومة روحاني زادت من الضيق الاقتصادي، ومن رفع مستوى الفقر عند الناس، عندما اتخذت في سعيها إلى ترتيب أرقام الموازنة الجديدة، قرارين أشعلا الغضب الشعبي، أولاً عندما قررت رفع سعر الوقود بنسبة 50 في المائة، وثانياً بعدما أعلنت أنها ستلغي برنامج الإعانات المقدمة للفقراء التي يستفيد منها 34 مليون مواطن، بينما كانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الإيرانية تعلن أن 12 مليون مواطن يعانون من الفقر الغذائي.
الانتقادات الغاضبة انطلقت عندما أظهرت أرقام الموازنة تخصيص الجزء الأكبر منها للإنفاق على «الحرس الثوري» والمؤسسات الدينية المرتبطة بالمرشد، وهو ما دفع فرشاد مومني، وهو الخبير الاقتصادي المؤيد لروحاني، إلى القول لوكالة «إيسنا» إن الموازنة الجديدة ستفاقم أزمة المعيشة التي يواجهها الشعب.
ثانياً - تضع منظمة الشفافية الدولية (transparency international) إيران في مقدمة الدول الأكثر فساداً، فهي تحتل المرتبة الـ 136 من أصل 175 دولة من حيث الفساد، وفي هذا السياق تنسب المنظمة إلى الخبراء أن عناصر الفساد تعمل في شكل هرمي داخل السلطة الحاكمة، وأن الجماعات المرتبطة بأعلى هرم النظام هي التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد الإيراني ولا تخضع للرقابة.
تقول شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، إن «تغوّل الفقر في بلد غني مثل إيران سببه الرئيسي الفساد الحكومي والإنفاق العسكري الكبير»، وهذا أمر واضح، لأن اهتمام النظام يتركّز على حشوات الصواريخ ومداها أكثر من أمعاء المواطنين وصراخهم، ولهذا سبق أن شهدت المحافظات الإيرانية في الأشهر الماضية إضرابات واحتجاجات بسبب تأخر الرواتب وانخفاض الأجور وتفشي الفساد على مستوى السلطة، وجاء في دراسة أجرتها مؤسسة «بورغن» العالمية لمكافحة الفقر أن 5 في المائة من الطبقة الحاكمة تستحوذ على ثروة البلاد، وهي تبدأ بالمرشد الذي تقدر ثروته بنحو 95 مليار دولار، وتتدرج لتضم الحاشية وكبار المسؤولين، وسبق أن تسربت في طهرن وثائق عن فساد رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني وشقيقه علي رئيس مجلس الشورى.
ثالثاً - فشل السياسة الخارجية التي قامت منذ البداية على فكرة تصدير الثورة التي دفعت النظام إلى التدخلات وخوض الحروب الخارجية والإنفاق على التنظيمات والأذرع التي يديرها في الخارج، وعلى هذا لم يكن مفاجئاً على الإطلاق أن يرتفع صراخ المتظاهرين: «لا للديكتاتور - اخجل يا سيد وارحل من إيران - لا غزة لا سوريا لا لبنان أرواحنا فداء إيران - لا نريد الجمهورية الإسلامية - لا لاستغلال الدين - الشباب عاطلون والملالي يحتلون المكاتب».
بات واضحاً تماماً سقوط المعادلة الواهمة التي قام عليها النظام، الذي امتهن التصدير في اتجاهين؛ تصدير الثورة والتخريب إلى الخارج، خصوصاً دول الإقليم، وتصدير الفقر إلى الداخل، خصوصاً مع استفحال الفساد، فلقد انهارت مرة جديدة معادلة قرع طبول «الإنجازات» الخارجية للتغطية على الإخفاقات الداخلية.
رابعاً - انكسار سياسة القمع الداخلية رغم سياسة تكميم الأفواه بعد سحق «الثورة الخضراء» عام 2009 عندما تظاهرت يومها المدن ضد التزوير الانتخابي لتجديد ولاية محمود أحمدي نجاد، ولكن ها هي الأرياف تسابق المدن إلى التظاهر، وها هي القوميات التي يضطهدها النظام تنضمّ إلى المظاهرات: الكرد - العرب - الأهواز - البلوش - التركمان - اللور.
يستطيع النظام الإيراني أن يملأ السجون بالمتظاهرين ويمكنه إعدامهم، لكنه عملياً هو الذي يدخل سجن الشعب وفي النهاية، ومن الواضح أنه فشل تماماً في السياسة الداخلية بقمع الناس، وفي الاقتصاد بتوسيع حلقة الفقر والبطالة، وفي السياسة الخارجية بالتخريب والإنفاق على الحروب وتجويع مواطنيه، وفي المسؤولية كما في النزاهة باتساع حال الفساد التي تسيطر خصوصاً في أعلى هرم السلطة.
واضح أن النظام الإيراني يتقدم بخطى حثيثة على طريق الاتحاد السوفياتي الذي بدأ ينهار مع البيروسترويكا عام 1987، ولكن الأهم من كل هذا الآثار العميقة التي ستنتج عن ذلك على مستوى الأحداث والتوازنات الإقليمية!
غير الإيرانيون المنطقة والعالم أيضاً منذ 1979، وربما كان «الربيع العربي» في 2011 من متواليات الثورة الإيرانية، وها هو «الربيع» يستأنف في إيران كما بدأ قبل قرابة أربعين سنة. كانت الثورة استحضاراً للدين في الصراع وتبدو الثورة اليوم لأجل الاستقلال بين الدين والسلطة، وكان الدين على مدى التاريخ مورداً سلطوياً، ثم انتزعه الثوار والمهمشون والمستضعفون لمواجهة السلطات والمتسلطين، ثم تحول اليوم إلى جوهرة ساخنة جداً لا يستطيع أحد الاحتفاظ بها ولا يريد أحد أن يتخلى عنها.
كان تديين الصراع يمنح السلطات قدرة على الهيمنة ويحرم الإصلاحيين من فرص توظيف اللحظة لأجل تغيير العلاقات المحركة الفرصَ وتوزيعها في المجتمع والدولة. ففي ظل هذه الحروب الدينية، تهيمن القلة الاحتكارية على إدارة البلاد ومواردها، وتمنحها المؤسسة الدينية فرصة الإدارة للموارد بعيداً من قواعدها الأساسية. لكن اللعبة تغيرت وصار تديين الصراع يعمل لمصلحة المتمردين والمهمشين والمعارضين.
