باستثناء الأمم المتحدة التي أعربت عن قلقها على آلاف المدنيين المحاصرين منذ سنوات في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين قرب دمشق، وبيان أصدره كتاب وناشطون فلسطينيون وعرب، عن تدمير روسيا والنظام السوري المبرمج للمخيم، فإن لا صوت آخر انتبه لهذه الواقعة ولمعناها الكامن، وهو تصفية أكبر مخيّمات سوريا وأشهرها وقتل وتشريد من بقي من أهله في أصقاع العالم.
للنظام السوري تاريخ طويل في استهداف المخيمات الفلسطينية وتدميرها، بدءاً من مخيمي تل الزعتر وضبية، اللذين جرى اجتياحهما بعد دخول جيش النظام إلى لبنان عام 1976، بالتعاون مع «الكتائب» اللبنانية، ومروراً بمخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة التي تعرضت لحصار وحشي وتدمير مبرمج خلال الأعوام 1985 ـ 1988، وليس انتهاء بتدمير مخيم نهر البارد شمال لبنان عام 2007، وتشريد سكانه عن بكرة أبيهم.
أحد أسباب تجاهل مصير مخيم اليرموك الكارثي، والذي كان أكبر مخيمات الفلسطينيين بأكثر من 400 ألف نسمة، أن المعركة تجري مع تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يحتلّ المخيم بتسهيل وتواطؤ من النظام نفسه، في تكرار لحدث مخيم نهر البارد الذي احتلته حركة «فتح الإسلام»، وهو سيناريو يبدو النظام السوري متخصصا في تأليفه وصناعته، ويعيد التذكير بتنظيمه لعمليات حشد وإرسال «الجهاديين» إلى العراق، وبإطلاقه لقادتهم من سجونه قبيل الثورة عليه عام 2011، فالألعاب الاستخباراتية هي أسّ عمل النظام ومناط اهتمامه الأول.
يضاف إلى ذلك طبعاً انشغال الفلسطينيين في الداخل بصراعهم الوجودي مع إسرائيل، وصراعاتهم الداخلية بين رام الله وغزة، وتواطؤ بعض القيادات العربية عليهم، ومحاولاتهم المستميتة الدفاع عن الأقصى والقدس، وحراكهم العظيم في مسيرات العودة والمظاهرات والاعتصامات، والاغتيالات والسجون، ومعاناتهم، وخصوصا في غزة، من الضيق الاقتصادي والحصار المتعدد الوجوه.
تتناظر هذه الجريمة الكبيرة ضد مخيم اليرموك مع الحملة المكثفة المستمرة من أركان الحكم اللبناني ضد اللاجئين السوريين، فرداً على مؤتمر بروكسل الذي نادى بالعودة الطوعية للنازحين ودمجهم في المجتمع وسوق العمل استشاط الرئيس اللبناني غضبا الذي وجد هذه الدعوة «تتعارض مع استقلال الوطن اللبناني» و«السيادة اللبنانية»، رافضا ربط عودة اللاجئين بالحل السياسي في سوريا أو ربط إعادة الأعمار بالحل نفسه، فيما قام صهره، وزير الخارجية جبران باسيل بمهاجمة «المجتمع الدولي» مطالبا إياه بوقف تشجيع السوريين على البقاء وبعدم إعطاء اللبنانيين «دروسا في الإنسانية».
الرئيس اللبناني لا يجد تعارضا مع استقلال الوطن اللبناني وسيادته أن جماعة بعينها، مثل «حزب الله»، تمتلك سلاحا يتفوق على سلاح الدولة نفسها، وتطوب قرارات هذه الدولة لصالح دولة خارجية، وتحرك قواتها الكبيرة خارج حدود لبنان حيثما تريد، فتصل كتائبها إلى أقاصي سوريا والعراق واليمن من دون أن تهتزّ شعرة سيادة واستقلال في رأس الرئيس وصهره.
والحقيقة أن دخول جيش النظام السوري، عام 1975، وما أعقبه من احتلال فعليّ للبنان، ومجازر كان الفلسطينيون هم هدفها الأول، وما تولّد عن ذلك الاحتلال من مصطلحات ساخرة كـ«تلازم المسارين»، هو الأب الفعلي لما حصل لاحقاً بعدها من مجازر في سوريا نفسها، ضد السوريين الذين هربوا بالملايين نجاة بأرواحهم، وضد الفلسطينيين الذين يدمّر النظام الآن آخر قلاعهم، وكذلك لما يحصل الآن أيضاً من وحدة الاتجاهات العنصرية والطائفية اللبنانية ضد النازحين السوريين، بعد أن قامت بدورها في إخراج الكيان السياسي للفلسطينيين من لبنان، ثم المشاركة في المجازر ضدهم والاستفراد بهم وحصارهم والتضييق عليهم.
تلازم المسارين بهذا المعنى، هو اتفاق المستبد الطاغية مع أركان العنصرية والطائفية ضد الفلسطينيين والسوريين، بعد مماحكات تاريخية طويلة على من له اليد الطولى في إبادة هؤلاء.
ها هي زوبعة ترمب تدك معاقل نظام بشار في عمق دمشق لكن بعد إخلاء معسكرات النظام مسبقا! أعتقد أن هذه الضربة مسرحية لتصدير أزمات ترمب الداخلية إلى الخارج، على كل حال أخطأ من ظنّ أن التحشيد الأمريكي الأطلسي هو رد لاستخدام نظام بشار الكيمياوي في دوما فقط! فمنذ أيام أطالع التصريحات وآراء معاهد الدراسات الاستراتيجية حول العالم بخصوص الموضوع وتوصلت إلى ما يلي:
أولا: الكم الهائل للتحشيد الأمريكي والحلف الأطلسي إعلاميا وعسكريا واستعراض أحدث طائرات التجسس والغواصات النووية وحاملات الطائرات المتطورة ولأول مرة استخدام طائرة يوم القيامة الأمريكية كل ذلك مؤشرات وأدلة كبيرة لا تقبل الجدل على وجود نية جامحة لدى تلك الأطراف الدولية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لرسم خارطة نفوذ دولية جديدة في سوريا. حيث ذكرت وسائل إعلامية غربية ومنها صحيفة ديلي ميل البريطانية عن تحرك ما لا يقل عن 12 سفينة وبارجة عسكرية أمريكية باتجاه السواحل السورية في البحر الأبيض وهي واحدة من أكبر تجمعات القوة البحرية الأمريكية منذ غزو العراق في 2003.
وكذلك قالت صحيفة ديلي تليغراف البريطانية أن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أمرت يوم 11 إبريل المنصرم غواصات نووية تابعة للأسطول الملكي بالتحرك باتجاه البحر الأبيض المتوسط بحيث تكون على مسافة تتيح لها إطلاق صواريخ على سوريا وذلك استعداداً لتوجيه ضربات لجيش النظام السوري ويأتي ذلك متزامنا مع موافقة مجلس العموم البريطاني بضرورة ردع نظام بشار ومعاقبته لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه!
النقطة الثانية: جميع محللي الغرب المحايدين وبالأخص الأمريكيين يرون أن هذه الحملة ليست ردا لكيمياوي دوما بل تحمل أبعادا استراتيجية بعيدة المدى فهي من جهة لتحجيم الدور الروسي كما حصل في البوسنة في تسعينيّات القرن الماضي حيث يترافق هذا التصعيد مع عقوبات اقتصادية إضافية فرضتها أمريكا والاتحاد الأوربي على روسيا، ويعتزم الكونغرس الأمريكي القيام قريباً بمعاقبة روسيا وتحجيم دورها في ملفات عدة، ويخطط للتصديق على مشروع قانون يتضمن حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية ضد موسكو. وحسب وسائل إعلام أمريكية أن حزمة العقوبات المقترحة ستشمل حظراً تاماً لأي تعاملات مالية بسندات الدين السيادية الروسية بالإضافة إلى منع التعامل بالأوراق المالية الصادرة عن مؤسسات مالية مهمة من ضمنها البنك المركزي الروسي والخزينة الاتحادية الروسية. يُضاف إلى ذلك عقوبات على العديد من البنوك الروسية منها سبير بنك غازبروم بنك وبنك موسكو. ومن المتوقع تطبيق حزمة العقوبات هذه في مدة لا تتجاوز الشهرين من تاريخ إقرارها.
ومن جهة ثانية تقزيم الدور الإيراني والقضاء على نفوذها المليشاوي في المنطقة عموما وفي سوريا خصوصا من خلال هجمات جوية محددة مسبقا تستهدف مقرات ومعسكرات تابعة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله في دمشق واطرافها حيث تعمل النظام الإيراني على توسيع نفوذه الإقليمي في سوريا على حساب القوى الإقليمية الأخرى من خلال جلب المقاتلين المرتزقة من مختلف الجنسيات وتدريبهم في هذه المعسكرات بدنيا وعقائديا ومن ثم تجنيدهم للقتال لصالح الولي الفقيه الإيراني. فكما هو معلوم أن ملالي طهران يعتمدون بالأساس على استخدام الكثافة البشرية والتلقيم الطائفي ومن ثم التضحية بهم كوقود حرب في أي عمل عسكري يقومون به حيث أن تشكيل هذه المجاميع لا تكلفهم الكثير من الأموال وبما انها بنيت على أسس عرقية وعقائدية يضمنون ولائهم المطلق والاعمى لهم! كما شهدنا ذلك في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. عندما كان يعتمد النظام الإيراني في هجماته على الزخم البشري بدل التكتيكات العسكرية والقوة النارية في جبهات القتال ولهذا كانت الخسائر البشرية الإيرانية فادحة جداً. واللافت أن معظم القتلى والأسرى الإيرانيين حينها وجِدَت معهم مفاتيح جنة وكُتيّبات موقّعة من خميني كصك ايمان للمرور من الصراط المستقيم!
النقطة الثالثة اللافتة للانتباه: روسيا سحبت معظم السفن الحربية والغواصات الاستراتيجية من قاعدة طرطوس البحرية باتجاه البحر بعيدا عن الميناء وهذا ما اثبتته صور الأقمار الصناعية التي عرضتها قناة فوكس الأمريكية وبقي الثقل الروسي متمركزا في قاعدة حميميم العسكرية فقط على ما يبدو أن هنالك تطمينات للروس بعدم استهدافها من جهة اخرى نشرت تقارير عن قيام النظام السوري واللجان الشعبية التابعة له بنقل معظم الطائرات والآليات العسكرية المهمة لنظام بشار إلى النقاط العسكرية التابعة للروس قبل وقوع الضربة والاهم من هذا وذاك الانباء التي تداولتها الكثير من الصفحات المؤيدة والموالية لنظام بشار والتي تشير إلى انسحاب قادة الصف الأول في الجيش السوري وكذلك في اجنحة المليشيات المرتبطة بإيران وحزب الله مع عوائلهم إلى مقرات خارج دمشق إلى حميميم ولبنان وبغداد وطهران وهنالك إشارات بهذا الخصوص منها: أن بعض المسئولين الروس أبدوا امتعاضهم من تكدس المدنيين في قاعدة حميم العسكرية وهنالك تصريحات موثقة بذلك.
