مستقبل الجاليات العربية في تركيا بعد الانتخابات
في أحد مؤتمراتها الجماهيرية في مدينة مرسين، قالت رئيس الحزب الجيد ميرال أكشنار إن الدينة تستضيف 200 ألف لاجئ سوري ما “خفض من مستوى المعيشة” فيها. وبعد أن حمّلت “سياسات اردوغان الخاطئة” مسؤولية هذا العدد من اللاجئين السوريين، وعدت المشاركين في اللقاء الجماهيري بأنه في حال انتخابها رئيساً “سنفطر جميعاً في رمضان القادم – 2019 مع أشقائنا السوريين في سوريا”.
تصريح أعاد للذهن وعود رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيتشدار أوغلو في انتخابات 2015 بإعادة السوريين إلى بلادهم، وجدَّد المخاوف لدى السوريين بخصوص وجودهم ومستقبلهم في تركيا بعد الانتخابات التركية وفق سيناريوهاتها المتوقعة. ففوز المعارضة قد يعني تنفيذ هذه التهديداته، بينما فوز اردوغان قد يعني نفوذاً أكبر لحزب الحركة القومية الذي لا يشارك الأخير رؤيته بخصوصهم.
ينسحب الأمر على وجود مختلف الجاليات والتيارات العربية في تركيا، ويضع الكلَّ العربي أمام نفس سؤال “ما بعد الانتخابات”، لكن التركيز الأكبر على السوريين باعتباره عددهم الكبير (أكثر من 3 ملايين)، وما يتضمنه ذلك من تحديات اجتماعية وأمنية وسياسية واقتصادية، وموقف بعض الأحزاب من الملف السوري والعلاقة مع الأسد، وملف تجنيس بعض السوريين الذي تعارضه الأخيرة.
في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، ينبغي أولاً الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية هي الأهم والأكثر تأثيراً باعتبار انتقال البلاد لتطبيق النظام الرئاسي. صحيح أن الانتخابات البرلمانية تحتفظ بأهميتها وحساباتها الخاصة، لكن على الأقل فيما يتعلق بالوجود السوري والعربي في تركيا، فإن الأمر متعلق بالرئاسية أكثر من البرلمانية.
وهنا، ثمة احتمالات ضئيلة جداً لحصول مفاجأة، حيث من المتوقع أن يحسمها اردوغان من الجولة الأولى. ولئن احتيج إلى جولة إعادة، فلا يبدو أن هناك فرصة حقيقية لتأييد كافة أطياف المعارضة المرشح المنافس له، والذي سيكون على الأغلب محرّم إينجة مرشح حزب الشعب الجمهوري[i]، ما يعني استمرار السياسات الحالية.
وأما الانتخابات البرلمانية فالحسابات فيها أكثر تعقيداً، وتحتمل عدة سيناريوهات، بما فيها إمكانية حصول تحالف الأمة المشتمل على أربعة أحزاب معارضة على أغلبية بسيطة في مواجهة تحالف الشعب، خصوصاً إذا ما استطاع حزب الشعوب الديمقراطي دخول البرلمان ثم تحالف معه[ii].
هذا الاحتمال القائم، وإن كانت فرصه ضعيفة، قد يعني نظرياً إمكانية خروج تشريعات من البرلمان بخصوص تنظيم التواجد السوري والعربي على الأراضي التركية. لكن من ناحية عملية، فمن الصعب توقع توافق كل هذه الأحزاب على كافة القضايا، وبالتالي من الصعوبة بمكان الحديث عن تحالف مستقر بينها بعد الانتخابات، وهو ما يعني أن المخاطر المتعلقة بالملف السوري والعربي في تركيا ضعيفة، وهي بالتأكيد ليست أولية هذه الأحزاب.
الأهم بعد كل هذه المقدمات أن فكرة “إعادة السوريين إلى أراضيهم” التي تهدد بها بعض أطياف المعارضة ليست أمراً يسيراً يمكن لأي رئيس أو حكومة قادمة محاولة تفعيلها. فعودة ثلاثة ملايين سوري إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم قرار يرتبط بالموقف الدولي وحل الأزمة السورية وتطورات الوضع الميداني وعملية إعادة الإعمار، وغيرها الكثير من العوامل التي تجعل قراراً كهذا شبه مستحيل وفق الظروف الحالية.
وأما ما يتعلق بفكرة سحب الجنسية من السوريين المجنسين وفق الاستثناء القانوني، فإن هذا الاحتمال الممكن قانونياً صعب جداً عملياً، ولا يفعّل إلا في ظروف خاصة جداً مثل الخيانة العظمى والعمليات الإرهابية. كما أنه قرار يتخذ فردياً وليس جماعياً، فضلاً عن أنه من صلاحيات الحكومة التي سيشكلها الرئيس.
