مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٣ مايو ٢٠١٨
ألمانيا وفرنسا مع إيران

اختبار صفارات الإنذار في عدد من المناطق السعودية ليس عملاً روتينياً وسط أجواء المنطقة المتوترة، واستمرار الإيرانيين في إطلاق الصواريخ الباليستية مستهدفة المدن السعودية المكتظة سكانياً، من خلال وكيلهم الحوثي في اليمن، يعبر عن حجم المخاطر التي تواجه الجميع.

مع هذا، ورغم انتشار العنف المنظم من قبل النظام الإيراني، فإن الحكومتين الألمانية والفرنسية تسوقان لفكرة السكوت على حروب إيران، واحترام الاتفاقية النووية معها. مستشارة ألمانيا ميركل وبشكل صريح، ولأول مرة، تتحدث عن تعزيز سياستها الدفاعية العسكرية بعيداً عن الولايات المتحدة، وتقول للرئيس الإيراني هاتفياً إنها ملتزمة بالاتفاق والتعاون مع إيران. أيضاً، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مع ميركل اختارا الانفصال عن واشنطن متعهدين للنظام في طهران بالمتاجرة معه، ومعلنين رغبتهما في الاستقلال بشكل أكبر عن حليفتهما الدائمة الولايات المتحدة.

المواقف المعارضة لقرار الرئيس الأميركي بنقض الاتفاق النووي مع إيران تطرح جملة تصورات تبدو إيجابية، لكنها في الحقيقة سلبية للغاية. قد يبدو تمسك فرنسا وألمانيا بالاتفاق على أنه أهون الشرين. يدعون أن موقفهم يعطي فرصة لإيران للتفكير والتعامل بإيجابية حتى لا تخسر أوروبا، بعد أن خسرت الولايات المتحدة. ألمانيا وفرنسا تسوقان موقفهما المنحاز إلى طهران على أنه من أجل منع النظام من العودة لبناء السلاح النووي وتعقيل سياساته.

إنما مقابل هذا الموقف المنفتح، لا يملك الألمان والفرنسيون ما يكفي لضمان سلوك طهران لا عسكرياً ولا اقتصادياً. وبالتالي يرسل البلدان إشارات خاطئة إلى المرشد الأعلى بأنه على حق في موقفه ضد واشنطن، وأنه ليس مطالباً بأي تصحيح في سياساته الإقليمية. نخشى أن رسالة ميركل - ماكرون هي التي ستدفع بمزيد من الفوضى والحروب في المنطقة.

ربما لا يكون الرئيس الأميركي، دونالد ترمب لبقاً، لكنه هنا على حق. الاتفاق النووي هو أسوأ صفقة في التاريخ المعاصر، ولا بدّ من تعديله. منطقة الشرق الأوسط، حتى بمقاييسها السيئة، لم تعرف حروباً وعنفاً وأخطاراً كالتي جاءت خلال وبعد توقيع الاتفاق. والمستقبل سيكون أسوأ ما دام النظام في إيران يرى أن القوى الكبرى تخلت عن أدوات محاسبتها. وما المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية في سوريا إلا نتيجة لذلك الاتفاق الذي منح النظام المال وسمح له بالانتشار، وتشعره أنه حر طليق في المنطقة. الأوروبيون يملكون حلولاً تضميدية لحروب ضخمة، مثل سوريا، بالتبرع بمزيد من الخيام والبطانيات، وهم هنا مخطئون.

سوريا ستولد مزيداً من القلاقل نتيجة الإخلال بموازين القوى في المنطقة. وكما حاولوا في ليبيا التي تقع في محيط أمنهم مباشرة، أمن جنوب أوروبا. لم تسعَ أوروبا، كمجموعة ولا كقوى منفردة، معالجة الحرب الأهلية في ليبيا إلا فقط بنشر البوليس البحري لمنع المهاجرين. النتيجة أن عدم وجود سلطة مركزية وعدم تمكين السلام هناك، أصبحت ليبيا معبراً للآلاف من الأفارقة المستعدين للموت غرقاً من أجل الهجرة إلى أوروبا. أوروبا بسياستها النائمة تريد واحداً من حلين؛ إما أن تتحمل الولايات المتحدة عبء المواجهة العسكرية أو ترك دول المنطقة تحترق. أوروبا ليست قادرة على اتخاذ أي قرار حرب، ولا تملك القدرة على الاتفاق على عمل عسكري مشترك، ولولا التدخل الأميركي في البوسنة لربما كانت الأزمة قائمة إلى اليوم في أوروبا نفسها!

هل يمكن أن يقدم لنا الألمان والفرنسيون تصورهم للحل لما تفعله إيران في العراق وسوريا وغزة واليمن؟ إنهم لا يفعلون غير السعي لبيع السلاح، لكنهم يرفضون إرسال قوات أو تقديم معلومات استخباراتية أو خدمات لوجيستية! ربما باستثناء قوة رمزية فرنسية في سوريا لا نستطيع أن نقول إنها تحدث فرقاً على الأرض!

لهذا، فإن انحناء الأوروبيين للنظام الإيراني هو على حساب الشعب الإيراني المتململ، وعلى حساب دول المنطقة التي صارت كلها أهدافاً لإيران، ولَم يعد أمامها سوى أن تستعد لحروب أوسع.

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠١٨
هل بات «حزب الله» يهيمن على لبنان؟

شاع هذا السؤال كثيراً في الأيام الماضية على خلفية قراءة نتائج الانتخابات النيابية التي شهدت تراجعاً عددياً في كتلة رئيس الحكومة سعد الحريري، وتحقيق «حزب الله» اختراقات سنيّة جدية في أكثر من منطقة، مع الإمساك التام بعدد النواب الشيعة في البرلمان.

سيكون من الصعب على الناظر من الخارج ألا يقفز إلى استنتاجات متسرعة؛ من نوع أن الانتخابات جعلت «حزب الله» يهيمن على لبنان، وسيكون من الصعب على من يعيشون في لبنان ألا يأخذوا مثل هذا الاستنتاج على محمل السخرية.

الحقيقة أن «حزب الله» لا يحتاج هذه الانتخابات ليقول للعالم إن جزءاً رئيسياً من قرار البلد بيده؛ بفعل قوة السلاح وسطوته... لم يكن ثمة ما يريد «حزب الله» أن يفعله قبل هذه الانتخابات وحال دونه عدم توفر العدد الكافي من النواب بحوزته! وليس ثمة ما يصعب على «حزب الله» أن يفعله بسبب توازنات لبنان الأهلية وسيكون قادراً عليه الآن لأنه فاز بنائب إضافي هنا أو مجموعة نواب هناك.

لنتصارح حول الديمقراطية اللبنانية! في لبنان بقايا نظام ديمقراطي، وبقايا دولة، وبقايا مؤسسات، وفي هذه البقايا ثمة من يقاوم للحفاظ على الحد الأدنى والأخير من هيكل النظام اللبناني ودولته ومؤسساته.

ولم تكن الديمقراطية مرة ضامناً للبنانيين؛ منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005 حتى اليوم، ولا كانت عائقاً أمام مشروع «حزب الله»؛ فقد فاز «تحالف 14 آذار» مرتين بالأكثرية البرلمانية في انتخابات 2005 و2009، ولم ينجح إلا في حالات نادرة في ترجمة أكثريته سياسياً في مواجهة مشروع «حزب الله». أقفل «حزب الله»، بصفته قائداً للمعسكر المضاد، البرلمان الذي لا يحوز فيه أكثرية لمدة سنتين بحجج واهية حول الميثاقية وغيرها من أكاذيب اللغو السياسي اللبناني... ثم غير الأكثرية باختطاف كتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عام 2011 وإجباره على تسمية النائب السنّي نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة خلفاً للحريري بعد إطاحة حكومته. لا أسعفت الأكثرية «14 آذار»، ولا منعت «حزب الله» من المضي بخياراته الانقلابية، التي سيكتشف الحزب لاحقاً أنها غير ممكنة في لبنان، ودائماً بفعل التوازن الأهلي بين الطوائف، وسيعود رويداً رويداً إلى التفاهم مع الحريري!

سأغامر بالقول إن هذه الانتخابات بلا أي قيمة سياسية تذكر، سوى أنها تعيد بث بعض الروح في هيكل الدولة اللبنانية ومؤسساتها ونظامها السياسي، وتعيد تجديد «الثقة» الدولية بلبنان كبقايا دولة ممكنة الترميم في المشرق المنهار والمشتعل... وهذا مهم، لا سيما في ضوء برنامج الاستدانة الجديد الذي بدأه الحريري بالتفاهم مع رئيس الجمهورية لإبعاد لبنان عن حافة الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي التي يقف عندها الآن... التوازن الأهم هو التوازن خارج المؤسسات وليس داخلها؛ في صلب المجتمع وليس في قلب الدولة. وبهذا المعنى، فإن النتائج السياسية للحملة الانتخابية لسعد الحريري جاءت أهم بما لا يقاس بنتائج صندوقة الاقتراع.