النقطة الرابعة: تأكيد بعض المحللين وجود سيناريوهات لتقسيم النفوذ الغربي في سوريا بين قوات الحلف الأطلسي وأمريكا، وبما أن تركيا عضوة في الحلف الأطلسي تفاجأنا بعد القمة الثلاثية الناجحة التي عقدت في انقرة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وضيفيه بوتين وروحاني بطلب مفاجئ من كل من إيران وروسيا على حد سواء بضرورة الانسحاب التركي عن عفرين وأطرافها فوراً! وهذا الطلب المفاجئ لم يكن المقصود منه تركيا حصرا بل ردة فعل روسي إيراني مشترك تجاه الحلف الاطلسي !حيث في مؤتمر صحفي له في موسكو يوم 9 ابريل قال السيد سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا إن: أبسط طريقة لتطبيع الوضع في عفرين هو إعادتها لسيطرة دمشق. مؤكدًا: يجب على تركيا تسليم عفرين بعد انتهاء عملية غصن الزيتون !وأضاف: بعدما قال الممثلون الأتراك أن الأهداف التي تم تحديدها هناك تحققت ويجب إعادة تلك الأراضي إلى تحت سيطرة الحكومة السورية.
وجاء الرد التركي على لسان رئيس الجمهورية السيد رجب طيب أردوغان يوم 10 إبريل قائلا: يا سيد لافروف لست أنت من يحدد الانسحاب من عفرين نحن من يحدد هذا الوقت وليس أنت. وأكد أن تركيا تعلم جيدًا لمن ستعيد عفرين، مشيرًا إلى: تسليمها لسكانها عندما يحين الأوان. ودعا السيد رئيس الجمهورية أيضا إلى ضرورة الحديث أولًا عن تسليم المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الدول الأخرى إلى سوريا معتبرًا أن عبارة: أن النظام هو الذي فوض امر تلك المناطق إلى الدول الأخرى لا تطمئن تركيا. وفي اليوم الأول من قمة أنقرة نقل التلفزيون الإيراني عن روحاني قوله للرئيسين طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، إنه يجب تسليم السيطرة على منطقة عفرين التي سيطرت عليها القوات التركية والجيش الحر إلى قوات الأسد.
النقطة الأخيرة المهمة في هذا المقال والتي تتمحور حولها موضوع البحث والتحليل هو: الضربة وأهدافها! حيث صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في تغريدته على تويتر قبل يوم واحد من الضربة: ليس شرطا أن تقع الضربة اليوم أو غدا أو قريبا بل ربما لا تقع أصلا. بمعنى أن التحشيد العسكري الأمريكي له أهداف طويلة الأمد وليس كما ظن الكثير أنه للرد على كيمياوي دوما فقط!
إذاً ما هي أسباب الزوبعة التي يحاول أن يفتعلها الرئيس الأمريكي في المنطقة؟ هل هي فعلا دفاعا عن حقوق الأطفال التي تقتلهم الآلة العسكرية للنظام وروسيا وميليشيات إيران المتغلغلة في المنطقة؟ أم إنها محاولة رد اعتبار والحفاظ على ماء الوجه أمام الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان من قبل نظم بشار؟ أم لغايات وأهداف وأطماع اقتصادية بعيدة المدى؟
أولئك الذين يريدون القضاء على الاتفاق النووي الإيراني، وأولئك الذين يبغون إصلاحه، قد يتغاضون سوياً عن وجود خيار ثالث قوي: ألا وهو إبقاء الاتفاق النووي طي النسيان.
ويعتبر 12 مايو (أيار) هو الميعاد النهائي المحدد للرئيس دونالد ترمب لاتخاذ القرار ما إذا كان سوف يجدد فرض العقوبات القاسية على إيران، والتي تم رفعها بموجب الاتفاق الذي كان يهدف إلى توفير الشفافية وفرض القيود المؤقتة على تطوير البرنامج النووي الإيراني.
ومن شأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ممارسة بعض الضغوط على الرئيس الأميركي بشأن الانتظار. ومن جانبه انطلق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى شبكة «سي بي إس» الإخبارية الأميركية للتهديد بأن إيران لديها خيارات «غير سارة» إذا ما جدد الرئيس ترمب فرض العقوبات. حتى جون أوليفر مذيع محطة «إتش بي أو» في أحد برامجها المتأخرة قد دخل على الخط؛ إذ سوف يخصص برنامجه الإعلانات على شبكة «فوكس» خلال الأسبوع الحالي لدعوة الرئيس الأميركي إلى الالتزام بالاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس السابق باراك أوباما. وكان مايك بومبيو وزير الخارجية قد صرح مؤخراً قبل تثبيته في منصبه من قبل الكونغرس، بأن خياره المفضل هو تعزيز، وليس إنهاء، الاتفاق النووي.
وهذا الاتفاق مهم من دون شك. غير أن هناك مسائل أخرى أكثر إلحاحاً من مصير الاتفاق النووي الإيراني - ومن بينها مصير النظام الحاكم في طهران. وينبغي لأي اعتبار يتعلق بإلغاء أو إبقاء الاتفاق النووي أن يشمل كيفية تأثير هذه الإجراءات على النظام الإيراني والمقاومة الإيرانية الداخلية المؤيدة للديمقراطية.
وهي من القصص السهلة التي يجب عدم تفويتها، ولكن منذ أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما اندلعت الاحتجاجات في طول إيران وعرضها، واجهت الزمرة الحاكمة من رجال الدين في إيران سلسلة من الأزمات التي شكلت أبرز الأخطار وأكبرها على شرعية النظام الحاكم منذ اندلاع الثورة الإسلامية في البلاد في عام 1979.
ودعونا نبدأ بأزمة العملة. هناك بالفعل تهافت على المصارف الإيرانية. ولقد فقد الريال الإيراني ثلث قيمته الفعلية في عام 2018 الحالي في مقابل الدولار الأميركي. والدولار الأميركي الواحد يساوي نحو 60 ألف ريال إيراني في السوق السوداء الإيرانية اليوم. مع مقارنة ذلك عندما تسلم الرئيس حسن روحاني مقاليد الحكم في البلاد عام 2013 عندما كان الدولار الأميركي الواحد يساوي 36 ألف ريال إيراني فقط. ولقد كان ذلك قبل أن يعرض الرئيس السابق باراك أوباما أي تخفيف للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وعندما كان الاحتياطي النقدي ينفد بوتيرة سريعة للغاية من بين أيادي الحكومة الإيرانية.
وهناك أيضاً الأزمة البيئية في إيران. وذكرت وكالة «رويترز» الإخبارية الشهر الماضي، أن الكثير من الاحتجاجات قد اندلعت في البلاد بسبب الجفاف المستمر والاستجابة الحكومية الفاشلة للتصدي لهذه الأزمة. وكان المزارعون الإيرانيون يُطردون من أراضيهم. وشرع النظام الحاكم في اعتقال نشطاء البيئة في البلاد. وتبث الدولة الإعلانات التجارية مدفوعة الأجر التي تحث المواطنين على ترشيد استهلاك مياه الشرب.
وأخيراً، هناك أزمة في السياسة الخارجية. فقد كانت إحدى محفزات الجولة الأولى من الاحتجاجات الإيرانية في ديسمبر ويناير (كانون الثاني) الماضيين تسريباً للميزانية الرسمية في إيران، والتي أظهرت أن مليارات الدولارات قد تم تخصيصها لصالح الجيش الإيراني والحرس الثوري، الذي يباشر شن الحروب الدموية في سوريا واليمن، في حين أن معدلات البطالة الإيرانية بين الشباب مستمرة في الارتفاع والتفاقم. وذلك هو السبب في أن الكثير من المتظاهرين يرفعون اليوم شعارات تحض إيران على التركيز على مشكلاتها الداخلية بدلاً من زرع الاضطرابات والقلاقل في الخارج.
كل هذه العوامل أثارت نيران الاحتجاجات التي بدأت قبل خمسة أشهر تقريباً في إيران. كما أنها تفسر أيضاً سبب عجز النظام الحاكم في إيران عن تهدئة الاحتجاجات على نحو ما صنع في عام 2009، في أعقاب الانتخابات الرئاسية المزورة هناك، من خلال اعتقال النخبة الحضرية التي خرجت إلى الشوارع للاحتجاج، ثم اختفائها تماماً.
ولكن هذه المرة اندلعت الاحتجاجات بين مختلف طبقات وشرائح المجتمع الإيراني. ويشير علي رضا نادر، الخبير السابق في الشأن الإيراني لدى مؤسسة «راند»، إلى أن بعض المطلعين السابقين على مجريات الأمور مثل الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد يتوقعون انهيار النظام الحاكم الحالي في إيران. وأسفر صراعه الانتخابي في عام 2009 عن انفجار الانتفاضة الإيرانية قبل الأخيرة.
ولقد ترجم رضا نادر، عبر حسابه في «تويتر»، الأسبوع الماضي كلمات محمود أحمدي نجاد إلى أنصاره والتي سجلتها الخدمة الفارسية في هيئة الإذاعة البريطانية في اجتماع حاشد مؤخراً. وقال إن النظام الحالي يتصرف كما لو أنهم باقون في الحكم إلى الأبد. ليس لديهم فكرة عما يحدث من حولهم، ولا أرض راسخة تحت أقدامهم. والأحداث الجارية في إيران سوف تغير وجه العالم بأسره قريباً.
ولقد أخبرني رضا نادر هذا الأسبوع أنه لا يعتقد أن محمود أحمدي نجاد قد تغيرت معتقداته. بدلاً من ذلك، يتخذ لنفسه موضعاً جديداً لأنه يعلم تماماً أنه سوف تندلع اضطرابات عارمة وهو لا يريد أن يكون الرجل الذي يذهب كبش فداء الأحداث.
وهو ليس بمفرده في ذلك؛ إذ كتبت جينيف عبده إلى وكالة «بلومبيرغ» الإخبارية الشهر الماضي تقول إن هناك نقاشاً مهماً واعتراضاً قوياً على اعتقال آية الله حسين شيرازي، الملا البارز الذي تحدى السلطة المطلقة للمرشد الإيراني علي خامنئي. وكما ذكرت في مقال آخر الشهر الحالي، أن المحامية الإيرانية في مجال حقوق الإنسان، شيرين عبادي، التي فازت بجائزة نوبل، تدعو إلى جانب نشطاء آخرين إلى تغيير أصلي في نظام إيران الحاكم من خلال الاستفتاء الشعبي الذي يخضع لمراقبة الأمم المتحدة، والذي من شأنه أن يقضي على منصب المرشد الأعلى تماماً.
كلنا نعلم عن مدى رغبة وعشق المرأة بشكل عام أن تكون على مستوى مواز لمستوى الرجل، دائما ما نراها حريصة على أن تطالب بحقوقها التي تراها من وجهة نظرها بأنها ضائعة ومسلوبة منها، طالبت بالعمل، بمنزل، بأسرة، بكل شيء تراه لها لكن كلمة المرأة: ما معنى لفظ هذه الكلمة في مجتمعاتنا وخاصة السورية، كيف أصبح حال المرأة السورية؟؟
ما مقدار اجترار الحرب منك أشيائك وقدراتك، كنا سابقا نطالب حقنا من الرجال، من المجتمع ومن كل شخص ينقص ويبخس حقنا ونستشهد برحمة الإسلام بنا ولكن الآن الأمر مختلف حيث أصبحت المرأة السورية تطالب حقها من الحروب التي أخذت لها أغلى ما تملك (رجلها، طفلها، أسرتها، منزلها، تعليمها)..