لا تريد النخب الاعتراف بأن الأزمة الحقيقية مردها إلى الهيمنة والاحتكار والامتيازات وتفضل بدلاً من ذلك أن تشغل الناس بصراعات دينية ومذهبية وطائفية. لكن الفئات المهمشة والمحرومة وجدت أنها لن تخسر شيئاً طالما أنها خسرت كل شيء تقريباً، وتخوض هذه الحرب اليائسة متحالفة مع المتشددين الدينيين الذين هم أيضاً يمضون في طريق واحد لا خيار فيه سوى الموت. وحتى تأتي اللحظة التي تحتكم فيها الدول والمجتمعات إلى العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع، فستجد أنها خسرت كثيراً بلا فائدة ولا معنى.
لكن، يبدو أن الإيرانيين يغيرون المعادلة مرة أخرى، فكما انتزعوا الدين من السلطة وجعلوه إلى جانب المهمشين، يبدو أنهم يريدون اليوم أن يجعلوه محايداً ليس بيد أحد، وكان آية الله حسين منتظري يعتقد أن هذا هو هدف الثورة عندما نجحت في 1979، وكان يظن أن موقعه المتقدم في قيادة الثورة يمكنه من تحدي النظام الديني، لكنه مضى في تفكيك السلطة الدينية السياسية/ ولاية الفقيه أبعد مما يعززه، أو إلى الحد الذي يضر بها، فعزل ووضع تحت الإقامة الجبرية، عزله الناس الذين يريد أن يحررهم من الهيمنة لكنهم يريدون أن يروه معصوماً أو شبه معصوم. عصمة الإمام وولاية الفقيه وسلطة الفتوى والتحريم والدور الديني للدولة ومعاقبة العصاة والمرتدين صناعة مؤسسية للسلطة ولا يستطيع نقضها أو الإضرار بها حتى الإمام المعصوم نفسه و/ أو الولي الفقيه، كما المفتي وقاضي القضاة، ويطبقها الحاكم بالتزام عميق حتى لو لم يكن مؤمناً بها و/ أو لا يفهم الدين ولا يطبق منه شيئاً. ويتسلى اليوم مثقفون بشتم الجماعات الدينية، متوهمين أن استبعادها ينهي الدولة الدينية، الجماعات ليست بريئة بالطبع، لكنها شريك صغير ليست أكثر من شراكة بائعي الموبايلات في عالم الاتصالات وصناعتها وتجارتها وخدماتها.
ربما تفشل حركة الإيرانيين للتحرر من الهيمنة الدينية السياسية كما فشلت عام 2009، لكنها تعكس على نحو واضح الأزمة الكبيرة والعميقة في عالم الإسلام اليوم، إذ لا بديل للطغيان سواء كان حكماً فردياً أو دينياً سوى الفوضى أو مجتمعات قادرة على تنظيم ذاتها، وهو ما يبدو أصعب من الثورة نفسها، فهذا التنظيم المدني لا يتشكل في فترة قصيرة ولا تنتجه الثورات للأسف الشديد، ولا مجال سوى تسويات معقدة تبدأ بالاعتراف بالتغيير والتأثير المتبادل والمشاركة في الفرص والموارد، وصولاً إلى عقد اجتماعي يجعل من الحريات مورداً منظماً العلاقات والسلطات، ومصدراً للفهم والنظر في المسائل والتحديات، لكن التجارب والنيات السيئة التي أحاطت بجميع المحاولات والتسويات السابقة تظل تدفع بالصراع والجدال نحو الهاوية!
هذه المشاهد التي تأتيكم من سوريا ومن مصر واليمن وليبيا والعراق تبدو كما لو كانت مشاهد من احد أفلام الخيال العلمي. كيف تشابهت طوابير البشر الذين غادروا رفح سيراً على الأقدام بطوابير النازحين من المدن السورية؟
الخرائب التي يخلفها القصف في ليبيا هي نفسها الخرائب التي تراها في أعقاب كل قصف في إدلب أو حلب أو الغوطة أو غيرها. الأب الذي يحمل جثمان ابنه بعد أن ارتقى شهيداً في قصف جوي في سوريا ووالده لا يصدق أنه (لم يعد) موجوداً في سجل الأحياء بنفس سرعة تتابع الحروف في كلمة (فجأة)!
هذه الأنقاض في اليمن التي تشبه شقيقتها في سوريا أو في ليبيا أو في سيناء.
هناك من يقود بلدوزر عملاق ويهدم به منطقة الشرق الأوسط.
ولو قُدر لأحدهم أن يدخل في غيبوبة سنة 2011 ثم يستيقظ الآن, لعاد من جديد إلى الغيبوبة, فشكل المنطقة قد تغير ولم يعد هناك حجر قائم. وفوق كل هذا, هناك حالة من الانهيار الايديولوجي تصاحب حالة التهدم هذه.
وللوهلة الأولى يبدو لمن يرى المشهد ان شيطان الثورات المضادة قد نجح, فهاهو يضرب كل مناطق الثورات بمطرقة تحيل كل ما تلمسه إلى أنقاض. ومع ان مطرقة الثورات المضادة نجحت ظاهرياً في تحطيم كل شيء, إلا أنها اصبحت عاجزة عن الاستمرار ويمكننا القول أن الثورات المضادة دفعت ثمناً باهظاً في جولتها الأولى التي استمرت عدة سنوات حتى الآن.
نجحت الأنظمة في وقف مد التغيير ولكنها انكشفت تماماً امام الشعوب. ولو كانت الأنظمة نجحت في إخماد الثورات, لما احتاج بشار إلى الألاعيب الدعائية من عينة زيارة منزل أحدهم لالتقاط الصور والايحاء بوجود شعبية ولما احتاج الانقلاب في مصر إلى افتتاح خطوط انتاج الجمبري !
الحقيقة أنها بقدر ما اصيبت الثورات بالارهاق واصبحت غير قادرة على الفعل (ولو مؤقتاً) فقد اصيبت الأنظمة هي الأخرى بالانهاك والحديث هنا ليس على قدرة تلك الأنظمة في فرض ارادتها على أرض الواقع, فلابد أنها تحتفظ ببقايا شكل الدولة وتمارس سلطاتها فعلياً بما تبقى لها من مؤسسات, بل الحديث هنا على قدرة تلك الأنظمة على الاستمرار في التظاهر بالاستقرار.