جال الحريري في طول وعرض لبنان، في كل مناطق السنّة، من حاصبيا جنوباً إلى عكار شمالاً، مروراً بصيدا والبقاع وطرابلس وبيروت، بمشهدية شعبية غير مسبوقة لزعيم سنّي، بمن في ذلك والده. كرّس الحريري زعامته العابرة للمناطق اللبنانية ضمن الطائفة السنيّة، وهي سوية لا ينازعه عليها حتى من حققوا نتائج محلية كالنائب المنتخب عبد الرحيم مراد في البقاع، أو الرئيس نجيب ميقاتي في مدينة طرابلس، أو رجل الأعمال فؤاد مخزومي في بيروت.

وبخلاف النتائج في صناديق الاقتراع التي تحكم فيها قانون نسبي، وأدى إلى تراجع حسابي للحريري وليس سياسياً، فالواقع أن الكتلة السنيّة الكبرى في لبنان منحته ثقتها الشعبية، كما أعطته 60 في المائة من نواب السنّة في البرلمان؛ أي إنه وحده يمثل أكثرية الثلثين، بأسوأ قانون ممكن... دعك من أن القانون يمتحن التعدد السنّي والمسيحي في الاجتماع اللبناني ولا يعطي صورة دقيقة عن التعدد الشيعي بسبب أن الطائفة الشيعية في لبنان لا تزال عملياً، بفعل السلاح ودوره وسطوته، خارج مفاعيل الانتخابات الحقيقية، وهو ما يكرس قناعتي بانعدام الأهمية السياسية للانتخابات التي تجرى في ثلثي لبنان، فيما يبقى ثلث البلاد عملياً خارجها ولو مارس الاقتراع والصناديق والفرز وكل شكليات الانتخاب؛ إذ ليس من الطبيعي، وفق كل قواعد العلوم الإنسانية، أن طائفة تتعرض لامتحان إشراكها في الحروب السورية واليمنية والعراقية وغيرها بكل التكاليف المادية والبشرية المصاحبة، ولا ينعكس هذا الامتحان على المجتمع ولا يفرز أي تعدد منطقي حياله، إلا إذا كانت صناديق الذخيرة لا تترك لصناديق الاقتراع فرصة حقيقية لإبراز التعدد الموجود حكماً؛ أقله بسبب الطبيعة البشرية!

أما لماذا وافق الحريري على قانون يعرف سلفاً نتائجه عليه، فلأن المتغير الذي لا يزال يحكم هذا القرار وغيره هو تقطيع المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة من دون تفجير لبنان. أما مشكلة «حزب الله» فلم تعد مشكلة لبنانية... من لديه حل فليتفضل مشكوراً.

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٨
على ماذا يراهن ترامب في مواجهة إيران؟

في 8 مايو الحالي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني الذي توصّلت إليه إدارة أوباما مع النظام الإيراني بمشاركة عدد من القوى الدولية. لم يكتف الرئيس الأمريكي بذلك، بل تضمّنت القرار الرئاسي الذي وقّعه إعادة فرض العقوبات التي كان قد تمّ رفعها سابقا بموجب الاتفاق، كما أوصى بفرض عقوبات أخرى قاسية وهدّد الدول التي ستساعد إيران على فرض عقوبات أمريكية عليها هي الأخرى.

لم يكن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مفاجئاً، إذ أن ترامب كان قد حضّر الأرضية لذلك من خلال تصريحاته ومواقفه العلنية السابقة إزاء الاتفاق النووي الإيراني، لكن من غير المعروف حتى الآن عمّا إذا كانت هذه الخطوة مدروسة وتأتي في سياق أوسع أم أنها خطوة عشوائية. البعض فسّر الخطوة على أنها تحضير للحرب مع إيران، لكن القفز إلى هذا الاستنتاج يعوزه الكثير من الدلائل والإثباتات.

الهدف النهائي لترامب على الأرجح هو الدفع باتجاه التفاوض على اتفاق جديد يتلافى الثغرات التي كانت موجودة في الاتفاق القديم ويمنع إيران بشكل نهائي من الطرق المؤدية إلى القنبلة النووية، وليس خوض حرب مع إيران. بالطبع الجانب الإيراني سيرفض التفاوض، وترامب يعلم ذلك تماماً. مخاطباً أحد الصحفيين، قال الرئيس الأمريكي " الإيرانيون سيرفضون التفاوض من جديد، بالطبع سيقولون ذلك، ولو كنت أنا مكانهم لكنت قلت نفس الشيء أيضاً، في الأشهر القليلة الأولى" مضيفا "لكنّ سيتفاوضون، وإلاّ فان شيئا ما سيحصل، ونأمل أن لا تكون هذه هي الحالة".

إذا الحرب ليست الخيار الأوّل على الأقل، إن لم تكن بشكل مطلق وذلك لأنّ ترامب لم يذكرها أصلا. في هذا السياق، يعتقد الجانب الأمريكي أنّ إعادة فرض العقوبات على إيران وإتباعها بعقوبات قاسية سيؤدي في نهاية المطاف إلى الهدف المرجو وهو دفع طهران إلى طاولة المفاوضات. من حيث المبدأ، الإيرانيون لا يرفضون التفاوض عندما يكونوا في موقف صعب أو حرج، لكنّ مشكلتهم الآن أنّهم سيبدون في موقف ضعيف إن هم ذهبوا مباشرة إلى التفاوض مع ترامب.

أمّا مشكلتهم الثانية فهي أنّ الوضع الاقتصادي الإيراني في حالة حرجة، ولذلك فإن إعادة فرض العقوبات في هذا التوقيت بالذات سيتسبب لهم بالمزيد من المشاكل الداخلية، ولعل هذا ما يراهن عليه ترامب في حال عدم قدومهم إلى طاولة المفاوضات.

ولأنّ الوقت مهم جداً في هذه المعادلة، فان الجانب الإسرائيلي قام بهجوم استباقي على إيران في سوريا لتحذيرها من مغبّة محاولة استخدام أذرعها الإقليمية لكسب الوقت أو لمراكمة الأوراق قبل التفاوض من جديد، وبهذا تكون إيران قد دخلت في موقف حرج وخطر للغاية. سيظل بإمكان إيران بالبط استخدام أذرعها الإقليمية بطريقة أو بأخرى لكن الثمن سيكون مرتفعاً، كما انّهم لا يعرفون الكيفية التي سيرد بها ترامب وذلك لأّنه شخص غير مستقر ولا يمكن التنبؤ بتحرّكاتها كما كان عليه الأمر إبّان إدارة الرئيس أوباما.

هناك فسحة من الوقت تبلغ بضعة أسابيع وقد تمتد إلى ثلاثة أو ستّة أشهر قبل أن يتم بعدها إعادة فرض جميع العقوبات القوّية على ايران بشكل كامل، وحينها فقط يمكن القول بأنّ مفاعيل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي قد بدأت بالعمل وسنرى إذا ما كانت إيران تريد التفاوض بالفعل أم أنها تحضّر للحرب.

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٨
67 إيرانيّ؟ ربّما!

 بات واضحاً أنّ الإيرانيّين أُحرجوا فاضطرّوا إلى الردّ على الإسرائيليّين. صفعة بعد صفعة بعد صفعة، وليس لدى طهران إلاّ الكلام الكبير (وطائرة واحدة تمّ إسقاطها). بعد ذاك ردّ الإيرانيّون: اتّجهت صواريخهم وقذائفهم نحو إسرائيل فسقط معظمها في سوريّة. ما وصل منها إلى الدولة العبريّة اعترضه الإسرائيليّون وأسقطوه.

الأخيرون، العدوانيّون والتوسّعيّون تعريفاً، هم الذين ردّوا على ما لم يُصبهم. اغتنموا الفرصة التي انتظروها فضربوا، وفق ما قالوه، البنية العسكريّة الإيرانيّة في سوريّة. الإيرانيّون، بدل أن يكبّروا الفعل، كبّروا الكلام. شتموا الديبلوماسيّة وأكّدوا، للمرّة المليون، تعويلهم على «المقاومة». لكنّهم قالوا أيضاً شيئاً آخر: نحن لم نَضرب ولم نُضرب. السوريّون هم من فعلوا.

الفشل العسكريّ الذريع الذي كشف ضحالة الآلة الحربيّة الإيرانيّة، رافقه فشل ديبلوماسيّ تصنعه طهران بيدها. لقد شكّكوا بالأوروبيّين المتمسّكين بالاتّفاق معهم، تماماً على عكس ما فعله الإسرائيليّون الذين غازلوا الروس وقالوا إنّهم أطلعوهم على ما قاموا به. حصل هذا فيما كان بنيامين نتانياهو يزور موسكو.

النرجسيّة الجريح لدى الإيرانيّين تنفّر المحايدين وتتّهم العالم. إنّه جنون الوعي الإمبراطوريّ وقد انفلت من عقاله. إنّه الكلام الكبير وقد راح يتخبّط في الفعل الصغير.

