يمكثُ الوالدان بجوار أبنائهم في رأس السنة الهجريّة أو في ذكرى المولد النبويّ على شاشات التلفزة منتظرين الساعة العاشرة لعرض فيلم "الرسالة" الذي يروي مراحل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدء الدعوة إلى دين الله الحنيف والتحديات التي واجهته صلى الله عليه وسلم لنشر رسالة ربه بين قومٍ عبدوا أصنام سمّوها بأنفسهم ووجدوا لها رونقاً يتماشى مع طبيعتهم.
هكذا هي العادة المسُتحبة لدينا يومئذٍ.. لكنَّ ما يلفت النظر في مشاهد الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، أن الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم عانوا أشد المعاناة في تلك الهجرة ولوحِقوا من أقوامهم وهدُّدوا بالقتل وحيّكت لهم الكمائن، الخروج طوعاً من أرضك أهون بكثير من أن تخرج كرهاً وربما دونما عودة وكلمة رسول الحق يوم خرج من مكة واقفاً على أطلالها ليقول: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلي ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت" هي دليلٌ على هول الطامة. بهذه الكلمات نستنبط تلك الفجوة التي حالت عند الرسول صلى الله عليه وسلم بين حبه لأرضه وبين تضحيته لأجل قضيته أو درأً لمهلكة قومه. وعلى غرار تلك التجربة قد أعيد تفعليها من جديد، بعد ألفٍ وأربعمائة عامٍ أو يزيد. سأقصّ عليك يا صديقي تلك الأحجية المبهمة لديك.
بعد أن خرج الشعب السوري بثورة منذ سبع سنوات حالمين بالعدل والمساوة وبفك قيّد الحريات المكبوتة، قابلهم نظام الحكم كثورٍ هائج ضُرب بأسهم مخدّرة داخل حلبةً ملُئت بالجماهير والأصوات الصاخبة، فقابلوه بما تحتويّ أيديهم وجابهوه، وكُسر جدار الخوف والجزع، فزاد الثور من همجيته وجنونه، وزاد الشعب اصراراً وتجلداً ليصنعوا حياةً مشرقةً لمن بعدهم، فخرجت الدبابات من ثكناتها والتي -تجهّزت لمقاتلة العدو الاسرائيلي المحتل- وأقلعت الطائرات من مرابضها وتجهز الجيش السوري لقتل الشعب السوري.
أي مهزلةٍ تلك، جيشك الحامي لوطنك وعِرضك هو من يقتلك ببنادقٍ تم شراءها من جيوب شعبه وتبرعاته. بدأ الجيش بالانهيار رويداً رويداً وبدأ الثوار بقلب موازين القوى، لا بد الآن الاستعانة بصديقٍ مثل إيران وحزب الله وروسيا للحفاظ على عرشٍ عِظامه هشة تذروه الرياح. حسناً عليك أن تٌحاصر تلك المدن وتتبع سياسة التجويع والخنوع وزرع المثبطين وتجار الدماء والحروب وانتهج ذلك المنهج الذي تتدارسونه مليّاً لوقف تدفق الثوار من كل حدبٍ وصوب، لقطع ذلك السيلان المُغرق.
أغُلقت المدن، ورفُعت السواتر الرمليّة، ومُنع الدخول والخروج ورفعت تلك اللافتة القذرة "الجوع أو الركوع" قالوا لنا منذ زمنٍ بعيد أنّ الموت جوعاً هي خزعبلاتٌ وخرافات، ليتهم كانوا معنا قليلاً ليروا أن الموت جوعاً حقيقة لا خيال. وما كان من الشعب المحاصر إلا الصمود والصبر والتحملّ لعلّ فرج الله قريب وأن المِحن تتلوها المنح. ربما هي من أصعب الأوقات وألذها أجراً أن تكون معدتك خاويةٌ يؤنسها بعض الأصوات التي تشير إلى الجوع وفي جعبتك القليل من الزاد وترى من هو أحق منك بالطعام فتزوده به، وفي المقابل أيضاً ربما هي من أصعب اللحظات وأشدها حنقاً أن يكون جسمك هزيلاً وجهك شاحباً مصفّراً يتخلله بعض الحمرة من بعض الابتكارات التي وجدت في زمن الحاجة، وجارك في الحيّ لديه قريب تاجر دماء أو قائد فصيل يتلذذ بأشهى الأطعمة في زمنٍ تآلف الناس على وجبة غداءٍ واحدة كلّ يوم.
سامحني يا صديقيّ على الاطالة فتلك الأقاصيص لا يمكن نسيانها أبداً، قد ترسختْ بفعل الحصار الذي لم نسمع عنه إلاّ في حصة التاريخ _ وحتّى تلك التي سمعناها لم تكن مثل قصصنا - عزفَ النظام في فترات الحصار المديدة على وتر الحرب النفسيّة أكثر من العسكرية واللوجستية.. خذ عندك مثلاً أكثر حالات الوفاة لدى الشباب في الفترة الأخيرة من الحصار نتيجة "تجلط الدماء" أو "تقلص عضلة القلب" أو.. وأقولها أسفاً أن من داخل الحصار من ساعد بذلك مثله بمثل من يحاصر المدن والأحياء. عند طيّ الصفحة الأخيرة وبعد التهديدات من "المفاوض" الروسي إبان الحملة النهائية في كلّ حصار، تتجهز الملاجئ المتأكلة ويجمُع الطعام من المنازل ويحمل كلّ شخصٍ دثاره وعباءته وتبدأ السمفونيات تارةً روسية وتارة سورية، تمُطر السماء باروداً أسوداً رائحته تفوح في كل زاوية وفي كل زقاق، تبدأ الابتهالات والأدعية لله عز وجلّ في باطن الأرض ممن يمكث في الملاجئ، ينطلق الدفاع المدني بين أزيز الرصاص ويتوغل تحت الأنقاض بحثاً عن حياةٍ ينقذونها، عن طفلٍ لم يتخيّل أن الحياة عقيمة بهذا الشكل.
تزداد عدوانية القصف أكثر فأكثر وبشتى الأسلحة، الى أن يتصل كبير مفاوضي المدينة المحاصرة ليقول: ماهي شروطكم ليتوقف القصف؟ يتكّور كلّ منا في زاوية ثم ماذا الآن؟ كن مستعداً دائما فالتهجير قادم لا محالة. يا الله كم كانت حرارتها عالية وشديدة تلك الجملة ربما لدرجة الهذيان! يطُلب منك أن تلملم جراحك سريعاً وتجمع حاجياتك الأولية وتودّع منزلك -إن كان حيّاً بعد- كيف ذلك؟ أيعقل إن كتب التاريخ والأساطير لم تذكر حلاً لذلك اللغز؟ ألم يسرد شهريار مثل هذه القصة على شهرزاد؟ هل نحن التجربة الأولى؟ في صباح كل يوم بينما تخرج الدفعات يتبادر إلى أذهان بعضنا أن الخروج مُحال وأشبه بأحلام اليقظة، فيأتي باصٌ أخضر أقرب ما يكون للعفن بمساعدة ضفادع بشريّة زُرعت لجعل الأمل مجرد أوهامٍ شريدةٍ تائهة.
تتألم وتتأمل كل شيء، كل ذرة تراب، كل نبتة زرُعت في الحصار، تودّع كل هذا بعيونك لتأخذ مشهداً كأنها كاميرا سينمائية سيُعرض في هوليوود وتثّبتها في ذاكرة عقلك. تجاهد لتقلّص حاجياتك قدر المستطاع لأجل حقيبةٍ واحدة ستخرج بها، صورك القديمة، أوراقك الثبوتية والهامة وربما بعض الرسائل والذكريات من أحدهم، بعض الأمتعة. تأتي الليلة الأخيرة، لتصحب معها دموعٍ مُكتنفة منذ صغرك محاولاً نسيانها، تسعى للنوم! أيّ نومٍ يا هذا؟ تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ووسادتك تزداد بللاً وتثقل وزناً.
يبزغ فجر اليوم الموعود وتشرق شمسٌ ستتغير اتجاه أشعتها عليك، تحمل الحقيبة وتبدأ المسير حيث الحافلات مركونة، جمعٌ غفير يودّع ويستودع هذا يبكي لفراق ذاك، وهذا يأخذ صورةً تذكاريةٍ مع ذاك، والجميع يتوجس خيفةً وشوقاً، ضوضاءٌ وفوضى. يناُدى عليك لتركب الحافلة الخضراء، فقد جاء اسمك ودورك، تحمل الحقيبة وكأن جبالاً جثمت على صدرك، بالكاد تسطيع المشي إن لم يكن حبواً.
تجلس بالقرب من النافذة لترى عيون الجمع عليك "في أمان الله" كثيراً ما ترددت يومئذٍ، تبدأ الحافلة بالحركة وقلبك يعتصر دمعاً أحمراً كأنه ضُم بيدٍ فولاذيّة وشُدَّ وثاقها. تودّ لو تتعطل الحافلة قليلاً لتُشبع عينكَ برهةً من الزمن، لكن عبثاً تتوهم. وتخرج خارج أسوار الحصار لترى مشاهد ومناظر من بلدك غُيّبت عنك إبان الحصار، تصل إلى مداخل الشمال المحرر، تدير رأسك هنا وهناك، وتبقى مذهولاً حيناّ من الوقت، لتكتشف فيما بعد البيئة المختلفة، العمل المفقود، البيوت المخُّبئة، الدراسة المتناثرة.