المرأة السورية لم تعد هذه الكلمة ذات لفظ هين، أصبحت كمثقال ذرات الحديد على أكتافها وذرات حبات أمل على جبينها. كل ألفاظ المرأة من (مطلقة، أرملة، عانس، ناقصة تعليم) أصبحت من صفات المرأة السورية، كيف لهذه المرأة أن تتجاوز الحياة أن تكون مستمرة بحياة لا تليق بالحياة، عندما كنت أرى نساء قمن بعمل عظيم وجبار أتعجب بالسر الذي جعلها تحقق مستوى العظمة هذا، أهو من والدها أم من زوجها أم من مجتمعها، لكن: عندما أصبحت أشاهد امرأة سورية قدرت واجتهدت على فعل أمر عظيم لا أكتفي حينها بالتعجب، وإنما أندهش واستغرب من فعلها فعلآ، لأن الحرب أنهكت قوى المرأة السورية، كثير ما أصبحت أسمع من ألسن النساء السوريات: من المؤسف أننا أصبحنا نساء سوريات يا لهذا الحظ السيء لنا، ما هو جرمنا الذي ارتكبناه لنكون كما نحن عليه، أيتها الحياة دعيني أعيش آخذ حقي فقط بالحياة..
فالحرب لم تقتصر أثرها على أرضها وشعبها وإنما آثارها اجترت وتجاوزت لها عن حقوقها وأحلامها وأسرتها ..يعتريني سؤال: أتُرى ما سِر المرأة السورية؟؟ حتى من بعد اجترار الحرب لأحلامها بقيت بهذه القوة والصمود لمتابعة المشوار.. هل هذا الأمر جاء نتيجة تربية، أم إنها قدِرت أن تُخرج من الألم أمل، أم إنها تعويد على الصدمات والآلام ليس إلا؟ أشبه هذه المرأة السورية بشجرة حبات النخيل، نعم فهي تماما تشبه شجر حبات النخيل بقوتها وارتفاعها فهي لا تدنو من الفلاح بالرغم من إنها تعلم إن ثمارها سوف تُقطف.
حرب لسبع سنوات ماضية وحرب لسنوات لاحقة لا نعلم عددها أخذت حقيقة من المرأة مالم تأخذه من أحدٍ غيرها، وبرغم كل هذا لا زٍلنا نرى أشخاص يهاجمون المرأة بكل وحشية وعنف، يهاجمون روح أخذت الحرب منها الحياة كل آمالها بأسرة وزوج وأطفال واستقرار، كيف سنُفهم هؤلاء الأشخاص لأن المرأة أصبحت أقوى بكثير ما بعد حرب أخذت منها اسمها وأمنها وأمانها .ومن الغرابة أنني وجدت بعد اطلاعي على إحصائية النساء الأرامل بأحد المنظمات الإنسانية وجدته رقماً هائلاً كان أكثر من خمسة آلاف امرأة سورية مسجلة،
أتُرى ما ذنبهم، ما ذنب أطفالهم؟
كيف سيكن قادرين على مواجهة حياة صعبة هي أشبه بحرب موت على موت؟
ما هو مصيرهم، مجهولهم، أين تناثرت حبات نخيلهم، وبرغم هذا لا زلنا نراهم عصيات جبارات، يريدون الحياة لأجل اطفالهم وأحلامهم؟
لا أقصد أبداً بكلامي السابق أن أشد عضد المرأة، لكن القصد هو إظهار مدى أنصارها بمجتمع وحرب أنهك قواها، دعوة للرأف بهذا الكائن الذي لا يزال يتحدى الألم وينمو ما بين صخر وحُفر.. يا حربنا السورية خففي عواصفك على شجرة حبات النخيل هذه، اتركي لها طريقاً تسير به نحو حياة تليق بالحياة، فالحياة عند المرأة السورية أقوى وأبعد من أن يستبد بها شيء.
كشف القيصر الروسي أخيراً حقيقة مفزعة وصادمة حين قال: «لقد اختبرنا أسلحة حديثة في سورية، وتأكد لدينا تفوقها وفاعليتها على أرض الواقع». لقد اعترف الرئيس بوتين بنفسه، بأحد أهم أسباب تدخله في سورية، إضافة الى الأسباب الأخرى المعروفه، ومنها إبراز قوة روسيا، وتأكيد وجودها على الساحة الدولية، ومواجهة أعدائها، على حساب دماء الشعب السوري وأمنه، والجميع يعلم جيداً أنه لولا تدخل روسيا المباشر وغير المباشر في هذا البلد، واستخدامها المتكرر الفيتو في الأمم المتحده لمواجهة كل القرارات الدولية التي تدين النظام وحلفاءه، في محاولة منها لإنهاء هذه المأساة التي تتفجر في كل يوم وساعة، عن ألف مأساة ومأساة، لكانت الأوضاع فيها غير ما هي عليه الآن، ولما بلغ حجم الدمار هذا الحد الفظيع والمروع.
من المؤلم والموجع أن يتناول جميع المحللين والمراقبين الدوليين، ومن ضمنهم عرب، الجوانب الأخرى في خطاب القيصر الروسي، من دون التطرق الى اعترافه الخطير هذا وفضيحته المدوية، وحتماً سيأتي في يوم ما من ينصف الشعب السوري ويقدم كل من شارك في استمرار مأساة العصر هذه إلى المحاكم الدولية لينال جزاء ما اقترفه بحق الشعب السوري. وسيكون لهذا الاعتراف الصريح أهميته ودوره في إحقاق الحق ودحر الباطل.
الشعب السوري ليس حقل تجارب، وهذا شأن داخلي ليس لأحد حق التدخل فيه، سواء كان من الدول الكبرى أم الإقليمية، وعلى الكل أن يغادر سورية كي يلتقي أهلها بعضهم مع بعض، ويتفقوا على صيغة ما لوقف نزف بحور الدماء هذه التي تواصلت لسبعة أعوام، وبات أكثر من نصف أبنائها بين قتيل وجريح ولاجئ ومهجّر.
حتى الهدنه الأخيرة تم الالتفاف عليها من قبل الرئيس الروسي، ولم تحقق أهدافها الحقيقية. ويبدو أن الوضع سيستمر على ما هو عليه من تعقيد وسط أزمات دولية، خصوصاً أن في الجانب الآخر من الكرة الأرضية زعيماً كبيراً آخر لم ينجح في وضع حلول منصفة وعادلة، لأي كارثة من كوارث العالم المتفجرة.
ينشط المسؤولون الإيرانيون مؤخرا في الإكثار من التصريحات التي تشدد على مخاطر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني.
ولا تقف هذه التصريحات عند حدود التحذير من التداعيات، بل تركّز أيضا على وجود خيارات إيرانية للرد على مثل هذه الخطوة.
تتراوح الخيارات الإيرانية وفقا للتصريحات الرسمية من الرد المحدود إلى الرد المفتوح، وذلك اعتمادا على طبيعة الخطوة الأمريكية والأضرار التي ستُلحقها بالجانب الإيراني.
الرئيس الإيراني حسن روحاني كان قد صرّح مؤخرا بأنّ "طهران لن تكون البادئة بنقض الاتفاق النووي، لكن على واشنطن أن تعلم يقينا بأنّها ستندم إذا ما كانت هي البادئة".
وفي نفس السياق، نقلت "رويترز" عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف قوله "إيران لديها خيارات عدة إذا انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، رد فعل طهران على انسحاب أمريكا من الاتفاق سيكون مزعجا"، مضيفا بانّ هذه الخيارات جاهزة للتنفيذ وأنّ المسؤولين الإيرانيين سيتّخذون القرار المناسب في الوقت المناسب.
وفقا للمسؤولين الإيرانيين، فان من بين الخيارات المطروحة الانسحاب من الاتفاق والانسحاب من البروتوكول الإضافي لمنع الانتشار النووي، واستئناف الأنشطة النووية بسرعة.
رئيس منظمة الطاقة الإيرانية علي أكبر صالحي كان قد هدد بمتابعة الأنشطة النووية الإيرانية بشكل كامل.
في تحليل ردود الأفعال، يبدو الجانب الإيراني أكثر توترا، وذلك لأنّ الحكومة الإيرانية تقع تحت ضغوط متزايدة داخليا وخارجيا.
على الصعيد الداخلي، ينتظر المتشددون فشل الحكومة التي سوقت لنفسها من خلال الاتفاق النووي وذلك للانقضاض عليها، كما أن توقعات الجمهور الإيراني بدأت بالتراجع مع عدم ترجمة الاتفاق النووي إلى منافع اقتصادية تستفيد منها العامة.
على الصعيد الخارجي، يزداد الضغط الإسرائيلي مؤخرا وسط تهديدات قد تصل إلى حد استهداف مواقع داخل غيران بعد أن زادت تل أبيب من وتيرة استهدافها للمواقع الإيرانية في سوريا.
يبقى التحدّي الأكبر في هذه المرحلة بطبيعة الحال هو مواجهة الضغط الذي يحاول الرئيس الأمريكي ممارسته على طهران من خلال التهديد بالانسحاب من الاتفاق النووية. ومن المتوقع أن يتم اتخاذ قرار بهذا الشأن في شهر مايو القادم، الأمر الذي يتطلب حسابات دقيقة من الجانب الإيراني.
موقف الرئيس الفرنسي مؤخراً أثار عددا من التساؤلات حول مدى تماسك الجبهة الأوروبية فيما يبدو ترامب عازماً على تفتيتها.
وبالرغم من تأكيدات المسؤولين الإيرانيين على استعدادات النظام للرد على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، إلا أن السيناريو الأفضل -والذي يتمناه ربما- هو المماطلة على الأقل لبضعة سنوات قادمة إلى أن يتم تغيير ترامب، لكن لا يبدو أن الرئيس الأمريكي بصدد إعطاء إيران مثل هذه الفرصة.
مؤخرا أبدى وزير الخارجية الإيراني، انفتاح طهران على إجراء مفاوضات لمبادلة سجناء مع الولايات المتحدة إذا ما أظهرت إدارة الرئيس الأمريكي تغييرا في سلوكها على حد قوله. مثل هذا الموقف هو مؤشر على استعداد إيران لفتح خطوط اتصال وللجلوس على طاولة مفاوضات ليس حول الاتفاق النووي، على الأقل في البداية.
إذا ما تمّ إهمال الطرح الإيراني، فستكون طهران مضطرة أيضا للمراهنة على عدد من المعطيات الخارجية لعل أهمها رفض روسيا والصين للخطوة الأمريكية المحتملة، بالإضافة إلى تعويلها على تماسك الموقف الأوروبي الرافض للانسحاب من الاتفاق النووي.