لقد استنفذت الأنظمة مخزونها القمعي خلال السنوات الماضية في محاولة تحجيم موجات التغيير وشل حركتها ولم تنجح سوى في محاصرة الجانب المادي للرغبة في التغيير, بل أننا إذا نظرنا إلى الحالة السورية, لوجدنا أن النظام نفسه اسُتهلك واستنفذت أجهزته واصبح عليه ان يستدعي حلفاءه الاقليميين بتدرج وكأنما يغوص في مستنقع من الرمال المتحركة ينزلق إليه رويداً, فبدأ بحزب الله ثم بإيران وأخيراً روسيا, وهي خطوط دفاعية انهار كل واحد منها تلو الآخر مما تطلب الانتقال لما يليه, وهي كلها خطوط لم تفلح في وقف انهيار النظام السوري.
وهو انهيار بلغ درجات عالية من التردي لم تفلح معها كل جهود النظام الدعائية, فصورة الضابط الروسي الذي يبعد بشار الأسد إلى الخلف ويمنعه من الاقتراب ريثما يلقي بوتين كلمته في قاعدة حميميم العسكرية التي تمثل قمة هرم السيادة الذي من المفترض أن يمثله بشار (بحسب ما يقولونه للشعوب) كشفت بصورة فجة ما كان يدور في الغرف المغلقة لعقود وأن النظام السوري مجرد تابع.
اللطيف أن هذه المشاهد لم يكن من الممكن أن تدور بخلد أشرس المطالبين بـ (الاستقلال) عن الدولة العثمانية منذ مائة عام, ولم يكن بإمكان أي منهم تصور أن أحفاده سيدفعون تلك الضريبة الباهظة لنيل استقلالهم من الاستقلال المزعوم الذي ظنه ونادى به.
وفي مصر يمكن القول أن نظام العسكر والذي ظن أنه جدد دماءه بانقلاب 2013, اصبح بحاجة إلى ألعاب الحواة لاقناع الجمهور العازف عن المشاركة الذي ملَّ كلَّ شيء, بأن يشارك في مسرحية الانتخابات بينما هو لم يقدم لهم سوى زيادات في الأسعار وتردِ في الأوضاع الأمنية.
وربما كان الجانب الايجابي الوحيد للثورات المضادة هو انها كشفت حقيقة تلك الأنظمة
أي ثورة أيديولوجية يتراجع وقودها بمرور الوقت لتأخذ بعداً يتعامل مع الواقع. لكن إيران تظل حالة خاصة، إذ أدت حربها مع العراق إلى تكتل وطني خلف شعارات الثورة، ثم جاء الحصار الاقتصادي الغربي ليزيد من تماسك الجماهير خلف الثورة وأهدافها. ومن هنا تأخر التعاطي الواقعي في ظل صراع مكتوم، حتى مع تآكل واضح لجيل الثورة الإسلامية، وتغير المعطيات على الساحة، وتفاقم التنازع بين أجنحة النظام. فجيل الإصلاح المنفتح نسبياً على الخارج والذي عبّر عنه محمد خاتمي، تراجع مع مقولات محمود أحمدي نجاد حول الإصلاح مِن داخل أيديولوجيا الثورة الإيرانية.
لذا فإن نجاد، على رغم غيابه عن سدة الرئاسة، يمثل حالة زخم ويعبر عن قدرات المرشد العام أحمد خامنئي. فالشعبويه الدينية تغلبت على النخبة في صورة نجاد الذي عاش في أزقة جنوب طهران بعد نزوحه مع أسرته من مدينة كرمسار الفقيرة، واحتكاكه بالفقراء جعله يحولهم إلى طاقة تخدم سياسته. اعتمد نجاد على سرعة الحركة مع سرعة التطورات، واستعان بمن يثق في قدراتهم على الإنجاز. لكن حسن روحاني يمثل الإصلاحيين التقليديين الذين يستمدون نفوذهم من رأس الدولة الدينية مباشرة. عموماً المستقبل سيكون مختلفاً في إيران، إذ إن طول أمد الحروب والصراعات التي خاضتها منذ بداية ثمانينات القرن العشرين، أدى إلى رفض الأجيال الجديدة فكرة نشر النفوذ المذهبي أو السياسي، من دون عائد إيجابي على مستوى المعيشة.
لذا هناك صراع لن يكون بين الإصلاحيين التقليديين الذين يعدون امتداداً لرفسنجاني أو خاتمي، أو إصلاحيي الداخل بزعامة أحمدي نجاد، لكن بين هذين الجناحين وأجنحة جديدة، ستتجلى ربما بحرب شوارع. هنا تبدو الأقليات العرقية والمذهبية المهمشة، مثل العرب والترك والأذريين والكرد والبلوش، أمام فرص إما للانفصال أو الحصول على حكم ذاتي، في ظل صراع داخلي بين الشيعة والسنة لطالما حرصت طهران على وأده في السابق.
هل يعني هذا أن إيران ستتخلى عن سياسة تصدير الثورة؟ في حقيقة الأمر تعد إيران تنشيط المذهب الاثنى عشرة أداة لامتداد نفوذها السياسي، لذا فإنها لو تخلّت مرحلياً عن دعم نشر هذا المذهب، فإن ذلك سيرتبط بمدى قوة نظام ولاية الفقيه، فضلاً عن انتقال البلد من مرحلة الثورة الأيديولوجية إلى مرحلة الواقعية السياسية. لذا يتوقع أن نشهد تقزم إيران مرة أخرى إلى دولة مهمة لها حساباتها في المنطقة بدل أن تكون لاعباً رئيسياً، خاصة أنه يُنتطر حصول في تغير تركيبة الحكم سواء بتراجع أو اختفاء سلطة ولاية الفقيه. وتلك ستكون بداية استعادة العرب السنة في العراق دورهم السياسي بما يعيد توازناً مع الشيعة بات مفقوداً في السنوات الأخيرة، ثم إنهاء حربي اليمن وسورية وصعود قوى عربية تحدث توازناً إقليمياً.
ويلاحظ أن الضغوط الاقتصادية في الداخل الإيراني تمثل تحدياً لنظام الحكم في إيران. فأمل الإيرانيين بتحسن الأوضاع بعد الاتفاق النووي تراجع بشدة مع تصاعد البطالة في أوساط الشباب إلى نسب غير مسبوقة، فضلاً عن الحاجة الماسة الآن إلى إعادة التوازن بعد أن طغت موازنة الطموحات الإقليمية على حساب موازنة التنمية.