ويبدأ الضجر والخمول! فمنّا من التصق بجدار الحدود مع تركيا محاولاً العبور بحثاً عن عمل، ومنّا من دخل مباشرة من المعبر الأساسي مع تركيا بعد جمع ثروةً وفيرة من دماء شعبه، وهناك من يحاول سد الرمق من خلال عملٍ عسكريّ أو اغاثيّ أو مهنيّ، وأيضاً وُجدت فئة آبتْ الخروج من أجل قضيةً حوصر لأجلها، مؤمنٌ بأهدافها، محاربٌ في سبيل تحقيقها. وها نحن الآن جُمعنا في الشمال، منّا من قضى أعوام، ومنّا عام، ومنّا أشهر، ومنّا أيام وهلمَّ جرا.
ارحموا ذاك المُهّجر عندما يهرول على جهازه الخلوي عند بث صورٍ جديدة عن مدينته، ارحموه فمعاناته لن تُسطّر بأحرف وكلمات مهما كان. عندما يلتقي بمن شاركه حصاره والتحدث عن الذكريات الخوالي، عندما يُعرف بلهجته بين أقرانه. عن من ترك كل شيء، واجتُثت جذوره من أرضه.. ذاك الشريد الذي جنّ ليله داخل خيمة واستصعب النوم فيها، بعد سريرٍ دافئ في منزلٍ أخذ انشائهُ من عافيته.. ارحموا عزيز قومٍ هُجّر.. فمصابهُ ليس بقليل.
لطالما عول أهالي الغوطة الشرقية طيلة سنوات الحصار التي عاشوها بكل مرارتها وضيمها على اتفاق أكبر فصيلين عسكريين شرقي دمشق ممثلين بـ "جيش الإسلام وفيلق الرحمن" إلا أن الفرقة كانت السمة الغالبة رغم كل الوساطات والمناشدات.
كان الاقتتال الداخلي بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن لأشهر طويلة في الغوطة الشرقية الدور الأول في تقسيمها لقطاعات من قبل الفصائل قبل أن يقسمها النظام، فكانت السواتر والحواجز الترابية تقطع أوصال الغوطة الشرقية وكل فصيل يتربص بالأخر، وسط معاناة مريرة عايشها المدنيون في كلا مناطق سيطرة الطرفين ولا معيل لهم.
ورغم كل القصف والجوع والتجويع الذي مورس بحق أهالي الغوطة الشرقية والاستغلال الذي مارسته الفصائل التي تملكت الأنفاق للتجارة وإدخال المواد الغذائية بأسعار باهظة، هذا عدا عن القوى الأمنية لكل الفصيلين التي سلطت على رقاب المدنيين ومارست بحقهم أنواع من التضييق والاعتقال ورغم كل الدماء التي سالت لم تجمع بين قادة الفصيلين لأجل أبناء الغوطة، ولم يفتي أي من مشرعيهن بحرمة الدماء في فسطاط المسلمين أو ضرورة التوحد لمواجهة حملات النظام لاسيما الأخيرة منها بقي كل قائد فوق عرش سلطته لم يتنازل للأخر.
يضاف لذلك سلسلة الحملات الإعلامية والحرب المستعرة بين "مرقعي" الفصيلين من النشطاء والمناصرين، كلاً يؤيد فصيله ويناصره على ظلمه وفرقته وطعنه في الفصيل الأخر، تصاعدت هذه الحملات مع خروج أول قافلة لفيلق الرحمن من الغوطة الشرقية باتفاق مع روسيا، وبات التخوين القديم الجديد سيد الموقف فيمن باع ومن سلم ومن خان وترك المدنيين لمصيرهم بعد كل هذا الصمود.
لم تجمعهم أرض الفسطاط وجمعتهم قوافل التهجير، ولم تجمعهم عذابات وأنات المدنيين طيلة سبع سنوات مضت وجمعتهم أرض الشمال السوري التي هجروا إليها بعد أن سلموا سلاحهم وباتوا يسعون لبناء كياناتهم وعروشهم التي خسروها من جديد، فكان لابد من الاجتماع لأن في الاجتماع اليوم مصلحة مشتركة بحسب متابعين.
قرابة ألف شاب من أبناء الغوطة الشرقية أزهقت دمائهم بفتاوى مشرعيهم وإصرارهم على الصراع والقتال وتقاسم النفوذ والمصالح، ضاعت اليوم هذه الدماء، إضافة لألاف المدنيين من الشهداء والجرحى قدمتهم الغوطة الشرقية خلال سنوات الحصار، فمن يوفي هؤلاء حقهم ومن يعيد ديار من هجر من أرضه، ومن تحمل الجوع والحصار وكابد لينتهي بالتهجير قسراً بتخاذل الفصائل عن حمايته وتسليم سلاحهم محتجين بحماية المدنيين.
الصورة المتداولة اليوم في مقر لواء المعتصم بريف حلب الشمالي والتي تجمع كلاً من قائد جيش الإسلام "عصام بويضاني" وفيلق الرحمن "عبد الناصر شمير" كانت اشد إيلاماً على مهجري الغوطة الشرقية ونشطائها وقعاً من التهجير وكل العذاب والموت الذي لاقوه، لاقت الصور حالة سخط وانتقاد شديدة فهم اليوم يلتقون وربما يتوحدون ولكن بعد ماذا ....!؟
توجهت الأنظار في واشنطن الأسبوع الماضي إلى حي "فوغي بوتوم"، حيث يقع مقر وزارة الخارجية الأمريكية. فالعاملون في الوزارة كانوا على أهبة الاستعداد، وفي قمة الحماس لاستقبال الوزير الجديد.
بعد فترة من الإهمال في عهد الوزير السابق ريكس تيلرسون، كان كادر الوزارة متشوقًا لقدوم الوزير الجديد مايك بومبيو، الذي بدأ مهام منصبه بسرعة كبيرة.
فهو يقول إنه سيطلق مرحلة نشطة في وزارة الخارجية الأمريكية، وفي هذا الإطار، يتمتع بدعم كامل من الرئيس دونالد ترامب. والرجلان أمضيا اليوم الثاني بأكمله معًا في الوزارة.
بالنسبة لتركيا، من المهم جدًّا فهم ما ستكون عليه المرحلة الجديدة. ولهذا علينا أن ندرك معاني حدث آخر وقع الأسبوع الماضي وحمل مؤشرات على بدء نهج جديد لدى الإدارة الأمريكية.
بدء عهد إدارة متشددة
عزل ترامب الأسبوع الماضي محاميه، الذي كان يسعى لإقامة علاقات لينة وعقد اتفاق مع المدعي الخاص في تحقيقات التدخل الروسي بالانتخابات الأمريكية، وعين عوضًا عنه طاقمًا حاد المزاج وميال للمواجهة مع المدعي العام، يضم المحامي رودي جيلياني.
مع حدوث هذا التطور على صعيد السياسة الداخلية، بدأ بومبيو، وهو من صقور الإدارة، مهام منصبه في الخارجية مع دعم تام من الكادر العامل فيها. أي أن عهد ترامب دخل مرحلة السياسات المتشددة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ولأن ما ستكون عليه السياسة الخارجية هو البعد الذي يهم تركيا، من المؤكد أننا سنجد في مواجهتنا أمريكا أكثر عدوانية، وأكثر تصلبًا فيما يتعلق بمصالحها، ولا تسعى أبدًا إلى التصالح.
بومبيو يعتقد أن هذا ما يريده ترامب منه، ولذلك يسعى إلى إقامة علاقات وثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية من أجل تحقيق رغبات الرئيس.
إعادة دراسة الملفات المتعلقة بتركيا
بدأت الأقسام التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية العمل من جديد على الملفات الخاصة بالبلدان الحساسة ومن بينها تركيا، بهدف الاستعداد للمرحلة الجديدة.
وبحسب ما تتداوله الكواليس في واشنطن، فإن الوزارة تعيد النظر، بناءً على تعليمات من بومبيو، في الوعود الملزمة للإدارة الأمريكية، التي قدمها تيلرسون إلى الكثير من البلدان ومنها تركيا، وتعتزم وضع خرائط طرق جديدة.
ومما تتناقله الكواليس أن خريطة الطريق التي بحثها تيلرسون مع المسؤولين الأتراك في أنقرة بخصوص منبج تأتي في طليعة القضايا المزمع إعادة النظر فيها، وأن الإدارة الأمريكية ترغب في صياغة خريطة طريق جديدة عوضًا عنها.
مثلما كان متوقعاً، نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب تهديده بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وذهب خطوة أبعد بإعلانه عن إعادة فرض عقوبات مشددة على النظام الإيراني، متجاهلاً مناشدات وضغوط حلفائه الأوروبيين، الذين رأوا أن الاتفاقية، وإن احتوت على بعض النواقص، إلا أنها نجحت في عرقلة برنامج طهران النووي، ووضعته تحت مراقبة مشددة لمنع حصولها على قنبلة نووية على الأقل حتى 2030.
جادلت هذه الدول بأنه بدلاً من انسحاب أميركا من الاتفاق الذي استغرقت مفاوضاته نحو السنتين واستنفد جهوداً هائلة، يمكن العمل على إدخال تعديلات عليه؛ لكن ترمب تمسك بموقفه الذي يعتبر الاتفاق صفقة سيئة؛ بل كارثية، ولا يمكن ترقيعه؛ بل يجب إعادة التفاوض حوله لتضمينه قيوداً على برنامج طهران الصاروخي، وعلى سياساتها العدوانية في المنطقة.