لكنّ موقف الرئيس الفرنسي مؤخرا أثار عددا من التساؤلات حول مدى تماسك الجبهة الأوروبية فيما يبدو ترامب عازما على تفتيتها.
في جميع الأحوال، تخضع الحكومة الإيرانية لاختبار صعب، ولا تبدو في موقف جيّد هذه المرّة، لكن وكما كانت اللعبة دوما مع المجتمع الدولي، فان ايران لا تعتمد على خطواتها فقط، وإنما تحقق أكبر قدر من المكاسب من خلال استغلال تفرّق خصومها وتناقضهم وكثرة الأخطاء التي يرتكبونها.
تسود في أوساط وتيارات سياسية، من قوى يسارية أو علمانية وليبرالية أو دينية، مراهنات على الدور الأميركي في إنقاذ مجتمعاتنا العربية من تسلط أنظمة الاستبداد. ينبع هذا التصور من عجز الشعوب العربية عن إنجاز التغيير وإقامة أنظمة ديموقراطية، نتيجة القمع الدموي الذي تمارسه هذه الأنظمة، وإبادتها لقوى المعارضة والتغيير، بالقتل أو النفي أو السجن، ما جعل شعوبها في حال من الاستسلام لليأس، بحيث لا ترى خلاصاً إلا بتدخل الخارج وإسقاط هذه الأنظمة. هل، حقاً، أدّى الاستنجاد بالخارج، وخصوصاً الأميركي منه إلى تحقيق هذا الخلاص المنشود، أم هو ضرب من الوهم يعمق أزمة البلد ويدمر بناه؟ لقد ظهرت نتائج هذا التدخل جلية في أكثر من ساحة عربية، لعل أهمها فلسطين والعراق وسورية.
لا يخالج أحداً الشك بأن الدور الأميركي، سواء أكان جمهورياً أم ديموقراطياً، هو دور معاد للشعب الفلسطيني، ومنحاز بالكامل إلى العدو الصهيوني. ساهم الأميركيون في قتل الشعب الفلسطيني من خلال الوقوف إلى جانب إسرائيل وتسليحها وتبني خطابها السياسي، حتى بدت الدولة العبرية كإحدى ولايات أميركا المتميزة. عطلت كل مشاريع التسوية السياسية، ومنعت إعطاء الفلسطينيين حق إقامة دولتهم على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وتوجت سياستها أخيراً بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ضاربة عرض الحائط بكل الأعراف الدولية.
في العراق، تبدو الفاجعة الأميركية كبيرة بما لا يقاس. تحت وطأة استبداد نظام حزب البعث ورئيسه صدام حسين، انتظرت القوى المناهضة له مجيء الجيش الأميركي لإسقاط النظام وإقامة حكم جديد يلبي طموح الشعب العراقي. فعلا أتى هذا «المنقذ» في نيسان (أبريل) 2003، فأسقط النظام وسط تهليل القوى السياسية المصنفة نفسها ديموقراطية ويسارية. لكن «المنقذ» الأميركي كانت له خطته الخاصة، فهو لم يأت لإقامة نظام ديموقراطي، بل أتى لتدمير العراق، دولة ومجتمعاً وجيشاً، ونهب ثرواته النفطية والمعدنية، ولو أدى كل ذلك إلى إشاعة الفوضى واندلاع حروب أهلية بين مكونات البلد. هكذا، ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام البعثي، اتخذ الحاكم الأميركي قراراً بحل الجيش العراقي وتسريح جنوده وضباطه. كانت تلك خطوة أساسية في إشعال الفوضى في العراق. لم يكتف الحاكم الأميركي بذلك، بل أمعن في تسعير التناقضات بين المكونات الطائفية والمذهبية وتشجيعها على القتال ضد بعضها البعض، بما جعلها أسيرة الوصاية الأميركية عليها وواسطة الحل والربط. إن ما يشهده العراق اليوم من حرب أهلية وانقسام وتقسيم هو الابن الشرعي للسياسة الأميركية منذ احتلال العراق.
لم يكتف «المنقذ» الأميركي بإشاعة الفوضى غير الخلاقة في العراق، بل كانت عيناه منذ اليوم الأول على الموارد الاقتصادية. اصطحب الاحتلال معه الشركات الأميركية التي عرفت كيف تسرق الثروات النفطية والموارد المعدنية. من أجل ذلك، كان لا بد من الاستعانة بقوى سياسية عراقية شكلت الغطاء لهذا النهب، عبر إشراك الشركات لأقطاب هذه القوى في النهب. في سنوات قليلة أمكن «للمنقذ» الأميركي إفراغ البلد من معظم ثرواته، ووضعه في لائحة الدول الأكثر فساداً.
لم يكن الأمر أفضل في سورية. منذ إعلان الانتفاضة في 2011، رأت الولايات المتحدة أن الفرصة مؤاتية لتدمير سورية عبر تسعير حرب أهلية فيها. لم يكن النظام البعثي يوماً معادياً للولايات المتحدة، منذ عهد الأب وامتداداً إلى عهد الابن. لكن العقل الأميركي لا يعمل استناداً إلى الولاء له أو الخصومة، هو يعمل وفقاً لمصالحه الاستراتيجية على حساب الجميع. قامت الخطة الأميركية على الإبقاء على النظام السوري ورئيسه، بوصفه القادر على إدارة حرب أهلية مديدة، تدمر البلاد وتنهي موقع سورية الوطني في مواجهة إسرائيل، في حال أتى نظام آخر. ساهمت الولايات المتحدة، أسوة بالنظام السوري ودول إقليمية في إنتاج حركات الإرهاب، ووظفتها في ضرب الانتفاضة، فحرمت سورية من إمكانية إقامة نظام ديموقراطي. وها هي اليوم تشهد على تمزق نسيجها الاجتماعي وتدمير جيشها وتهجير نصف سكانها ومقتل نصف مليون مواطن وجرح حوالي مليونين.
اعتمدت أميركا سياسة لفظية تندد بالنظام وبضرورة إسقاطه. تصدر الحكم ثم تتراجع عنه. هددت بإسقاطه إذا ما استخدم الأسلحة الكيماوية. على رغم استخدام النظام لهذا السلاح عشرات المرات، إلا أن أميركا شنت غارتين فقط، من دون أن تؤثر في إرهاب النظام، بل على العكس، شدت من عزيمته في مزيد من إطلاق الكيماوي والبراميل المتفجرة.
تبقى كلمة في وجه القائلين إن ضربات أميركا للنظام تستوجب تأييد هذا النظام. هذه مقولة تافهة. فالموقف الصحيح يقوم على إدانة التدخل الأميركي والسياسة الأميركية المعادية لمصالح الشعوب العربية. وفي الوقت نفسه، إدانة أنظمة الاستبداد التي تشكل الوجه الآخر للسياسة الأميركية المعادية لهذه الشعوب. الموقف المستقل عن أميركا والنظام هو موقف الشعوب العربية الطامحة إلى الخلاص من الطغاة الخارجيين والداخليين.
تعيش سورية يوميات حرب دامية منذ ما يقرب من سبع سنوات، وعلى رغم البيانات الدولية والمبادرات العربية منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة السورية عام 2011، ومن ثم دخول المسار التفاوضي الأممي «جنيف» لحل الصراع في سورية منذ عام 2014 وحتى اليوم، فإن أياً من شعارات التهدئة، وضبط النفس، والتعاطي مع القرارات الدولية، بما يتعلق بوقف إطلاق النار، وإنهاء حصار النظام السوري للمدن والمناطق السورية، لم يجد طريقه إلى التنفيذ، أو أخذه على محمل الجد من قبل القوى الفاعلة على الأرض، سواء مع النظام أو المساندة للمعارضة، وعلى أن كل هذا الضجيج القراراتي والإعلامي الدولي، وحتى الضربات التأديبية للنظام السوري سواء في مطار الشعيرات وبعدها مواقع بحث وإنتاج السلاح الكيماوي، التي تمت تحت بند معاقبته على استخدام السلاح الكيماوي، وتجاوزه الخط الأحمر، والتي نفذتها كل من الولايات المتحدة الأميركية وحيدة في المرة الأولى ومع شريكتيها فرنسا وبريطانيا في المرة الثانية، وفي الحالتين لم تستطع خفض مستوى العنف، ما ترك الفرصة متاحة لاستمرار العمليات العسكرية للنظام وحلفائه لوضع أساسيات التسوية السلمية، على أساس نتائج المعارك القتالية، التي أسفرت عن تدمير مدن عدة منها الغوطة ودوما وقبلها حلب وحمص واليوم مخيم اليرموك وضواحي الحجر الأسود وما حولهما.
ويصادف المتابع لتصريحات المبعوث الدولي الخاص لسورية ستيفان دي ميستورا منذ توليه مهمته في تموز من عام 2014، وحتى مؤتمره الصحافي الذي جمعه مع وزيرة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، أنه مع كل معركة يخوضها النظام لاسترجاع المناطق التي خرجت من تحت سيطرته يشدد على أن المفاوضات هي الطريق الوحيد إلى التسوية، وأن الحلول العسكرية لن تغير خريطة الطريق إلى الحل السياسي، وعلى رغم متابعة تحذيرات المبعوث الأممي لئلا تكون حلب كمصير حمص، ثم تقع الكارثة الإنسانية والقصف الوحشي، وتسقط حلب، لينتقل إلى تحذير آخر عن الغوطة التي يخشى أن يكون مصيرها كمصير حلب، ولا تجد الأمم المتحدة سبيلاً للتدخل ووقف نزيف الدماء، إلا من خلال المحاولات الفاشلة لاتخاذ قرارات وصل تعدادها إلى 17 قراراً، جميعها كان مصيرها التعطيل، ولتحدث المأساة في الغوطة وبعدها مخيم اليرموك والحجر الأسود بأبشع صورها.
واليوم يحذر المبعوث الدولي ومعه وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي من المصير الذي ينتظر إدلب حيث لن يكون أفضل حالاً من الغوطة، ما يستوجب من جديد السؤال حول دور الأمم المتحدة، ومسؤوليتها عن كل التطورات الدراماتيكية التي أنتجت مئات الآلاف من الضحايا، وملايين المهجرين، ونحو مليون معوق، وحولت نحو سبعين في المئة من الشعب السوري إلى ما دون خط الفقر؟ فهل اقتصر دور المبعوث الأممي أن يعدد خسائرنا، ويمهد لما هو قادم منها، عبر تحذيراته التي لم تتخذ مؤسسته الدولية «الأمم المتحدة» أي إجراء يحول دون الوصول إلى نتائجها الكارثية، على رغم معرفة ما سيفعله النظام بناء على سياق النماذج التي يحذر منها دي ميستورا نفسه؟
إن كل الأطراف المتصارعة في سورية، وعليها، تدرك أن أي حل سياسي لن يكون من دون قوة عسكرية يستند إليها في فرض وجوده على مقعد التفاوض الحقيقي، فالمعارك التي تخوضها روسيا ومعها إيران ما كانت لتتمظهر بهذه الشراسة والعنف، إلا ليكون لهما موطئ قدم في الحل السياسي القادم جنباً إلى جنب مع النظام، وفي الطرف المقابل تدرك المعارضة السورية ومعها «أصدقاء الشعب السوري» أن انحسار سيطرة الفصائل على ما سمي «المناطق المحررة» قوض من حصصهم الفعلية على طاولة الحل السياسي، لأن البندقية «مجازاً» هي صاحبة القول الفصل حتى اليوم، في تحديد مساحة كل طرف ضمن التسويات المأمولة، وهو ما جعل من تركيا الدولة الأكثر التصاقاً بالمعارضات السورية سواء بشقها السياسي «الائتلاف»، أو بشقها المسلح وبخاصة الفصائل ذات الأيديولوجيات الإسلامية على اختلاف تسمياتها وقربها وبعدها من الوسطية المقبولة سورياً، تجد لها مكاناً إلى جانب الدولتين المساندتين للنظام السوري، ما يعني إعلانها تغيير هدفها ودورها الوظيفي، من مساندة المعارضة التي تهدف إلى إسقاط النظام إلى مساندة أصدقاء النظام، ومن مساعدة المعارضة في تحرير مناطقها، إلى مساهمتها في وضع تلك المناطق تحت هيمنة نفوذها المباشر وبالتالي تفاهماتها مع شركائها من الإيرانيين والروس.