خيّبت "الثورة الإسلامية" في إيران آمال الشعب الإيراني بعد 39 سنة من الحكم، فهي أغدقت الوعود بـ"التغيير"، ولكن النظام تحول شيئاً فشيئاً إلى نظام ديكتاتوري فاسد، لا يختلف عن النظام السابق الذي خلَفته الثورة أي نظام الشاه. ولا تأتي التظاهرات والاحتجاجات الإيرانية من عبث حتى لو حاول المشككون والمدافعون عن النظام الحاكم أن يقللوا من شأنها، ويستطيع نظام الملالي أن يلقي التهم يميناً وشمالاً ككل الأنظمة الديكتاتورية التي تتذرع بنظرية المؤامرة في كل مرة تواجه عجزاً عن حل أمورها مع شعوبها، ولكن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تعصف بالنظام الحاكم ولن يستطيع أن يتجنبها.
يقف برج الحرية أو برج آزادي في وسط ساحة طهران، هذا الصرح الذي شيد عام 1971 ليرمز إلى الحداثة، متفرجاً على عناصر النظام يزرعون الساحات مقابر ومحولين أجواء العاصمة الإيرانية إلى أجواء موت وكآبة من مقبرة "بهجت الزهراء" إلى "ضريح الخميني"، لا يوجد بلد في العالم يمجد الموت كما في إيران، شعارات الموت "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل" والموت لكل من يعادي إيران تخرج صادحة من الحناجر عقب كل صلاة جمعة، إذ إن هذا النظام وبعد الحرب العراقية الإيرانية حوّل الساحات العامة إلى مقابر جماعية ومراكز لتشريف ضحايا الحرب، وأجبر الناس على حضور صلوات الجمعة بموجب القانون، ومع أن إيران بلد إسلامي، أصبح من يلبي حضور صلوات الجمعة لا يزيدون عن ثلاثة بالمئة من السكان، وهؤلاء يأتون خوفا من فقدانهم لوظائفهم، أو فقدان الحظوة في الجامعات بالنسبة للطلاب، والكثير منهم يعتبر أن صلاة الجمعة فقدت جوهرها الديني وأصبحت منتدى للنظام من أجل تحفيز مناصريه وإعادة تأكيد ايديولوجيته، ذلك أن الجيل الجديد من الشعب الإيراني بدأ "يتخلص من الوهم" لقائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني، حسب تعبير "ماكس فيبر" عالم الاجتماع الذي فسر الدينامية التاريخية من منظور الكاريزما والروتينية و"سيادة الرجل الكاريزمي"، كاريزما الساعة الأولى (شعلة الحماس) بدأت تخبو أو هي انطفأت بالفعل، لذا يحاول من خلف القائد الأول الخميني أي علي خامنئي أن يسد الفراغ الذي خلّفه القائد الأول ولكنه يعجز لأنه لا يملك الكاريزما القيادية "الخمينية"، فقام بالاتكال على القمع الذي يمارسه الجناح العسكري أي الحرس الثوري الإيراني (حرس الباسداران).
لا يستطيع الإنسان مهما كان مؤمنا بالقضية أية قضية أن يعيش وهو يشعر بأنه مراقب على طريقة الأخ الأكبر، حيث تخضع الجامعات لرقابة وحراسة مشددة عن كثب من جهاز استخبارات وعناصر الحرس الثوري أو عبر تجنيد شبكة من الطلاب ليتجسسوا على زملائهم، وهذا ما يشكل عاملاً من الضغط النفسي الرهيب، كما يعيش المواطن الإيراني تحت ضغط "الاقتصاد المقاوم،" حيث وحسب عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، محمد رضا باهنر، فإن عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر وصل إلى 18 مليون شخص من أصل 80 مليون نسمة، أي ما يقارب ربع السكان، عوامل دفعت إلى ارتفاع نسبة متعاطي المخدرات، وحسب منظمة مكافحة المخدرات الإيرانية فإن 2.8 مليون مواطن أي حوالي 3.5 في المئة من السكان يتعاطون المخدرات بانتظام، وهذه نسبة عالية بالنسبة لبلد إسلامي محافظ.
تحول النظام الإيراني وبعد حربه مع العراق إلى دولة انتقامية هجومية خوفاً من حرب محتملة عليه، أما مع جيرانه عن طريق التوسع أو عن طريق شن الحروب، أو عن طريق زرع أو دعم ميليشيات وتيارات شيعية متشددة متطرفة دينياً خارج أراضيه على نسق حزب الله اللبناني ولواء فاطميون الأفغاني والحوثيون في اليمن والحشد الشعبي العراقي، ولكن هذا ما كلفه كثيراً مادياً ومعنوياً، وكان كله على حساب بنيانه وقوته الداخلية، إذ رويداً رويداً فقد التواصل مع مواطنيه وفقد المواطن الثقة والأمل "التغييري" بهذا النظام، إذ تكشف للشعب الإيراني أن هذه الثورة لم تفِ بأي من وعودها، وأنها لم تكن سوى حركة دينية إقصائية وإزاحة كل من يعارضها ومن ساهم في نجاحها داخليا، وأن مزراب الذهب الإيراني يتدفق إلى الخارج ليغذي حروب النظام العبثية الخارجية، وهذا ما سمعناه في الهتافات المنددة في التظاهرات "انسحبوا من سوريا وفكروا بنا" و"لا للبنان ولا لغزة.. نعم لإيران" و"الموت لحزب الله".
قد يكون الشعب الإيراني بدأ ثورته الاجتماعية ولكن هذه الثورة لم تبدأ الآن بل كانت تتحضر في النفوس لتنفجر اليوم، لكل شعب ساعة بيولوجية خاصة به، وهي التي تقرر موعد استيقاظه، والشعب الإيراني قد يكون اختار الآن أن يخرج إلى الشارع، إذ لا يهم الإيراني فتوحات النظام الخارجية وهلاله وبدره الذي بشر به قيس الخزعلي من على الحدود اللبنانية، وفي طهران العاصمة هناك من يعرض أطفاله وأعضاء جسده للبيع.