بإقدامه على خطوة الانسحاب، يكون ترمب قد التزم بوعده الانتخابي، وخطا خطوة أخرى في جهوده لتفكيك إرث أوباما، بعد خطوته الأولى التي استهدفت برنامج الرعاية الصحية. الواقع أنه أيضا لجأ إلى السياسة الوحيدة التي يتقنها، وهي سياسة «فن الصفقات»، في ممارسة أقصى الضغوط والتشدد قبل تقديم بعض التنازلات، للحصول على أفضل صفقة ممكنة. في الوقت ذاته، فإنه فتح المجال لتبادل الأدوار مع الحلفاء الأوروبيين، ضمن لعبة «الشرطي الطيب والشرطي الشرير» لدفع إيران للموافقة على إعادة التفاوض، لإضافة بنود أو ملاحق للاتفاق، تشمل برنامجها الصاروخي وسياساتها الخارجية العدوانية في المنطقة.
ترمب، وإن انسحب بشكل منفرد من الاتفاق النووي، إلا أنه لا يريد شطبه نهائياً، فالغاية هي التعديل لا الإلغاء، لذلك حرص على القول في كلمته أول من أمس، إن أميركا تبقى مستعدة للعودة إلى الاتفاق بمجرد تحقيق التعديلات المطلوبة. بعد الانسحاب يستطيع ترمب القيام بدور «الشرطي الشرير» شاهراً عصا العقوبات، ومتبنياً لهجة التصعيد، تاركاً الأوروبيين لممارسة دور «الشرطي الطيب» لإقناع إيران بتعديل الاتفاقية. فالانسحاب الأحادي يحقق عدة أمور، أهمها أن الاتفاق بقيوده ما زال مطبقاً على إيران ما دامت الأطراف الأخرى ملتزمة به، في حين أن أميركا تستطيع فرض عقوبات وتشديد الضغوط الاقتصادية والسياسية. لكن الكثير سيعتمد على الطريقة التي ستتعامل بها واشنطن في موضوع العقوبات مع حلفائها الأوروبيين، الذين ستحتاجهم لتحقيق التعديلات على الاتفاق. فهناك شركات أوروبية كبرى استثمرت أموالاً ضخمة في إيران بعد رفع العقوبات في إطار الاتفاق، وحماية هذه المصالح الاقتصادية كانت بنداً واضحاً في بيان الاتحاد الأوروبي، عقب إعلان خطوة الانسحاب الأميركي. واشنطن ستحتاج إلى لعب ورقة الانسحاب بمهارة دبلوماسية عالية؛ لأنها لا ترغب في استعداء حلفائها، ولا تريد أن تسمح لطهران باللعب على أي خلافات أوروبية - أميركية.
ترمب وبعض أركان إدارته يرون أن النظام الإيراني، خلافاً للمظاهر، ضعيف، ويواجه نقمة شعبية متزايدة، وبالتالي فإن تشديد الضغوط عليه سيؤدي إلى واحد من ثلاثة احتمالات: فإما أن يشتعل الغضب الشعبي وتعود مظاهرات الاحتجاج فيسقط النظام، أو يرضخ النظام تحت الضغط ويقبل بإعادة التفاوض حول الاتفاقية النووية، ويمتثل للمطالب الداعية إلى تقييد برنامج الصواريخ، أو تتفاقم الصراعات بين المتشددين والإصلاحيين بما يضعف النظام ويشغله بنفسه، ويجعله عرضة للسقوط. لكن في المقابل هناك من يرى أن النظام الإيراني، وإن واجه مشكلات داخلية، إلا أنه لا يبدو على وشك السقوط، وأنه يمكن أن يستخدم الانسحاب الأميركي من الاتفاقية النووية وإعادة فرض العقوبات، كشماعة يعلق عليها مشكلاته، وكورقة لتوحيد الإيرانيين، وتصوير أميركا على أنها تريد إضعاف إيران وليس النظام، وأنها لا تلتزم بتعهداتها، ما جعلها معزولة في موقفها مقابل الأطراف الأخرى في الاتفاقية التي بقيت متمسكة بها.
خروج وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر من الإدارة الأميركية، وحلول مايك بومبيو وجون بولتون محلهما، عزز موقف ترمب المتشدد إزاء إيران والاتفاق النووي، وجعل فريقه ينطق بلسان واحد في هذا الملف، وعينه في الوقت ذاته على ملف كوريا الشمالية، قبل اللقاء المرتقب مع رئيسها كيم إيل جونغ. فالرئيس الأميركي يبدو مقتنعاً بأن الخط المتشدد الذي انتهجه مع كوريا الشمالية و«حرب التغريدات» التي خاضها ضد كيم جونغ، هي التي دفعت بيونغ يانغ لتقديم عرض التفاوض مع واشنطن، وبالتالي فإن التشدد مع إيران قد يكون الطريق لتحقيق التعديلات المطلوبة في الاتفاق النووي.
واشنطن تبعث أيضاً برسالة إلى كوريا الشمالية قبل اللقاء المرتقب بين رئيسي البلدين، مفادها أن الاتفاق مع إيران ليس مقبولاً، فلا تفكروا في أن تطلبوا مثله، وأن أي اتفاق معكم بشأن الملف النووي يجب أن يشمل أيضاً موضوع الصواريخ الباليستية، والسياسات الخارجية العدوانية، والسلوك الإقليمي، مثلما هو مطلوب من إيران في ملفها النووي. واشنطن تعرف الحبل السري الذي يربط إيران وكوريا الشمالية، وترى الرابط بين أي اتفاق يتم التوصل إليه في ملفيهما النوويين، بكل ما يعنيه ذلك من تعقيدات. يبقى السؤال: هل تملك إدارة ترمب القدرة والحنكة لتحقيق مطالبها في ملفين من بين أسخن الملفات أمامها؟
يعيش الشعب التركي هذه الأيام عرسا ديموقراطيا حقيقيا ، يُغبط عليه ، حيث تلتهب في ساحة المنافسة أصوات الناخبين ، ودعايات المرشحين ، وبرامجهم ، وتصوراتهم لمستقبل دولتهم وشعبهم ووطنهم .
وإن كان لأهل الحق في هذا الميدان من كلمة ولاسيما لملايين المستأمنين من اللاجئين الذين يعيشون على الأرض التركية من سوريين وعراقيين ومصريين وفلسطينيين ، فهي الدعاء للشعب التركي أن يلهمه الله رشده ، وأن يسدد اختياره ، لاختيار القوي الأمين القادر على خدمة الدولة التركية ، وتلبية تطلعات شعبها ..
إن الذي يجب أن يعلن وأن يؤكد عليه من قبل كل المستأمنين الذين يعيشون على الأرض التركية قيادات وأفرادا : أنهم في تركيا ضيوف على الدولة التركية ، وفي جوار الشعب التركي الكريم . وأنهم لا يتدخلون في خصوصيات الدولة التركية والشعب التركي . وأنهم ليسوا طرفا في أي معركة من معاركه الداخلية ، ولا في أي منافسة من منافساته السياسية ..
إن تلاعب موج العواطف ببعض الناس ، ولاسيما بعض القيادات ، وانزلاقهم إلى مواقف وتصريحات وعبارات لا تخدم المضيف ولا الضيف لهو من الجنايات التي تعود بعض الناس أن يجنوها على أنفسهم وعلى من يلوذ بهم ، فيشترون البلاء بالعافية وقد أغناهم الله عن البلاء . وضمنت لهم قواعد الحياة العافية .
إن من أهم الضرورات أن يتحدث هؤلاء المستأمنون أو اللاجئون ( إذا شئتم ) باحترام بالغ عن الطيف التركي بكل مكوناته . أن يتحدثوا بتوقير عن المؤسسات والأحزاب والقوى والشخصيات ، فنحن - معاشر المستأمنين - لسنا جزء من هذا التنافس السياسي المحموم والمشروع..بل سنظل نكرر أننا نغبط الشعب التركي على نعمة عظمى هو فيها ، ونسأل الله أن تحل قريبا في أوطاننا .
كما أننا نأمل من جميع القوى والمكونات التركية السياسية والمجتمعية ، أن تتفهم البعد الإنساني لوجودنا في ضيافة الدولة التركية والشعب التركي أجمع . نأمل أن تتفهم هذه القوى أن هذا الوجود العارض ليس ضيفا على حزب ، ولا على حكومة وإنما هو ضيف على دولة وعلى شعب . وأنأمل بالتالي من جميع القوى أ، ن تقارب قضايانا في برامجها الانتخابية مقاربة إنسانية بحتة ، وأن تعد بأن تكون طرفا في الدفاع عن قضايا الشعوب العادلة ولاسيما في بلدان الجوار المحرومة من أبسط حقوق الإنسان ..
لا يمكن لأي قوة ديمقراطية ، وتمارس الديمقراطية ، وتستمع بعطاياها ؛ ثم يكون وعدها الديمقراطي أن تكون داعمة للاستبداد ، أو شريكة في حرمان شعوب ، تكالبت عليها قوى الشر في العالم ، من حقها الديمقراطي . لا يمكن للديمقراطية أن تتحالف مع الفساد والاستبداد والظلم ، وعي حين تفعل ، تكون قد حكمت على نفسها ..