تطوّرات الأيّام الأخيرة توحي أنّ إسرائيل تريد الحرب مع إيران. هذا ما سبق أن رأيناه مع مصر الناصريّة في 1967: قالت القاهرة مراراً وتكراراً إنّها ستحاربها، فيما هي تحارب في اليمن، لكنّ إسرائيل هي التي حاربتها وهزمتها. آنذاك، من موقعها العدوانيّ والظالم، ولأسباب لا صلة لها بمصالح العرب الذين احتلّتهم، أنهت الدولة العبريّة المشروع الإمبراطوريّ الناصريّ وقوّضت قوميّته العربيّة. أمّا إذا قدّمت إيران، التي تستغرقها حروبها في المنطقة، ذريعة أخرى لشهيّة الحرب الإسرائيليّة، فلا يُستبعَد حصول 67 إيرانيّ ينهي المشروع الإمبراطوريّ لطهران وإسلامه الراديكاليّ.

طهران، المنهكة اقتصاديّاً، حمت نفسها من احتمال كهذا بلسان التنصّل: نحن لسنا من فعل ذلك. والتنصّل يوحي أنّ المجابهة التي تمّت سوف تقتصر على رقعة جغرافيّة لا تتعدّاها. لكنّ اللسان الإيرانيّ الآخر الذي نطق بالمقاومة وبلعن العالم قد يفعل العكس.

في الحالة الأولى، سيكون التعديل الذي طرأ على اتّفاقيّة فضّ الاشتباك في 1974 طفيفاً يستطيع أن يحتمله ويستوعبه الوضع القائم. لكنّ المزاعم الإيرانيّة حول «تحرير القدس» لن تحتمله. الأيديولوجيا ستباشر انهيارها الذي قد يكون مديداً.

في الحالة الثانية، ستسقط على نطاق واسع وعابر للحدود اتّفاقيّة 1974، ويسقط في ذيلها القرار 1701. عندها، وتبعاً لما بات معروفاً عن قدرات إيران العسكريّة والاقتصاديّة، لن يكون من الصعب توقّع النتيجة.

المؤلم، فضلاً عن الأكلاف البشريّة، أنّ إسرائيل هي التي تتولّى تقويض الإمبراطوريّات ومشاريعها. إنّها بالطبع تفعل ذلك لأسباب تخصّها هي.

المؤلم أكثر أنّنا نحن، عبيد الإمبراطوريّات، لا نستطيع ذلك، وأنّنا، فوق هذا، قد لا نستطيع الإفادة من تقوّضها والبناء عليه. وربّما أفاد التذكير بأنّ هزيمة الناصريّة وقوميّتها العربيّة جاءنا بالإسلام الأصوليّ!

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٨
مع من تقف: إيران أم إسرائيل؟

سؤال محرج جداً لأنه ينقض كل المفاهيم التي بنيت عليها ثقافتنا السياسية. أمس ضربت إسرائيل خمسين موقعاً يديره الحرس الثوري الإيراني في سوريا، رداً على عشرة صواريخ أطلقها باتجاه إسرائيل، وقيل إنها رد على هجوم إسرائيلي سبقها بليلة.

وزير الخارجية البحريني، الشيخ خالد آل خليفة، تبرع بتفسير الموقف. كتب مغرداً في «تويتر»: «طالما أن إيران أخلّت بالوضع القائم في المنطقة واستباحت الدول بقواتها وصواريخها، فإنه يحق لأي دولة في المنطقة، ومنها إسرائيل أن تدافع عن نفسها بتدمير مصادر الخطر». موقف الشيخ خالد عام، مع أي دولة تقف ضد جرائم إيران في المنطقة.

في السياسة، تتغير المواقف بحسب ضرورات المصلحة. ولو سألنا غالبية الشعب السوري لهتف مؤيداً إسرائيل في ضرب القوات الإيرانية وميليشياتها في سوريا. لا يوجد مبرر أقوى من الدفاع عن حق 600 ألف قتيل، وعشرة ملايين مشرد، من جرائم قوات إيران وحليفاتها.

فالمواقف مبررة وليست مقدسة دائماً، شيء من العقل وشيء من العاطفة. الموقف مع إيران لو أنها ساندت الفلسطينيين، مع إسرائيل عندما تضرب قوات إيران في سوريا، مع الفلسطينيين عندما تعتدي عليهم إسرائيل، مع حزب الله اللبناني الإيراني عندما كان يقول إنه يحرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، مع إسرائيل عندما تضرب قوات حزب الله يوم استهدفت اللبنانيين، وعندما شاركت في قتل السوريين. مع المعتدى عليه ضد المعتدي.

هل يصعب فهم هذا المنطق؟ هذا هو الموقف العقلاني المطلوب في منطقة مجنونة. المؤدلجون وحدهم الذين ربما يعجزون عن قبوله، لكن لو سألت أي سيدة سورية أو لبنانية قتل ابنها من قبل قوات الحرس الثوري الإيراني، فهي لن تتردد في الدعاء بالنصر لإسرائيل والدعاء على خصومها بالويل والخسران. وهذا لا يجعل الإسرائيليين على حق في احتلالهم الأراضي الفلسطينية ولا على حق في اضطهادهم الشعب الفلسطيني.

نحن أمام مرحلة مختلفة، وحرب جديدة من نوعها. لأول مرة إسرائيل وإيران تتقاتلان، ففي الماضي كانت الحرب بينهما بالوكالة. الآن الاقتتال مباشر وفوق أرض سوريا، وللمرة الأولى نرى الحرس الثوري، الذي طغى وتجبر في المنطقة، في العراق واليمن وسوريا، يدفع الثمن غالياً، ويعرف أنه تجاوز حدوده.

فالحرس الثوري حاول التنصل، كعادته في لبنان، مدعياً في بيان رسمي بأنه ليس مسؤولاً عن إطلاق الصواريخ العشرة على إسرائيل، ووضع اللوم على قوات الأسد، لكن الإسرائيليين لن يذهبوا إلى المحكمة، ولن ينتظروا لجان التفتيش الدولية. من دون الحاجة إلى دليل يعرفون أن قوات قاسم سليماني الإيرانية هي الفاعل، ولن يحميها الاختباء خلف قوات النظام السوري التي صارت صورة ولا تملك من أمرها شيئا.

ولا بد أن طهران وصلها خبر موقف نظام دمشق نفسه، الذي يقول الجنرال سليماني إنه مستعد للتضحية إلى آخر جندي إيراني من أجل الأسد، بأنه صار مستعداً أن يبيع سليماني والإيرانيين في أول صفقة سياسية، نتيجة التطورات العسكرية الجديدة. الأسد سيتعاون مع ينتصر من القوى على أرضه، وبدخول إسرائيل الحرب فإن إيران هي على الأرجح الخاسر الأكبر والروس لا يمانعون التطورات الجديدة.

الصورة تبدو أوضح اليوم من ذي قبل. الهدف هو إجبار نظام طهران على التراجع. الخطة شملت قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بتمزيق الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية. وتفعيل دور إسرائيل العسكري، بالهجمات الموجعة التي دمرت المواقع الإيرانية. وإقناع الروس بالحياد، بعد أن كانوا عادة يعترضون، جلسوا في كرسي المتفرج ولَم يعودوا يتحدثون عن التهديد بصواريخهم ضد هجمات إسرائيل. كلها تأتي لخدمة نفس الهدف بعد أن رفضت حكومة طهران الدعوات الدولية للعودة عسكرياً إلى ما وراء حدودها، والتوقف عن التدخل في شؤون دول المنطقة وقلب حكوماتها.

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٨
مع سورية ضد الصهاينة ومع السوريين ضد بشار

كان محمد حسنين هيكل يقول إنه في السياسة الدولية، تمارس إسرائيل لعبة الشطرنج، فيما يلعب العرب"الطاولة"، تلك اللعبة التي تعتمد على الحظ، أكثر من اعتمادها على مهارات التفكير والتخطيط.

الآن، العرب لا يلعبون، لا طاولة ولا شطرنج، بل يكتفي معظمهم بالفرجة والتشجيع، فيما ينشط كبارهم في جمع ما يسقط من "زهر الطاولة" أو قطع الشطرنج تحت موائد اللاعبين الكبار.. ولن تعدم بعضاً منهم يقوم بدور"الجرسون" الذي يزود اللاعبين باحتياجاتهم من الماء والعصائر.

يداهمنا تصاعد الأحداث بشكل مجنون على الأراضي السورية العربية، فتجد بعض العرب منقسمين بين مشجع للكيان الصهيوني أو مؤيد لإيران، في لحظةٍ حالكة الظلام، تضيع فيها البوصلة، فتذوب الفواصل القيمية والأخلاقية بين العدو الصريح والجار المتعب، ويصبح مفروضاً عليك، وفق هذا المنطق المعوج، أن تفاضل بين العدو الصهيوني وطغيان النظام السوري، المدعوم إيرانياً، هذا إذا افترضنا أن ثمّة مواجهة عسكرية واقعة بين الطرفين.