"الثورة الإيرانية" ذات طابع اقتصادي اجتماعي سياسي، ومع تمدد رقعة التظاهرات وتوسعها لتشمل كل محافظاتها وأكثر من 70 مدينة من تبريز إلى الأهواز، مشهد وكرمان، علماً أن ما يصل إلى الإعلام هو القليل، حيث معلوم التضييق الذي يمارسه النظام على وسائل التواصل والإنترنت والإعلام، يتبين أن النظام يخسر يوميا في تعامله مع مواطنيه، وهو يعلم ذلك، ذلك أن الجيل الشاب الإيراني الذي يتحرك للحاق بركب التطور يرى نفسه متأخرا أشواطا عن المجتمع العالمي، وهو يشعر بالإحراج من العيش بهذا التخلف في بلد ما زال يعيد دورة الحياة إلى القرون الوسطى، من هنا تأتي مطالبة الشعب الإيراني "بالاستفتاء" وبتغيير النظام، يكفي ما صدرته الثورة الإيرانية إلى الخارج ونموذجها حزب الله، حيث طالعنا أمينه العام السيد حسن نصر الله في مقابلته الأخيرة يقول إنه لا يستطيع أن يرشح "أخت" إلى الانتخابات حسب تعبيره طبعا، لأنها لا تستطيع أن تقوم بالواجبات الاجتماعية من تقديم عزاء أو تهنئة أو ملاحقة معاملات، ولكن على المجتمع الدولي أن يترك الشعب الإيراني وشأنه، وأن لا يتدخل كما يفعل رئيس الولايات المتحدة الآن، إذ لا يفعل سوى التأثير السلبي على مجريات الأحداث، ودفع النظام الإيراني إلى الاعتماد على هذا الخطاب كتهمة تلصق بهذا التحرك والقول بأن قوى الاستكبار هي وراء التظاهرات.
قد يكون من المناسب أن أعيد ما كتبته منذ شهرين عقب استفتاء كردستان أي منذ أكثر من شهرين: "مرة جديدة تريد إيران أن تخوض حروبا على غير أراضيها، لا يهمها إن قامت حرب وإن سقطت أرواح طالما الدماء هي دماء عربية وكردية، المهم جشعها ومكاسبها طالما الحرب بعيدة عن ديارها، تظن أن الحروب والانقسامات لن تطرق أبوابها، هذه المرة قد تواجه ثورة داخلية بدأت مع ثورة أكراد كردستان".
هذه الثورة مستمرة، وقد يكون النظام ما زال قويا ويستطيع أن يقمع المتظاهرين بالقوة وهو يملك وسائله للقمع، ولكن المهم أنه بات يعلم أن بنيانه تخلخل ولن يستطيع أن يقف شامخا لأن الأرض تحته تزلزلت، وعقدة الخوف انكسرت لأن الشعب يطالب بـ"خبز عمل حرية" قد حدد معالم طريقه وهو بذلك عرف معنى الصرح المزروع في وسط ساحة الحرية في طهران، هذا الصرح الذي يرسم الطريق الذي ينتظر البلد منذ زمن.. الحرية.
قرابة الأربعين عاما مضت لما يمكن وصفه بآخر الأنظمة ظهورا في المنطقة، وبظهوره شهد الشرق الأوسط أسوأ التحولات والظروف والمتغيرات وعلى مختلف الأصعدة، وطيلة الأربعين عاما لم ينتج هذا النظام للمنطقة وللعالم إلا تراجعا أمنيا وثقافيا وحضاريا كذلك، تحول النظام في إيران إلى أزمة حقيقية للعالم وأزمات يومية متنوعة في المنطقة، ولم يؤسس النظام لنفسه أيا من عوامل البقاء والاستمرار والحيوية، ولم يحقق طيلة أعوامه الماضية أية مكاسب داخلية أو خارجية يمكن أن تجعل من بقائه مطلبا لأي طرف إقليمي أو دولي، بل الواقع على العكس من ذلك تماما.
اليوم على الإيرانيين وعلى المنطقة وعلى العالم كله السعي بكل جدية وواقعية للتخلص من هذا النظام، إنه أشبه ما يكون بتلك الأوبئة أو الأخطار الحضارية المدنية التي يتحفز العالم كله لمواجهتها، حفاظا على أمنه واستقراره ودفاعا عن مكتسباته الحضارية والإنسانية، لماذا إذن يجب التخلص من هذا النظام وتغيير الواقع السياسي في إيران ؟
أولا: يمثل النظام آخر نموذج في العالم للدولة الدينية الكهنوتية المتغلبة بقوة الأساطير والغيبيات، والنظام الوحيد الذي يدار دينيا وسلطته الأعلى هي سلطة الدين لا النظام ولا القانون ولا الأعراف ولا حتى المصالح السياسية، وتمثل المسألة الدينية محور النظام والموجه الفعلي لسلوكه وتوجهاته السياسية، وبالتالي فهو لا ينتمي لنا في هذا العالم الذي تحركه مصالح السياسة والأمن والتنمية والرقي، وما يقوم به النظام من تأسيس ودعم للميليشيات في لبنان واليمن والبحرين لا يَصُب في مصلحته السياسية ولا علاقة له بأمن إيران الإقليمي، بل على العكس من ذلك تماما، وهو يقوم بكل ذلك انصياعا للتعليمات الدينية المتطرفة.
ثانيا: يحاول النظام الدفاع عن نموذجه الذي لو كتب له البقاء فسيمثل شرخا حضاريا كبيرا وسيؤسس كما حاول طيلة العقود الماضية لفكرة أن الدينية الكهنوتية يمكن أن تبني دولة، وهو ما شجع كل الجماعات والميليشيات والأحزاب الموجودة في المنطقة.
ثالثا: تخلو المنطقة العربية اليوم من أي أحزاب أو تيارات مدنية أو علمانية حيث استوعبتها الدولة الوطنية الحديثة، وكل الأحزاب والحركات والميليشيات القائمة التابعة لإيران تنطلق من موقف ديني غير وطني وتمثل أبرز عوامل تهديد الأمن والاستقرار في بلدانها والمنطقة، وأكثرها مصنف في المنطقة والعالم كمنظمات إرهابية، وإذ تمثل تلك الميليشيات أبرز منتج إيراني للمنطقة فهي تعكس رؤية النظام المستقبلية التي تقوم على هدم الدولة الوطنية ومواجهة الانتماء الوطني بالانتماء المذهبي والإعلاء من الطائفية التي تتجاوز الدولة لصالح الميليشيا.