بل إن المأمول من جميع القوى الديموقراطية السياسية والمجتمعية في تركية أن تضع في برامجها الانتخابابية بندا يتضمن نصرة المظلوم ، والدفاع عن حق المستضعف المحروم ، ودعم المشروع الديمقراطي في المنطقة ، كخيار وحيد لإخراج المنطقة التي نقتسم العيش فيها من أزمتها الطاحنة . الخير عندك جارك تلقاه في ديارك . ولهيب الحرب لا يعفي ولا يبقي.
نأمل أن تتفهم جميع القوى الديمقراطية والمباشرة للعملية الانتخابية في تركيا أن وجود السوريين وغيرهم من المستأمنين على الأرض التركية هو وجود عابروطارئ ، اقتضته ظروف إنسانية صعبة . وأنه من حق على جميع القوى الديمقراطية الحقيقية أن تجعل من العمل على مساعدة هؤلاء اللاجئين ميدانا للتنافس الحميد . وأن يكون في قائمة وعود كل المرشحين : مساعدة جميع اللاجئين على تجاوز محنتهم ، والعودة الكريمة إلى بلدانهم ، ليمارسوا فيها حقوقهم في انتخابات حرة نزيهة ،كالتي ينعم بها الشعب التركي العظيم .
إن توعية جماهير اللاجئين بهذا الموقف السياسي المبدأي ، والحرص عليه ، هو جزء أصيل من واجبات القيادات السياسية الحية . ومن أساسيات العيش الإنساني في ضيافة الآخرين أو على هوامشهم . و لا يجوز لمن يتولى أمر الناس أن يسكت عن بيان هذا الحق بله أن ينخرط فيما يقابله..
إن التفكير في مستقبل ثلاثة ملايين إنسان ، تستضيفهم الدولة التركية مشكورة على رحب وسعة ، لا يجوز أن يكون موضع لمراهنة المراهنين .
ولو كان لضيوف تركيا من كل المستأمنين، ومن السوريين خاصة ، هيئة حقيقية معبرة عن مصالحهم وتطلعاتهم ومخاوفهم ، لشكلت وفدا يطوف على كل أطراف المعادلة الانتخابية في تركيا لتنهي إليهم : إن هؤلاء المستأمنين يقفون على مسافة واحدة من جميع أطراف العملية الانتخابية . وأنهم سيظلون أوفياء للشعب التركي أجمع ، ولدولته القوية العزيزة ، ولكل من ينتخبه هذا الشعب تعبيرا عن إرادته الحرة ..
اللهم يسّر أشقاءنا الأتراك لليسرى.
المفترض أنه لم يعد هناك أدنى شكٍ بأن هذه الحرب المدمرة المتواصلة في سوريا، منذ سبعة أعوام وأكثر، هي حرب روسية، وأنه لولا التدخل الروسي، السياسي والعسكري والاستخباري وكل شيء، لكان هذا الصراع قد انتهى «باكراً»، ولما كان هذا النظام قد «صمد» حتى الآن، ولكان السوريون قد تمكنوا من تسوية أوضاعهم بالتفاهم، وبالتنازلات المتبادلة، وبالطريقة التي تمت فيها تسوية الأمور في تونس بعد إقصاء الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وإجباره على الرحيل هروباً إلى خارج البلاد، بالطريقة التي لا تزال معروفة رغم مرور كل هذه الأعوام الطويلة.
وبالطبع فإنه من المعروف أن هناك فروقاً جوهرية كثيرة بين تونس وسوريا، فهذا البلد العربي - الأفريقي لا يعاني لا من حمولة زائدة، ولا قليلة وناقصة أيضا في تركيبته المذهبية والطائفية والقومية على نحو ما تعانيه التركيبة السورية، حيث إنه بالإضافة إلى الأكثرية السنية العربية، هناك المسيحيون (الأرثوذكس) والعلويون والإسماعيليون والدروز والأكراد والتركمان والشراكسة، وهذا هو ما فتح الأبواب على مصاريعها لكل هذه التدخلات الخارجية، ولأن تكون «المعارضة» مشرذمة على هذا النحو، وبكل هذه التشكيلات (الفسيفسائية) التي حالت دون بروز تنظيم رئيسي واحد تكون القيادة الفعلية له، ويكون القرار قراره، وكما كان عليه الوضع في الجزائر خلال حرب التحرير وفي اليمن الجنوبي خلال المواجهة مع الاستعمار البريطاني.
لقد بقيت روسيا تسعى لموطئ قدم لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، التي ثبت أنها المستودع الرئيسي للطاقة الجديدة ليس في هذه المنطقة فقط وإنما في العالم بأسره، وحقيقة أنَّ خروج الروس من أفغانستان بتلك الطريقة المهينة التي خرج بها الاتحاد السوفياتي من هذا البلد الاستراتيجي جعلتهم يتجهون بأنظارهم إلى سوريا التي كانوا دخلوها في عام 1949 في عهد الجنرال حسني الزعيم، والتي تراجع نفوذهم فيها بعد زوال الحقبة السوفياتية، وكانت الفرصة لاستعادة هذا النفوذ هي حصول ذلك الذي حصل في عام 2007 والذي بقي متواصلا حتى الآن.
ولعل ما يؤكد أن الروس بعدما أصبحت لهم قواعد عسكرية في هذا البلد العربي وأصبحت لهم فيه كل هذه الجيوش، ما عادوا يفكرون بأي حلٍّ جدي متوازن لأزمته التي غدت مستفحلة وباتوا يتمسكون بهذا النظام التسلطي الاستبدادي، وأنهم للمزيد من تعزيز وجودهم في هذه المنطقة قد بادروا إلى تحالف «استراتيجي» مبكر مع إيران، غدت روسيا تنظر إليها كقوة إقليمية في غاية الأهمية، ورقم رئيسي، إن ليس في المعادلة الدولية كلها فعلى الأقل في المعادلة الشرق أوسطية.
والمشكلة هنا هي أن الأميركيين قد فتحوا حدود العراق الشرقية أمام إيران بعد «حلِّ» الدولة العراقية و«تفكيك» الجيش العراقي، وكأن المقصود هو إيصال النفوذ الإيراني، الذي يتكئ على منطلقات مذهبية وطائفية، إلى بلاد الرافدين، والانطلاق منها للوصول إلى سوريا وإلى لبنان وأيضا لليمن لتحقيق ما أطلق عليه «آيات الله» الهلال الشيعي... الذي يعتبره معظم العرب هلالاً فارسياً هدفه استعادة أمجاد فارس القديمة.
ويقيناً أن الروس كانوا يدركون حقيقة أن الهدف الإيراني من كل هذا التدخل في الشؤون العربية هو هذا الهدف، لكن ومع ذلك فإنهم قد بادروا إلى التحالف مع إيران على اعتبار أنها قوة إقليمية رئيسية، وأنه بالإمكان الاعتماد عليها لتحقيق وجود روسي دائم في سوريا، هو هذا الوجود الاحتلالي الذي استطاع إخراج تركيا من جلدها الأطلسي، وإلحاقها به وكل هذا في حين أن الواضح أن القادم سيكون أعظم.
إن من المعروف أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان قد اتخذ موقفاً متشدداً في البدايات تجاه نظام بشار الأسد وتجاه التدخل الروسي الاحتلالي في سوريا، حيث بادر إلى ترجمة هذا الموقف... أولاً بدعم مميز وغير محدود للمعارضة السورية بفصائلها وتشكيلاتها الرئيسية، ورفع شعار أنه لا بقاء لهذا النظام السوري في هذا البلد العربي، وثانياً بالتصدي للغزو الروسي بعد سبتمبر (أيلول) 2015 وإسقاط إحدى القاذفات الروسية فوق الأراضي التركية، وحقيقة أنه لو استمر هذا التوجه لما كانت الأمور قد وصلت إلى كل هذا الذي وصلت إليه.
كان الروس وما زالوا يعرفون أن «مقْتل» رجب طيب إردوغان، هو دعم الأكراد - الأتراك الذين تشير بعض التقديرات إلى أن عددهم في هذا البلد قد تجاوز العشرين مليوناً، والذين من المؤكد أن انفصالهم سيعرض هذه الدولة التركية إلى التمزق، وبخاصة أن هناك أقليات كثيرة أخرى تنشد الاستقلال وإقامة دولها الوطنية، من بينها عرب لواء الإسكندرون الذي ضمه الأتراك إليهم في عام 1939.
أراد الرئيس فلاديمير بوتين أن يمسك رجب طيب إردوغان من ذراعه التي تؤلمه، فدفع حزب العمال الكردستاني - التركي، الذي كان تشكل في حاضنة مخابراتية روسية - سورية بزعامة عبد الله أوجلان، إلى تكثيف عملياته ضد الأهداف التركية الحدودية والداخلية، مما أشعر القيادة التركية بأنه عليها أن تعيد النظر بمواقفها وتحالفاتها، وأن تدير ظهرها لحلف شمال الأطلسي وللولايات المتحدة وإن مواربة وتذهب ركضاً للارتماء في أحضان روسيا الاتحادية، وتصبح عضواً فاعلاً في هذا التحالف الثلاثي الذي بات يضم أنقرة إلى جانب موسكو وطهران.