يقول لنا التاريخ إن العرب عاشوا هذه اللحظة الكارثية من قبل، مع الغزو الأميركي للعراق، فكان التشظّي بين مدافع عن الغزو والاحتلال، بإطلاق، ومدافع عن الاستبداد والطغيان، من دون تحفظات أو حدود.

وكأنه ليس بالإمكان أن تكون ضد الغزو الأجنبي، وضد الطغيان المحلي، في الوقت ذاته، من دون أدنى محاولةٍ جادة لإيجاد مساحةٍ لدور عربي فاعل وعاقل ومسؤول يمنع كارثة تسليم كل شيء لإرادة المحتل، يعيد رسم خرائط الجغرافيا والإنسان، ثم يبدأ في تغيير معالم الحضارة والثقافة والمعتقد، ويشعل النار في العقل، قبل النفط العربي.

الآن، أنت أمام لحظة أشدَّ وطأةً وعتامة، إذ يتسابق العرب الرسميون على جائزة الأكثر ولاءً وتبعية للكيان الصهيوني الذي احتفل في القاهرة، عاصمة الإقليم الجنوبي، فيما عرف بدولة الوحدة، بالذكرى السبعين لاغتصاب فلسطين واحتلالها، تحت حراسة ورعاية النظام الحاكم في مصر.

كان الاحتفال قبل ساعات من توجيه الضربات العسكرية إلى دمشق، عاصمة الإقليم الشمالي، من دولة الوحدة، كما يردّد الناصريون والقوميون، المستغرقون في الدفاع عن نظام، هو صناعة إسرائيلية بامتياز، في القاهرة، ونظام، هو صناعة إيرانية خالصة، في دمشق، لينفتح المشهد على لحظةٍ شديدة البؤس، يصاب فيها النظام وتابعوه بالخرس.

في نهاية العام الماضي، كانت لحظة مشابهة، حين وقعت مناوشاتٌ في الملعب السوري، أنتجت سؤلاً عبثياً على موائد الثرثرة العربية: لو حاربت السعودية، مدعومة أو متحالفة مع إسرائيل، حزب الله وإيران الآن، فمع من تقف؟

قلت في ذلك الوقت إن مجرد طرح السؤال يعبر عن حريقٍ هائل في الوعي، وخراب شامل في الوجدان العربي، وانهيار لقواعد المنطق والأخلاق ومرتكزات الهوية الحضارية والثقافية، إذ يعيش العرب  حالةً من الدونية الحضارية، غير مسبوقة في التاريخ، فخارجياً منبطحون في استجداء مخزٍ للمواقف الدولية، ضد بعضهم بعضا، حتى باتت تل أبيب تجد حرجاً في قبول طلبات المتطوعين لخدمة احتلالها وتمويله، وتعاني تخمةً تطبيعيةً تجعلها تأنف فتح الأبواب لمزيد من الخدم.. وفي الداخل، يحاربون ربيعهم ويقتلون أنبل ما فيهم، ويهدرون مقدّراتهم في مقاومة تيارات التغيير الديمقراطي، بمساعدة العدو الأول والأساس، الذي وقف سفيره في القاهرة يحيي قتلة الربيع العربي، ويسخر من ثورات الشعوب العربية، ويصنفها، كما مقاومة المحتل، إرهاباً، ويثني على ولي العهد السعودي الذي يصل الليل بالنهار، لكي يجعل العداء لإيران، الإسلامية الشيعية، قضية العرب المحورية، ويضغط على الفلسطينيين، لكي لا يزعجوا المحتل بمقاومتهم، ورفضهم تهويد القدس.

على الجهة المقابلة، ليس هناك ما يؤكد أن إسرائيل تريد إزاحة بشار الأسد، عدوها اللطيف المطيع، وحتى إذا افترضنا أن هناك حرباً إسرائيلية سورية، فإن حاكم سورية يدخلها وقد قدّم دعمه اللا محدود للعدو الصهيوني، قبل أن تبدأ، حيث، إن حصلت، سيدخل الحرب منقوصاً نحو نصف مليون مواطن سوري، قتلهم بيده، ونحو ستة ملايين آخرين، هجرهم، وهو يسحق الربيع الذي تكرهه وتحاربه إسرائيل، وتتمنى القضاء عليه قضاء مبرماً.

على أن ذلك كله لا يجعلك، إن وقعت الحرب، أن تقف على الحياد، أو تقول إن كليهما عدو، فالموقف الأخلاقي والحضاري أن تكون في الحرب مع سورية وإيران، إن هاجمتهما إسرائيل، وفي الثورة تكون مع الشعب السوري ضد بشار الأسد وطهران وتل أبيب، معاً.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٨
ترمب وإيران... حديث الزلزال

يمكن للرئيس الإيراني حسن روحاني أن يحاجج بأن بلاده لن تتأثر جراء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أكثر من شهر أو شهرين، غير أن الزلزال الذي ضرب إيران أول من أمس حكماً سيهز عرش الملالي، في وقت يعاني فيه النسيج الاجتماعي الإيراني من تفكك يصل إلى حد التفسخ والانفجار.

الزلزال الأميركي الذي أصاب طهران أثبت أننا أمام رئيس أميركي مثير للتأمل؛ سواء كانت أفكاره من عندياته أم من طرف الدولة الأميركية العميقة التي تمسك بدفة القيادة في غرفة واشنطن العليا التي توجه العالم حتى الساعة.

ترمب رئيس يفي بما يعد به، ويبدو أن عدم وجود رصيد سياسي قديم يخشى عليه يدفعه في طريق التجربة والحكم، كما أنه ليس مديناً لأحد بأي استحقاقات، إلا للشعب الأميركي الذي اختاره، ولهذا نراه يُقدم بغير وجل على تحقيق كل ما وعد به خلال حملته الانتخابية.

إننا أمام رئيس غير متوقع، يتبع «حدسه وحساباته» والتعبير لمدير الاستخبارات المركزية الأميركية السابق الجنرال مايكل هايدن، وإن لم يكن من اليسير الاعتقاد بأن ترمب رجل العقارات منبتّ الصلة بالسياسة وألاعيبها والاستراتيجيات وخطوطها وحظوظها؛ هو من يرسم للإمبراطورية الأميركية المنفلتة في حاضرات أيامنا ملامح ومعالم سياساتها لتعود، ومن جديد، «أميركا أولاً»، أو «أميركا فوق الجميع» إن قدر له القول.

قد يكون من المبكر استشراف ما ستؤول إليه مجريات الأحداث بين واشنطن وطهران، غير أن عدة علامات على الطريق لا يمكن للمرء أن يغفلها، وفي المقدمة منها أن التوجه الأميركي الواضح جداً بقيادة ترمب لا يتوقف كثيراً أمام مسألة الانسحاب من الاتفاق أو إعادة العقوبات على النظام الحاكم في طهران، بقدر ما يتطلع إلى زوال هذا النظام الاستبدادي، ولهذا كان ترمب يعزف على أوتار الشعب الإيراني الذي وصفه بالعراقة والثقافة عطفاً على الحضارة.

الإيرانيون عند الأميركيين، وبحسب ترمب، شعب يحترم وله الحق في العيش في ظل حياة كريمة، حياة تتحقق فيها أحلامهم، ويتواصل تاريخهم عبر «كتاب الأحياء» لا في «متن الموتى» عبر الصواريخ الباليستية المهددة لأمن العالم وسلامه، وبعيداً عن القنبلة النووية؛ الحلم الذي يسعى إليه آيات الله لفرض سيطرتهم على الإرادة الدولية قاطبة، من مشارق الشمس إلى مغاربها.

الزلزال ضرب إيران، ولا شك ضربة قاصمة، سيما أن الأوضاع الاقتصادية الإيرانية سوف تتردى إلى درجة غير مسبوقة، مما يعجل بالانفجار الداخلي مرة وإلى الأبد، وبدا واضحاً من الإجراءات التي سرت بعد دقائق معدودات من قرار ترمب، أنها كفيلة بأن تعيد الإيرانيين إلى الوراء لمسافات مرهقة للعقل والنفس الحاكمة.

ترمب اتفقنا معه أم افترقنا رئيس يمضي وفقاً لرؤية دوغمائية منطلقها: «المحبة المترتبة تبدأ بالذات»، والتفسير هنا هو أنه يضحي بالأهداف قصيرة المدى كالمصالح الاقتصادية، من أجل أن يجنب بلاده والعالم أهوال حيازة نظام عقائدي أصولي سلاحاً فتاكاً، مما يمكنه من أن يعيد سيرة النازية بأبشع قدر ممكن.