ومن هنا لا يمكن التعويل على تصريحات المبعوث الدولي حول الحل السياسي، وعدم قدرة الحلول العسكرية على تغيير خريطته، حيث استطاعت المعارك التي خاضتها روسيا في سورية والتحالفات التي عقدتها إلى إحلال مرجعيات جديدة في الحل السياسي الأممي بعيداً من مرجعية بيان جنيف 2012، ليصبح اليوم القرار 2254، الذي فرض على المعارضة ضمن وفدهم التفاوضي شركاء جدداً يوالون موسكو، ويدافعون عن مصالحها، علماً أنه الشق الوحيد في هذا القرار الذي وجد طريقه إلى التنفيذ، من خلال تشكيل هيئة التفاوض عام 2017، في حين تم التغاضي عن تنفيذ أهم بنود 2254، وهي إجراءات بناء الثقة التي تفرض على النظام إنهاء الحصار على المدن، ووقف العمليات القتالية، وإطلاق سراح المعتقلين.
وكذلك فإن روسيا المنتصرة في حلب بفعل شراكتها الجديدة مع تركيا، والتي أسهمت في تدمير الغوطة الشرقية على رغم اتفاقي خفض التصعيد اللذين وقعتهما موسكو مع الفصائل المسلحة «المعارضة»، وروسيا ذاتها «المنتصرة عسكرياً» هي التي حولت اليوم ما نتج من اجتماع المعارضة الذي لم تحضره «المعارضة» والنظام «الخلبي» في سوتشي إلى أحد مرجعيات العمل الأممي، أي أن منطق التسويات منذ عام 2014 وحتى اليوم يقوم على أساس القوة المفرطة المستخدمة ضد السوريين المعارضين للنظام، وليس بناء على الحقوق المشروعة للشعب السوري في إنهاء نظام استبدادي وإقامة دولة ذات حكم غير طائفي يتمتع فيها كل السوريين بحقوق مواطنة فردية وجمعية كاملة.
ليس من قبيل الإيمان بالحلول السياسية لجوء الولايات المتحدة الأميركية وكل من فرنسا وبريطانيا إلى استخدام القوة المسلحة لفرض وقائع جديدة في العملية التفاوضية، على رغم أن ما نتج من الإعلان عن إمكان استخدام القوة من هذه الدول ضد النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي كانت له مفاعيل أقوى، وأهم بالنسبة للسوريين، حيث للمرة الأولى يتوقف طيران النظام وروسيا والميليشيات الإيرانية عن ممارسة أعمالهم القتالية لنحو 72 ساعة، بينما سرّع تحويلها إلى عملية عسكرية غير ذات جدوى، في إنهاء الاستراحة القتالية، وعودة آلة الحرب إلى الحياة السورية، حيث تابعت أعمالها في الغوطة ومخيم اليرموك والحجر الأسود، وتستعد للتمدد على وسط وشمال البلاد وفق المبعوث الدولي «المتخوف» من أن يصبح مصير إدلب مثل «الغوطة الشرقية»، ما يؤكد أن الحلول التي تنتظر السوريين هي حلول مرتهنة بالتقدم العسكري والانتصار الميداني، ومبنية على أساس تقاسم النفوذ وفق جملة التفاهمات الدولية التي تنتظرها الأمم المتحدة لتحديد ملامح التسويات المقبلة النهائية، استعداداً لإطلاق الحل السياسي «المسلح»، الذي يتأسس من جديد على التفاهمات الأميركية- الروسية من دون تغييب مصالح الشركاء الأوروبيين، وغالباً على حساب حصة كل من الدول الإقليمية إيران وتركيا.
كثرت في الآونة الأخيرة الأنباء عن حرب مرتقبة بين إسرائيل وايران، لربما في البداية اقتنعنا جميعا أن إسرائيل باتت تخاف التغلغل الإيراني في سوريا بشكل خاص والتمدد الشيعي في المنطقة بشكل عام، إلا أن زيادة الضخ الإعلامي لا سيما في المواقع الأمريكية والبريطانية المعروفة، جعلنا ندرك تماماً أنها فقاعة لتوجيه أنظار الشعوب العربية الى هذا المنحى، في الوقت الذي تمثل فيه إيران الجدار الحامي لإسرائيل.
كان من السهل على الولايات المتحدة يد إسرائيل اليمنى، أن تضرب مواقع إيران في سوريا خلال 24 ساعة إن كان لديها النية، وكيف لواشنطن أن تضرب الوجود الايراني في سوريا، وقد جعلت منه "الغول" الذي تستخدمه في كل مرة تريد فيها أن تضغط على الخليج العربي، وما أمام دول الخليج إلا أن تدفع أتاوات دفع "الغول" عن بلادها، ما يشبه تمثيل كرتوني يمكن أن يقنع طفلاً دون الخامسة من عمره.
الإعلام العربي بطبيعته يؤمن بمهنية الصحف الغربية من "واشنطن بوست" الى "ناشينال إنترست" أو "الغارديان" وغيرها الكثير الكثير، ماجعل التسويق الحرب المزعومة بين إسرائيل وايران سهلاً على المواقع العربية، هذا الامر جعل العقل الباطن للقارئ العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص يتوجه نحو أن "إيران" هي عدو مشترك بين العرب وإسرائيل، وهذا دليل على نجاح الخطة الترويجية، خاصة مع هدوء الوضع بعد التوترات التي شهدتها الساحة السورية مؤخراً بين روسيا والدول الغربية، وحالة الترقب التي يعيشها الجميع في انتظار "أستانا 9 " الشهر المقبل ونتائجه.
ولعل اشغال السعودية بالانفتاح والخطط الاقتصادية الجديدة وتغيير استراتيجيتها وقوانينها، هو أحد سبل التفشي الإيراني في المنطقة، وبين الفينة والأخرى يخرج وزير الخارجية السعودي، "عادل الجبير"، ليثني على تصريحات الرئيس الأمريكي، "دونالد ترامب"، حول مساعيه لتطويق ايران وكف يدها في المنطقة، ووقف برنامجها النووي.
لكن جميعنا يعلم في النهاية، ان الكاريزما التي يتمتع بها ترامب هي كاريزما "جنونية" بل "هستيرية"، ولم يكن وصول هذه الشخصية الى البيت الأبيض بالصدفة، بل لإشغال العالم بأسره بكلمات ينشرها قاطن البيت الأبيض على حسابه "تويتر" والتي تضج لها دول العالم في المشرق والمغرب، لكن يعود ويغير أقواله بعد أيام، بعد أن يعطي جرعة مخدرة للجميع خارج إطار حدوده واسرائيل، والتي لا تستغرق معه إلا بضع ثواني وفقط "تغريدة"
«مع هزيمة قوى الشر الإرهابية، صارت الأوضاع مستقرة (....)، وباتت الحكومة الشرعية مسيطرة على البلاد».
ألا يبدو ذلك مألوفاً بلا مفاجآت؟
ذلك هو الشعار الذي تواصل الآلة الإعلامية الرسمية الروسية تكراره من دون كلل بالإشارة إلى سوريا: لقد انتصر بشار الأسد!
وكان أول ظهور للبيان السابق في عام 1983 في أفغانستان بعد مرور ثلاث سنوات من غزو الجيش الأحمر السوفياتي البلاد؛ للحيلولة دون سقوط «الحكومة الشرعية» التي هيمنت عليها القوى الشيوعية المحلية آنذاك.
ومن ذلك الحين، وبما أن التاريخ لا يكرر نفسه على عكس المثل الدارج، فإنه لا ينبغي على أحدنا الاستنتاج بأن سوريا اليوم هي أفغانستان الأمس.
تبلغ مساحة أفغانستان ثلاثة أضعاف مساحة سوريا، وهي ذات تضاريس أكثر وعورة وصعوبة بالنسبة للعمليات العسكرية. وفي أثناء الغزو السوفياتي للبلاد في ثمانينات القرن الماضي، كان تعداد الشعب الأفغاني وقتذاك يقارب تعداد الشعب السوري اليوم، مع فارق واحد أن القوات المناهضة للشيوعية يمكنها الاستناد إلى الاحتياطي الديموغرافي الهائل في الأجزاء ذات الأغلبية البشتونية في باكستان.
كذلك، وبصرف النظر تماماً عما يتصوره الرئيس فلاديمير بوتين، فإن روسيا اليوم ليست مثل الاتحاد السوفياتي السابق، لا لشيء إلا لأنه منذ سقوط الإمبراطورية السوفياتية، ذاق جيلان من المواطنين الروس طعم الحرية للمرة الأولى. ومع الأخذ بعين الاعتبار تلك المحاذير، تبقى الحقيقة القائمة أن التجربة الأفغانية لديها ما تلقنه للروس عندما يحاول بوتين تحقيق حلمه البائس ببسط هيمنته على أوروبا الشرقية، وأواسط آسيا، ومنطقة الشرق الأوسط.
وخلال الحرب الأفغانية التي دامت 10 سنوات، أرسل الاتحاد السوفياتي ما يزيد على 600 ألف جندي إلى تلك الحرب، بالإضافة إلى جيش قوامه 55 ألف جندي تسيطر عليه كابل، وميليشيات أفغانية أوزبكية يبلغ عددها نحو 20 ألف مقاتل. ونظراً لحرصهم على عدم المجازفة بالأغلبية العرقية الروسية، طلب قادة الكرملين توفير القوة البشرية من الجمهوريات السوفياتية الأخرى. وتم تجنيد المرتزقة من أوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان. وجاءت كوادر الضباط من أوكرانيا ودول البلطيق.
أما اليوم، فيمكن للرئيس الروسي الاعتماد على جيش بشار الأسد البالغ 80 ألف مقاتل، إلى جانب تشكيلة متنوعة من الميليشيات والمرتزقة. إلى جانب 30 ألفاً من الجنود الإيرانيين والميليشيات التي جندتها طهران من لبنان، وأفغانستان، وباكستان.