ثم فقد كان هناك كل ذلك التراجع الأميركي المثير لألف سؤال وسؤال، وكان هناك تحالف «آستانة» الثلاثي الذي كان أهم إنجاز له حتى الآن أن مساحة الأراضي التي باتت تسيطر عليها قوات نظام بشار الأسد قد ازدادت خلال عام واحد من 19 في المائة إلى 60 في المائة من مجموع الأراضي السورية البالغة مساحتها الإجمالية 185 ألف كيلومتر مربع، وهذا يعني، إذا بقيت الأمور تسير على ما تسير عليه، فإنَّ هذه «الثورة» قد تفشل، لا سمح الله، وأنَّ هذا النظام سيتم تكريسه مع بعض الرتوش التجميلية لسنوات طويلة.
لكن إذا ثبت أن الأميركيين قد استفاقوا من غفلتهم وتداركوا الأمور قبل فوات الأوان، ونفذوا ولو بعض التهديدات التي يوجهونها إلى إيران... وأيضاً إلى روسيا فإن هذه المنطقة بمعظم دولها لن تصبح «محمية» روسية - إيرانية، وأن الولايات المتحدة لن تواصل دفع ذلك الثمن الغالي الذي كانت قد دفعته ولا تزال تدفعه منذ بداية الأزمة السورية وحتى الآن.
وهنا يجب أن يكون مفهوماً أن الروس لن يتخلوا لا عن قواعدهم ولا عن وجودهم العسكري الاحتلالي في سوريا، وأيضاً ولا عن هذه الحرب المستمرة التي هي حربهم أساساً والتي من خلالها يريدون تثبيت أقدامهم في «المتوسط» وفي شواطئه الشرقية، حيث مصادر الطاقة الجديدة، إلاّ بتوجيه ضربة قاصمة لحلفائهم الإيرانيين وإخراجهم بأي ثمن من سوريا لأن إخراجهم من سوريا يعني إخراجهم من بلاد الرافدين ومن لبنان ومن اليمن، ومنعهم من التمدد في اتجاه المغرب العربي وفقاً لمحاولاتهم الأخيرة وهكذا. وحتى يتم هذا كله فإنه لا بد من استعادة تركيا إلى وضعها السابق، قبل أن تُستدرج لتصبح ثالث أضلاع هذا التحالف الثلاثي الذي لا يجب أن تكون أحد أضلاعه.
وعليه فإنه يجب أن يكون واضحاً ومعروفاً أن عرب المواقف القومية الصادقة ما كانوا يريدون كل هذا التباعد الذي قد اقترب وللأسف من وضعية القطيعة مع روسيا الاتحادية، التي لها كل هذه المكانة الدولية والوزن الدولي، والتي لهم معها ولها معهم مصالح مشتركة رئيسية كثيرة، اقتصادية وسياسية وثقافية وأيضاً عسكرية، لكن ما العمل ما دام أن العلاقات بين الدول قائمة على الرغبات المتبادلة، ومع كل هذا فإن الواضح حتى الآن أن الروس لا يريدون شركاء متساوين معهم في الحقوق والواجبات بل أتباعا وملحقين لنظام بشار الأسد وأنظمة أخرى إن في هذه المنطقة وإن في العالم بأسره!
أكد الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على أهداف تابعة للنظام السوري في أبريل (نيسان) الماضي، رداً على استخدام هذا النظام الأسلحة الكيماوية في دوما، أن نهاية الصراع السوري ليست في الأفق. في أعقاب الهجوم مباشرة، أصدرت الرئاسة السورية شريط فيديو قصيراً يُظهر بشار الأسد، وهو يسير بهدوء إلى مكتبه، كما نُظمت احتجاجات ضد الهجوم في الأماكن العامة في دمشق. وأرسلت روسيا رسائل مختلطة مفادها أنه لم يحدث أي هجوم كيماوي، أو أن فصائل المعارضة هي التي قامت به، بينما استأنفت قصفها الجوي للمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة.
باختصار، بمجرد أن انتهى الهجوم، أراد نظام الأسد وحلفاؤه إظهار أنهم كانوا يعملون كالمعتاد. ومع ذلك، سلط الهجوم الضوء على عامل مهم يمكن أن يكون نقطة الدخول في صياغة خطة سلام لسوريا، هذا العامل هو القلق الروسي. لكن لا يمكن استغلال هذا القلق إلا إذا وضعت الولايات المتحدة استراتيجية سياسية شاملة لسوريا.
في الأيام التي سبقت الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة، صعّدت روسيا من نبرة تصريحاتها حول موقفها من مثل هذا الهجوم إن كان سيمضي قدماً. وخلال اجتماع مجلس الأمن الدولي، الذي عُقد بعد وقت قصير من واقعة الأسلحة الكيماوية في دوما، قال السفير الروسي فاسيلي نيبنزيا إن الهجمات الأميركية على سوريا «يمكن أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة»، وحذر واشنطن من أنها «ستتحمل المسؤولية» عن أي «مغامرة عسكرية غير مشروعة» في سوريا. لم تمنع المواقف الروسية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا من إطلاق أكثر من 100 صاروخ على ثلاثة أهداف داخل سوريا تم تحديدها على أساس ارتباطها بتصنيع واستخدام الأسلحة الكيماوية.
الملاحظ في موقف روسيا هو أنه لم يتجاوز الخطابة. لم تقم روسيا بتعبئة الموارد العسكرية داخل سوريا للوقوف في وجه الهجوم المتوقع. وكانت الانعكاسات الخطيرة التي حذرت روسيا منها هي فقط تلك التي عانى منها الشعب السوري، الذي استمر في تحمل الغارات الجوية الروسية.
في الفترة ما بين إعلان الرئيس دونالد ترمب عن قرب حدوث هجوم بقيادة الولايات المتحدة، وبين اليوم الذي وقع فيه التحرك العسكري المشترك الأميركي البريطاني الفرنسي، نقلت روسيا والنظام السوري معداتهما العسكرية من القواعد التي توقعا أنها يمكن أن تكون أهدافاً محتملة. كما توقفت الغارات الجوية الروسية والنظامية على المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة لتجنب حدوث صدام مع الطائرات الأميركية المقاتلة.
أظهرت مثل هذه الإجراءات على الأرض أن روسيا والنظام السوري أخذا التهديد الأميركي على محمل الجد. وهذا يذكر بسيناريو مماثل حدث قبل خمس سنوات عندما أعلن الرئيس باراك أوباما أن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا خط أحمر للولايات المتحدة، وحذّر من الانتقام العسكري. في الوقت ذلك، تم تفريغ مكاتب الحكومة السورية وقواعدها العسكرية، واستعد النظام لهجوم لم يأت.
هذه المرة، حصل الهجوم، لكن النظام وروسيا نجيا من العاصفة، كما كانا قد فعلا قبل عام عندما أطلقت الولايات المتحدة 59 صاروخاً على أهداف عسكرية سورية في أعقاب استخدام النظام للأسلحة الكيماوية في خان شيخون. سواء كان ذلك في ظل رئاسة أوباما أو ترمب، فإن رد الولايات المتحدة على استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري أصبح يعني، إما عدم القيام بأي عمل، أو الانخراط بعمل رمزي. كلاهما يعطي روسيا الضوء الأخضر لمواصلة مهمتها في سوريا التي تقوم على استعادة سلطة النظام على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من خلال نهج الأرض المحروقة.
ويهدف نهج الأرض المحروقة، الذي تمارسه روسيا ونظام بشار الأسد، إلى إلحاق ضرر بالغ بالهياكل الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بحيث يضطر سكان هذه المناطق إلى مغادرتها دون أي احتمال للعودة. ويساعد النظام هذا الهروب ذا الاتجاه الواحد من خلال سياسات جديدة تهدف إلى تجريد الناس من الأسس القانونية للعودة. فقد أصدرت الحكومة السورية مؤخراً قراراً ينص على أنه يجب على السوريين أن يقدموا شخصياً وثائق تثبت ملكيتهم لأي ممتلكات إلى بلديتهم المحلية، وإلا فإن حق امتلاكهم لهذه الممتلكات يعتبر ملغى. هناك أيضاً تقارير عن التدمير المتعمد لسندات الملكية من قبل السلطات الحكومية كطريقة أخرى لحرمان السوريين من حقوق الملكية.
بما أنه من غير المحتمل أن يستطيع النازحون داخلياً واللاجئون الذين فروا من النظام تلبية الشروط شبه المستحيلة التي وضعتها الحكومة السورية حول حقوق الملكية، فإن الآلاف من السوريين سيجدون أنفسهم الآن غير قادرين على العودة حتى إلى إقامة خيمة على موقع منازلهم المدمرة. إن ما يقوم به النظام وروسيا في سوريا هو عملية طويلة المدى للتغيير الديموغرافي تدفع الناس الذين يعتبرونهم غير مرغوب بهم من المناطق التي يريد النظام استعادتها، ليحل محلهم آخرون موالون للنظام.
إن العودة إلى العمل كالمعتاد بالنسبة لروسيا والنظام مباشرة بعد الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة بعد أن كانا استعدا لشيء أكبر، يُظهر أن الولايات المتحدة وحلفاءها أضاعوا فرصة للضغط على روسيا - وكما هي الحال دائماً، فإن الشعب السوري هو من يدفع الثمن. وعلى الرغم من خطابها الخطير، إلا أن روسيا لا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة في سوريا. لكن طالما أنها تشعر أن الولايات المتحدة ليست جادة في إنهاء الصراع السوري، فإنها ستواصل نشاطها في سوريا دون ردع.