لا يهم ترمب أن تلغى صفقات الطائرات لمصانع «بوينغ» و«إيرباص» مع طهران، حتى وإن خسرتا ملايين الدولارات، إنما الذي يهم أكثر طمأنينة شعبه، فلا يخشى من صاروخ طائش في النهار، أو قنبلة نووية مشحونة بالغدر على سفينة ضالة بالليل، وذلك على خلاف المشهد الأوروبي الذي يتعامى عن رؤية رؤوس إيران النووية الممكنة والمحتملة؛ طائرة تدك لندن وباريس وبرلين، خوفاً على «حفنة دولارات».

الزلزال تبدى أثره في الكلمة التي ألقاها روحاني بعد خطاب ترمب بدقائق معدودات، فقد شهدنا ما يشبه التراجع الفوري عن الوعود العنترية السابقة التي أطلقها الإيرانيون بشأن الانسحاب الفوري الإيراني من الاتفاقية إن مضى الأميركيون في هذا الطريق، وقد مضوا، فيما تلكأ الملالي إلى أسبوعين مقبلين، سوف تتبعهما أشهر طويلة.

أفقد الزلزال الأميركي النظام الإيراني في غالب الأمر القدرة على تصويب الأفكار والأهداف، وما هو متاح في أياديهم قليل جداً، سيما أن الرهان على موسكو وبكين وبروكسل يتناسى أن البراغماتية السياسية والاقتصادية هي الحاكمة للمشهد الأممي الآني وليست الأخلاقيات.

الروس، في أسوأ الأحوال، سيقايضون الأميركيين على الملف الإيراني من فوق الطاولة أو من تحتها، ملف في مقابل آخر؛ أوكرانيا في مقابل التخلي عن إيران... رفع العقوبات عن موسكو، مقابل تضييق موسكو نافذتها للتعاون النووي مع طهران.
بكين بدورها ليست إناء مختاراً للطهرانية، وحكامها لا ينتمون إلى عالم اليوتوبيا، وفي مقابل معركة تجارية مع واشنطن يمكن أن تكبدهم 60 مليار دولار، هناك الكثير مما يمكن التخلي عنه... مقابل الضغط على طهران.

أما بروكسل فستجد نفسها في نهاية المطاف، ومع الاحترام الكامل للسيدة موغيريني وتصريحاتها، خالية الوفاض، وأفضل ما تحلم به هو أن يكف الأميركيون يد المقاطعة عنها، سيما أن ترمب توعد الجميع بدون استثناء من الذين يدعمون طهران، بعقوبات تكاد تكون مماثلة.
ما الذي يتبقى لطهران إذن؟

قد يفكر بعضهم وفي لحظة عبثية في اللجوء إلى «خيار شمشون»، وربما لن يبدأ المشهد بهدم المعبد دفعة واحدة، بل تدريجياً وعبر الأذرع الأخطبوطية في الشرق الأوسط والعالم، لإثارة القلاقل وتعميق الأزمة، أي الهروب إلى الأمام.
لكن العالم كله ساعتها سيكون ضد إيران إن خُيّل إليها أنها كفء للمجتمع الدولي وفي طريق معاكس.

الزلزال يستدعي استدارة إيرانية لجهة العقلانية، وإعادة ترتيب أوراقها، وتقديم تنازلات مؤلمة تقضي على أحلامها النووية، وطموحاتها الصاروخية، ونزعاتها التوسعية... أي القضاء على مشروع الثورة الإيرانية الخمينية عام 1979، وهو ما لا يعتقد المرء أن أحداً سيقدم عليه في طهران.

الخلاصة: طهران أمام استحقاقات لما يعرف بـ«الردع السلبي»، وفيه يتحتم عليها أن ترى قوة الآخر وحجمه، وعليها أن تحسب حساباتها وتقرر موقفها، قبل أن تغلق نافذة الفرصة؛ وساعتها ستكون قطعاً أمام وقائع «الردع الإيجابي» المتمثل في العمليات على الأرض (Deterrence).

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٨
مخيم اليرموك.. محور الممانعة والمقاومة الحقيقي

حين أطلقت عين الممانعة والمقاومة برقها ومن بعد رعدها على مخيم اليرموك الذي كان عاصمة لفلسطين بالشتات، وهو ذاته الذي احتضن أبناء فلسطين. بعد نكبة 1948 والذي شكل إطارا لإعادة بناء حركة اللاجئين ومعينا لا ينضب من المناضلين والقيادات والكوادر الذين قدموا تضحيات جلى بالقضية الوطنية. هو الآن تحت الرماد، ومن لا يعرف من الأخوة العرب المخيم نقول له المخيم كان يمثل حالة تعني استمرار النضال في سبيل حق العودة فهو مخيم لاجئين أي مبعدين قسرا عن ديارهم وممتلكاتهم، المخيم يا سادتي هو تعبير سياسي وإنساني عن قضية الشعب اللاجئ والضائع في أصقاع الأرض والمنقسم حسب الجيوسياسية التي فرضت تضاريسها وأمكنتها عليه.
 
مخيم اليرموك كان حياة أهل التغريبة الأولى الذين دخلوا إلى الأرض السورية أرض الأمان والتي تربطها بفلسطين رابطة روحية وقومية، وتوزعوا على عدة مناطق داخل سورية تحت عنوان مخيمات فلسطينية نعم مخيمات وعادة ما تستدعي كلمة المخيم في وعي ما يعنيه الوطن ذاك البعد الذي فقدناه بدفئه وحمايته بالهوية والتي فقدناها أساسا ليستعاض عنها بالوثيقة التي تضعك في مكان الفيش والتشبيه، والشبهة والاتهام، وبالإجراءات التي تمنع عنك أبسط ما يستحقه الإنسان، وفي الجهة المقابلة وجوه وأسماء تمتد على امتداد نشوء المخيم وما قبله وجوه خطت التاريخ وأسماء ساهمت في إعادة صناعته بدمائها وتضحياتها لتبقى في داخلي كما في داخل الآخرين أملا لا ينسى.
 
المخيم يا سادة الممانعة والمقاومة، يامن مانعتم وقاومتم أكثر من أربعين عام دون إطلاق طلقة صوب من تقاومون، واكتفيتم بالنياشين والأوسمة يامن لم تستطيعون الرد وكنتم تحتفظون به لأجل لا يعلمه إلا الله، المخيم كان يعني لنا هوية اللجوء ورمزا للاستمرار بالمونولوج؟ الاجتماعي الشعبي الفلسطيني وهو رمز الألم وتجلياته وعنوانا للأمل والعودة هو الآن ركاما ورماد، المخيم الذي كان ذاكرة الفلسطيني وهو بداية العودة اليها وهو المسكون بأحلام آباء ما بعد النكبة هو صهوة المعرفة فقد أنجب أنموذجا للثقافة العربية فمنه المناضل والطبيب، والمحامي والقاضي والمهندس والفنان والأديب والشاعر والإعلامي والأستاذ الجامعي والمدرس والمهني، وهو نهاية النكبة وصحوة اللاجئ وهو الخزان لرفد العودة وهو مصدر استمرارها وهو الذي بدل الخيمة معنى ومسارا من موطن ألم إلى فجر أمل وهو بمثابة عمل دؤوب كخلية نحل وهو قلب طافح بالشوق وذاكرة الفولاذ.

مخيم اليرموك ياأصحاب المؤتمرات الخلبية والبهلوانية والشيطانية يامن تتسولون على دماء أبنائه وعلى أنقاضه لينالكم من المشروع الكبير بعض بقايا من لقمة قد تلوكها أفواه الشركات المتعددة الجنسيات والتي لسوف تبادر في إعادة إعمار ما كان يسمى بمخيم لكن بشكل متطور وحضاري ذو طابع راق؟! هذا هو المخطط لإنهاء المعضلة الكبرى التي تكمن في تواجد المخيمات، وهذا المشروع سيعمم على جميع المخيمات مخيم اليرموك الذي كان يلقب بالمدينة التي لا تنام نامت عيونه أخيرا بفضل نيران وقذائف أبطال التشارين والنياشين، صناديد الممانعة والمقاومة، نامت عيونه وللأبد كي يصبح سجينا داخل أسيجة الذاكرة وأرشيف التاريخ الذي سيعلوه الغبار، نام المخيم وهو يعرف تماما أن أغلب أبنائه تأبطوا التغريبة الثانية مكررين اللجوء وأيضا قسرا ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر داخل أقبية الظلام في معتقلات وسجون النظام القاتل والطاغي، نامت عيونه وهو ينظر من خلال أنقاضه إلى الوطن الأم وكم كانت أمنيته أن تكون صرخة العودة من خلاله، ولا أعرف لماذا الآن تعود بي الذاكرة إلى عام 2009 حين أجرين بعض الحوارات مع بعض الشباب الفلسطيني في دمشق وكان محور السؤال ماذا يعني لك المخيم؟!