ومع ذلك، لا تبسط روسيا القدر نفسه من السيطرة على حلفائها في سوريا اليوم، مثل ما كان الاتحاد السوفياتي يصنع مع حلفاء الثمانينات في أفغانستان من قبل.
لقد حصدت الحرب الأفغانية حياة ما يقرب من 16 ألفاً من الجنود السوفيات، بالإضافة إلى 55 ألفاً من الجرحى والمعاقين. وشارك أكثر من مليون مواطن سوفياتي في تلك الحرب التي استمرت قرابة عقد من الزمان، وهو ما يمثل أكبر عدد من المحاربين القدامى في الإمبراطورية السوفياتية منذ الحرب العالمية الثانية. وبمرور الوقت صاروا يُعرفون باسم «أفغانتسي – أو الزمرة الأفغانية»، الذين يوفرون المدد لتجنيد العصابات الإجرامية، والمتمردين العرقيين، ومهربي السوق السوداء. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظهر الكثير من عناصر «أفغانتسي» في أوطانهم الأصلية مجدداً، ولا سيما في أوكرانيا ودول البلطيق لقيادة الحركات الوطنية الشعبوية المناهضة لروسيا.
وليست هناك أرقام رسمية يمكن الاستناد إليها حول تكاليف المغامرة الأفغانية. غير أن الأرقام شبه الرسمية تتراوح بين 300 و400 مليار دولار. وعلى النقيض من الاعتقاد السائد أن الإمبراطورية السوفياتية لم تنهار جراء الحرب في أفغانستان، بل كان الأمر، على النحو الذي وصفه يفغيني بريماكوف ذات مرة؛ إذ قال: «إن العقلية التي دفعتنا إلى التدخل في أفغانستان، هي التي تسببت في انهيار الإمبراطورية السوفياتية».
وقال بريماكوف: «لقد ذهبنا إلى أفغانستان لأننا اعتقدنا أن قواعد القوة الكلاسيكية غير منطبقة على الاتحاد السوفياتي. فلقد كان من المفترض للاتحاد السوفياتي أن يشكل حالة خاصة من التاريخ ولا تنسحب عليه قوانين التاريخ بحال».
فهل يرتكب بوتين الخطأ القديم نفسه؟
مع عقلية ضابط الاستخبارات السوفياتي التي تهيمن على تفكيره، يعتقد البعض أنه ربما يرى الأمور بالطريقة نفسها التي كان زعماء الاتحاد السوفياتي يزنون بها الأمور خلال العقود الأخيرة من عمر الإمبراطورية. وذلك هو السبب في أنه ينشئ الزمرة «السورية» من خلال دعم الحكومة المركزية القائمة على الأقلية الحاكمة ضد رغبات السواد الأعظم من الشعب السوري. كما أنه يرتكب الخطأ نفسه الذي وقع فيه أغلب القادة السوفيات القدامى في أفغانستان، عبر رؤية الحرب من الزاوية العسكرية المحضة.
ورغم ذلك، فإن المنظور العسكري البحت للحرب، أي القتال الفعلي للقوات، يمثل نزراً يسيراً، رغم أهميته الفائقة، من أي حرب كانت ضمن سياق هو أكبر وأوسع بكثير.
وبحلول عام 1988، ومن الزاوية العسكرية المحضة، كان الاتحاد السوفياتي قد انتصر في الحرب الأفغانية، وانحاز آخر جيب للمقاومة، تحت قيادة أحمد شاه مسعود، إلى وادي بنشير الأفغاني. والأفضل من ذلك، توصل مسعود إلى اتفاق للهدنة مع الجيش الأحمر. ورغم ذلك، عندما التقينا معه في مخبئه خلال أحلك أيام المقاومة الأفغانية، أعرب عن براعة غير عادية في تحليل الأمور عبر الإصرار على أن الحرب لا تنتهي أبداً من جانب واحد معلناً النصر، لكن يتعيّن على الجانب الآخر الاعتراف بالهزيمة، وأنه ليست لديه نية قط لأن يُقدِم على فعل ذلك.
وبالتالي، كان إعلان النصر في سوريا من جانب فلاديمير بوتين، والذي ردده الأسد كالببغاء المطيع، يبدو مثل الدمية المضحكة، وتضخميه بواسطة الآلة الدعائية الهائلة في الكرملين في الغرب. وهو ليس أفضل حالاً من ادعاءات مماثلة مقدمة من جانب شيوخ الكرملين الذين أصابهم الهرم ووكلاءهم المطيعين في كابل في ثمانينات القرن الماضي.
ولا تعتبر التجربة السوفياتية في أفغانستان هي المثال الوحيد للانتصار في الحرب من الناحية العسكرية المحضة، مع الخسارة السياسية الأكيدة.
فلقد كانت هناك تجربة مماثلة للفرنسيين في عام 1962 في الجزائر، وتجربة أميركية أخرى في فيتنام عام 1974. وفي كلتا الحالتين، خسر الخاسر لأنه اعتمد أجندة أهداف سياسية يستحيل تحقيقها على أرض الواقع: وهي محاولة فرض حكم الأقلية على الأغلبية الرافضة.
وتجربة بوتين السورية أكثر نزعاً إلى اليأس من تجربة السوفيات في أفغانستان، وتجربة الفرنسيين في الجزائر، وتجربة الأميركيين في فيتنام. إذ إنه في وضعية أسوأ من الناحية الاقتصادية، في الوقت الذي تضطر فيه روسيا إلى التعامل مع انخفاض أسعار الطاقة عالمياً مع تشديد العقوبات الاقتصادية الدولية. ومن حيث القوة البشرية، فهو لا يمكنه الاعتماد على الحدود البعيدة للإمبراطورية، في حين أن الغالبية من الشعب الروسي مترددة في الامتثال. وعلى الصعيد العسكري، فإن القوة الروسية متبعثرة للغاية مع انتشار ما يزيد على 100 ألف مقاتل روسي بين داغستان، والشيشان، وشبه جزيرة القرم، وجنوب أوسيتيا، وأبخازيا، ومولدوفا، ودونيتسك.
كما تحتفظ موسكو أيضاً بالآلاف من الجنود في قواعد عسكرية في طاجيكستان وأرمينيا لإظهار القوة العسكرية في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. ومع ذلك، وفي هذه الأماكن، يواجه الحكام الموالون لموسكو المعارضة الشديدة الموالية للغرب، والتي تشمل مطالبها إغلاق القواعد العسكرية الروسية في بلادهم. وأثناء كتابة هذا المقال، تواجه عاصمة أرمينيا الانتفاضة المسلحة ضد محاولات العناصر الموالية لموسكو تنصيب سيرغي ساركسيان، حليف بوتين، على رأس الحكومة في البلاد.
يقترح بعض النقاد من العواصم الغربية، أنه ينبغي السماح لروسيا بالبقاء عالقة في المستنقع السوري الآسن لأطول فترة ممكنة؛ حتى لا تتسبب في إلحاق الأذى بأي أماكن أخرى حول العالم. وعلى مدى عقد الثمانينات من القرن الماضي، وفي أعقاب الدرس القاسي الذي تلقته في أفغانستان، لم تلحق الإمبراطورية السوفياتية أي أضرار بأي دولة أخرى في العالم حتى انهيار الاتحاد تماماً.
ومن المفارقات، وحتى يتمكن من مغادرة الفخ السوري يحتاج الرئيس بوتين إلى مساعدة ليس فقط من القوى الغربية، وإنما من غالبية الشعب السوري نفسه. وهذا، رغم كل شيء، سوف يستلزم تقديم رأس بشار الأسد على طبق من ذهب كما صنع السوفيات من قبل مع الرئيس الأفغاني الأسبق محمد نجيب الله في كابل.
ورداً على سؤال حول نجيب الله في عام 1989، قال ألكسندر يافكوفليف، فيلسوف المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي: «نجيب؟ مَـن تقصد بنجيب هذا؟ أوه، ذلك الرجل!»
كانت وصية الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) أن يتم دفن جثمانه في مخيم اليرموك في دمشق، ولم يكن تنفيذ هذه الرغبة سهلا، لأن الرئيس السوري حينذاك، حافظ الأسد، رفض التجاوب معها، ولكن بعد انتظار ووساطات قامت بها شخصياتٌ رفيعة المستوى، استجاب الأسد بشروط، منها أن تكون مراسيم التشييع محدودة جدا، وتحت إشراف الأجهزة السورية.
وكان السؤال يومها: لماذا تحرّج الأسد من الموافقة على دفن شخصيةٍ بقامة أبو جهاد في مخيم اليرموك، والرجل هو الثاني في الثورة الفلسطينية، وقائد انتفاضة الحجارة، في وقتٍ كان يمكن للإعلام الرسمي السوري استثمار المناسبة، وتوظيفها لصالح القيادة السورية المطعونة بشرفها الفلسطيني؟
لم يكن الأسد على تفاهم مع قيادة حركة فتح التي يحتل أبو جهاد موقع الرجل الثاني في هرميتها بعد ياسر عرفات. وليس سرا أن الأسد اختلف مع قيادة "فتح"، منذ كان وزيرا للدفاع، وقبل أن يصل إلى الرئاسة في انقلاب 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، وعارض أن يكون للحركة أي حضور أو عمل من داخل سورية، ما لم يكن تحت إشراف الأجهزة السورية، وفي المقام الأول الأعمال الفدائية ومعسكرات التدريب، وهذا يفسر موقفه من المواجهات العسكرية بين الثورة الفلسطينية والحكم الأردني في سبتمبر/ أيلول 1970، حيث أخذ جانب السلطات الأردنية، ورفض تقديم العون للمقاومة الفلسطينية التي تعرّضت لنكسة كبيرة.
حصلت المواجهة الكبيرة بين الأسد وحركة فتح، وكانت على الساحة اللبنانية، واستمرت طوال عقد السبعينيات حتى خروج الثورة من بيروت في سبتمبر/ أيلول 1982، وكان عنوانها الصراع على القرار الفلسطيني المستقل الذي مثله نهج عرفات السياسي، ويشكل ذبح مخيم تل الزعتر في 1976 محطة رئيسية في حرب المقاومة مع النظام السوري.
وطوال الصراع، شكل مخيم اليرموك مكانا عصيا على النظام السوري الذي وضعه تحت المجهر، ونشر فيه أتباعه من الفصائل الفلسطينية الذين تفرّغوا لرصد النشاط الفلسطيني، غير المندرج ضمن توجهات النظام، لكن الكتلة الشعبية في المخيم كانت عكس التيار، مثل بقية تجمعاتٍ فلسطينيةٍ في الداخل والخارج، تقف إلى جانب منظمة التحرير وقائدها ياسر عرفات، وهذا ما ظل على الدوام يؤرق حافظ الأسد الذي كان يدرك أن دفن أبو جهاد في اليرموك ذو قيمة رمزية لا تصب في رصيد من ذبح تل الزعتر.