إن توتر روسيا في الفترة التي سبقت الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة يظهر أنها لم تنتصر في الحرب. هذا التوتر يعطي فرصة للولايات المتحدة إن كانت لديها الإرادة السياسية للسعي إلى إنهاء الصراع السوري من خلال المفاوضات مع روسيا. وهو يؤكد أن الخطوة الأولى نحو السلام في سوريا لا يمكن إلا أن تتخذها الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى المتبقية في العالم والكيان الوحيد القادر على ممارسة الضغط على روسيا، ولكن يجب استغلال هذه الفرصة قبل فوات الأوان.
العالم كله يترقب قرار الولايات المتحدة النهائي تجاه البقاء أو الانسحاب أو «التعديل» الجذري للاتفاق المثير مع إيران، وعرّابه الآفل باراك أوباما، مع أصدقائه الأوروبيين المتحمسين.
الاتفاق معطوب من البداية، ليس لأنه يضع قيوداً على البعد العسكري للبرنامج النووي الإيراني، بالعكس، هذه حسنته الوحيدة، الاتفاق معطوب لأنه أهمل، عن عمد، برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، والأهم، تجاهل إن لم يكن وافق، على النفوذ الإيراني المدمر في الدول العربية من العراق لسوريا لليمن، وطبعاً لبنان الواقع في قبضة «حزب الله» الخميني.
هذه هي معاطب الاتفاق الأساسية، وهناك عيوب أخرى طبعاً، الآن كيف سيكون «اليوم التالي» بعد إعلان الرئيس الأميركي ترمب للموقف النهائي من الاتفاق الإيراني؟
خطورة الموقف الأميركي ليس في الجانب العسكري، أي إعلان حرب على إيران، هذا سيناريو معقد وربما بعيد الوقوع، حالياً، إلا إذا حصلت مفاجآت غير متوقعة، خطورة الموقف الأميركي هو في الجانب الاقتصادي والدبلوماسي على إيران.
أصلاً حين أنقذ أوباما ومعه الأوروبي، النظام ورفع العقوبات المالية عنه، وتدفق النقد غزيراً لمحافظ الحرس الثوري، كان النظام الخميني يترنح من وطأة العقوبات الاقتصادية.
من هنا استشعر أركان النظام الإيراني خطورة الخطوة الأميركية الجديدة، ورفعوا عقيرة الصخب و«الهوبرة» الإيرانية المعتادة.
نسبت وكالة «إرنا» لعلي لاريجاني رئيس برلمان إيران قوله: «يبدو أنك لا تستطيع الحديث مع الأميركيين إلا بلغة القوة، ولا يوجد حل آخر».
لكن الواقع يقول إن نظام الملالي يترنح مالياً، حتى قبل فرض العقوبات الأميركية المالية. رئيس البنك المركزي الإيراني، ولي الله سيف، قدم استقالته، بعد تسجيل ثاني انهيار للعملة بغضون أسابيع. سعر صرف الريال الإيراني بلغ 63 ألفاً مقابل الدولار الأميركي الواحد.
فرهاد اعتماد زاده، رئيس غرفة التجارة الإيرانية، ذكر أن حجم رؤوس الأموال التي غادرت إيران أكثر من 800 مليار دولار. وجريدة «الشرق» الإيرانية ذكرت أنه غادرت البلاد رؤوس أموال بقيمة مائتي مليار دولار بعهد نجاد.
علّق الكاتب الإيراني كريم عبديان بني سعيد على هذه الصورة، بالقول في هذه الصحيفة: «هذه الحالة تذكرنا بالحالة التي سبقت سقوط نظام الشاه؛ حيث نتذكر أنه قبل 3 أشهر من سقوطه، قام موظفو البنك المركزي الإيراني بنشر قائمة بـ178 شخصاً قد قاموا آنذاك بتحويل 13 مليار دولار من ثرواتهم إلى الخارج. كان معظم هؤلاء الأشخاص من المطلعين على الأوضاع، والذين كانوا قد توقعوا قيام الثورة وانتصارها، واحتمال انهيار نظام الشاه».
عبديان قال إنه شخصياً حصل على تلك الأسماء في تلك الأيام الغابرة، من صديق له ببنك إيراني. لا يحتاج نظام الملالي لعمل عسكري، الاقتصاد والسياسة يكفيان.
لم تنته الحرب في سورية، وليس ثمة أفق بنهايتها، وما تزال البلاد تنزّ دماً من كل جوانبها، واحتمالات اشتعال الحروب الإقليمية على الأرض السورية لم تكن يوماً بمثل هذا الوضوح. وعلى الرغم من ذلك، يستعجل رأس النظام السوري حصد نتائج الحرب الأهلية المريرة.
هل من قال حرباً أهلية؟ يرفض نظام الأسد الاعتراف بأن ما حصل في سورية كان حرباً أهلية، أو حتى من أشكالها، لإدراكه أن ذلك يضعه في موقع طرفٍ أهلي، ويجرده من مكسب السيطرة على الدولة ومؤسساتها وحرمانه من ادعاء تمثيلها، لكنه على الأرض يمارس ممارسات المنتصر بحربٍ أهلية، عبر سعيه إلى تدمير بيئة الأكثرية، المهزومة، وتهميشها وإقصائها عقودا قادمة عن دائرة الفعالية، أي جعلها تدفع ثمن هزيمتها.
ولا يكتفي الأسد ببقائه في الحكم واستمرار نظامه ثمناً ومكافأة لنصره المزعوم، فذلك تحصيل حاصل لسيطرته، بغض النظر كيف حصل ذلك، ولا يكتفي بالدمار الذي تحقّق لخصومه، عبر تدمير مدن الأكثرية ومناطقها وتفكيك الخريطة الإجتماعية لها، بل يريد أكثر من ذلك انتزاع حقوقهم في أملاكهم، واستتباعاً، حقهم في الوطنية السورية، إذ أن تجريدهم من ملكيتهم خطوة على طريق تجريدهم من هويتهم السورية، وعزلهم هم ونسلهم إلى عقود مقبلة، بحيث يشار إليهم دائماً أنهم مجرّدو الملكية، وهذا نوع من التوصيف، أو التصنيف، السياسي لهؤلاء، كنايةً عن العقاب السياسي لهم.
وغالباً ما يحدث مثل هذا الأمر، ليس في أعقاب الحروب الأهلية التي يرفض الأسد الاعتراف بها، وإنما نتيجة ثورات اجتماعية سياسية، تكون موجهةً في الغالب ضد سيطرة نخب، بورجوازية أو إقطاعية، أو أوليغارشية، أو كومبرادورية، سيطرت، عبر ظروف تاريخية، على موارد البلاد وهمشت الأكثرية. وبالتالي، فإن الثورة ضدها تهدف إلى إعادة توزيع الثروة والموارد على أكبر قدر من الناس، أما أن يحصل العكس، أي أن يتم تجريد الأكثرية من مواردها، فذلك بدعةُ أسديةٌ، ولكن أليس الأسد قائدا لثورة، حتى لو كانت مضادة، ثم ألا يحق للمنتصر في الثورة تقرير شكل عقاب المهزوم، وترسيم النظام الاقتصادي والاجتماعي على ضوء هذا الواقع الجديد؟
يضبط الأسد الواقع الجديد بأدواتٍ تناسبه وحده، مراسيم رئاسية يجري تنفيذها عبر أجهزته الأمنية، ما علاقة إثبات الملكية بمراجعة الفروع الأمنية؟ في حين أن دور المؤسسات التشريعية، مثل مجلس الشعب، لا تعدو أن تكون ذات طبيعة هامشية. وعلى كل حال، ماذا يمكن أن ننتظر من مجلسٍ يطالب أعضاؤه الناس الهتاف بحياة الأسد في مقابل حصولهم على قارورة ماء، وماذا ننتظر من مجلسٍ تنتخب الأجهزة الأمنية أعضاءه.
والواقع أن بشار الأسد، رئيساً، يمتلك أريحيةً في الحكم لا ولم يمتلكها أي نظير له في العالم، لا اليوم، ولا حتى في الماضي، قبل ظهور الثورات، وحتى قبل أن يلهج العالم بشيء اسمه حقوق إنسان وتقرير مصير وحقوق سياسية واجتماعية، فهو لا يكتفي بهندسة المستويين، السياسي والأمني، في سورية، على اعتبار أن المجالين هما الأقرب لسلطته، ومدى قدرة يديه على التأثير والفعل، بل يذهب إلى إعادة هندسة العمران والاجتماع السوري، والدليل على أريحية الأسد، في هذا المضمار، أنه طبقه عبر عملية ممنهجة ومنظمة وطويلة نسبياً، بدأت بالتدمير، شارعا شارعا، ثم بالتهجير، ثم إعادة الإعمار والتوطين وفق مقاسات وشروط خاصة.
استهلكت تلك المراحل ملايين الضحايا، على شكل قتلى ومعتقلين ومخفيين ومهاجرين، واستدعاء قوى إقليمية ودولية، واستئجار مرتزقة ومليشيات خارجية. وبالتزامن مع ذلك، اشتغلت ماكينة هائلة من مفاوضات شكلية وقرارات مجلس أمن لم تر النور، وحروب كلامية أنتجت جعجعةً، وطحنت الشعب السوري، الشعب السوري المعارض، ولأول مرّة يثبت أن الجعجعة تطحن لحماً ودماً وأرزاقا، فيما الأسد يأخذ وقته الكافي لإنتاج مجتمع سوري متجانس.