رابعا: أبرز محفز للإسلام السياسي هو النظام الإيراني ويشمل ذلك الإسلام السياسي الشيعي والسني، وبقاء النظام واستمراره يعني توسيع فرص التهديد المستمر للكيانات الوطنية في المنطقة والاستمرار في بناء النظم الميليشياوية المتطرفة التي تريد أن تجعل من الدين والمذهب والطائفة محورا لبناء كيانات جديدة لن تقدم إلا مزيدا من العنف والتشدد ومواجهة كل قيم الحضارة الإنسانية.
خامسا: كانت الحياة العامة في المنطقة قبل الثورة الإيرانية تسير في تصاعد حضاري متوازٍ مع ما يحدث في العواصم الأوروبية، وجولة يسيرة على لقطات للحياة في القاهرة وبغداد ودمشق قبل الثورة تبرز ذلك بكل وضوح، جاءت الانتكاسة الثقافية الكبرى في المنطقة بعد الثورة وأصبح التدين المتشدد إشكالية يومية كبرى هجمت على كل شيء وتراجعت الحياة المدنية في المنطقة وبرزت توجهات مناهضة للثورة الإيرانية لم يكن أمامها إلا الإعلاء من الشأن الديني المتشدد، ردا على مزايدات الثورة واستخداما لذات السلاح وتصاعدت الطائفية في المنطقة إلى أقصى حدودها وتفشت مظاهر التشدد في كل شيء.
سادسا: الجغرافية الإيرانية شبه معطلة اليوم وإسهامها الحضاري والتنموي لا قيمة له لأنها ترزح تحت نظام لا يتصل بالواقع، إنه نظام يقاتل ويتصرف ويبني اقتصاده ومواقفه انطلاقا من الغيب والتاريخ ولا علاقة له بالواقع، وإذا ما تغيرت المعادلة فسيتمكن هذا الجزء من العالم من استثمار مقدراته الحضارية والجغرافية.
سابعا: لا يمكن الرهان على أن يغير النظام الإيراني سلوكه لا في الداخل ولا الخارج، فالقضية ليست أصلا في سلوكه، لأن كل تصرفاته نتيجة طبيعية لبنيته الفكرية التي تأسس عليها، وإذا ما تغير سلوكه بالفعل فهذا يعني تغير بنيته وهو ما لا يمكن أن تقوم به النخبة الحاكمة في طهران.
ثامنا: كل دول المنطقة اليوم في حراك مستمر وواسع نحو مزيد من التغير والتحديث والانفتاح والتعايش وتشهد عواصم المنطقة إيقاعا عاليا في المشاريع والقرارات المدنية التي تعزز قيم الحياة المتحضرة وتصبح جزءا من العالم المتجدد، لكن النظام الإيراني يقع خارج ذلك كله، ويسعى لإعاقة كل تلك الخطوات بالحروب والمكائد والميليشيات والتشدد والطائفية، ولكي تواصل المنطقة نماءها يجب أن تتخلص من هذا الخطر المتربص.
تاسعا: هذا العالم الجميل وهذه الحياة التي تطيب كل يوم وهذه التقنيات والثورات الاتصالية والتقدم في مواجهة الأخطار والانتصار على الأمراض والأوبئة والخطوات الكثيفة نحو مستقبل متحضر حيوي واتصال إنساني وقيمي هو أعلى ما توصلت إليه الإنسانية، كل ذلك لا يمكنه أن يستوعب نظاما كالنظام الإيراني، ولا ذلك النظام لديه القدرة على استيعاب هذا العالم، وبالتأكيد العالم الجديد هو الذي سينتصر.
تعرضت روسيا إلى أكبر هجوم منذ أن تولت حماية النظام السوري عام 2015. فأمس الأول، أكدت المتحدثة باسم خارجيتها، ماريا زاخاروفا الهجوم الذي وقع يوم 31 ديسمبر الماضي، واستهدف مطار حميميم.
وخلال تأكيدها استخدمت زاخاروفا جملة هامة، حيث قالت "القوات الروسية محمية بشكل جيد بفضل منظومة الدفاع الجوي.لكن ما يثير القلق هو أن الإرهابيين يمتلكون أسلحة حديثة..".
وأعلنت المتحدثة أن الهجوم يهدف إلى عرقلة "مؤتمر الحوار الوطني السوري" المزمع عقده في مدينة سوتشي الروسية، والذي تأجل بعد اعتراض تركيا على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي إليه.
ونفت زاخاروفا ما ذكرته صحيفة كومرسانت، التي كشفت عن الهجوم، عن إصابة سبع طائرات حربية.
ومنذ الكشف عن الهجوم مطلع الأسبوع لم يتبنه أحد حتى الأمس.
من الملفت أن منظومة الدفاع الجوي "Pantsie-S1"، التي تحمي مطار حميميم، على الرغم من تشغيلها، لم تتمكن من تدمير كافة الصواريخ الحديثة المصوبة تجاه المطار. وهذا ما يشير إلى أن عددًا كبيرًا من الصواريخ استُخدم في الهجوم.
السؤال الرئيسي يطرح نفسه في هذه النقطة..
إذا كان الهجوم من تنفيذ عدد من التنظيمات "المتطرفة" ومن بينها جبهة النصرة كما أعلنت موسكو، يجب العثور على إجابة لسؤال "كيف حصلت على هذا النظام الصاروخي؟".
استخدم داعش صواريخ "غراد" روسية الصنع بعد تركيبها على شاحنات صغيرة. وهذا النظام المتحرك والفعّال في ساحات القتال يمكنه إطلاق 40 صاروخًا على المنطقة ذاتها خلال ثوانٍ.
استخدمت قوات المعارضة صواريخ غراد العام الماضي لدحر هجوم النظام على حلب العام الماضي. ولم تظهر إجابة آنذاك عمن قدم الصواريخ ذات المدى 18-45 كم، للمعارضة السورية. ولاحقًا استخدمت جبهة النصرة وداعش هذه الصواريخ.
وفي الواقع، لم يقتصر هجوم المعارضة السورية بالأسلحة الحديثة على القصف الأخير.
فالأسبوع الماضي أُسقطت طائرة للنظام السوري بواسطة صاروخ محمول على الكتف. وقبل أيام سقطت مروحية روسية من طراز Mi-24 وهي متجهة إلى مطار في حماة وقُتل طياراها، وأعلنت موسكو أن الطائرة سقطت بسبب "عطل فني".