من جهة أخرى، يبدو لي أن هناك مبالغة في التخوف من شراكة العدالة والتنمية مع الحركة القومية، واحتمالية أن تنفذ رؤية الثاني لا الأول على السوريين، خصوصاً في ظل بعض التسريبات التي تحدثت عن رغبة الحركة في منصب وزارة الداخلية. ذلك أنه:
أولاً، النظام الذي سيطبق هو الرئاسي، ومؤسسة الرئاسة هي التي ستطبق رؤيتها وبرامجها وتختار للوزارات من يفعل ذلك، وليس العكس.
ثانياً، حزب الحركة القومية هو الطرف الأصغر والأضعف في تحالفه مع العدالة والتنمية، ومدى قدرته على الضغط على الأخير مرتبط بنسبة التصويت له في الانتخابات، والتي يتوقع ألا تتخطى العتبة الانتخابية (%10). بمعنى أن الحركة القومية سيدخل البرلمان بفضل الحزب الحاكم، ما سيجعله الطرف الأضعف في الحكومة والسياسات والقرارات.
ثالثاً، وزير الداخلية الحالي من التيار القومي في حزب العدالة والتنمية، ويطبق السياسات المرسومة من قبل اردوغان والحزب.
لكن، كل ما سبق لا يعني بحال أنه لن تطرأ متغيرات على الوجود السوري/العربي في تركيا، بل لعل جزءاً من هذه التغييرات قد بدأ فعلاً. إذ يمكن رصد التالي:
أولاً، متغيرات السياسة الخارجية التركية منذ 2015 وفق استحقاقات الأمن القومي التركي وأولوياته، وشمل ذلك عدة ملفات في مقدمتها القضية السورية.
ثانياً، هناك مساعٍ حكومية في الشهور الأخيرة لضبط وتقنين تواجد الجاليات العربية على أراضيها، التي أتت في ظروف استثنائية ووقت قصير، مما سبب أحياناً بعض الأخطاء والهنات وشيء من الفوضى، ولذا تريد أنقرة لهذا الملف أن يكون أكثر قانونيةً واستقراراً وانسجاماً مع الواقع التركي.
ثالثاً، تعتمد تركيا في الخطاب والممارسة فكرة “إعادة من يريد من السوريين” إلى الشمال السوري تحديداً، باعتبارها مناطق آمنة وبعيدة عن سيطرة النظام وفيها بنية تحتية اعتنت بها تركيا بشكل خاص. وهذه سياسة مرشحة للاستمرار، لكن ليس على قاعدة إجبار السوريين على المغادرة، ولكن على تسهيل عودة من يريد منهم.
رابعاً، تتبع تركيا منذ 2015 سياسة “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم” مع مختلف الدول، ما يعني احتمال تطور العلاقات مع بعض الدول والأنظمة. تطور كهذا إن حصل، أو حين يحصل، سيكون له بطبيعة الحال تداعيات على الجاليات العربية المقيمة في تركيا، ولكن على قاعدة الضبط والتقنين والتأطير وليس الطرد والإجلاء.
في المحصلة، ليس من المتوقع فوز أي مرشح معارض في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعني بالضرورة استمرار سياسات اردوغان والعدالة والتنمية بخصوص التواجد العربي والسوري في خطوطه العريضة. وأما الانتخابات البرلمانية فقد تفرز خريطة حزبية في البرلمان تفرض إعادة النقاش في بعض الجزئيات المتعلقة بهم. وبالتالي، فلا تغييرات جذرية في هذا السياق من قبيل الترحيل أو سحب الجنسيات أو ما شابه.
لكن ذلك لا يعني أنه لن تطرأ تغيرات معينة على هذا الوجود لجهة ضبطه وتنظيمه وترتيبه، استمراراً لبعض السياسات القائمة حالياً واستحداثاً لبعض القرارات والسياسات المرتبطة بالعهد الجديد وظروفه وسياقاته. وأما إن حصلت مفاجأة ضخمة من قبيل فوز أحد المعارضين بالرئاسة أو فوز المعارضة بأغلبية كبيرة في البرلمان، فتلك نتائج ستحتاج حينها لتقييم أوسع ونقاش أعمق، ولعل ذلك من أهم أسباب دعاء الجاليات العربية لاردوغان والعدالة والتنمية وتأييدهم لهما في الانتخابات.
وبكل الأحوال، ينبغي على الجاليات والنخب العربية في تركيا ترتيب أمورها ذاتياً وبالتعاون مع السلطات التركية، لتجنب أي ارتدادات سلبية وأيضاً لتطير هذا الوجود لمصلحة الطرفين[iii].