واليوم، يعتقد بشار الأسد أنه وصل إلى المرحلة التي يجني فيها الأرباح خالصة، نتيجة جهد دام ثماني سنوات، لا يريد أن يعبر مراحل المصالحات ولجان الحقيقة، والتئام جراح المجتمع السوري. بالنسبة له المصالحة تعني التخلص من معارضيه ونفيهم إلى إدلب، ليتفرغ بعد ذلك لإبادتهم مرّة واحدة للأبد، أما الحقيقة فبالنسبة له أن هؤلاء خونة، لأنهم ثاروا على أسيادهم، ولا يريد حتى إنجاز دستور جديد، يؤشر إلى أن البلاد ستدخل مرحلة جديدة مختلفة نسبياً، ذلك كله لا يعنيه.
ما يعني الأسد، ويستعجل القيام به، إعادة الإعمار، لإدراكه أن الثروات يمكن جنيها في حالتين، دمار حضارة أو تشييد حضارة. وهو أنجز المرحلة الأولى، وكسب ما كسب، والآن يجهّز للمرحلة الثانية، التشييد. ويطمح، في هذه المرحلة، مكافأة حلفائه، روسيا وإيران، عبر منحهم عقود استثمار الثروات السورية، من غاز وفوسفات ونفط وشركات اتصالات، ويريد مكافأة أنصاره في الداخل، عبر منحهم أسهما وأملاكا وعقارات، على حساب الأكثرية المنهزمة.
لم تشهد الحروب الأهلية الحديثة نتائج مثل التي يريد الأسد الحصول عليها، لا في رواندا ولا لبنان أو هندوراس، أو غيرهم، كما لم تشهد التمرّدات في كولومبيا ونيجيريا حصول تغييرات ديمغرافية واقتصادية بالحجم الذي يبتغيه الأسد. في كل هذه الحالات كان يتم تغيير النظام السياسي، أو تكييفه، للتوافق مع مرحلة جديدة، في سورية وحدها يجري تغيير الناس؟
لكن من قال إن الحرب انتهت؟ أو إن الأسد انتصر؟ مؤكد أن ضعف الخصم أو تراجعه ليس مؤشراً يكفي لبناء هذا الاستنتاج. وتؤكد الوقائع على الأرض هذه الحقيقة، مثلما أن الأيام المقبلة حبلى بمفاجآت على أكثر من مستوى.
الأزمة السورية كانت منطلقاً لإشعال فتيل حربٍ باردة جديدة، انتقلت من المستوى الإقليمي للمستوى الدولي، كانت إرهاصاتها واضحةً ثم تحولت إلى حقيقة واقعية، يشهدها العالم بأسره.
بعيداً عن السياق العام الذي أوصل لهذه النهاية، فإن الواقع اليوم في تلك الأزمة مع كل تفاصيله الكبرى والصغرى، يكاد يتمحور حول المواقع على الأرض، ففي حين يعيد النظام السوري بدعم روسي كامل ودعم إيراني ميليشياوي وباستخدام كل القوات العسكرية براً وبحراً وجواً، وباستخدام الأسلحة المحظورة دولياً، كالسلاح الكيمياوي، الذي ردت عليه إدارة ترمب، قبل عام، ثم ردت ثانيةً، ومعها فرنسا وبريطانيا قبل شهرٍ، ومع كل التداخلات والتعقيدات والتشابكات في الملف السوري، فإن أمراً مهماً وكبيراً يبقى محل نقاشٍ وإثارةٍ، وهو هل يمكن السماح بالتمدد الإيراني ليكون مرتاحاً في التحرك من طهران إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط؟
قدمت السعودية مشروعاً واضحاً في عهد الإدارة الأميركية السابقة حول استعدادها التام للمشاركة في تحالف عسكري دولي يحمي وحدة سوريا من جهة ويقطع التمدد الإيراني في الدول العربية، العراق وسوريا ولبنان وحركة «حماس»، من جهةٍ أخرى، وهو عرض قائمٌ إلى اليوم، ومع كل الإشارات المتناقضة من واشنطن بحال وضع قواتها في شرق سوريا، ومع التناقضات المعلنة تجاه طموحات تركيا الاستعمارية الجديدة، وكل التردد التي تبديه إدارة ترامب، إلا أن قطع الحبل السري بين إيران وطموحاتها التوسعية أصبح واجباً عملياً على كل دول العالم.
معروف أن مصر لديها تحفظات خاصة تجاه سوريا، ومستقبل النظام السياسي هناك، ومع كل ما أثير من أزمة تجاه تدخل عسكري مصري هناك فإن الأفضل أن يتم التفكير حول دور تقدمه مصر هناك بعيداً عن أي حساباتٍ تاريخية.
لم يكن للمستقبل الزاهي والواعد في المنطقة أن يكون أبهى وأفضل لولا جهود الدول والقيادات الواعية بما يتوجب أن يكون، ومن حق الشعوب أن تزهى وتتباهى بفعل قياداتها، ورؤيتها وتوجهاتها، وقد أصبحت السعودية وحلفاؤها الأقوياء في المنطقة يديرون الأزمات بكل احترافية سياسية وذكاء دبلوماسي وعسكرية صارمة، وبالتالي فقد تعاظم الدور العربي في حماية المصالح العربية والشعوب العربية.
على الرغم من الانتصارات الصغيرة التي يحققها نظام الأسد على الأرض وبالقوات المسلحة التي تحارب الشعب وتقتله، إلا أن هذا النظام فقد شرعيته السياسية، وأحرق كل أوراقه، ولم يعد له أي سند لحكم سوريا مستقبلاً، حتى حلفاء النظام سيضطرون للتخلي عنه في أي مفاوضاتٍ جادةٍ في المستقبل عند اختمار حل سياسي مرض.
وجود هذا التحالف العسكري العربي شرق الفرات مبرر تماماً بحكم أن كل اللاعبين الإقليميين لهم قوات على الأراضي السورية، بأشكال غير مشروعة، فالقوات التركية الاستعمارية موجودة، وميليشيات إيران الطائفية الإرهابية من إيران وأفغانستان والعراق موجودة، والميليشيا الإرهابية لـ«حزب الله» اللبناني منتشرة، وشذاذ الآفاق من الإرهابيين في «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» موجودان، وعلى الرغم من هزيمة «داعش» فإنه لم ينته بعد، وبإمكانه في أي لحظة تراخٍ أن يخرج من جديد، فمن مصلحة الدول العربية ومن مصلحة الشعب السوري أن يكون التحالف العسكري العربي موجوداً على الأرض، لأن هذا التحالف هو الذي سيمثل الصديق الحقيقي للشعب السوري.
أخيراً، فالتحالف العسكري العربي في شرق الفرات يمكنه العمل تحت التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، ويعمل مع القوات الأميركية والفرنسية الموجودة على الأرض، ولا يحق لنظام فاقد للشرعية ومجرمٍ في حق شعبه وجالبٍ لكل المحتلين والمستعمرين أن يبدي أي رأي في هذا الشأن.
ثمة كثير من الأسئلة التي قد تبدو محيّرة وإشكالية في تفسير طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، من هذه الأسئلة، مثلاً، لماذا سلمت الولايات المتحدة العراق لإيران، عبر القوى والميليشيات الطائفية والمسلحة التي تتبع لها، بعد أن أسقطت نظام صدام حسين (2003)؟ ثم كيف تساهلت الولايات المتحدة (وإسرائيل طبعاً) مع البرنامج النووي الإيراني وهو يبنى أمام ناظريها، في حين أنها لم تتسامح البتة مع البرنامج النووي العراقي، بل إنها حرصت على أجراء مفاوضات مضنية مع إيران توصلت في نهايتها إلى اتفاق معها في هذا الشأن، في ظل إدارة أوباما (2015)؟ أيضاً، ما الذي جعل الإدارة الأميركية تسمح أو تسكت عن صعود نفوذ إيران في سورية، بل وهيمنتها على البلد (قبل التدخل الروسي في أيلول 2015)، بحيث بات نفوذ إيران يشمل مجمل المشرق العربي من العراق إلى لبنان مروراً بسورية؟
ان محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، أو محاولة التفكير بها، تحيلنا، أو تسهل لنا، فهم محركات السياسة الأميركية في الصراع السوري، ومسؤوليتها السياسية والأخلاقية عن مآلاته المأسوية.
والحال فإن تفحص السياسة الأميركية العملية في هذا الشأن، وبمعزل عن التصريحات والمواقف الإعلامية والسياسية المتباينة، بدءاً من اعتبارها أن الأسد فقد شرعيته وأن عليه أن يرحل وصولاً إلى اعتباره جزءاً من الحل، ومن تشجيعها العمل العسكري إلى تخليها عن أصحابه، تفيد بأن الولايات المتحدة حافظت طوال السنوات السبع الماضية على اتباع نهج مفاده، أولاً، عدم تمكين أي من الطرفين، أي النظام والمعارضة، من تحقيق الغلبة على الأخر، والحفاظ على ديمومة الصراع في سورية، لا حسمه. ثانياً، جعل سورية منطقة تصارع بين القوى الدولية والإقليمية الأخرى، بوضعها في مواجهة بعضها، لا سيما روسيا وإيران وتركيا، وبالتالي تركها تستنزف بعضها. ثالثاً، توظيف صعود إيران من العراق إلى سورية، في استنزاف وابتزاز حكومات المنطقة، وهو الدور الذي لعبته إيران، عن جدارة وتصميم، بما في ذلك جهدها في تصدّع البني الدولتية والاجتماعية في المشرق العربي، مقدمة في ذلك خدمة مجانية لإسرائيل، لم تقدمها لها أية دولة أخرى في تاريخها.