عدم توسع هذه الهجمات المتوالية في إدلب، التي اعتبرت منطقة خفض توتر بموجب مباحثات لأستانة، أمر غير ممكن. فروسيا ردت أمس الأول على الهجوم بقصف مكثف على إدلب. ولم يسلم مستشفى السلام في معرة النعمان خلال القصف.
تمكنت روسيا من كسر إرادة المعارضة والسكان المدنيين في حلب قبل عامين من خلال فرض نموذج يستند إلى القصف المكثف على كل نقطة مستهدفة دون مراعاة وجود مدنيين فيها.
فإذا اتجهت الأمور إلى هذا الاتجاه سيؤثر ذلك على مؤتمر سوتشي الذي يثور خلاف بالأساس حول من سيشارك به.
والأهم من ذلك هو أنه مع انتهاء خفض التوتر في إدلب سيكون هناك موجة نزوح جديدة، وهذا ما ستكون فاتورته ثقيلة على تركيا، وسيجر المنطقة إلى وضع متأزم يستحيل الخروج منه..
بدا واضحا منذ انهيار منظومة "تنظيم الدولة الإسلامية" في الشرق السوري أن مرحلة جديدة من الصراع ستفتح بين النظام من جهة و "قوات سوريا الديمقراطية" من جهة ثانية.
وتصريح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني قبل نحو شهرين من أن الرقة ستكون الهدف المقبل، ليس تصريحا عاديا يمكن المرور عليه، فالرجل الذي يمتلك مهارة سياسية عالية خبرها طوال ستة عشر عاما قضاها كوزير للخارجية، لا يمكن أن يطلق مثل هذا التصريح عبثا.
الوجود الأمريكي الذي يبدو أنه شبه مستدام في سوريا يؤرق طهران ودمشق أكثر مما يؤرق موسكو، فهذا الوجود يمنع النظام من استكمال سيطرته على الشمال والشمال الغربي الغني بالثروات الطبيعية، ويحول دون إعادة عافية الاقتصاد، في وقت يحد من المرور الإيراني البري المريح.
ولا يمكن اعتبار اتهامات الأسد الأخيرة لـ "قوات سوريا الديمقراطية" بالخيانة منعزلا عن هذا السياق، فالتصريح يأتي عشية انطلاق محادثات استانا التي ستحدد في نسختها الثامنة مصير المرحلة المقبلة لمحافظة إدلب ومحيطها، وربما تحدد أيضا طبيعة مواجهة الوجود الأمريكي.
بطبيعة الحال، لا يسمح التوقيت الحالي بإطلاق معركة عسكرية بين النظام و "قسد" بسبب فائض القوة لدى الطرفين، وبسبب رفض موسكو وواشنطن لمثل هذه المعركة، ولعل رفع سقف الرد الكردي على تصريحات الأسد يؤكد أن المعركة غير واردة في هذه المرحلة، لا العكس.
العلاقة بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية علاقة مفارقة، وربما تكون التعبيرَ الأفضل عن مفارقات الأزمة السورية.
ارتبط الحزب بعلاقات أمنية ـ عسكرية واضحة مع النظام منذ 2012 في حين رفض أن يكون جزءا من سياسته، ويرتبط بتحالف واضح مع الولايات المتحدة بينما يمد جسور التواصل والتنسيق مع الروس، ويرفض محاربة النظام في حين يقدم نفسه على أنه جزء من المعارضة.
هذا الوضع المعقد سمح للحزب وأذرعه العسكرية بالبحث عن مساراتهم الخاصة، دون الوقوع في مصيدة النظام / المعارضة.
ما جرى قبل أشهر بين النظام و "قسد" في بلدة العكيرشي بالرقة، وما جرى في أحياء حلب قبل أيام، يمكن أن يتكرر في مناطق عدة تسيطر عليها "قسد"، خصوصا في أقصى الشمال الشرقي وأقصى الشمال الغربي لسوريا.
وهكذا نشأت خلال السنوات الماضية معادلة "تحالف الضرورة"، لكن تحت هذا التحالف يكمن الخلاف العميق بين الجانبين، وظل كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه عدو، لكنه عداء مؤجل حكمته ضرورات الحرب: بالنسبة للنظام فإن الأولوية هي لمحاربة فصائل المعارضة الوطنية التي تمتلك وحدها الشرعية في تغيير الحكم، وبالنسبة للوحدات الكردية فالعدو الرئيسي هو الذي يمنعها من بسط هيمنتها في مناطقها.
في المراحل السابقة لم يمنع النظام توسيع النطاق الجغرافي لهيمنة "قسد"، لكنه اليوم لا يتحمل بقاء الوضع على ما هو عليه، ويبدو مستعجلا للقيام بخطوات عسكرية ما، لا تصل إلى مستوى فتح معركة متكاملة، لكنها كافية لضبط العلاقة مع القوى العسكرية الكردية، مستغلا الاستعجال التركي لحسم مصير ريف حلب الغربي والشمالي.
وإذا كان مفهوما النشاط العسكري التركي خلال المرحلة السابقة في ريف حلب الغربي وإزالة الجيش التركي لقسم من الجدار المحاذي لمدينة عفرين، فإن توجه قوات عسكرية روسية من مدينة تل رفعت إلى قرية الشيخ هلال لا يبدو مفهوما، ذلك أن الدخول العسكري الروسي إلى تل رفعت قبل أشهر كان بهدف ضمها إلى مناطق خفض التوتر وقطع الطريق أمام الأتراك.
إما أن الروس يمهدون الطريق للأتراك للسيطرة على تل رفعت ومحيطها مقابل ترك عفرين للوحدات الكردية، أو العكس، أي ترك الروس تل رفعت للوحدات الكردية مقابل تخليها عن عفرين إما لصالح تركيا أو لصالح النظام.
وثمة احتمال آخر متعلق بترسيم الروس للحدود بين "قسد" وفصائل المعارضة في تلك المنطقة، كمقدمة لتسيم جغرافي في عفرين بحيث تحل قوات النظام محل الوحدات الكردية، لتترك محافظة إدلب لتركيا في هذه المرحلة على الأقل.
فرضت المرحلة السابقة إقامة "تحالف الضرورة" بين النظام والوحدات الكردية، في حين ستفرض متطلبات المرحلة المقبلة إقامة ما يمكن تسميته "مساكنة الضرورة"
وما جرى قبل أشهر بين النظام و "قسد" في بلدة العكيرشي بالرقة، وما جرى في أحياء حلب قبل أيام، يمكن أن يتكرر في مناطق عدة تسيطر عليها "قسد"، خصوصا في أقصى الشمال الشرقي وأقصى الشمال الغربي لسوريا.