وكان أغلب الشباب من الشريحة الجامعية ومنهم من كان خريجا، سألت الأول ماذا يعني لك المخيم وهو الآن طبيب لاجئ لأحد الدول الأوروبية فقال باختصار المخيم نهاية النكبة وبداية العودة، اما الشاب الثاني فقال بعد أن تنهد، إن المخيم يعني لي وطني الذي يقطن الذاكرة ويعني لي هويتي والانتماء وهو صلة الوصل بين الموطن والوطن الأم ومنه تبدأ صرخة العودة، أما الثالث، فقال المخيم يعني لي ظل فلسطين وزغرودة جدتي الكئيبة ثم قال لكل الأماكن عيدين لكن بالمخيم كل يوم عيد بالرغم من بدره الشائك يظل يضيء كافة النواحي، وانتقلت بالسؤال إلى أستاذ محامي فقال المخيم هو الوطن والولادة وهو الهوية والانتماء وهو البيت الجماعي الذي حوى الأهل والشعب وجمعهم تحت عنوان لاجئ وضمهم كأسرة واحدة خوفا.

من الضياع والتفكك وقد شكل حافزا للحياة والتقدم والصبر على البلاء وهو المنبر الثقافي لثقافة المقاومة ومن خلاله يبدأ العمل لاسترداد كافة حقوقنا وأهمها حق العودة، وبعد ذلك توجهت بالسؤال إلى أستاذ جامعي، فقال المخيم يعني القضية الوطنية الفلسطينية ويعني العودة إلى الديار والممتلكات، المخيم يعني قرارات الشرعية الدولية قرار العودة 194. المخيم هو الطموح والنضال والاستمرار نحو الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وهو نقطة ارتكاز للحفاظ على الشخصية الفلسطينية من الذوبان في المجتمعات الأخرى.

نعم عزيزي القارئ هذا هو المخيم الذي كان الجسد الذي ذاق مرارة التنكيل والقتل والتهجير وهو ذاكرة التعب، كما هو الهوية والانتماء والحافز المثابر لاسترجاع الحق المغتصب والذي من المفروض أن ننطلق منه براية الحب والعظمة للعودة إلى الديار، لكن للأسف نامت عيون المخيم تحت الرماد بفضل من كان يدعي تحرير القدس سيكون من دمشق. تحية إلى عيون دمشق الياسمين والى أهلها الصابرين على الظلم، الرحمة للمخيم ولأبنائه الذين كانوا يحلمون بالعودة، والحرية للمعتقلين داخل سجون الظلم، هذا هو المخيم وهؤلاء أبنائه الذين كتب عليهم اللجوء تلو اللجوء، وخير الكلام ما قل ودل.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٨
تعمّق ورطة إيران في سورية

اشتغلت إيران، في السنوات السابقة، في سورية، تحت سقف خسائر مقبولة الاحتمال، وكلما كانت الخسائر تتوزع على وكلائها وحجم مصاريفها المالية كان مستوراً، فإن هامش المناورة للنظام الإيراني، داخلياً وخارجياً، كان بأمان، وسمح لقادة إيران بالتفاخر بتوسع نفوذهم ليشمل العواصم الأربع الكسيرة.

بيد أنه، ومع تواتر الضربات الإسرائيلية، المؤلمة، وخسارة إيران الكثير من كوادرها ومخازن أسلحتها، بدأت تتجمع خطوط ورطة تتعمَق فيها طهران، ولا يبدو أن إيران قادرة على وقف انحدارها السريع إلى قعرها، ولا إسرائيل لديها الرغبة في وقف غاراتها، بل إن هذه الأخيرة فرضت قاعدة اشتباك في سورية تقوم على حقّها في ضرب أي هدف إيراني تشتبه إسرائيل أنه سيشكل جزءاً من البنية التحتية للوجود الإيراني، أينما كان ذلك في الجغرافية السورية.

وكانت الذهنية الإيرانية ذهبت إلى اجتراح إستراتيجية عسكرية لترسيخ نفوذها في سورية وفرضه كأمر واقع، وذلك من خلال بناء أنساق دفاعية من الشمال والغرب والشرق إلى الجنوب، وليس العكس، وذلك لتجنّب استهداف إسرائيل لمواقعها، وعلى هذا الأساس، شيّدت إيران قواعدها الكبيرة في جبل عزان في حلب واللواء 47 في حماة، ومطار التيفور في البادية، فضلاً عن مواقع في حمص والقلمون الغربي، وعندها لن يكون مهماً زراعة قواعد أخرى في الجنوب، أو في منطقة الحرم المتفق عليها، مسافة الأربعين كيلومتراً، لأن تزويدها بالأسلحة والكوادر سيكون متيسراً في أي وقت.

أرادت إيران استثمار مظلة الحماية الروسية على مناطق وسط وغرب سورية، أو بمعنى أدق، استغلال واقع أن هذه المناطق تقع في نطاق عمل القوات الروسية، وفي شكل أوتوماتيكي، تقع في مجال أسلحة دفاعها الجوية، ما يصعّب على إسرائيل، وحتى أميركا، إمكانية استهداف هـذه المواقع ويضعها في أمان مديد.

غير أن إسرائيل وعت هذه الإستراتيجية، من منطلق إدراكها أن الجغرافية السورية صغيرة لدرجة يمكن للإمدادات الإيرانية أن تصل لجبهات درعا والقنيطرة في ساعات محدودة، وأنه من الأفضل ضرب تلك القواعد قبل أن يتم تحصينها، من دون الانتظار لضرب خطوط الإمداد التي ستقيمها إيران بين القواعد والجبهات، كما حرمت إيران من ميزة الحماية الروسية جراء اتفاقات بين موسكو وتل أبيب تضع الأمن الإسرائيلي في مستوى الخطوط الحمر غير المسموح تجاوزها، ومن الأراضي السورية على وجه التحديد.

تتمثل ورطة إيران الحالية من كونها جهة غير مجهّزة لاستعمار دول وشعوب بقواها الذاتية، ربما تصلح لدور شبيه بالدور الذي لعبه نظام الأسد في لبنان، لكن ذلك يستدعي وجود موافقة دولية وإقليمية، وموقف منزوع الانحيازات الطائفية، ولا يمكن في هذه الحالة استنساخ تجاربها في لبنان والعراق، ولا حتى اليمن، بل من الممكن أن تتحوّل هذه التجارب إلى سقطة خطيرة لما تنطوي عليه من خداع، ذلك أن إيران في سورية مضطرة إلى نزع قفازاتها وإجراء الترتيبات في شكل مباشر وليس مجرد الإشراف عليها.

وفوق ذلك، لا تملك إيران الأدوات الكولونيالية اللازمة لاستعمار شعب خارجي، فلا هي دولة متحضّرة لتدعي التنطح لمهمة تحضير أي شعب، ولا هي دولة ذات نموذج حياة وإدارة سياسية تستدعي من الآخرين اللجوء إليها وطلب حمايتها، إضافة إلى ذلك لا إمكانات لديها للدخول في صراعات إقليمية ودولية كبرى، لكنها وجدت نفسها في هذا الخضم من دون استراتيجية خروج، بالأصل دخولها على سورية تدرّج على شكل ورطة وغرق ولم يكن له تصور واستراتيجية واضحة، أخذ شكل مساعدات استخبارية من واقع خبرتها في قمع انتفاضة، 2009 ثم إرسال مستشارين عسكريين لغرف عمليات نظام الأسد، نتيجة ضعف الخبرة لدى ضباط الأخير، ثم الاستعانة بحزب الله، ثم الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية وتبعه دخول الحرس الثوري.

عملانياً، تتجسد الورطة الإيرانية في المفاضلة بين الرد على إسرائيل، وبين إدراكها أن الأوضاع في سورية ما زالت تحتاج لترتيبات كثيرة حتى تستقر الأمور لإيران، حيث تفضل إيران استيعاب الضربات الإسرائيلية، التي على رغم تأثيراتها المؤلمة، إلا أن إيران تستطيع، عبر المثابرة، تكريس نفوذها في سورية والمنطقة وفرض نفسها كقوّة أمر واقع، في حين أن الاستعجال في مواجهة إسرائيل من شأنه تقويض المشروع الإيراني برمته.

لكن في كلا الحالتين، لا يبدو أن المشروع الإيراني سيعمل بانسيابية وسهولة كما كانت تقديرات القادة الإيرانيين تتصوره، والواضح أن حسابات الإيرانيين لا تتطابق كثيراً مع الواقع الذي تفرضه إسرائيل، حيث لن يبقى نفوذ لإيران في سورية في ظل حالة الاستنزاف التي تفرضها إسرائيل، كما أن هذا الواقع سرعان ما ينعكس على الداخل الإيراني، الذي يراقب مذلة حكامه الذين يتنمرون عليه ويبدون كالقطط الوديعة أمام إسرائيل، والواقع أن سابقة إذلال بشار الأسد وانسحاب جيشه المخزي من لبنان كانت من العناصر التي شكلت محركاً للثورة السورية.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٨
ارحموا السوريين.. لقد عشنا ألم الحصار والتهجير

يمكثُ الوالدان بجوار أبنائهم في رأس السنة الهجريّة أو في ذكرى المولد النبويّ على شاشات التلفزة منتظرين الساعة العاشرة لعرض فيلم "الرسالة" الذي يروي مراحل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدء الدعوة إلى دين الله الحنيف والتحديات التي واجهته صلى الله عليه وسلم لنشر رسالة ربه بين قومٍ عبدوا أصنام سمّوها بأنفسهم ووجدوا لها رونقاً يتماشى مع طبيعتهم.