رابعا، إعطاء الأولوية لأمن إسرائيل، بتشكيل بيئة إقليمية آمنة لها لعقود، نتيجة التشققات السياسية والاجتماعية الحاصلة في دول المشرق العربي، وضمن ذلك نتيجة اختفاء ما يسمى الجبهة الشرقية.
بيد أن النهج الأميركي إزاء إيران بات يشهد بعض التغيرات، في الآونة الأخيرة، وإن كانت غير حاسمة بعد، وهذا لا يتعلق فقط بمحاولة فض الاتفاق النووي، الموقع مع إيران، أو فرض مزيد من العقوبات عليها، وإنما هو يشمل تقليم أظافرها في سورية، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بالطرق السياسية والعسكرية، من خلال الحديث عن إقفال «الكرادور» من إيران إلى لبنان، مروراً بالعراق وسورية، واعتبار شرق الفرات والجنوب السوري خطاً أحمر على إيران، والقوات الحليفة لها، بل وحتى تحجيم نفوذها في سورية، بواسطة الدور الروسي والتركي، كما بواسطة التواجد العسكري الأميركي المباشر شرق الفرات، ومن خلال الضربات الصاروخية والقصف الجوي، وهو الأمر الذي حصل مراراً.
الجديد في الأمر، أيضاً، يمكن تمثله بتفعيل الدور الإسرائيلي في الصراع السوري، فبعد أن كان هذا الدور يقتصر على ضربات متفرقة، ومحدودة الأثر، بات يشمل ذلك توجيه ضربات قوية، وتدمير قواعد بأكملها.
في هذا الإطار يمكن فهم الضربة القوية التي وجهتها إسرائيل ضد أهداف في الأراضي السورية، أواخر الشهر الماضي، قرب مدينة حماة، والتي أدت إلى تدمير كامل لقاعدة إيرانية كبيرة، تحتوي مخازن أسلحة، وعن ذلك كتب المحلل الإسرائيلي آفي يسسخاروف (تايمز أوف إسرائيل 4/5): معتبراً ما حصل بمثابة «هزّة أرضية غامضة– 2.6 درجة على سلم ريختر»، وبرأيه فقد «بدأت الظروف التي تقف وراء سلسلة من الانفجارات تتضح... صواريخ مخترقة للخنادق، والتي لا تنفجر عند ارتطامها بالأرض وإنما عميقاً داخل الأرض، أصابت قواعد في منطقتي حماة وحلب... القاعدة التي هوجمت في منطقة حماة تابعة للواء 47 في الجيش السوري... المرصد السوري لحقوق الإنسان (ومقره في لندن) ذكر أن 26 شخصاً لقوا مصرعهم في الهجوم، من بينهم إيرانيون.
تقرير آخر تحدث عن 38 قتيلاً. أيا كان الحال، من الواضح أن الهجوم غير اعتيادي في جوانب عدة... كل هذا بدأ يبدو كأنه عملية إسرائيلية أميركية منسقة للحد من أنشطة الجيش الإيراني في سورية– وفي نفس الوقت نقل رسالة إلى موسكو بأن الضوء الأخضر الذي أعطته روسيا لإيران للتموضع عسكرياً في سورية غير مقبول في القدس وواشنطن».
كما يأتي ضمن ذلك قيام إسرائيل بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على عدة أهداف عسكرية في سورية، منها مطاران عسكريان (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا، وذلك في فبراير الماضي. ومعلوم أن إسرائيل قامت في السنوات الخمس الماضية بتوجيه عديد الضربات لقوات إيرانية أو تابعة لها، استهدفت مخازن وقوافل أسلحة، وقادة في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
ولعل كل ذلك يفسر الحديث عن احتمالات حرب إيرانية- إسرائيلية، لكن مشكلة هكذا استنتاج أن إيران، التي اعتادت على الصوت العالي، غير مستعدة للرد على إسرائيل، وتعمدها التصارع معها عن بعد، فقط، في لبنان أو سورية، لأن الرد على إسرائيل أي استهدافها، يعني نقل المعركة إلى إيران ذاتها. وهذا سبب كاف لابتلاع إيران الضربات الإسرائيلية المتوالية، التي اعتادت عليها منذ سنوات.
هكذا ثمة نهج أميركي (وإسرائيلي) جديد في مواجهة إيران، لكنه لم يصل إلى حد كسر يد نظامها، ولا إعادته إلى داخل حدوده، بمعنى أن الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في دور إيران في المنطقة وتصديع بنيانها السياسي والاجتماعي ما زال قائماً، خصوصاً أن نظام إيران مستعد لتقديم هذه الخدمة.
لذا وفي عودة إلى أسئلتنا الأولى، ثمة سؤال أخير، ينبغي طرحه هنا، وهو هل إن عوائد سياسة أيران في العراق وسورية، خدمت إسرائيل أم أضرّت بها؟ الإجابة عن هذا السؤال تفسر الإجابة عن التساؤلات الأولى.
لماذا طُرح فجأة خيار إرسال قوات عربية إلى شمال شرقي سوريا، ثم اختفى من التداول؟ وهل هو مشروع قابل للتحقيق؟ وأي تأثير له في المنطقة المحدّدة، وفي مجمل الوضع السوري؟ وأي تداعيات يمكن توقّعها في ضوء التوتّرات الإقليمية والخلافات العربية - العربية؟
كانت الفكرة أساسا أمريكية منذ عهد باراك أوباما، وعُرضت بشكل مفصّل في آذار/مارس 2016 خلال اجتماع لدول حلف الأطلسي (الناتو)، ولم يتمّ الاتفاق عليها، إذ كانت الأولوية آنذاك لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وكانت هناك حاجة إلى قوات برّية، فيما كان الأمريكيون يواصلون تدريب وتجهيز ما عُرف بـ «قوات سوريا الديمقراطية». بموازاة ذلك وفي سياقه، عملت السعودية على تشكيل تحالف عسكري إسلامي، وحُدّد له هدف: محاربة الإرهاب. لكن واشنطن أرادت القوات العربية كوسيلة لتخفيف وجودها، واستباق إشكالات محلية لا ترغب في التورّط بها، كذلك تحضيرا لانسحابها.
أعادت إدارة دونالد ترمب إحياء المشروع بصيغة جديدة، تبرز الهدف نفسه، أي الانسحاب، ولعلمها بأن الجانب العربي كان اشترط بقاء الأمريكيين ليشارك بقواته، فقد دعته في المقابل إلى تحمّل التكاليف المالية للعملية. ويبدو أن النقاش توقف عند هذه النقطة من دون أن يتّضح تماما إذا كانت الفكرة جمّدت أو طويت، أو لا تزال على الطاولة.
ورغم أن الانسحاب الأمريكي بقي في النقاش العام بين مَن يؤكّده ومَن ينفيه ومَن يؤجّله، إلا أنه لم يؤخذ دوليا وإقليميا على أنه استحقاق وشيك. وأكثر المصادر علما يقول إن ثمة تطوّرات مطلوبة مسبقا لتسهيل حصوله، منها أولا التأكّد من أن تنظيم «الدولة» ضعف ولم يعد يشكّل خطرا، ومنها مثلا تفاهمات أمريكية- روسية في شأن الدور الإيراني، وشكل الحلّ للأزمة السورية أو على الأقل بالنسبة إلى الوضع المستقبلي لشمالي سوريا، ومنها أيضا التعويل على عملية أو عمليات إسرائيلية لتقليص الوجود الإيراني، خصوصا العسكري.
كلٌّ من هذه التطوّرات التي تتمنّاها واشنطن غير مضمونة النتائج. لكن الأهم بالنسبة إلى وجود قوات عربية أنه -خلافا لأي دول أخرى- لا تستطيع أي حكومات عربية إرسال قوات إلا بشروط محدّدة، ووفقا لرؤية سياسية واضحة. كان ذلك متاحا أواخر 2011 إبان المحاولة التي بُذلت لـ «تعريب» الحل، غير أن النظام افتقد آنذاك الإرادة لإنهاء الأزمة سياسيا، وفضّل التعاون مع إيران، ثم مع روسيا لإنهائها عسكريا. وفي غياب مشروع عربي لـ «التدخّل» سيكون اتفاق الولايات المتحدة مع الأطراف الراغبة مشروعا لتوريط العرب.
في أحسن الأحوال يمكن تخيّل وجود قوات عربية في المرحلة التي تلي أي اتفاق على حلّ سياسي حقيقي.
قد ينسحب الأمريكيون، لكنهم لا يريدون فكّ «التحالف الدولي»، الذي يعني استمرار وجود قوات دولية أخرى تحت غطاء «الناتو»، وليس مؤكّدا أن يتعايش الروس والإيرانيون والأتراك والنظام بوئام مع حال كهذه. وإذا دخلت قوات عربية بإرادة أمريكية أو بإرادة «التحالف» فحسب، فإنها قد تجد نفسها في وضعية صراعية مع هذه القوى الفاعلة التي تعتبر أنها حسمت الوضع ميدانيا، وحقّقت انتصارات تريد أن تستثمرها في المرحلة المقبلة. ومن حيث المبدأ، فإن المصلحة العربية الوحيدة هي في إرسال قوات لضمان الحل السياسي، أو التورّط في صراعات على الأرض، أو الاضطرار لعقد تسويات خاصة لا جدوى منهما.