لن تسمح روسيا بنشوء معركة عسكرية بين النظام والوحدات الكردية، ليس فقط لأن هذه المعركة ستؤدي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة فحسب، بل لأن الروس بحاجة ماسة إلى القوى العسكرية والسياسية الكردية في المرحلة المقبلة لاستكمال مخططاتها في رسم معالم التسوية السورية.
وإذا كانت القوة الكردية تعبر عن نفسها عسكريا على أرض الواقع، فإنها ستعبر عن نفسها في مقبل الأيام كقوة سياسية، هذا أمر تدركه موسكو ولذلك تبدو حريصة على إدخالهم إلى الساحة السياسية عبر مؤتمر سوتشي المقبل.
وبناء على هذه الوقائع والتطورات؛ يصعب تحديد مسار العلاقة بين النظام والوحدات الكردية، ويرتبط الأمر بطبيعة التحالف الأميركي/ الكردي، ومدى وحدود السياسة الأميركية في الشمال السوري.
لقد فرضت المرحلة السابقة إقامة "تحالف الضرورة" بين النظام والوحدات الكردية، في حين ستفرض متطلبات المرحلة المقبلة إقامة ما يمكن تسميته "مساكنة الضرورة".
حتى أسبوع مضى، كانت إيران تبدو مستقرّة، لم تصل إليها رياح التغيير التي عصفت بالمنطقة، أو تتأثر من جرّاء الحروب الكبيرة من أفغانستان إلى لبنان واليمن، مرورا بالعراق وسورية. وعلى الرغم من أنها محرّك أساسي في كل ما يحصل داخل هذه الجغرافيا الشاسعة المتفجرة، إلا أنها بقيت قادرةً على تجنيب نفسها وصول الشظايا إليها.
منذ أسبوع، قرّر الشارع الإيراني أن يهزّ ثبات المعادلة التي تعايش معها الإيرانيون عدة عقود، ويولّد مفاجأةً خارجةً عن كل الحسابات. هذه هي المرة الأولى التي يواجه الحكم في إيران، منذ سقوط الشاه، حركةً احتجاجيةً واسعة، تضع البلد أمام استحقاقاتٍ كثيرة، داخلية وخارجية.
ويكمن التحول الأساسي في تحرّك الشارع ضد نظام الحكم، وهو الأمر الذي لم يكن في حساب أحد، وقد حصل الأمر من دون مقدماتٍ أو أي إشاراتٍ وعلاماتٍ مسبقة، ويبدو، حتى الآن، أن العالم الخارجي ليس وحده الذي فوجئ بالهزّة الشعبية في بلدٍ اعتاد الزلازل، بل السلطة الإيرانية نفسها التي يشهد العالم بصلابة نظامها الأمني والاستخباراتي الذي بلغ من القوة حد إحصاء أنفاس الشعوب في عموم المنطقة، وليس شعب إيران فقط.
وصل النظام الأمني والسياسي الإيراني إلى درجةٍ من التعقيد التي يبدو فيها التفكير بإمكانية زعزعته من الداخل ضربا من الخيال، وهو يعد الإنجاز الوحيد الذي استطاعت أن تحقّقه المؤسسة الحاكمة منذ نحو أربعة عقود. كل ما قامت به هو الاستثمار في بناء نظام حديدي قائم على أجهزة أمن وجيش وطبقة واسعة من رجال الدين، وما عدا ذلك، لم تنجز اقتصادا متينا، ولا دولة مدنية حديثة، تحكمها المؤسسات والقانون.
أهمل النظام الإيراني شعبه، وصرف جل وقته، وسخّر موارده الاقتصادية، على تحقيق طموحاتٍ خارجية، بدءا من تصدير الثورة في مطلع الثمانينات، إلى بسط النفوذ على عواصم عربية ذات ثقل سياسي وتاريخي، مثل دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء. ومن هنا، وصل الوضع الداخلي الإيراني إلى مستوىً من التعقيد الذي يجعل من الحراك الشعبي ضده اليوم مشتبكا ومتداخلا ومرتبطا بقضايا خارجية كثيرة، في الوقت الذي يفتح فيه الأبواب بسهولةٍ لأعدائه الخارجيين.
الأعداء الخارجيون للنظام الايراني كثر، ومن لم يكن عدوا فقد كان يسايره من أجل مصالح ومنافع اقتصادية او سياسية. ويأتي الحدث اليوم ليعيد خلط الأوراق، ويجعل من حركة الشارع بوصلةً للمواقف الخارجية، فإذا كسبت الاحتجاجات مساحةً تستطيع أن تقف عليها لمواجهة أجهزة القمع ستجد إلى جانبها كل القوى الإقليمية والدولية المتضرّرة من النظام الإيراني، وفي هذه الحالة سوف يزيد الضغط عليه من أجل استنزافه، وتصفية الحسابات معه. وحتى لو نجح النظام في احتواء الاحتجاجات، فإنه لن يتمكّن من ذلك إلا من خلال القوة، وهو في هذه الحالة لن يكون في موقع من ربح الرهان، بل سوف يخرج ضعيفا، ويجد نفسه، بعد حين، مجبرا على التراجع، من أجل حماية نفسه، وهو في هذه الحالة سوف يضطر للانكفاء نحو الداخل، وسيوظف إمكاناته وجهوده، من أجل حماية القلعة الداخلية. وهذا يعني أن مشروع الأطماع الخارجية الإيراني سوف يبدأ بالتراجع التدريجي، طبقا لحجم التهديد الداخلي الذي سوف يواجهه النظام، غير القادر، في وضعه الحالي، على تقديم حلول عاجلة لمشكلات اقتصادية مزمنة.
هذه هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها المشروع الخارجي لامتحان فعلي، ففي المرات السابقة، سواء الحرب مع العراق، أو التدخلات الحالية في لبنان وسورية والعراق واليمن، كان الشارع الداخلي متماسكا وموحّدا، أما اليوم فلم تعد الصورة كذلك، وبات الانقسام واضحا، وترجم النظام إحساسه بالخطر عبر المظاهرات المضادّة التي أراد منها القول إن شرعيته الشعبية لم تتأثر.