هكذا هي العادة المسُتحبة لدينا يومئذٍ.. لكنَّ ما يلفت النظر في مشاهد الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، أن الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم عانوا أشد المعاناة في تلك الهجرة ولوحِقوا من أقوامهم وهدُّدوا بالقتل وحيّكت لهم الكمائن، الخروج طوعاً من أرضك أهون بكثير من أن تخرج كرهاً وربما دونما عودة وكلمة رسول الحق يوم خرج من مكة واقفاً على أطلالها ليقول: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلي ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت" هي دليلٌ على هول الطامة. بهذه الكلمات نستنبط تلك الفجوة التي حالت عند الرسول صلى الله عليه وسلم بين حبه لأرضه وبين تضحيته لأجل قضيته أو درأً لمهلكة قومه. وعلى غرار تلك التجربة قد أعيد تفعليها من جديد، بعد ألفٍ وأربعمائة عامٍ أو يزيد. سأقصّ عليك يا صديقي تلك الأحجية المبهمة لديك.

بعد أن خرج الشعب السوري بثورة منذ سبع سنوات حالمين بالعدل والمساوة وبفك قيّد الحريات المكبوتة، قابلهم نظام الحكم كثورٍ هائج ضُرب بأسهم مخدّرة داخل حلبةً ملُئت بالجماهير والأصوات الصاخبة، فقابلوه بما تحتويّ أيديهم وجابهوه، وكُسر جدار الخوف والجزع، فزاد الثور من همجيته وجنونه، وزاد الشعب اصراراً وتجلداً ليصنعوا حياةً مشرقةً لمن بعدهم، فخرجت الدبابات من ثكناتها والتي -تجهّزت لمقاتلة العدو الاسرائيلي المحتل- وأقلعت الطائرات من مرابضها وتجهز الجيش السوري لقتل الشعب السوري.

أي مهزلةٍ تلك، جيشك الحامي لوطنك وعِرضك هو من يقتلك ببنادقٍ تم شراءها من جيوب شعبه وتبرعاته. بدأ الجيش بالانهيار رويداً رويداً وبدأ الثوار بقلب موازين القوى، لا بد الآن الاستعانة بصديقٍ مثل إيران وحزب الله وروسيا للحفاظ على عرشٍ عِظامه هشة تذروه الرياح. حسناً عليك أن تٌحاصر تلك المدن وتتبع سياسة التجويع والخنوع وزرع المثبطين وتجار الدماء والحروب وانتهج ذلك المنهج الذي تتدارسونه مليّاً لوقف تدفق الثوار من كل حدبٍ وصوب، لقطع ذلك السيلان المُغرق.

أغُلقت المدن، ورفُعت السواتر الرمليّة، ومُنع الدخول والخروج ورفعت تلك اللافتة القذرة "الجوع أو الركوع" قالوا لنا منذ زمنٍ بعيد أنّ الموت جوعاً هي خزعبلاتٌ وخرافات، ليتهم كانوا معنا قليلاً ليروا أن الموت جوعاً حقيقة لا خيال. وما كان من الشعب المحاصر إلا الصمود والصبر والتحملّ لعلّ فرج الله قريب وأن المِحن تتلوها المنح. ربما هي من أصعب الأوقات وألذها أجراً أن تكون معدتك خاويةٌ يؤنسها بعض الأصوات التي تشير إلى الجوع وفي جعبتك القليل من الزاد وترى من هو أحق منك بالطعام فتزوده به، وفي المقابل أيضاً ربما هي من أصعب اللحظات وأشدها حنقاً أن يكون جسمك هزيلاً وجهك شاحباً مصفّراً يتخلله بعض الحمرة من بعض الابتكارات التي وجدت في زمن الحاجة، وجارك في الحيّ لديه قريب تاجر دماء أو قائد فصيل يتلذذ بأشهى الأطعمة في زمنٍ تآلف الناس على وجبة غداءٍ واحدة كلّ يوم.

سامحني يا صديقيّ على الاطالة فتلك الأقاصيص لا يمكن نسيانها أبداً، قد ترسختْ بفعل الحصار الذي لم نسمع عنه إلاّ في حصة التاريخ _ وحتّى تلك التي سمعناها لم تكن مثل قصصنا - عزفَ النظام في فترات الحصار المديدة على وتر الحرب النفسيّة أكثر من العسكرية واللوجستية.. خذ عندك مثلاً أكثر حالات الوفاة لدى الشباب في الفترة الأخيرة من الحصار نتيجة "تجلط الدماء" أو "تقلص عضلة القلب" أو.. وأقولها أسفاً أن من داخل الحصار من ساعد بذلك مثله بمثل من يحاصر المدن والأحياء. عند طيّ الصفحة الأخيرة وبعد التهديدات من "المفاوض" الروسي إبان الحملة النهائية في كلّ حصار، تتجهز الملاجئ المتأكلة ويجمُع الطعام من المنازل ويحمل كلّ شخصٍ دثاره وعباءته وتبدأ السمفونيات تارةً روسية وتارة سورية، تمُطر السماء باروداً أسوداً رائحته تفوح في كل زاوية وفي كل زقاق، تبدأ الابتهالات والأدعية لله عز وجلّ في باطن الأرض ممن يمكث في الملاجئ، ينطلق الدفاع المدني بين أزيز الرصاص ويتوغل تحت الأنقاض بحثاً عن حياةٍ ينقذونها، عن طفلٍ لم يتخيّل أن الحياة عقيمة بهذا الشكل.

تزداد عدوانية القصف أكثر فأكثر وبشتى الأسلحة، الى أن يتصل كبير مفاوضي المدينة المحاصرة ليقول: ماهي شروطكم ليتوقف القصف؟ يتكّور كلّ منا في زاوية ثم ماذا الآن؟ كن مستعداً دائما فالتهجير قادم لا محالة. يا الله كم كانت حرارتها عالية وشديدة تلك الجملة ربما لدرجة الهذيان! يطُلب منك أن تلملم جراحك سريعاً وتجمع حاجياتك الأولية وتودّع منزلك -إن كان حيّاً بعد- كيف ذلك؟ أيعقل إن كتب التاريخ والأساطير لم تذكر حلاً لذلك اللغز؟ ألم يسرد شهريار مثل هذه القصة على شهرزاد؟ هل نحن التجربة الأولى؟ في صباح كل يوم بينما تخرج الدفعات يتبادر إلى أذهان بعضنا أن الخروج مُحال وأشبه بأحلام اليقظة، فيأتي باصٌ أخضر أقرب ما يكون للعفن بمساعدة ضفادع بشريّة زُرعت لجعل الأمل مجرد أوهامٍ شريدةٍ تائهة.

تتألم وتتأمل كل شيء، كل ذرة تراب، كل نبتة زرُعت في الحصار، تودّع كل هذا بعيونك لتأخذ مشهداً كأنها كاميرا سينمائية سيُعرض في هوليوود وتثّبتها في ذاكرة عقلك. تجاهد لتقلّص حاجياتك قدر المستطاع لأجل حقيبةٍ واحدة ستخرج بها، صورك القديمة، أوراقك الثبوتية والهامة وربما بعض الرسائل والذكريات من أحدهم، بعض الأمتعة. تأتي الليلة الأخيرة، لتصحب معها دموعٍ مُكتنفة منذ صغرك محاولاً نسيانها، تسعى للنوم! أيّ نومٍ يا هذا؟ تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ووسادتك تزداد بللاً وتثقل وزناً.

يبزغ فجر اليوم الموعود وتشرق شمسٌ ستتغير اتجاه أشعتها عليك، تحمل الحقيبة وتبدأ المسير حيث الحافلات مركونة، جمعٌ غفير يودّع ويستودع هذا يبكي لفراق ذاك، وهذا يأخذ صورةً تذكاريةٍ مع ذاك، والجميع يتوجس خيفةً وشوقاً، ضوضاءٌ وفوضى. يناُدى عليك لتركب الحافلة الخضراء، فقد جاء اسمك ودورك، تحمل الحقيبة وكأن جبالاً جثمت على صدرك، بالكاد تسطيع المشي إن لم يكن حبواً.

تجلس بالقرب من النافذة لترى عيون الجمع عليك "في أمان الله" كثيراً ما ترددت يومئذٍ، تبدأ الحافلة بالحركة وقلبك يعتصر دمعاً أحمراً كأنه ضُم بيدٍ فولاذيّة وشُدَّ وثاقها. تودّ لو تتعطل الحافلة قليلاً لتُشبع عينكَ برهةً من الزمن، لكن عبثاً تتوهم. وتخرج خارج أسوار الحصار لترى مشاهد ومناظر من بلدك غُيّبت عنك إبان الحصار، تصل إلى مداخل الشمال المحرر، تدير رأسك هنا وهناك، وتبقى مذهولاً حيناّ من الوقت، لتكتشف فيما بعد البيئة المختلفة، العمل المفقود، البيوت المخُّبئة، الدراسة المتناثرة.