ولم يكن اليرموك مخيما لاستيعاب الشتات الفلسطيني كما بقية المخيمات، بل حالةٌ فريدةٌ طغى عليها النفس المناهض للنظام ضمن مزيج فلسطيني سوري نشأ، في البداية، على نحو عفوي، ومن ثم تحول إلى نوع من الهوية الخاصة تدمج المشتركيْن الفلسطيني والسوري، وتحوّل مع الوقت إلى تماهي معارضة النظام باعتناق القضية الفلسطينية، وهذا ما جعل النظام يحسب للمخيم حساباتٍ كثيرة. ومن هنا، وقف المخيم مع ثورة الشعب السوري، ولم تتمكّن مفارز العملاء من إسكاته، ومنعه من التحول إلى ساحة فعلية للحراك الشعبي الذي استعصى فيه على النظام ضرب معادلة المخيم التي أنتجت الفلسطيني السوري والسوري الفلسطيني.
جرى التعامل مع المخيم بالطيران الحربي، ولم يوفر النظام سلاحا إلا واستخدمه، وخصوصا الحصار والتجويع الذي أدّى إلى هجرة جماعية. وطرح بعض قادة النظام، في أكثر من مناسبة، مسألة التخلص من المخيم نهائيا، لاجتثاث جذور الشجرة الفلسطينية التي ضربت عميقا في الأرض السورية.
تدمير اليرموك نوع من الرهان التجاري البحت أيضا لدى جناحٍ من المحاربين في صف النظام، لأن موقعه الجغرافي في وسط دمشق يشكل نقطةً على غاية من الأهمية. وهذا أمر يوازي، في أهميته، مخطط النظام وأعوانه لمسح الأثر الفلسطيني من سورية الجديدة التي لا مكان فيها لأهل فلسطين ولا للقضية.
تعاقبت، في الأسابيع والأيام الأخيرة، المبادرات الدولية للخروج من المأزق الخطير الذي وضعت فيه سياسة الإبادة الجماعية والتدمير المنهجي لموطن السوريين ومدنهم وقراهم المجتمعَ الدولي بأكمله. وتوالت اللقاءات بين قادة الدول الكبرى وخلوات مجلس الامن للتداول في مخاطر ترك الوضع السوري نهب النزاعات الدولية والإقليمية. ويكاد لا يحصل لقاء قمة اليوم بين الدول الفاعلة من دون أن تكون القضية السورية في محور مناقشات الزعماء ومداولاتهم.
تبرهن هذه التغيرات السياسية على الصعيد الدولي حقيقة أن الاستعصاء الذي عرفته مفاوضات الحل السياسي في سورية لم يأتِ نتيجة انقسام المعارضة، كما كانت تدّعي وتتذرع دولٌ كثيرة، ولا نتيجة رفض المعارضة أو السوريين الحوار فيما بينهم، وعجزهم عنه، وإنما بسبب الصراعات الدولية والمواجهات الجيوسياسية التي استخدمت الصراع السوري لخدمة أغراضها وأمسكت بمفتاح الحل فيه. وفي هذا السياق، ينبغي أن نفهم التدخلات الإيرانية والروسية التي هدفت إلى الحيلولة دون انتصار الثوار السوريين، والمساومات الدولية المستمرة وغير المعلنة التي قلبت مسار الحرب أكثر من مرة، ومنعت أي حسم عسكري بانتظار نضوج العروض السياسية.
ولعل أهم هذه العروض الجديدة ما تداولته الصحافة عن عرض قيل إنه قُدّم من الغربيين للروس لقاء تخليهم عن الأسد وقبولهم الإفراج عن مفاوضات الحل السياسي، وإنهاء المحنة السورية. وحسب ما أوردته الصحافة، تضمن العرض الغربي ثلاثة بنود. الأول الاعتراف لروسيا بقاعدتيها العسكريتين، البحرية والجوية، في طرطوس وحميميم، على المتوسط، وضمان الحفاظ عليهما حتى بعد تغيير النظام، واعتبار ذلك حاجةً ومصلحةً شرعية لروسيا لترتيب أوضاع أساطيلها في المتوسط. والثاني تقديم الأموال الضرورية لإعادة إعمار سورية وإنقاذ موسكو من السقوط في مستنقع مشابه للذي وقعت فيه واشنطن في العراق، ولا تزال تغوص في وحوله من دون أن تعرف كيف تخرج منه، والثالث استيعاب روسيا في النظام الغربي، واعتبارها شريكاً في أي قرار يتعلق بالمسائل الدولية، بحيث لا يتم البحث في حل أي مشكلة دولية من دون مشورتها ومشاركتها.
إذا صحَّ خبر هذا العرض، نستطيع القول إن هناك انقلاباً كاملاً في السياسة الغربية تجاه روسيا، واعترافاً من الغرب بهزيمته في سورية في المرحلة الراهنة، واستعداده للعمل مع روسيا للخروج من لعبة التحطيم المتبادل، المستمرة منذ سبع سنوات، والتي كانت سورية وشعبها ضحيتها الرئيسية.
أعاد هذا النبأ إلى الذاكرة مداولاتي مع الروس والغربيين في بداية تشكيل المجلس الوطني السوري، والذي رأسته شخصياً في أشهر إطلاقه الأولى. وهي تظهر، كما سأبين، أن الغرب كان يستطيع، بأقل من هذه التنازلات بكثير، أن ينال تعاون موسكو في البحث عن حل سياسي جدي، ويحول دون حصول الكارثة السورية، لو قبل بوضع حد لاستهتاره بروسيا ومصالحها، واعترف بها طرفاً مؤهلاً للحوار، وشريكاً في التعاون على التخفيف من حدة الصراعات والنزاعات الدولية، تماماً كما حصل في مواجهة الحرب ضد "داعش"، وكما يحصل الآن عندما يزحف الغرب على أعتاب الكرملين، بحثاً عن حل يخرجه من الورطة التي وضع نفسه فيها، بسبب تخبط سياساته، وموقفه الهزيل والخاطئ معاً من الثورة والمعارضة السورية، ومن أحداث الربيع العربي عموماً.
(1)
بعد أسابيع من تشكيل المجلس الوطني السوري، تلقيت دعوة من وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لزيارة موسكو، والتباحث حول المسألة السورية في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 . وكان ذلك مصدر تفاؤل كبير لنا، لاعتقادنا أن من الممكن أن يفتح ذلك نافذة في الموقف المتصلب والمعادي الذي وقفته موسكو من الثورة السورية في الأشهر الثمانية الماضية التي امتلأت فيها شوارع سورية وساحاتها بدماء المتظاهرين السلميين. لكنني من اللحظة الأولى للمقابلة، فوجئت بخطاب عنيف وقاس يستهدف قضيتنا، حتى لو أن جام غضب الوزير الروسي قد انصب على خداع الغرب وسياساته العدوانية. والواقع أن حديث لافروف مع وفد المجلس كان بأكمله مرافعةً اتهاميةً لا تنتهي ضد الغرب وسياساته، في العراق وليبيا وأوروبا، وتدخله الدائم في الشؤون الخاصة بالدول، وتحضيراته للتدخل المقبل في سورية، ومن ثم تأكيد تصميم الروس على مقاومة هذه السياسة، وعدم التراجع خطوة واحدة هذه المرة.
كان جهدي كله منصباً عندما يأتي دوري في الكلام على إعادة الحديث إلى الموضع السوري، والتذكير بما يحدث في سورية، والتداول في إمكانيات وفرص التفاهم لوضع حد لسفك الدماء، والتوصل إلى مخرج من الأزمة المتفاقمة. لكن في كل مرة كان لافروف ينقل الحديث، من دون مقدمات، إلى موضوع خداع الغرب وعدائه الروس والشعوب، ويتجنب متعمداً أي دخول في النقاش الذي ذهبنا من أجله. عبثاً حاولتُ أن أجرّه إلى الموضوع السوري، وإقناعه بأن الأمر يتعلق بتغيير سياسي داخلي، ولا يهدف بأي شكلٍ إلى تغيير تحالفات سورية الاستراتيجية وتوجهاتها الدولية، وأن قاعدة طرطوس البحرية الروسية لن تمسّ، بل إنه لا مانع لدينا للسماح لموسكو ببناء قاعدة عسكرية إضافية. ومما حاولت أن أركز عليه أن الشعب السوري غيور على استقلاله وسيادته، ولذلك سعى منذ الاستقلال إلى إقامة علاقات قوية مع روسيا لموازنة علاقاته مع الغرب، وأن المعارضة حريصةٌ على الحفاظ على هذه العلاقات التاريخية، والتعاون المثمر مع روسيا، وأظهرت حماساً أكبر لهذه الفكرة فقلت: لو تخليتم أنتم عنا نحن لن نتخلى عنكم، لأننا لا نريد أن نسقط في دائرة التبعية الأحادية للغرب.
ولا أعتقد أنه كان خادعاً، عندما رمى بعروضي جميعاً عرض الحائط، وبكلمة واحدة، قائلاً: إن قاعدة طرطوس لا قيمة عسكرية لها، وهي مجرد منصة لتزويد السفن الروسية بالخدمات، وأن روسيا لا تبحث في موقفها عن مكاسب في سورية، وأن الأسد كان حليف الغرب ورجله، ولم يقم بزيارة لروسيا سوى بعد خمس سنوات من رئاسته، وأن ما يهم موسكو في هذا الموضوع هو منع التدخل الغربي في سورية والحفاظ على حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه.
وقد أصبح جلياً لي، بعد ما يقرب الساعة من المداولات، أن سورية بأكملها لا تعني روسيا كثيراً، وهي ليست في محور اهتمامها الرئيسي لتحقيق مكاسب مادية أو سياسية. كانت أكثر من ذلك بكثير، فرصة لا تعوّض من أجل إظهار إرادة روسيا التي لطختها العنجهية الغربية بالوحل، وقدرة موسكو على تحدي إرادة الغرب، وإفشال خططه في سورية، وعدم السماح له بتحقيق ما نجح به في العراق وليبيا، ومن قبل في أفغانستان وأوروبا الشرقية، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، ومهما كانت التكاليف والخاسرون الذين صدف وكانوا عموم السوريين.
قلت بعدما يئست من إمكانية زحزحة الوزير عن مواقفه المتصلبة، ورفضه الحديث عن المحنة السورية من وراء المبالغة في التركيز على عدوانية الغرب وتدخلاته العسكرية، وبهدوء بالغ: سعادة الوزير، انظرْ إلي جيداً. أنا لستُ غربياً، ولم آتِ إلى هنا ممثلاً للغرب، ولا لمناقشة الخلافات الروسية الغربية، ولا يهمني الآن مصير علاقتكم مع الغرب. أتيت إلى هنا ممثلاً لشعبٍ يذبح كل يوم مئة مرة، وهو شعب محب لروسيا، وصديق لها منذ سبعين عاماً، لا صديق الغرب، ثم إنك تتحدث مع إنسان قضى عمره في نقد سياسات الغرب، وأولها حماقته في غزو العراق وليبيا. إذا كانت لديكم حساباتٌ مع الغرب، فالرجاء أن لا تسعوا إلى تصفيتها على حسابنا، فنحن شعبٌ صغيرٌ لا يتحمل مثل هذا الصراع.
هذه كانت اللحظة الأولى التي خرج فيها عن تجهمه وحدَّ من لهجته العدائية، وأظهر ما يشبه الابتسامة علامة الرضى. لقد أدرك بالتأكيد أن رسالته قد وصلت. وأصبح بإمكاننا أن ننتقل إلى الحديث في محنة سورية ومأساتها. واستمر اللقاء ضعف الوقت الذي كان مخصصاً له، ثم بعد اعتذاره بسبب ارتباطاتٍ أخرى، أحالنا إلى مساعده ومستشار الرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف لمتابعة الحوار معه أكثر من ساعتين إضافيتين، وكان بوغدانوف في ذلك اللقاء مثالاً للود والتفهم والعطف على القضية السورية.
(2)
كان الغربيون، وهنا بيت القصيد، ينتظرون نتائج لقائي مع لافروف بفارغ الصبر. فقد كانوا يفتقرون لأي خطة عمل من أي نوع، عسكرية أو سياسية، في المسألة السورية، نتيجة الموقف الذي اختاروه في عدم التورط وتكرار نمط التدخلات الكارثية التي جرت في العراق وليبيا ومن قبل في أفغانستان. وكانت سياستهم الوحيدة تجاه الأزمة السورية الوصول إلى مفاوضاتٍ تجمع المعارضة والنظام. وهكذا شجعوا على إصدار مبادرة جامعة الدول العربية التي تحولت إلى مبادرة دولية باسم مبادرة جنيف، في يونيو/ حزيران 2012، واكتفوا بفرض بعض العقوبات على النظام. لكن العجيب أن كل رهانهم كان مرتبطاً بإقناع الروس بالضغط على النظام، لدفعه إلى قبول الحل السياسي، في الوقت الذي كان كانت فيه موسكو هي التي تضغط على النظام لتعطيل المفاوضات والاستمرار في الحرب، لتبقي مفتاح الحل في يدها وسيلةً للضغط على الغرب، ووضع دبلوماسيته واستراتيجيته السلمية في طريق مسدود، وتجرده من أي خيارٍ بديل.
أمام تصلب الروس، لم يكن لدى الغرب الذي وجد سياسته للحل السلمي والمفاوضات في مأزق لا مخرج منه، وحرم نفسه من أي بديلٍ باستبعاده كل الخيارات الأخرى، لم يبق في يده سوى الانتظار، ونصح المعارضة وتشجيعها على الحوار مع موسكو، ربما في انتظار معجزة انقلاب الموقف الروسي على نفسه، أو اعتقاداً بأن روسيا لا تملك وسائل الاستمرار طويلاً في سياستها المعطلة لمجلس الأمن.
في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن ينتظر الغربيون بفارغ الصبر نتائج لقائي الأول مع الوزير لافروف لمعرفة اتجاه الريح. وكان تقديري الذي نقلته لهم، من دون ذكر تفاصيل الحوار مع الوزير الروسي، أن موسكو ليست مغلقة تماماً على الحوار، ومن الممكن تطوير موقفها، لكن ما تطلبه ليس في متناولنا نحن السوريين، لسوء الحظ، ولا يهمها كثيراً كل ما نقدمه لها. قالوا كيف ذلك؟ قلت إن ما تطلبه موسكو لا يوجد إلا عندكم، وهو احترامها واعترافكم بها شريكاً في السياسة الدولية، وهذا ما يهمها أكثر من أي قواعد عسكرية واستثمارات اقتصادية في سورية. فهي غاضبة منكم وناقمة على تعاملكم معها بالعقوبات كدولة من الدرجة الثانية. وذكرت لهم بعض أفكار المرافعة العنيفة التي سمعتها من الوزير لافروف ضد سياساتهم. وأضفت: لذلك إذا أردتم ان تساعدونا، نحن السوريين، لا يكفي أن تفرضوا عقوبات على روسيا، ينبغي، بالتوازي، أن تفتحوا حواراً معها. كان الجواب حاسماً وفورياً ومن دون تردد : هذا مستحيل. وليس الحوار الذي تريده موسكو حول سورية فحسب. بالعكس إنها ترفض الحوار عن سورية، لأنها تريد أن تستخدم قدرتها على تعطيل الحل وسيلةً لفتح حوار شامل مع الغرب. وهذا ما فهمه الغربيون أيضاً ورفضوا الحديث فيه. وقد أدركت بعد هذه المحادثة أن قضيتنا، نحن السوريين، في مأزق عميق. وكتبت بعدها أنه لا مخرج من المحنة السورية إلا بأحد حلين: تفاهم بين موسكو وواشنطن أو تفاهم بين الأطراف السورية فيما بينها. وكلاهما بدا في تلك اللحظة بعيد المنال، بل من باب المحال.
كانت تلك من أكثر اللحظات يأساً في حياتي، ليس لأنني أدركت انسداد الأفق السياسي لأزمةٍ يذهب ضحيتها مئات الشباب كل يوم، لحساب عملية تصفية حساباتٍ في النزاع الغربي الروسي، وإنما أكثر من ذلك لأن المعارضة التي كنت أنتمي لها كانت في عالم آخر، غير قادرة على فهم مثل هذا الكلام ولا حتى سماعه، زاحفة نحو السلاح، واثقة من النصر، ومنغمسة في الإعداد لحقبة ودستور ما بعد الأسد، ومنشغلة بتوزيع مناصب السلطة والنفوذ فيها على الأحزاب والتجمعات والمجموعات المتنازعة.
(3)
في انتظار أن يرضخ الغربيون لمطالبها، قرّرت روسيا أن تستخدم سورية ميداناً لإبراز إرادتها القوية في المواجهة السياسية، وقدرتها على إنزال الأذى بمصالح الغرب العليا، أي بسمعته وصدقيته الاستراتيجية والأخلاقية، إلى أبعد مما كان الغرب يتصوّره، وتدفيع حكوماته المستهترة بالقانون الدولي ومصالح الشعوب وسلامها، ثمن سياساتها السابقة، أكثر ما يمكن من الإذلال والإهانة. وهكذا أطلقت أيدي الأسد وحلفائها الإيرانيين على الجبهة العسكرية، وأغلقت طريق المفاوضات السياسية، واكتفت على الجبهة الدبلوماسية بالمناكفات في مجلس الأمن، وتقطيع الوقت بمشاوراتٍ لا تنتهي بشأن قراراتٍ أممية لا تكاد تصدر، بعد تفريغها من محتواها، وسحب الصاعق منها، حتى تفقد قيمتها، لتبدأ مشاوراتٌ جديدةٌ على قرارات بديلة، وهلم جرّا.
وبعكس ما يعتقد كثيرون، لم يكن استخدام الأسلحة المحرمة في الحرب السورية، بما فيها الكيميائية، مبادرة منفردة أو طائشة من الأسد وحلفائه الإيرانيين. وما كان في وسع هؤلاء أن يسمحوا لأنفسهم بتحدي الإرادة الدولية، الحساسة جداً في هذا الموضوع، لو لم تكن تلك إرادة الروس أنفسهم في سعيهم إلى إظهار مدى قدرتهم على الذهاب بعيداً في تحدي سياسة الغرب وتحطيم منظومة القيم والتقاليد والأعراف الدولية التي يقيم عليها أركان هيمنته العالمية. المستخدم الحقيقي والأول لأسلحة الدمار الشامل، التي طالما ادّعى الغرب أنه لن يقبل أن يستخدمها أحد، وبنى شوكته على فرض احترامها عندما يريد، هي موسكو. والهدف هو بالضبط كسر صدقية الغرب، وإظهار عجزه وقلة حيلته وتراجعه أمام إرادة روسيا الحديدية.
لقد أراد الروس تمريغ وجه الغرب في الوحل في سورية، وقد فعلوا ذلك، وربحوا هذه الحرب. وحاول الغربيون أن يغطوا على هزيمتهم وانسحابهم من المواجهة مع روسيا بتضخيم مسألة الحرب على الاٍرهاب، والتطبيل الإعلامي لمساهمتهم فيها، لكنهم في المحصلة النهائية خسروا الحرب الاستراتيجية، وتركوا سورية رهينة في يدي موسكو وطهران. لم يحصل ذلك بسبب التفوق العسكري الروسي عليهم، ولا بسبب افتقارهم الحنكة والحكمة والتفاهم فيما بينهم، ولكن لأنهم لم يفهموا طبيعة الحرب، وأبعادها العولمية وقرّروا منذ بداية الأحداث السورية أن يبقوا خارجها، وأن لا يتورّطوا فيها، أي أن لا يكون لديهم أي خيار، لا سياسي ولا عسكري، وأن يتركوا مفتاح الحل في يد غيرهم، واكتفوا من الخطط السياسية بالعقوبات والتصريحات العنترية استراتيجية لردع الروس أو الايرانيين وفرض التراجع عليهم. فخرجوا من الصراع قبل أن يبدأ، وأخفوا انسحابهم واستقالتهم الأخلاقية والسياسية وراء سحابةٍ هشّةٍ من الحديث عن انقسام المعارضة وتشتتها.
والواقع أن الغربيين قد فكروا بمنطق الحسابات والمكاسب المادية الصغيرة، واعتقدوا أن سورية لا تملك ما يثير الحماس لإنقاذها، وهي لا قيمة لها ولا أهمية، وأقنعوا أنفسهم بأن روسيا لن تفيد من احتلالها شيئاً، إن لم تدن نفسها بالسقوط في مستنقع أفغاني جديد. لكن الروس الذين لم يفكروا بسورية أصلاً، ولا بمواردها الطبيعية، ولم يهمهم مصير شعبها، لكنهم جعلوا من إبادته الجماعية درساً وعبرة للغربيين وغيرهم، نظروا إليها حرباً استراتيجية لتغيير موازين القوى وقواعد الاشتباك العالمية، وتعاملوا معها فرصة لتحطيم كبرياء الغرب وغطرسته وإنهاء استفراده بالقرار الدولي، أي مناسبة لتقويض صدقيته الاستراتيجية، وزعزعة هيمنته الإقليمية والعالمية، وتركيعه، وإظهار جبنه ونذالته أمام أنظار شعوب العالم أجمع.
هذا هو المعنى الحقيقي للعرض الذي تحدثت الصحافة عن تقديمه من الغرب لروسيا في سبيل وقف المذبحة السورية. وهو يمثل اعترافاً من الغرب بفشله في التعامل مع المسألة السورية، وخسارته المبادرة في الشرق الأوسط، بسبب رفضه الالتزام بمسؤولياته الدولية، والتخلي عن التضامن الإنساني الذي هو جوهر رسالة المنظمة الدولية ومواثيق الأمم المتحدة ومبرّر وجودها.
والسؤال: ماذا ربحت روسيا بالضبط، وهل هي قادرة على تحمل تكاليف هذا "النصر" الأكثر مرارة وخطراً من الهزيمة؟ وهل ينجح الغرب في ضم روسيا إلى دائرة القرار الدولي، ويقطع الطريق على ولادة حرب باردة جديدة تهدد بتحويل سورية إلى كورية ثانية، أم هو في طريقه إلى بلورة الرد الرامي إلى تقويض صعود روسيا والقضاء على مكاسبها الهشة الجديدة؟ للحديث بقية.