ويبدأ الضجر والخمول! فمنّا من التصق بجدار الحدود مع تركيا محاولاً العبور بحثاً عن عمل، ومنّا من دخل مباشرة من المعبر الأساسي مع تركيا بعد جمع ثروةً وفيرة من دماء شعبه، وهناك من يحاول سد الرمق من خلال عملٍ عسكريّ أو اغاثيّ أو مهنيّ، وأيضاً وُجدت فئة آبتْ الخروج من أجل قضيةً حوصر لأجلها، مؤمنٌ بأهدافها، محاربٌ في سبيل تحقيقها. وها نحن الآن جُمعنا في الشمال، منّا من قضى أعوام، ومنّا عام، ومنّا أشهر، ومنّا أيام وهلمَّ جرا.

ارحموا ذاك المُهّجر عندما يهرول على جهازه الخلوي عند بث صورٍ جديدة عن مدينته، ارحموه فمعاناته لن تُسطّر بأحرف وكلمات مهما كان. عندما يلتقي بمن شاركه حصاره والتحدث عن الذكريات الخوالي، عندما يُعرف بلهجته بين أقرانه. عن من ترك كل شيء، واجتُثت جذوره من أرضه.. ذاك الشريد الذي جنّ ليله داخل خيمة واستصعب النوم فيها، بعد سريرٍ دافئ في منزلٍ أخذ انشائهُ من عافيته.. ارحموا عزيز قومٍ هُجّر.. فمصابهُ ليس بقليل.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٨
تفرقوا على أرض الغوطة حين حاجتها لوحدتهم وجمعتهم المصالح

لطالما عول أهالي الغوطة الشرقية طيلة سنوات الحصار التي عاشوها بكل مرارتها وضيمها على اتفاق أكبر فصيلين عسكريين شرقي دمشق ممثلين بـ "جيش الإسلام وفيلق الرحمن" إلا أن الفرقة كانت السمة الغالبة رغم كل الوساطات والمناشدات.

كان الاقتتال الداخلي بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن لأشهر طويلة في الغوطة الشرقية الدور الأول في تقسيمها لقطاعات من قبل الفصائل قبل أن يقسمها النظام، فكانت السواتر والحواجز الترابية تقطع أوصال الغوطة الشرقية وكل فصيل يتربص بالأخر، وسط معاناة مريرة عايشها المدنيون في كلا مناطق سيطرة الطرفين ولا معيل لهم.

ورغم كل القصف والجوع والتجويع الذي مورس بحق أهالي الغوطة الشرقية والاستغلال الذي مارسته الفصائل التي تملكت الأنفاق للتجارة وإدخال المواد الغذائية بأسعار باهظة، هذا عدا عن القوى الأمنية لكل الفصيلين التي سلطت على رقاب المدنيين ومارست بحقهم أنواع من التضييق والاعتقال ورغم كل الدماء التي سالت لم تجمع بين قادة الفصيلين لأجل أبناء الغوطة، ولم يفتي أي من مشرعيهن بحرمة الدماء في فسطاط المسلمين أو ضرورة التوحد لمواجهة حملات النظام لاسيما الأخيرة منها بقي كل قائد فوق عرش سلطته لم يتنازل للأخر.

يضاف لذلك سلسلة الحملات الإعلامية والحرب المستعرة بين "مرقعي" الفصيلين من النشطاء والمناصرين، كلاً يؤيد فصيله ويناصره على ظلمه وفرقته وطعنه في الفصيل الأخر، تصاعدت هذه الحملات مع خروج أول قافلة لفيلق الرحمن من الغوطة الشرقية باتفاق مع روسيا، وبات التخوين القديم الجديد سيد الموقف فيمن باع ومن سلم ومن خان وترك المدنيين لمصيرهم بعد كل هذا الصمود.

لم تجمعهم أرض الفسطاط وجمعتهم قوافل التهجير، ولم تجمعهم عذابات وأنات المدنيين طيلة سبع سنوات مضت وجمعتهم أرض الشمال السوري التي هجروا إليها بعد أن سلموا سلاحهم وباتوا يسعون لبناء كياناتهم وعروشهم التي خسروها من جديد، فكان لابد من الاجتماع لأن في الاجتماع اليوم مصلحة مشتركة بحسب متابعين.

قرابة ألف شاب من أبناء الغوطة الشرقية أزهقت دمائهم بفتاوى مشرعيهم وإصرارهم على الصراع والقتال وتقاسم النفوذ والمصالح، ضاعت اليوم هذه الدماء، إضافة لألاف المدنيين من الشهداء والجرحى قدمتهم الغوطة الشرقية خلال سنوات الحصار، فمن يوفي هؤلاء حقهم ومن يعيد ديار من هجر من أرضه، ومن تحمل الجوع والحصار وكابد لينتهي بالتهجير قسراً بتخاذل الفصائل عن حمايته وتسليم سلاحهم محتجين بحماية المدنيين.

الصورة المتداولة اليوم في مقر لواء المعتصم بريف حلب الشمالي والتي تجمع كلاً من قائد جيش الإسلام "عصام بويضاني" وفيلق الرحمن "عبد الناصر شمير" كانت اشد إيلاماً على مهجري الغوطة الشرقية ونشطائها وقعاً من التهجير وكل العذاب والموت الذي لاقوه، لاقت الصور حالة سخط وانتقاد شديدة فهم اليوم يلتقون وربما يتوحدون ولكن بعد ماذا ....!؟

اقرأ المزيد
١٠ مايو ٢٠١٨
واشنطن تعتزم وضع خارطة طريق جديدة لمنبج

توجهت الأنظار في واشنطن الأسبوع الماضي إلى حي "فوغي بوتوم"، حيث يقع مقر وزارة الخارجية الأمريكية. فالعاملون في الوزارة كانوا على أهبة الاستعداد، وفي قمة الحماس لاستقبال الوزير الجديد.

بعد فترة من الإهمال في عهد الوزير السابق ريكس تيلرسون، كان كادر الوزارة متشوقًا لقدوم الوزير الجديد مايك بومبيو، الذي بدأ مهام منصبه بسرعة كبيرة.

فهو يقول إنه سيطلق مرحلة نشطة في وزارة الخارجية الأمريكية، وفي هذا الإطار، يتمتع بدعم كامل من الرئيس دونالد ترامب. والرجلان أمضيا اليوم الثاني بأكمله معًا في الوزارة.

بالنسبة لتركيا، من المهم جدًّا فهم ما ستكون عليه المرحلة الجديدة. ولهذا علينا أن ندرك معاني حدث آخر وقع الأسبوع الماضي وحمل مؤشرات على بدء نهج جديد لدى الإدارة الأمريكية.


بدء عهد إدارة متشددة
عزل ترامب الأسبوع الماضي محاميه، الذي كان يسعى لإقامة علاقات لينة وعقد اتفاق مع المدعي الخاص في تحقيقات التدخل الروسي بالانتخابات الأمريكية، وعين عوضًا عنه طاقمًا حاد المزاج وميال للمواجهة مع المدعي العام، يضم المحامي رودي جيلياني.

مع حدوث هذا التطور على صعيد السياسة الداخلية، بدأ بومبيو، وهو من صقور الإدارة، مهام منصبه في الخارجية مع دعم تام من الكادر العامل فيها. أي أن عهد ترامب دخل مرحلة السياسات المتشددة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ولأن ما ستكون عليه السياسة الخارجية هو البعد الذي يهم تركيا، من المؤكد أننا سنجد في مواجهتنا أمريكا أكثر عدوانية، وأكثر تصلبًا فيما يتعلق بمصالحها، ولا تسعى أبدًا إلى التصالح.

بومبيو يعتقد أن هذا ما يريده ترامب منه، ولذلك يسعى إلى إقامة علاقات وثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية من أجل تحقيق رغبات الرئيس.


إعادة دراسة الملفات المتعلقة بتركيا
بدأت الأقسام التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية العمل من جديد على الملفات الخاصة بالبلدان الحساسة ومن بينها تركيا، بهدف الاستعداد للمرحلة الجديدة.

وبحسب ما تتداوله الكواليس في واشنطن، فإن الوزارة تعيد النظر، بناءً على تعليمات من بومبيو، في الوعود الملزمة للإدارة الأمريكية، التي قدمها تيلرسون إلى الكثير من البلدان ومنها تركيا، وتعتزم وضع خرائط طرق جديدة.

ومما تتناقله الكواليس أن خريطة الطريق التي بحثها تيلرسون مع المسؤولين الأتراك في أنقرة بخصوص منبج تأتي في طليعة القضايا المزمع إعادة النظر فيها، وأن الإدارة الأمريكية ترغب في صياغة خريطة طريق جديدة عوضًا عنها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل